عبد اللطيف الحرز*
علم التفسير من العلوم القديمة التي انشغل المسلمون بها (1)، وجاء مصطلح «التفسير» كما هو معروف من «الكشف» (2). فآلية التفسير غرضها كشف الغموض عن النص، لذا كلما ازداد النص غموضاً و إبهاماً، ازدادت الحاجة إلى التفسير، وعليه فالتفسير هو وليد الحاجة والضرورة.
ولم تكن مكانة النص في الإسلام نابعة من كونه (النص / القرآن) المعجزة المثبتة لصدق الرسول الجديد، وبالتالي الانصياع بالإيمان لنبوته وتعاليمه العبادية، بل لان هذا النص ـ أيضاً ـ يستوعب جميع نواحي الحياة، ويقنن أن لا حركة للكائن البشري ما لم تستند في شرعيتها وصيغتها التنظيمية من كليات النص (حتى قال البعض إن الحضارة الإسلامية حضارة، نص). ويواكب النص عمر الإنسانية إلى آخر يوم لها (3). من هنا أعطت الحضارة الإسلامية للإنسان لقب العبودية للإله الواحد والتحرر من عبودية المخلوق، الأمر الذي يمكن ترجمته إلى «المسؤولية» لكن علماء الإسلام اصطلحوا عليه بـ «التكليف».
والتكليف هو «الكلفة» أي التعب والمشقة (4). فإنسان الحضارة الجديدة إنسان حركي يحاول كشف أسرار الكون والطبيعة والنفس وعلاقة كل واحد منها بالآخر وعلاقتهما مع الإنسان ثم ما مدى علاقتها بربها وخالقها، لان إنسان هذه الحضارة هو داعية للتغيير (عبر مفهوم خلافة الإنسان ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (5). لذا ما انفك الإنسان ليلاً ونهاراً عن «التكليف» من خلال حركته نحو الكمال وسيطرته على الطبيعة و أعمار الأرض وتعميق نظرته إلى الكون مستلهماً هذه الحرية من معطيات النص.
لقد كان النص واضحاً جلياً في زمن الرسالة ـ بسبب وجود النبي (ص) ـ لا بسبب الوضوح الذاتي له كما يقول البعض أو يتوهمه ـ فمن غير المستوعب لدى المسلمين الأوائل أن يتفهموا مشكلتنا مع النص اليوم. لكن مع ذلك كانت عملية (التفسير) تجري بشكل مُصغّر ومبسط من خلال مراجعة البعض لصاحب الرسالة مستفهماً عن بعض آيات القرآن. لكننا مع هذا لا نستطيع ـ وكما يفعل الكثيرون ـ أن نقطع بسهولة أن هذه العملية المبسطة هي بالذات ما نريده من معنى التفسير، إذ بالإمكان تحليل مسألة رجوع هؤلاء إلى الرسول (ص) لا على أساس غموض النص نفسه بل من باب أن كل ثورة (أرضية / سماوية) عندما تأتي لتزيل نظاماً من الأنظمة وتحل بدله سلطة ما (ثقافية / سياسية) فإنها تقوم بطرح أبعاد أخرى للمصطلحات واللغة التي كانت مبسوطة بفعل النظام السابق فتتغير المصطلحات واللغة وحركة الإنسان وكيفية صنع الحياة والتعامل معها و إعطاء نظرة جديدة للكون.. كل ذلك لكي تزيل الثورة الجديدة الصورة القديمة التي كانت تعطيها الأنظمة السابقة.. ومن هنا فمن الطبيعي أن يستخدم القرآن ألفاظاً وتركيبات جديدة أو إعطاء مداليل خاصة لبعض المصطلحات والمنظومات بعدما كانت عامة ـ وبالعكس ـ أو كانت لها ميادين وحقول مختلفة.. لهذا يستفسر المسلم هل أراد القرآن من هذه الكلمة أو هذه المفردة ذات المعنى المشهور (السابق على مجيء الحضارة الإسلامية) أم أن اللفظ اكتسب معنى آخر؟.. وعليه فلن تكون هذه الظاهرة «مراجعة البعض للنبي (ص)» مصداقاً لعملية التفسير كما هو الرأي المشهور الآن (6).
وبينما كان تكليف المسلم ينصب على مسألة تطبيق النص على الواقع، وجعل واقعه متفاعلاً داخل التنظيمات التي يعطيها النص ـ حيث كان المسلم يأخذ
هذه المعطيات من النص مباشرة بلا كلفة تذكر ـ اصبح المكلّف المعاصر مبتلى بتكليفين و مشقتين تزاحم أولاهما الثانية وقد تضادها في بعض الأحيان، الأولى مشقة تفسير وفهم النص والثانية تطبيق النص على الواقع ومحاولة تسيير الواقع وفق النص.
وبينما كان النص واضحاً، اصبح الآن وبالتدريج يزداد غموضاً.. وبينما كان المكلف يرجع إلى النص مباشرة، باتت هناك عدة وسائط بينه وبين النص. ولا نريد هنا بيان أسباب الغموض وكيف تولدت الوسائط (7) .. لكن نجزم أن القرآن يحتوي على معان ومفاهيم مؤطرة بإطار اللغة، ومهما قيل عنه فانه يبقى نصاً أدبياً
أيضاً. وهذا النص الأدبي يعود إلى تراكيب لغوية ونحن في حركة مستمرة في الابتعاد عنه، لان لكل عصر أدبه ولغته الخاصة به، إضافة إلى اختلاط المسلمين بغيرهم ومطالعتهم لنصوص ومركبات أخرى تنتمي لذلك «الغير» عن طريق الثقافات التي وفدت على المسلمين أو التي وفد المسلمون عليها.. الأمر الذي عمق الإحساس بضرورة وجود نظرية في التفسير وضرورة اتخاذ موقف محدد من آليات فهم النص.
وتزداد المسألة صعوبة، فبعدما كانت آلية التفسير تعتمد الروايات الناقلة عن النبي (ص) واتباعه إلى جانب مراجعة المفردات اللغوية، ظهرت إشكاليات السند وابتعاد الرواية عن الرسول (ص)، فجاءت حركة العرفان والتصوف لتصور أن حروف القرآن «مرايا» وانعكاسات لوجودات مستقلة، فكل حرف عبارة عن حقيقة معينة (كأن تكون باء البسملة بداية الكون والخلق) وليس مجرد دلالة لغوية (8). ففقدت آلية الاعتماد على اللغة مكانتها على يد هذا الاتجاه، خصوصاً وانه لا يستخلص فهم النص عن طريق قراءته بواسطة اللغة، بل يعتمد على ذوق العارف و كشوفاته. فيما قاد دخول الفلسفة إلى الوسط الإسلامي إلى عرض قوالب جاهزة يُفرغ على أساسها النص القرآني والروائي معاً، وبذلك فقدت آلية الاستناد إلى الأخبار مصداقيتها أيضاً. الأمر الذي أدى إلى التضخم والخروج ببعض النتائج المخالفة لبديهيات الحضارة الإسلامية، كالقول بعدم قدرة الإنسان على الفهم إطلاقاً ما لم يكن من أصحاب هذه المدرسة (قول العرفاء والمتصوفة). أو أن القرآن مجرد أمثال ـ على نقيض قول العرفاء ـ للجماهير فلا يحتوي على الحقيقة التي تعطيها الفلسفة فقط! ـ كما قال الفارابي ـ الأمر الذي ولّد ردة فعل أدت إلى عودة هائجة في الاعتماد والتمسك بحرفية النصوص اتكالاً على قواميس اللغة والارتماء بأحضان المرويات و الأخبار، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ـ ومن اجل القضاء ـ على رأس الفتنة وعلل المروق أن شهرت فتاوى التكفير التي وجهت للعرفاء والمتصوفة بل والفلاسفة أيضاً، أو إعلان البراءة منهم تحت عنوان «وجدت كل تميمة لاتنفع» (9)!
فإذا ما دعت الحاجة إلى مراجعة أمر خارج النص من اجل فهمه حينما تعجز معاجم اللغة وقواميسها وموسوعات الأخبار من ملء الفراغ، كان الشعار هو «والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا» (10) للحيلولة دون حدوث «ردة» إلى الفلسفة أو العرفان أو ما إلى ذلك، الأمر الذي أدى الى تحجير النص وتقييده بقيود اثقلته عن التواصل مع الإنسان وجعلته ينظر الى القرآن على انه مقدس يجب احترامه وحفظه فقط.
وعندما تعاقبت الايام ظل التفسير عبارة عن عملية استنباطية تنطلق من النص ولأجل النص! الامر الذي ادى الى ظهور حركتين في مسألة النص، تمثلت الاولى في الدفاع عن وضوح النص القرآني لتحريره من اثقال التفسيرات المختلفة، اذ القرآن «نور وهدى» فلا يحتاج الى شيء آخر ينيره ويهدي اليه «فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سواه وكيف يتبين ماهو تبيان كل شيء دون نفسه!» (11).
فيما تمثلت الحركة الثانية بالدعوة للرجوع الى قوالب العرفاء او الفلاسفة او منجزات العلم الحديث لكي يتاح بفضل ذلك اعادة اطلاقية النص القرآني حتى يصل الى مجالات ارحب، الامر الذي يتوافق مع خلوده.
وفي الحقيقة ان كلا الحركتين لم تخلوا من تعسف، فالدعوة الاولى مصادرة على المطلوب والمدعى وتقفز على حل البحث، اذ من الذي لا يقول ان القرآن «نور وهدى»، لكن المشكلة هل هذه النورية والهداية في معانيه المقتنصة ام هي في النص ذاته؟ هذا بالاضافة الى ان اصحاب هذه الدعوة لم يكونوا اوفياء لهذه الدعوة اذ اعتمدوا على آليات اخرى!(12).
اما الحركة او الاتجاه الثاني (الداعي الى اعتماد آليات خارج النص) فهي وان اصابت بعض الحقيقة لان من مسلمات الحضارة الاسلامية هو الاهتمام بالنفس الإنسانية (وهذا مدخل الى العرفان) (13) والدعوة الى العقل (وهذا مدخل الى الفلسفة) وان كل مافي الكون دلائل على معارف الدين الاسلامي وحقانيتها (وهذا مدخل الى الطبيعة والعلم)، لكن تبقى هذه الحركة وهذا الاتجاه مجرد دعوة غير محددة وغير مؤطرة بشيء، انّ مجرد الاعتراف بهذه البديهيات العامة لا يبرر جعل كتب التفسير موسوعات في الفلسفة او التصوف او العلوم الحديثة! والحقيقة اننا يجب ان نضع في حساباتنا ونحن نواجه النص القرآني! انه نص ينتمي الى لغة معينة، وان الذي اتى به ادرى به واعرف باراداته، وان للنص علاقة وارتباطاً بالواقع وذلك من خلال رابطتين:
الاولى: عدم اهمال النص للنفس والعقل والطبيعة والكون.
الثانية: كان النص يتبع في صدوره وتكوّنه الحوادث المستجدة (اسباب النزول) (14).
فلا شك في كون القرآن كتاباً ينتمي الى اللغة العربية، الامر الذي يجعل لهذه اللغة مكانتها ومنزلتها الخاصة في آلية الفهم، خصوصاً وان هذا النص يعد في ذروة البلاغة «ان القرآن الكريم يعتبر من اروع النصوص الادبية وأبلغها تعبيراً ومضموناً» (15). كما ان كون الرسول (ص) اعرف وادرى بمرادات هذا النص امر لانقاش فيه، لكن الذي فيه مريه هو في اعتبار اللغة والاخبار قيدين للنص القرآني، وهذا مايدعو لاستئناف المراجعة والبحث فيه.
لقد ذكر القدماء ان اللغة قيد لابد منه، لكن هذا لايعني ان ماحددته اللغة هو تمام المعنى. لذا لجأ القرآن من أجل كسر التغلب على هذا القيد الى ضرب الامثال، كما ان الاخبار الناقلة عن النبي (ص) تمثل استفسارات وحاجات ذلك العصر وذلك الفرد، وعليه يكون منظوراً فيها ذهنية السائل وفق قاعدة «انا معاشر الانبياء أمرنا ان نكلم الناس على قدر عقولهم» الامر الذي يعني ان اللغة والمرويات لن تكون حكماً ابداً على النص. بل اننا لو حكمنا على النص بالسجن داخل اروقة المعطى اللغوي المباشر او داخل بوتقة المرويات (بل وحتى لو سجناه في زنزانات بعض معطيات الفلسفة او العرفان او العلوم الحديثة) لكان معنى ذلك اننا خرجنا من احدى بديهيات الحضارة الاسلامية القائلة بان النص القرآني نص خالد وان المخاطب بالنص ليس هو المسلم المعاصر لعصر النزول (16) ـ وهذا معناه مناقضة النص مع نفسه ـ اذ بناءً على ذلك سنكون قد اعطينا للقرآن بعداً محدداً، ومهما ادعي من سعة رحابة ذلك البعد اللغوي او الروائي او الفلسفي او العرفاني او العلمي، فهي مخالفة تعني التناقض بين القرآن وماهيته، من دون اعطاء مسوّغ معقول ومقنع لذلك!
اذا نظرنا الى الميزة الثالثة (علاقة النص مع الواقع) نجد ان الامر بالعكس تماماً. فان من الامور التي لاشك فيها هي ان القرآن كان ينظر الى واقعية البعد الروحي للإنسان معترفاً بأهميته، كما انه يولي العقل مكانه كبيرة جداً الى درجة دعا فيها الى عدم الايمان بالاسلام مالم يؤسس هذا الايمان على العقل. كما انه ينظر الى قوانين الكون وتنظيم الطبيعة، وعليه يكون القرآن ناظراً الى الواقع بابعاده الثلاثة (الماورائيات، العقل، الطبيعة). فلو قيدنا النص باللغة او الاخبار او الفلسفة او العرفان او العلم لكان معنى ذلك ان للنص بعداً واحداً فقط.. بل ان هذا البعد الواحد سيكون قيداً للنص، لان كل بعد هو في حالة اتساع على مرور الزمن، وعليه سنبتلي بسجن النص من دون اي ذنب يذكر! وهذا بخلاف مالو انطلقنا من الواقع بابعاده الثلاثة من دون تقييد النص.
وكان النص ـ أيضاً ـ يأتي بعد حصول امر «ما» في الواقع (اسباب النزول) فيكون الواقع متقدماً على النص، اي بعدما يتشكل الواقع يأتي تشكل النص، لكن مع ذلك يكون النص متجاوزاً للواقعة (سبب وعلة النزول) ليغطي كل واقعة مماثلة سيأتي الزمان بها، لان للنص ارتباطين يكون من خلالهما فوق التاريخ، ومن خلال الآخر داخل التاريخ كما سيأتي ذلك عند ذكر نظرية الشهيد الصدر. وعليه لن يكون التفسير هو كشف النص فقط كما تقدم وكما هو مشهور، بل التفسير معرفة هل النص ناظر لهذه الواقعة؟ وهل يقصد هذا الامر الخارجي ويشمله؟ وهو الامر الذي تنبه بعض المفسرين لبعض جوانبه عندما طرح مسألة كون التأويل مرتبطاً بالخارج والمصداق وليس باللفظ «ان المراد بتأويل الآية ليس مفهوماً من المفاهيم.. بل هو من قبيل الامور الخارجية» (17).
ويلاحظ القارئ ان كلا هذين البعدين يكوّن شيئاً يسمى «روح القرآن ومقاصده» فعلى اساس الميزة الثالثة (بكلا بعديها) وحدها استطعنا الحفاظ على اطلاقية النص وخالديته (هدف وغائية القرآن) فجميع الحركات التفسيرية انما انبثقت على اساس هذه المسألة (وان كانت واضحة الى هذه الدرجة) فقد تنبه الاوائل الى ان اسلم الطرق لمعرفة روح القرآن ومراداته والحفاظ على مقاصده هو طريق المرويات والاخبار. فمن هو اعرف من النبي (ص) بمرادات النص؟! ومنها ظهرت لدينا كتب وحركات التفسير السلفي. بينما كان ينظر البعض الى دخول الفلسفة ومعطياتها الى النص.
وكان معنى ذلك ان القرآن مخالف لروحه الداعية الى العقل «فان الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه وكيف يعقل ذلك وحجيته انما تثبت به»(18). بينما رأى المتصوفة ان حصر النص بالعقليات يجعل من القرآن كتاب نظريات عملية وليس كتاباً تربوياً يمجد روح الإنسان، الامر الذي يضاد مقاصده. بينما نظر علماء الطبيعة والفلك والاجتماع ومدارس علم النفس وغيرها اننا لو قلنا بخلو القرآن من هذه الميادين كان معنى ذلك انه ليس كتاب علم وهدى ينظر الى الكون بأجمعه، وليس هو بالتالي كتاباً مستوعباً لجميع العصور، بما فيها «عصر العلم» وعليه فكيف يقال بخلو القرآن من ذلك؟!
لكن الجميع ومع الاسف الشديد «أدلج» هذه المسألة لصالحه في معركة نظم المعرفة والاليات، فصاغ كل اتجاه النص حسب ميولاته الثقافية وافرغ كل واحد منهم النص من محتواه وسكبه في قوالبه الجاهزة (العرفان، الفلسفة بانواعها، الروايات بمذاهبها، العلوم الحديثة، علوم الاجتماع، علم النفس، الفلك، النظريات السياسية والعلمية).
بقي ان نشير ان مسألة «الواقع» بدورها مبتلاة بعدة اتجاهات، اهمها اتجاهان:
الاول: يدعو الى تقييد النص بظروف معينة وزمن معين (كأن يكون هذا هو زمن ومحل صدور النص) بدعوى ان كل نص انما هو نابع ومتجه الى الظرف الذي يولد فيه. ويتجلى ابرز دعاة هذا الاتجاه بأعمال نصر حامد ابو زيد ومحمد اركون.
فيما يدعو الاتجاه الآخر الى امتداد رقعة النص لتشمل مشاكل المسلم المعاصر عن طريق تفريغ النص عن محتواه المبدئي وملئه بارهاصات المشاكل الميدانية وآلياتها للمسلم الجديد ويتمثل هذا الاتجاه بأبرز دعاته «حسن حنفي». وكأن كلمات حنفي «ردة» عرفانية صوفية عندما يقول: «ان كل إنسان له فهم خاص للنص عبر مشاكله وخبراته وان المنهج الحق في التفسير هو منهج تراكم الخبرات»(19).
فكلا الاتجاهين يمثلان حركة «غلو»، اذ كلاهما ينظر الى الواقع على انه بعد واحد، ولا ينظرون الى روح النص ومقاصده (والتي هي احد حقائق النص) رغم انه يدعو اليها !!
من الواضح ان مسألة «الواقع» أخذت تفرض نفسها على النخبة المسلمة (الفقيه، المفسر، عالم الكلام، الفيلسوف..الخ) ومن الواضح ان النص الالهي هو هبة السماء الى الإنسان لتغيير الارض نحو الكمال، وعلى هذا فالنص يهدف الى عملية تقدم دائم لكن ـ بعد عصر الانحطاط خصوصاً ـ وجد المسلم ان هذا النص يتضارب مع الواقع تارة ويعيق التعايش معه تارة اخرى (20).. الامر الذي اضطره ليعيد النظر في الاليات المستخدمة في عملية التفسير، فأخذ كل مفسر يتفحص هذه الاليات وماهو موروث في هذا المضمار. فكان من ذلك خزين مدرسة اهل البيت (ع) التي هي تركه كبيرة رغم تجاهل الكثيرين لها ! فقد تعرضت بعض رواياتهم الى مسألة الواقع كما جاء على لسان الامام الصادق (ع) انه قال : «نزل القرآن باياك أعني واسمعي ياجارة» (21) وايضاً روي عنه (ع) انه قال «ان هذا القرآن فيه منار الهدى ومصابيح الدجى فليجل جال بصره ويفتح للضياء نظره فان «التفكر» حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور» (22).
فالتركيز على عنصر التفكّر (والذي لايتم اذا كان الامر مقصوراً على الدلالة المباشرة فقط) وعلى كون النص ليس دلالة لغوية مباشرة «اياك اعني واسمعي ياجارة» الامر الذي يعني عدم احتكار المفهوم المقتنص في داخل الدلالة اللغوية المباشرة.
ثم اخذت ابحاث التفسير تتطور، فبعد ان كانت تعتمد على تجميع الروايات والاحاديث (النبي والائمة او النبي والصحابة) امثال تفسير القمي والعياشي، جاءت كتب التفسير الاخرى امثال التبيان للطوسي ومجمع البيان للطبرسي، لكن هذه التفاسير بقيت مقصورة النظر على البعد الدلالي المباشر (الاعتماد على مفردات اللغة)، ولم يتطور البحث التفسيري اكثر من ذلك، ماعدا ادخال بعض البحوث الكلامية والعلمية والفلسفية كنظريات مستقلة داخل كتب التفسير او بشكل مندمج في طيات عملية التفسير المبعثرة.
لكن هناك ثلاثة اعمال، بعضها يستحق شيئاً من التخصيص وهو كتاب «الميزان في تفسير القرآن» للسيد محمد حسين الطباطبائي، وآخر يستحق الاستثناء وهو ماقام به الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «الكاشف»، والسيد محمد باقر الصدر في كتابه «المدرسة القرآنية».
منهج الشهيد الصدر في التفسير
يعد الشهيد الصدر نموذجاً فذاً للعالم المسلم، اذ كان لهذا الرجل هم التنظير المستمر وحل مشكلة تحديد موقف اسلامي على صعيد الكثير من الميادين العلمية. فعلى عكس الكثير من الاتجاهات التي ترفض قدرة العقل البشري على فهم النص وتفسيره يؤمن السيد الصدر بأمكانية ذلك (23) ويؤمن بأن القرآن كان يهتم بالارتباط بالواقع، وقد تجسد ذلك في ميدانين كحد أدنى:
الاول: كان النص مهتماً بالصياغة والنظرة الموضوعية، فالقرآن «قاوم النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الاحداث» (24).
الثاني: ان النص نزل على شكل دفعات متقطعة مختلفة باختلاف الموضوع الذي يعالجه او المشكلة التي تقف امامه، اي ان النص كان متناسقاًمع «الواقع» لذا ظهر ذلك وانعكس على آياته (مكي/مدني، ناسخ، منسوخ، مطلق/مقيد..) (25) فقد لاحظ الشهيد الصدر انه بعدما يتشكل الواقع يأتي دور النص في التشكل لذا قام بصياغة نظرية جديدة في التفسير تقوم بمحاولة فهم النص عبر مرحلتين:
الاولى: فهم الدلالة المباشرة من النص (مفردات النص وعرض ذلك على جميع الآيات الاخرى) (26).
والثانية: هي فهم الواقع ثم العودة الى القرآن ومحاورته.
فالسيد الصدر يرى ان هناك منهجين في التفسير، المنهج التجزيئي والمنهج الموضوعي. فالمفسر وفق المنهج الاول «يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجياً بما يؤمن به من ادوات ووسائل التفسير من الظهور او المأثور من الاحاديث، او بلحاظ الآليات الاخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح او مفهوم بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة القرآنية» (27) وهذا المنهج هو الاسبق تاريخياً. لكن ليس المراد من النظرة التجزيئية هنا هو متابعة كل مفردة على حدة، بل المراد من التجزيئية هنا ان المفسر يعالج الموضوعات بشكل متناثر «طبعاً نحن لانعني بالتجزيئية لمثل هذا التفسير ان المفسر يقطع نظره عن سائر الآليات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث بل انه قد يستعين بآيات اخرى في هذا المجال كما يستعين بالاحاديث والروايات. ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث، فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة أي ان الهدف هدف تجزيئي» (28).
وبالطبع فقد كان لهذا المنهج نتائج وخيمة لانه يقطّع اوصال الحقيقة التي يريد ان يطرحها القرآن. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان عملاً كهذا معناه اننا نخرج بافكار مبعثرة دائماً، الامر الذي يؤدي الى عدم امكانية بناء هرمي متصاعد للنظريات او المعارف. «أي انه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون ان نكتشف أوجه الارتباط، ودون ان نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الافكار» (29) وهو الامر الذي يفسر سبب السير البطيء لتطور النظريات والفكر الاسلامي في هذا المجال، الامر الذي سهل عملية «أدلجة» النص. فكل مفسر يوظف النص ويتلاعب في عملية الفهم لينصر المذهب الذي ينتمي اليه (مذهب ابستمولوجي او مذهب او اتجاه آيديولوجي) «وقد أدت حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي الى ظهور تناقضات عديدة في الحياة الاسلامية اذ كان يكفي ان يجد هذا المفسر او ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الانصار والاشياع» (30).
اما الاتجاه الثاني الذي يدعو اليه السيد الصدر، فيسميه بالاتجاه الموضوعي او التوحيدي «توحيدي باعتبار انه يوحّد بين التجربة البشرية وبين القرآن» (31) كما انه ليس المقصود من الموضوعية هنا مايقابل «التحيز» لان هذا امر مفروغ منه ـ رغم عدم تحققه في الواقع بشكل كامل ـ بل «الموضوعية هنا بمعنى ان يبدأ من الموضوع وينتهي الى القرآن. هذا الامر الاول، والامر الثاني ان يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد يقوم بعملية توحيد بين مدلولاتها من أجل ان يستخرج نظرية قرآنية شاملة بالنسبة الى ذلك الموضوع» (32)، اذ الشهيد الصدر لا يعترض على كون القرآن كتاباً علمياً نبحث في طياته عن النظريات، لانه يؤمن بان هذا النص يحتوي على نظريات علمية في «بعض» الميادين «وذلك ان القرآن الكريم كتاب هداية وعملية تغيير، هذه التي عبّر عنها في القرآن الكريم بأنها اخراج للناس من الظلمات الى النور» (33) كما ان الصدر يؤمن بضرورة تأصيل نظريات تنطلق من النص «مع الاستفادة الكاملة من الخبرة البشرية لتحديد موقف محدد في بعض الميادين العلمية» (34).
ويرى الامام الصدر ان السلوك في المنهج التجزيئي يبدأ من النص الى الواقع، (35) واذا كانت هناك مشكلة في الفهم فهي في تحديد المصداق وتشخيص الواقع المراد (36)، بينما سلوك المفسر في المنهج الموضوعي يكون سيراً معاكساً، حيث ينطلق من الواقع وينتهي بالنص «وخلافاً لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي، فانه لايبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة، يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية او الاجتماعية او الكونية، ويستوعب ما اثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع» (37). اي انه بعدما كان المنهج التجزيئي ولسنين متطاولة يبعد الفكر الإنساني والخبرة البشرية ويتقوقع داخل النص جاعلاً منه ينبوعاً «أوحداً» للمعرفة ونهل الحقيقة، يقوم المنهج الموضوعي باعادة الاهتمام بالخبرة البشرية واعادة توازنها مع النص بعدما كانت توازيه وتتعارض معه (ماعدا تلك المحاولات التلفيقية في التفسير) وبدلاً من السير في المنهج السابق من السماء الى الارض ومن النص الى الواقع، يكون السير في المنهج الجديد من الارض الى السماء، ومن الإنسان الى النص، بعد ان كان من النص الى الإنسان (بل بعد ان كان من النص الى النص على حساب الإنسان)، وبعد ان كان الإنسان ذليلاً منصتاً ليس له دور سوى الاستماع فقط اصبح طرفاً محاوراً، فعندما يتمسك الإنسان بعرى النص لا يكون دوره «دور المستمع والمسجل فحسب بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرباً بعدد كبير من الافكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حواراً (سؤال وجواب)، المفسر يسأل والقرآن يجيب، المفسر في ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة واعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الارض لابد وان يكون قد جمع حصيلة ترتبط بذلك الموضوع، ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم، لكن لايجلس ساكتاً فقط بل يجلس محاوراً.. ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية، لانها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الاسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة. ومن هنا ايضاً كانت عملية التفسير الموضوعي عملية «حوار» مع القرآن الكريم واستنطاق له وليست مجرد استجابه سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى» (38). وعلى هذا فالتفسير ليس تفسيراً للنص بل هو تفسير للواقع من خلال استنطاق النص والتجربة البشرية، وعليه فالصدر قدم نظرية اخرى في التفسير.
فالنص اذاً ليس هو الهدف الاخير او الهدف الحقيقي لعملية التفسير، بل الهدف هو كشف الواقع لكي يتسنى للإنسان استثماره والعيش فيه، لا ان التفسير «مُغيا» بالنص فيعيش الإنسان ازمة النص ويكون ملزماً بكشف ومصارعة عالمين : عالم النص وعالم الواقع، الامر الذي جعل السيد الصدر يؤمن بان حركة الرسالة الاسلامية لها جانبان، جانب متعال «فوق التاريخ» لارتباطه بالاله والرب، وله ارتباط بالارض فهو جزء من التاريخ. لكن بما ان النص لايتقيد بسبب نزوله اذن هو يمتد على طول التاريخ في بعض الاحيان (39). يقول الشهيد الصدر: «عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي (ص) لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة وبالوحي هي ربانية، هي فوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملاً قائماً على الساحة التاريخية، من حيث كونها جهداً بشرياً يقاوم جهوداً بشرية، اخرى من هذه الناحية يعتبر هذا عملاً تاريخياً تحكمه سنن التاريخ» (40).
ولا يقصد الشهيد الصدر من هذا الكلام افراغ النص وجعله قوالب فارغة نسكب خبراتنا فيها، بل كل مايريده هو ان نستنطق القرآن ليحدد موقفه ازاء الواقع الذي تكشف عنه الخبرات، فهنا يلتحم القرآن مع الواقع ليلتحم في الوقت نفسه مع الحياة، لان التفسير يبدأ من الواقع وينتهي الى القرآن، لا انه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن، (41) فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية، بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد في ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة الى ذلك الواقع» (42). اي ان دور النص الذي يصوره السيد الصدر لنا يشبه تصويره لدور «الفقيه»، فانه يؤمن بان الفقيه يستفيد من الكوادر المتخصصة ثم يصدر حكمه، اي من خلال معالجته للنصوص الفقهية ومقارنة ذلك بنتاجات اصحاب التخصص، ثم يصدر حكمه المناسب بعد تشخيص الواقع، الامر الذي ينطبق على دور النص هنا، حيث ان المفسر وبعد ان يقوم بالرحلة الاولى في كشف النص ومدلوله المباشر يعود ليستمع لاصحاب الخبرات المتخصصة، ثم يحدد منظور ورؤية النص في ذلك الموضوع. وعلى هذا نفهم ان الامام الصدر لا يرفض التفسير التجزيئي ويلغيه (كما هو الحال في موقفه من القياس الارسطي) لكنه لا يقف عنده «لان التفسير الموضوعي هو افضل الاتجاهين في التفسير، الا ان هذا لاينبغي ان يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي. هذه الافضلية لاتعني استبدال اتجاه باتجاه، وطرح التفسير التجزيئي رأساً.. وانما اضافة اتجاه الى اتجاه» (43).
من هذا نصل الى ان الشهيد الصدر استطاع ان يحافظ على تعالي النص، كما انه حافظ ـ بنظره ـ ان يكون هناك تفسير لايخرج عن الذهنية الاسلامية ويحافظ على التجارب البشرية، لذا يشترط في «المفسّر» عدة امور:
اولاً : «يجب على المفسر ان يدرس القرآن ويفسره بذهنية (اسلامية).. فيقيم بحوثه دائماً على اساس ان القرآن كتاب الهي أنزل للهداية وبناء الإنسانية.. واما حين يستعمل المفسر ـ في دراسة القرآن ـ نفس المقاييس التي يدرس في ضوئها أي كتاب.. فهو يقع نتيجة لذلك في اخطاء كبيرة واستنتاجات خاطئة، كما يتفق ذلك لبحوث المستشرقين.. ولهذا الشرط تفرضه طبيعة الموقف العلمي. لان المفهوم الذي يكونه المفسر عن القرآن ككل يشكل القاعدة الاساسية لفهم تفصيلاته..» (44).
ثانياً: «يجب ان يتوفر في المفسر مستوى رفيع من الاطلاع على اللغة العربية ونظامها.. والقدر اللازم توفره من هذا الشرط يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسر معالجتها من القرآن» (45).
ثالثاً: «ولابد للمفسر ان يحاول ـ الى اكبر درجة ممكنة ـ الاندماج كلياً في القرآن عند تفسيره ويقصد بالاندماج في القرآن: ان يدرس النص القرآني ويستوحي معناه دون تقييد مسبق باتجاه معين غير مستوحى من القرآن نفسه» (46).
رابعاً: «لابد للمفسر من منهج عام للتفسير يحدد فيه ـ عن اجتهاد علمي ـ طريقته في التفسير ووسائل الاثبات التي يستعملها» (47).
الفوارق الاساسية بين المنهجين
يجيب الشهيد الصدر : ان الفوارق بينهما عديدة من اهمها:
1 ـ ان المنهج الاول يواكب الآيات آية آية، اما المنهج الثاني فهو يتابع الموضوعات واحداً واحداً.
2 ـ «ان الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دوراً سلبياً (يستمع ويسجل) بينما التفسير الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وانما وظيفته دائماً في كل مرحلة وفي كل عصر، ان يحمل كل تراث البشرية الذي عاشته..» (48) فيكون المفسر محاوراً وليس مستمعاً.
3 ـ ان التفسير التجزيئي محدود العطاء، بخلاف المنهج الموضوعي الذي ينطلق من متطلبات الحياة التي لاتنتهي «فان طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لامتناهية .. (بينما) كان التفسير الموضوعي قادراً على ان يتطور، على ان ينمو، ان يثري، لان التجربة البشرية تثريه» (49).
4 ـ ان المنهج الاول يبدأ بالنص والموضوعي يبدأ من الواقع.
5 ـ «ان التفسير الموضوعي يتجاوز التفسير التجزيئي خطوة، لان المفسر التجزيئي يكتفي بابراز المدلولات التفصيلية للآيات القرآنية الكريمة، بينما التفسير الموضوعي يطمح الى اكثر من ذلك.. يحاول ان يستحصل أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، ويحاول ان يصل الى مركب نظري قرآني» (50).
6 ـ في ضوء النقطة السابقة يكون هدف المنهج التجزيئي اعطاء معنى هذه المفردة او تلك بينما هدف المنهج الموضوعي هو اعطاء «نظرية» ما.
والامام الصدر بهذه النظرية يحاول ان يثور على الواقع اذ يعتقد ان النظرة التجزيئية للامور هي التي كانت تعيق عن اعطاء موقف محدد ازاء التنافس الضروس بين التيار الاسلامي والتيارات الاخرى، كما ان الابتعاد عن الواقع ومشكلاته ابعدت المثقف عن وظيفته، وهي اعطاء موقف اسلامي محدد ينطلق من الواقع ويعود اليه ليعالجه (51)..
ومن هنا كان الصدر يهتم بان تكون المعرفة «ارضية» تبدأ من الارض وتعود الى الارض. يتجلى ذلك في ابرز اعماله «الاسس المنطقية للاستقراء» وتبويبه لعلم اصول الفقه. ومن هنا ايضاً جاء موقفه ازاء نظرية «اللطف» الموروثة (52) حيث انزلها من عليائها وربطها بالارض، ومن هنا جاءت نظرية الصدر في مفهوم استخلاف آدم وجنته الارضية. وهكذا كان منهجه في طبيعة تعامله مع الواقع وكيفية معالجته، ولابد ان يستنفد الجهد فيعالج هذا الواقع بدمه، لان عملية التغيير تتطلب الدم بالاضافة الى الفكر والثقافة.
* طالب في الحوزة العلمية – قم.
(1) الطباطبائي، العلامة محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، اسماعيليان، ج 1، ص 11.
(2) عرفه (التفسير) صاحب الميزان بأنه «بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها». المصدر نفسه. ج 1، ص 4. وراجع الحكيم، السيد محمد باقر، علوم القرآن، ط2، ص 216.
(3) راجع ماكتبه العلامة محمد حسين الطباطبائي في كتاب: «القرآن في الاسلام» ص 34، وكتاب «الاسلام يقود الحياة» للسيد محمد باقر الصدر، ص 26.
(4) مع الاسف كانت المردودات الذهنية من لفظة «تكليف» سلبية ـ رغم الايجابيات التي ذكرت.
(6) للمقارنة راجع مفارقات محمد اركون حول الموضوع في مجلة «ابواب» العدد 19.
(7) راجع تحولات آليات التفكير في مسيرة علماء المسلمين في كتاب «الميزان في تفسير القرآن»، مصدر سابق، ج 5، ص 271. وراجع مردودات ذلك على النص في ج 1، ص 5.
(8) راجع : تفسير المحيط الاعظم للسيد حيدر الآملي والتفسير المشهور بتفسير ابن عربي وايضاً، راجع منهج الاخير في موسوعته الصوفية. الموسومة بـ «الفتوحات الملكية». وبشأن الطلسمات وآلية الطلسم راجع منهج ابن تركة في شرحه لفصوص الحكم. ومع ان الطباطبائي هو احد اهم رجال العرفان والتصوف في العصر الحديث لكنه مع ذلك يقول: «من الواضح ان القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة ولا ان المخاطبين به هم اصحاب علم الاعداد والاوقات والحروف». راجع الميزان ج 1، ص 7. ج 5، ص 281 ومابعدها من هذا الكتاب ايضاً.
(11) كما هو الحال مع صاحب الميزان (الطباطبائي) حيث نجد في تفسيره جمع افكار ملا صدرا الفلسفية.
(12) هذا لايدل على حضور العرفان او الفلسفة او العلم ـ بمنظوماتها المعرفية ـ في داخل النص اذ ان اثبات ذلك صعب.
(13) «واسباب النزول هي امور وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها». راجع : علوم القرآن، مصدر سابق، ص 38.
(16) تفسير الميزان، مصدر سابق، ج 3، ص 46. و ج 1، ص 13.
(18) انظر، حنفي، د. حسن: في فكرنا المعاصر. وقارن بين كلام حنفي هنا وبين بعض كلام المتصوفة، وعلى سبيل المثال راجع ص 52، من كتاب «رسالة في الولاية» للعلامة الطباطبائي. وهذا لا يعني انكار تأثير الخبرات الشخصية على المفسر.
(20) الكليني، محمد بن يعقوب، الاصول من الكافي ج 2، ص 631.
(21) المصدر نفسه، ص 600. هذا بالاضافة الى الروايات الاخرى التي كانت تركز على ان الآية غير محصورة بسبب النزول والا لكان معنى عدم خلودية احكام النص، وهي روايات متطورة الوعي بالنسبة لمسألة مفهوم النص.
(23) الصدر، السيد محمد باقر، المدرسة القرآنية، بيروت، دار التعارف، ص 7.
(25) يعد مشروع السيد محمد حسين الطباطبائي محاولة للتفسير وفقاً لهذه المرحلة الاولى فقط. اما اعتماد «الواقع» فلم يهتم به الطباطبائي الا بمقدار معرفة تحديد معنى اللفظ، اذ اللفظ القرآني ـ بنظره ـ واضح المعنى، وانما المشكلة هي في المصداق، لذا تكون مشكلة «التأويل» بنظره هي مشكلة المصداق لا مشكلة تحديد المعنى. انظر: الميزان، ج 3، ص 49. وهذا نفس الامر الذي يذكره السيد الصدر انظر: (علوم القرآن، مصدر سابق، ص 221) وفيما نجد الطباطبائي يقف عند هذا الحد نجد الصدر يتوسع في ذلك الى الحد، الذي يستخدم فيه شرط الواقع لتحديد ثبوت النص (هل هذا الكتاب هو القرآن فعلا اولاّ؟) انظر: علوم القرآن ص 103.
وبخصوص تأكيد السيد الصدر على ابعاد الحس المذهبي في التفسير راجع: محمد باقر الصدر دراسات في حياته وفكره، نخبة من الباحثين، لندن، دار الاسلام، ص 443.
(32) المصدر نفسه، ص 47. وراجع حول موضوع عملية التغيير الجذري علوم القرآن، مصدر سابق، ص 50 ـ 70.
(35) علوم القرآن، مصدر سابق، ص 221. ويقترب هنا من الطباطبائي كثيراً، حيث انه يركز على مسألة كون بعض الوقائع ارفع من «الحس» وان الإنسان مرتبط ومؤنس بالحس فتصعب عليه عملية الفهم، اي ان الصدر حصر مسألة اختلاف الفهم بسبب انس الذهن البشري بخبراته بما يخص الحقائق الغيبية.
(38) علوم القرآن، مصدر سابق، ص 42. وبما ان الصدر يؤمن بأن الشريعة السماوية ربانية(المدرسة القرآنية، ص 47) وانها احدى سنن التاريخ فالنص هو جزء من التاريخ وهو احد قوانينه وحقائقه، هو مرتبط بالإنسان وليس منفصلاً عنه لانه هبة السماء لهداية الإنسان في تنظيم حياته (دروس في علم الاصول، الحلقة الاولى).
(42) المصدر نفسه، ص 37. وهذا يشبه موقف الامام الصدر في نظرية المعرفة حيث انه لم يرفض القياس الارسطي، لكنه اضاف اليه منطق الاستقراء، وعليه فهناك منظومة واحدة في فكره يجب اكتشافها بدل ان يكون فكر الصدر اوصالاً مقطعة!
(45) قدر الامكان، والا فان افناء ذلك كلياً غير ممكن.
(47) المصدر نفسه، ص 246، وهذه الشروط هي قبل ان يبلور الشهيد الصدر نظريته في التفسير.
(52) راجع بحوث في علم الاصول ج 4، ص 306، للسيد محمود الهاشمي وهي تقريرات لدرس السيد الشهيد الصدر.