د. خليل قنبري(*)
ترجمة: صالح البدراوي
مقدّمة ــــــ
ما بين أيدينا تعريفٌ ونقد إجمالي لكتاب «الإسلام والمسيحية في العصر الراهن»، لمؤلِّفه مونتغمري وات. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب من قبل الدكتور خليل قنبري في معهد الفلسفة والكلام الإسلامي للدراسات (معهد دراسات العلوم والثقافة الإسلامية). وسوف يصدر الكتاب في المستقبل القريب عن معهد دراسات العلوم والثقافة الإسلامية، متضمناً هوامش توضيحية ونقدية.
مكانة وات بين المستشرقين ــــــ
واجهت رسالة القرآن الكريم وشخصية النبي الأكرم محمد| الكثير من التحريف والتشويه خلال القرون التي كانت تسيطر فيها الكنيسة على مناطق مختلفة من العالم. ومنذ القرن التاسع عشر الميلادي فصاعداً أخذت الدراسات والمؤلفات العلمية ذات الرؤية الواقعية نسبياً تنتشر تدريجياً في مختلف أنحاء العالم، وبخاصة في أوروبا في هذا المجال. وفي القرن العشرين تمت مواصلة هذا المنهج بمزيد من التفاؤل. ومن المتوقع استمرار هذا التوجُّه بترحيب أكبر في المستقبل أيضاً.
يعدّ الباحث الإنجليزي وليم مونتغمري وات من المسيحيين القلائل المتخصصين في الدراسات الإسلامية، والذي أمضى أكثر من ستين عاماً من عمره، البالغ 97 سنة (1909ـ 2006م)، في دراسة القرآن الكريم، والدراسات الإسلامية، وتاريخ النبي الأكرم|، والعلوم الإسلامية، وكذلك العلاقات بين الإسلام والمسيحية. أكثر من ثلاثين كتاباً وعشرات المقالات هي حصيلة سنوات عمره التي أمضاها في البحث العلمي في هذه المجالات.
أصبح المنهج الفكري الواضح جداً، والأسلوب العلمي، ومراعاة الإنصاف والنصرة المسالمة لقضايا الأديان، ومعتقدات المتدينين وثوابتهم، سبباً في أن يذكر اسم وات من قبل المحققين المسلمين بالحسنى، والذكر العطر، على العكس من الكثير من المستشرقين والغربيين المهتمين بالشأن الإسلامي، وحظيت مؤلَّفاته باهتمام خاص لدى المسلمين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم. ورغم أن عثراته وأخطاءه الصغيرة والكبيرة لم تغِبْ عن أنظار المحققين المسلمين وملاحظاتهم الدقيقة فهو لم يحمل على محمل السوء والغرضية على الإطلاق. وتعدّ مسألة ترجمة العديد من كتبه إلى اللغة الفارسية، والطبعات المتعدِّدة للبعض منها، دليلاً قاطعاً على مستوى الإقبال والنظرة الإيجابية تجاه وات ومؤلَّفاته لدى إيران واللغة الفارسية.
ويعرض وات في كتاب «الإسلام والمسيحية في العصر الراهن» تجربة عمر كامل لما يخالج نفسه جراء اهتماماته العميقة ودراساته الإسلامية. وكان هدفه في هذا الكتاب العمل على طريق توحيد الرؤى لكلا الديانتين التوحيديتين الكبيرتين: الإسلام؛ والمسيحية، في أهم القضايا، والمجالات الكلامية؛ والعقائدية، المختلف عليها، والتأكيد على نقاط التشابه فيما بينهما.
وقد جعل وات من مقوله توماس مرتون، الذي قال: «المسيحي الجيد ليس بالشخص الذي يرفض الأديان الأخرى؛ بل هو ذاك الشخص الذي يصدق الحقيقة الموجودة فيها، ومن ثم يذهب إلى أبعد من ذلك»، أساساً ومنطلقاً لأفكاره في هذا الكتاب، وعرض فيه سبل التقريب بين آراء كلا الديانتين التوحيديتين. فكان التفسير الإيجابي المسالم للمعتقدات المتخالفة في كلا الدينين إحدى تلك السبل؛ ذلك أنه يرى أن الأديان تتعرض اليوم للهجوم على كافة الأصعدة، وعلى سبيل المثال: يرى أنه يجب على المسيحي، الذي يدافع عن بعض معتقداته أمام التهديدات التي يتعرض لها، أن يدافع أيضاً عن البعض من معتقدات أخيه المسلم.
وعلى الرغم من آرائه الإيجابية، التي تستحق التقدير، فقد أخطأ وات في أحكامه في خصوص بعض المواضيع الإسلامية، ويكمن السبب الرئيس لهذا الانحراف في عدم استعانته ورجوعه ـ لأي سبب كان ـ إلى النصوص والمصادر الشيعية. وكذلك هو في مبالغته في الخوض في التبرير والتأويل في بعض مواضيع الإلهيات المسيحية.
الشكل العام للكتاب ـــــ
الشكل العام للفصول الثمانية للكتاب، والتي ستأتي بالتفصيل، هو كالتالي: يرى وات أن الأديان كانت وما تزال تعاني دائماً، وبشكل عام على مر تاريخها الطويل، من مشكلتين رئيسيتين، هما: أـ مشكلة الأديان على اختلاف أنواعها مع ظاهرة العلم، والتأثُّر بالعلوم وما حققته العلوم الجديدة (المشاكل الخارجية)؛ ب ـ المشكلة الداخلية للأديان فيما بينها، من حيث المحتوى، والأصول، والقواعد. ويرى أن هاتين المشكلتين هما السبب في إضعاف مكانة الأديان بين العلماء، بل وحتى بين عامة الناس، ولابد للمتصدّين من أتباع هذه الأديان من التفكير ووضع الحلول المناسبة؛ لإخراج هاتين الديانتين السماويتين الكبيرتين (الإسلام؛ والمسيحية) من هذه المشكلة.
ولغرض إزالة مشكلة النظريات العلمية مع التعاليم الدينية يقوم في البداية بالبرهنة على إثبات منهج مصداقية الأخبار، ومعايير إثبات حقيقة الدين، ومن ثم يتصدى لدراسة الإشكالات التي تثار من العلوم الجديدة تجاه الأديان وتعاليمها الدينية؛ إذ تمثل دراسة مسألة التكامل التدريجي للحياة، ونظرية الخلق والإبداع، ونظرية الأمور غير المنظمة الموجودة في الكون، ونظرية السيطرة وكون تدبير الأمور بيد الله تعالى، والأعمال الخارقة للعادة، ومعجزات الأنبياء وعدم انسجامها مع العلوم والمنجزات العلمية للبشرية، وعدم انسجام الأخبار التاريخية الموجودة في النصوص الدينية المقدَّسة مع الأخبار التاريخية، تمثل جانباً من المشاكل الخارجية للأديان. وفي موضوع دراسة المشاكل الدينية الداخلية للإسلام والمسيحية يرى وات أن أكثر المشاكل تنبع من الفهم التقليدي لكلٍّ من هاتين الديانتين تجاه بعضهما البعض. ففي فهم المسلمين التقليدي للديانة المسيحية تبرز جملة من القضايا، ومنها: قضية حقيقة كون الكتاب المقدَّس ـ العهدين ـ كتاباً سماوياً، ونظرية تحريف الكتاب المقدس، ونظرية التثليث المسيحي، وتجسيد عيسى، وعشرات المسائل الأخرى. كما تبرز في الرؤية التقليدية للمسيحيين تجاه الدين الإسلامي بعض القضايا من قبيل: بدعة الإسلام، نشر الإسلام بالسيف والعنف، وعشرات القضايا الأخرى، التي أصبحت السبب وراء عدم تمكن هذين الدينين التوحيديين من التوصل إلى رؤى مشتركة في الكثير من هذه القضايا العالقة بينهما، في حين أنه يمكن إزالة الكثير من التصورات الخاطئة والفهم السيئ، من خلال إعادة قراءة كلّ هذه القضايا. يقوم وات ابتداءً بتقديم نموذج نقضي من الدين الآخر، ومن ثم يبادر إلى توضيحه، وإعطاء إجابة الحل، من قبل الدين الآخر، في كلّ مسألة تثير المشاكل بين المسيحية والإسلام لكلا طرفي النزاع.
خلاصة الفصول الثمانية ــــــ
يتألف الكتاب من مقدمة، بقلم الشيخ أحمد زكي اليماني، ومقدمة الكاتب، وثمانية فصول.
ويتطَّرق الكاتب في الفصل الأول (أوجه التعامل والحلول) إلى توضيح أوجه التعامل التقليدية للمسلمين والمسيحيين تجاه بعضهم البعض، ونقدها، ودراستها.
ولدى دراسة نظرة المسلمين التقليدية تجاه المسيحيين تناول عدة مواضيع، منها: قدح المسلمين في حقيقة المصدر السماوي للكتاب المقدَّس، ونظرية تحريف الكتاب المقدَّس، وكذلك انتقادات المسلمين في خصوص الاعتقاد بالتثليث في المسيحية.
وعند التطرق إلى نظرة المسيحيين التقليدية إلى الإسلام أشار كذلك إلى صور التحريف والتصوُّرات الخاطئة للأوروبيين (وبخاصة أوروبا الغربية) تجاه الإسلام، منتقداً جملة من القضايا، ومنها: مقولة بدعة الإسلام، ونشر الدين الإسلامي المبين بقوة السيف والإكراه والعنف، وإشاعة الانحلال والفساد الأخلاقي في الإسلام.
ويرى وات أن مقولة تحريف الكتاب المقدس ترتبط بالفترة التي كانت فيها الدولة الإسلامية قد فتحت بلدان مصر، وسوريا، والعراق، التي كان يعيش فيها المسيحيون المتعلِّمون. وعندما شعر علماء المسلمين أن تواجد هؤلاء المسيحيين قد يضعف إيمان المسلمين حديثي العهد بالإسلام، والمسلمين البسطاء، ويعرِّضه للخطر، أشاعوا نظرية تحريف النصوص المسيحية، واليهودية؛ بهدف المحافظة عليهم. كما يرى وات أن الآيات القرآنية، التي تعد هي الأساس لنظرية التحريف، لا تدل على التحريف الكامل. ومن هنا يرى أنه يجب على المسلمين في الظروف الراهنة (ظروف الحوار) إعطاء تفسير لهذه الآيات الكريمة، بحيث يقال: إنها تنصّ فقط على احتمال التحريف المحدود أو المؤقَّت للكتب المقدَّسة، ويتمنى في المقابل على المسيحيين أن يصحِّحوا بعضاً من التفسيرات الخاطئة للقرآن الكريم، والتي ترتبط بالتصوير المضطرب والمشوَّش للقرون الوسطى للإسلام؛ لأنه يرى أنه على الرغم من قرابة مائتي عام من الجهود الحثيثة المبذولة لتصحيح هذه الاتهامات وأعمال التحريف إلا أن هذه التصورات الخاطئة والمحرَّفة عن الإسلام ما زالت تلقي بظلالها على أذهان الغربيين ومدى ترحيبهم بالدين الإسلامي.
وفي الفصل الثاني (إثبات الحقيقة الدينية مقابل التأثر بالعلم) اعتبر الكاتب مصداقية مجموعة من الفرضيات والمقدمات، التي يُعتقد أنها مأخوذة من العلم، ووافق عليها العلماء، مقدوحةً وباطلة ـ غير علمية ـ، مع قبوله ببعض النتائج التي اعترف بها عموم العلماء رسمياً؛ وذلك بهدف الدفاع عن مصداقية المعتقدات الدينية. ولغرض إبطال بدعة التأثر بالعلم صرف اهتمامه بدايةً لتنسيق قاعدة فلسفية أو عقلية للاستدلال، ولغرض إنجاز هذا الأمر قام بدراسة أهم النظريات الواردة في شأن الصدق، ونقدها، ومنها: نظرية التطابق، ونظرية الانسجام، ونظرية العمل، ناقلاً بعض أقوال العلماء من ذوي الرأي في شأن الدور الاجتماعي في صنع الحقيقة، ومنهم: بييرتيلهارد، دي. شاردن (Pierre Tellhard de chardin)، جان مكموري(John Macmurry)، مايكل بلاني (Michale Polanyi)، وبيتر بركر (Peter Berger). ويخلص إلى أن الصدق هو العلم المقترن بمعرفة الحقيقة كما هي. وبالتالي فإن الخبر الصادق هو ذلك الخبر الذي يتطابق مع ما يعرف عموماً بأنه حقيقي وواقعي. وضمن تأكيده على أن نظرية العمل كامنة في نظرية الدور الاجتماعي في صنع الحقيقة يقوم بتناول عملية تطوير النظرية المتعارف عليها في خصوص الحقيقة. ثم ينتقل إلى إثبات النظريات الخاصة بالحقيقة، ويخلص إلى أن رأي الناس، ومدى معرفتهم بالنصوص المقدسة، تستند هي الأخرى على واقعهم الثقافي.
وبناءً على ما يراه وات فإنه على الرغم من أن معدلات سلامة النظريات المتعلِّقة بالحقيقة من التحريف متباينة فإن المؤكَّد دائماً أن النظرية الصحيحة هي النظرية التي تعتقد أن تحديد كيفية معرفة الناس ورأيهم بالعالم المحيط بهم يستند على مدى فهمهم لحقيقة محيطهم الثقافي. ويعطي مصداقين دليلاً على هذه النظرية: أحدهما: مشركو مكة؛ والآخر: علماء الغرب المسيحيون. ففي المثال الأول نجد أن مشركي مكة؛ بما أنهم لم يمتلكوا أية تجربة عن نزول الوحي من قبل الله تعالى، فهموا أمر النبي الأكرم| على أساس أفكارهم السابقة. ومن هذا المنطلق اعتبر البعض منهم ـ وبكل وقاحة ـ أن النبي الأكرم| مجنون، وقال البعض الآخر: إن النبي| له مساعد أو عدة مساعدين. وذكر في المثال الثاني الصورة المحرّفة والمعكوسة التي أعطاها العلماء المسيحيون الغربيون عن الإسلام في القرنين الثاني والرابع عشر، والتي كانت تستند على الصورة المعكوسة التي أعطاها العلماء السابقون. وعلى الرغم من أن العلماء اللاحقين قد حصلوا على المزيد من المعلومات الصحيحة حول الإسلام من كتب المسلمين ومصادرهم فإنهم لم يتمكنوا من القبول بها بشكل محايد، بل تمكنوا فقط من اعتبارها تمثل أسلوباً جديداً للتصوير المعكوس، وبقي تصوير القرون الوسطى للإسلام يلقي بظلاله على أفكار الغربيين، بل مسيطراً عليه، ومحدِّداً لشكله، إلى القرن الحالي.
ويخلص وات في دراسته للنظريات الدينية في شأن الحقيقة إلى أن النظرية الدينية ـ كما هو شأن النظريات الأخرى ـ عندما تمكِّن الناس من أن يحيوا حياة راضية فهي صادقة إذاً في ذلك الجانب العملي. وهكذا عندما يكون للأديان تأثير عملي في الحياة، وتكون قادرة على أن تجعل الكثير من الأفراد يحيون حياة راضية على مرّ القرون، ويحقق المتدينون حياةً أفضل من خلال تطبيق التعاليم الدينية الغيبية، نستنتج أنه لو نظرنا إلى النظام الأمثل لأي دين من الأديان كوحدة واحدة سيقدم نظرية بشأن الحقيقة تكون ذات قيمة في الكثير من الجوانب المتعلِّقة بها.
ويرى وات أن الفهم الذي يعتبر نظريات الأديان المختلفة، ومنها: المسيحية؛ والإسلام، في شأن الحقيقة متناقضة أحياناً، ولا يمكن أن تجتمع، أمرٌ ظاهريٌّ، وغير ذي أهمّية تذكر. ويرى أنه حتى أكثر القضايا تعقيداً، من قبيل: مسألة تجسيد عيسى×، أو أزلية الله تعالى، لو تأملنا فيها بدقّة ستبدو صعوبة فهمها والقبول بها أقلّ مما هي عليه في الوهلة الأولى.
ويواصل وات كلامه متناولاً كيفية ترجمة اللغة الرمزية في المواضيع الدينية وغير الدينية؛ بهدف تبرير الصورة اللغوية للحقيقة الدينية، والإجابة عن إشكالية عدم واقعية لغة الدين. وبعد أن يقدِّم الكثير من القرائن والشواهد يستنتج أن اللغة الرمزية كما أنها لا تستلزم عدم الواقعية في المواضيع غير الدينية فإنها كذلك في المواضيع الدينية أيضاً. ومع ذلك هناك أمران في دراسة اللغة الرمزية يحظيان بأهمية بالغة، وهما:
أـ لا يمكن استبدال اللغة الرمزية ـ وكما ينبغي ـ بأية ترجمة باللغة غير الرمزية أو اللغة الأقلّ رمزية؛ بسبب رمزيتها وسمتها غير الوصفية.
ب ـ إن معرفة الله تعالى من خلال اللغة الرمزية ناقصة، إلا أنها تكفي لإرشادنا في أمور الحياة العملية، بمعنى أنها من الناحية العملية تعلمنا ربط أنفسنا بأحوالنا الغائية بشكل مرض ٍتماماً.
ويتعرض الكاتب في تتمّة الفصل إلى نقد الأحكام المسبقة للتأثُّر بالعلم، على الرغم من تسليمه بالنتائج القطعية للعلم. ويتناول في هذا الباب دراسة المواضيع الثلاثة التالية:
1ـ علاقة حقيقة الواحد الأحد بالصورة الأصلية لكل شيء.
2ـ العلاقة بين ماهيّة الشيء الحقيقية وتبيين صورته الأصلية.
3ـ الأفق الواضح لتحليل الشيء إلى أجزائه مقارنة بالماهية الحقيقية لذلك الشيء.
وفي النهاية يخلص إلى ما يلي:
1ـ المعاني حقيقية كالجزيئات. وعدم أخذ المعاني الاجتماعية والإنسانية بنظر الاعتبار أثناء التطبيق والعمل أمرٌ مفجع، كالقفز من نافذة على ارتفاع عشرين متراً عن سطح الأرض.
2ـ الحقائق أوسع من المواضيع العلمية، أو على الأقلّ أوسع من مواضيع الفيزياء وغيرها من العلوم الطبيعية. ومن هنا لا يمكن القول: بما أن المجردات ـ مثلاً ـ ليست موضوعاً للبحث العلمي إذاً فإن وجودها محال؛ لأن الذين يؤمنون بالمجردات (الله تعالى؛ والملائكة) بإمكانهم التصديق بوجودها بناءً على أسس وقواعد أخرى.
3ـ على الرغم من أن تحليل الشيء إلى أجزائه يعدّ أمراً مفيداً إلا أنه لا يكشف عن الماهية الحقيقية للشيء؛ لأنها كلّيات أكبر من مجموعة الأجزاء. حتى أن هناك كليات يوجد فيها عامل أساسي واحد أو كلّي يسيطر بنحوٍ ما على الأجزاء.
وبعد أن قام الكاتب في الفصل الثاني بدراسة أفق دلالة اللغة الرمزية، وأثبت حجّيتها الإجمالية، تناول في الفصل الثالث (أسماء الله وصفاته) جملةً من المواضيع الكلية المتعلِّقة بأسماء الله وصفاته، التي تم التعبير عنها باللغة الرمزية ـ حسب اعتقاده ـ. وضمن الإشارة إلى اختلاف الأديان التوحيدية في الإيمان بواحد أحد آخر يقول في البداية: لا شك أن هناك بعض الاختلافات بين تصورات اليهودية والمسيحية والإسلام عن الله تعالى، إلا أن هذه الاختلافات هي أقلّ مما تبدو في الوهلة الأولى، هذا أولاً. وثانياً: لأتباع الديانات الثلاثة تجربة متشابهة في الإيمان بالله تعالى، ويؤمنون بموجود واحد أحد ـ وليس بتصور واحد ـ. كما أن الاختلاف في التصور يعود أولاً إلى اللغة الرمزية المستخدمة في التعبير عن أسماء الله تعالى وصفاته، ويعود ثانياً إلى أن الناس لا يستطيعون التعبير عن الله تعالى بدون استخدام العبارات الإنسانية بأيّ شكل من الأشكال.
وضمن الإشارة إلى النزاع الموجود بين المتكلِّمين ذوي المشرب الفلسفي وبقية المتكلِّمين، بل وحتى العارفين، يشير إلى نظريات التنزيه والتجسيم والتشبيه في الإسلام. وفي ما يتعلق بجهود المتكلمين المسيحيين يشير إلى آراء بعض المتكلمين والفلاسفة المسيحيين، ومنهم: توماس آكويناس، ونظريته في التمثيل في دراسة العبارات الإنسانية عن الله تعالى وأسمائه وصفاته، ويقول: يؤمن المسيحيون أيضاً بوحدانية الله تعالى. ويرى وات أن الله سبحانه وتعالى قد رفض عقيدة التثليث والبدعة، التي كانت تمثل أحياناً العقيدة العملية للمسيحيين البسطاء في القرون الماضية، في الآية 73 من سورة المائدة بقوله جلّ وعلا: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾. وهذا الأمر يحظى بتوافق المسيحيين الحقيقيين عليه. وبعد أن يواصل بحثه عن النظريات المشابهة يقارن موضوع التثليث مع ستّ أو سبع صفات من صفات الله الأساسية في السنة الإسلامية، ويتوصل إلى أن الاختلافات بين الإسلام والمسيحية في المجالات الخارقة، أي ما بعد الطبيعية، ليست بحجم الأمور التي تؤثِّر على العلاقة بين الله والإنسان.
ثم يتناول الكاتب فيما بعد دراسة صفة الأعلى وعلوّ الله تعالى، ويتوصل إلى عدم رفض احتمال أي شكل من أشكال حلول الله تعالى في نظرية تعالي الله المشار إليها في التصوُّر الإسلامي، ثم يتناول فكرة الحلول في الديانة المسيحية في نظرية التجسيد المسيحية. ثم يواصل الكاتب دراسته لتصورات الإسلام والمسيحية عن المحبة والإحسان، وصفة الرحمن الرحيم لله تعالى، معتبراً رأي الديانة المسيحية، القائل بأن إله المسيحيين أكثر رحمة من إله المسلمين، وله دور أكبر وأبلغ في انعتاق الضالين وخلاصهم، أمراً ظاهرياً، ويقول: «بناء على ما جاء في القرآن الكريم أيضاً لا شك أن الله تعالى يحب البشرية جمعاء، ولهذا أرسل لهم الأنبياء؛ ليدعوهم إلى عبودية الله تعالى. ومن هنا فإن الناس جميعاً يمتلكون فرصة الوصول إلى الفوز العظيم، والعيش في الجنة، على حدٍّ سواء، حسب وجهة النظر الإسلامية».
وفي ما يتعلق بعقوبات المذنبين اعتبر وات تقييم الإسلام والمسيحية على أساس التطبيقات السابقة لأتباعهم غير صحيح، مشيراً في ذلك إلى الممارسات المختلفة تماماً داخل كل دين. ويرى أنه على الرغم من أن الكثير من الدول الغربية تخلت عن عقوبة الإعدام على القتل؛ نتيجة لتأثير الديانة المسيحية، إلا أن هناك بين المسيحيين مَنْ يدافع عن وضع عقوبات أشدّ على مختلف أنواع الجرائم، وإعادة عقوبة الإعدام. ثم ينتقل إلى الحديث عن الإرادة الإلهية، ومراده في الأفعال والخلق.
وفي الفصل الرابع (الكتاب السماوي كلام الله) يتناول بالدراسة جملة من المواضيع، ومنها: كيفية الوحي والنبوة في الإسلام والمسيحية، وأبعادهما. ويشير في هذا السياق ـ بدايةً ـ إلى المقولة التي تحظى بموافقة كلا الديانتين عليها، وهي أن المسلمين والمسيحيين يؤمنون بأن الله تعالى يكلم الناس عن طريق بعض الأفراد، وهم (الأنبياء)، وكل ما يأتي عن طريق الوحي يسمى في كلا الديانتين بكلام الله تعالى. ويرى وات أن حقيقة الوحي إلى النبي عبارة عن سرّ، ولكن هناك أمران لابد من التسليم بهما، وهما:
أـ المبادر بالوحي هو الله تعالى.
ب ـ انطباع صورة الكلمات في ذهن النبي تحمل الحقيقة النازلة من عند الله.
ومن ثم يشير إلى أوضاع وأحوال نزول الوحي، والتغيير الذي تحدثه الأوضاع على محتوى التعاليم، وتطابق أكثر رسالات الأنبياء في الوهلة الأولى مع المعاصرين، والظروف الخاصة المحيطة بهم، وتصوّراتهم، في خصوص الرؤية الكونية. ويخلص إلى أن كلا الديانتين ترى أن كل ما يرتبط أساساً بظرف خاص يمكن أن يكون له سببٌ عام أيضاً؛ ذلك أن خصوصيات أي ظرف خاص تتواجد في الكثير من الظروف الأخرى أيضاً. ومن هنا فإن الذكر الخاص لا يحول دون الاعتبار العام. ويشير الكاتب في تتمة كلامه إلى الاختلافات الموجودة بين الإسلام والمسيحية حول كيفية الوحي.
ويرى وات أن القول بوجوب أن تعطي النصوص الدينية والوحي نظرية علمية حول منشأ الكون، والخلقة، أو المعرفة العلمية بجوانب تاريخية صرفة، يعدّ نوعاً من الفهم الخاطئ لغرض الوحي؛ إذ إن غرض الوحي أساساً يكمن في إعطاء البشرية رؤية معينة حول الحقيقة في خصوص وجود الله، وصفاته، والعلاقات المتبادلة بين بني البشر، وما يريده الله تعالى من الناس، وكيفية تحقيق الناس لتلك المطالب، والثواب، وكيفية التنفيذ وعدم التنفيذ. ثم يشير إلى جملة من الأمور المتفرقة في الكتب المقدسة. ويخلص إلى القول: إن هذه الأخبار كانت تأخذ بنظر الاعتبار المعتقدات الموجودة في ذلك الوقت، وأنها لا تنسجم مع ثوابت العلم ومسائله القطعية حالياً، وإن تصحيح هذه المعتقدات لم يكن من ضمن أهداف الوحي.
ولدى دراسة مسألة إمكانية وقوع الخطأ في نقل الوحي، والاختلافات الموجودة في النصوص المقدسة، ذكر مشكلة وجود النسخ البديلة للكتب المقدسة في المسيحية، والقراءات السبعة في الإسلام، كأمثلة على ذلك. ويرى أن الاختلافات في النصوص المسيحية المقدَّسة هي أكثر، وأحياناً جوهرية أكثر، ولكن حتى ما يقال من أن الأناجيل الأربعة الجديدة تختلف مع بعضها البعض في الكثير من المسائل الجزئية، لا يلحق أي ضرر بما يدركه الإنسان المؤمن، بل إنها في بعض الأحيان تلعب دوراً إيجابياً في خصوص ما نعرفه عن السيد المسيح× ـ على سبيل المثال ـ، حيث ذكرت شخصيته بصور مختلفة في الأناجيل الأربعة.
ولدى دراسته مدى تأثير الشخصية الفردية لكل نبي على مضمون أو محتوى الوحي النازل عليه يرى أن الوحي يتأثر بالرؤية الفكرية والثقافية للمجتمع الذي يخاطبه، والذي يعدّ النبي أحد أعضائه أيضاً، ولكن يجب على كل نبي أن يتمتع بخصال خاصة؛ لكي يكون مؤهَّلاً لنزول الوحي عليه. ومن الممكن أن تؤثر هذه الخصال على الإطار الخيالي للوحي. ولكن الوحي يصدر في كل الأحوال من قدرة الله تعالى على الخلق والإبداع. ويمثِّل محتواه الحقيقة الإلهية، وكيفية نزوله يعدّ أحد الأسرار. ويبتعد وات بتعبيره هذا، وإلى حدٍّ ما، عن نظريته الواردة في بعض كتبه ومقالاته الأخرى في مجال تأثُّر الوحي بثقافة زمانه، وتعرُّض الوحي والأنبياء للضغوط الثقافية الموجودة في زمانهم؛ لأنه يقبل في كل الأحوال بأن أي نوع من أنواع الوحي؛ بما أنه لا يتكون وسط فراغ ثقافي، فإن بعض الأبعاد الثقافية لتلك الفترة الزمنية ستنعكس فيه بالضرورة، إلا أن هذا الأمر لا يعني عدم واقعية الوحي بأي شكل من الأشكال.
ويرى الكاتب لدى دراسة مسألة الاعتراف بالوحي أنه بما أن النصوص موحاة بلغة البشر، وتمتلك عناوين بشرية، سيكون بالتالي لأكثر من عنوان ديني دخلٌ في الأسلوب المتبع من قبل المجتمع الديني؛ للاعتراف بالنصوص الدينية. وعلى الرغم من عينية نصوص الكتب المقدسة هناك عدة عناوين ذهنية في كيفية فهمها من قبل المجتمع الديني هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بما أن هناك مجموعة من الأمور قد تم نزولها بالوحي فسيظهر تأثير الاختيار، ويصبح إلى حدٍّ ما مبرِّراً لظهور الاختلافات المذهبية، وستذهب كل فرقة صوب النص أو النصوص باستخدام معيار «الثمرات» في تقييم العمل والمعتقد الديني.
ولدى دراسته لتفسير الوحي والنصوص المقدسة يرى أنه من الممكن وجود نوع من المرونة الخاصة في التفسير، على الرغم من تأكيده على وجود النصوص الدينية الثابتة. ويشير في موضوع دراسة العلاقة بين التجربة الدينية لأمة من الأمم مع نصها الديني، ووقت اكتساب النصوص الدينية صفتها الرسمية، وكذلك كيفية تنسيق الأخبار العقائدية من بين ثنايا النصوص الدينية، واكتسابها الصفة الرسمية، يشير إلى مسألة ظهور مجموعة النصوص المسيحية المقدسة على مدى عدة قرون، ضمن الإشارة إلى مسألة نزول القرآن الكريم خلال 23 سنة، وجمعه وكتابته في عهد الخليفة عثمان بن عفان. ويخلص إلى القول بأن عملية تأليف مجموعة كتب العهد الجديد أقرب ـ وإلى حدٍّ كبير ـ إلى عملية تأليف وتنظيم الصحاح الستة منها إلى قضية الجمع أو توحيد القرآن الكريم. وفي موضوع دراسة الأخبار العقائدية يرى أيضاً ضرورة وجود المرونة الخاصة في تفسير الأخبار، مع تأكيده على النص الديني الثابت. ويقول وات: بما أن جميع وجهات النظر التي يحملها النص لا تتمتع بدرجة واحدة من الوضوح، والأهمية، ووجود أساليب مختلفة في التفسير من ناحية أخرى، لذا يجب عند اختيار أسلوب تفسير النص أن نحدِّد ما هو الرأي الذي يتطابق مع الفهم العام للنصوص الدينية، وما هو الرأي الذي يتقاطع معها. وعلى سبيل المثال: أشار إلى ما أضيف في القرن الرابع الميلادي إلى مجموعة النصوص المقدَّسة للعهد الجديد عن طريق صحيفة معتقدات الحواريين، ويقول: بما أن نظرية آريوس في خلق كلمة الله وعيسى البشر لم تحظَ بموافقة الجمهور المسيحي فقد أضاف المتكلِّمون المسيحيون عبارات موجزة على صحيفة المعتقدات المستخدمة في مراسيم الغسل والتعميد؛ بهدف توضيح عدم تطابق آراء آريوس مع النصوص المقدسة، وقد تم التعامل مع بقية المواضيع ذات العلاقة أيضاً بهذه الصورة، وأضيفت عبارات جديدة على صحف المعتقدات.
ثم يتطرق الكاتب إلى الاختلاف الموجود بين المتكلمين المسلمين في موضوع كلام الله، ورؤية الله، والاختلافات الموجودة بين هذه المعتقدات. ويشير في موضوع تحت عنوان «النظام الأخلاقي» إلى قوانين الله للمجتمعات البشرية، مذكّراً بأنه يجب على المسلمين والمسيحيين، بل أتباع كلّ مدرسة من المدارس العقائدية، أن يبذلوا ما في وسعهم في الميادين الثلاثة المهمة، ونعني بذلك: 1ـ السلوك الفردي؛ 2ـ سلوك البلدان أو بقية الأنظمة السياسية، مع بعضها البعض، ومع رعاياهم؛ 3ـ أسس حجيّة المبادئ القانونية والأخلاقية.
ويقول وات لدى مقارنته بين الإسلام والمسيحية في هذه الميادين الثلاثة: «هناك إجماع في الرأي بين الإسلام والمسيحية في خصوص أسس قوانين سلوك الأفراد، كما يلاحظ وجود الكثير من أوجه التشابه في خصوص المبادئ الأخلاقية للأفراد في كلا الديانتين». ويواصل كلامه مؤكِّداً على أن المسيحية تؤكِّد على الملاكات العقلية ـ سواء في باب المعتقدات أو في باب الأخلاق ـ، وفي المقابل يتمّ التأكيد في الدين الإسلامي على سنة النبي الأكرم|، التي تمثل التطبيق الكامل للأوامر الإلهية، فيقول: «صحيح أن هناك اليوم نوعاً من التشكيك في المنطلقات الدقيقة للنظريات الأخلاقية والقانونية المسيحية إلى حدٍّ ما، ولكن نظراً لاعتماد أكثر المسيحيين على العقل والتجربة فقد أصبح المسيحيون على استعداد أكبر لتقبل أنه في حال حصول المزيد من التغيير في الظروف فمن الممكن أن تتغير كيفية تطبيق الوصايا الربانية».
ويقول بعد ذلك، آخذاً بنظر الاعتبار تطور العلم والإبداع، الذي ألقى بظلال تأثيره على تطبيق القوانين في الكثير من الأمور: «الذين يؤمنون بقوانين الله التي لا تغيير لها ولا تبديل ـ سواء المسيحي أو المسلم ـ بحاجة إلى المزيد من الجهود الفكرية؛ لكي يبينوا للآخرين كيف يمكن لتلك القوانين أن تطبق في الظروف المعاصرة، وتحافظ في نفس الوقت على قواعدها الأساسية». وفي ما يتعلق بخصائص المرجعية وقيمة القوانين في كلا المجالين المذكورين آنفاً، وكذلك أسلوب تطبيق القوانين الإلهية على العلاقات الإنسانية، أكد وات على الجوانب المشتركة، التي يمكن أن تصبح أساساً للتعاون، معترفاً في نفس الوقت بالاختلافات الجوهرية الموجودة في وجهات النظر.
وأشار في الفصل الخامس (الله الخالق) إلى الهدف من معرفة الكون، من نافذة الوحي والعقل والعلم البشري، والالتفات إلى التعارض الموجود بين هذين الميدانين من ميادين المعرفة والمساعدة، التي يمكن أن يبديها كلٌّ منهما أحياناً للآخر، موضِّحاً الرأي الذي يحظى بموافقته، والمتمثِّل بقبول النتائج القطعية للعلم فقط. ويرى وات أنه لابدّ من القبول بحقيقة التكامل ـ القائلة بأن الإنسان الذكي هو من ذرية الأنواع الأدنى في الحياة ـ، ولكن يمكن عدم تحديد أنفسنا وتقييدها بنظرية خاصة عند القبول بكيفية تحقيق التكامل، وبالتالي يجب أن لا تصبح الاختلافات في النظريات العلمية حول آليات التكامل هي الأساس في رفض تلك الحقيقة (حقيقة التكامل).
ويتناول وات في هذا الفصل الهدف الرئيس للمعرفة الفلسفية للكون، بالاستعانة بأفكار وآراء مايكل پلاني. ويقوم بشرح نظام تصنيف الموجودات من الأصناف الراقية إلى الأصناف المتدنية، وإن الكائنات الراقية هي التي تفرض بنحوٍ ما شروط التحديد للكائنات الأدنى، وبالشكل الذي تجعل فيه الكائنات الأدنى ـ وهي في تلك الظروف، حيث تعمل بناء على طبيعتها تماماً ـ نشاط الكائنات الراقية أمراً ممكناً، وتشارك فيها. وبالتالي يستنتج من الناحية الفلسفية أن الجنس البشري جنس واحد بالقوة، وهذه الوحدة في طور الوصول إلى مرحلة الفعل. ومن ثم يطبق هذه المقولة على نظرية الكتاب المقدس القائلة بأن الجنس البشري هو نتاج الذرية المشتركة لآدم وحواء‘. وبعد أن يعطي بعض الشواهد والقرائن يدعي أن ليس لدينا دليل يدعونا للقول: إن جميع البشر يمتلكون نوعاً من الوحدة التي هي في طور التكوين.
ثم ينتقل إلى شرح عملية النظام التكاملي للكون في الرؤية الكونية لـ (تيلهارد)، و(شاردن)، والتي ينظر فيها إلى الحالة الفعلية لنظام معين على أنها نتيجة التغير المستمر بنحو وآخر للحالة الأولى، وأن عالم البشرية تطور بشكل تدريجي من الدائرة الترابية إلى دائرة الحياة، ثم إلى دائرة الوعي أو العلم، وبعد ذلك إلى الدائرة الإلهية. ومن ثم يتناول دراسة كيفية حصول التغير في الحالة الترابية، والتي تشمل كريات الحجارة والماء والهواء، استناداً إلى نظرية پلاني، وتقديم الأدلة والشواهد. ويخلص إلى القول: إن البعض من أجزاء الكل كالجزيئات، تتحرك نحو المزيد من التعقيد في المراحل الأخيرة لمرحلة ما قبل الحياة على الأقل. وهذه الحركة تمكن من العثور على الحياة في نقطة معينة قبل الحياة. ولدى دراسته للتكامل في الحياة يتناول تكامل علم البيولوجيا، ومسألة العلة في التكامل البيئي، بشكل أساسي، ويقوم بدراسة إمكانية تحقيق التكامل البيئي، ووجهة الحركة التكاملية للحياة في إطار الاختيار الطبيعي، مستعيناً بنظرية نموذج التكوين التدريجي والديناميكي. ويستنتج أن الاحتمال الأقوى لتوضيح الحركة التكاملية باتجاه معين هو في أن نقول: هناك نوع من النزعة في المادة نحو الوعي. وعند دراسة التكامل في الوعي يشير أيضاً إلى جملة من الميول والتوجهات التي تبين الحركة باتجاه المجتمع البشري الموحَّد المعقَّد والمتمايز والواحد في نفس الوقت.
ويشير المؤلِّف في القسم الثاني من هذا الفصل، عند المقارنة مع نظريات العلم في شأن الخلقة، إلى توضيح الخلق وفقاً لرأي الكتب المقدسة. ويستنتج أنه يوجد بين المسلمين والمسيحيين اتفاق جوهري في تعاليمهم حول الله تعالى كخالق، ومسيطر على الحوادث الطبيعية، ومن ثم يتناول كيفية الترابط والانسجام بين النصوص المقدسة والرؤية الكونية الفلسفية، ويسعى من أجل توضيح أوجه التشابه بين هذين المنهجين، وتبيين تناسقهما وانسجامهما.
ويرى وات أن الخلق أمر متصل ومنتظم ومسيطر عليه، في رأي القرآن الكريم والكتاب المقدس، وأن الله تعالى هو خالق الحدود الغائية لعالم الوجود؛ إذ تكون عملية التكامل العيني في حالة تكوين وانتشار مستمر داخل هذه الحدود، وتحت سيطرتها. ومع ذلك فإن تدخلات الله تعالى بمناسبة وأخرى في شؤون هذا الكون يحدِّد التصور أعلاه، ويقدح فيه إلى حدٍّ ما. ومن الحالات التي تقلِّل من المصداقية المتكاملة لهذا التصور، والتي لا تنسجم في الواقع مع أية مرحلة من العملية التكاملية، هي مقولة كون الله تعالى هو الفاعل المباشر، وتدخله في قوانين الطبيعة؛ لمعاقبة الناس أو مساعدتهم، في إطار المعجزات والأحداث غير الطبيعية، وقصة هبوط آدم وحواء، وولادة عيسى المسيح من مريم العذراء÷ (البكر)، والبعث، ومعجزات الأنبياء.
وعلى سبيل المثال: يذكر وات لدى تبريره للمعجزات والأعمال الخارقة للعادة، وبشكل خاص معجزات السيد المسيح×، بعض التأويلات والتبريرات لها؛ إذ يرى أن ما يبدو في بعض الحالات أنه نقض لقوانين الطبيعة يمكن أن ينظر إليه على أنه حوادث طبيعية، تغيرت آلية نقلها التي دامت لعشرات السنين، وفي أحيان أخرى من المحتمل أنه كانت هناك بعض العوامل التي لم يتمكن العلم حتى الآن من معرفتها ودراستها. وأصبح من المسلم به اليوم أيضاً أنه ما زالت هناك بعض الحالات المشابهة، التي يتماثل فيها الناس للشفاء، لا يمكن تفسيرها طبياً من الناحية العلمية. وكذا في بعض الحالات، من قبيل: إطعام عدد كبير من الناس برغيف واحد من الخبز، أو إخماد العاصفة بإشارة واحدة، والتي يأتي ذكرها على مستوى الكلام فقط؛ إذ لابد من الالتفات إلى أن هذه الحوادث لها في نفس الوقت معاني أعمق. وعلى سبيل المثال: إن عيسى هو خبز الحياة، وبإمكانه أن يشبع الجوع الروحي للبشر. أو أن إخماد العاصفة يدل على أنه قادر على أن يزف بشارة الأمن والسلام؛ لتعم قلوب الناس الهائجة. إلا أنه رغم كل هذه التبريرات والتأويلات التي يذكرها بالتفصيل يذكّر بأن المعجزات والكثير من الأعمال التي من هذا القبيل إنما هي رمزية. وبنفس الشكل الذي يعتبر فيه وات أن السعي للتعبير عن الإيمان بإبداع الله تعالى وفقاً للرؤية الكونية الفلسفية، أو تبرير وتأويل الأمور التي من هذا القبيل، إنما هي لإرضاء الأذهان المتسائلة فقط، وبغيره، يرى وات أنه عندما يُقبل أحد المتسائلين على العبادة يجب عليه أن يدع تساؤلاته جانباً، ويسلم أمره للرموز المعروفة بشكل كامل تماماً.
ويحاول وات في الفصل السادس إكمال مواضيع الفصل السابق، من خلال الإجابة عن التساؤلات التالية: هل أن لله تعالى برنامجاً معيناً لإدارة شؤون العالم؟ هل يمتلك السيطرة على الأحداث التاريخية وإدارتها؟ وفي بداية الدخول إلى هذه الدراسة قام بتعريف التاريخ، مبيناً أهدافه، والنماذج المهمة في التسلسل غير المنتظم للأحداث، ومن ثم يقسِّم التاريخ إلى: التاريخ الديني؛ و التاريخ الدنيوي.
فالتاريخ الديني يتناول النماذج التي تتعلق بالجانب الإلهي للأحداث، وهو ذلك التاريخ الذي يكون فيه الله تعالى فعّالاً في سير الأحداث. كما أنه يكوّن في الواقع من الناحية الاجتماعية الهوية المذهبية للمجتمع.
والتاريخ الدنيوي هو ذلك التاريخ الذي يعنى بالنماذج التي نعتبرها نحن عوامل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وغيرها، وتكوّن الهوية الوطنية للشعوب والأمم. ومن ثم يتناول كيفية انعكاس الأحداث التاريخية في العهدين والقرآن الكريم.
وبنظرة شاملة وجامعة يرى وات أنه بالنظر إلى أن أي أمر يرجع بالتالي إلى الله تعالى، طبقاً للكتب الدينية، فمن المحتمل أن تكون هناك ثلاثة أساليب يمكن أن تستخدم من قبل الله تعالى للسيطرة على التاريخ وإدارته:
1ـ ما يمكن تسميته في الظاهر تدخُّلاً في القوانين الطبيعية هو تلك الحوادث التي تعود على الكافرين بالضرر، وعلى المؤمنين بالنفع والفائدة، على أثر هذا التدخل.
2ـ السيطرة على العملية التاريخية، وتوجيهها، عن طريق الدواعي الداخلية، وبعث الأنبياء، والوحي إليهم.
3ـ تقوية الصالحين فرديّاً وجماعياً، وإضعاف الفاسقين والكافرين.
ومن ثم يطرح التساؤل التالي: عندما يكون هناك عدم انسجام بين التاريخ الديني والدنيوي في الظاهر أو الواقع ماذا يجب أن نفعل يا ترى؟ هل يمكن التشكيك في صدق التاريخ الديني أو الدنيوي؟ هل أن التاريخ الدنيوي يمثل النتائج القطعية للعلوم، ويرقى إلى مستواها ومكانتها، أم أنه ليس بتلك الدرجة من القيمة الاعتبارية؛ ذلك أن الجهد الرئيس للمؤرخ الدنيوي يدور في تفسير الحقائق، ويتم هذا التفسير على أساس مكانة وقيمة أولئك الذين يكتب لهم؟
ومن ثم يتمثَّل وات بحالتين من التناقضات الجوهرية بين التاريخ الديني والتاريخ الدنيوي: 1ـ حالة من العهد الجديد، وهي قضية مجيء ثلاثة من الحكماء للإيمان بعيسى الطفل، وتقديم الهدايا له؛ والأخرى من القرآن الكريم، وهي قضية قدوم إبراهيم× إلى مكة لبناء الكعبة. ويقول: «بما أن الفرد المؤمن بالله يرى أن النظام القيمي الذي لا يعير أهمية للجانب الإلهي لحياة الإنسان ناقصٌ إذاً فإن التصوير العام للتاريخ الديني يتفوق على العملية التاريخية المصورة في التاريخ الدنيوي». وقد أصبح من المتيقَّن تقريباً لدى التاريخ الدنيوي أن هاتين الحادثتين لم تقعا إطلاقاً، ومع ذلك فإن التاريخ الديني يرى أن الاثنتين تمتلكان الحقيقة، وتمثِّلان على الأقل صدقاً تصويرياً. ولا يمكن أن تُشاهَد ظاهرة معينة وأجزاؤها بشكل جزئي ودقيق في الحقيقة والصدق التصويري بأيّ شكل من الأشكال، بل إنها كلية، والواقع أن الشكل التصويري قد فصل جوانب معينة من كل الحقيقة، ويعرضها بكل دقّة. وفي المثالين أعلاه يتمتع كلٌّ من تعبير الكتاب المقدس عن الحكماء، وكذلك تعبير القرآن الكريم عن إبراهيم× في مكة، يتمتعان بالحقيقة والصدق التصويري، بمعنى أنه يتم في هاتين الحادثتين تبيين الجوانب المأخوذة عن جميع الظروف التاريخية للمجتمعات المسيحية والإسلامية بشكل واضح تماماً.
ويقوم المؤلِّف بعد ذلك بنقل التناقضات الموجودة في عمليات نقل التواريخ الدينية ـ وعلى سبيل المثال: اليهودية؛ والمسيحية؛ والإسلام ـ. وعندما يجيب عن هذه التساؤلات يتضح أنه لو كانت الإرادة والتدبير، وكذلك الأمر بالتدوين، أو التدبير والسيطرة، بيد الله تعالى فكيف يمكن تفسير التناقضات الموجودة بين التواريخ الدينية؟
ويعتقد وات أنه على الرغم من أن الفرد المؤمن بالله ينظر إلى النظام القيمي الذي لا يعير أهمية للجانب الإلهي للحياة بأنه ناقص فإن التصوير العام للتاريخ يتفوق على العملية التاريخية المصورة في التاريخ الدنيوي. وفي هذه الحالة صحيح أن التفاصيل العامة للأحداث والعملية التاريخية إنما تحصل بإرادة الله تعالى، وفق منظار التواريخ الدينية لليهودية والمسيحية والإسلام، إلا أن الله تعالى ينجز جزئيات هذه العملية عن طريق إيجاد الدوافع الداخلية في الأوضاع والأحوال الملائمة، وكذلك عن طريق تقوية أو إضعاف الأشخاص، وبعبارة أخرى: يوجد ضمن منهج الله تعالى للتعامل مع هذه العملية قدر من الحرية، أو التفويض للإنسان، يتم تطبيقه عن طريق الاختبار والخطأ. وهذا الأمر لا يتعارض مع الحقيقة القائلة: إن الله تعالى «هو الواضع لشروط الحدود، وشروط الهداية والتوجيه». وفي مجال التعاون بين الأديان يجب على الأقل إعادة النظر في بعض المواد من الأخبار والعبارات وتفاسير التاريخ الديني، التي تؤدي إلى بروز المشاكل في ميدان الحوارات والنقاشات، وإصلاحها. ومن هنا يرى وات أنه يجب على الديانتين اليهودية والمسيحية إصلاح تفسيراتهما للعهد في سيناء، والعهد الجديد للمسيحية، بالشكل الذي لا يستلزم معه القول: إن الله تعالى لا علاقة له بالأديان الأخرى. وكمثال على ذلك: إن ما تقوله المسيحية من أن «الفلاح خارج الكنيسة أمر غير ممكن» يمكن تفسيره بصورة أخرى؛ لكي نبقي على الاحتمال القائل: إن الله تعالى قد أوكل أمر بعض الواجبات الخاصة المتباينة إلى الأديان الأخرى.
ويرى وات أن الأديان الثلاثة (اليهودية؛ والمسيحية؛ والإسلام) كلما فكرت بالمستقبل فإنها ترغب بتخيُّل صورة معينة تجد نفسها وقد انتشرت أيَّما انتشار، بحيث تشمل البشرية كلّها، ولكنْ لو أردنا أن ننظر إلى الموضوع برؤية عالمية، معتبرين التوسع الديني جزءاً من عملية التاريخ برمتها، سيبدو لنا أن أيّاً من هذه التواريخ الدينية لا تستطيع أن تصبح بشكلها الحالي تاريخاً دينياً لكل البشرية، وإن كان بمقدورنا عقد الآمال على أن يصبح قسم كبير من أحد أنواع التواريخ الدينية تاريخاً عالمياً. وكمثال على ذلك: يشير وات إلى نظرية الشعب المختار في الديانتين اليهودية والمسيحية، ومن ثم يستنتج أنه لا يمكن القول بأن الله تعالى قد اختار بني إسرائيل واليهود، أو المسيحيين، فقط، وكمثال على ذلك: إنه أظهر ذاته لهم فقط، ولكنْ يمكن أن نقول: إن الله تعالى قد اختارهم لأداء دور خاص في نمو الوعي الديني للعالم، وهو ذات الشرح الخاص للظروف الغائية لوجود الإنسان، والتي نسميها بـ «التوحيد». وبهذا التعبير عن الشعب المختار يمكننا القول ـ حسب رأيه ـ: إن الله تعالى قد اختار أقواماً أخرى للقيام بأدوار خاصة أخرى، وهو الذي ألهم عظماء الهند والصين وغيرهما؛ لكي يساهموا في نمو الوعي الديني.
ويرى وات أنه إلى ما قبل القرن التاسع عشر كان كل دين من الأديان ينتشر على محاور متوازية، ومنفصلة عن بعضها البعض؛ بسبب إصرارها على مميزاتها الثقافية. إلا أن هذا الأمر قد تغير في القرن التاسع عشر، وأصبح سريعاً جداً في القرن العشرين، وأصبح كلا محوري العلاقات ـ السفر؛ ونشر المعلومات ـ سبباً لتلاقي الأديان العالمية بمستوى غير مسبوق، وبنفس الشكل الذي تؤدّى فيه حالة المرافقة بين الأستاذ والتلميذ في دورة تعليمية وعلمية كقرين اجتماعي، لتنتهي إلى توفُّر الأرضية الملائمة لتبادل الاحترام والحوار المتبادل فيما بينهما. إلا أن المسافة ما تزال كبيرة جداً لبلوغ التاريخ العالمي الموحَّد؛ لأنه يجب أحياناً أن تتضح في البداية الحالة المستقبلية للدين العالمي.
وضمن طرحه لرأي الإسلام والمسيحية حول نهاية التاريخ يتناول الكاتب في تكملة هذا الفصل بعض العناصر الأساسية للتعاليم المتعلِّقة بمبدأ المعاد في المسيحية والإسلام، في موضوع تحت عنوان «نهاية التاريخ». ويشير ـ باختصار ـ إلى بعض المواضيع، من قبيل: كيفية الفصل والتقاضي في اليوم الآخر، وكيفية القيامة، وكيفية الحكم والقضاء، وتقييم الأعمال، ونتيجة الفصل، والشفاعة، وغيرها. ويرى الكاتب أن المعتقدات المتعلِّقة بالأمور الأخروية ليست من الأمور غير الضرورية والزائدة عن المسيحية أو الإسلام، بل إنها تبيِّن حقيقة هامة حول ماهية حياة الإنسان في هذه الدنيا، وتلك الحقيقة هي أن حياة المؤمنين تختلف تماماً عن حياة الكافرين. وعلى الرغم من أنه يمكن أن لا نكترث للأوصاف العنيفة لصور العذاب البدني في جهنم؛ بدعوى أنها مجرد روايات جميلة فقط، وأحياناً لا تكون واقعية، إلا أن ذلك لا يعني أنه يجب أن ننظر إلى الله تعالى على أنه أبٌ سهل الجانب، ومسامح، ولا يؤاخذ أحداً. ورغم أنه يحب الناس جميعاً فإن بمكان الناس أن يحرموا أنفسهم من محبته، ويذوقوا عذاب الانفصال عنه.
وأما الفصل السابع فهو مخصَّص لنقل الرأي الإسلامي والمسيحي حول علاقة الإنسان بالله تعالى. ويتناول الكاتب دراسة مصطلحين من بين المفاهيم الرئيسية لهذا الموضوع في التعاليم الإسلامية، وهما: العبد؛ والخليفة. ويقوم بتفسير مقولة الإجبار، أو تفويض الإنسان في علاقته بالله تعالى، ومسؤوليته إزاء أعماله، استناداً إلى رأي المدرستين الفكريتين: الأشاعرة، والمعتزلة. ويكشف في هذه الدراسة عن علامات تدلّ على وجود نوع من التناقض الفلسفي، انطلاقاً من رؤية هاتين المدرستين، التي تقول إحداهما بالوجهة الشرعية، والحسن والقبح الشرعيين، وبعبارة أخرى: تقلل من أهمية سلب الاختيار من الإنسان؛ والأخرى وجهة عقلية، وتؤكد على اختيار الإنسان وحريته، وانطلاقاً من محدودية الإنسان في مسؤوليته تجاه أفعاله يستنتج أن كل نظرية أو فكرة في خصوص حرية الإنسان لا تستلزم بالضرورة العصيان ضدّ منزلة العبد تجاه ربه.
ويرى وات أن بعض القيود المبينة في القرآن الكريم للإنسان تلاحظ في الكتاب المقدس أيضاً، بل توجد في الكتاب المقدس بعض الشواهد عن شعيرة التقدير الأزلي. كما أن فكرة الحرية في العهد العتيق تتحدد ـ كما يبدو ـ بمعناها اللغوي، بمعنى أن الحرية تحدِّدها العبودية، على الرغم من أن هذه النظرية تم شرحها في العهد الجديد، وتم أيضاً طرح الاحتمال القائل بأن الإنسان يمكن أن يصل إلى ما هو أعلى من مرتبة العبودية لله تعالى، أي الوصول إلى مرتبة ابن الله وابنته. ويرى أنه في ذات الوقت الذي يكون فيه لما يفهم من كلمة الإنسان كعبد أو عبد الله مكانة رئيسية في النظرية الإسلامية فإن المسيحي الغربي في الوقت الحاضر غير راضٍ عن لفظة العبد، بل يعبر عن نفسه بتعبير «خادم الرب»، أو «المخلوق»، بل «الابن» أو «الابنة». ولتبرير المراد بالرموز الثلاثة لله، وأن مراد المسيحيين منها ليس المعنى الحقيقي للابن والابنة، بل هي عبارة عن التصورات الفلسفية التي تمتلك تأويلات أخرى، يقوم بدراسة تاريخ هذا المصطلح في العهد العتيق والعهد الجديد، مؤكِّداً على مجازية هذا المصطلح لغوياً، مستنداً في تبريره هذا على الفهم الذي قال به الشهرستاني (المتكِّلم المسلم في القرن 12م)، القائل بجواز استخدام مصطلح «ابن الله»، حسب زعم الكاتب. وطبقاً لكلام الشهرستاني ربما يكون ذلك أحد المجازات اللغوية، كما يقال لطلاّب هذا العالم: «أبناء الدنيا»، ولطلاّب العالم الآخر: «أبناء الآخرة».
وفي سياق ما جاء في الفصول السبعة المتقدِّمة ينتقل الكاتب إلى اللغة الرمزية لمصطلح «ابن الله»، معتبراً ابن الله المصطلح المبيِّن لأمر واقعي عن الله تعالى بأفضل أسلوب ممكن للناس. ويرى أن ابن الله يستلزم أنّ الإنسان قادر على أن يتبصَّر بأغراض الله تعالى وعلاقته بالبشر، ويقوم بفعلٍ ما على طريق تحقيق تلك الأغراض، وأن عيسى× كان سبّاقاً في هذا المسار. ولكن بما أن الإسلام والمسيحية يتشابهان في أن القيود الشخصية والاجتماعية عبارة عن علامات تدلّ على كون الإنسان مخلوقاً، وتدل على منزلة العبودية، فكما أن أيّ إنسان حرٌّ في بلوغ منزلة ابن الله وابنته فهو يملك في نفس الوقت القدرة أولاً على إنكار رسائل الوحي، والتمرُّد على أوامر الله تعالى، وإن الإنسان مسؤول في ذلك عن سلوكه، وستكون معاقبته من قبل الله تعالى عادلة؛ وثانياً: لا يستطيع عدم طاعة الإنسان الحؤول دون تحقيق الأهداف الإلهية، وإن كان الإسلام يؤكد كثيراً ـ حسب رأيه ـ على السيطرة المستمرّة على الأحداث من قبل الله تعالى.
ويشير في تتمة كلامه إلى تفسير المعاصرين لنظريات النصوص الدينية. وقد قام ضمن طرحه لنظريتي الوحدة والثنائية حول ماهية الإنسان وحقيقته بتطبيقها على النظريات العلمية المطروحة في الفصول السابقة، والقائلة بأن الإنسان يأتي ضمن سلسلة من الموجودات في مراتب مختلفة، تحدد فيه الموجودات الأعلى مرتبة شروط الحدود للموجودات الأدنى، وتفرضها عليها، ويتناول نتائج كلٍّ من هاتين النظريتين في خصوص علاقتها بالله تعالى؛ لأن الإنسان يمثل في نتيجة النظرية الأولى ذرة من عالم الوجود، الواقع تحت سيطرة الخالق، وتتمثل نتيجة النظرية الثانية في أنّ الإنسان قادر على أن يطرح كموجود مستقلّ بذاته، يؤدي أفعاله بحرّية، وبالأمر الصادر من «إنيّته».
ولكنْ يؤكِّد وات على أن المفكرين المسلمين والمسيحيين المتبحرين يرون أن الإنسان لا يتخلى إطلاقاً عن منزلة العبودية بشكل كامل. صحيحٌ أن الإمكانيات الإنسانية الآن بذلك الشكل الذي بإمكانها معه التأثير على المسيرة التكاملية، إلا أن الأصحّ هو أن يجعل خططه وبرامجه منسجمة مع أهداف الله تعالى، ومع النزعة الموجودة في ماهية الإنسان. ويرى أن السياسيين ـ وعلى الرغم من كلامهم الكثير حول السلام ـ لم يتمكَّنوا من خلق عالم يعمّه الأمن والسلام؛ بسبب نسيان السياسي لعبوديته، جراء سلطته وقوته. وثانياً: لا يعلم أن مساعيه التي يبذلها، وبالمقدار الذي يلزم فيه نفسه بالسعي من أجل تحقيق أهداف الله تعالى، ويوسع اندفاعه الذاتيّ من أجل الفهم الأكمل لهذه الأهداف، بإمكانها فقط أن توصله إلى الفلاح والنجاح على المدى البعيد.
وخلاصة القول: يرى وات أن المرء بإمكانه أن يدخل إلى عالم أعلى من عالم الوعي والعلم، والذي يمكن أن نسميه «العالم الإلهي»، بمقدار فهمه لأهداف الله تعالى، وبمقدار التزامه وتمسُّكه بتحقيقها. وهذا يعني أنه كلما كان فهم الشخص لأهداف الله تعالى أكمل، ومعرفته بنفسه كعبد أو مخلوق، وبتكليفه في التمسك بتلك الأهداف، على أكمل وجه، سيفهم بشكل أوضح أن تكليفه يتمثَّل في العمل من أجل الحصول على رضا الله تعالى بشرطها وشروطها الخاصة. والحصول على هذا الأمر يعني الدخول إلى العالم الإلهي.
وضمن الإشارة إلى جانب من القضايا والمشاكل التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية، التي تحول دون حصول التعامل الصحيح بين كلا الديانتين التوحيديتين، وضمن إقراره بوعي الغرب في الوقت الحاضر بالنهضة الإسلامية، وبخاصة في إيران، اعتبر وات أن ذلك يمثِّل جزءاً من كل مسألة التلاقي المعاصر بين الإسلام والمسيحية. ومن أجل الوقوف على موقع هذا الأمر في هذه المجموعة ككُلّ أشار إلى بعض القضايا والمشاكل التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والفكرية، التي تقف مانعاً في طريق التعامل الصحيح بين الديانتين، ويقترح وجوب قيام العلماء المسيحيين والمسلمين بالتقارب فيما بينهم، والتخلي عن تحفظاتهم، والإجابة عن أوضاع العالم المعاصر بكل شجاعة ووضوح، إجابةً عصرية تحمل روح العصر، من قبيل: ما حصل في السابق بين المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء.
وأرى أنه توجد قضايا كثيرة في المسيحية والإسلام على حدٍّ سواء بحاجة إلى إعادة قراءتها، والتعمق فيها فكرياً. فقضية الخلاص الناجمة عن صلب السيد المسيح× في المسيحية، واستشهاد الإمام الحسين× لدى الشيعة، بإمكانهما أن تصبحا ميداناً للتأمُّل العميق في أسرار العشق والذوبان في ذات الله تعالى، وتحمُّل العذاب، وتمنح الأتباع والمؤمنين بصيرة الطريق إلى العالم الإلهي.
وفي الختام، وبعد أن يشير إلى أن الاتصالات الودية بين أتباع الأديان آخذة بالتزايد في عالم اليوم، يؤكِّد على أنه يجب على كلّ فرد مؤمن أن يعمل على توسيع مداركه ومعرفته بدينه، ويسعى للحصول على فهم أكمل وأكثر إيجابية عن الأديان الأخرى؛ لكي ينظر إلى أتباع الأديان الأخرى بأنهم يرافقونه كذلك في تسلُّق الجبل المغطّى بالغيوم، حيث يسكن الله الذي لا يُرى فوق قمته وسط الضباب الذي يلفّ جميع الأنحاء.
الكتاب، تحليل ونقد ـــــــ
سبق أن أشرنا في مقدمة هذه المقالة إلى أن مونتغمري وات، ومع كل ما يتصف به من حسن النية والإنصاف ودقة الرأي، وقع في هذا الكتاب في بعض الأخطاء. وعلى الرغم من الجوانب الإيجابية، ونقاط القوة الكثيرة، التي يتمتع بها هذا الكتاب فإن هناك عدة ملاحظات عليه جديرة بالإشارة، دون أن نتَّهمه بالغرضية:
1ـ ما أشار إليه المؤلِّف في الصفحات الأولى للفصل الأول، من تغيير النبي الأكرم| والمسلمين لمنهجهم في التعامل مع أهل الكتاب، ومن ثم تغيير لهجة آيات القرآن الكريم، لا أساس له من الصحة بأي شكل من الأشكال؛ لأن مواقف النبي الأكرم| من المسيحية واليهودية لم تتغير إطلاقاً، ولا توجد أية إشارة لهذا التغيير، لا في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث الإسلامية برمّتها؛ لأن الديانتين اليهودية والمسيحية يشار إليهما دائماً بأنهما ديانتان إلهيتان، يصدران من مشكاة الوحي، وقام اثنان من الأنبياء العظام من أولي العزم، أي موسى وعيسى’، بتبليغهما؛ من أجل سعادة البشرية وخلاصها. ويذكر القرآن الكريم قضية الرسائل المستمرة بشكل دائم، ويعبّر عن الأسرة العظيمة للأديان الإبراهيمية بكلمة شاملة جامعة، وهي كلمة «الإسلام».
يمثل الإسلام الذي جاء به النبي الخاتم المرحلة الأخيرة لهذه القضية العظيمة. ولم يكن منافساً أو متقاطعاً مع اليهودية والمسيحية الأصيلة على الإطلاق. ولو لم يكن في اليهودية أي تحريف لكان ينبغي على الموسويين تسليم لواء هداية البشرية إلى السيد المسيح، ويجتمعوا تحت لوائه× بكل سرور، بعد أن أدّوا رسالتهم التاريخية. وبمجيء النبي محمد المصطفى| كان من المتوقَّع أن يؤمن به المسيحيون، وحتى اليهود الذين كانوا يبشرون بمجيء نبي آخر الزمان، وسكنوا المدينة قبل سنين عديدة؛ ليدركوا مبعثه.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن عدداً من أتباع الديانات السابقة من اليهودية والمسيحية قد آمنوا بالنبي الأكرم|، في حين أعرض عنه آخرون، ولم يؤمنوا به، إلا أنهم كانوا يقدّرون مشاعر المسلمين، ويظهرون لهم المحبة، وتفيض أعينهم من الدمع أحياناً عندما يستمعون لآيات القرآن الكريم؛ تأثُّراً به. وهناك فريقٌ آخر من أهل الكتاب ـ وأغلبهم من يهود المدينة وأطرافها ـ لم يكتفوا بعدم تصديقهم للنبي الأكرم| فحسب، بل وجدوا أن سرّ بقائهم يكمن في محاربته ومناجزته. والمؤسف أنهم عادوا وكرَّروا التجربة المرّة بتكذيب الأنبياء مرّة أخرى. والأمر البديهي أن مستوى مواجهة المسلمين مع أهل الكتاب، وكيفيته، كان يخضع للظروف العامة؛ لاتساع رقعة الدولة الإسلامية. وكان للمسلمين في مكة علاقات محدودة مع أهل الكتاب.
وفي بداية المرحلة التي تلت الهجرة وانبثاق المجتمع الإسلامي في المدينة كانت العلاقات مع أهل الكتاب تتطور بشكل طبيعي، وكانت في الغالب من النوعين الأول والثاني. ونتيجة لترسيخ دعائم الدولة الإسلامية في المدينة، وقدرتها على الوقوف في وجه الكفار ومشركي قريش، وتحقيق الانتصارات في المعارك، شعر البعض من أهل الكتاب (الفريق الثالث) بالخطر الحقيقي، وأخذوا يفكرون بالتآمر والتواطؤ مع قريش. وبناء على ذلك لا يمكن فصل تغيير لهجة آيات القرآن الكريم حول أهل الكتاب عن الأحداث والوقائع الخارجية. ولكن الموقف المبدئي تجاه اليهودية والمسيحية، والتأكيد على أوجه التشابه، ووحدة المنشأ، بقي قائماً على الدوام، بحيث إن تعامل المسلمين وسلوكهم مع اليهود والمسيحيين لم يطرأ عليه أيّ تغيير بأي شكل من الأشكال، طالما بقوا على معاهداتهم التي أبرموها مع النبي الأكرم|، ولم يخلفوا بعهودهم، ولم يتواطأوا مع قريش والكفار.
2ـ في ما يتعلق بموضوع الإبهام الموجود في نظرية تحريف النصوص المقدسة للعهدين، وتأكيده على السمة الدفاعية لهذه النظرية، فضلاً عن سمتها العلمية والمعرفية أيضاً، فإن مصدر هذه القضية، وكما جاء في جانب آخر من حديث وات، في نفس القرآن الكريم، ولم تكن هناك حاجة للتصدي للمسيحيين المتعلمين، والشعور بالخطر منهم، لكي يتم طرح نظرية التحريف. كما أنه يمكن جمع أساليب التحريف المتنوعة مع بعضها البعض، ولم يكن من الضروري التطرُّق إلى ذكر تلك النظريات والآراء المتناقضة. ويشير القرآن الكريم في الآيات 75 إلى 79 من سورة البقرة إلى بعض أنواع التحريف، ومن ضمن الحالات التي أشار إليها القرآن الكريم بكل صراحة: قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ﴾ (البقرة: 79).
الملاحظة المهمة الأخرى هي أن القرآن الكريم يتحدث علانية عن التوراة والإنجيل بأنهما يحملان الوحي الإلهي النازل على موسى وعيسى‘، وكلماتهما وحي إلهي، كالقرآن الكريم. وبقليل من التأمل في الكتاب المقدس الموجود لدى أهل الكتاب ـ الساكنين في شبه الجزيرة العربية ـ يتضح لنا أن ما كان موجوداً بين أيديهم باسم الكتاب المقدس ليس باستطاعته أن يكون نفس التوراة والإنجيل. وقد أصبح هذا الأمر واضحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهو أن أكثر المسيحيين لا يعتبرون الكتاب المقدس إملاءً من قبل الله تعالى، وأقصى ما يقولونه: إن هناك طائفة من الأفراد «من ذوي الإلهام» هم الذين جاؤوا به تدريجياً، بلغات متعددة، على مدى 1500 سنة. وعلى سبيل المثال: يقول توماس ميشيل في هذا الصدد: «ثلة قليلة جداً من المسيحيين يعتقدون بأن الكتب المقدسة أنزلت بنفس هذه الألفاظ، وأن الله تعالى أملى رسالته على الكاتب البشري كلمة بكلمة، ودوّن الكاتب ما أملاه عليه الرب»([1]).
وبناءً على ذلك عندما يكون لأهل الكتاب مثل هذه النظرة حول الكتاب المقدس، حتى أنهم ينكرون أن يكون السيد المسيح قد أوحي إليه الإنجيل، بل يعتبرونه هو الوحي، يصبح من الواضح أنه لم يكن بمقدور المسلمين الاعتراف بالكتاب المقدَّس الموجود.
أضِفْ إلى ذلك أنه حتى لو تمّ التشكيك بنظرية تحريف الكتاب المقدَّس يجب أن لا ننسى أن الكتّاب والعلماء المسلمين لم يعلِّقوا الدقة والأمانة العلمية على دكة المزاد إطلاقاً، ولم يسمحوا لأنفسهم بإطلاق التسميات غير اللائقة والمخالفة للواقع على العظماء وقادة الأديان والمذاهب الأخرى. إن مسألة القدح في سماوية الكتاب المقدَّس، أو توجيه النقد من قبل المسلمين للتثليث، وأمثال ذلك، إنما حصلت بكل مصداقية وحسن نية، وبدافع النقد العلمي المنصف. كما يمكن لأي شخص غير مسلم أن ينتقد الإسلام، ويقيّمه، بشكل منصف؛ للوصول إلى الحقيقة. ولكن لا يمكن مقارنة هذا الأمر على الإطلاق مع قضية تحريف الإسلام، وإظهاره بشكل معكوس، أو إطلاق التسميات السيئة وغير الأخلاقية على النبي الأكرم|. ويمكن توجيه النقد لأي مذهب أو ديانة، وتقييمه، ولكنْ لا ينبغي أبداً تحريفه، أو إلصاق التهم والافتراءات السيئة به.
3ـ التحليل الذي قدَّمه في الفصل الثاني حول ظهور الفرق والمذاهب داخل الأديان، وقوله بأنها ناجمة عن عوامل غير معروفة، من قبيل: العوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والعرقية، أو الجغرافية، يثير التأمُّل هو الآخر؛ إذ كما أن أساس ظهور الأديان لا يمكن اعتباره ناجماً عن العوامل المذكورة بالضرورة، بناءً على التحليلات المتعلِّقة بعلم الاجتماع، لا يمكن أيضاً أن ننسب ظهور الفرق والمذاهب داخل الدين الواحد إلى العوامل تلك. ويتمثَّل السبب الرئيس لظهور الفرق والمذاهب في اعتقاد فريق من المؤمنين بفهم خاص للنصوص الدينية لذلك الدين، أو توضيح خاصّ لعقائده. هذا الاختلاف في مستوى الفهم يعدُّ أمراً معرفياً، وتقليل ذلك بالعوامل السابقة ينبع من الخلط بين الدافع والمحرِّك، وكذلك من الخلط بين العلة والسبب. فالمسيحي الأرثوذوكسي أو الكاثوليكي لا يرى أن مذهبه يتبع العوامل الاجتماعية، أو الاقتصادية، وأمثال ذلك، ولا يختار مذهبه على أساسها. ومن هنا من الممكن أن يكون لمجموعة من الأفراد مذاهب متعدِّدة في ظروف متشابهة، ولكن من الممكن أن تجعل العوامل السياسية والاجتماعية في اختيار المذهب من قبل الشخص أمراً سهلاً، أو غاية في الصعوبة، إلا أن تأثيرها ليس قطعياً ومباشراً.
4ـ قوله الآخر في الفصل الثاني، من أن القاعدة والملاك في انشطار أحد المذاهب عن الفكرة الأساسية تكمن في قلة أتباعه، يثير التأمل هو الآخر؛ لأنه لا يمكن القول ـ على سبيل المثال ـ: بما أن الشيعة أقلية فهم منفصلون عن الهيكل الأساسي، وبالتالي فهم فرع عن الأصل. هنا يجب أن ننظر إلى ملاك الانشطار والتشعب بأنه عقائدي ومعرفي هو الآخر. أجل، المجموعة التي تأتي بفهم جديد أو تفسير جديد لم يسبق أن كان مطروحاً من قبل، وينأى بنفسه عن الآخرين، يطلق عليها فرقة منشطرة أو متشعبة، ولكن في ما يتعلق بالخلاف القائم بين الشيعة والسنة فإن هذه القضية تعود إلى صدر الإسلام، وفي حياة شخص النبي الأكرم|. ومن هنا لا يمكن القول بأن التشيُّع يمثِّل حركة مذهبية إصلاحية داخل الدين الإسلامي، بل يمثل التشيع الإسلام الأصيل لدى أتباعه. وهذه القضية موجودة كذلك في المذاهب المسيحية أيضاً([2]).
5ـ إن التعبير الذي استخدمه وات بشأن الإيمان بالله الواحد الأحد بين المسلمين والمسيحيين، والقول بتشابه التجربة بين المسلمين والمسيحيين في الإيمان بالله الواحد الأحد، وحصر الخلاف فيما بينهم بالتصور فقط، قلّص الخلاف بين الدائرة المعرفية والسلوكية، إلا أن مسألة التجسيم أو تشبيه الله تعالى، التي أثيرت من قبل بعض المتكلمين المسلمين، ورفضت بكلّ شدة من قبل الأكثرية، لا يمكن مقارنتها بنظرية التثليث في المسيحية، وهي نظرية الأكثرية؛ لأنه يبدو أن مجموعة العلماء المسيحيين التي سعت لإعطاء تفسير خالٍ من الشرك عن التثليث، وقابلٍ للجمع مع التوحيد، إنما تحركوا على العكس من العقيدة الشائعة في المجتمع المسيحي. إلا أن إثباته لإيمان أتباع الديانتين الكبيرتين بالله الواحد عملياً، وكذلك جهوده الحثيثة في استئصال المعتقدات والسلوكيات التي تنم عن الشرك من المجتمع الديني، والذي كان محط أنظار وات وتأكيده في الكتاب، فإنه يستحق الثناء والتقدير.
6ـ إن ما أثاره في دراسة مسألة صفة المحبة والإحسان عند الله تعالى، وإعطائه بعداً عاماً لفهم المسيحية، عن الله تعالى، وصفته الرحمانية، وما يراه من أن هناك تأكيداً كثيراً جداً في المسيحية على دور الله تعالى في خلاص الضالّين، بحاجة هو الآخر إلى مزيد من التأمل؛ لأن لسان القرآن والروايات الواردة عن المعصومين تشير إلى غلبة الجانب الرحماني عند الله تعالى. وبشكل عام هناك شواهد كثيرة ومتعدِّدة في النصوص الإسلامية على رحمانية الله التي لا حصر لها مع عباده. ومن هذه الشواهد: تخصيص صفتي الرحمن والرحيم بالذكر بعد اسم الله تعالى في البسملة، التي تبدأ بها سور القرآن الكريم؛ الصيغ التعبيرية، من قبيل: «يا من سبقت رحمته غضبه»، «ورحمتي وسعت كل شيء»؛ وأن جزاء الحسنات عشرة أضعاف السيئات، في حين أن السيئة تجزى بمثلها فقط؛ وأن نية العمل الصالح يشملها الثواب، وإذا تم القيام بالعمل فثوابه عشر حسنات، ولكن نية العمل السيئ لا عقوبة عليها، ما لم يتم القيام بالعمل، وفي هذه الحالة أيضاً لا يتم تدوين السيئة إلا بعد عدة ساعات، فإذا لم تتم التوبة تسجل سيئة واحدة فقط؛ والآيات المتعلقة بالعفو، والصفح؛ وستر العيوب؛ وتأكيد القرآن الكريم في هذا الخصوص؛ وسيرة المعصومين^، الذين كانوا يقدمون العفو والصفح؛ والآيات والروايات في باب التوبة، وأن الله يقبل التوبة كثيراً، ويقبل التوبة عن عباده؛ وغير ذلك، هي بالأساس من صفات العفوّ الغفور. والرحيم والتواب يتحقق معناهما عندما يقع الذنب، ويشمله العفو الإلهي، ولكن في المرحلة الأخيرة سيناله العقاب والثواب على حدٍّ سواء، ومع ذلك يمكن القول: إن هذا الأمر يصبّ في مصلحة الفرد والمجتمع، ويتم ذلك أيضاً في ظل رحمانية الله تعالى([3]).
7ـ ما قاله وات في ما يتعلق بولادة عيسى من مريم العذراء÷، طبقاً لما أخبر به القرآن الكريم، وتعارض ذلك مع ما ذكر في النصوص الأخرى، وكذلك تعجب المسيحيين من ولادة البكر، يدعو إلى التأمل أيضاً؛ ذلك أن خبر القرآن الكريم سهل واضح. وطبقاً لما أخبر به فقد جاء خلق عيسى× بالقدرة الإلهية. ويتناول القرآن الكريم هذه القصة ببيان واضح من جهة، كما يؤشر بالبطلان على نوع من الظنون أيضاً، ويعود ويستند في النهاية على القدرة الإلهية الأزلية، التي إذا قضى الله تعالى أمراً فإنما يقول له كن فيكون (مريم: 35).
ويتحدث القرآن الكريم بصراحة عن الملك الذي «تمثّل» للسيدة مريم÷، وقال لها: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً﴾، فكان جواب مريم على هذا النحو: ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً﴾، فقال رسول الرب: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ (مريم: 19 ـ 21). ويرى بعض المفسِّرين أن رسول الوحي قال أمام عدم تصديق مريم÷ بالأمر: نعم، الأمر كذلك. ولكنك تتحدثين بلحاظ قابلية القابل، وأنا من فاعلية الفاعل. فاعلية الفاعل تامّة، وأنا رسول فاعلية فاعل. حقيقة الأمر أن المرأة إذا أرادت الأمومة لابد أن يمسّها الزوج، ولكني أنطق عن القدرة الإلهية، فهو قادر على أن يمنّ على المرأة بالأمومة بدون حصول التماس البشري أيضاً. إن الله سبحانه وتعالى هو القادر الذي يخلق الأشياء من العدم، دون أن يكون له وجود مسبق، وينعم على الشيء الموجود أيضاً بفيض غير متوقع([4]). وانعكست أحداث قصة عيسى× في النصوص الدينية العتيقة، منذ أقدم العصور، بقليلٍ من التصرف([5]). أجل، لابدّ أن نكون منصفين بالقول: إن الحديث عن كيفية ولادة عيسى× استناداً إلى ما يترشَّح من الكتاب المقدَّس، والنصوص الدينية لليهودية والمسيحية، تكتنفه بعض الصعوبات، ومنها: إنه يلاحظ فيها بعض التناقضات([6]). ولكن على أساس تعاليم القرآن الكريم، والنصوص الإسلامية الصحيحة، لا توجد أية مشكلة في قصة ولادة عيسى×، والمسألة واضحة استناداً إلى القدرة الإلهية([7]).
8ـ كما يلاحظ الإبهام وبعض الأخطاء في مواضع أخرى، ومنها: موضوع ربط حديث الـ «سبعة أحرف» بجمع القرآن، والاختلاف في ذلك؛ حقيقة وقت جمع القرآن أو توحيد المصاحف؛ حقيقة الشفاعة في الإسلام؛ عدم إدراك النبي الأكرم| لمعاني رسول الله في بداية الرسالة، الفرق بين مرتبة العبودية ومرتبة الخدمة والخلافة وأبناء وبنات الله تعالى؛ وغيرها. وعلى الرغم من كل ذلك أودُّ أن أؤكد في ختام المقالة وبتعبير آخر، على نقطتين أشرت إليهما في متن المقالة:
أولاً: بناءً على نظرية التكامل في الخلقة، التي أقرَّ بها وات، وسعى لمطابقتها مع أخبار النصوص المقدَّسة في بداية الخلق أيضاً، أما يجب الاعتراف بنوع من التكامل والتعقيد في خصوص الأديان وتعاليمها أيضاً، بحيث كلما ازداد من عمر الأديان أضيف شيء على تكاملها وشموليتها، وكذلك مطابقتها بشكل أكبر مع متطلبات الإنسان واحتياجاته، وأن آخر الأديان هو أكملها، والمتوقع أن تؤدي تعاليم آخر الأديان إلى تحقيق المزيد من التوفيق في إيصال الإنسان إلى مرحلة الوعي، ومنها إلى العالم الإلهي؟
ثانياً: نحن نرغب أيضاً أن نكرِّر مقولة توماس مرتون في خصوص المسيحي الجيد، وفي شأن المسلم الجيد، ونقول: المسلم الجيد ليس بالذي يرفض الأديان (الإلهية) الأخرى، بل هو الذي يصدِّق الحقيقة الموجودة فيها، ومن ثم ينطلق إلى أبعد منها.
الهوامش:
(*) عضو الهيئة العلمية في مؤسّسة الإمام الخميني التعليمية والبحثية، متخصص في مجال الدراسات الدينية المقارنة، وعضو الهيئة العلمية لجامعة الأديان والمذاهب.
([1]) كتاب «كلام مسيحي»: 26، ترجمة: حسين توفيقي.
([2]) للوقوف على ظهور الشيعة راجع كتاب: «تحليلي أز تاريخ تشيع وإمامان»: الفصل الأول والثاني، المؤلف.
([3]) انظر: وسائل الشيعة 1: 482، ح93؛ الكافي 1: 333، ح2، والمصدر السابق 2: 393، 433؛ الصدوق، التوحيد: 408، ح7 و….
([4]) انظر: جوادي آملي، التفسير الموضوعي للقرآن الكريم (سيرة الأنبياء في القرآن ) 7: 366 فما بعد.
([5]) انظر: محمد لاريجاني، قصص الأنبياء في التوراة والتلمود والإنجيل والقرآن وانعكاسها في الأدب الفارسي: 833 ـ 980.
([6]) انظر: عبد الوهاب النجار، قصص الأنبياء، إذ وضح هذا الموضوع بشكل جيد.
([7]) انظر: الميزان في تفسير القرآن، نهاية الآيات ذات العلاقة.