الصِّراع الذَّاتي
لم يتَّخذ التأسيس القبلي للنَّظر، لدى العقل، في علم الكلام، منظومة مشتركة ولا قاعدة موحَّدة. فقد كان هناك عدد من الاعتبارات جعلت من هذا العقل يتعدد بتعددها، بل ويتناقض بتناقضها؛ إذ كان العقل منقسماً غالباً إلى اتجاهين متضادين تولَّد عنهما الصراع أو النِّزاع، وهو الذي نطلق عليه "صراع العقل مع العقل"، تمييزاً له من صراع آخر قد جرى بين العقل والبيان.
وبالجملة يمكن القول: إن العقل قد واجه نوعين من الصراع ضمن "النظام المعياري"، أحدهما ذاتي، وذلك أنه لا يتعدى حقل الاعتبارات العقلية، والآخر عارض، وهو مع الدائرة البيانية "النقلية" التي أنكرت عليه ممارساته المعرفية في ظل الاعتبارات العارضة. وإذا كان الصراع الأول يدور حول تأسيس النظر والذي عليه تترتب حالات النزاع الأخرى الخاصة بقضايا الإنتاج المعرفي وفهم الخطاب "الديني"، فإن الصراع الثاني يدور حول هذا الفهم قبل أي اعتبار آخر، أي أنه صراع فهم لا تأسيس. وما يهمنا في هذا البحث هو الصراع الأول "الذاتي" فحسب.
إن عملية الصراع الذاتي للعقل المعياري قد تولَّدت بفعل النشاط العقلي المضاد، فالعقل أنتج ما هو ضد له، وذلك استناداً إلى اعتبارات التأسيس القبلي للنظر، إذ نعلم أن الأشاعرة قد خرجت من رحم المعتزلة ردَّ فعل عليها، وأن كلاًّ منهما يحمل مشروعاً للتأسيس القبلي، وأن الصراع بينهما بدأ منذ لحظات المخاض التي أسفرت عن فصل العقل الجديد عن القديم. وقد كانت إحدى محاورات الأشعري مع أستاذه أبي علي الجبائي حول المؤمن والكافر والصبي حاسمة في الفصل بينهما(1)، بل إنها بلورت روح التفكير لكلا العقلين، مثلما حدَّدت نوع التناقض الذي أصاب العقل المعياري بمجمله. ذلك أن الأشعري بدأ حياته العلمية بتبنِّي الفكر الاعتزالي، وقد استمر على هذا النحو سنين طويلة، حتى جاء اليوم الذي نفض فيه يده من ذلك الفكر ليؤسس قباله فكراً آخر ضدّه، رغم أنه وقف على الخشبة نفسها التي يقف عليها الأول، وأعني بذلك أنه جعل اعتباراته الأساسية قائمة على العقل. فالاعتبارات العقلية بين الطرفين مختلفة، إذ كانت مع المعتزلة وعدد من المذاهب الأخرى تمثل ما نطلق عليه "منطق الحق الذاتي"، حيث للحق اعتباراته الخاصة غير المقيَّدة بالقيود الخارجية، لكنها تحولت مع الأشعري إلى اعتبارات ما نطلق عليه "منطق حق الملكية"، وهو أن الحق مقيد بسلطة المالك المطلق. وبالتالي فالخلاف بينهما هو خلاف الاعتبارات ضمن الدائرة العقلية نفسها.
ومع أن الأشعري حمل بعض الاعتقادات التي كانت متبنَّاة من قبل السلف، ومن أبرزها مسألة قدم كلام الله وصفات اليدين والعينين والوجه وما إليها، وكذلك الصِّفات الإلهية السبع التي قال بها أبو حنيفة، بل وحتى نظرية الكسب التي يعتقد بعضهم بأنَّها ترجع في الأساس إلى هذا الإمام الفقيه(2).. لكن جميع هذه الاعتقادات جاءت _ مع الأشعري _ ضمن سياق خاص من التنظير القائم على الاعتبارات العقلية. وهي الاعتبارات نفسها التي جعلت حدوداً للممارسة العقلية في العديد من القضايا، وعلى رأسها تلك التي تتعلَّق بالحسن والقبح وما يترتب عليها من مسائل فرعية، وذلك بخلاف ما كان لدى المعتزلة من تنظير أفضى إلى نفي مثل هذه الحدود والقيود. ففي السؤال عما يرد في الخطاب الديني من مدح وذم وثواب وعقاب، هل كان لحسن الأفعال وقبحها، سواء في ذاتها أم في صفاتها أم في اعتباراتها أو العكس هو الصحيح، بمعنى أن اعتبارات الحسن والقبح جاءت لمدح الخطاب وذمه، فكل شيء مدحه الخطاب هو حسن، وكل شيء ذمه هو قبيح؟
وواضح أن هذا الاختلاف في الاعتبارات العقلية يجعل من علاقة المنطقين _ آنفي الذكر _ بالخطاب علاقة مختلفة. فلو أخذنا باعتبارات حق الملكية لكان تحديد هذه المسألة لا يخضع إلى تقدير العقل من حسن الأشياء وقبحها، بل المرجع في ذلك هو الخطاب الديني باعتباره الناطق الوحيد باسم المالك الحقيقي. ما يعني أنه لا مجال للتشريع العقلي في قضايا الحقوق والواجبات، وذلك على العكس مما هي عليه اعتبارات الحق الذاتي التي تجعل دائرة هذا التشريع مفتوحة بلا حدود.
ولدى الغزالي تمييز واضح للنتائج المتضادّة المترتبة على المنطقين السابقين، فمن ذلك ما صرح به: "قول المعتزلة: إنَّ الإنسان خالق لأفعاله؛ لأن الله لو خلقها ثم نسبها إليه، ولأنه لو فعلها مع أنه لم يفعلها، وعذَّبه عليها مع أنه لم يوجدها، لكان ظالماً له، والظلم نقصان، وكيف يصح أن يفعل شيئاً ثم يلوم غيره عليه، ويقول له: كيف فعلته؟ ولِمَ فعلته؟ وأهل السنة يقولون: وجدنا كمال الإله في التفرد ونفي العيب والنقصان، وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم، بدليل تعذيب البهائم والمجانين والأطفال، لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، والقول بالتحسين والتقبيح باطل، فرأوا أن يكون هو الخالق لأفعال العباد، ورأوا تعذيبهم على ما لا يخلقون جائزاً من أفعاله غير قبيح" . كذلك: "إيجاب المعتزلة على الله أن يثيب الطائعين كي لا يظلمهم، والظلم نقصان. وقول الأشعري ليس ذلك بظلم؛ إذ لا يجب عليه حق لغيره، إذ لو وجب عليه حق غيره لكان في قيده، والتقييد بالأغيار نقصان". كذلك: "قول المعتزلة: إنّ الله تعالى يريد الطاعات وإن لم تقع، لأن إرادتها كمال، ويكره المعاصي وإن وقعت، لأن إرادتها نقصان. وقول الأشعري لو أراد ما لا يقع لكان ذلك نقصاً في إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به، ولو كره المعاصي مع وقوعها لكان ذلك كلالاً في كراهته، وكذلك نقصان". كذلك: "إيجاب المعتزلي على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده لما في تركه من النقصان. وقول الأشعري لا يلزمه ذلك لأن الإلزام نقصان، وكمال الإله أن لا يكون في قيد المتألهين"(3).
ويفهم من التناقضات العقلية السابقة التي أدلى بها الغزالي أن بعضها يذهب إلى أن اعتبارات الكمال متجلِّية في مسألة القيم الخلقية تبعاً لمنطق الحق الذاتي، في حين أن بعضها الآخر يذهب إلى أن هذه الاعتبارات تتمثل بالتفرد والملكية المطلقة، ومن ثم بالمشيئة _ الإرادة التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود، حتى وإن كانت على عدم توافق مع قيم الأخلاق كما يراها البشر، وذلك طبقاً لمنطق حق الملكية. فالنقص بحسب الاعتبارات الأولى يتمثل بدواعي القيم الأخلاقية، في حين أن النقص، حسب الاعتبارات الثانية؛ يتمثل بالقيود التي تكبِّل إرادة المالك الحقيقي وتحدد من فرادته وفعله المطلق.
إذن هناك صراع في التأسيس القبلي للنظر ضمن الدائرة العقلية، أو بين البداهتين الأوليَيْن للحق الذاتي وحق الملكية. والسؤال هو: كيف يمكن التأكد من مصداقية أي من هاتين البداهتين المتضادتين؟
لنعد إلى العقل، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى، ومنها الاعتبارات الدينية، ونتساءل: هل هناك ما يمكن أن نتوصل إليه من صدق أحد هذين التصورين؟ أو هل بمقدور العقل أن يشخص طبيعة الحق فيدرك ما إذا كان يتوقف على قيد خارجي، كشرط الملكية، أو أن له اعتباراته الذاتية الصرفة من غير قيد وشرط؟ وبعبارة أخرى: هل الحق هو الذي يحدد سلطة الملكية، أو الملكية هي التي تحدد سلطة الحق؟ فمَن يحكم مَن؛ سلطة الحق في ذاته أو الملكية؟
دعنا نفترض أن العلاقة بين السيد المالك المطلق والعبد المملوك هي علاقة تقبل الحكم من طرف آخر هو العقل. فطالما أن أصحاب البداهتين ارتكنوا إلى العقل في تحديد كل منهما للبداهة كما رأوها، فإن هذا يعني أن العقل مدرك لطبيعة ما هو عليه الحق، وأن العلاقة بين المالك والمملوك هي علاقة محكومة بهذا الكاشف، سواء قُدّر الأمر على نحو اعتبارات الملكية، أم باعتبار الحق في ذاته.
والسؤال هو: كيف يتاح لنا التأكد عقلاً من صدق إحدى المقولتين وكذب الأخرى؟
بادئ ذي بدء، لا بد من التذكير بأننا أمام مسألة قيمية أو معيارية ولسنا أمام حقيقة موضوعية أو خارجية. ففي الموضوعات الخارجية قد يمكن كشف الحقيقة عبر التجربة والبحث الموضوعي. فمثلاً إن القضية التي تقول: إن المطر سيهطل غداً هي قضية قابلة للفحص والاختبار، فعلى الأقل يمكن الانتظار إلى يوم غد لنتأكد ما إذا كان المطر سيهطل أم لا. وعلى هذه الشاكلة لو ادعى شخص بأن هناك حياة في كوكب ما من منظومتنا الشمسية؛ فإن هذا الادعاء قابل للتحقيق والفحص الخارجي ليعرف من خلال البحث إن كان صادقاً أو كاذباً. أما في القضايا القيمية فإنا لا نواجه حقائق موضوعية خارجية، فليس هناك شيء يمكن أن نطلق عليه (حق، أو حسن، أو عدل.. الخ) ليمكن فحصه والكشف عن مضامينه إن كان محكوماً بقضايا أخرى مثل الملكية أو عارياً عنها. وبعبارة أخرى: لا يوجد في الواقع الموضوعي ما يمكن أن نطلق عليه "قيم" لنستكشفها عبر الحواس والآثار الخارجية. فعالم القيم هو غير عالم الواقع والوجود، رغم الصلة الوثيقة والتلازم بين العالمين، حيث لا يمكن التحدث عن القيم بمعزل عن وجود الأشياء، والعكس ليس صحيحاً، إذ يمكن التحدث عن الأخيرة بمعزل عن الأولى.
يضاف إلى ذلك أنه عندما نتحدث عن القيم فإننا لا نتحدث عنها بعلاقتها بالمادة الخارجية الجامدة، ولا بعلاقتها بالحياة النباتية والحيوانية، بل ولا حتى بعلاقتها بالحياة العاقلة؛ ما لم تمتلك القدرة والإرادة والاختيار. فالقيم إنما يصح وجودها واعتبارها لارتباطها بهذا الشرط الأخير من دون غيره، وهو شرط يتضمن وجود الحياة العاقلة. فمثلاً لا يمكن الحديث عن القيم عندما يتعلَّق الأمر بموضوع خارجي كالنار. فلا يقال للنار إن فعلها حسن أو قبيح، أو إنها تمتلك حقاً في هذا الفعل أو تفتقر إليه. وكذا لا يقال للحيوان مثل هذه النعوت، بل ولا يقال للعاقل المدرك فاقد القدرة والإرادة إن فعله حسن أو قبيح. وإنّما يقال ذلك لمن يمتلك القدرة والإرادة بما تتضمنان من الإدراك العقلي، حيث يُنعت فعله بالحسن والقبيح، أو الحق والباطل.
فالقيم قائمة _ إذن _ على شرط وجود الإرادة المدركة، وبالتالي لو كانت أفعالنا جبرية لما صدقت عليها أحكام هذه القيم. كذلك لو لم تكن لله القدرة في أن يفعل غير ما فعله في خلقه _ رغم سعة علمه وعظمته _ لما صدقت عليه
هو الآخر تلك الأحكام، بل لكان فعله كفعل النار، حيث ليس في وسعها غير الحرق.
لكن مع هذا تظل مشكلتنا معلقة بطبيعة الأحكام الصادرة في حق مثل هذه القيم. فهل هي أحكام عقلية كتلك التي لها علاقة بالموضوعات المنطقية والخارجية؟ إذ نعلم أن المعرفة العقلية لها أقسام بعضها ذهني وبعضها واقعي كالآتي(4):
المعرفة الذهنية، مثل قضية مبدأ عدم التناقض والواحد المضاف إلى مثله يساوي اثنين. وهذه المعرفة لا علاقة لها بالواقع عندما تعبِّر مقدماتها عن قضايا مفترضة.
المعرفة الإخبارية الضرورية، مثل مبدأ السببية العامة القائل: إنه لا حادثة من غير سبب ما يوجدها، وإن الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في غير مكان في الوقت نفسه، وكذا لا يمكن أن يكون شيئان في المكان الواحد نفسه في الوقت نفسه. وهذه المبادئ تتصف بالضرورة العقلية، بمعنى أن العقل يدرك حتمية ما تتضمنه هذه القضايا، والضرورة فيها ليست منطقية كالذي عليه الحالة السابقة، بل هي من نوع آخر، إذ أن عدم التسليم بها لا يفضي إلى مشكلة منطقية كالتناقض، وكل ما في الأمر أن عقلنا يستبعد تماماً أن يجد شاهداً يكذِّبها، ومن يشك في ذلك فعليه التحقيق، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا الشك والتحقيق(5). فالفارق بين المجموعتين من القضايا هو أن المعرفة في القضايا الإخبارية تتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيها هي لابدية تحدّية، في حين أن الضرورة في المجموعة الأولى هي ضرورة منطقية، وأن اللابدية فيها لا تقبل التحدي.
المعرفة الإخبارية الوجدانية، مثل الاعتقاد بالواقع الإجمالي للعالم، حيث ليست هذه المعرفة ضرورية، كما لا يمكن الاستدلال عليها، وبالتالي فهي من المعارف الوجدانية الصرفة(6).
المعرفة الاحتمالية، وهي حالة خاصة تتصف بأن إخبارها عن الواقع الموضوعي لا يطابق غالباً ما هو عليه الواقع، وذلك بخلاف المعرفة الإخبارية الضرورية التي شرطها مطابقة الواقع بالضرورة. فمثلاً إن قيمة احتمال ظهور وجه الصورة لرمية واحدة لنقد متماثل الوجهين تساوي (1/2)، وهذه تمثل قضية ضرورية لا شك فيها. وعليها يمكن استنتاج قضية أخرى جزئية بطريقة قياسية بالشكل الآتي:
إن قيمة احتمال ظهور وجه الصورة لكل نقد منتظم تساوي (1/2) بالضرورة، وحيث أن هذه قطعة نقد منتظمة، لذا فقيمة احتمال ظهور الصورة فيها تساوي (1/2) بالضرورة أيضاً، طالما كنا متأكدين من انتظام القطعة. وبالتالي فقد استنتجنا الجانب العقلي للقضية الجزئية. ولكن حين نرمي هذه القطعة النقدية عدداً من المرات، ولنفترض عشر مرات، فسوف نلاحظ أن نتائج ظهور وجه الصورة لا يؤدي بالضرورة إلى القيمة الاحتمالية النصفية، فقد تكون أكثر أو أقل من ذلك، بل الغالب إنها لا تكون نصفاً، لأسباب ذكرناها في دراسة مستقلة. ورغم أن هذه هي حال القضية الواقعية في الحسابات الاحتمالية، إلا أنَّ ذلك لا يغير شيئاً من ضرورة الحكم العقلي السابق. فالقضية المنطقية في المبادئ الاحتمالية ضرورية، وذلك على خلاف القضية الواقعية المستندة إليها. والسبب في هذا الاختلاف يرجع إلى طبيعة القضايا الاحتمالية نفسها، حيث تقتضي أن تكون القضايا الواقعية فيها غير محتمة، كما تقتضي أن تكون قضاياها المنطقية ذات صبغة ضرورية.
أما بخصوص المعرفة القيمية، كالحسن والقبح، فهي لدى الفلاسفة القدماء من المشهورات، ولدى أصحاب منطق الحق الذاتي من العلوم الضرورية التي تتوقف عليها متفرعاتها من الأحكام(7). لكن بعض الباحثين خلط بين هذين الاتجاهين، إذ نقل لنا مفهوم أصحاب منطق الحق الذاتي (العدلية)، ودافع عنه دفاعاً تاماً، لكنه رآه بعين الفلاسفة، واستشهد عليه ببعض عباراتهم، كالذي نقله عن ابن سينا في "الإشارات والتنبيهات" وما وافقه عليه شارحه نصير الدين الطوسي. لذا اتصفت عباراته أحياناً بالتهافت وعدم الاتساق. فالشيخ المظفر عرّف المشهورات بأنها قضايا لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الاعتراف بها، كحسن العدل وقبح الظلم، حيث لا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها، فلو خلِّي الإنسان وعقله المجرد فإنه لا يحصل له حكم بها، ولا يقضي عقله فيها بشيء كما يقول ابن سينا. وليس الأمر كذلك مع قضايا الضرورات الأولية كالحكم بأنَّ الكل أعظم من الجزء، إذ لو خلي الإنسان وعقله فانه لا يتردد في الحكم بها، إذ يكفي تصور طرفي هذه القضية للحكم بها. وعليه فإنَّ المعتبر في مثل هذه القضايا الأولية للعقل النظري هو أنها مطابقة لما عليه الواقع. أما المعتبر في المشهورات فهو أنها مقبولة لتوافق الآراء عليها، حيث لا واقع لها غير ذلك، وإن تطابق الآراء عليها هو لأجل قضاء المصلحة العامة، حيث بها يكون حفظ النظام وبقاء النوع، كقضية حسن العدل وقبح الظلم. فمعنى حسن العدل هو أن فاعله ممدوح لدى العقلاء، ومعنى قبح الظلم هو أن فاعله مذموم لديهم. فهذا هو المفهوم الوجودي للفلاسفة عن العقل العملي للحسن والقبح، وهو المفهوم نفسه الذي رأى المظفر أنَّ العدلية _ أصحاب منطق الحق الذاتي _ قائلون به، حيث يدل عندهم على كون تلك القضية من المشهورات لا الضرورات، واستشهد عليه بقول لابن سينا وبما وافقه عليه تابعه نصير الدين الطوسي(8). لكنه رغم ذلك ذهب في بعض عباراته مذهب القائلين بالحق الذاتي، ومن ذلك اعتباره قضايا الحسن والقبح من القضايا الذاتية، وان ما كان ذاتياً لا يقع فيه اختلاف، فالعدل بما هو عدل لا يكون قبيحاً أبداً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسناً أبداً،
أي
ما دام عنوان العدل صادقاً فهو ممدوح، وما دام عنوان الظلم صادقاً فهو مذموم(9).
ورغم أن المعنى الفلسفي السابق يثير مشكلة، وهي أنه إذا كانت قضية الحسن والقبح من المشهورات، فكيف تُرجح على ما يقدمه نص الخطاب، إلى الدرجة التي يتوقف عليها هذا الخطاب في التأسيس، سواء من الخارج أم من الداخل، وذلك تبعاً لمنطق الحق الذاتي الذي ذهب إليه الشيخ المظفر؟ ذلك أن القول بأنها من المشهورات يدعم فكرة منطق حق الملكية، بأنه لا أساس لها سوى ما ألفناه من الاعتبارات الإنسانية، من دون أن يكون لها بعد عقلي مجرد. إذ لو أن الله أدخل المؤمن الصالح في النار، وجعل الكافر الشرير في الجنة، فإننا سنعدّ ذلك أمراً قبيحاً لكونه من المشهورات عند الناس، أو لأنه مما توافقت عليه آراء العقلاء، من دون أن يكون له حكم عقلي مجرد يخصه. ولا شك في أنّ هذا الاعتبار لا قيمة له أمام الاعتبارات التي تخص الله تعالى، ومن ذلك ما قد يقال من اعتبارات المشيئة وحق التصرف المطلق بملكه. إذ ما الذي يجعلنا نعتقد بأنَّ ما يوليه الله من اعتبارات هي الاعتبارات نفسها التي نسلم بها نحن البشر بالتوافق والشهرة؟ فلو قيل: إن الله هو من العقلاء "بل رئيسهم، بل خالق العقل، فلا بد من أن يحكم بحكمهم بما هم عقلاء"(10)؛ لقلنا كيف عرفنا أنه يحكم بحكمهم، خصوصاً ونحن من عالم وهو من عالم آخر مختلف؟ إذ لو قيل: "إنَّنا عرفنا هذا بما دلنا عليه الخطاب الديني، حيث عرفنا أن حكم الله هو مثل حكمنا في هذه القضايا، لكان هذا القول غير صحيح، وذلك لتوقف إثبات الخطاب على صحة تلك القضايا. أما لو قيل: إننا عرفنا ذلك بالعقل، فإن كان المقصود هو الإدراك بحسب الشهرة والتوافق على الآراء بين العقلاء، فإن ذلك لا يقدم شيئاً، إذ قد يكون المشهور باطلاً، كما قد تكون اعتبارات المشهور لدينا هي غير اعتبارات من هو أعلى منا عقلاً وعلماً. وهنا تنقلب القضية إلى المفهوم الذي يخص منطق حق الملكية، وبالتالي يصبح من المحال أن تثبت المسألة الدينية وفق منطق الحق الذاتي، كما لا يمكن الحكم على الأفعال الإلهية بالحقوق والواجبات، وكذا الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، مادامت أنها لا تخرج عن حد الشهرة واتفاق العقلاء.
ومن حيث التحليل، عندما نقول: إنَّ المسألة عقلية، فهذا يعني أن الوجدان العقلي يشهد بصدقها؛ سواء شهد بذلك على نحو الضرورة، أم على نحو التأكيد فحسب. وهنا نجد أن القضايا القيمية هي أيضاً مما يشهد عليها الوجدان العقلي بالصحة والصدق، رغم أنها ليست بصدد الإخبار عن أشياء الواقع الموضوعي أو التطابق معها، ولا علاقة لها بالقضايا المنطقية المجردة، بل لها ما يجعلها حالة أخرى تختلف فيها عن جميع الحالات التي مرت بنا، وهو أنها تتضمن الكيفية القيمية. وليس في الأمر غرابة، فقد عرفنا كيف أن بعض الحالات المعرفية تمتاز قضاياها بالضرورة العقلية، رغم أنها لا تتطابق في الغالب مع مصاديقها الواقعية، كما هي الحال مع القضايا الاحتمالية، وكأنها بذلك تتضمن التناقض وعدم الاتساق، لكن حالها ليست كما يبدو، إذ أن طبيعتها، لاعتبارات منطقية ورياضية، تفرض عليها أن تكون غير متطابقة _ غالباً _ مع ما هو عليه الواقع. كذلك هناك من القضايا ما تكون محلاً للاعتقاد الراسخ بحسب العقل والوجدان؛ رغم أنها ليست من القضايا الضرورية، ولا من القضايا التي يمكن الاستدلال عليها، مثل قضية الإيمان بوجود الواقع الموضوعي العام. وبالتالي فإن الإدراك العقلي والأحكام التي تصدر عنه لا يمكن إرجاعها إلى وتيرة واحدة، إذ هناك صور وكيفيات مختلفة قد تعطي انطباعاً بالتعددية التي يمتاز بها العقل في إدراكه للأشياء تبعاً لما هو عليه شروطها الخاصة. ومن بين هذه الصور والكيفيات تلك المتعلقة بإدراك قضايا العقل العملي. فمثلاً لا يتردد العقل في أن يستقبح قتل بعضهم لوالديه، أو لمن أحسن إليه، أو لنظرائه من غير سبب موجه. لكن من الواضح ان مثل هذه الأمثلة تتضمن افتراض ان يكون بين الأفراد نوعاً من التماثل والاستقلالية. فالعلاقة بينهم ليست قائمة تبعاً لسلطة الملكية الحقيقية، إذ لا يمتلك بعضهم بعضهم الآخر، وبالتالي فان هذه الصورة يمكن ان يتفق عليها كلا المنطقين المتنازعين (الحق الذاتي وحق الملكية). وهي مؤشر على صلاحية العقل العملي في الحكم على الأشياء وفقاً للشروط المطلوبة. إلا أن المشكلة تكمن في الشرط الميتافيزيقي المتمثل بافتراض وجود علاقة من الملكية المطلقة، وليس في حالة التماثل السابقة. وبحسب هذا الافتراض فان هناك كائناً يتمتع بامتلاك غيره امتلاكاً مطلقاً، والسؤال هو: هل يحق له تعذيبه والعبث به من غير سبب موجه؟
لا شك في أنه ليس أمامنا في هذه الحالة إلاّ أن نفترض وجود طرف ثالث مجرد و"محايد" يتصف بقدرته على الإدراك والحكم، وأعني بذلك العقل أو الوجدان. فلو رجعنا إلى الوجدان العقلي، وبغض النظر عن كل الاعتبارات الخارجية كالدينية وما شاكلها، نجد أنه لا يشك في إدراك حالة القبح أو النقص القيمي لمثل ذلك الفعل، رغم اتصاف الفاعل بالملكية المطلقة. الأمر الذي يسوِّغ الواجبات العقلية، سواء كانت تخص المكلِّف أم المكلَّف.
وتبعاً للأمر المنطقي لابد لكل معرفة من قيود وشروط، ومن هذه القيود ما يتعلق بطبيعة القضايا نفسها. فمثلاً ان القضية التي تقول بان الواحد المضاف إلى واحد مثله يساوي اثنين، هي قضية تتحدث عن الواحد البسيط أو المجرد، وبالتالي لا يمكن نقضها بقضية أخرى لا تحمل هذه البساطة أو التجريد، كأن يقال: إنَّنا لو جمعنا حجم غاز بآخر مثله فإنه يمكن أن نحصل على حجم واحد منهما، أي ان الواحد المضاف إلى مثله يساوي واحداً لا اثنين.
كذلك فإنَّه في قضية السببية العامة يشترط أن تكون هناك حادثة ما، كأن تعبر عن تغير أو عن وجود بعد عدم، وهذا يعني أن هذا الشرط لا ينطبق في بسط هذه القضية على مبدأ الوجود الأول، ليقال: إنه لا بد له من سبب غيره، وذلك باعتباره ليس حادثة، حيث أنه موجود في الأصل من دون أن يسبقه عدم، كما أنه لا يتغير كي يقال: إن هذا التغير لابد له من سبب. وأيضاً ان من قيود هذه القضية هو أنها لا تتحدث عن معرفة نوع السببية وتعيين السبب، وبالتالي فإنها وإن كانت حالة عامة، يمكنها ان تنطبق على كل مظاهر الكون وحوادثه، وأنها كذلك شرط في المعرفة البشرية من دونها لا يمكن الوثوق بأي علم من مظاهر الكون والطبيعة، إلا أنها ليست كافية لتفسير هذه المظاهر والحوادث، وذلك باعتبارها لا تعمل على تشخيص طبيعة الأسباب التي تكمن وراء ما يحدث. فهذا هو قيدها كما يدركها العقل النظري القبلي.
وأيضاً إنه في قضية الإيمان بواقعية العالم من غير دليل، فإن قيدها هو أنها تصدق في حدود العالم المجمل للواقع الموضوعي، ولا دخل لها في تفاصيل هذا العالم. ذلك أن أي شيء جزئي في العالم يمكن إدراكه إن كان من الواقع أو من الافرازات الذهنية، وذلك عبر الدليل الاستقرائي والقرائن الاحتمالية. أما قضية الحياة بعمومها وكليتها فانه لا دليل على واقعيتها رغم إيماننا بها إيماناً جازماً، وإنه مهما شككنا فيها فإنه من الناحية الغريزية أو الفطرية نتعامل معها تعاملاً موضوعياً، أي بافتراض أنها ذات واقع موضوعي خارج حدود الذهن وإفرازاته الذاتية. فهذا هو قيد المعرفة الوجدانية بوجود الواقع الموضوعي.
كما يلاحظ، في القضية العقلية الخاصة بالاحتمالات أنها مقيدة بتماثل الحالات الممكنة، ولولا هذا التماثل لانتفت الضرورة من المعرفة، ولأصبحت المعرفة “تقديرية”. وبصفة عامة إن أغلب حالات الواقع يشهد عدم تحقق هذا الشرط، ما يعني أنه لا يخضع إلى الحكم العقلي، في حين هناك قضايا بسيطة يمكن أن ينطبق عليها الحكم العقلي، كالسحب العشوائي لبعض الكرات المختلفة الألوان مع علمنا بعددها وألوانها وتساوي أوزانها وإحجامها وأشكالها، حيث يكون الحكم فيها حكماً عقلياً غير قابل للنقض والتبديل(11).
على أن معنى الضرورة في هذه القضايا المختلفة هو أن تكون غير قابلة للخرق والتجاوز، فهي بالتالي صحيحة صحة مطلقة وشاملة وإن باعتبارات مختلفة. والحكم فيها يستند إلى ما يتفق عليه جميع الناس، إذ لو اعتمدنا على ما يقوله الآخرون لما وجدنا قضية يمكن الاتفاق عليها، بما في ذلك مبدأ عدم التناقض، فضلاً عن مبدأ السببية العامة وغيرها. وعليه كان لا بد من النظر إلى القضية نفسها بحسب التجريد العقلي، أي العمل على رؤيتها مباشرة من الداخل قبل محاكمتها باعتبارات مختلفة تبعاً لما هي عليه طبيعة هذه القضايا وقيودها. فقد يرى العقل فيها الضرورة، ولهذه الأخيرة أشكال مختلفة كما قدمنا، وذلك بخلاف ما هو معروف لدى المفكرين من وجود نمط واحد منها هو الضرورة المنطقية، وأحياناً يشار بشكل مجمل إلى الضرورة العقلية ليضم فيها عدد من الضرورات، كتلك التي تخص مبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية العامة.
فتارة تكون الضرورة منطقية كما في عدم التناقض، وثانية تكون تحدّية كما في السببية، وثالثة احتمالية كما هي الحال في الاحتمالات العقلية. ونضيف إلى ذلك ما نطلق عليه "الضرورة القيمية" التي نحن في صدد بحثها وتحليلها. فهذه الضرورات بعضها يختلف عن بعضها الآخر، والصفة المشتركة بينها هي أنه لا يوجد مسوغ لتغييرها وإبدالها، ويفترض أن لها طبيعة شمولية وكلية مطلقة، بما في ذلك النوع الأخير من الضرورات، وهو الخاص بالعقل العملي تمييزاً له من الأنواع الأخرى المنضمة إلى العقل النظري.
والاختلاف بين هذه الضرورات هو أن الأولى (المنطقية) لها علاقة بالقضايا النظرية التجريدية، وأن الثانية "التحدّية" لها علاقة بالواقع الموضوعي مباشرة، وذلك باعتبارها إخبارية وكاشفة عن الواقع بالقيد الذي ذكرناه، وأن الثالثة (الاحتمالية) هي، وإن تحدثت عن الواقع، إلاَّ أن ميزتها كونها لا تطابق الواقع بالضرورة، أو أنها في أغلب الأحيان لا تطابقه. أما الضرورة القيمية فهي لا تتحدث عن أشياء الواقع الوجودي والتكويني، وبالتالي لا يمكن محاكمتها كما يحاول البعض محاكمة الضرورة التحدّية، بل المهم هو مشاهدتها بالرؤية المباشرة تبعاً لما يفضي إليه الوجدان العقلي ليعرف أنها شاملة وكلية مطلقة، لكن بحدود القيود التي هي عليها، مثلما رأينا مع غيرها من ضرورات العقل النظري
وقد كان الاعتراض العقلي الذي قدمه أصحاب منطق حق الملكية على قضايا الحسن والقبح، هو أنها لو كانت عقلية لما وقع التفاوت بينها وبين حكم العقل بالضرورات الأولية كقضية عدم التناقض وأن الكل أعظم من جزئه، حيث العلوم الضرورية لا تتفاوت في ما بينها في الحكم. وهذا غير صحيح، بل هناك تفاوت في هذه العلوم، كما أن فيها قيوداً يختلف بعضها عن بعضها الآخر، ويظل المشترك بينها هو القول بالضرورة بمعناها العام عندما يدركها العقل مجرداً، أو عند تصور طرفيها. ذلك أن العقل يحكم بضرورة صدق قضية الحسن والقبح، مثلما يحكم بهذه الضرورة للقضايا المنطقية والعقلية والاحتمالية، مع أخذ كل منها بحسب مجاله وقيوده واعتباراته. ومن الأمثلة على قضايا هذه الضرورة نذكر ما يأتي:
– العقاب من غير بيان في التكليف قبيح.
– التكليف بما لا يطاق، إن لم يكن عقوبة، قبيح.
– الاعتداء على الآخرين من غير ذنب، ولا اضطرار، قبيح.
– شكر المنعم الخيّر حسن.
– الاعتراف بجميل المحسن حسن.
– التعاون مع الأخيار في العمل الصالح حسن.
– مساعدة المحتاجين الأخيار حسن.
– ترجيح الأهم على المهم حسن.
– دفع الضرر عن غير المستحقين حسن ما لم يفضِ إلى ضرر أكبر.
– ردُّ المظالم إلى أهلها المستحقين حسن ما لم يؤدِّ إلى ضرر اكبر.
– الانتصاف من الظالم إلى المظلوم حسن ما لم يؤدِّ إلى ضرر اكبر.
– الصدق حسن ما لم يضطر إلى الكذب.
تجلِّيات الصراع العقلي
إن التضاد الحاصل بين البداهتين، كالذي سبق عرضه، كان له تأثيره وانعكاساته على عدد من الأصعدة: عالم الوجود والواقع، وعالم الفقه والتشريع، وأخيراً عالم فهم النَّص. وهذا ما سنتعرف إليه حسب الفقرات الثلاث الآتية:
أولاً:
إن أهم مسائل الخلاف العقلي، بين منطقي الحق الذاتي وحق الملكية في مجال الوجود والواقع، هي مسألة السببية وعلاقاتها في الطبيعة. فإذا كان منطق حق الملكية يميل إلى تفسير السببية طبقاً للعادة وذلك تبعاً لمقولة "لا فاعل في الوجود إلا الله"، الآمر الذي يتسق مع البداهة الأولية لهذا المنطق، فان الأمر مع منطق الحق الذاتي مختلف، ذلك أن طائفة من هذا الاتجاه اعتمدت في تفسيرها للسببية على منطق له علاقة بمفهوم "التوليد" كالذي فصَّل الحديث عنه القاضي الهمداني في كتابه "المحيط بالتكليف". فمفهوم السبب عند الهمداني يتضمن معنى الواسطة مشبهاً إياها بالآلة أو الأداة، فتارة يعبر عن الواسطة بأنها السبب نفسه، وأخرى يعد السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله(12). وعلى هذا المعنى يمكن أن يكون هناك سبب من غير مسبب، إذ قد يقع عارض يمنع وجود المسبب رغم وجود السبب، كما يمكن أن يكون هناك مسبب من غير سبب، حيث يحدث المسبب ابتداءً بفعل الفاعل المختار، وكذا قد يكون المسبب حادثاً بفعل السبب والذي يطلق عليه التوليد. وكما يقول الهمداني في هذا الصدد: “قد ذكرنا أن في أفعالنا ما لا يصح منا أن نفعله إلا بسبب، وفي أفعالنا ما يصح أن نفعله ابتداءً وبسبب، وفيها ما لا يصح أن نفعله إلاَّ مبتدأ من دون أن يقع بسبب، فالضرب الأول هو الصوت والألم والتأليف، والضرب الثاني هو الاعتماد والكون والعلم، والضرب الثالث هو الإرادة والكراهة والظن والنظر، وما كان من باب الاعتقاد الذي ليس بعلم”(13).
وما يقصده الهمداني من "الاعتماد" هو أن يحصل المتولد في غير محل القدرة، كالذي يحدث في الحركات والظواهر النائية المنفصلة عنا وعن أي فاعل مختار، مثلما يحصل من إحراق النار التي تولد التفريق، وما يكون في الماء من الثقل ما يوجب الّنزول، ويسمى ذلك عند بعضهم طبعاً، ويطلق عليه لدى طائفة من المعتزلة "الاعتماد"، حيث إنه معلق على القادر، إذ يصح أن يمنعه من التوليد والإيجاب(14).
وفي جميع الأحوال، لا ينفي الهمداني ما يصطلح عليه الفلاسفة بمبدأ السببية العامة، حيث أنه يردّ كلاً من السبب والمسبب، سواء كانا مقترنين أم منفردين، إلى الفاعل المختار، وهو المتمثل بالمكلِّف والمكلَّف، ومن ذلك قوله: “إذا كان المبتدأ احتاج إلى فاعل لحدوثه، فالمتولد إذا كان حادثاً يجب أن يجري مجراه في الحاجة إلى المحدث، ولا يمكن أن يقال: إنَّ حدوثه واجب، لأنه إنما يراد بالوجوب الاستمرار”(15). وهو ما يلزم عنه مضامين الحسن والقبح، سواء بفعل الفاعل للسبب أو بما قد يتولد عنه من المسبب، أو حتى من حيث فعل المسبب من غير سبب. وذلك كلّه لا يتنافى مع مبدأ السببية العامة. والهمداني يعترف بأن قدرتنا لا تسمح لنا في أغلب الأحيان إتيان المسبب من غير سببه، وذلك بخلاف القدرة الإلهية المطلقة التي يسعها ذلك مثلما يسعها فعل المسبب عن السبب بالتوليد. وعليه فإن هذا المعنى يختلف كلياً عن المعنى الخاص بعلاقة العلية كما يبشر بها الفلاسفة، ذلك “أن المتولد ذات منفصلة عن السبب، حادثة كحدوث نفس السبب، فأمكن أن يقال: إنَّه حدث من جهة القادر، وموجب العلة ليس بأمر يحدث فتصبح إضافته إلى الفاعل، بل ليس ينفصل عن المعلول"، لذا فالمعنيان مفترقان (16). فالمسبب أو المتولد مرتبط بالفاعل المختار حسب ما يفعله من السبب أو الواسطة، وهو بالتالي أولى أن يناط بفاعله من سببه(17)، ذلك لأن السبب واسطة بين الفاعل المختار وفعله، لذا لا يطلق على الفاعل موجباً، حيث الفعلية تنافي الإيجاب، كما لا يقال عن السبب أنه مولد، وذلك لأن المولد هو من أسماء الفاعل، والفعل ليس حادثاً بالسبب، وإنما حدوثه بالقادر أو الفاعل المختار، وبالتالي يصح القول: إنَّ ما أحدث الفعل هو القادر بهذا السبب(18). ما يعني أن للسبب تأثيراً على المسبب، وإن لم يكن هذا التأثير موجباً كالعلة بالنسبة إلى المعلول عند الفلاسفة. والغرض من هذا التحديد هو لأجل تنقيح قاعدة الحسن والقبح، حيث تصدق ليس فقط على الأفعال الابتدائية وإنما كذلك عما يترتب عليها من متولدات ومسببات.
هكذا: إن المفهوم السابق للسببية والتوليد مفيد بأكثر من اعتبار: فمن جهة أنه لا يتعارض مع الضرورات العقلية، وذلك باعتباره يحافظ على مبدأ السببية العامة القائل: إن لكل حادث لا بد له من “سبب” يوجده، أو بحسب تعبير هذا الاتجاه هو أن لكل حادث لابد له من فاعل، ابتداءً أو توليداً، ومن ذلك أنه يعد من الضرورات العقلية العلم بتعلق الفعل بفاعله، مثل تعلق الجواهر والأعراض كالروائح والألوان والطعوم بالخالق(19). أما من جهة ثانية فهو انه يتسق تماماً مع البداهة الأولية للحق الذاتي، وذلك لأنه يجعل من العلاقة بين الفعل والفاعل علاقة غير محتمة أو لزومية، وبالتالي فإن ذلك يحفظ لنا إرادتنا واختيارنا عندما تتولد عنهما الأفعال والمسببات، فليس هناك ما يجبرنا على الفعل ويلجئنا إليه، الأمر الذي تتصحح به صورة الحسن والقبح. ومن ذلك ما يقوله الهمداني: "إن الذم يتوجه على المتولد من الانفعال، كما يتوجه على المبتدأ، وذلك لأن أحدنا يذم على الكذب والظلم والقتل وغيرها، وكل هذه الأفعال تقع متولدة، فلو لم تكن حادثة من جهتنا لقبح ذمنا عليها"(20).
ويلاحظ أن فكرة هذا الاتجاه عن السببية تختلف عن فكرة الاتجاه الأول الذي حصر التأثير على الأشياء بالله من دون سواه. فعلى الرغم من أن اتجاه الحق الذاتي يرى أن ما يقوله الأول ممكن تبعاً للقدرة الإلهية غير المتناهية، إلا أنه مع ذلك اعترض عليه باعتباره يتنافى مع العدل وغرض التكليف، وهو أنه لا بد من أن يكون للغير تأثير كي يتصحح الفعل البشري وما يستحقه من الثواب والعقاب طبقاً لمنطق الحق الذاتي. وهو يطلق على هذا التأثير بإحداث الفعل، كأن يكون مصدر هذا الإحداث هو الله، أو الإنسان بما أحدثه الله فيه من قدرة. وبهذا يتصحح تكليفه وما يستحقه من جزاء. وهو في هذا المجال لا ينكر أن يكون هناك نوع من تأثير الأشياء بعضها على بعضها الآخر طبقاً لمنطق التوليد والاعتماد، وذلك بما أودعه الله فيها من قوى وخواص، وأنه لو شاء لما كان لها هذا التأثير أو التوليد البتة، بل جعل ذلك من الأمور التي تتصحَّح بها معرفة المعجزة وإثبات النبوة، حيث لا تعرف المعجزة بأنها معجزة ما لم تكن خارقة للعادة(21)، ومن ذلك خرقها لخواص الأشياء التي هي عليها، أي مبطلة لعلاقة التأثير بين السبب والمسبب. وهذا كله مما لا يقره الاتجاه الأول، وذلك لأن الفعل عنده محصور بالله، وانه لا تأثير للأشياء ولا توليد للمسببات، كما أنَّه ليس هناك من قوى فاعلة، بل كل حالة اقترانية بين شيئين هي نتاج فعل الله، فلا عرض حادث إلا والله خالقه وفاعله، وذلك اتساقاً مع البداهة الأولية لحق الملكية، إلى الدرجة التي ذهب فيها بعض لصحاب هذا المنطق إلى اعتبار الاعتقاد بتأثير الأشياء بعضها على بعضها الآخر يعد كفراً وبدعة، ومن ذلك ما قام به السنوسي في "المقدمات" بتأويل قوله تعالى: ]الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء[، حيث نفى أن يكون هناك تأثير للرياح على الغيوم، باعتباره يتضمن إثبات العلل الوسيطة، معتبراً مثل هذا الاعتقاد أصل الكفر والبدعة(22). وبالتالي فإن عموم اتجاه حق الملكية يختلف رأيه في السببية عن اتجاه الحق الذاتي، حيث أن الاقتران السببي بين الظواهر العرضية في الطبيعة هو لدى الأول مجرد اقتران من دون أن يتضمن التأثير من قبل العلاقة الاقترانية، في حين أنه لدى الأخير يتضمن هذا التأثير، وهو أن إحدى الظاهرتين العرضيتين تؤثر على الأخرى بقدرة الله، وذلك طبقاً لمنطق التوليد والاعتماد.
مع هذا، فهناك من أصحاب منطق الحق الذاتي من قدم تصوراً آخر يقترب بعض الشيء من التصور الفلسفي الوجودي. وقد نقل الأشعري في "مقالات الإسلاميين" عن المعتزلة بأنهم اختلفوا في السبب: هل هو موجب للمسبب أو لا على قولين؟ حيث ذهب أكثر المعتزلة المثبتين للتولد بأنَّ الأسباب موجبة لمسبباتها، وهو قول الفلاسفة. ومن ذلك ما جاء عن معمر بن عباد السلمي (المتوفى سنة 220هـ) أنه رأى أنّ الأعراض في الأجسام المادية هي من اختراعات الأجسام بحسب "الطبع"، كالنار التي تحدث الإحراق، والشمس التي تحدث الحرارة، والقمر الذي يحدث التلوين. كذلك ذهب الجاحظ إلى إثبات الطبائع للأجسام، حيث أثبت لها أفعالاً مخصوصة مثلما هو رأي الفلاسفة(23). وعلى هذه الشاكلة ذهب أبو القاسم البلخي الذي أيده الشيخ المفيد من الإمامية، حيث قال ضمن عنوان: "القول في الثقيل: هل يصح وقوفه في الهواء الرقيق بغير علاقة ولا عماد": “أقول: إنَّ ذلك محال لا يصح ولا يثبت، والقول به مؤدٍّ إلى اجتماع المضادات. وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وجماعة من المعتزلة وأكثر الأوائل، وخالفهم فيه البصريون من المعتزلة، وقد حكي انه لم يخالف فيه احد من المعتزلة إلاّ الجبائي وابنه وأتباعهما”. كما قال المفيد تحت عنوان: "القول في الجسم: هل يصح ان يتحرك بغير دافع": “أقول إنه لو صح ذلك بأن توجد فيه الحركة اختراعاً كما يزعم المخالف، لصح وقوف جبل أبي قبيس في الهواء بأن يخترع فيه السكون من غير دعامة ولا علاقة. ولو صح ذلك لصح أن يعتمد الحجر الصلب الثقيل على الزجاج الرقيق، وهما بحالهما، فلا ينكسر الزجاج، وتخلل النار أجزاء القطن، وهما على حالهما، فلا تحرقه. وهذا كله تجاهل يؤدي إلى كل محال فاسد"(24).
وعلى العموم يلاحظ أن أصحاب منطق الحق الذاتي منقسمون على أنفسهم في الرأي بين من قد يكون متأثراً برأي الفلاسفة، وإن كان الاختلاف بين الفريقين كبيراً، وبين الرأي الذي نافسوا فيه ما هو عليه منطق حق الملكية. وقد يكون تصنيف المعتزلة إلى بصريين وبغداديين له شيء من العلاقة بهذا الانقسام. لكن مثلما كان بعض المعتزلة متأثراً بفكرة الفلاسفة عن السببية أو العلية، فإن الأشاعرة بدورها كانت قريبة من التصور العرفاني في فهمه لكرامات الأولياء؛ بناء على فكرة العادة والخلق المباشر المستمر وأنه لا فاعل في الوجود غير الله. وهو أمر يجعلنا أمام تصورات عديدة مختلفة عن السببية.
ويترتب على هذه المقالة الخلاف الخاص بالمعرفة قاطبة، حيث أن الأشاعرة ترى أنه لا مؤثر في الوجود إلاّ الله، وبالتالي فإن حدوث العلم عقيب النظر هو حدوث قائم على العادة، أي تجري عادة الله بأن يحدث العلم عقيب النظر، فالمؤثر في وجود العلم هو الله تعالى، وقد ادعى الأشعري أن هذا الحدوث إنما يجري بلا وجوب منه تعالى ولا عليه، مع أن القول بالوجود من غير وجوب يعني عند بعضهم أنه ترجيح بلا مرجح. في حين يتم حصول العلم بعد النظر عند المعتزلة بالتوليد، حيث أن الناظر يخلق النظر فيتولد منه فعل آخر من غير صنع الله عقيبه، كحالة حركة المفتاح عند حركة اليد. وهو موقف يخالف موقف الفلاسفة الذين اعتبروا حصول العلم بعد النظر جاء بالإعداد، فالنظر الذهني هو من العلة المعدة وليس علة حقيقية، حيث إذا تم استعداد الذهن لقبول العلم بهذا الإعداد فانه تفيض عليه النتيجة من مبدأ الفيض وجوباً. لكن لدى الفخر الرازي أن حصول العلم عقيب النظر يتم بالوجوب تبعاً للعادة، أي أنه جرت عادته تعالى بإيجاب وجود العلم وإحالة عدمه، وذلك بخلاف ما عليه الأشعري الذي لا يقول بالوجوب أصلاً. وعلى رأي الفخر الرازي: إنه لا دخل للنظر في هذا الإيجاب، إذ أن العلم والنظر كلاهما معلولان لله واجبان به، وذلك على خلاف الفلاسفة، حيث لديه أن حصول العلم، وان لم يكن واجباً ابتداء، فإنَّه ليس متأثراً بالنظر، إذ لا قدرة للعبد في التأثير(25).
لكن نُقل عن الفخر الرازي، ومثله عن الباقلاني والجويني، أنهم رأوا أنّ ما يعقب النظر من المعرفة ليس بعادة، بل لزوم ضروري، فالله يخلق النظر ومنه يلزم عنه العلم بالضرورة(26). كما يلاحظ أن الباقلاني يقسم العلم إلى علمين: علم نظر واستدلال، وعلم اضطرار وضرورة. فالضروري ما لزم نفوس الخلق لزوماً لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه، نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس، وما ابتدأ في النفس من الضرورات. والعلوم الضرورية لها ست طرق، خمس منها من طريق الحواس الخمس. أما الطريق السادس فهو العلم المبتدئ في النفس، نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها من اللذة والألم والغم وما إلى ذلك، وكذا العلم بأن الضدين لا يجتمعان وأن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق، وكذا كل معلوم بأوائل العقول، وكذا العلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر أو نحل.. وكل ما هو مقتضى العادات(27).
وعلى ما يبدو، فإنَّ الباقلاني يجعل العلوم العادية ضمن المعارف الضرورية، وإن كان ذلك لا يمنع كونها من فعل الله، ولو شاء لمنع أن تترتب النتيجة عن المقدمة في مثل هذه المعارف الضرورية، وذلك إذا ما عَدَدْنا النتائج مخلوقة بفعل الله، وليست متولدة عن مقدماتها نفسها، كما هو مقتضى منطق حق الملكية. فمذهب الأشاعرة في حصول العلم يتفق ومبدأها بأن لا فاعل إلا الله، الشيء نفسه بخصوص الاتفاق مع نظرية الكسب. الأمر الذي يتسق والبداهة الأولية لهذا المنطق، حيث أن الله يفعل ما يشاء، ومن فعله هو هذا الذي يتم بعنوان العادة الإلهية.
لكن مع هذا فإن الأشاعرة لا تنفي وجود جملة من المعارف العقلية التي تدخل فيها المحالات. فالغزالي في "تهافت الفلاسفة" رأى أن هناك عدداً من القضايا المعرفية المحالة، والمحال عنده غير مقدور عليه، وهو عبارة عن إثبات الشيء مع نفيه، أو إثبات الأخص مع نفي الأعم، أو إثبات الاثنين مع نفي الواحد، وكل ما لا يرجع إلى ذلك ليس بمحال، وما ليس بمحال هو مقدور. فمثلاً ان الجمع بين السواد والبياض محال، لأنا نفهم من إثبات صورة السواد في المحل نفي ماهية البياض ووجود السواد، فإذا صار نفي البياض مفهوماً من إثبات السواد، كان إثبات البياض مع نفيه محالاً. كذلك لا يجوز كون الشخص الواحد في مكانين، لأنا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت. وكذا نفهم من الإرادة عند الشيء هي طلب فيه إدراك، فإن فُرض طلب من دون إدراك فهذا يعني أنه لم تكن هناك إرادة عند الشيء. وأيضاً ان الجماد يستحيل ان يُخلق فيه العلم، لأنا نفهم من الجماد ما لا يدرك، فان خُلق فيه الإدراك كانت تسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محالاً. كذلك فان مصير الشيء شيئاً آخر غير معقول، لأن السواد إذا انقلب كدْرة مثلاً، فالسواد إن كان معدوماً فهو لم ينقلب، ولكن يضاف إليه غيره، وإن بقي السواد والكدرة معدومة فهو لم ينقلب أيضاً، بل بقي على ما هو عليه. وإذا قلنا: إن الدم انقلب منياً، أردنا به أن المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة أخرى، حيث هناك مادة مشتركة تعاقبت عليها الصورتان. وإذا قلنا: إن الماء انقلب هواء بالتسخين، وكذا العصا انقلبت ثعباناً، والتراب حيواناً، فمعناه أن المادة المشتركة خلعت صورة ولبست أخرى. لكن ليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة، ولا بين السواد والكدرة، ولا بين سائر الأجناس، لذا فان الانقلاب فيها من المحالات(28).
ومن جملة المستحيلات عند الغزالي ما هو مستحيل على الله تعالى؛ كالمكان والجهة والصورة واليد الجارحة والعين الجارحة وإمكان الانتقال والاستقرار، وقد أوجب فيها التأويل حسب الدليل العقلي، في حين أن أمور الآخرة مما وعد به الله قد رأى أنَّها ليست من المحالات على قدرته، وتوجب إجراءها على ظاهر الكلام وفحواه الصريح(29).
على أن نفي الأشاعرة لعلاقة الضرورة، وكذا التأثير بين الأسباب والمسببات في الطبيعة، عرّضها إلى الكثير من النقد والتهم. فمن تهمة نفي الأساس الذي تقوم عليه علوم الطبيعة، إلى تهمة السفسطة ونكران الأصل العقلي، ومن ثم إلى الوقوع في التناقض، وذلك حيث أنها تثبت المسألة الإلهية باعتمادها عليه(30).
والواقع أن الأشاعرة تلتقي مع دافيد هيوم وأغلب روَّاد المنطق التجريبي الحديث في مسألة نكران الضرورة في علاقة السببية الخاصة، وهي لا تفضي بالضرورة إلى بطلان المعرفة العلمية. كما أن هذا الالتقاء بين الأشاعرة وأصحاب المنطق التجريبي لا يلغي مورد الاختلاف بينهما بخصوص مبدأ السببية العامة، وهو المبدأ القائل: إنَّ الحادثة لا بد لها من سبب، حيث أن الأشاعرة تسلم بهذا المبدأ بخلاف أصحاب ذلك المنطق، بدلالة أنها تستدل على المسألة الإلهية عبر مبدأ استحالة الترجيح من غير مرجح، ما يعني استحالة وجود حادثة ما من غير سبب. وبعبارة أخرى، هناك نوعان للسببية، أحدهما عبارة عن السببية العامة، وهي موضع الخلاف بين الأشاعرة والتجريبيين، أما الأخرى فهي السببية الخاصة التي تحدد ماهية السبب بعينه، كما لو عددنا الحرارة هي سبب تمدد الحديد لا غيرها. فهذه العلاقة هي بنظر الفريقين الآنفي الذكر، لا تتضمن الضرورة، بل هي مجرد تتابع اقتراني تفسرها العادة. ولا شك في أن نفي الضرورة في هذه العلاقة لا يؤثر على إثبات المسألة الإلهية، بخلاف العلاقة الأولى التي تعود إلى مبدأ السببية العامة كما هو واضح.
كما تعرضت الأشاعرة إلى تهم كثيرة، منها أنها عُدت من المذاهب اللاعقلية. فهناك من رأى أن اعتماد الأشاعرة على جعل التشريع الخاص بقضايا الحسن والقبح بيد الخطاب الديني، يردها إلى المذاهب اللاعقلية، فبعضهم اعتقد بأنها عطلت العقل حتى في المجال العقدي، بل واتهمها بأنها اتجهت إلى القضاء عليه مطلقاً(31). كما أن صاحب كتاب "فلسفة الفكر الديني" رأى أن علم الكلام الأشعري يجعل من الواجب الرجوع إلى الخطاب الديني من حيث الأصل والأساس، ويشمل هذا الأمر حتى موارد استخدام النظر العقلي(32). وجاء عن دي بور أن الأشعري لا يعدّ النظر العقلي المستقل عن الوحي سبيلاً إلى معرفة الشؤون الإلهية، إنما العقل يستطيع أن يدرك وجود الله، لكن العقل آلة للإدراك فقط، أما الأصل الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي (33). ولا شك في أن هذه الاعتقادات لم تتدارك كون المذهب الأشعري قد تأسس تبعاً للفكرة العقلية الخاصة بحق الملكية قبل أي اعتبار آخر، وهو وإن حدد مجال العقل في قضايا الحسن والقبح، إلاّ أن ذلك لم يحدد النشاط العقلي في الكثير من قضايا العقل النظري، ومنها تلك التي لها علاقة بإثبات المسألة الإلهية، وهي على رأس القضايا الاعتقادية. كذلك فإن هذا المذهب قد شهد تطوراً في حدود ممارسته للنشاط العقلي، بما في ذلك التنظير الذي يجعل العقل حاكماً على نص الخطاب، حيث ذهب المتأخرون إلى القانون الكلي للمعارض العقلي الذي تعرض فيه مسائل النص على العقل لينظر فيها إن كانت تُقبل أو يُجرى عليها التأويل.
ثانياً:
من تجلِّيات التضاد بين البداهتين الأُوليَين في الدائرة العقلية؛ تلك التي تتعلق بعالم الفقه والتشريع. فالاعتبارات المختلفة للبداهتين تفتح باباً من التعارض حول طريقة الاجتهاد في القضايا الفقهية وتشريع الأحكام. إذ بحسب اعتبارات الحق الذاتي ينبغي أن يكون الاجتهاد قائماً في الأساس على العقل من دون التوقف عند حدود الخطاب الديني، وذلك في جميع القضايا التي يقبل إدراكها من الحقوق والمصالح والمفاسد. أما بحسب اعتبارات حق الملكية فلا مجال للاجتهاد العقلي إلا بحدود ما يسمح به الخطاب الديني. فمثلاً إنه لا مجال للاجتهاد في ما لا نص فيه من القضايا، وأنه لا مجال للاستعانة بالقياس وغيره، إلا بالحدود التي يكشف عنها الخطاب الديني. ورغم أن واقع التشريع الفقهي لم يلتزم حرفياً بهذه الانعكاسات المنطقية الناتجة عن البداهتين الأوليَين؛ وذلك لاعتبارات مختلفة، إلا أنه مع ذلك هناك مؤشرات للتعارض المتسق بين المذاهب التشريعية يمكن عدها مستلهمة من انعكاسات التضاد بين الأصلين المولدين.
فقد سبق أن عرفنا كيف ذهب المعتزلة والزيدية والإمامية الأصولية إلى الاعتقاد بأن العقل يدرك جملة من الواجبات التي تسبق أحكام الخطاب الديني، مثل وجوب رد الوديعة وشكر المنعم ووجوب النظر ومعرفة الخالق وما إلى ذلك، الأمر الذي يناقض ما لجأت إليه الأشاعرة. فهذا الخلاف يتأسس على تعارض الاعتبارات بين الأصلين المولدين لهما. وقد انعكس الأمر على الصعيد الفقهي، إذ كان المتكلمون وبعض الفقهاء يعطون للعقل صلاحيات الكشف عن الحكم، فأقرت بعض المذاهب عدداً من القواعد الأصولية الفقهية التي يستعان بها عند عدم وجدان النص، مثل قاعدة البراءة الأصلية التي تُسند عادة إلى القاعدة العقلية "قبح العقاب بلا بيان"، وكذا مسائل الحسن والقبح العقليين ونفي الضرر المحتمل وما إليها. وعلى خلاف هذه القواعد والمسائل، هناك قاعدة التوقف والاشتغال ومسألة الحسن والقبح الشرعيين، وجميعها يعارض القواعد الأولى. وإذا كانت القواعد الأولى تتسق ومنطق الحق الذاتي، فإن أغلب القواعد الأخيرة هي مما يتَّسق ومنطق حق الملكية.
لكن من حيث الواقع الفقهي نجد تجاوزات لدى بعض أصحاب كلا المنطقين بما لا يتفق مع ما يلجأ إليه من البداهة الأولية أو الأصل المولد. فالغزالي، مثلاً، وهو القائل بمنطق حق الملكية، يعتقد بالبراءة العقلية قبل التشريع أو ورود السمع(34)، وهو موقف يناقض الأصل المولد للمسلك الذي يتبَّناه. وكذا فإن الفقيه المعاصر السيد محمد باقر الصدر وعدداً من أصوليي الإمامية يعتقدون بقاعدة اشتغال الذمة من الناحية العقلية لكل ما هو محتمل لولا تسامح التشريع الديني، وهو موقف يناقض بدوره قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ومن ثم فهو يناقض البداهة الأولية للحق الذاتي والتي تشترط ضرورة الإعلام كما عرفنا.
والمعلوم أن الاعتماد على العقل في قضايا الفقه التي لم يرد فيها نص هي خاصة المذهب الإمامي الذي لم يرتض الأخذ بموارد الرأي الظني الشائعة لدى الاتجاه السني، مثل القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وغيرها من المصادر الظنِّية. لذلك فإن المتقدمين من المذهب الإمامي رأوا أنه ما لم يتم الحصول على الحجة الشرعية بالنص، فإن مآل الأمر هو الرجوع إلى الحكم العقلي، وذلك تعويلاً على الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، إذ تنص قاعدة الحسن العقلية بأن "كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً”(35)، استناداً إلى البداهة الأولية للحق الذاتي. ويقف الشريف المرتضى على رأس قدماء الإمامية الذين دافعوا عن هذا المسلك في أصالة التشريع العقلي للقضايا الفقهية. فقد صرح، وهو في صدد استدلاله على عدم جواز العمل بخبر الآحاد، بأنه إذا لم يكن هناك دليل شرعي في المسألة فإنه يتوجب العمل بما يقتضيه الحكم العقلي(36). وقال في هذا الصدد: "قد ثبت أن المنافع التي لا ضرر فيها عاجلاً ولا آجلاً في أصل العقل مباحة". وقد طبق هذا الحكم العقلي على مورد نكاح المتعة، مستفيداً في ذلك من الكشف الواقعي الذي يفيد عدم وجود الضرر في هذا المورد. ذلك أنه يقول: "إن سألت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه انتفاع لا محالة، قلت: الضرر العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها، ويعلم فقد ذلك، والضرر الآجل إنما هو العقاب، وذلك تابع للقبح، ولو كانت هذه المنفعة قبيحة مستحق بها العقاب لدلّ الله تعالى على ذلك، لوجوب إعلامه المكلف ما هذه سبيله"(37). واتبعه في هذا المقال ابن ادريس في سرائره(38). كما استفاد المرتضى من كشف الواقع لصالح الحكم العقلي، وذلك في مورد إدخال الضرر على البهائم، فقال: “اعلم أن إدخال الضرر على البهائم، المؤذية لنا منها وغير المؤذية، لا يحسن إلا بإذن سمعي، إلا أن يكون ذلك الضرر يسيراً، أو النفع المتكفل به لها عظيماً، فيحسن من طريق العقل. فإن كثيراً من الناس أجازوا ركوب البهائم عقلاً من غير افتقار إلى سمع". ثم قال: “وإذا تكفلنا لها بما تحتاج إليه من غذاء وديار ومصلحة ربما كانت لها فائدة لولا تكفلنا جاز أن ندخل عليها ضرر الركوب، لأنه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها”(39).
لكن هذا الاتساق لا نجده لدى جميع من ينتمي إلى منطق الحق الذاتي، ومن ذلك ان الكثير من معتزلة بغداد والإمامية الاثني عشرية رأوا أن الحكم العقلي المستقل، سواء قبل ورود النص أم بغض النظر عنه، يدل على الحظر في قضايا فقه الانتفاع بالأشياء. فقد انشطر العلماء إلى ثلاثة اتجاهات: أحدها يقول بالحظر ما لم يدل على ذلك نص من الخطاب الديني، وإليه ذهب كثير من البغداديين وطائفة من الإمامية وجماعة من الفقهاء. وآخر يقول بالإباحة، وهو مذهب أكثر المتكلمين من البصريين وكثير من الفقهاء، وهو الذي اختاره الشريف المرتضى من الإمامية. أما الاتجاه الثالث فبنى على الوقف حتى يرد سمع من النص الديني، وهو الذي ذهب إليه الطوسي في "عدة الأصول"(40)، حيث صرح بأنَّ القضايا التي لم يرد في شأنها نص إنما طريقها العقل(41)، وهي بحكم هذا الأخير تكون على الوقف، ولا يمنع ذلك ما قد يدل عليه النص من الحظر أو الإباحة، بل ما يقدره العقل من الوقف لا يتنافى مع ما جاء به النص من الإباحة “بل عندنا الأمر على ذلك واليه نذهب، وعلى هذا سقطت المعارضة بالآيات"(42)، وهو المذهب الذي كان ينصره شيخه أبو عبد الله المفيد(43)، والذي هو أقرب ما يكون إلى منطق حق الملكية، وذلك بخلاف ما انتهى إليه أستاذه الشريف المرتضى من أن حكم العقل في الانتفاع من الأشياء هو الإباحة لا الحظر ولا الوقف.
ومع أن الأصوليين من الإمامية كانوا يتصورون أن بوسع العقل أن يحكم على القضايا التي ليس لها شاهد من نص، سواء كان الحكم جارياً وفق البراءة الأصلية أم بحسب الاشتغال والاحتياط، إلاّ أن المتأخرين منهم _ منذ الوحيد البهبهاني _ أدركوا أن هذه القواعد عبارة عن وظائف عقلية عملية لا تحدد حقيقة الحكم الشرعي، بل تعمل على إفراغ الذمة وإبرائها فحسب، وقد أُطلق عليها "الأصول العملية"(44). وبالتالي فقد أصبحت القضية العقلية المستقلة هي تلك التي تندرج فقط ضمن ما يعرف بالحسن والقبح، أو الملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع. ويتفرع عن هذه القضية القاعدة التي تقر قبح العقاب بلا بيان، والتي اعتمد عليها أغلب الأصوليين، حيث لا يُعقل أن يعاقب الله المكلَّف على شيء لا يعلمه، وإن هذه القاعدة راكزة في الوجدان العقلائي، حيث أن الناس لا يؤاخذون بعضهم إلا في حدود ما في طاقتهم من العلم، وبغير ذلك يكون العقاب قبيحاً. الأمر الذي يتسق ومنطق الحق الذاتي.
وإذا عدنا إلى الاتجاهات الثلاثة السابقة نجد أنها تتعارض في أدلتها العقلية. ورغم أن هناك اتساقاً بين منطق الحق الذاتي وقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإن السجال الذي دار بين هذه الاتجاهات لم يكن معنياً بهذه النقطة الجوهرية. فمن النقاط التي سجلها المذهب القائل بالوقف والحظر إزاء الانتفاع بالأشياء ما لم يرد في ذلك نص، هو أنه قد ثبت في العقول أن الإقدام على ما لا يأمن المكلَّف كونه قبيحاً هو مثل إقدامه على ما يعلم بقبحه، وذلك ضمن قاعدة دفع الضرر المعلوم والمظنون عن النفس. في حين أجاب المذهب القائل بالحلية بأن المكلَّف يمكن أن يأمن من قبح الانتفاع بالأشياء لأن هذا القبح لا يكون إلا من حيث أن فيها مفسدة، وإذا كان فيها مفسدة وجب على المولى تعالى إعلام المكلَّف بها، وإلا قبح التكليف، فما لم يعلمه بها لدلّ على أن الانتفاع حسن لا قبيح، الأمر الذي يلزم عنه الإباحة. لكن قيل في الجواب عن ذلك: إنه لا يمتنع أن تتعلق المصلحة بشك المكلَّف والمفسدة بإعلامه جهة الفعل على التفصيل، لذا يقبح الإعلام، وتكون المصلحة في الوقف والشك في الحكم(45).
على أن ما أجاب به أصحاب القول بالحلية ليس صحيحاً، وبه ينسحب الرد الذي قدمه القائلون بالوقف، ذلك أن عدم إعلام المولى للمكلَّف بمفسدة الشيء المتردد حوله لا يستنتج منه الحسن ولا القبح، بل ما يعنيه هو عدم جواز المؤاخذة على فعل الانتفاع به عقلاً ونصاً. فالعقل هنا لا يشرع الحكم في الشيء إن كان حلالاً أو حراماً، حسناً أو قبيحاً، بل يشرع فقط في إبراء الذمة كما ذهب إلى ذلك البهبهاني وأتباعه المتأخرون. وهذا يعني أن الإقدام على القبيح من دون العلم بقبحه ليس قبيحاً، وبالتالي فمن الناحية التكليفية لا يلزم عنه الحظر والاحتياط. فبحسب منطق الحق الذاتي أن من الواجبات التي تتعلق بالمكلِّف إعلام المكلفين، إذ لا مانع منه، بما في ذلك الإعلام بالوقف والحظر والاحتياط، ودونه يسقط التكليف. وسبب ذلك هو ان عدم الإعلام يجعل المكلِّف مخلاًّ بواجبه، مثلما يلاحظ في الشاهد الدال على الغائب، فالسيد لا يعاقب العبد على عدم إتيانه بشيء ما لم يعلمه بذلك، والأمر يصدق في الغائب أيضاً، رغم أن الأشياء تظل على حالها بما تتضمنه من مصلحة ومفسدة، أو حسن وقبح، فكل ذلك لا يفي ببلوغ التكليف ما لم يشترط فيه الإعلام.
هذا إذا كنّا نفكر ضمن دائرة الحق الذاتي، أما إذا كنّا نفكر ضمن اعتبارات حق الملكية فالأمر يختلف. لذلك نجد التناقض واضحاً لدى من ينتمي إلى دائرة الحق الذاتي وهو يقول بالحظر والاحتياط، وكأنه يجمع بين الاعتبارات المتناقضة لدى كل من الحق الذاتي وحق الملكية. ومن ذلك ما تبنَّاه المفكر الصدر من مسلك أطلق عليه "حق الطاعة"، حيث ذهب إلى الاتجاه نفسه القائل بالحظر والاحتياط ضمن الاتجاهات الثلاثة السابقة. وقد استدل بمثل ما استدل به اتجاه الحظر القديم، حيث عوّل على الحظر باعتبار أنه لا يجوز استخدام ما هو عائد إلى ملكية الغير إلا بإذنه، وذلك مثل علمنا بقبح التصرف في ما لا نملكه في الشاهد(46). كما استدل بدليل آخر سبق أن عوّل عليه القدماء ممن ذهب إلى الحظر والوقف، وهو عدم الأمان من الوقوع في الضرر لأي شيء جديد يراد منه الانتفاع، حيث أن التحرز من المضار واجب في العقول، وإذا كان ذلك واجباً لم يحسن الإقدام عليه، كأن يحتمل أن يكون الشيء المنتفع به ضاراً لا نافعاً، حيث لا يُعلم إن كان سماً _ مثلاً _ أو غذاء. وقد ناقش القدماء من الاتجاه، آنف الذّكر، أولئك الذين عولوا على التجربة في تمييز النافع من الضار، وذلك من خلال العرض على الحيوانات، فمنعوا هكذا تجربة وعدّوها غير كافية لتحصيل العلم، وذلك لأن من الأشياء ما ينفع الحيوان ويكون له غذاء، مع أنه قد يكون للإنسان سماً، فمثلاً، إن الظب يأكل شحم الحنظل ويتغذَّى به، في حين لو أكله الإنسان لهلك في الحال، وكذا تأكل النعامة النار وتستمرئها(47)، ولو أكل ابن آدم ذلك لهلك في الحال، وأيضاً فإن الفأرة تأكل البيش وتعيش عليه(48)، ورائحة ذلك تقتل الإنسان(49).
والواقع أن مسلك المفكر الصدر في حق الطاعة، وقبله مسلك القائلين بالحظر وفق الملكية، إنما يتجه نحو الجهة التي عليها الأشاعرة في تبنيها منطق حق الملكية. فعلى الرغم من أنه يعترف بمبدأ الحسن والقبح العقليين، إلا أنه يستبعد في الوقت نفسه قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لكنه لا يعزل العقل بذلك عن التشريع طالما أنه يفتي بلزوم الاحتياط وإعطاء الطاعة حقها، وذلك بخلاف ما أفضت إليه الأشاعرة من إبطال العقل في التشريع بمنطق العقل نفسه. على أن التَّسويغ الموظف لدى الصدر في بعض أقسامه يشابه التَّسويغ المستخدم لدى الأشاعرة، وهو أن لله ملكية مطلقة تفترض حق الطاعة التامة، حتى في موارد المحتملات والموهومات. فالأشاعرة يجعلون الحق مطلقاً لله ويتوقفون عن التشريع في الأحكام عقلاً ما لم تأذن بذلك البيانات الشرعية الصادرة عن المالك المطلق. وقريب من ذلك فعل الصدر، ذلك أنه أقر من حيث الواقع العرفي بصدق قاعدة قبح العقاب بلا بيان حسب النظرة العقلائية، إلا أنه رأى وجود الفارق بين الشاهد والغائب، وهو أن الله مالك حقيقي، مثلما انه منعم حقيقي، وذلك يجعل من مولويته مولوية حقيقية تختلف عما هو حاصل في الشاهد الخاص بالواقع العرفي، وهذا ما يعطيه الحق في معاقبة المكلَّف لعدم احترازه في الأمر، وإنْ لم يرد عنه البيان، فللمالك الحقيقي مطلق الحق في الطاعة حتى في موارد القضايا المحتملة والموهومة، وكما يقول: “هكذا يتخلص أنه لا أساس لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات، بل العقل يحكم بلزوم الاحتياط فيها جميعاً، لأن حق إطاعة مولانا الحقيقي ثابت بنحو مطلق ما لم يحرز إذن المولى في المخالفة فيرتفع موضوع الحق المذكور. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الاحتياط ولا نخرج عنه إلا بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الإمارات أو الأصول الشرعية”(50). ويقول أيضاً: “المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملاكات، كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية”(51). وهذا الأمر ينطبق حتى على المشكوكات والمحتملات من التكاليف، بل ويمتد حتى إلى التكاليف الموهومة، وذلك لسعة مولوية المولى الحقيقي(52). كما أنه ينطبق حتى على الشبهات الموضوعية، وإن كان مسلك حق الطاعة محكوماً لأدلة البراءة الشرعية، حيث يحكم العقل بالاحتياط ما لم يرد ترخيص شرعي(53).
والتشابه بين موقف الصدر وموقف الأشاعرة واضح تماماً، مع وجود بعض الفوارق، فالأول يستند إلى مسوِّغ الملكية المطلقة لافتراض منطق حق الطاعة، كما ويسوِّغ هذا المنطق بحجة عقلية، وكذا أن الأشاعرة تستند إلى مسوِّغ تلك الملكية لافتراض منطق ما يريده الحق على نحو مطلق من غير قيود، كما تسوّغ ذلك بحجة عقلية، وهي أن الله منفرد في ملكه وخلقه، الأمر الذي تختلف فيه الحال عن الشاهد، وذلك لافتقاره إلى الانفراد والملكية الحقيقية، وهو التَّسويغ العقلي نفسه الذي لجأ إليه المفكر الصدر. لكن مورد الاختلاف بينهما هو أن ما يناسب منطق الأشاعرة هو القول بالوقف، بمعنى أن العقل لا يشرع شيئاً، سواء كان ذلك على نحو البراءة الأصلية أو الاحتياط، في حين أن العقل لدى مسلك حق الطاعة يتلبس بالتشريع الفعلي، وهو حكمه بإشغال الذمة ولزوم الاحتياط.
على أن القول بالمولوية وحق الطاعة حتى في المحتملات والموهومات يثير عدداً من المشاكل على صعيد كل من المكلِّف والمكلَّف. فما يخص الأول هو أن جعل التكليف في تلك القضايا يفترض إخفاءه على المكلَّف، ما يفضي إلى منطق ما يسمى "المصالح الخفية"، حيث يفترض أن هذا الإخفاء جاء لوجود مصلحة خفية اقتضت إخفاء التكليف على المكلَّف ومحاسبته على تركه. وهو أمر غير معقول، بل ولا يقبل على الصعيد الأخلاقي وفقاً لمنطق الحق الذاتي. فعلى الأقل كيف يمكن تصور هذه المصلحة الخفية التي تسوّغ للمكلِّف عدم الإعلام، بما في ذلك إخفاءه الإشارة إلى إلزام الاحتياط وإشغال الذمة. وقد جاء في قوله تعالى: ]رسلاً مبشرين ومنذرين لئِلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً[ [النساء/165]، حيث المعنى واضح من أن الحجة لا تتم على الخلق، بل يحصل العكس، ما لم يتحقق الإعلام والبلاغ، وهو ما تقدمه الرسل. أما ما يخص المكلَّف فلنتصور كيف تكون حال من لم يصل إليه التكليف كأهل الفترة، كيف يمكنه التصرف وسط ما لا يتناهى من المحتملات الممكنة للتكليف؟! فحيث أنه لم تبلغه الحجة الشرعية فإن ذلك يجعله وسط ما لا يتناهى من إمكانات العمل المحتملة، وهو ما يؤدي به إلى أن يكون عاجزاً عن فعل شيء، وبالتالي يصدق عليه التكليف بما لا يطاق، وهو غير معقول ومقبول بحسب منطق الحق الذاتي.
ثالثاً:
مر بنا سابقاً أن الاعتبارات العقلية توجب أن يتوقف قبول الدليل اللفظي على نفي المعارض العقلي. فمن دون الأخذ بهذه النتيجة يفضي الأمر إلى نوع من التناقض وعدم الاتساق، ذلك أن ما يُؤذَن للعقل في إثبات المسألة الدينية يُؤذَن له الشيء نفسه في الأمور الأخرى، ومنها تلك التي تتعلق بقضايا فهم النص الديني. وبعبارة أخرى: إن من التناقض أن تقبل الاعتبارات العقلية في تأسيس الخطاب من الخارج، وتمنع في الوقت نفسه من تأسيسه من الداخل.
فهذا هو عذر الدائرة العقلية لممارسة وظيفتها في فهم النص الديني. والقاعدة التي اعتمدتها في هذا الشأن هي ملاحظة ما يتقرر لدى العقل من اعتبارات "الامكان والاستحالة". فكل شيء يراه العقل في النص ممكناً هو مقبول، وكل شيء يراه مستحيلاً فإما أن يتم طرحه أو يمارس في حقه التأويل.
لكن المشكلة هي أن العقل نفسه يحمل اعتبارات متضادة ومتناقضة، فما يكون لدى بعض الاعتبارات ممكناً، يكون هو نفسه لدى اعتبار آخر مستحيلاً. فالاعتبارات التي يعول عليها منطق الحق الذاتي هي غير تلك التي يعول عليها منطق حق الملكية. والأمر لا يتوقف عند حدود التباين والاختلاف بين هذين النوعين من الاعتبارات، بل يصل الحد إلى التضاد والتناقض في تطبيق تلك القاعدة العقلية الخاصة بـ "الامكان والاستحالة". فالكثير من قضايا النص التي يفهمها المنطق الأول على أنها مستحيلة؛ يراها المنطق الثاني ممكنة، والعكس بالعكس. وبعبارة أخرى: إنَّ ما يراه أحد المنطقين من وجود المعارض العقلي للدليل اللفظي بحسب اعتباراته الخاصة؛ لا يراه الآخر تبعاً لاعتباراته الخاصة أيضاً. وهكذا فان العقل يتناقض بتناقض اعتباراته، ومنه ينشأ التناقض في القانون الكلي للمعارض العقلي (ترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي)، ومن ثم التناقض في فهم النص الديني.
ومن الشواهد على ذلك التناقض الحاصل في فهم النصوص المتعلقة بقضايا الصفات الإلهية، ومنها رؤية الله وكلامه. فمثلاً ان المعتزلة والزيدية والإمامية الاثني عشرية يحيلون الرؤية، ويعدونها دالة على الجسمية، بينما يذهب الأشاعرة إلى تجويزها، إذ إن مصحح الرؤية عندهم هو كون الشيء موجوداً(54)، مع أنه من الناحية المنطقية أن طبيعة الموجود قد لا تقبل الرؤية والإدراك، أي أن الوجود لا يدل بالضرورة على الوجدان. على أن مثل هذه الاعتبارات العقلية المتعارضة دفعت كلاً من الاتجاهين إلى تأويل النصوص التي تتعارض معه، إذ قام الأول بتأويل النص القرآني: ]وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة[ [القيامة/22]، وعدَّه من المتشابهات بخلاف نصوص أخرى عدّها من المحكمات وتدل على الغرض، وأقواها قوله تعالى:]لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار[ [الأنعام/103]، وكذا رأى أن ما يقع ضمن هذه الدلالة قوله تعالى: ]قال ربي أرني أنظر إليك، قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً، فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين[ [الأعراف/143].
كذلك فقد منع الاتجاه الثاني حدوث الكلام الإلهي لاعتبارات عقلية تخص إثبات المسألة الدينية كما سبق أن عرضناها، بينما قبله الأول لاعتبارات عقلية أخرى تخص التوحيد كالذي مرَّ بنا. وهذا ما اضطر الاتجاه الثاني إلى تأويل الآيات المتعلقة بهذا الصدد، والتي ظاهرها يفيد الحدوث لا القدم، ومن ذلك تأويله لنص القرآن: ]ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه[[الأعراف/143]، حيث ذُكر أنَّ معنى الآية هو أن موسى قد سمع الصفة الحقيقية للكلام الأزلي، ولم يسمع شيئاً حادثاً باعتبار أن ذلك من المحالات لدى هذا الاتجاه(55).
على أن التعارض في الاعتبارات العقلية يخل بهدف الدائرة العقلية الخاص بترجيح الدليل العقلي على الدليل اللفظي. ذلك أنه إذا كانت هذه الاعتبارات متعارضة؛ كيف يمكن أن نجعل منها مرجعاً يُستند إليه في الحكم؟ وكيف يُعتمد عليها في إثبات المسألة الدينية أو تأسيس الخطاب من الخارج؟ وما هو نوع العلم _ القطع الذي تفضي إليه كما يدعيه أصحابها؟ وبالتالي ما المانع من أن تكون هذه الاعتبارات الموصوفة بالأدلة العقلية زائفة وهمية كما يصورها لنا أصحاب الدائرة البيانية؟
إذن لا يمكن قبول القاعدة المنهجية التي يطلقها أصحاب الدائرة العقلية من ضرورة القطع بعدم وجود المعارض العقلي في الدليل اللفظي. وذلك لأن هذا المعارض لا يستغني بدوره عن الحاجة إلى الفحص والنظر بمنطق آخر مختلف ليُرى ما إذا كان مقبولاً أو لا.
وأول ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الصدد، هو السؤال عن كيف يمكن تحصيل العلم والقطع في القضايا العقلية. فالعبرة ليست في الاعتماد على العقل نفسه، بل في الوصول إلى تلك المرتبة العليا من المعرفة. فلو كان الدليل اللفظي يفضي إليها من دون العقل لما كان هناك تردد في ترجيح الأول على الأخير، كالذي يذهب إليه ابن تيمية من أصحاب الدائرة البيانية. وهنا لا بد من أن نشير إلى عدد من الملاحظات تساعد في حل هذه الإشكالية كالآتي:
1 _ لابد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وهو ما لم يكن معروفاً لدى التراث العربي الإسلامي. فما يعتمد على أحدهما هو غير ما يعتمد على الآخر، وإن القضية المدعمة بالأول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فإن القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي أكثر وثوقاً من تلك التي يحظى بها العقل القبلي. وبحسب العقل البعدي فإن للدلالة الواقعية أهميتها الخاصة في الكشف المعرفي، كذلك ان للدلالة النصية أهميتها في الكشف عن مضمون الخطاب وبنيته. ويستعان في كلا الحالين بمنطق قرائن الاحتمال والاستقراء.
2 _ إنه لا بدّ من تأسيس المعرفة، ومنها تلك التي لها علاقة بتأسيس الخطاب من الخارج والداخل، طبقاً للاعتبارات المشتركة لا الخاصة، إذ كانت المشكلة التي واجهت الدوائر المعرفية في الفكر الديني، ومنها الدائرة العقلية في النظام المعياري، هي أنها شيدت أنظمتها وفقاً للاعتبارات الخاصة لا العامة، وهذا ما جعلها تلاقي الكثير من المشاكل والاعتراضات، وكان أهمها هو أنها تفتقر إلى الوثوق المعرفي.
3 _ إن الاعتماد على منطق قرائن الاحتمال والاستقراء في الكشف المعرفي له صفة مزدوجة من حيث السلب والإيجاب. ذلك انه من جهة يبعث على الوثوق المعرفي قبال ما يمارس من النشاط الذهني ضمن العقل القبلي. لكنه من جهة أخرى يفضي إلى نتائج متواضعة في الكشف عن مضامين الخطاب، وبالتحديد أنه فعال في تحصيل العلم والقطع في القضايا المجملة من هذا الفهم من دون التفاصيل، ومن ذلك ما يتعلق بمقاصد الخطاب وأهدافه، وهو أمر بحثناه في كتابنا "فهم الدين والواقع".
4 ـ إذا كان من الممكن تحصيل العلم والقطع في الدليل اللفظي، فذلك يعني حصر المعرفة في حدود ما يدل عليه معنى الخطاب، أي أنه لا يدل في حد ذاته، وبغض النظر عن أي اعتبار آخر، على كشف الحقيقة الخارجية للواقع والوجود، وذلك بخلاف ما هي عليه الحال مع العقل، بما فيه العقل القبلي، حيث يفترض فيه عند القطع أن يكون كاشفاً عن تلك الحقيقة، وفي حالة العقل القبلي لا يحتاج في ذلك إلى تأييد الواقع، مثلما هي الحال مع مبدأ السببية العامة وما إلى ذلك. وبالتالي فان القول: "إن الدليل اللفظي إن كان قطعياً مرجح على الدليل العقلي" يتضمن عدداً من القضايا كالآتي:
فأولاً: إن هذا القول لا بد من أن يفترض كون الدليل العقلي غير قطعي، وذلك كي لا يحصل التناقض. وثانياً إن المقصود بالترجيح في هذا القول هو ما يراد من معنى الخطاب فقط وليس ما هو كاشف عن حقيقة الموضوع الخارجي للوجود والواقع، وذلك ما لم تُضف إلى هذا التضمن اعتبارات أخرى خارجية. وأخيراً فإنه في حالة الإقرار بقطعية كل من الدليلين اللفظي والعقلي، فمعنى ذلك هو أن كلاً منهما صحيح في ميدانه، حيث المقصود من صحة الدليل اللفظي هو من حيث الإصابة في فهم معناه كما هو، أي من حيث وجود التطابق بين ما هو لذاتنا وما هو في ذاته. أما صحة الدليل العقلي فهي من حيث كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي. وهذا يفضي بالنتيجة إلى كذب الدليل اللفظي وتهافت النص، وذلك عند مقارنته بحقيقة الموضوع الخارجي التي يكشف عنها الدليل العقلي. إذ يصبح الدليل اللفظي في هذه الحالة صحيحاً من حيث مفهوم النص، لكنه كاذب في كشفه عن حقيقة الموضوع الخارجي.
* * *
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إن آخر المحاورات التي جرت بين أبي الحسن الأشعري وأستاذه أبي علي الجبائي كانت سبباً في الانفصال بينهما ومن ثم الإعلان عن التشريع العقلي الجديد. إذ سأل الشيخ الأشعري أستاذه الجبائي قائلاً: أيها الشيخ ما قولك في ثلاثة، مؤمن وكافر وصبي؟ فأجاب الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات والصبي من أهل النجاة. فقال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟ أجاب الجبائي: لا، يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها. فقال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن. أجاب الجبائي: يقول له الله: كنت اعلم انك لو بقيت لعصيت ولعوقبت فراعيت مصلحتك وامتلك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف. فرد الشيخ: فلو قال الكافر: يا رب، علمتَ حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟! فانقطع الجبائي.. (السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، مطبعة عيسى الياس الحلبي وشركاه، الطبعة الأولى، 1384هـ _1965م، ج. 3، ص. 356).
(2) علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، الطبعة السابعة، 1977م، ج. 1، ص. 262 و267.
(3) الغزالي: روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي، مصر، 1343هـ ـ 1924م، ص155 و156.
(4) تفصيل ذلك جاء في كتابنا: الاستقراء والمنطق الذاتي، تحت الطبع في مؤسسة الانتشار العربي.
(5) قد يعترض بعض الباحثين على هذا الكلام من حيث أننا لسنا على إطلاع تام بالغيب، ذلك أنه حتى لو لم تظهر لنا مضامين هذه القضايا، مثل عدم ظهور الأسباب بالنسبة إلى قضية السببية العامة، فان عقولنا تفترضها موجودة، وهذا الأمر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. وأكبر شاهد على ذلك حركة الإلكترون العشوائية في العالم الجزيئي. إذ قد يقال: إنّ لهذه الظاهرة أسبابها المجهولة، مع أنه يقال أيضاً: إنَّ هذه الحركة تجري من غير أسباب. وهكذا يمكن أن يُكرر هذا القول مع أي ظاهرة لم تتكشف لنا أسبابها. لكن يجاب على ذلك ان بعملية الفحص الاستقرائي والإحصائي يتوضح أكثر فأكثر ان للظواهر أسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وان ذلك يضعف من احتمال عدم خضوع الظواهر (المعاندة) _ وهي قليلة بطبيعة الحال _ لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وامكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، إلا انه يسوّغ اعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.
(6) راجع في ذلك كتابنا: الأسس المنطقية للاستقراء/بحث وتعليق، مطبعة نمونة، قم، 1985م، ص ، كذلك: الاستقراء والمنطق الذاتي، القسم التخير.
(7) عبد الجبار الهمداني: المحيط بالتكليف، تحقيق عمر السيد عزمي وأحمد فؤاد الأهواني، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، ج1، ص234. ولاحظ أيضاً: أبو جعفر الطوسي: العدة في تصول الفقه، تحقيق محمد رضا الأنصاري القمي، مطبعة ستارة، قم، الطبعة الأولى، 1417هـ، ج. 2، ص. 759.
(8) محمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف، بيروت، 1400هـ _ 1980م، ص. 293 _ 295. وأصول الفقه، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية، 1410هـ _ 1990م.، ج. 1، ص. 195 ـ 196.
(9) المصدر نفسه، ج. 1، ص. 201.
(10) أصول الفقه، ج. 1، ص. 197.
(11) قد يقال: إننا حتى مع هذه القضايا البسيطة لا يمكننا الحكم عليها بالتماثل المطلق، وذلك أننا لسنا على علم دقيق وكامل بأوزانها وأحجامها، حيث مهما حسبنا الوزن والحجم يظل هناك بعض الفوارق التي تخص الحسابات الجزيئية الدقيقة، مثل عدم العلم بعدد ذراتها وأوزانها وما إلى ذلك…
والجواب على ذلك يأتي بوجهين: أحدهما أن الاختلاف بين الأشياء التي نعدها متماثلة هو اختلاف ضئيل للغاية فإما ان يهمل، أو أنه لا يؤثر شيئاً على كون القضية العقلية ثابتة في الحدود النسبية للقيمة الاحتمالية المستنتجة عن التماثل النسبي. وبعبارة أخرى: تصبح القضية العقلية ذات قيمة احتمالية محددة تحديداً مرناً بعض الشيء لما تتضمنه من حدود الاختلاف الضئيل، وبالتالي يمكن إضافة إليها قيمة ضئيلة تُقدر من الجهتين ارتفاعاً وانخفاضاً. والقيمة الأخيرة هي تعبير عن جهلنا بدقة الاختلاف الحاصل، وتصبح القضية الأخيرة غير عقلية باعتبار تلك الإضافة المقدرة. فمثلاً من الناحية التقريبية ان قيمة احتمال ظهور وجه واحد من وجهي قطعة نقد متماثل بقدر عال جداً تساوي نصفاً مع اخذ اعتبار الهامش الضئيل في الإضافة، ولنفرض أنه لا يقل عن واحد من ألف، فتكون القيمة الاحتمالية التقريبية نصفاً مع زائد ناقص واحد من ألف.
أما الجواب الآخر، فالملاحظ ان هذه المشكلة هي مشكلة عملية أكثر منها نظرية، وذلك انه يمكن تطبيق القضية العقلية بشروطها على أنموذج لا يخضع إلى مثل تلك الاعتبارات من الوزن والحجم. فمثلاً لو كانت لدينا خمس أوراق متشابهة ومرقمة من واحد إلى خمسة، وقد أُلقيت مصفوفة أفقياً من دون أن تُرى الأرقام فيها، فإن ذلك سيجعل من قيمة احتمال أن نعرف أي رقم منها قيمة ثابتة عقلياً، وهي واحد من خمسة.
(12) المحيط بالتكليف، ج. 1، ص. 384 و402.
(13) المصدر نفسه ص. 391.
(14) المصدر نفسه، ص. 102.
(15) المصدر نفسه، ص384.
(16) الهمداني: شرح الأصول الخمسة، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، مصر، الطبعة الثالثة، 1416هـ _1996م، ص389 _ 390. والمحيط بالتكليف، ج. 1، ص. 382.
(17) المحيط بالتكليف، ج. 1، ص. 382.
(18) المصدر نفسه، ص. 402.
(19) شرح الأصول الخمسة، ط3، ص51 و90.
(20) المحيط بالتكليف، ج1، ص383.
(21) شرح الأصول الخمسة، ص571.
(22) لويس غرديه وج. قنواتي: فلسفة الفكر الديني، تعريب صبحي الصالح وفريد جبر، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، 1967م، ج3، ص214ـ215.
(23) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة ، دار
دانية ، بيروت ـ دمشق، ص29 و32.
(24) المفيد: أوائل المقالات، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (4)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص129 و130.
(25) عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أُصول الفقه، وهو مطبوع في ذيل كتاب "المستصفى من علم الأُصول للغزالي"، ج1، ص24.
(26) فلسفة الفكر الديني، ج3، ص107ـ109. عن: المواقف، ج1، ص102 و248.
(27) الباقلاني: الانصاف في ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق وتعليق وتقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، مؤسسة الخانجي، ط2، 1963م، ص14.
(28) الغزالي: تهافت الفلاسفة، قدم له وعلق عليه علي بو ملحم، دار ومكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م.، ص. 197 _199.
(29) تهافت الفلاسفة، ص. 238.
(30) لاحظ : محمد حسن المظفر: دلائل الصدق، دار المعلم للطباعة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1396هـ _ 1976م، ج1، ص175 _ 180 ، وابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص519 _ 523.
(31) محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للأصول، مكتبة النجاح في طهران، الطبعة الثانية، ص41ـ43.
(32) فلسفة الفكر الديني، ج3، ص214ـ215.
(33) دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمه وعلّق عليه محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة، الطبعة الرابعة، 1377هـ _ 1957م، ص118.
(34) أبو حامد الغزالي: المستصفى من علم الأصول، المطبعة الأميرية، مصر، ط1، 1322هـ، ج1، ص. 100 و217 و218.
(35) أصول الفقه، ج. 2، ص. 209.
(36) رسائل الشريف المرتضى، إعداد مهدي رجائي، تقديم وإشراف أحمد الحسيني، نشر دار القرآن الكريم، قم، 1405هـ، ج. 1، ص. 20.
(37) رسائل المرتضى، ج. 2، ص. 127.
(38) محمد حسين كاشف الغطاء: أصل الشيعة وأصولها، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف، ط6، ص126.
(39) الرسائل، ج. 2، ص. 372 _ 373.
(40) أبو جعفر الطوسي: عدة الأصول، طبعة قديمة، ص296 وما بعدها. ومحمد أمين الاسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية بتبريز، ص. 233 وما بعدها.
(41) ومن ذلك قوله: "الكلام في الحظر والإباحة فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل" (عدة الأصول، ج. 1، ص. 41).
(42) العدة، ص. 301. والفوائد المدنية، ص. 238 _ 239.
(43) العدة، ص296. والمفيد: تصحيح اعتقادات الإمامية، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م ـ1414هـ، ص143.
(44) محمود الهاشمي: بحوث في علم الأصول، تقرير أبحاث السيد محمد باقر الصدر، المجمع العلمي للامان الصدر، ط1، 1405هـ، ج5، ص11.
(45) العدة ص. 296. والفوائد المدنية، ص233 ـ 234.
(46) المصدر نفسه، ص. 297. والمصدر نفسه، ص. 235.
(47) قيل: إن من عجائب النعامة أنها تبتلع الجمر فيكون جوفها العامل في إطفائه فتغتذي به وتستمرئه. وهي أيضاً تبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء. وقيل أيضاً: إنه إذا حميت صنجة مائة درهم من الحديد حتى تحمر ورميت إليها فإنها تبتلعها وتستمرئها (محمد بن موسى الدميري: حياة الحيوان الكبرى، منشورات الرضي، قم، الطبعة الثانية، 1368هـ ـش، ج2، ص362ـ363. كما لاحظ خلف هذا الكتاب: زكريا بن محمد القزويني: عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، ص286).
(48) البيش هو نبات عشبي معمر وسام قاتل يعيش في المناطق الجبلية، ويستعمل في الطب كدواء لعلاج التشنج (المنجد في اللغة، دار المشرق، بيروت، الطبعة الخامسة والثلاثون، 1996م، مادة بيش). وقيل عنه انه نبات بأرض الصين يؤكل في تلك البلاد وهو أخضر، فإذا يبس كان قوتاً لأهل الصين من دون أن يضرهم منه شيء، لكن لو بعد عن هذه البلاد ولو مائة ذراع وأكله آكل لمات من ساعته (حياة الحيوان الكبرى، ج. 1، ص573).
(49) عدة الاصول ، طبعة قديمة، ص301ـ302، والطبعة المحققة الحديثة، ج2، ص750ـ751. والفوائد المدنية، ص239ـ240.
(50) بحوث في علم الأصول، ج5، ص28ـ29.
(51) بحوث في علم الأصول، ج5، ص42. كذلك: محمد باقر الصدر: دروس في علم الأصول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ط4، 7141هـ، ج3، ص35 وما بعدها.
(52) بحوث في علم الأصول، ج5، ص24.
(53) المصدر نفسه، ج. 5، ص. 79.
(54) لاحظ رأي الأشاعرة في كل من: أبو الحسن الأشعري: اللمع، مطبعة مصر، 1955م، ص67ـ68. والباقلاني: التمهيد، تصحيح الأب رتشرد يوسف اليسوعي، المكتبة الشرقية، بيروت، 1957م، ص266. والجويني: لمع الأدلة، تقديم وتحقيق فوقية حسين محمود، الدار المصرية، الطبعة الأولى، 1385هـ ـ1965م، ص101. والغزالي: الاقتصاد في الاعتقاد، دار الأمانة، بيروت، 1388هـ _ 1969م، ص. 107.
(55) الفخر الرازي: التفسير الكبير، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، ج. 14، ص. 228.