قراءةٌ موجزة
د. محمد جداري عالي(*)
تمهيدٌ ــــــ
كتاب (اقتصادنا) للشهيد محمد باقر الصدر هو الكتاب الذي اختصّ بنقد المذاهب الاقتصاديّة في العالم، ثم قدّم نظريّة الإسلام الاقتصاديّة بديلاً عنها. وهنا يبرهن الشهيد الصدر بالدليل القاطع على قدرة الإسلام في تولّي مشاريع التنمية الاقتصاديّة في العالم الإسلاميّ وتسيير حياة الإنسان. إلاّ أنّ التحولات الاقتصاديّة الحسّاسة التي طرأت على العالم كانت قد أثّرت على نظريّات هذا الكتاب ومعطياته، الأمر الذي جعل من الضرورة بمكان مراجعته ونقد محتوياته.
1ـ (اقتصادنا) الأطروحة ــــــ
من الناحية التاريخيّة فإنّ الكتاب جاء كردّة فعلٍ على تنامي المدّ الشيوعي في الشرق العربيّ. لكنّ الشهيد الصدر ذهب إلى أبعد من ذلك، فصار يفكِّر في وضع البديل. ويمكن تقويم الأطروحة في إطار مسألتين:
1ـ الزمان الذي كتبت فيه الأطروحة.
2ـ التجارب العمليّة التي استفدنا منها منذ كتابة الأطروحة.
هنالك بعض المستجدات التي أثَّرت على نتائج الكتاب، ومنها:
1ـ نظام القطبيّة الأحاديّة وتأثيرها على الاقتصاد العالميّ.
2ـ سيطرة التنافس الاقتصاديّ البحث.
3ـ سيطرة التضخّم الاقتصاديّ وتباطؤ النموّ على الاقتصاد الغربيّ في الستّينات والسبعينات، وحتّى الثمانينات.
يكاد يكون ثلث الكتاب بمثابة نقد ودحض للنظريّة الماركسيّة، التي لم يعد لها أثرٌ يذكر. وعلى الرغم من هيمنة النظام الرأسماليّ على العالم والدول الإسلاميّة في الوقت الحاضر فإنّ (اقتصادنا) لم يمنح هذا الموضوع سوى 1/12 من مجموع الكتاب.
2ـ الاقتصاد الإسلاميّ في (اقتصادنا) ــــــ
ينطق (اقتصادنا) من فكرة أن تطبيق (الاقتصاد الإسلاميّ) لا يتحقَّق لوحده، ولابدّ أن ينضوي ضمن المنظومة الإسلاميّة المتكاملة. وهذا يتطلَّب ثلاثة شروط:
أـ نظام فكريّ إيمانيّ إسلاميّ يحظى بقبول الأفراد في صورته العامّة.
ب ـ تقييم الأشياء والمواضيع في المجتمع على أساس أولويّة الإسلام وتعاليمه.
ج ـ أن تكون ردود أفعال الناس العاطفيّة والنفسيّة إسلاميّة أيضاً.
وهنا يكمن الفرق الأساسيّ بين ما يقدِّمه (اقتصادنا) في نظريّة (الاقتصاد ضمن الإسلام)، وضمن الأطر الإسلاميّة، وبين ما طرحه الآخرون في نظريّاتهم الإسلاميّة حول الموضوع.
علماً أنّ (اقتصادنا) يرفض أيّ منهج ترقيعيّ لسدّ الثغرات الاقتصاديّة إسلاميّاً في اقتصاد دول غير مسلمة. كما يرفض أيضاً تحويل (الاقتصاد الإسلاميّ) إلى علم. لكنّه يفسِّر العلاقة بين الاثنين، فيقول: «يحدِّد المجتمع الإسلاميّ أوّلاً الأهداف التي يريد التوصُّل إليها اقتصاديّاً، ثم بعد ذلك يتمّ تشكيل الهياكل والخطط والسياسات الاقتصاديّة التي توصله إلى تلك الأهداف، ويمكن أن تستعمل القواعد العلميّة الاقتصاديّة في هذه الخطط، وتساعد على تعيين وتقرير الحقائق الاقتصاديّة، وتساعد في فهم الفرضيّات والاحتمالات في الممارسات الاقتصاديّة، بغضّ النظر عن الأبعاد الثقافيّة والدينيّة في كلّ مجتمع».
3ـ (اقتصادنا) والرأسماليّة ــــــ
لقد اتَّبع (اقتصادنا) طريقة تاريخيّة في نقده الرأسماليّة. فتتبَّع الخطوات التاريخيّة للرأسماليّة واصفاً وناقداً ومهدِّماً الأسس الفكريّة للرأسماليّة. وكان النقد والتجريح هو الأقوى في (اقتصادنا) عندما تعرَّض إلى الأفكار الرأسماليّة ومفكّريها في القرن التاسع عشر، وتناول بالنقد أفكارهم الليبراليّة، ولكنْ لم يتطرَّق إلى الأفكار المعاصرة الحديثة لاقتصاد السوق ـ أي الاقتصاد الحرّ المعاصر ـ. لكنْ منذ الستّينات وحتّى اليوم تعرّض الفكرالاقتصاديّ الغربيّ إلى تطوّرات وتحوّلات هائلة، من قبيل: ظهور التفكير النقديّ، والاقتصاد التقليديّ المتجدِّد، ونظريّة التطوّر والنموّ الاقتصاديّ. وعليه يمكن القول بأنّ (اقتصادنا) كان بحثاً نظريّاً حلّق في علوه في عنان السماء، ولكنّه كان يحتاج إلى محاكاة الواقع العمليّ، سواءٌ في دحضه النظريّ للرأسماليّة أو تصدّيه للأسس النظريّة للماركسيّة، وحتّى في طرحه البديل الإسلاميّ، الموسوم بـ (المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ).
4ـ التطبيقات والخطط العمليّة للاقتصاد الإسلاميّ ــــــ
هذه هي القضية التي تركت بدون توضيح، فلم تطرح رؤية واضحة عن كيفية تشكيل وإدارة المؤسَّسات الاقتصاديّة للدول في حال قيامها، ولا كيفية عمل هذه المؤسَّسات في حال قيام دولة تقوم على معانٍ وأسس فكريّة وثقافيّة إسلاميّة. فماذا لو جاء السيد الصدر وأعاد كتابة (اقتصادنا) في ضوء أحداث العقدين الماضيين، وخاصّةً بعد عشرين عاماً من ظهور المجتمع الإسلاميّ في إيران، أو بعد عشرة أعوام من الحكم الإسلاميّ في السودان، أو تأسيس وتطوير عدد من المؤسَّسات الاقتصاديّة الإسلاميّة في عدّة أقطار مسلمة، أو انهيار النظام الماركسيّ والسيطرة الكاملة لاقتصاد السوق؟
لو كان صاحب الكتاب حيّاً لنظر بعين الشكّ والريبة لإقامة مؤسَّسات اقتصاديّة إسلاميّة، مثل: المعارف الإسلاميّة، في مجتمعات غير مؤسلمة؛ لأنّ الاقتصاد في الإسلام هو شأنٌ سياسيّ، وجزءٌ لا يتجزّأ من شؤون السلطة السياسيّة.
5ـ (اقتصادنا) بعد نصف قرن ــــــ
لا شكّ أن كتاب (اقتصادنا) كان كتاب زمانه، ورائداً في مجاله، ولا شكّ أنّ قسماً كبيراً منه لا زال حيّاً. وفي الوقت نفسه طرأت تحوّلات سياسيّة واقتصاديّة واسعة في العالم، والعالم الإسلاميّ، خلال الخمسين المنصرمة. لذا هناك فصولٌ في (اقتصادنا) بحاجة إلى إعادة كتابة، وأخرى إلى توسعة، وأخرى إلى شرح، وأخرى إلى تحديث، وأخرى إلى تعليق، وأخرى إلى تعديل.
ليس هناك أحدٌ يستطيع مراجعة (اقتصادنا) وتحديثه إلاّ إذا كان شخصيّة عبقريّة وفذّة، مثل: الشهيد محمد باقر الصدر.
_____________________
(*) باحثٌ في مجال الاقتصاد الإسلاميّ.