أ. نبيل علي صالح(*)
على خلفيّة ما جرى (ويجري حالياً) في عالمنا العربي من انتفاضات وثورات شبابية شعبية، نجحت بعضها في قلب الأوضاع السابقة للنظم المستبدة العقيمة والرثّة والقديمة، وانطلقت في محاولات صعبة لإحداث مسارات التغيير المنشودة التي بدأت تسير عليه قاطرة الدولة الجديدة. وبعضُها الآخر لا يزال يعيش مخاضاتٍ عسيرة يواجه فيها جدران التغيير المسدودة حتّى الآن في وجه إسقاط النظام، وتحطيم ثالوث الحكم السلطوي العربي المؤبَّد (الاستبداد ـ الفساد ـ البطالة) والمتواصل منذ عهود طويلة. بحيث إنها غيَّرت كثيراً في طبيعة النظرة التقليدية النمطية القائمة، التي كانت تتحكّم بتصوّرات وتقييمات النخب الثقافية والسياسية العربية والدولية للمواطن العربي، ومفادها أن العرب مجرّد ظاهرة صوتية لا فعل لهم، وأنهم ليسوا إلاّ مجموعة شعوب مستكينة، خانعة وقانعة وخاضعة لطاعة السلطان الحاكم، ولهذا فهي عصيّة على التغيير أو الإصلاح…
وبناءً على ما شاهدناه ولاحظناه واقعياً وعملياً من أحداث وتحوّلات داخلية كبيرة في مجتمعات تونس ومصر وليبيا على مستوى بنية الحكم والنظم والمؤسّسات، وما جرى ويجري في سوريا من مقتلةٍ مستمرة، وما جرى من تداعيات وإرهاصات في دول عديدة أخرى، كالبحرين والأردن والسودان، وكيفية تعاطي منظومات الحكم السياسي في كلٍّ منها مع تلك الأحداث المهمة، وماهيّة ردود أفعال السلطات الحاكمة، بمختلف مؤسّساتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية، عليها…
بالاستناد إلى ذلك كلّه نتساءل فكرياً: هل يمكن بعد كلّ ما جرى ـ وربما بل المؤكَّد أنه سيجري ـ أن نتحدّث عن إمكانية وجود علاقات عربية داخلية سوية ومتوازنة، يمكن أن تقوم بين أفراد المجتمعات العربية وبين سلطاتهم ونخبهم الحاكمة، مرتكزة على حياة سياسية وعملية قانونية ودستورية صحيحة ومتوازنة، وممارسات منظّمة فاعلة، يمكن أن تسمح بحلّ مجمل الاستعصاءات والنزاعات التي تواجهها، عن طريق الحوار السلمي، والتسويات المتبادلة، القائمة على مساهمات مشتركة بين مختلف الأفرقاء؟!
وبمعنىً آخر: هل يمكن أن يشيد العرب حالياً، أو في المستقبل القريب، من خلال أطقم الحكم الجدد من الإسلاميين الذين همشوا في السابق، حياةً مدنية صحّية تقوم على فكرة التعدُّدية والتنوع و«الديمقراطية» الحقيقية، وليس الشكلية، والتداول السلمي للسلطة، وبناء مدنية المجتمع، وتعميم حرّيات الناس العامة والخاصة، وقبول مشاركة كافّة الجماعات السياسية ومختلف التنظيمات والمكوّنات المجتمعية في العملية السياسية، بما يضمن عدم وصول أو قفز أيّ تيار أو حزب أو فرد إلى الحكم، ليمارس من جديدٍ سلطة ديكتاتورية قمعية، ويبني مؤسّسات فساد وإفساد، كالتي كانت موجودة في تلك الدول؟!
هل يمكن أن تفضي تلك الثورات الشعبية، التي طال انتظارها عقوداً طويلة من القهر والاستبداد، إلى مناخٍ سياسي وحياة سياسية سلمية تداولية، لا احتكار فيها للسلطة من قبل شخصٍ أو حزب أو تيّار ديني أو غير ديني؟! وهل يمكن للثقافة العربية التقليدية، القائمة على جوهريّة النصّ الديني وحاكمية الشريعة، أن تسمح ـ من خلال ممثّليها ورموزها ونخبها وتياراتها الكبيرة ـ بنشوء مثل تلك الحياة السياسية المدنية، القائمة على مفردتي «العلمنة» و«الديمقراطية» كشرطين أساسين لمدنيّة وحرّية المجتمعات العربية؟!
في الواقع إن ما لاحظناه في مجتمعاتنا من حضورٍ كثيف وشبه دائم لثقافة الماضي في الحاضر الراهن، على كلّ المستويات الذاتية (الفردية والأسرية) والموضوعية (المجتمعية والمؤسّساتية)، ومن وجود سطوةٍ غير طبيعية لرجال الدين (يحصلون عليها من خلال خاصية «الفتوى») ، ولجوء الناس في مختلف الظروف ـ وخاصّة الاستثنائية منها ـ إلى ذاتية التكوينات والتضامنات القديمة البدائية، وغياب أو تغييب ثقافة الأصول القانونية المؤسّساتية المدنية، يجعلنا نتحفَّظ كثيراً على تفاؤلنا السابق، ونبدي الكثير من الشكّ في أن تبدأ بلداننا بالسير على طريق الديمقراطية والحكم الصالح، القائم على الحرّية وحكم القانون والمؤسّسات، بعيداً عن مناخ وعقائد وممارسات الأصوليين.
والذي نلاحظه هنا أنه عند أيّ مفصلٍ تاريخي أو منعطف حيوي تمرّ به تلك المجتمعات نجد كثيراً من الناس عندنا يُقْبلون ـ بحكم ثقافة الطاعة الدينية ـ على أخذ آراء وتوجيهات مواقع ورموز الدين بعين الاعتبار على مستوى الالتزام القانوني العملي (تحليلاً وتحريماً)، ويعيشون ويتحرّكون ـ على مستوى ترتيب وتنظيم علاقاتهم في مختلف مجالات الانتظام الاجتماعي ـ بالاستناد إلى مفاهيم وضوابط متنوّعة، تتقوّم فقط بمفهومٍ وحيد، هو القوّة الممتدّة من الأسرة؛ باعتبارها الحاضن الأوّلي له، إلى مختلف مؤسَّسات وهياكل بنى الدولة المتعدّدة. فمثلاً: الانطباع السائد في مجتمعاتنا ـ المتغلغل في لا وَعْيها ـ عن فكرة «العلمنة» مأخوذٌ من رموز الدين فقط، (أو من بعض تطبيقاتها السلبية من قبل أصحابها أنفسهم، كما لاحظناها في تجلّيات العلمنة المستبدّة الإقصائية الإلغائية في كثيرٍ من الدول)، وهو انطباعٌ سيّئٌ للغاية، يتمحور حول أن «مفهوم العلمنة ملازم للفحش والإفساد والغواية والانحراف الأخلاقي والسلوكي»!، وأن «العلمنة تفسد عقول وأخلاق الشباب، وتحرفهم عن جادة الصواب، بحيث تبدو ـ كما يقدّمها معظم رموز التيار الإسلامي، المتطرّف منهم والمعتدل ـ وكأنها ملازمة للشيطان»!؛ أو «أن العلمنة ليست سوى زندقة وإلحاد وكفر بواح».
طبعاً لا بُدَّ من الانتباه هنا إلى أن تأكيدنا على أن تلك المعيقات التي قد تقف حائلاً أمام نموّ وتطوّر وبناء الهيكل الديمقراطي الحقيقي، القادر على خلق مناخ سياسي ملائم لنهضة مجتمعاتنا العربية الإسلامية على طريق النموّ والتعافي الاقتصادي والاجتماعي بعد عقودٍ طويلة من هيمنة التخلُّف والاستبداد، لا يستهدف الدين ذاته، باعتباره قيمةً روحية سامية تتعالى على اللحظوي والسياسوي والتحزُّبات الضيقة.ونحن نعرف أن كل الأنظمة، وفي طليعتها الأنظمة في تونس وسورية ومصر قالت للغرب الأوروبي والأميركي: لا شيء من بعدنا غير الفوضى أو الإسلاميين! والإسلام كدين منفتح على الحياة والعصر ليس هو المقصود والمعنيّ في نقدنا السابق، ولا نحمِّله المسؤولية عن وجود ثقافة دينية متعصّبة، ترفض الآخر، وتكرّس مناخ الانغلاق على الأفكار والعقائد الأصولية القديمة، كما لا نحمِّله مسؤولية هذه الحالة من الفراغ القانوني وشيوع ثقافة الاستهتار بالأصول القانونية الأخلاقية التي تسود في مجتمعاتنا العربية عموماً؛ فالأديان كلُّها ـ كما يجب أن تكون تفسيراً وتأويلاً ـ تدعو بصورةٍ عامة إلى قيم التسامح والمحبة والاعتدال والتواصل والإخاء الإنساني، وتكريس قِيَم التعارف وكلّ الأخلاقيات العملية، التي من شأنها أن ترسِّخ الوجود الإنساني الفاعل المحبّ للحياة، وتعزِّز أفكار وثقافة الحوار والانفتاح بين الناس جميعاً، على اختلاف مللهم وأديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم. وإنما المقصود مما تقدَّم من تحليلٍ نقدي هو كلّ تلك التراكمات والشروحات والتفسيرات والتأويلات التي يتغطّى بها كثيرٌ من رجال الدين، حيث تمّ تقديمها للناس بصفة أنها نصوص دينية مقدّسة، معبِّرة عن إرادة الدين ذاته. وهي لم تكُنْ كذلك، بل صاغَتْها عقول بشرية تخطئ وتصيب، وكانت بمجملها مجرّد شروحات على نصوص تناسب تلك المراحل التاريخية والعصور الزمنية القديمة التي عاش فيها رجال وعلماء الدين.
كما أن النظم السياسية التي تعاقبَتْ على منطقتنا العربية تتحمَّل؛ بتسلُّطها وعنجيتها واستبدادها وسوء أفعالها وممارساتها للعنف والعسف اليومي، المادي والرمزي، بحقّ الناس والشعوب، تتحمَّل المسؤولية الكاملة عن حالة الفراغ الأخلاقي والقانوني الحاصلة؛ باعتبار أنها لم تؤسِّس أيّ بنى قانونية صحيحة، بل اعتبرت أقوال وممارسات زعاماتها الفرعونية التسلُّطية هي القانون المعبِّر عن إرادة «الحاكم ـ الإله»، المضاف إلى قانونٍ آخر، هو قانون ومنطق القوّة العارية، والخوف الأعمى البدائي؛ بحكم اغتصابها للسلطة وإرادة الناس. فالحاكم الأعلى هو المعبِّر عن مجموع الأمة، وهو الممثِّل والمعلِّم والمربّي لأبنائها، وهو صانع القانون ومصدر الفكر التشريعي، وهو ملهم آمال وتطلُّعات جماهير الأمّة.
من هنا اعتقادنا بأن وجود مثل هذه المفاهيم والتصوّرات التقليدية والانطباعات النمطية الخاطئة عن مفاهيم وتصوّرات فكرية تخصّ آليات العمل السياسي القائم على منطق الحرّية وحقّ الناس في خوض غمار تحقيق مصائرها بنفسها، وعلى مسؤوليّتها، بات يشكِّل ضرورة حيوية للبدء ببناء مجتمعات مدنية عربية محكومة بالعقل والعلم والسلام المجتمعي الداخلي، يقتضي منا الإسراع في حلّ عقدة هذا الإشكال المركوز في ساحة اللا وَعْي لمجتمعاتنا. والخطوة الأولى هي في نشر ثقافة العقل والحوار والتسامح الديني والسياسي، من خلال القيام بنوعين من الإصلاح: سياسي؛ وقبله ديني.
أما الإصلاح الديني المطلوب فيعني ضرورة إعمال حركة النقد والتجديد في كثيرٍ من مفاهيم وطروحات وأفكار الدين التي لم تعُدْ صالحة للعصر والحياة، والسير على هُدى العقل والعلم، وترك الكثير من المقولات الأيديولوجية الدينية التاريخية العتيقة، التي لم تعُدْ قابلةً للصرف في عالم اليوم والغد، مع الاستجابة الواعية لمتطلَّبات الحياة والعصر، بما فيها أسئلة العلم والعصر التي أشعلتها ثورات المعرفة والانفجارات العلمية، منذ بدء عصر الاكتشافات العلمية وحتّى عصر الذرّة والإنترنت وزمن التدفُّق المعلوماتي والتواصل الإلكتروني العابر للقارّات والحدود والحواجز. حيث إن الحياة العلمية المرتكزة على الأخلاق العملية الإنسانية باتت تشكِّل قاعدة للتطوّر الحياتي المجتمعي، وخاصّة بعد ما طرح على تلك المجتمعات من أسئلة وتحدّيات مصيرية، على مستوى الاقتصاد السياسي وعلم النفس الاجتماعي وثورات المعرفة الإنسانية.
أما الإصلاح السياسي المطلوب فلا بُدَّ أن يقوم على تعزيز مناخ الحرّيات العامة، ومفاهيم ومبادئ حقوق الإنسان، وضمان حقّ المشاركة السياسية للجميع تحت سقف الوطن والحكم الصالح.
والدين، كحالة حضارية في الفكر والإحساس والممارسة (بتعبير العلاّمة المرجع محمد حسين فضل الله)، لا يقف على طرفي نقيضٍ من هذين الإصلاحين، بل هو مع أيّ فكرة تحقِّق تواجداً منتجاً للإنسان في الحياة؛ حيث إنه يدعو ويحضّ على تمثُّل كلّ تلك القيم التي تؤدّي إلى تعزيز وجود الإنسان الحيّ المُبْدِع والمتفاعل في الحياة، وضمان تحقيق وجوده بالطريقة الأفضل والأمثل والأرقى، فكراً وعملاً.
والواقع أن تجارب انتفاضات وثورات الربيع العربي أكَّدت أن المشكلة الأساسية والعطالة الحقيقية قائمة في بنية النظام السياسي الرسمي العربي القائم، ولا تكمن في الدين، ولا حتّى في طبيعة الوعي التقليدي القديم والجديد للإسلام والإسلاميين ككُلّ، مع اعترافنا بماضوية وقصور كثيرٍ من آليات ومفاهيم الخطاب الفكري الإسلامي ذاته.
إن السبب هو في بنية السلطات العصابية الرسمية العربية، المتوحِّشة والمتغولة كما ذكرنا. كما أكَّدت تلك الأحداث أن الدين لا يمانع الحداثة والتطوُّر السياسي المدني، ولا يمكن أن يقف حائلاً دون تقبُّل، ومن ثم تثبيت وإحلال، الفكر الديمقراطي والتداول على السلطة ومشاركة الناس؛ حيث لاحظنا أن الجماهير في تونس ومصر وليبيا ترفع شعارات سياسية مدنية، سقفها بناء الوطن لكلّ أبنائه، وأنها ثورات لا تخصّ جماعة الإخوان المسلمين ولا غيرهم فقط من التيارات الإسلامية، بل هي لعموم أبناء تلك المجتمعات، الذاهبة حتماً إلى إقامة مجتمعات مدنية ديمقراطية، محكومة بقوانين عصرية مؤسّساتية، ولو بعد حين (سنوات أو عدّة عقود، بحسب الظروف والمصالح وحجم المعضلات السياسية والاقتصادية العربية الكبيرة، بلا أدنى شكّ، وأيضاً بحسب القدرة الذاتية على الفعل لدى أبناء الوطن)، بعد انتظار تلك المجتمعات لزمنٍ طويل على رصيف الانتظار السلبي، بعدما انسدَّتْ جميع آفاق وقنوات التغيير؛ نتيجة عجز (وعدم وجود مصلحة) تلك الأنظمة الطاغوتية المغلقة عن القيام بالإصلاحات والتغييرات الحقيقية المطلوبة.
وها هي جماهير العالم العربي، من أقصاه إلى أقصاه، تنادي وتطالب بإقامة دولة القانون والمؤسّسات، دولة يُحترَم فيها الإنسان، وتُعطى له فيها كلّ حقوقه الأساسية، ويقام فيها حكم المواطنة الصالحة، وتنطلق فيها مفاعيل التنمية المتوازنة، وتؤسّس مناخات صحية لتوزيع الثروة بصورةٍ عادلة بين أبناء وأفراد تلك المجتمعات.
أخيراً ننوِّه ونعاود التذكير بأنه إذا أردنا أن يكون لنا ـ كعَرَب أصحاب حضارة ورسالة إنسانية ـ موقعٌ ودور مهمّين، ومساهمة حضارية فاعلة ومنتجة ومساهِمة مع الآخرين في بناء الحياة من موقع الأخوّة والعدل والتسامح والمشاركة الواعية الفاعلة، وأن نستفيد كثيراً ممّا يحدث عندنا من ثوراتٍ بعد عصور ركود طويلة، ليس لنا من بديلٍ إلاّ التحرُّك على هذا المسار والسبيل الصحيح والصعب والشائك، ولكنْ الممتلئ بالنتائج الإيجابية الباهرة على صعيد الفرد والمجتمع والدولة ككلّ. إنه مسار التغيير السياسي والاقتصادي، المؤدّي إلى إعطاء الناس حقوقهم، وتأمين متطلّبات وجودهم الحيّ الخلاّق والمبدِع. وقبل ذلك إقرار وتثبيت ثقافة الحرّية الفردية. فالإنسان هو ـ أوّلاً وأخيراً ـ سيّد الوجود، وعلة الحياة، ومن أجله خُلق وابتدع كلّ شيء.
_____________________
(*) كاتبٌ وباحثٌ في الفكر الإسلامي المعاصر. من سوريا.