قراءةٌ في العلاقة بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية
د. أبو القاسم فنائي(*)
مقدّمة
«قوام المرء عقله، ولا دين لمَنْ لا عقل له»([1]) (النبيّ الأكرم|).
يسعى كلٌّ من الدين والأخلاق إلى إضفاء المعنى والمفهوم على حياة الإنسان، ويعملان على توجيه هذا الإنسان وهدايته إلى التأمّل والتدبّر في لوازم ومقتضيات هويته الإنسانية، وهداية سلوكه تجاه نفسه والآخرين. إلاّ أن الدور والتأثير الإيجابي والبنّاء للدين والأخلاق في حياتنا وسلوكنا نحن البشر، وكما هو مرتبطٌ في الحدّ الأدنى بذات الدين والأخلاق، هو مرتبطٌ أيضاً بإدراكنا وفهمنا للعلاقة القائمة بين الدين والأخلاق. وإن هذا الإدراك والفهم يلعب دوراً محورياً وجوهرياً في سعادتنا وشقائنا وانحطاطنا وتكاملنا على المستوى الديني والأخلاقي.
يبدو أن لا وجود للشكّ والترديد في الارتباط والعلقة التاريخية بين الدين والأخلاق. وإذا كان هناك من شكٍّ فإنه يكمن في التبعية الأنطولوجية أو المنطقية والمعرفية لكلٍّ منهما تجاه الآخر. كما لا يوجد شكٌّ في أن الأخلاق التي ورثها الإنسان المعاصر عن أسلافه قد ازدهرت ضمن رؤية دينية، وإنها مدينةٌ في تبريرها العقلاني ودعامتها النفسية عند المتقدِّمين إلى تلك الرؤية إلى حدٍّ كبير. وإذا كان هناك من نزاع فيكمن في الأسئلة التالية:
1ـ هل هذه العلاقة هي حصيلة مجرّد صدفة واقتران تاريخي أم أنها ناشئة عن ضرورة وجودية أو منطقية؟
2ـ هل يمكن تبرير الالتزام بهذه الأخلاق دون الالتزام بتلك الرؤية على المستوى العقلاني؟([2]).
3ـ هل القِيَم الأخلاقية تكتسب تبريرها العقلاني وقوّة دفعها من المعتقدات الدينية حصراً أو يمكن العثور على أساس عقلاني ودافع مستقلّ لها؟
وبعبارةٍ أخرى:
4ـ هل التبرير العقلاني للمعايير الأخلاقية يتمّ من خلال الاستناد إلى الرؤية العلمانية أو أنه ممكنٌ دون الالتزام برؤيةٍ خاصة؟
5ـ هل يمكن لنا أن نتبنّى أخلاقاً تلتزم جانب الحياد تجاه الآراء المختلفة، والعمل على تنظيم العلاقة بين أصحاب تلك الآراء بشكلٍ يلتزم جانب العدل والإنصاف، ويمهد الأرضية المناسبة للتعاون الاجتماعي والتعايش السلمي بين الكفار والمؤمنين، أو أنه لا يوجد طريق لتنظيم العلاقة بين أصحاب الآراء والعقائد المختلفة إلاّ من خلال إشعال الحروب وإراقة الدماء، وانتصار فئةٍ على أخرى، وانتهاج العنف والغلبة؟
ويمكن طرح هذه الأسئلة على النحو التالي أيضاً:
6ـ هل الآراء المختلفة متباينة تماماً، ولا تقبل القياس؟
7ـ هل الاختلاف في الرؤى يؤدّي بالضرورة إلى الاختلاف في القِيَم الأخلاقية المتَّفق عليها بين أصحاب تلك الآراء؟
8ـ ألا يمكن لنا ـ من خلال الاستناد إلى المشتركات المتَّفق عليها بين العقائد المختلفة ـ أن نؤسِّس لأخلاق عالمية شاملة تلتزم جانب الحياد تجاه خصوصيات كلّ واحدة من تلك العقائد، وتنظر إلى جميع الناس بنظرةٍ متساوية، ويكون ذلك مقبولاً من قبل الجميع، وملزِماً لهم على السواء؟
9ـ ألا يمكن تعريف إنسانية الإنسان بحيث تشمل جميع الناس، بعيداً عن اللون والعِرْق والدين والمذهب والوطن والجنس؟
10ـ ألا يمكن أن نستخرج من صلب الهوية الإنسانية أخلاقاً شمولية تقوم على رؤية تفوق الدين، ولا تنظر لغير الهوية والكرامة الإنسانية؟
11ـ هل الأخلاق يجب أن تدور حول محور الله فقط أم يمكن لها أن تدور حول محور الإنسان أيضاً؟
12ـ هل الأخلاق التي تدور حول محور الله والأخلاق التي تدور حول محور الإنسان متنافيتان بالضرورة، أو يمكن للأخلاق التي تبدأ من الله والأخلاق التي تبدأ من الإنسان أن تؤدِّيا إلى غاية واحدة؟
إن لبّ جميع هذه الأسئلة يعود إلى السؤال الجوهري والأساس حول ماهية العلاقة بين الدين والأخلاق.
ويمكن بيان السؤال بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق على شكل سؤال عن الله أيضاً: «هل الله موجود أخلاقي أم يتخطّى الأخلاق؟»، أي هل أنّ الله يتَّصف بالصفات الأخلاقية أم لا؟ هذا أولاً.
وثانياً: هل إرادته وفعله تابع للقِيَم والواجبات الأخلاقية أم الأمر على العكس من ذلك، بمعنى أن القِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية هي التابعة لإرادته وفعله؟([3]).
وعلى أيّ حال فإن أصل العلاقة والارتباط الوثيق بين الدين والأخلاق من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى إقامة دليل وبرهان؛ لأن تربية وتهذيب الناس على المستوى الأخلاقي من الأهداف الرئيسة لجميع الأنبياء، وإن الجزء الأكبر من النصوص الدينية لمختلف الأديان يختصّ بالمسائل والموضوعات الأخلاقية والوصايا والتوجيهات العملية. ومن الناحية الدينية فإن السير والسلوك الأخلاقي يمثِّل شرطاً لفلاح الإنسان، ومقدّمة ضرورية للحصول على التجربة الدينية. من هنا يرى بعض المختصّين في الدين أن الأخلاق تمثل بُعْداً ضرورياً من أبعاد الدين، وهناك مَنْ ذهب ـ في مقام التأكيد على عمق العلاقة بين الدين والأخلاق ـ إلى القول بأن الأخلاق تمثِّل جوهر الدين. بَيْدَ أنّه حتّى إذا اعتبرنا جوهر الدين شيئاً آخر غير الأخلاق لا يسعنا أن ننكر الارتباط الوثيق بين الدين والأخلاق. فعلى سبيل المثال: لو اعتبرنا جوهر الدين هو التجربة الدينية (لقاء الله)، أو التعلق النهائي، أو الإيمان بشيء يمنح الحياة معنىً ومفهوماً، أو القول باعتقاد معنوي وأمور من هذا النوع، يمكن لنا مع ذلك أن ندَّعي بأن التجربة الدينية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتجربة الأخلاقية والسير والسلوك الأخلاقي، وأن الالتزام بالقِيَم الأخلاقية يعمل في الحدِّ الأدنى على تسهيل وتسريع التجارب الدينية، وأن التعلق النهائي والالتزام برؤية اعتقادية خاصة يستلزم ويتضمَّن القول بمنظومةٍ من القِيَم والمعايير، وهكذا.
ومع ذلك فإن ماهية العلاقة بين الدين والأخلاق بحاجةٍ إلى بيان. ونحن مضطرون إلى اتخاذ موقف واضح وشفاف في هذا الشأن. إن الإدراك والفهم الذي نمتلكه بشأن ماهية العلاقة بين الدين والأخلاق يحتوي على تداعيات نظرية وعملية هامة ومصيرية. وتتجلّى التبعات النظرية والمعرفية لهذا الفهم في مقام «المعرفة الدينية»، و«المعرفة الأخلاقية»، وخاصّة في مقام حلّ التعارض القائم بين الدين والأخلاق. إن كلاًّ من المعرفة الدينية والمعرفة الأخلاقية تتعرَّض بفعل النظريات المطروحة بشأن العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق إلى نوعٍ من القبض والبسط؛ لأن البيان الذي نلتزمه بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق سيحدثنا عن الدور الذي يلعبه كلّ واحد من الدين والأخلاق في فهم ومعرفة وتبرير الآخر، أو يجب أن يكون له مثل هذا الدور، وكيفيّة الحلّ عند وقوع التعارض بين الدين والأخلاق. وإن التداعيات العملية لهذه العلاقة تظهر على السلوك الفردي والجماعي؛ لأن التصوّر الذي يحمله المتديِّنون في أذهانهم عن العلاقة بين الدين والأخلاق يحدّثهم بما يجب عليهم من السلوك في مقام العمل بالأحكام الدينية والأخلاقية، وخاصّة عند تعارض الأحكام والأوامر الدينية مع المعايير والقِيَم الأخلاقية.
إن العلاقة بين الدين والأخلاق تمثِّل واحدةً من المسائل المشتركة لفلسفة الأخلاق، وفلسفة الدين، والكلام (اللاهوت)، وفلسفة السياسة، وهي جديرةٌ بالدراسة والتأمُّل الفلسفي من جهاتٍ عديدة. يقول ريتشارد ماو: «يسعى كلٌّ من الدين والأخلاق إلى الإجابة عن السؤال القائل: كيف ينبغي للإنسان أن ينظِّم حياته؛ كي تزدهر إنسانيته؟»([4]). وحيث إن هذا السؤال يشكِّل هاجساً ملحّاً بالنسبة إلى الفلاسفة فإنهم يضطرّون إلى توظيف الفلسفة في ما يرتبط بالعلاقة بين الدين والأخلاق. وهو يرى أن الفلاسفة الذين يدرسون العلاقة بين الدين والأخلاق يبحثون بشكلٍ خاصّ في الموضوعات التالية:
1ـ مرجعية الله والحياة الأخلاقية.
2ـ دور الدين في تنمية الهوية، وبلوغ الإنسان أخلاقياً.
3ـ دور الرؤية الدينية في بلورة تصوّراتنا بشأن المسائل الأخلاقية.
4ـ قدرة النُظُم الأخلاقية الدينية على الإجابة عن مسائل الأخلاق العملية.
تعدّ العلاقة بين الدين والأخلاق واحدة من مسائل فلسفة الأخلاق؛ لأن الموقف الذي يتَّخذه الفرد في ما يرتبط بهذه العلاقة يعتبر في الحقيقة موقفاً «فوق أخلاقي»([5]) في ما يتعلَّق بأسس الأخلاق، ومصدراً للقِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية. وإن هذا الموقف يترك تأثيراً مباشراً على رؤية الفرد بشأن مسائل «الأخلاق المعيارية»([6])، وأسلوب معرفة القِيَم الأخلاقية. فعلى سبيل المثال: إن «نظرية الأمر الإلهي»([7])، وهي نظريةٌ في حقل الأخلاق المعيارية، تتغذّى على فرضيات خاصة بشأن «ما فوق الأخلاق»، والعلاقة بين الدين والأخلاق. ولهذه النظرية تقريراتٌ مختلفة سوف نتعرَّض إلى بيانها ونقدها في المستقبل.
كما تعدّ العلاقة بين الدين والأخلاق من مسائل فلسفة الدين والكلام أيضاً؛ لأن أخلاقية أو استبدادية أو مصلحية الله هي ثلاث نظريات متضادّة في حقل معرفة الله. وإن موقف الإنسان في ما يرتبط بالعلاقة القائمة بين الدين والأخلاق يتناسب مع التصوُّر الذي يحمله عن الله في ذهنه. وإن تعريف الله وبيان صفاته من المسائل الرئيسة في فلسفة الدين والكلام. ومضافاً إلى ذلك فإن الاتجاه الأخلاقي إلى الدين ـ كما سنرى بالتفصيل ـ يعدّ من الاتجاهات المبرَّرة والمقبولة. وإن مسألة توجُّه الناس إلى الدين في حدّ ذاتها من المسائل التي يبحثها فلاسفة الدين والمتكلِّمون.
كما تحظى العلاقة بين الدين والأخلاق بأهمّية قصوى بالنسبة إلى «معرفة الدين»، و«فلسفة السياسة»، و«فلسفة الفقه» أيضاً. إلاّ أن بحث التداعيات المعرفية والسياسية والفقهية والعملية للعلاقة بين الدين والأخلاق أكبر من الظرفية الاستيعابية لهذا الكتاب، وهو يشكِّل موضوع كتبٍ أخرى نعمل على تأليفها.
هذا، وإن البحث في العلاقة والنسبة القائمة بين الدين والأخلاق يشتمل على تداعيات ونتائج عملية مصيرية، ولا ينبع من مجرّد الهواجس النظرية والأكاديمية([8]). يقول وليم فرانكينا: «لو كانت الأخلاق ـ والسياسة بتبعها ـ قائمةً على الدين وجب علينا أن ننظر إلى الدين بوصفه قاعدة للإجابة عن كلّ مسألة فردية واجتماعية مهما بلغت أهمّيتها. ولكنْ إذا لم يكن الأمر كذلك يمكن لنا في الحدّ الأدنى أن نجيب عن هذه المسائل على أساس مبانٍ أخرى، من قبيل: التاريخ، والعلم، والتجربة العملية»([9]).
إن الكثير من الأدلة التي يتمّ تداولها اليوم لصالح العودة إلى الدين، وإعادة الحياة للتفكير الديني، وضرورة حضور الدين في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، وخاصّة في ما يتعلَّق بالأدلة على إثبات الصلة الوثيقة بين الدين والسياسة، ينشأ في واقع الأمر من القول باتحاد الدين والأخلاق، واعتبارهما شيئاً واحداً، وينطلق من فرضية أن الأخلاق تستند بنحوٍ من الأنحاء إلى الدين، ومن هنا يذهب التصوُّر إلى أن حاجة الإنسان إلى الأخلاق تعبيرٌ آخر عن حاجته إلى الدين. وفي هذا السياق نجد الكثير من الذين ينبرون إلى نقد الثقافة والحضارة الغربية الحديثة، وما تعانيه من غياب الأخلاق والمعنويات، ويرَوْن في العودة إلى الدين علاجاً لهذه الأمراض، ممّا يعني أنهم يعتقدون أن الأخلاق والمعنويات تقوم بشكلٍ وآخر على الدين. ومن هنا يمكن اعتبار التحقيق بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق من أهمّ ما يجب أن يضطلع به المصلحون الاجتماعيون أيضاً([10]).
إن جوهر الأخلاق الدينية عبارة عن دعوى أن الأخلاق ترتبط بنحوٍ من الأنحاء بالدين، إلاّ أن لهذا الادعاء المجمل تقريرات وقراءات متنوّعة، وقد أقيمت لصالحه أدلة متعدّدة. وبعبارةٍ أخرى: يمكن لنا أن نفترض روابط وعلاقات متنوعة بين الدين والأخلاق، وإن الذين يدّعون قيام الأخلاق على الدين إنما ينظرون إلى جميع أو إحدى هذه العلاقات. وإنّ أهم هذه العلاقات عبارة عن:
1ـ العلاقة اللغوية أو التعريفية.
2ـ العلاقة الأنطولوجية أو الميتافيزيقية أو المعيارية.
3ـ العلاقة المنطقية أو المعرفية.
4ـ العلاقة النفسية.
5ـ العلاقة العقلانية.
إن تبعية الأخلاق اللغوية للدين عبارة عن الادّعاء القائل بأن «جميع المفاهيم الأخلاقية، أو جانباً منها، لا يمكن تعريفها إلاّ في إطار المفاهيم الدينية». فعلى سبيل المثال: إن «الحَسَن» أو «الصواب» الأخلاقي يعني من الناحية المفهومية كلّ «ما أمر الله به».
وأما تبعية الأخلاق الأنطولوجية أو المعيارية للدين فتعني «أن الحسن والقبح أو صوابية وعدم صوابية فعلٍ على المستوى الأخلاقي رهنٌ بتعلُّق أمر الله ونهيه بذلك الفعل». إن الذي يدّعي تبعية الأخلاق الأنطولوجية للدين قد يلتزم بالاستقلالية المفهومية للأخلاق عن الدين، ويقول: على الرغم من عدم إمكان تعريف المفاهيم الأخلاقية في إطار المفاهيم الدينية، إلاّ أن تحقُّق الصفات الأخلاقية في الخارج، وعروضها على موضوعاتها، واتّصاف ذلك الموضوع بهذه الصفات، يتوقَّف على تعلق أمر الله ونهيه بذلك الموضوع. في هذه الرؤية يكون أمر الله ونهيه «منشأ الانتزاع» الحصري للصفات الأخلاقية، ويُدَّعى أن الصفات الأخلاقية إنّما تترتَّب على موضوعاتها من خلال الصفات الشرعية. فالصدق ـ على سبيل المثال ـ إنما يكون حسناً أو صحيحاً أو تكليفاً على المستوى الأخلاقي إذا تعلَّق أمر الله به في مرتبةٍ سابقة. ويحتمل أن يكون مراد الأشاعرة من «شرعية» الحُسْن والقُبْح كلا هذين النوعين من التبعية، وأن يكون مراد المعتزلة من «ذاتيّة» الحسن والقبح نفي كلا هذين النوعين من التبعية.
طبقاً لهذا التقرير تعني دينيّة الأخلاق أنّ إرادة وأمر الله مصدر «المعيارية»([11]) والقِيَم الأخلاقية، وأنّ المعايير والقِيَم الأخلاقية تنشأ بنحوٍ من الأنحاء عن «الإرادة التشريعية» أو «الأوامر المولوية». وإنّ علمانية الأخلاق تعني نفي هذا الادّعاء، والتأكيد على أن المعايير والقِيَم الأخلاقية لا تنشأ عن «الإرادة التشريعية» أو «الأوامر المولوية» لله الشارع.
أما تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين فعبارة عن واحدٍ من الادّعاءين التاليين:
1ـ إن معرفة أو تبرير القِيَم الأخلاقية يتوقَّف على الالتزام بالعقائد الكلامية.
2ـ إن معرفة أو تبرير القِيَم الأخلاقية يتوقَّف على الوحي والنقل، وتبعاً لذلك يتوقَّف على الفقه.
إن مراد المعتزلة من «عقلية» الحسن والقبح هو أن معرفة وتبرير القضايا الأخلاقية لا يتوقَّف على «الوحي» و«النقل»، وإن مراد الأشاعرة من «شرعية» الحسن والقبح في هذا المقام هو أن معرفة وتبرير هذه القضايا يتوقَّف على الوحي والنقل؛ إذ إنّ القِيَم الأخلاقية من وجهة نظر الأشاعرة على المستوى المفهومي (بحسب التعريف) أو على المستوى المصداقي (بحسب الوجود) تقوم على أمر الله ونهيه، وإنّ الطريق الوحيد المؤدّي إلى معرفة أمر ونهي الله هو الوحي والنقل فقط.
أما تبعية الأخلاق النفسية للدين فتعني «أنّ التعاليم والمعتقدات الدينيّة هي وحدها التي يمكنها أن تشكِّل دعامة نفسيّة للأخلاق». طبقاً لهذه الرؤية يكون دور الدين في الأخلاق دوراً محرِّكاً ومحفزاً. وإنّ المعتقدات الدينية هي وحدها القادرة على خلق وإيجاد الحافز في ذهن وضمير الإنسان؛ من أجل مراعاة القِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية.
وبالتالي فإن تبعية الأخلاق العقلانية للدين عبارةٌ عن الادّعاء القائل: «إن الالتزام الأخلاقي إنما يكون معقولاً إذا التزمنا بالمعتقدات الدينية»، و«إذا لم يكن الله موجوداً أضحى كلُّ شيء مباحاً».
إن القائلين بالأخلاق الدينية أو الذين يقولون بأن الأخلاق في حدِّ ذاتها دينية يدَّعون أن الأخلاق ـ على أحد الأنحاء المتقدِّمة ـ تقوم على الدين، وتابعة له. وأما القائلون بالأخلاق العلمانية أو الذين يقولون بأن الأخلاق في حدِّ ذاتها علمانية فيدَّعون أن الأخلاق في جميع هذه الموارد مستقلّة عن الدين، أو متقدِّمة عليه.
ونحن نسعى هنا إلى دراسة ونقد التقرير المفهومي والوجودي والنفسي والعقلاني للأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية. وأما دراسة العلاقة المنطقية والمعرفية بين الدين والأخلاق، واللوازم والتداعيات النظرية والعملية المترتِّبة على الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية، فإنّها تشكِّل موضوعات لكتبٍ أخرى.
إنّ هذا البحث في حقل العلاقة بين الدين والأخلاق يأخذ العديد من الأمور بوصفها أموراً مفروغاً عنها، فلا يستدلّ لإثباتها. وإنّ من أهمّ تلك الأمور الموردين التاليين:
1ـ وجود الإله الشخصي([12]).
2ـ كون الله شارعاً ومقنِّناً.
من خلال الالتزام بهذه الفرضيات يكون السؤال عن العلاقة بين الدين والأخلاق بشكلٍ رئيس على صيغة السؤال عن علاقة أمر ونهي الإله الشارع (الشريعة) بالقِيَم والإلزامات الأخلاقية. ولذلك يمكن اعتبار هذا البحث دراسة حول تداعيات علمانية أو دينية الأخلاق في مقام التشريع أو التقنين.
يمكن تلخيص تداعيات الأخلاق العلمانية والأخلاق الدينية في باب أدبيات هذا المقام كما يلي:
ـ الأخلاق العلمانية: إن الإرادة التشريعية لله الشارع (الشريعة) تابعةٌ للأخلاق.
ـ الأخلاق الدينية: إن الإرادة التشريعية لله الشارع (الشريعة) منشأٌ للأخلاق.
إن الأخلاق العلمانية في مقام التشريع تقول: إن الإرادة التشريعية للإله الشارع والأحكام الشرعية الناشئة عنها ـ في حالة وجودها ـ مقيَّدة بالضوابط والقِيَم الأخلاقية، وإنّ هذه القِيَم تحدِّد إطار الشريعة في عالم الثبوت واللوح المحفوظ وصلب الواقع. في حين أن الأخلاق الدينية إمّا أن تنفي تقيُّد الشريعة بالقِيَم الأخلاقية في اللوح المحفوظ، وتقول بأن الشريعة في عالم الثبوت فاقدة للإطار الأخلاقي، أو تدَّعي عدم إمكان التعرُّف على هذا الإطار من طريق العقل العُرْفي والعلماني.
إنّ لبّ العلمانية في حقل العلاقة بين الدين والأخلاق يقول بتقدُّم شريعة العقل (التي تُلْهَم للفرد من طريق النبيّ الباطني) على شريعة النقل (التي تبلغ إليه من طريق النبي الظاهري)([13]). وعليه يمكن الجمع بين الأخلاق العلمانية والرؤية الدينية؛ لأن علمانية الأخلاق تعني تقدُّم العدالة على الشريعة في حقل الأخلاق الاجتماعية، ويغدو مفهوم هذا الكلام في إطار الرؤية الدينية عبارة عن أن حكم «الإله العادل» مقدَّم على حكم «الإله الشارع»، وإنّ على المؤمنين؛ من أجل تنظيم علاقاتهم الاجتماعية، أن يرجعوا في البداية إلى الإله العادل، والعمل على اكتشاف حكمه، ثمّ يعملوا ـ بعد ذلك في إطار أحكام الإله العادل ـ على فهم الشريعة (حكم الإله الشارع)، وتفسير النصوص الشرعية، وإنّ تجاهل هذا الإطار يؤدّي بالفرد إلى تكوين فهمٍ خاطئ عن حكم الإله الشارع([14]).
ترى العلمانية الأخلاقية تقدُّم «المعرفة الإنسانية» على «المعرفة الإلهية»؛ وذلك لتقدُّم الإنسانية على المعرفة الدينية والتديُّن. وإنّ الإنسان قبل فهم الدين والإيمان به؛ ولمجرّد كونه إنساناً وعاقلاً، يكون محكوماً للقِيَم والإلزامات التي تعتبر من المقتضيات المعيارية لهويّته الإنسانية والعقلانية والأخلاقية، وإنها بمعنى من المعاني تنبثق عن إنسانيته. وإنّ معرفة الدين، التي هي عبارة عن فهم وتفسير الإنسان للتعاليم الدينية والتديُّن والممارسات الدينية، تقع عرضةً للنقد العقلاني والأخلاقي، وإنّها قابلة للنقد والتقييم على المستوى العقلي والأخلاقي.
من جهةٍ أخرى يذهب القائلون بالأخلاق الدينية إلى الاعتقاد بأن الأخلاق مقولة دينية. وحيث تكون الواجبات والمحظورات الأخلاقية دينية لا يمكن اعتبارها جزءاً من منطق فهم الدين، وأخلاق البحث الديني. والحقيقة أن أتباع هذه النظرية يدَّعون أن الأخلاق الدينية غير الأخلاق العلمانية، وأنّ تعارض فهم علماء الدين للنصوص الفقهية مع قِيَم الأخلاق العلمانية لا يسقطه عن الاعتبار، ولا يحقّ لأيّ مؤمنٍ أن يتجاهل حكماً فقهياً ولا يعمل به؛ لمجرَّد عدم تناغمه مع قِيَم الأخلاق العلمانية، بمعنى أنه يحقّ للمفسِّرين والمجتهدين أن ينسبوا تلك الأحكام إلى الدين، ويجب على المقلِّدين أن يلتزموا بهذه الأحكام.
طبقاً لهذه الرؤية تعتبر نسبة الأحكام غير المنسجمة مع قِيَم الأخلاق العلمانية إلى الله من مقتضيات التديُّن والإيمان، وإنّ تجاهل هذه الأحكام؛ بسبب عدم تناغمها مع قِيَم الأخلاق العلمانية، يعدّ نوعاً من الابتداع في الدين، وناشئاً عن التسامح والتهاون في الدين وضعف الإيمان الناشئ عن الأهواء النفسيّة. إنّ المؤمن في اتِّباعه للأحكام الدينية، النافية للأخلاق العلمانية، يُعتبر معذوراً ومأجوراً، بمعنى أن شريعة النقل حتّى عند تنافيها مع شريعة العقل تعتبر مبرَّرة وملزمة، وإنّ فهمنا لشريعة النقل لا يسقط عن الاعتبار بسبب تنافيه وعدم تناغمه مع العقل العلماني؛ لأن العقل العلماني والعُرْفي ناقصٌ وخاضع للأهواء والرَّغَبات النفسية.
إن الدافع الرئيس من وراء تأليف هذا البحث هو العثور على طريق معقول ومقبول لحلّ التعارض بين الأخلاق الدينية (الفقه) والأخلاق العلمانية، حيث أرى أن النزاع والصراع السياسي والاجتماعي المحتدم في قطرنا، وربما في سائر الأقطار الإسلامية، إنما هو حصيلة رؤيتين مختلفتين حول العلاقة بين الدِّين والأخلاق، وإنه في الحقيقة حصيلة التعارض بين منظومتين مختلفتين في الأخلاق والقِيَم والمعايير. وإن هاتين المنظومتين الأخلاقيتين تنشآن عن فرضيّتين جذريّتين في حقل منشأ وحدود وثغور «حقّ الطاعة للإله الشارع» أو «وجوب إطاعة الله الشارع»؛ فمن جهةٍ هناك مَنْ يدَّعي أن حقّ إطاعة الإله الشارع أو وجوب إطاعته مطلقٌ، ولذلك تكون الأخلاق عنده قائمة على الدين، وعند تعارض القِيَم الإلهيّة (الفقه أو الأخلاق الدينية) مع القِيَم البشرية (الأخلاق العلمانية) يجب تقديم القِيَم الإلهية؛ ومن جهةٍ أخرى هناك مَنْ يدَّعي أن حقّ الطاعة لله الشارع ووجوب إطاعته مقيَّد بقيود أخلاقية، وإن الأخلاق لا تقوم على الدين، بل هي متقدِّمة عليه([15]).
مدخل تاريخي في التعريف بالدِّين والأخلاق
«لا يُفلح مَنْ لا يعقل»([16]) (الإمام الصادق×).
1ـ 1ـ مدخل
إن العلاقة بين الدِّين والأخلاق من المسائل التي تمتدّ إلى تاريخ عريق، سواء في الثقافة الإسلامية أو الثقافة الغربية. ففي العالم الإسلامي كانت هذه المسألة من أوائل المسائل التي اعتنى بها المتكلِّمون، كما كانت من أهمّ الموارد التي حظيت باهتمامهم، ووسَّعت من دائرة الخلافات الكلامية بينهم، ورغم أن المتكلِّمين قد تناولوها من الزاوية الكلامية فقط، حيث كان دافعهم من وراء بحثها دافعاً كلامياً أكثر منه أخلاقياً أو ما يفوق الأخلاق، بمعنى أنّ أهمية العلاقة بين الدين والأخلاق بالنسبة لهم كانت تكمن في مجرَّد ارتباطها بصفات الله، وخاصة «العدل» و«التوحيد» منها، لا لأنها تمثِّل ركيزة لحلّ وفصل المسائل الأخلاقية، أو بوصفها نظريّة في حقل «الأخلاق المعيارية»([17]). إن البحث بشأن الأخلاق وفلسفة الأخلاق في العالم الإسلامي خارج عن دائرة علم الأخلاق، ولذلك فإن دافع المتكلِّمين من طَرْق هذا البحث يكمن في مجرَّد بيان صفات الله وأفعاله؛ للحصول على نظرية منسجمة ومتناغمة في حقل الإلهيات، ولم يكن هدفهم هو الكشف عن منظومة أخلاقية، أو التأسيس لقاعدةٍ وأرضية لعلم الأخلاق والحكم الأخلاقي في مورد أفعال الناس. فلم يكن المتكلِّمون يبحثون في التداعيات الهامّة التي كانت تنطوي عليها مواقفهم في ما يتعلَّق بالصفات والأفعال الإلهية تجاه الأخلاق وسلوك البشر.
وأما في العالم الغربي فإن العلاقة بين الدِّين والأخلاق تعدّ أوّلاً وبالذات واحدة من مسائل فلسفة الأخلاق. وعندما يبحث المتكلِّمون الغربيون في هذا الموضوع نجدهم مدركين لتداعياته الأخلاقية، ولذلك فإن دافعهم من وراء طَرْق ودراسة هذا الموضوع ليس دافعاً نظريّاً وكلاميّاً بحتاً. وهنا يُطرح السؤال التالي: «هل الأخلاق تابعة للدين أم أنّ الدين تابع للأخلاق؟». وتكمن أهمية هذا السؤال في أن كلاًّ من الدين والأخلاق يعملان على توجيه دفّة السلوك الإنساني، وليس في حلّ التعارض القائم بين المتبنيات الكلامية في ما يتعلَّق بصفات الله. إن الاستفادة من توجيهات الدين والأخلاق في إطار العمل تتوقَّف على امتلاك نظرية مقبولة بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق، وحلّ التعارض القائم بينهما. وحيث إنّ الفَهْم السائد يذهب إلى قيام الدين على الوحي، وقيام الأخلاق على العقل، فإن السؤال عن علاقة الدين والأخلاق يمكن أن يطرح على شكل سؤال عن العلاقة بين العقل (العملي) والوحي أيضاً.
وسوف تكون لنا في هذا الفصل جولةٌ عابرة حول تاريخ البحث بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق. أما النظريّات التي نشير إليها هنا فسوف نتناولها بالنقد والتشريح في الفصول القادمة.
1ـ 2ـ العلاقة بين الدين والأخلاق في الإسلام
لقد مثَّل النزاع حول طبيعة وماهيّة أو مصدر الحُسْن والقُبْح الأخلاقي ـ بشهادة مؤرِّخي الفكر الإسلامي ـ أحد أهم النزاعات الكلامية في القرون الأولى من الإسلام. وفي هذا القسم سوف تكون لنا إطلالةٌ عابرة على آراء المفكِّرين المسلمين في هذا الشأن.
في ما يتعلَّق بهذه المسألة انقسم المتكلِّمون من أهل السنَّة إلى قسمين؛ إذ تبلور منهجان رئيسان في صفوفهم، حيث ظهرا فيما بعد على شكل منهجين بارزين ومتميِّزين لمذهبين كلاميين. ويمكن تسمية هذين المنهجين بـ «المنهج الاعتزالي» و«المنهج الأشعري».
وقد ذهب المعتزلة إلى القول:
1ـ إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي ذاتي.
2ـ إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي عقلي.
وتعني ذاتية الحُسْن والقُبْح الأخلاقي عندهم أن بعض الأفعال تتَّصف بالحُسْن والقُبْح بشكلٍ تلقائي وذاتي، بغضّ النظر عن إرادة الله وحكمه. كما تعني عقلية الحسن والقبح أن العقل يمكنه أن يستقلّ في إدراك وتصديق الحسن والقبح بغضّ النظر عن الوحي والنقل([18]). وبذلك يكون الأصل الأوّل القائل: «إن الحسن والقبح الأخلاقي ذاتي» أصلاً «وجودياً» أو «مفهومياً»، ويكون الأصل الثاني القائل: «إن الحسن والقبح الأخلاقي عقلي» أصلاً «معرفياً».
يقول الأصل الأول: إن «وصف» الحسن والقبح الأخلاقي في عالم الثبوت ومقام التحقُّق لا ربط له بالإرادة التشريعية لله، بل هو متقدِّم عليها، أو إنّه بالإمكان تعريف «مفهوم» الحسن والقبح دون إرجاعهما إلى إرادة الله وأمره.
وأما الأصل الثاني فيقول: إن الإنسان غنيٌّ عن الوحي والشرع في معرفته التصديقية للحسن والقبح، وإن علم الأخلاق علمٌ مستقلّ ومتأصِّل، ويعدّ من العلوم العقلية، دون النقلية.
بينما نجد الأشاعرة في المقلب الآخر ينكرون كلا هذين الادّعاءين من المعتزلة؛ إذ إنهم يقولون:
1ـ إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي شرعي.
2ـ إن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي نقلي.
يقول الأصل الأول: إن الحسن والقبح الأخلاقي تابعٌ لحكم واعتبار أو إرادة الله، وبغضّ النظر عن حكمه واعتباره أو إرادته تتساوى جميع الأفعال من الناحية الأخلاقية، أو إن الحسن والقبح الأخلاقي إنما يمكن تعريفه من خلال إرجاعه إلى إرادة وكراهة الله أو أمره ونهيه.
ويقول الأصل الثاني: إن الحسن والقبح الأخلاقي إنما يمكن التعرُّف عليه من طريق الوحي والنقل. وبذلك يكون علم الأخلاق من العلوم النقلية، وليس للعقل العرفي أو العلماني أو العقل المستقلّ عن الشرع والوحي طريقٌ إلى إدراك ومعرفة الحسن والقبح الأخلاقي([19]).
كما تقدَّم أن ذكرنا فإن النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة حول الحسن والقبح الأخلاقي كان ذا خلفيّةٍ كلامية وعقائدية؛ حيث كان الاختلاف بين هاتين الفرقتين يدور حول صفات الله وأفعاله، وليس حول أفعال الإنسان. فقد كان لدى الأشاعرة فهمهم وتفسيرهم الخاصّ بشأن توحيد الله وقدرته، وهو أمرٌ لا ينسجم مع القول بالحسن والقبح الذاتي للأفعال؛ إذ كانوا يتصورون أن توحيد الله واتّصافه بالقدرة المطلقة يعني عدم وجود ما يمكنه تحديد قدرته وإرادته. ولذلك فإنّهم يتصوَّرون أن القول بذاتية الحسن والقبح يوهم هذا المعنى؛ إذ يعني ـ من وجهة نظرهم ـ وجود مصدر مستقلّ ومتفوِّق على الله يكون هو المنشأ للحسن والقبح، الأمر الذي يتنافى مع التوحيد، هذا أولاً.
وثانياً: إن هذا الأمر يجعل يد الله مغلولة على المستوى التكويني والتشريعي، ويحدّ من إرادته، ويسلب حرّيته، ومن هنا فإنه يتنافى مع إطلاق قدرته وإرادته.
إن إنكار الأشاعرة للحسن والقبح الذاتي للأفعال يعني في الحقيقة إنكار وجود «قانون أخلاقي» مستقلّ عن إرادة الله. وهذا الإنكار إنّما ينشأ تماماً عن ذلك القانون الذي ينبثق عنه إنكار «قانون العلّية» ووجود رابطة العلّية والمعلولية بين ظواهر العالم([20]). كان الأشاعرة يتصوَّرون أن القول بوجود ذات وماهية للأشياء والأفعال، وأن لتلك الذات والماهية اقتضاءات ضرورية لا تتخلَّف، لا ينسجم مع توحيد الله وإطلاق قدرته، ويجعل يد الله مغلولة، سواء أكانت تلك الاقتضاءات تكوينية([21]) أو قِيَميّة([22]) أو معيارية([23]). فلو قال شخصٌ: إن للنار طبيعة، وإن الإحراق من المقتضيات الضرورية لطبيعتها، كان معنى قوله هذا أنّ الله لا يستطيع أن يحول دون النار وإحراقها للأشياء، أو أن يخلق ناراً ليس من شأنها الإحراق([24]). وهذا يتنافى من وجهة نظر الأشاعرة مع توحيد الله، ويحدّ من قدرته. وعلى هذا الأساس لو قال شخصٌ: إن حُسْن العدل وقُبْح الظلم من مقتضى طبيعة العدل وذات الظلم يكون قد حدَّ من إرادة الله وقدرته، وقيَّد يده. ويرى الأشاعرة أنّ مَنْ تكون إرادته وقدرته محدودة لا يمكن أن يكون إلهاً حقيقياً.
يرى الأشاعرة أن القوانين العلمية لا تنشأ من بنية الكون، وليست جزءاً من لحمتها وسداها، بمعنى أنها ليست ضرورية، وإنما هي اتّفاقية. وإذا كانت النار تحرق فما ذلك إلاّ لأنّ الله قد جرَتْ عادته على جعلها كذلك، دون أن تكون هناك علاقة ضرورية [أو ملازمة ذاتية] بين النار والإحراق. وقد اعتبر الأشاعرة معجزات الأنبياء دليلاً واضحاً على ما ذهبوا إليه.
كان الأشاعرة يعتقدون بأن القول بكلٍّ من ذاتية الحُسْن والقُبْح، والقول بضرورية علّية العلل المعدّة، يستلزم تبعيّة إرادة الله لقوانين تفرض عليه من خارجه، وتقيّد يده، وتحدّ من قدرته واختياره وحرّيته. ويرى الأشاعرة أن وجود القوانين العلمية والأخلاقية المستقلّة عن إرادة الله التكوينية والتشريعية لا ينسجم مع كونه فعّالاً لما يشاء، وتنافي توحيد الله وقدرته المطلقة. وعليه فإن الدافع من وراء إنكار الأشاعرة للعلة المعدّة، وإنكارهم الحُسْن والقُبْح الذاتي، ينشأ من منطلق الدفاع عن التوحيد وقدرة الله([25])، وهذا هو دافع جماعةٍ من المعاصرين في إنكار الحقوق الطبيعية للإنسان أيضاً([26]).
لقد اضطرّ الأشاعرة إلى تفسير وفلسفة أصل العلّية وأصل العدل بشكلٍ يتناغم مع فهمهم وتفسيرهم لأصل التوحيد. إنهم في الحقيقة لم يكونوا ينكرون العلّية أو العدل الإلهي، وإنما كانوا يقولون بأن هذه المفاهيم لا مصداق لها في الخارج بمعزلٍ عن فعل الله وإرادته، بمعنى أنه لا يمكن لنا على نحوٍ مسبق، ودون أخذ فعل الله وإرادته وأمره ونهيه بنظر الاعتبار، أن نقول: إن هذا الأمر علّة لذلك الأمر، أو إن هذا عدل وذاك ظلم. وليس حُسْن العدل وقُبْح الظلم وحدهما تابعين لتحسين الله وتقبيحه لهما، بل إن ذات العدل وذات الظلم تابعان لإرادته.
يذهب الأشاعرة إلى استحالة الحكم على أفعال الله وأفعال الإنسان بشكلٍ مسبَق، بل يجب علينا التريُّث إلى حين النظر في أفعال الله، والأمور التي يأمرنا بها. فكلّ ما يفعله أو يأمر به يكون عَيْن العدل. «فكلّ ما يصدر عن ذاك الجميل جميل». فلو أن الله أدخل الكفار والعصاة إلى الجنة، وأدخل المؤمنين والأتقياء إلى النار، كان ذلك منه عَيْن العدل. ولو أمر بارتكاب القتل والسرقة ونقض العهد أضحت هذه الأمور حسنة وعادلة. وأما قبح هذه الأمور وانعدام العدل الراهن فيها فهو ناشئ عن نهي الله الراهن عنها، وليس ناشئاً عن ذاتها. وكما أن إحراق النار ليس من ذات وطبعها، بل هي ناشئة عن العادة التكوينية لله في خلقه، كذلك قبح القتل والسرقة ونقض العهد ينشأ عن العادة التشريعية لله.
وبذلك فإن الأشاعرة إنما يبدعون ويدافعون عن رؤية خاصّة بشأن الأخلاق الدينية أو دينية الأخلاق، رغم أن موقفهم في هذا الشأن، قبل أن ينطلق من دراسة طبيعة الأخلاق، إنما ينشأ من افتراضاتهم الدينية والكلامية المُسْبَقة. يرى الأشاعرة أن القِيَم الأخلاقية تنبثق عن إرادة الله وتابعه لها، وليس العكس، وأن الإرادة التكوينية والتشريعية لله كلَّما تعلَّقت بشيء كان ذلك الشيء حسناً، وهذا يعني أن المعايير الأخلاقية لا تحدِّد الإرادة التكوينية والتشريعية لله. كما كان الأشاعرة يتمسَّكون؛ لإثبات مدَّعاهم، بالأدلة والشواهد الدينية أيضاً. فكانوا يقولون ـ على سبيل المثال ـ: إن معنى قوله تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 23) أن أفعال الله لا يمكن أن تكون عرضة للنقد والتقييم أو المساءلة الأخلاقية والعقلانية، ونحن لا نستطيع ولا يحقّ لنا أن نحكم على أفعال الله من خلال المعايير الأخلاقية السابقة والمستقلّة عن الشرع([27]).
أما الانعكاس المعرفي لرؤية الأشاعرة فهو أنه حيث إن إرادة الله ليست تابعة لمعيار أو ملاك خاصّ لا يمكن التعرُّف على إرادته من خلال العقل المستقلّ عن الشرع والوحي. وحيث إن إرادة الله وأمره ونهيه منشأ للحُسْن والقُبْح في الأفعال، وإن الطريق الوحيد لمعرفة إرادة الله يكمن في الوحي، فعلى هذا الأساس يكون العقل عاجزاً عن معرفة حُسْن الأفعال وقُبْحها. وإن علم الأخلاق من العلوم النقلية، ممّا يعني عدم وجود أي معيار أخلاقي وعقلاني سابق يمكن لنا أن نتعرَّف من خلاله على إرادة الله وتحديد معالم الوحي ومضمونه، والتعويل عليه في رفع اليد عن ظواهر النصوص الدينيّة، أو الاستناد إليه في تفسير النصوص الدينيّة، أو ترجيح تفسير على تفاسير أخرى. من هنا يصل الأشاعرة إلى إلغاء العقل وتعطيل العقلانية في دائرة الأخلاق.
ومن جهةٍ أخرى كان المعتزلة يتبنَّوْن قراءة خاصّة عن الأخلاق العلمانية أو علمانية الأخلاق. وقد كان المعتزلة بدورهم يسعَوْن أيضاً إلى المواءمة بين متبنّياتهم الدينية والكلامية وبين صفات الله طبقاً لهذه القراءة، بَيْدَ أنّهم ـ وخلافاً للأشاعرة ـ كانوا يؤكِّدون على أصل العدل، وكانوا يقولون: إننا إذا لم نلتزم بالحسن والقبح الذاتي للأفعال فإن اتّصاف الله بالعدل سوف يفقد معناه ومفهومه وأهمّيته. كما كان المعتزلة يثبتون اختيار الإنسان من خلال التأكيد على اتّصاف الله بالعدالة، في حين كان الأشاعرة يدَّعون أن اضطرار الإنسان ينسجم مع عدالة الله.
وعلى هذا الأساس يكون النزاع المحتدم بين الأشاعرة والمعتزلة بشأن نوع العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق نزاعاً كلامياً؛ حيث كانا يختلفان في الحقيقة حول طريقة المواءمة بين التوحيد والعدل. فكان كلُّ واحدٍ منهما يسعى إلى جعل متبنّياته الكلامية في ما يتعلَّق بالتوحيد منسجمة ومتناغمة مع متبنَّياته الكلامية في ما يتعلَّق بالعدل الإلهي. فكان الأشاعرة يتبنَّوْن تفسيراً خاصّاً في التوحيد، وكانوا يعرِّفون عدالة الله بشكلٍ يتناغم مع هذا التفسير، وكان هذا التفسير يؤدّي بهم إلى إنكار ضرورة القوانين العلمية، وإنكار ذاتية الحسن والقبح([28]). ومن ناحيةٍ أخرى يتبنَّى المعتزلة تفسيراً خاصّاً عن العدل الإلهي، ويعملون على تعريف توحيد الله بشكلٍ ينسجم مع العدل الإلهي. وإن هذا التفسير يلزمهم بتبنّي الحسن والقبح الذاتي في الأفعال. وفي الحقيقة فإن كلاًّ من الأشاعرة والمعتزلة كانوا يشعرون بأن صفات الله؛ بسبب إطلاقها، لا تنسجم مع بعضها بحَسَب الظاهر، وكانت المواقف التي يتَّخذونها في هذا الشأن تهدف إلى رفع هذا التعارض والتنافي. وإذا كان هناك من اختلاف فإنه يكمن في مقدار الأهمّية والاعتبار المعرفي للمتبنَّيات الكلامية الناظرة إلى هذه الصفات، والتقدُّم والتأخُّر المعرفي لهذه المتبنيات.
وعلى أيّ حال فقد تلخَّص النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة حول تعريف الله، وتفسير صفاته. يتَّفق كلا الفريقين على «أن إرادة الله إذا تعلَّقت بشيءٍ كان ذلك الشيء حسناً قطعاً»، ولكنَّهما يختلفان في تفسير وبيان هذا التلازم. فكان الأشاعرة يقولون: «إن الحُسْن تابع لإرادة الله»، بينما قال المعتزلة: «إن إرادة الله تابعةٌ للحُسْن». وكان الأشاعرة يقولون: «إن إرادة الله تعمل على بلورة الحسن والقبح»، في حين كان المعتزلة يقولون: «إن الحسن والقبح يعملان على بلورة إرادة الله».
وبعبارةٍ أخرى: كان النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة يدور حول بيان العلاقة بين الأخلاق وقدرة الله، حيث كان الأشاعرة يعتقدون بأن قدرة الله مطلقة، بمعنى أنه لا توجد هناك قوّة يمكنها أن تحدّ من قدرة الله، وإن الذي يفسِّر قدرة الله بهذا الشكل لا بُدَّ أن ينكر تبعية إرادة الله للقِيَم الأخلاقية، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، بمعنى أن القِيَم الأخلاقية هي التي تنبثق عن إرادته، وتتغيَّر تبعاً لتغيّرها، وبغضّ النظر عن إرادة الله وكراهته لا وجود للحُسْن والقُبْح. طبقاً لهذه الرؤية تكون إرادة الله التشريعية مصدراً لجميع القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية، كما أن إرادته التكوينية مصدرٌ لجميع الكائنات في عالم الوجود. إن الصورة التي يحملها الأشاعرة عن التوحيد التشريعي تشبه تمام الشَّبَه الصورة التي يحملونها عن التوحيد التكويني، ومن هنا كان إله الأشاعرة في مقام التكوين وفي مقام التشريع إلهاً شمولياً.
أما المعتزلة فكانوا يقولون: إن هذا التفسير للتوحيد سيفرغ العدالة الإلهية من مضمونها؛ إذ حين يُقال: «إن الله عادل» يتوقَّف مضمون هذا الادّعاء على أن العدالة معيارٌ مستقلّ عن إرادة الله، حتّى يمكن من خلال وجود وتحقُّق ذلك المعيار نسبة هذه الصفة إليه، والقول: «إن الله عادل». ولو لم يكن هناك وجود لهذا المعيار فسوف يتساوى اتّصاف الله بهذه الصفة وعدم اتّصافه بها، ولا يعود بالإمكان اعتبار العدالة واحدة من الصفات الكمالية لله.
وبذلك كان الأشاعرة يعتقدون أن إطلاق قدرة الله ووحدانيته لا ينسجم مع ذاتية وعقلية الحسن والقبح، الأمر الذي يقتضي القول بشرعية ونقلية الحسن والقبح. أما المعتزلة فكانوا يعتقدون بأن اتصاف الله بالعدل يتوقَّف على القول بذاتية الحسن والقبح، وتبعاً لذلك سيتوقَّف علمنا بأن الله يتّصف بهذه الصفة على عقلية الحسن والقبح([29]).
وأما ما هي التداعيات الأخلاقية والسلوكية المترتبة على هذا النزاع؟ وما هو الموقف الذي يتَّخذه الفرد في هذا الشأن؟ وما هو الدور الذي يلعبه هذا الموقف في تعيين وتشخيص حقوق الإنسان وواجباته؟ فلم يكن يحظى بكبير اهتمامهم. فكان المعتزلة يقولون بأن الله لا يأمر بالأفعال القبيحة، ثمَّ لا يذهبون إلى أبعد من ذلك، ولا يستثمرون هذه القاعدة التفسيرية لفهم الشريعة. وإن القواعد الأخلاقية التي تدرك من خلال العقل ـ من وجهة نظرهم ـ محدودةٌ للغاية، فهي تشمل بعض الأمور العامة والكلّية التي لا تتجاوز أصابع اليد. ولذلك لم يكن لنزاع المعتزلة والأشاعرة بشأن ذاتية أو شرعية الحسن والقبح تأثيرٌ كبير على آرائهم الفقهية، وكان استناد الفقه عندهما إلى الوحي والنقل بدرجةٍ واحدة تقريباً.
لقد تبلور النزاع حول ماهية الحُسْن والقُبْح، وطريقة معرفتهما، أوّل الأمر بين علماء أهل السنَّة، لأن كلاًّ من الأشاعرة والمعتزلة كانوا من السنَّة. أما المتكلِّمون من الشيعة فلم يدخلوا حلبة هذا النزاع إلاّ في مرحلةٍ متأخِّرة، حيث كانوا يقفون إلى جانب المعتزلة غالباً، رغم أن هذه الجماعة لم تكن أيضاً ـ كما هو شأن المتكلِّمين ـ تتجاوز البحوث النظرية والانتزاعية، ولم تخُضْ في النتائج الأخلاقية والعملية المترتِّبة على هذا النزاع الكلامي.
كان المفكِّرون من الشيعة على المستوى النظري بشكلٍ عام ـ وعلى المستوى الوجودي ـ يقولون بعلمانية الأخلاق، أو استقلال الأخلاق عن الدين، وبالتلازم بين الدين والأخلاق أيضاً. إن الأحكام الأخلاقية من وجهة نظر هؤلاء المفكِّرين تشكِّل جزءاً من «المستقلاّت العقلية»، بمعنى أن القضايا الأخلاقية تعدّ جزءاً من القضايا التي لا يحتاج العقل أو العقلاء إلى الشرع والنقل في اكتشافها أو اعتبارها، وإن الأوامر والوصايا الأخلاقية الواردة في النصوص الدينية إنما هي إرشادٌ إلى حكم العقل أو وجدان العقلاء. إن البحث في آراء هؤلاء المفكِّرين بشكلٍ تفصيلي لا يتناسب وحجم هذه الدراسة. ولكنْ يمكن القول على نحو الإجمال: إن هناك في ما يتعلَّق بطبيعة الأحكام الأخلاقية عدّة اتجاهات مختلفة في الفكر الشيعي. وطبقاً للاتّجاه الأول تكون القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية صفات وروابط عينية وواقعية وجزءاً من نسيج عالم الوجود، وتعتبر القضايا الأخلاقية ناظرة إلى عالم الواقع أيضاً. وطبقاً للاتجاه الثاني تكون الأحكام الأخلاقية جزءاً من الاعتبارات والأوامر العقلية التي تنشأ عن المطالب والرغبات العقلانية أو مقتضياتها. وأما الاتجاه الثالث فيرى أن منشأ الأحكام الأخلاقية هو الاعتبار والتواضع والتوافق أو سيرة وبناء العقلاء. وهناك اتجاه رابع يرى أنّ القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية أمورٌ اعتبارية محضة، وناشئة عن قوّة الخيال والمشاعر والعواطف. إن المعيار الوحيد الذي يقدِّمه هذا الاتجاه للفصل بين الاعتبارات ذات القيمة والمعتبرة والاعتبارات غير ذات القيمة وغير المعتبرة هو معيار عدم اللَّغْوية([30]).
علاوة على ذلك فإن عامة المفكِّرين الشيعة يذهبون على المستوى النظري إلى القول بالتلازم بين العقل والشرع، أو الأخلاق الدينية (الفقه) والأخلاق العلمانية (العقلية أو العقلانية)؛ حيث يرَوْن أنّ كلّ ما يحكم به العقل أو العقلاء يحكم به الشرع أيضاً، وكلّ ما يحكم به الشرع يحكم به العقل أو العقلاء أيضاً، بمعنى أن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ملازمةٌ من طرفين([31]).
وعلى الرغم من ذلك يذهب الشيعة ـ على المستوى العملي، ومن الناحية المعرفية ـ إلى الاعتقاد بأن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي غالباً ما يكون نقلياً، بمعنى أنه على الرغم من أن «وجود» و«ثبوت» الحسن والقبح الأخلاقي ليس تابعاً لحكم الشرع، غير أن قدرة العقل على «كشف» و«إثبات» مصاديق الحسن والقبح محدودٌ للغاية، ولذلك لا طريق على المستوى العملي إلى العقل مستقلاًّ عن الشرع والنقل لمعرفة الكثير من الأفعال ـ وخاصّة في مورد الجزئيات ـ للكشف عن الحسن والقبح؛ إذ يرى هؤلاء المفكِّرون أن القواعد الأخلاقية القطعية واليقينية أو القواعد التي تتَّفق عليها كلمة الجميع لا تتجاوز أصابع اليد. وإنّ هذه القواعد عبارة عن: «قبح التكليف بما لا يُطاق»، و«قبح العقاب بلا بيان»، و«وجوب شكر المنعم»، و«وجوب إطاعة المولى»، و«حُسْن العدل»، و«قُبْح الظلم». بَيْدَ أن هؤلاء المفكِّرين يرَوْن الإنسان حتّى في مقام تطبيق هذه القواعد على الأمور الجزئية، وفي مقام الكشف عن سائر القواعد الأخلاقية، بحاجةٍ إلى حكم الشرع وبيان الشارع. وبذلك فإن الفقهاء الشيعة يشتركون مع المفكِّرين من أهل السنّة في تعطيل دور العقل والعقلانية في مجال الأخلاق أيضاً.
يذهب المفكِّرون الشيعة عادةً إلى تقدُّم الأخلاق على الدين، بَيْدَ أنّهم لا يعملون على توظيف هذه القاعدة، بوصفها قاعدة أصولية أو فقهية، للكشف عن الأحكام الشرعية، وتصحيح فهمهم للنصوص الدينية؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنهم يشترطون في اعتبار وحجّية الحكم أو الإدراك العقلي أن يكون ذلك الحكم والإدراك يقينياً وقطعياً، وبذلك تكون الظنون العقلية أو العقلانية ساقطةً عن الاعتبار بالمرّة. وعليه إذا تعارضَتْ القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية، وكذلك السِّيَر والتواضعات العقلائية، مع ظواهر النصوص الدينية، تكون ساقطةً عن الاعتبار والحجّية، في حين تبقى ظواهر النصوص الدينية على حجّيتها واعتبارها عند التعارض مع الظنون العقلية والعقلائية. كما يعتقد هؤلاء المفكِّرون أن اعتبار وحجّية ظاهر النصوص الدينية، وكذلك اعتبار وحجّية خبر الثقة، قد ثبت على نحو القطع واليقين، في حين أن الظنون العقلية والعقلانية عندهم إمّا فاقدة للاعتبار بالكامل، أو أن اعتبارها يختصّ بالمورد الذي يقوم على ظنّ أو دليلٍ نقليّ معتبر([32]).
1ـ 3ـ العلاقة بين الدين والأخلاق في العالم الغربي
غالباً ما يكون للحديث عن العلاقة بين الدين والأخلاق في الغرب صبغةٌ أخلاقية وفلسفية وسياسية أكثر من كونها كلامية. والكلام يدور هنا بشكلٍ رئيس حول إمكان الأخلاق الدينية أو الكلامية، وارتباطها ونسبتها إلى الأخلاق العلمانية أو الفلسفية([33]). وربما أمكن الادّعاء بأن وجود مثل هذا الاتّجاه نحو المسألة ناتجٌ عن عُرْف راسخ ومتجذِّر في الأخلاق الفلسفية.
ومن هذه الزاوية يمكن تقسيم تاريخ فلسفة الأخلاق عند الغرب إلى ثلاث مراحل مختلفة:
أـ مرحلة الأخلاق الإغريقية.
ب ـ مرحلة الأخلاق المسيحية.
ج ـ مرحلة الأخلاق العلمانية.
وفي جميع هذه المراحل كان البحث بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق قد شكَّل هاجساً لدى فلاسفة الدين والأخلاق والسياسة والمتكلِّمين أيضاً.
أـ مرحلة الأخلاق الإغريقية
تبدأ هذه المرحلة من سقراط، وتستمرّ إلى ظهور المسيحية. يذهب الكثير من الفلاسفة والمؤرِّخين إلى الاعتقاد بأن الجذور التاريخية للبحث بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق في الغرب قديمةٌ قِدَم الفلسفة نفسها([34]). طبقاً لإفلاطون في حوار أثيترون يتساءل سقراط: «هل الآلهة تحبّ الحكمة لكونها حكمة، أم أنّ الحكمة إنما تكون حكمة لحبّ الآلهة لها؟»([35]). والصيغة الحديثة لهذا السؤال هي: «هل الحُسْن أو الاستقامة الأخلاقية سلوكٌ تابعٌ لأمر الله، أم أنّ أمر الله تابعٌ للحُسْن أو الاستقامة الأخلاقية في ذلك العمل؟»([36]). إن هذا السؤال يعبِّر في حقيقة الأمر عن معضلة أو مفارقة الأخلاق الدينية. لو قال شخصٌ بأنّ القِيَم الأخلاقية تابعة لإرادة الله، وكفاية أمر الله بشيء لصيرورته أخلاقياً، وجب القول لا محالة بأن الله إذا أمر بالقتل والسرقة والغيبة وخيانة الأمانة ستكون هذه الأمور حَسَنة على المستوى الأخلاقي. وأما إذا قال بأن إرادة الله تابعة للقِيَم الأخلاقية ففي هذه الصورة سيكون قد حدَّد حق الله في القدرة والحاكمية، وإنّ الذي تحدّ قدرته لا يكون إلهاً. وعلى حدّ تعبير (هيلم): إن قضية «الشيء الذي يأمر به الله حسن» إما أن تكون تحليلية([37]) أو تركيبية([38]). فإذا كانت هذه القضية تحليلية سيغدو كلّ ما يأمر به الله حسناً؛ وأما إذا كانت هذه القضية تركيبية فسوف تفقد ضرورتها، وتتحول إلى قضية ممكنة، وسيكون صدقها مشروطاً بانسجام أمر الله وتناغمه مع معيار سابق للحُسْن. ولكنْ في مثل هذه الحالة سوف يتمّ تحديد حقّ حاكمية الله وقدرته([39]).
يذهب كبار الفلاسفة في هذه المرحلة، من أمثال: سقراط وإفلاطون وأرسطو، إلى الاعتقاد بأخلاق في ذاتها مستقلّة عن الدين، بمعنى أنّ القِيَم الأخلاقية أمور واقعية([40]) وعقلية، وأن ليس هناك من مرجعية في الأخلاق، فالمرجع في الأخلاق إما الطبيعة أو العقل والوجدان البشري، وإنّ صدق وكذب أو وثاقة واعتبار الأحكام الأخلاقية ليست تابعة لإرادة أو رغبة أحد. إن الخصوصية البارزة للأنظمة الأخلاقية في هذه المرحلة أنها تأخذ بنظر الاعتبار مختلف الفرضيات الميتافيزيقية في الأبعاد الأنطولوجية للإنسان، والأهداف والغايات الخاصّة التي خلق من أجلها، وتعمل على توجيه ادعاءاتها في ما يتعلَّق بالفضائل والرذائل والضرورات والمحظورات الأخلاقية من خلال الرجوع إلى هذه الفرضيات. وكما نعلم فإن الرؤية في هذه المرحلة ليست رؤية دينية أو توحيدية بالضرورة. والخصوصية الأخرى التي يمكن العثور عليها في المذاهب الأخلاقية لهذه المرحلة هي الادّعاء بأن هناك طريقة خاصة ومعيَّنة للحياة، وهي الطريقة المثلى لجميع أفراد الإنسانية([41]).
كما تحدَّث جماعةٌ من فلاسفة هذه المرحلة ـ وهم الرواقيون ـ عن المعايير والحقوق الطبيعية أيضاً، ولكنَّهم كانوا في الوقت نفسه يعتقدون أنّ هذه المعايير والحقوق قد أُودعت من قبل العقل الكوني أو الإله في صلب التكوين، وهي ثابتة وراسخة وخالدة، ولن تتغيَّر بتأثير القوانين الوضعية من قبل البشر([42]).
ب ـ مرحلة الأخلاق المسيحية
بدأت هذه المرحلة بظهور المسيحيّة واستمرّت إلى أواخر القرون الوسطى وعصر النهضة. وقد سلك الفلاسفة والمتكلِّمون المسيحيون ـ الذين عاصروا تلك المرحلة ـ طرقاً مختلفة من أجل بيان العلاقة القائمة بين الدين والأخلاق. وذهب جماعة من هؤلاء الفلاسفة، من أمثال: أوغسطين وآنسلم وآبلارد وأوكام، إلى اعتناق الأخلاق القائمة على الدين (الأخلاق الكلامية، أو الأخلاق القائمة على إرادة الله وأوامره)؛ إذ يرى هؤلاء الفلاسفة أنّ القِيَم أو الفضائل الأخلاقية تدور مدار دوافع الفاعل ونواياه، وإن الدوافع والنوايا الصحيحة على المستوى الأخلاقي هي تلك التي توافق الأوامر والتعاليم الإلهية([43]). وذهب آخرون، من أمثال: أكويناس، إلى القول باستقلال الأخلاق عن الدين ووجود الحقوق الطبيعية([44])، وإنْ كانوا يلتزمون في الوقت نفسه ـ بالإضافة إلى الفضائل المطروحة في الأخلاق العلمانية الإغريقية ـ إلى القول بفضائل أخرى، من قبيل: «الإيمان»، و«الأمل»، و«الحبّ»، و«الإحسان»، تحت عنوان «الفضائل الإلهية» أيضاً([45]). كانت المدارس الأخلاقية في هذه المرحلة تستمدّ معينها من الأخلاق الإغريقية من جهةٍ، ومن النصوص المقدَّسة من جهة أخرى، وكانت تسعى ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ إلى التوفيق بين الأخلاق المنبثقة عن الأنظمة الأخلاقية الإغريقية (الأخلاق القائمة على العقل) وبين الأخلاق المنبثقة عن النصوص المسيحيّة (الأخلاق القائمة على المحبّة).
إن الخصوصية المشتركة نسبياً بين الآراء الأخلاقية للفلاسفة والمتكلِّمين البارزين في هذه المرحلة يمكن العثور عليها في هذه الفضيلة المسيحية الهامّة التي ترى أن أسمى مراتب الخير والسعادة لا يمكن الحصول عليه إلاّ من خلال مفهوم «الخلاص»([46]). وإن الخلاص لا يأتي إلاّ من خلال امتثال الأوامر الإلهية([47]).
وعلى الرغم من اختلاف آراء الفلاسفة والمتكلِّمين في هذه المرحلة بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق كانت الخصوصية البارزة في هذه المرحلة تكمن في تأثُّر أخلاق عامّة الناس بالتعاليم والعقائد الدينية، وكان تمسُّكهم بالقِيَم الأخلاقية، وكذلك فهمهم لطبيعة هذه القِيَم والمتبنَّيات الأخلاقية، يقوم على الفرضيات الكلامية والميتافيزيقية في حقل وجود الله وأوامره، وطبيعة الإنسان، والحياة بعد الموت، والتأثُّر بالنماذج الأخلاقية الموجودة في النصوص المقدَّسة. ومن هنا يمكن تسمية الأخلاق في هذه المرحلة بـ «الأخلاق الدينية». فعلى سبيل المثال: يمكن لنا أن نذكر «الوصايا العشر» في العهد القديم، و«الأمر بمحبّة الجار» في العهد الجديد. إن تأثير الدين على الأخلاق وامتزاج المفاهيم الأخلاقية بالتعاليم الدينية في هذه المرحلة من العمق والقوّة بحيث قال بعض الناقدين المعاصرين للأخلاق العلمانية: إن الانخراط في العلمانية أو الدعوة إلى عَلْمنة الأخلاق أدّى بمفاهيم بعض المفردات الأخلاقية إلى الزوال والاضمحلال؛ إذ يرى هؤلاء الناقدون أنّ هذه المفردات تكون معقولة وناجعة ضمن إطار ورؤيةٍ خاصة، أي ضمن رؤية ميتافيزيقية جامعة وشاملة بشأن الله والكون والإنسان وموقع الإنسان في الوجود([48]).
ج ـ مرحلة الأخلاق العلمانية
تبدأ هذه المرحلة من عصر التنوير، ولا تزال مستمرّة إلى اليوم. إن من الخصائص البارزة لعصر التجديد هي النزعة الإنسانية والعقلانية. فقد سُمِّي عصر التنوير بـ (عصر العقل) و(عصر الحداثة) أيضاً. وإن الأركان الرئيسة للحداثة هي:
1ـ مرجعية العقل.
2ـ الحكم الذاتي([49]).
3ـ النزعة الفردانية([50])، أو أصالة الفرد في قبال أصالة المجتمع([51]) أو أصالة الجماعة.
ففي العصور الوسطى كان كلّ شيء يتَّسم بالصبغة الدينية، وكانت الهوية الجماعية الدينية مقدَّمة على الهوية الفردية. كانت سلطة الدين مطلقة، وكانت مرجعية الكنيسة شاملة، وكانت آراء الكهنوت المسيحي تمثِّل المرجعية النهائية، لا في الدين وتفسير النصوص الدينية فحَسْب، بل كانت تشمل حتّى الأخلاق وعلم السياسة والفلسفة أيضاً. وكانت هذه المرجعية تستظلّ بمحورية الله، وجعل المساحة الدينية مساحة مطلقة، وتقديم الهوية الدينيّة على الهوية الإنسانيّة، بمعنى أنه كان يتمّ الإيحاء للناس بأن الله هو الذي أعطى هذا الحقّ للكنيسة. وإن التعاليم الدينية بشأن العلاقة بين الله والإنسان كانت توفِّر الدعامة النظرية لسلطة الكنيسة المطلقة على مختلف الأبعاد الفردية والجماعية من حياة البشر. لقد كان إله القرون الوسطى «إلهاً واسع الصلاحيات»([52])، بمعنى أنه كان إلهاً مستبدّاً، وغير ملتزم بالموازين الأخلاقية والعقلائية والمنطقية. وإنّ عبادة مثل هذا الإله كانت توفِّر الدعامة النظرية والنفسية لسلطة أرباب الكنيسة المطلقة على الناس، وكانت عبادته مرتبطةً برباط وثيق بالطاعة المطلقة والعمياء لأرباب الكنيسة والحكّام المستبدِّين. كان رجال الكنيسة يدَّعون أن العلم والفلسفة والأخلاق والسياسة ليس لها وجودٌ وهوية مستقلّة عن الدين، من هنا تكون المساحة الدينية مساحة مطلقة، تشمل العلم والفلسفة والأخلاق والسياسة أيضاً. ولذلك كان رجال الكنيسة يعطون لأنفسهم حقَّ التدخُّل وإبداء الرأي في جميع هذه الموارد، وكانوا يستخدمون حقَّ النقض تجاه الآراء والنظريات التي يطرحها الآخرون، ويعتبرون مخالفتهم مخالفة لله، ولذلك كانوا يتَّهمون مَنْ يخالفهم بالكفر والارتداد والإلحاد، وينزلون بحقِّهم أشدّ العقوبات([53]).
وأما في عصر التنوير فقد خرج العلم والأخلاق والسياسة عن سيطرة الكنيسة الحصريّة، بل خرج حتّى تفسير الدين عن سلطتها أيضاً. ولم يستقلّ العلم عن الدين فحَسْب، بل استقلّ حتّى علم الأخلاق والسياسة عن الدين أيضاً. وانحصرت حدود الدين بالدين. ولم يتحقَّق هذا كلّه إلاّ من خلال الاستناد إلى فكرتين أساسيتين، وهما: «النزعة الإنسانية»؛ و«النزعة العقلانية». حيث تمكَّن المفكِّرون في هذه المرحلة من العثور على قواعد غير دينية للأخلاق، ولم تكن هذه القواعد غير الطبيعة والعقل أو الإرادة الفردية أو الجماعية للبشر. وهكذا أصبحت الأخلاق في عصر التنوير علمانية، بمعنى أن الأفكار والمتبنَّيات الأخلاقية، وكذلك الدوافع الأخلاقية، أضحَتْ عقلانيةً وفوق دينية، ومنذ ذلك الحين فقدت المتبنَّيات الدينية دورها التوجيهي والتحفيزي في الأخلاق([54]).
وبطبيعة الحال لا ينبغي إنكار الدَّوْر غير المباشر الذي لعبته الثورة العلمية في هذا الشأن؛ فإن الثورة العلمية من جهةٍ قد عملت على زعزعة ثقة المفكِّرين إلى حدٍّ كبير بالأنظمة الميتافيزيقية الشمولية؛ لأن هذه الأنظمة قد روَّجت للنظريات الخرافية وغير العلمية، وحالت دون تطوُّر المجتمعات البشرية علمياً على مدى قرون متمادية؛ ومن جهة أخرى أحلَّتْ الإدارة العلمية محلّ الإدارة الدينية. والعنصر الهامّ الآخر الذي أدّى إلى زعزعة الثقة بالأنظمة الميتافيزيقية الشمولية، واضمحلال رصيدها القدسي، يكمن في توظيفها لهذه الأنظمة في تبرير الظلم، وممارسة العنصرية، ومصادرة الحريات الفردية، وإقامة محاكم التفتيش، وفرض الآراء والأفهام والأذواق الشخصية والفئوية على الآخرين باسم الدين.
وهكذا حصل أن تخلَّى الله في عصر التنوير عن موقعه لصالح الإنسان، وأضحى العقل الإنساني «المتأصِّل» و«الحاكم على ذاته»، وحلَّتْ «شريعة العقل» محل «شريعة النقل»، أو تقدَّمت عليها. يذهب بعض المنظِّرين إلى الاعتقاد بأن الخصوصية المشتركة في أخلاق الحداثة يمكن اعتبارها في نفي وإنكار أو الشكّ والترديد في خصوصية كلٍّ من الأخلاق الإغريقية والأخلاق المسيحية([55]). وإنّ هاتين الخصوصيتين عبارة عن:
1ـ تساوي نمط الحياة وأسلوبها لجميع الأفراد.
2ـ محوريّة إطاعة الأوامر الإلهية في الحياة الأخلاقية.
لقد كانت علاقة الإنسان مع الآخرين ومع المؤسَّسات الاجتماعية في القرون الوسطى تابعة لعلاقته مع الله، وأما في عصر التنوير فقد أخْلَتْ هذه التبعية مكانها لصالح الاستقلال. لقد كان حقّ الطاعة لله أو وجوب إطاعته يتمّ تفسيره في العصور الوسطى بشكلٍ يبرِّر أنواع الظلم والمحاباة بين الناس، ويعمل على توجيه الاستسلام والإذعان للمؤسَّسات والأنظمة السياسية والاجتماعية الجائرة.
وأما في عصر التنوير فقد ساد الادّعاء القائل بأن نسبة الله إلى جميع الناس واحدة، وليس لأحدٍ السلطة أو الولاية على غيره، وإن جميع الناس يشتركون في خلافة الله بشكلٍ متكافئ، وإنّ كلَّ شخصٍ حاكم على مصيره، وإنّ سهم الأفراد في اتّخاذ القرارات الجماعية في ما يتعلَّق بكيفية إدارة المجتمع متعادل، وليس هناك في المجتمع مواطنة من الدرجة الأولى ومواطنة من الدرجة الثانية، وقيمة آراء الجميع متساوية، ولا يحقّ لأحدٍ أن ينقض رأي الآخر، ولا يحقّ لرجال الكهنوت أو رجال الدولة والسلطة أن يبيحوا لأنفسهم حقَّ الإشراف التقويمي والتصحيحي على الناس وآرائهم. إن المعيار في التفاضل بين الأفراد عند الله هو التَّقْوى والوَرَع، وأما المعيار في توزيع الإمكانات والصلاحيات والمسؤوليات والنفقات والمشقّات والحقوق والوظائف الاجتماعية، والأهمّ من جميع ذلك المعيار في تقسيم الحرّيات والمواقع السياسية، فهو العدالة، وليس التَّقْوى. والعدالة في هذا المقام وصف للمؤسَّسات والعلاقات الاجتماعية، وليس مَلَكة نفسانية. والعدالة الاجتماعية تقتضي أن لا نأخذ المنزلة والمكانة الدينية للأفراد ومتبنَّياتهم الكلامية والميتافيزيقية ورؤيتهم للحياة الصالحة، وكذلك مقدار علمهم ونوعية اختصاصهم في المعرفة الدينية، بنظر الاعتبار في توزيع الإمكانات والنفقات والحرّيات والمسؤوليات الاجتماعية، بمعنى أن هذه الأمور لا تعتبر ذات صلة بالتفاضل من ناحية الأخلاق الاجتماعية.
إن من أهمّ المدارس الأخلاقية وأكثرها تأثيراً في هذه المرحلة مدرسة (كانت)؛ والمدرسة النفعية. فقد ذهب (كانت) إلى الاعتقاد بأن القوانين الأخلاقية تنبثق في الحقيقة عن مقتضيات «العقل» العملي، وعن الإرادة الحرّة لـ «العامل الأخلاقي»([56]) التي هي عاقلة تماماً. يرى (كانت) أن الإرادة الصالحة هي مصدر جميع الفضائل. وإن من الخصائص البارزة في مدرسة (كانت) الأخلاقية تأكيده على «الاستقلال» أو «الحكم الذاتي» الأخلاقي للإنسان. وإنّ الاستقلال والحكم الذاتي الأخلاقي([57]) مزيج من الدعاوى التالية:
1ـ إن القانون الأخلاقي ينبثق عن إرادة العامل نفسه، وليس عن إرادة الآخرين.
2ـ إن العقل البشري مستقلٌّ في معرفة القوانين الأخاقية، دون حاجة إلى الوحي والنقل.
3ـ إن دافع الفرد في إطاعة القوانين الأخلاقية إنّما يكون أخلاقياً إذا كان منبثقاً عن الشعور بالمسؤولية، وليس عن أمورٍ خارجية، من قبيل: التَّوْق إلى المديح أو الحصول على الثواب الدنيوي والأخروي، أو تجنُّب النقد والعقوبة الدنيوية أو الأخروية([58]).
إن للقانون الأخلاقي من وجهة نظر (كانت) خصوصيتين «صوريتين»([59]) بارزتين، وهما:
1ـ الإطلاق([60]).
2ـ القابلية للتعميم([61]).
كما كان (كانت) يذهب إلى الاعتقاد بأن كلّ إنسانٍ من حيث هو إنسان يعتبر غاية في نفسه، ولا يحقّ لأي شخص أن يتَّخذه مجرّد وسيلة لتحقيق مقاصد وأهداف شخصٍ آخر أو جماعة أخرى. يرى (كانت) أن الأخلاق ليست مستقلّة عن الدين من جميع الجهات فحَسْب، بل هي كذلك تشكِّل مبنى لإثبات وجود الله والحياة بعد الموت أيضاً([62]). إن أخلاق (كانت) هي نوعٌ من «المسؤولية»([63])، إلاّ أن (كانت) وأتباعه لم يعتقدوا يوماً أن الوظائف الأخلاقية تنشأ عن إرادة الله وأوامره. إن المسؤولية هنا لا تعني مجرَّد أن الضرورات والمحظورات الأخلاقية تابعة للمصالح والمفاسد والنتائج والتداعيات الحسنة والسيئة دائماً، بل هي في أغلب الأوقات؛ بمقتضى الخصائص، تكون ذاتية العمل والنشاط. إن القوانين الأخلاقية في مدرسة (كانت) تنبثق عن إرادة الإنسان الحرّ، بَيْدَ أن الإنسان الذي يتحدّث عنه (كانت) هو إنسان مثالي وعاقل بشكلٍ كامل. وكما سوف نرى لا فرق بين حكم هذا الإنسان وحكم الله بوصفه شاهداً مثالياً.
أما المذهب الأخلاقي الآخر الذي حظي في المرحلة المعاصرة باحتضانٍ عامّ؛ بوصفه واحداً من التفسيرات العلمانية للأخلاق، فهو المذهب «النفعي»([64]). يدّعي النفعيون أن «أصل المنفعة»([65]) أصل أخلاقيّ يحكي عن الضرورة الأولى التي يمكن أن نستنتج منها جميع الوظائف والضرورات والمحظورات الأخلاقية الأخرى، ويمكن تبريرها في ظلّها. إن مذهب المنفعة يعني «الأمر الذي يحقِّق الخير الأكبر لأكثر عددٍ من الأفراد». بَيْدَ أن النفعيّين يختلفون بشأن ماهيّة هذه المنفعة، وما إذا كانت كمّيةً أو كيفية، وما إذا كان معيار احتساب الربح والخسارة فيها هي الأعمال الجزئية أم الأصول الكلّية أو شيءٌ آخر. كما اختلفوا في مناهج حساب الربح والخسارة. إلاّ أنّهم متَّفقون على أنّ الوظيفة الأخلاقية تدور دائماً مدار نتائج الأفعال لأكثر الأفراد، بل حتى لأكثر الكائنات الحيّة([66]). وعلى أيّ حال فإن الأخلاق من وجهة نظر النفعيين مستقلة عن الدين، بمعنى أن الوظائف الأخلاقية لا تنشأ عن الإرادة أو الأوامر الإلهية، وبمعنى أن هذه الوظائف قابلة للإدراك من خلال المحاسبات العملية والعقلانية لمنافع الأعمال والمضارّ المترتِّبة عليها([67]).
إن الأنظمة الأخلاقية العلمانية في المرحلة المعاصرة تختلف عن الأنظمة الأخلاقية العلمانية الإغريقية اختلافاً كبيراً. ومن الجدير هنا الإشارة إلى بعض موارد الاختلاف بين هاتين المرحلتين:
المورد الأوّل: إن هذه الأنظمة تشتمل على القليل من العناصر الميتافيزيقية بالمقارنة مع الأنظمة الإغريقية؛ لأنها تقوم على فرضيات والتزامات ميتافيزيقية أقلّ في ما يتعلَّق بالكون والإنسان.
المورد الثاني: إن الأخلاق الإغريقية تدور «مدار الفضيلة»([68]) أو إنها ذات «نزعة عملانية»([69]). في حين أن الأخلاق عند (كانت) والأخلاق النفعية ذات «نزعة عملية»([70])، أو ذات «نزعة قانونية»([71]).
إن الوجه المشترك بين الأخلاق الإغريقية والأخلاق عند (كانت) والأخلاق النفعية يكمن في علمانيتها؛ إذ تشترك هذه المذاهب الأخلاقية في القول بعدم قيام الأخلاق على الدين، وإن المعرفة الأخلاقية لا تندرج ضمن المعرفة الدينية([72]).
شهدَتْ العقود الثلاثة الأخيرة مساعٍ قام بها بعض المتكلِّمين والفلاسفة اليهود والمسيحيين تهدف إلى إحياء وإصلاح الأخلاق الدينية، وإعادتها إلى التداول. وقد جهد أنصار الأخلاق الدينية في المرحلة المعاصرة بشكلٍ رئيس إلى تقديم نَسَق واضح ودقيق عن مدَّعاهم، من خلال جرح وتعديل وإصلاح القراءة التقليدية للأخلاق الدينية. كما عمدوا إلى إثبات أن هذه القراءة المستصلحة تصمد أمام النقد والإشكالات المطروحة بشأنها من قبل القائلين باستقلالية الأخلاق عن الدين. وسعَوْا أيضاً إلى إثبات وجود أدلّة وشواهد مقنعة لصالح هذه النظرية([73]).
1ـ 4ـ كلمة أخيرة
إن الإدراك والفهم الذي يحمله المسلمون ـ بشكلٍ عام ـ تجاه الأخلاق ودورها في تنظيم وهداية أفعال الإنسان كان ولا يزال مختلفاً بشكلٍ كبير عن فهم وإدراك الغربيين لشأن ومنزلة وآلية الأخلاق. فالأخلاق من وجهة نظر المسلمين تعدّ أوّلاً وبالذات مقولة فردية وأخروية، بمعنى أنها تُعْنَى بباطن الفرد، وناظرة إلى إصلاح وتهذيب النفس الإنسانية بما يضمن سعادة الشخص وفلاحه الأخروي، وإنّ تأثيرها في تنظيم العلاقات الاجتماعية يكون تبعياً (ثانياً وبالعَرَض).
وأما في العالم الغربي ـ وخاصّة في العالم المتطوِّر ـ تعتبر الأخلاق أوّلاً وبالذات مؤسّسة اجتماعية ناظرة إلى العلاقات الفردية، وسائر الأنظمة الاجتماعية والمبنائية إنما تأتي في إطار التعاون الجماعي. وإنّ دورها وآليّتها الأصلية والأوّلية تصبّ في ضمان الرفاه والسعادة الاجتماعية والدنيوية، وإن تأثيرها على الكمال والسعادة الفردية والأخروية هو تأثير تَبَعي وبالعَرَض. إن الدور الذي تلعبه فلسفة الأخلاق في الحضارة الغربية هو تماماً مثل الدور الذي يلعبه علم الفقه في الحضارة الإسلامية، وعليه فإن فلسفة الأخلاق في الحقيقة تمثِّل فقه العالم الحديث، وإنّ فلاسفة الأخلاق هم فقهاء العالم الحديث.
يذهب بعض المنظِّرين إلى الاعتقاد بأن الحضارة الإسلامية حضارة فقهية، ومنتجة للفقهاء. بَيْدَ أنّي أرى أن المعنى الصحيح لهذا الكلام هو أن الفقه في هذه الحضارة قد حلَّ محل الأخلاق، لا أنه ضيَّق الخناق على الأخلاق. طبقاً لتعريف الأخلاق عند الغربيين يمكن القول: إن الفقه هو الأخلاق السائدة في المجتمعات الإسلامية، بمعنى أن الفقه في الثقافة الإسلاميّة متقدِّمٌ على الأخلاق الفردية، وعلى الأخلاق الاجتماعية، في حين يذهب الإنسان الحداثوي إلى القول بتقدُّم الأخلاق الفردية على الفقه الفردي، وبتقدُّم الأخلاق الاجتماعية على الفقه الاجتماعي.
كان المجدِّدون، من أمثال: أبي حامد الغزالي، يعتبرون الفقه علماً دنيوياً يعالج ظاهر الدين، ويقولون بأن الأخلاق هي الفقه الحقيقي الذي يهتمّ بباطن الدين، وكانوا يشكُون من أن ظاهر الدين قد ضيَّق الخناق على باطنه. يرى الغزالي أنّ وظيفة علم الفقه تكمن في رفع الخصومات، في حين يرى أنّ وظيفة علم الأخلاق تكمن في تهذيب النفس الإنسانية. يقول الغزالي: لو عامل الناس بعضهم بعضاً بالعدل والإنصاف لاستغنوا عن الفقه، ولأصبح الفقهاء عاطلين عن العمل([74]). إلاّ أنّ إدراك وفهم الغزالي لمكانة الفقه والأخلاق ـ وكما هو واضحٌ ـ هو فهمٌ تقليدي يختلف عن فهم المعاصرين لهما. إن الغزالي ـ كسائر علماء الأخلاق من المسلمين ـ ينظر من جهةٍ إلى الفقه من زاوية الأخلاق الاجتماعية، ومن جهةٍ أخرى يخفض العدالة الاجتماعية إلى مستوى العدالة الفردية، متصوِّراً أنه إذا أصبح أفراد المجتمع عدولاً فإن الخصومات سوف تنحسر من بينهم. وكأنَّه لم يتفطَّن إلى هذه المسألة الدقيقة، وهي أن السلوك العادل تجاه الآخرين يتوقَّف على الالتزام بنظريّة خاصّة في ما يتعلَّق بالعدالة الاجتماعية والحقوق الأساسية للبشر، كما أن رفع الخصومات عن المجتمع الإنساني منوطٌ باعتناق نظريّة في كيفية السيطرة على السلطة والثروة وتوزيعها بشكلٍ عادل. إن تطبيق مثل هذه النظريّة يعني بناء مؤسَّسات اجتماعية على أساس تلك النظرية، وبعد اتِّصاف تلك المؤسَّسات بالعدالة تنخفض النزاعات الاجتماعية إلى الحدِّ الأدنى، وإنّ رفع تلك النزاعات القليلة يقوم بدوره على تطبيق نظريّة في حقل العدالة القضائية والجزائية، وليس بوسع الفقه ولا الأخلاق الفرديّة اكتشاف تلك النظرية أو تنسيقها.
وبعبارةٍ أخرى: يذهب الغزالي إلى الاعتقاد بأن سرَّ احتياج الناس إلى الفقه ـ أو الأخلاق الاجتماعية، بحَسَب التعبير المعاصر ـ يكمن في أن بعض أفراد المجتمع يفتقرون إلى الفضائل الأخلاقية الفردية، أو أنهم يعانون من الرذائل الأخلاقية الفردية. وفي هذا المورد نجده يتجاهل الهويّة الاجتماعية للبشر، كما يغفل عن كيفية تبلور السلوكيات والعلاقات الاجتماعية، ويعمل على خفض علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي إلى مستوى علم النفس الفردي، ولم يلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أن المجتمع الظالم حتّى إذا حاول الأفراد فيه التعاطي مع بعضهم بالعَدْل والانصاف فإنهم لن ينجحوا في ذلك على الأغلب. إنّ تفشي الرذائل الأخلاقية في المجتمع يُعتَبَر ظاهرة اجتماعية، وعلى حدّ تعبير دوركيم: «إن الظواهر الاجتماعية تحتاج إلى تفسير اجتماعي»([75]).
وبطبيعة الحال إنّ أغلب الانتقادات التي يوردها الغزالي على الفقه والفقهاء إنما هي في الحقيقة انتقادات أخلاقية. ولربما أمكن لنا أن نستنتج من ذلك أنه كان يذهب أيضاً إلى تقدُّم الأخلاق على الفقه. ولكنْ من الواضح أنّ مراد الغزالي من تقدُّم الأخلاق على الفقه ـ في مثل هذه الحالة ـ هو تقدُّم الأخلاق الدينية والفردية والأخروية على الفقه، ويكون هذا التقدُّم قيمياً واعتبارياً أكثر منه منطقياً ومعرفياً. لست متأكِّداً مما إذا كان الغزالي ملتفتاً إلى ما يُعْرَف اليوم بالأخلاق التي تفوق الدين، أو الأخلاق العلمانية، أو الأخلاق الاجتماعية، أم لا. وحيث ينتمي الأشعري إلى المدرسة الأشعرية من الناحية الكلامية ربما أمكن القول باعتباره متمسِّكاً بقراءة لنظرية الأمر الإلهي في ما يتعلَّق بالارتباط بين الدين والأخلاق. ولكنّ هذا الادّعاء بحاجةٍ إلى المزيد من البحث والتحقيق؛ لأن القول ببعض نظريّات الأشاعرة في ما يتعلَّق بجانبٍ من المسائل الكلامية لا يعني بالضرورة القول بجميع نظريّاتهم في جميع المسائل، بما في ذلك مسألة العلاقة بين الدين والأخلاق.
الهوامش
________________
(*) أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) المجلسي، بحار الأنوار 1: 94، مؤسسة الوفاء، بيروت.
([2]) يسعى كلٌّ من: أنسكومب (Anscombe: 1958)، وماك إينتاير (MacIntyre: 1985)؛ من خلال الاستناد إلى مقدمات مختلفة، إلى إثبات أن الارتباط التاريخي بين الدين والأخلاق يستلزم الارتباط المنطقي بينهما، وأن الأخلاق العملية والمفاهيم السائدة في هذه الأخلاق ذات صلة وثيقة وعميقة بالرؤية المسيحية وما قبل المسيحية، ولذلك فإن هذه الأخلاق قد فقدت معناها ومبناها المقبول في العالم الحديث. (انظر في هذا الشأن: (3 / 2)).
([3]) إن المراد من إرادة الله هنا هي الإرادة الأعمّ من التكوينية والتشريعية. وإن الإرادة التكوينية لله هي التي تكون منشأ للتكوين، والإرادة التشريعية لله هي التي تكون منشأ لتشريعه.
([4]) Mouw, R.J.(1998) «Religion and Morality», in Routlege Encyclopedia of Philosophy (London: Routledge).
([8]) إن دراسة العلاقة بين الدين والأخلاق والحصول على إدراك وتصوُّر واضح ومقبول لهذه العلاقة تحظى بأهمية أكبر بالنسبة إلى المتديِّنين الذين يعتقدون بوجود الله. وتأتي أهمية هذه النظرية بالنسبة لهم من أنهم مسؤولون من الناحية العقلانية عن المواءمة والمناغمة بين متبنَّياتهم وشهوداتهم الدينية من جهةٍ ومتبنَّياتهم وشهوداتهم الأخلاقية من جهةٍ أخرى. (انظر في هذا الشأن:
Berg, J.(1991) «How Could Ethics Depend on Religion?» in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics, (Oxford: Blackwell Publishers) , 525 – 533.
وإن الأهمية العملية لهذه المسألة تكمن في التأثير الذي تتركه على الحياة الدينية والأخلاقية للمتدينين.
([9]) Frankena, W.K.(1981) «Is Morality Logically Dependent on Religion?» in Paul Helm (ed.) Commands and Morality (Oxford: Oxford University Press) , pp.14.
([10]) إن النقد الأخلاقي للحضارة الجديدة أمرٌ إيجابي وضروري، ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل يمكن للدين والحكومة الدينية أن تقضي على الانحطاط الأخلاقي في العالم المعاصر، وأن تحول دون سقوط المجتمعات الدينية وغير الدينية الراهنة في الانحطاط الأخلاقي، أم أن المجتمعات الدينية وغير الدينية تعاني اليوم من أمراض وانحطاط أخلاقي مشترك لا خلاص لها منه إلاّ بالرجوع إلى الأخلاق والعقلانية الأخلاقية؟ وبعبارة أخرى: إن السؤال هو: هل يمكن علاج الانحطاط الخلقي من خلال العودة إلى الدين وتأسيس حكومة دينية أم من خلال العودة إلى الأخلاق والتأسيس لدولة أخلاقية؟
([12]) إن وجود الإله الشخصي لا يستلزم نفي وجود الله غير المتشخص. وفي هذا المورد أذهب إلى ما يتبناه العرفان الإسلامي التقليدي، والذي على أساسه يكون الله المتشخِّص واحداً من مظاهر وتجليات الله غير المتشخِّص. إن هذه الرؤية التقليدية لا تقول بوجود تقابل بين تشخُّص الله وعدم تشخُّصه، وترى إمكان الجمع بين هذين الرؤيتين عن الله، والتوفيق بينهما.
([13]) يروي الشيخ الكليني في أصول الكافي عن الإمام جعفر الصادق(ع) أنه قال: يا هشام، إن لله على الناس حجتين: حجّة ظاهرة؛ وحجّة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول. (الكافي 1: 15). وروي عن الإمام علي(ع) أنه قال: العلم علمان: مطبوع؛ ومسموع، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع. (نهج البلاغة، الحكمة رقم 346). وحيث إن الإدراكات العقلانية والوجدانية هي من إلهام الله يمكن القول: إن جوهر العلمانية الأخلاقية عبارة عن ادّعاء تقدُّم (حدَّثني عقلي عن ربّي) على (حدَّثني فلان عن فلان).
([14]) بعبارة أخرى: لا يمكن اكتشاف وإثبات حكم الإله العادل من طريق حكم الإله الشارع. كما لا يمكن اكتشاف وإثبات حكم الإله الشارع من طريق حكم الإله العادل. بَيْدَ أنّه بالإمكان العمل على اكتشاف الفهم والتفسير الخاطئ لحكم الإله الشارع، وإبطاله من طريق حكم الإله العادل.
([15]) إن النـزاعات النظرية والعملية في دائرة السياسة بين أصحاب السلطة وأنصار الديمقراطية في قطرنا تعدّ في واقع الأمر من فروع مسألة تقدُّم الدين على الأخلاق أو تقدُّم الأخلاق على الدين.
([16]) الكليني، أصول الكافي 1: 74، الحديث 29، دار الكتب الإسلامية، طهران.
([17]) normative ethics.
([18]) يجب أن يفهم مدّعى المعتزلة القائم على ذاتية الحُسْن والقُبْح الأخلاقي بمعنى أن الحسن والقبح الأخلاقي يتخطّى الحالة الدينية، وليس بمعنى الوجود الحقيقي والخارجي للحسن والقبح، وليس بمعنى وجود الذات والماهية بالمعنى الأرسطي للأمور التي تتَّصف بالحسن والقبح. إن مراد المعتزلة هو أن الحسن والقبح الأخلاقي ليس اعتباراً شرعياً، كما أنه ليس تابعاً لاعتبار الشارع أيضاً. وهذا الادّعاء ينسجم مع اعتبارية الحسن والقبح الأخلاقي. إن بالإمكان نفي شرعية الحسن والقبح الأخلاقي، والادّعاء ـ في الوقت نفسه ـ بأن الحسن والقبح الأخلاقي يصدر عن اعتبار العقل أو العقلاء. وأيّاً كان فإنّ نفينا لشرعية الحسن والقبح الأخلاقي لا يعني نفي اعتباريّتهما، بل يعني نفي الدور والتأثير الحصري للشارع في تحقُّق أو اعتبار الحسن والقبح. وبطبيعة الحال فإن ظاهر كلام المعتزلة يدلّ على أنهم يرَوْن أن الحسن والقبح الأخلاقي من الأوصاف العينية والموضوعية بالمعنى الخاصّ للكلمة، رغم أن مجرّد نفي شرعية الحسن والقبح الأخلاقي لا يستلزم القول بهذا الأمر.
([19]) من الناحية الكلامية يحظى الأصل الأوّل على كلا المنهجين (المعتزلي والأشعري) بأهمّية أكبر، في حين تكون الأهمية الأكبر من الناحية الأخلاقية للأصل الثاني، على كلا المنهجين أيضاً.
([20]) سنرى أن الأشاعرة لم ينكروا أصل العلّية بشكلٍ مطلق، وإنما كانوا ينكرون علّية العلل «المعدّة» أو ضرورة القوانين العلمية.
([24]) يقول ابن سينا: «ما جعل الله المشمشة مشمشة، بل أوجدها»، في حين يقول القرآن الكريم في معرض بيان قصّة النبي إبراهيم: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ (الأنبياء: 69).
([25]) وربما أمكن العثور على منشأ سياسي للنـزاع بين الأشاعرة والمعتزلة؛ إذ من التداعيات المباشرة لرؤية الأشاعرة في السياسة وفلسفتها أنّه بالإمكان العثور على ما يمكنه أن يشكِّل دعامة ومستنداً للحكّام المستبدّين واستبداد الحكام. فإذا كان الله مستبدّاً، ولم تكن إرادته وقدرته مقيَّدة بالقيود الأخلاقية، وإذا كانت إرادته وكراهته هي المعيار في تحديد العدل والظلم، والحسن والقبح، ففي هذه الصوة يمكن لله أن يختار أيّاً كان ليكون خليفته في الأرض، هذا أوّلاً. وثانياً: إن إرادة وكراهة الحكّام الذين هم خلفاء الله في الأرض لن تكون مقيَّدة بالقيود والقِيَم الأخلاقية، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، فإن إرادتهم هي التي تكون المنشأ والمعيار لما هو حَسَن أو قبيح على المستوى الأخلاقي. وعلى كل تقدير يسهل الرضا بحكومة ومشروعية الحاكم المستبدّ من قبل ذلك الذي يعبد إلهاً مستبدّاً. وأما إذا كانت إرادة الله وقدرته مقيَّدة بالقيود الأخلاقية، وكان فعله في معرض النقد والتقييم الأخلاقي، فعندها لن يكون في مقدوره أن ينصِّب أيَّ شخص بوصفه خليفة له في الأرض. وسيغدو بالإمكان على المستوى الأخلاقي نقد وتقييم إرادة وقدرة وسلوك الحكّام المستبدّين الذين يدَّعون لأنفسهم خلافة الله؛ إذ عندما تكون قدرة الله وإرادته مقيّدة بالقيود الأخلاقية تكون قدرة وإرادة مَنْ يدَّعي خلافته مقيَّدة بهذه القيود بطريقٍ أولى، ولا يمكن أن يكون لله خليفة يتمتَّع بقدرة واختيار وإرادة فوق القِيَم الأخلاقية، وحاكمة على الضرورات والمحظورات الأخلاقية، ومنشأ للحُسْن والقُبْح. بَيْدَ أن التحقيق بشأن الخلفيات السياسية للأشاعرة والمعتزلة، والعلاقة مع الحكومات آنذاك، والدوافع السياسية للآراء والنظريات الكلامية للمتكلِّمين، خارجة عن نطاق هذه الدراسة.
([26]) هناك في الفلسفة والكلام الغربي عُرْف فكري متجذِّر يُعتبر القانون الأخلاقي على أساسه قانوناً طبيعياً (natural law)، وليس قانوناً وضعياً. وفي هذا العُرْف الفكري تنقسم القوانين إلى: طبيعية (natural)؛ ووضعية (positive). وإن حجية واعتبار القوانين الوضعية أو اعتبارها قانوناً في الأساس مشروطٌ بانسجامها مع القوانين الطبيعية. ويسمّى إنكار هذه الرؤية في فلسفة الحقوق بالوضعية الحقوقية (legal positivism). والأشاعرة في حقيقة الأمر كانوا ينكرون القانون الطبيعي (natural law)، كما كانوا يُنكرون قانون الطبيعة (the law of nature) أو القانون العلمي (scientific law)، بمعنى أنهم كانوا ينكرون ضرورتهما. ويرى الأشاعرة أن القوانين الطبيعية تابعة لإرادة الله التشريعية، وأن قوانين الطبيعة أو القوانين العلمية تابعة لإرادته التشريعية.
([27]) كما يمكن تفسير هذه الآية على النحو التالي: إن السبب في عدم إمكان سؤال الله عن أفعاله لا يكمن في أن أفعاله غير تابعة للقِيَم الأخلاقية، وإنما يعود سبب ذلك إلى أن أفعاله متطابقةٌ دائماً مع القِيَم الأخلاقية، بحيث لا يبقى هناك مجالٌ للشكّ في ذلك، ولن تكون هناك حاجةٌ للسؤال عما هو معروف بداهة، بمعنى أننا نعلم بداهةً وبشكلٍ مسبَق أن أفعال الله منسجمة ومتطابقة مع الموازين الأخلاقية.
([28]) هناك مَنْ رأى في إنكار الأشاعرة لضرورة القوانين العلمية إنكاراً لأصل العلّية، في حين أن الأمر ليس كذلك، فإن الأشاعرة كانوا يؤمنون بالعلّية الفاعلية لله ومعلوليّة ما سواه، وضرورة علاقة العلية والمعلولية بين الخالق والمخلوق، أو الواجب والممكن، وإنما كانوا ينكرون العلية المعدّة فحَسْب؛ لأن وجود مثل هذه العلية يستلزم تحديد علّية الله وتقييدها. كما أن قول المولوي: (إنما الأنبياء جاؤوا لقطع الأسباب) لا يعني نفي السببية، وإنما نفي خصوص العلّة المعدّة، أي نفي نوع خاصّ من العلّية التي يدَّعي الفلاسفة وجودها بين الممكنات. وهذه العلاقة هي غير العلاقة القائمة بين الواجب والممكن. وإن العلية المعدّة في الحقيقة هي مفاد ومضمون القوانين العلمية.
وعلى هذا الأساس فإن الصحيح هو أن نقول: إن الأشاعرة ينكرون ضرورة القوانين العلمية، لا أنهم ينكرون أصل العليّة. فالأشاعرة يعترفون بوجود علّة لكلّ معلول، ولكنَّهم يقولون: إنّ هذه العلّة هي الله، وإن علّية العلل المعدّة إنّما تأتي من باب جَرَيان العادة من قبل الله، وإذا أراد لأمكنه أن يخلق معلوله من دون توسيط هذه العلل، أو أن يحول دون اقتضاء وتأثير هذه العلل، كما حدث ذلك بالفعل بالنسبة إلى السيد المسيح، وجعل النار برداً وسلاماً على سيدنا إبراهيم(ع)، وما يحدث في سائر المعجزات. من هنا فإن الفلاسفة الذين يتبنَّوْن ضرورة العلّية الإعدادية في تحقُّق الممكنات يواجهون صعوبة في تفسير المعجزة. وبعبارة أخرى: يمكن القول: إن الله من وجهة نظر الفلاسفة هو علّة العلل، أو العلة الأولى، وإنّ لقانون العلّية ما لا يُحصى من المصاديق؛ إذ هناك دورٌ للعديد من العلل في تحقيق أحداث العالم وظواهره، في حين يذهب الأشاعرة إلى القول بأن علّة الوجود الوحيدة هو الله، وأن ليس لقانون العلّية سوى مصداقٍ واحد.
([29]) يمكن للحسن والقبح الأخلاقي أن يكون عينياً وواقعياً، ومع ذلك لا يكون له وجود في عالم الخارج؛ لأن عالم الواقع أوسع من عالم الوجود، فإن الأعداد والعلاقات الرياضية والمنطقية من الأمور التي لها واقعية، ولكنَّها غير موجودة. والأمور التي لها واقعية وما لها من وجود لا تكون تابعة لإرادة الله التشريعية، ولا تكون تابعة لإرادته التكوينية. إن الإرادة التكوينية لله هي مصدر الوجود، وليست مصدراً للواقعية، ولذلك فإن صدق القضايا الناظرة إلى هذه الأمور الواقعية والحاكية عنها لا تتوقَّف على افتراض وجود الله. على سبيل المثال: إن استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما واقعية، إلاّ أن هذه الواقعية لا تصدر عن إرادة الله التكوينية. وإن قضية امتناع اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما تبقى قضية صادقة حتّى لو افترضنا عدم وجود الله. ومن جهة أخرى فإنّ تبعية إرادة الله للقِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية، وإنْ كانت تستلزم تقييد قدرة الله بمعنىً من المعاني، إلاّ أنّ هذا التقييد لا يفرض على الذات الإلهيّة من الخارج، بل إن صفات الله وفضائله الأخلاقية هي التي تفرض عليه هذه القيود. وهذا الأمر ينسجم تمام الانسجام مع توحيد الله وكماله، فإن اتصاف الله بالعَدْل مثلاً يمنعه من ظلم أحد، أو أن تسبق رحمته غضبه (يا مَنْ سبقت رحمته غضبه)، وقد أوجب الله على نفسه الرحمة لعباده ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 12). وإن تبعية إرادة الله وفعله لصفاته غير تبعية إرادته وفعله لإرادة الغير، فالتبعية الأولى تنسجم مع التوحيد، في حين أن التبعية الثانية لا تنسجم مع التوحيد، فإن مراعاة الله للقِيَم الأخلاقية باختياره وإرادته؛ بسبب ما يتحلّى به من الصفات، لا يتنافى مع التوحيد، أي إن توحيد الله لا يقتضي استبداده. وكما قلنا فإن القِيَم الأخلاقية لها واقعية، وليس لها وجود، ولذلك تكون مقدّمة حتّى على وجود الله وإرادته أيضاً. وعلى هذا الأساس فإن تقدُّم الأخلاق على الدين يعني تقدُّم صفات الله الأخلاقية على اتصافه بالشارعية والمالكية والولاية والحاكمية، وليس بمعنى تقدُّم الإنسان وعقله وإرادته على عقل الله وإرادته.
([30]) إن هذه الرؤية إنما هي في واقع الأمر شرحٌ وتفسير لرأي الفلاسفة والمتكلِّمين الكبار، من أمثال: ابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي، حيث كان هؤلاء يصنِّفون القضايا الأخلاقية ضمن «القضايا المشهورة»، أو «التأديبات الصلاحية». وإن اختلاف المتأخِّرين ناظرٌ في الحقيقة إلى بيان طبيعة القضايا المشهورة واختلافها عن القضايا البديهية.
([31]) سوف نتناول هذا الرأي بالبحث والنقد التفصيلي لاحقاً.
([32]) للحصول على مزيدٍ من الشرح والتفصيل حول هذه المسألة، وأدلّتها الموافقة والمخالفة، انظر إلى الفصل الأول من كتابٍ لنا تحت عنوان «أخلاق المعرفة الدينية».
([33]) إن المراد من الأخلاق الدينية هي الأخلاق القائمة على الوحي واللاهوت، والمراد من الأخلاق العلمانية هي الأخلاق المستقلّة عن الوحي واللاهوت، والتي تقوم على العقل والفلسفة.
([34]) (Helm, P.(ed.) (1981) Divine Commands and Morality, P.2 (Oxford: Oxford University Press).
([36]) ذهب جماعةٌ من الفلاسفة الذين بحثوا في العلاقة بين الدين والأخلاق إلى اعتبار حوار أثيترون ناظراً إلى العلاقة المنطقية بين الدين والأخلاق، ولكنْ يبدو من ظاهر السؤال الرئيس في هذا الحوار أنه ينظر إلى العلاقة الأنطولوجية أو العليّة للدين والأخلاق، رغم أن العلاقة الأنطولوجية أو العليّة بين الدين والأخلاق سوف تستتبع العلاقة المنطقية بينهما. كما ذهب بعض هؤلاء الفلاسفة إلى اعتبار سؤال سقراط في هذا الحوار قراءة عن برهان السؤال المفتوح في مواجهة مغالطة الطبيعيين. في هذا الشأن انظر:
Pigden, C.R.(1991) «Naturalism», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics, (Oxford: Blackwell Publishers), p.426.
([39]) Helm, P.(ed.) (1981) Divine Commands and Morality, p.2, (Oxford: Oxford University Press.
([40]) كما تقدم أن ذكرنا فإن عينيّة القِيَم الأخلاقية لا تعني بالضرورة وجودها في عالم الخارج. هناك آراء وتفسيرات مختلفة في بيان واقعية القِيَم الأخلاقية، بَيْدَ أن الدخول في تفاصيلها يخرجنا عن حدود هذا البحث، وعليه يمكن لمَنْ أراد المزيد في هذا الشأن مراجعة الفصل الأول من كتابنا (أخلاق تفكُّر أخلاقي).
Schneewind, J.B.(1991) «Modern Moral Philosophy», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics (Oxford: Blackwell Publishers), p.147.
([42]) لمزيد من الاطلاع بشأن موقف الرواقيين من القانون الطبيعي (natural law) انظر:
Buckle, S.(1991) «Natural Law», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics, (Oxford: Blackwell Publishers), 161 – 174.
([43]) Haldane, J.(1991) «Medieval and Renaissance Ethics», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics, (Oxford: Blackwell Publishers), p.139 – 141.
([44]) قال أكويناس: «إن الإرادة الإنسانية تخضع لثلاثة أنظمة (قوانين): النظام الأول: نظام العقل الإنساني نفسه؛ والنظام الثاني: نظام الحكومات البشرية، سواء كانت معنوية (دينية) أو مادية (غير دينية)؛ والنظام الثالث: النظام العالمي الناشئ عن القانون الإلهي» (Summa Theologiae, Ia, IIae, q8, ai)، نقلاً عن:
Haldane, J.(1991) «Medieval and Renaissance Ethics», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics, (Oxford: Blackwell Publishers), p.133.
([47]) Schneewind, J.B.(1991) «Modern Moral Philosophy», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics (Oxford: Blackwell Publishers), p.147.
– Anscombe, G.E.M.(1958) «Modern Moral Philosophy,» Philosophy, 33 (124).
– MacIntyre, A.(1985) After Virtue: a Study in Moral Theory (London: Dukworth).
وفقرة: (2 / 3).
([52]) انظر في هذا الشأن: سروش، صراطهاي مستقيم، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران.
([53]) كان الشهيد المطهري يعتبر سلوك الكنيسة في القرون الوسطى من أهمّ الأسباب التي دعَتْ إلى توجّه الناس نحو المادية (انظر: مرتضى المطهري، الأعمال الكاملة: 491، انتشارات صدرا). وهناك رأي مماثل للدكتور سروش في ما يتعلَّق بأسباب الدوافع نحو العلمانية (انظر: سروش، «معنا ومبناي سكولاريزم، اينك در مدارا ومديريت»: 429 ـ 437).
ـ سروش، «پيامبر در صحنه»، اينك در بسط تجربه نبوي: 161 ـ 179.
ـ سروش، صراطهاي مستقيم، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.
ـ فنائي، أخلاق دين شناس (أخلاق المعرفة الدينية)، الفصل الثاني، الفقرة (2 / 4 / 3).
([55]) Schneewind, J.B.(1991) «Modern Moral Philosophy», in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics (Oxford: Blackwell Publishers), p.147.
([58]) يذهب الكثير من أنصار الأخلاق العلمانية ومنتقدي الأخلاق الدينية إلى القول بأن نشوء الضرورات والمحظورات الأخلاقية عن إرادة الله تنافي الاستقلال أو الاختيار الأخلاقي للإنسان. وسوف نبحث في هذا الادّعاء في الفصول القادمة.
([62]) كان (كانت) يعتقد بأن العقل النظري غير قادر على إثبات وجود الله، بَيْدَ أنّه في الوقت نفسه يمكن إثبات وجود الله من خلال استثمار العقل العملي والبراهين الأخلاقية. وإن من أهمّ أعمال (كانت) الأخلاقية الكتابين التاليين:
– Kant, I.(1997) Critique of Practical Reason trans.By Mary Gary Gregor (Cambridge: Cambridge University Press.(
– Kant, I.(1998) Groundwork of the Metaphysics of Morals trans.By Mary Gregor (Cambridge: Cambridge University Press).
([65]) the principle of utility.
([66]) توجد هنا مسألتان جديرتان بالذكر: الأولى: إن «المذهب النفعي» (utilitarianism) أخصّ من «المذهب الاستنتاجي» (consequentialism)، وهي في الحقيقة نوعٌ خاص منها. أما الأنواع الأخرى للمذهب الاستنتاجي فهي عبارة عن: «النـزعة الأنوية» (egoism)، و«النـزعة الإيثارية» (altruism). الثانية: إن المنفعة المنشودة هنا لا تكون منفعة مادية أو اقتصادية بالضرورة، فالكثير من النفعيين يريدون من ذلك الخير والصلاح العام، أو السعادة لجميع الناس، أو حتّى لجميع الكائنات، ومن هنا كانت ترجمة كلمة (utilitarianism) بالنفعية أو النـزعة النفعية ترجمة مضللة وغير دقيقة. يعتبر جيرمي بينثام وجون ستيوارت مل من المؤسِّسين للمذهب النفعي في الأخلاق. انظر في هذا الشأن:
– Bentham, J.(1996) An Introduction to the Principles of Morals and Legislation (eds.) by J.H.Burns and H.L.A.Hart (Oxford: Oxford University Press).
– Mill, J.S.(2001) Utilitarianism, (ed.) by George Sher (Indianapolis: Hackett Publishing Company).
([67]) يمكن الجمع بين «النـزعة الوظائفية» و«النـزعة النفعية»، وكذلك سائر قراءات الأخلاق العلمانية، من خلال اقتران القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية بإرادة الله وأوامره. هذا ما يؤكِّده جيرمي ببينثام وجون ستيوارت مل ـ وهما من المؤسِّسين للمذهب النفعي ـ صراحةً؛ إذ يقولان: إن المذهب النفعي لا ينفي الأوامر والنواهي الإلهية، وإنما يعمل على تحصيل ملاكاتها؛ إذ إن الأوامر والنواهي الإلهية تابعة للمصالح والمفاسد في الأفعال والأعمال أيضاً.
([72]) لقد شهد العقد الأخير عملية إحياة لأخلاق «الفضيلة». وقد تحوّل هذا المذهب إلى منافس عتيد لـ «النـزعة الوظائفية» و«الاستنتاجية». بَيْدَ أن أخلاق الفضيلة لا تعني الأخلاق الدينية أو تستلزمها بالضرورة.
([73]) لمزيدٍ من القراءة في هذا الشأن انظر:
– Adams, R.M.(1999) Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics (Oxford University Press).
– Wainwright, W.(2005) Religion and Morality (Ashgate Publishing Ltd).
– Quinn, P.L.(1978) Divine Commands and Moral Requirements (Oxford: Clarendon Press).
– Quinn, P.L.(2000) Divine Command Theory,» in Hugh LaFollette (ed.), The Blackwell Guide to Ethical Theory (Oxford: Blackwell Publishers) , pp.53 – 73.
– Phillips, D.Z.(1995) Religion and Morality (New Yourk: Palgrave Macmillan).
– Helm, P.(ed.) (1981) Divine Commands and Morality (Oxford: Oxford University Press).
– Mitchell, B.(1980) Morality: Religious and Secular (Oxford: Clarendon Press).
– Audi, R.and Wainwright, W.(eds.) (1986) Rationality, Religious Belief Religion (Ithaca, New York: Cornell University Press).
ـ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 1، الربع الأول، كتاب العلم، الباب الثاني.
ـ سروش، «جامه إي تهذيب بر تن إحياء»، إينك در قصه أرباب معرفت: 1 ـ 123، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران.
ـ سروش، «جامه إي تهذيب بر تن إحياء»، إينك در قصه أرباب معرفت: 82 ـ 84، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران.
يذهب الدكتور عبد الكريم سروش إلى التأكيد ـ مصيباً ـ على أن التفسير الاجتماعي الذي يمكن تقديمه لتفشّي الكثير من الرذائل الأخلاقية هو الاستبداد السياسي. يرى الدكتور سروش «أن الاستبداد السياسي في الدرجة الأولى يسلب الإنسان شخصيته، ويجعله ضعيف الشخصية، وإن الإنسان الفاقد للشخصية أو ضعيف الشخصية يكون مرتعاً لجميع أنواع الرذائل» (انظر: المصدر نفسه: 383).