هل يمكن للمعاصرين ممارسة الاجتهاد الرجالي؟
د. يحيى رضا جاد(*)
مقدّمة
هذا بحثٌ فريدٌ يفتحُ آفاقاً جديدةً غيرَ مسبوقةٍ في بابه، حيثُ السائدُ المُكتَسِحُ من الناحيتين النظرية والعملية هو منعُ المتأخِّرين والمعاصرين معاً من إعادة جرحِ أو تعديلِ الرواةِ، بناءً على استئنافِ فحص مرويّاتهم (السائدُ في هذا الباب هو إجازةُ الاجتهادِ من خلال الاكتفاءِ بأقوال السابقين المتقدمين من علماء الجرح والتعديل، أو على أقصى تقديرٍ الموازنة بين أقوالهم تلك)… تأمَّلْ على سبيل المثال قولَ ابن كثيرٍ: «أما كلامُ هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشأن [أي الجرح والتعديل] فينبغي أن يُؤخَذَ مُسَلَّماً من غيرِ ذكر أسبابٍ، وذلك للعلمِ بمعرفتهم واطلاعهم، واتصافهم بالإنصافِ والديانة والخيرة والنصح»([1]).
ولا ريبَ أن هذا الكلامَ ـ وهو شائعٌ منتشرٌ في مختلف صفحات تراثنا ـ وَثَنيةٌ معرفية صريحةٌ (نقصد بالطبع المعنى «المجازي» للوثنية)… ومن أجلِ هذا قامُ بحثُنا المُرَكَّزُ هذا بتحطيم هذه الوثنية المعرفية بهدوءٍ، ودون إثارةِ زوابعَ أو غبارٍ أو أتربة، بل بمنهجيةٍ معرفية علمية رصينة وهادئة، فَتَحت بطنَ علم الجرح والتعديل، وشَرَّحت ما في تراثِنا مِن عِلَلٍ، واستخرجت مكمن الداءِ، ووضعت الدواءَ.
أولاً
لقد شاع بين الناس أن النقد الحديثي يقوم على الإسناد والنظر في ما قرَّره النقّاد الجهابذة من أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً لا غير.
وهذا غير صحيح، ولا دقيق؛ فالنقد الحديثي قد مرّ بعدة مراحل، نوجز الحديث عنها في إشاراتٍ مركزة في ما يلي:
المرحلة الأولى: وتقوم على نقد المتون. وعلى أساسها تمّ ويتمّ الكلام في الرواة جرحاً وتعديلاً. وهي مرحلة تبدأ من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، حيث كان يَرُدّ بعضهم على بعض حين يستمعون إلى متون الأحاديث المروية، والأحكام المتصلة بها؛ بعرضها على القرآن الكريم والثابت عندهم عن رسول الله|. فتردّ عائشة مثلاً على أبي هريرة وابن عمر وأبيه، ويردّ عمر على عائشة وفاطمة بنت قيس، وهلمّ جراً. ويظهر ذلك في العديد من الأحاديث التي ساقها البخاري ومسلم في «صحيحهما»، وكذلك ما أورده الزركشي في كتابه «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة»، وغير ذلك كثير.
المرحلة الثانية: وهو طور التبويب والتنظيم، وجمع أحاديث كلّ محدّث والحكم عليه من خلال دراستها. ويتبدّى ذلك في الأحكام التي أصدرها الأئمة: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، والبخاري، ومسلم، وأبو داوود، وأضرابهم.
لكنْ كيف نفسر كلام كبار علماء الجرح والتعديل ممَّنْ عاشوا في المئة الثالثة (200 ـ 300هـ) في رواة لم يلحقوهم من التابعين ومَنْ بعدهم، ولم يؤثر فيهم جرح أو تعديل ممَّنْ عاصرهم؟ هذا ليس له إلاّ إجابة واحدة لا ثاني لها، هي أن نقادنا الكبار لم يصدروا أحكامهم على هؤلاء الرواة إلاّ بعد جمع حديثهم وتفتيشه.
مثال ذلك: قول البخاري(256هـ) في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني (83 ـ 165هـ): منكر الحديث. وقول أبي حاتم الرازي(277هـ) فيه: شيخ ليس بقويّ، يكتب حديثه ولا يحتجّ به، منكر الحديث. وقول النسائي(303هـ) فيه: ضعيف([2]).
فهؤلاء العلماء الثلاثة لم يدركوه، بله أن يعرفوه عن قربٍ، ولا نقلوا عن شيوخهم أو شيوخ شيوخهم ما يفيد ذلك؛ (إذ لو فعلوا لصرَّحوا بذلك وأخبروا به)، فكيف تمّ لهم الحصول على هذه النتائج والأقوال؟ بَيِّنٌ أنهم جمعوا حديثه ودرسوه، وأصدروا أحكامهم اعتماداً على هذه الدراسة.
ومثال ذلك أيضاً ـ على نحوٍ أبينَ وأجلى ـ: قول ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي: «سألتُ أبي عنه، وعرضت عليه حديثه، فقال: لا أعرفه، وأحاديثه باطلةٌ موضوعة كلّها، ليس لها أصول، يدلّ حديثه على أنه كذّاب»([3]).
وقوله في ترجمة أحمد بن المنذر بن الجارود القزّاز: «سألتُ أبي عنه فقال: لا أعرفه، وعرضتُ عليه حديثه فقال: حديثٌ صحيح»([4]).
وقول أبو عبيد الأجري في مسلمة بن محمد الثقفي البصري: «سألتُ أبا داوود عنه، قلتُ: قال يحيى (يعني ابن معين) : ليس بشيء؟ قال (يعني أبا داوود): حدَّثنا عنه مسدد. أحاديثه مستقيمة. قلتُ: حدَّث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: إياكم والزنج؛ فإنَّهم خلقٌ مشوَّه، فقال (يعني أبا داوود) : مَنْ حدَّث بهذا فاتَّهمه!([5]).
والخلاصة أن هذه المرحلة هي المرحلة الأخطر، والأكثر أهمية، في تاريخ الجرح والتعديل، وهي التي ـ مع سابقتها ولاحقتها التي سيأتي الحديث عنها ـ ينبغي أن تُتَّبَعَ اليوم، لا سيَّما في المختلف فيهم ـ أو المشكوك في أمرهم لأيّ سبب علمي استدعى ذلك الشكّ ـ؛ إذ يتعيَّن جمع حديثهم، ودراسته من عدّة أوجه (كما فعل الصحابة في المرحلة الأولى، والنقّاد الكبار في المرحلتين الثانية والثالثة، كلٌّ قَدْرَ طاقته، وبحسب وُسْعِه) كالتالي:
أولها: أن يُنظر في الراوي هل تفرَّد بمجمل ما يرويه أم تابعه عليه غيره؟
والثاني: المقارنة بين مجمل رواياته تلك وروايات مَنْ تابعه عليها من الثقات المتَّفق على توثيقهم.
والثالث: أن يُعرَض مجمل حديثه على القرآن الكريم والثابت المتَّفق على ثبوته عن رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم؛ إذ معاني القرآن وصحيح السنّة متونٌ صحيحة وقواعد كلِّية لا يمكن أن يأتي عن رسول الله ما يخالفها، فإنْ خالفتها/صادمتها كان ذلك علامة على خلل في المَروِيِّ؛ وَهْمِ الراوي، أو ضعفِه، أو كذبه.
وبهذه الأوجه الثلاثة كلها يتبين لنا مدى ضبط الراوي وإتقانه، ومدى استقامة حديثه أو اضطرابه أو نكارته. ومن ثم نقبل منه بعد ذلك ما قد يتفرَّد به إذا لم تقم شواهد أو أمارات خارجية على ضعفه، كمخالفة معاني القرآن وصحيح السنة (أي مخالفة ما فهمناه من الرواية محلّ الفحص والدراسة لِمَا فهمناه من القرآن وما ثبت من السنَّة)، أو مصادمة قواطع العقل المؤمن، أو مصادمة الواقع المحسوس، أو أن يكون هذا الراوي ممَّنْ يحدث عن، أو يرجع إلى، أصولٍ ـ أعني ممّا هو مكتوب عنده ـ ولا يوجد ذلك الحديث في أصوله ـ ممّا يدل على وَهْمه في التحديث به ـ، أو غير ذلك من أوجه فنّ علل الحديث ـ وهو أدقّ وأخفى أبواب التصحيح والتضعيف، لا يقوم به إلاّ ناقدٌ خبير ـ.
المرحلة الثالثة: الجمع بين «أقوال المتقدمين في الرواة»، و«جمع حديث الراوي وسبره وإصدار الحكم عليه»، كما نراه واضحاً عند علماء القرن الرابع الهجري، مثل: ابن حِبّان(354هـ)، وابن عديّ الجرجاني(365هـ)، والدارقطني(385هـ).
انظر في كتاب ابن عدي «الكامل في ضعفاء الرجال» تراه يورد أقوال النقاد المتقدمين في صدر الترجمة، ثمّ يفتِّش حديث الرجل؛ فيجمع حديثه، ويسوق منه أحاديثه المنكرة، أو ما أُنْكِرَ عليه، أو الأحاديث التي ضعَّفه البعض من أجلها؛ فيدرسها ويبيِّن طرقها ـ إنْ كانت لها طرق أخرى ـ، ثم يصدر حكماً في نهاية الترجمة يبين فيه نتيجة دراسته هذه، ويعبِّر عن ذلك بأقوالٍ من مثل: «لم أجد له حديثاً منكراً»، أو «لا أعرف له من الحديث إلاّ دون عشرة»، أو «هذه الأحاديث التي ذكرتها أَنْكَرُ ما رأيتُ له»، أو نحو ذلك من الأقوال والأحكام التي تشير إلى أن الأساس في الحكم على أيّ شخص جرحاً أو تعديلاً هي الأسانيد التي ساقها والمتون التي رواها، لا مجرّد ما قاله أهل الجرح والتعديل ـ على عظمتهم وجليل عملهم ودقّة الكثير من أحكامهم ـ.
وقد دفعه هذا المنهج إلى إيراد رجالٍ لم يتكلَّم فيهم أحدٌ قبله، لكنّه وجد لهم أحاديث استُنْكِرَتْ عليهم؛ لمخالفتهم ما هو معروف متداول من الأسانيد والمتون (أي ما هو ثابتٌ روايةً ودراية)، وهو ما يُعبِّرُ عنه بعدم متابعة الناس له عليها، أو أنها غير محفوظة، نحو: قوله في ترجمة سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري، بعد أن ساق له جملة أحاديث غير محفوظة: «ولسعد غير ما ذكرت. وعامّة ما يرويه غير محفوظ. ولم أرَ للمتقدمين فيه كلاماً، إلاّ أني ذكرته لأبيِّن أن رواياته عن أخيه، عن أبيه، عن أبي هريرة، عامّتها لا يتابعه أحدٌ عليها»([6]).
وهاهنا تنبيهٌ هام ـ يشمل المرحلتين الثانية والثالثة ـ، وهو أن عملية التصحيح والتضعيف والحكم على الرواة اجتهادية رأساً([7])([8])… بل الحكم على الرواة في كثير منه ـ إنْ لم أقُلْ في غالبه ـ لم يُبْنَ على «الاستقراء التامّ»، وإنما على «الاستقراء الناقص/غير التامّ»…
والأحكام الصادرة عن الأئمة النقاد ـ كما يتَّضح لكلّ ذي عينين إذا نظر في كتب الرجال والجرح والتعديل ـ تختلف باختلاف ثقافاتهم، وبيئاتهم، والمؤثِّرات التي أحاطت بهم، وقدراتهم العلمية والذهنية، وبحَسَب ما يتراءى لهم من حال الراوي تبعاً لمعرفتهم بأحاديثه ونقدهم مروياته، وتَبَيُّنِهِم فيه قوّةَ العدالةِ أو الضبطِ أو الضعفَ فيهما. ولذلك قد يختلف ـ كما رأينا ونرى ـ كلام إمامين من أئمة الحديث في الراوي الواحد، وفي الحديث الواحد؛ فيضعف هذا حديثاً، وهذا يصحِّحه؛ ويرمي هذا رجلاً من الرواة بالجرح، وآخر يعدله. وهذا يعني ـ بما لا يدع مجالاً للشكّ ـ أن التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل من مسائل الاجتهاد التي يجوز أن تختلف فيها الآراء…
ألم تَرَ كيف يضعف بعض النقاد راوياً؛ بسبب غلطٍ يسير وقع فيه لا وزن له بجانب العدد الكثير من الأحاديث الصحيحة التي رواها؟! ألم تجِدْ يوماً مَنْ وثق راوياً على الرغم من كثرة أوهامه وأخطائه؟! ألا يدلّ ذلك ـ وغيره كثير ـ على ما أشرنا إليه؟!
المرحلة الرابعة: التأكيد على نقد السند استناداً إلى أقوال أئمّة الجرح والتعديل بعد جمعهم لها والموازنة بينها، ووضع القواعد الخاصّة بهذا الأمر ـ بما تجده في كتب المصطلح ـ. فصحَّحوا الأحاديث التي اتّصل إسنادها برواية الثقات العدول، وخلَتْ من الشذوذ والعلّة؛ وحسَّنوا الأحاديث التي اتّصلت أسانيدها واختلف النقّاد في واحدٍ أو أكثر من رواتها؛ وضعَّفوا الأحاديث التي لم تتّصل أسانيدها أو ضُعِّفَ واحد أو أكثر من رواتها، على اختلافٍ بينهم؛ بين متشدِّد ومتساهل، بحسب مناهجهم التي ارتضوها، وما أداهم إليه اجتهادهم. وقد ظهر هذا الاتجاه ـ على وجه التقريب ـ منذ القرن الخامس فما بعده (أي 400هـ وما بعدها).
المرحلة الخامسة: وهي المرحلة التي سادت في أوساط المشتغلين بهذا العلم ـ على قلَّتهم ـ في العصور المتأخِّرة وإلى يوم الناس هذا، وهي التي تعتمد أقوال المتأخِّرين في نقد الرجال، ولا سيَّما الأحكام التي صاغها الحافظ ابن حجر في «التقريب»، حيث صار دستوراً للمشتغلين في هذا العلم ـ لا يُنقَض ولا يُنتقد! ـ، فيحكمون على أسانيد الأحاديث استناداً إليه، ولا يرجعون ـ في الأعمّ الأغلب ـ إلى أقوال المتقدِّمين. ولم يكتفوا بذلك، بل راحوا يعتمدون بإطلاقٍ تصحيحَ المتأخِّرين وتضعيفهم للأحاديث (مثل: الحاكم، والمنذري، وابن الصلاح، والنووي، والذهبي، وابن كثير، والعراقي، وابن حجر، وأضرابهم)، مع تساهلٍ غير قليل عند بعضهم (مثل: الحاكم).
وبعد هذا البيان المركز نقول:
ثانياً
نعم، لا يجوز التعالم والتفذلك والقول بالخرص والأوهام، ولكنْ لا يجوز كذلك التسليم المطلق للسابقين، حتّى في التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل ـ مع حفظ الودّ والفضل والأدب والتقدير لهم في كلّ مقام ـ؛ لأن العلوم في كل المجالات تتنامى وتتطور، ويبني فيها اللاحق على السابق، إنْ في العمق والشمول، أو في الاستدراك والتأصيل، أو في الصياغة والترتيب.
والقول ـ بعد هذا البيان الجَلِيِّ ـ بأن العلوم الدينية وحدها هي التي تتراجع؛ إذ السابق لم يترك للاّحق شيئاً ولا مجالاً ولا متنفساً، وليس للمُحْدَثين إلاّ تلمس آثار أقدام السابقين للسير على هداها، وإلاّ ضلّوا الطريق، وأضلّوا الناس، وأحدثوا في دين الله!
نعم، الأقدمون لهم فضل السَّبْق، ولكنْ المتأخِّرون لديهم مزية الإحاطة ـ نظراً وتأصيلاً وتحليلاً ونقداً ـ، ولا سيَّما في التصحيح والتضعيف والجرح والتعديل. فمع انتشار الطباعة والفهرسة والحواسيب أصبح بالإمكان في يومٍ إنجازُ ما كان يقضي فيه المتقدِّم شهراً!
والمشكلة في جوهرها ليست في ضعف إمكانيات المُحْدَثين، ولا في قَدْر العِلم وكثرته وتطوره على مدى السنين، وإنما في قلّة عدد النابهين والنابغين المشتغلين بالعلوم الشرعية والمتفرِّغين لها حقَّ التفرُّغ. أليس أكثر المشتغلين بها اليومَ أنصافُ متعلِّمين، وأنصافُ علماء، ومتسلِّقون! أكثرهم يدور في التصنيف بين المتردية، والنطيحة، وما أكل السبع!
ولندلف الآن من هذه الديباجة إلى هذا السؤال المفصلي: كيف كان يحكم علماء الجرح والتعديل على أناسٍ لم يعاصروهم ـ أو عاصروهم ولم يلتقوا بهم أو يعاشروهم ـ بالضَّعف والوَهْن، أو بالعدالة والضَّبْط؟
من المؤكَّد ـ كما شرحنا مِن قبلُ، وكما سيأتي كذلك ـ أنهم كانوا ينظرون في روايات هؤلاء، ويعرضونها على روايات الذين اشتهرت عدالتهم وضبطهم، وعلى معاني القرآن وما ثبت من السنّة. ومن خلال المقارنة يظهر لهم مَنْ هو ثقة؛ يوافق الثقات في غالب روايته، ولا يأتي بما يخالف القرآن وصحيح السنّة، ومَنْ هو ضعيف؛ يُغْرب ويزيد وينقص و/أو يأتي بما يخالف القرآن وصحيح السنّة…
هذه الطريقة هي عمدتهم في الجرح والتعديل… فإذا كان ذلك كذلك ألا نستطيع أن نسلك السبيل نفسه اليوم في الرواة (ولا سيَّما المختلف فيهم عند علماء الجرح والتعديل، أو المشكوك فيهم مِنْ قِبَلِنَا؛ لدواعٍ استدعَتْ ذلك الشكّ)، فنجمع ما نستطيع جمعه من روايات أحدهم التي تصحّ نسبتها إليه، ثم نعرضها على روايات الأثبات الثقات وعلى معاني القرآن وصحيح السنّة، ثم ننزل كلَّ راوٍ المنزلة التي يستحقّها؛ تبعاً لموافقته ومخالفته وتفرّده، ولا سيَّما أنّ هذا الأمر ـ في عصرنا هذا، ومع وجود الحاسوب، وتوافر كمٍّ هائل من كتب الحديث ومسانيده والعلل والرجال والجرح والتعديل ـ أيسر وأسرع وأدقّ مما كان عند المتقدِّمين. وأنَّى لأحدهم أن يتيسَّر له ما تيسَّر لنا الآن؟! إنه أمرٌ تنقطع دونه الأعناق منهم، وتفنى أعمارهم في سبيله، دون تحصيله على الوجه الذي وقع لنا نحن المعاصرين، فالحمد لله على فضله وتيسيره، ونسأله أن يوفِّقنا لشكره عليها بحسن توظيفها واستغلالها، كما نسأله أن لا نجحد نعمه تلك بالهجران لها، ومحض التقليد لسابقينا؛ لمجرَّد أنهم قد سبقونا إلى قول ما قالوا!
وبناءً على ما سبق إذا انتهينا إلى نتيجةٍ تخالفُ قولَ الجارحِ أو المُعَدِّلِ المتقدِّم أخذنا بما انتهينا إليه، وعزَوْنا ما قاله الناقد المتقدِّم إلى نقص استقرائه؛ فإنه ليس بمعصومٍ، وكلامه لم ينزل من السماء.
نعم، ليس كلُّ استقراءٍ منا ـ نحن المعاصرين ـ سيكون استقراءً تاماً لا يَنِدُّ عنه شيء، كما لا يجوز أن يُدَّعى مثل ذلك في أعيان كافّة الأحكام التي أصدرها المتقدِّمون في حقّ الرواة، لكنْ:
أوّلاً: لا يعني إجازة التشنيع على ما أدعو إليه (إذ مَنْ سيفعل لم يضعْ بعدُ رأينا هذا على منضدة التشريح العلمي؛ تحقيقاً ودراسة واشتغالاً، أو هو ممَّنْ لم تشغله هذه المسألة من قبل، فنبَّهه طرحُنا هذا إلى ضرورة دراستها علمياً. ومَنْ كان هذا وصفه لا يجوز له النقد، بله التشنيع!).
ثانياً: لا يعني أن نرمي كلام نقّادنا في البحر أو أن نضرب به عرض الحائط. بل الواجب هو المزاوجة، والموازنة، والاستفادة من الأئمّة النقّاد الجهابذة ـ كما سبق البيان في «أوّلاً» ـ.
لم أقُلْ ـ ولا يجوز لي ذلك ـ: «نلغي كلام النقّاد»، كيف ذلك وإنما انبنت آراؤهم ـ في كثيرٍ منها على أقلّ تقدير ـ في الرجال على المنهج العلمي الاستقرائي، كلٌّ بحسب وسعه وطاقته وجهده وسقفه المعرفي؟!
نعم، هناك قضايا فاتت، لها رجالها الذين انصرموا، وأخرى انقضت، لا يجوز لنا فيها إلاّ التسليم بما يقوله النقّاد الجهابذة (بعد التأكُّد من صحّة نسبة أقوالهم إليهم، وبعد المقارنة بين أقوالِ بعضِهم وبعضٍ بهذا الخصوص؛ استبعاداً للتضارب أو التناقض أو ما شابه ذلك، وبعد مقارنتها بالثابتِ المعلومِ من التاريخ إنْ وُجد، وبعد التأكد مِن خُلُوِّها من التناقض المنطقي أو مصادمة الثابتِ المعلومِ من سِيَر الرواة إنْ توافر،…إلخ)، من مثل:
ـ معرفةِ تاريخ ميلاد ووفاة الرواة، أو اختلاط أحدهم من عدمه، أو قبوله التلقين من عدمه.
ـ أو معرفة أنه كان يحدِّث من كتبه، أو معرفة وقوع الدسّ فيها من قِبَل بعض الوضّاعين والمتلاعبين في غفلةٍ عنه ـ وما يستتبع ذلك من دلالاتٍ ـ، أو احتراق كتبه ذاتها ـ وما يستتبع ذلك من دلالات ـ، أو عدم خروجه من بلده إلى غيرها، أو حكاية مواقف ما ذات أهمية أو دلالة واجبة التوظيف حين سبر أحاديث الراوي…، إلى غير ذلك من الأمور الفنّية الدقيقة التي لا تُحصَى، والتي، في ذات الوقت، لا منفذ لنا إليها إلاّ من خلال الرواية، أي من خلال ما يخبرنا به الأئمّة المتقدِّمون.
ولكنْ هذا شيءٌ وإعمالنا للمنهج العلمي في جمع وسبر وفحص أحاديث الرواة شيءٌ آخَر (مع الاستعانة الواجبة، بل اللازمة، بما أخبر به المتقدِّمون من الأمور الفنية السابق الإشارة إلى بعض أمثِلَتها).
وليس الإمامُ ابنُ عديٍّ ـ كما ذكرنا من قبلُ ـ عنَّا ببعيد، فهذا كتابه «الكامل في ضعفاء الرجال» خيرُ شاهدٍ على ما أدعو إليه وأنادي به.
وليس الدارقطني ـ كما ذكرنا من قبلُ ـ عنَّا ببعيد، فهذا كتابه «علل الحديث» خيرُ شاهدٍ على ما سبق.
نعم، أين أمثال ابن عدي والدارقطني وابن حِبّان؟! هم أقلّ القليل، لكنْ لا يمنع ادّعاءُ قِلَّتِهِم من انعدام وجودهم، كما لا يمنع من وجوب إيجاد أمثالهم، كما لا يمنع من الأخذ بنتائج مَنْ سار على دربهم ـ وهو عينُهُ، في المجمل، منهجُ نقّاد الحديث وجهابذته في كلّ زمانٍ ومكان ـ.
أنا لا أدعو إلى الهَدْم، وإنَّما إلى نقد ما يستحقّ النقد، بل ـ إنْ شئتَ الدقة في التعبير ـ: أنا أدعو إلى أن لا يَبْخَسَنَا أحدٌ حقَّنَا في أن نخالف المتقدِّمين إذا ظهر لنا ما يستدعي المخالفة، وإلى أن نُغَرْبِلَ ما يستدعي الغربلة من أقوالهم في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف، على وفق مجمل ذات الأصول التي بنوا عليها؛ إذ هي عندنا، في المجمل، وبعد إعمال العقل فيها تأمُّلاً وفحصاً، أصولٌ صحيحةٌ في نفسها لا مطعن فيها ولا ملحظ عليها.
فمعلومٌ عند الجميع أنَّ من المنهجية العلمية التي لا تقبل الجدل عدمُ قَبُول القول دون برهان، فـ «البيَّنة على مَنْ ادَّعى»، و﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. وهذا يَصْدُقُ على كلّ العلوم، فلماذا يُستثنى الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف؟! ولماذا يجب علينا أن لا نقبل قول كلِّ قائلٍ من غير دليل، إلاّ قولَ علماء الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، فإن التسليم له لا مناص منه، ولو كان مبنياً على غير دليل، أو حتّى على دليل لم نَتَبَيَّنْهُ، أو على دليلٍ ظهر لنا ضعفه، أو قَدَّرنا ذلك فيه… تلك إذاً قِسْمةٌ ضيزَى!
نعم، النقّاد لا يُوثِّقون أحداً ـ أو هذا هو المُفترَض ـ حتّى يطَّلعوا على عددٍ من مرويّاتِه صحيحةِ النسبةِ إليه، فإذا وجدوها مستقيمةً وثَّقوه (وهؤلاء هم الثقات الأثبات الحُفّاظ الجبال الجهابذة) وصحَّحوا حديثه وقبلوا ما يتفرَّد به عمَّنْ يروي عنه ـ ممَّا لم يشاركه غيرُهُ في روايته ـ؛ وإذا وجدوا أكثرها مستقيمة صحيحةً مع خطأٍ نادر أو قليل في ما يرويه تَرَجَّح/غَلَبَ على الظنّ أن الاستقامةَ والإتقانَ مَلَكَةٌ له، حكموا له بمثل ما حكموا لسابقه ـ فإنّ الوَهْم والخطأ لا يسلم منه أحدٌ؛ إذ ليس هناك بشرٌ معصوم ـ (وهؤلاء هم الصَّدُوقون الوَرِعُون الثقات)؛ وإذا وجدوا الخطأ والوهم والغلط والسهو كثيراً أو غالباً حكموا عليه باللين والضعف والغفلة ـ أو بالترك مطلقاً؛ كلٌّ بحسبه ـ، وتركوا الاحتجاج بحديثه، وإنَّما يكتبون من حديثه الترغيبَ والترهيب والزهد والآداب والحكمة… وهكذا وهكذا.
وهذا يعني ـ كما أوضحنا من قبلُ ـ أنَّ جلَّ الاعتماد إنما هو على الجمع والسبر والمقارنة… فاستبان بهذا أن طريق معرفة حال الراوي تحتاج إلى اطِّلاع واسع على مرويات الرواة وأسانيدهم… إنّ اعتبارَ الروايات والموازَنةَ بينها هو روحُ منهج النقد عند المحدثين والمرتَكَزُ الأساسُ فيه.
فإذا كان هذا هو منهج النقّاد، ولكنَّهم ـ في الأعمّ الأغلب، أو قُلْ: في كثير من الأحيان ـ لم يُفَصِّلُوهُ بالبيانِ وذكرِ البرهان في كلّ راوٍ، فلماذا لا يجوز لنا الآن أن نقوم بهذا العمل عند الحاجة إليه؟
قد يُقال: إنّ النقّاد الأوائل اطَّلعوا على رواياتٍ كثيرة لم تصِلْ إلينا. وعليه فاستقراؤهم صحيح تامّ، واستقراؤنا ناقصٌ.
والجواب: هذا الكلام ينبني على دعوى أن أكثر الروايات والأحاديث فُقِدَ ولم يصل إلينا. وهذا محلّ نظر؛ لأنه يتنافى مع أصل حفظ السنّة التي هي بيانٌ تطبيقي عملي للكتاب، وما كان الله ليُضيعَ بيان كلامه، أم تُراه يفعل؟! إذن لَنَسَبْتَ إليه عدم الحكمة، تعالى الله عن ذلك وتقدَّس!
ولو سلَّمنا بتلك الدعوى المتهافتة فلا حجّة علينا في ما ما لم يصل إلينا، وإنما الحجّة في ما وصل إلينا ووقفنا عليه، مثلما أنَّ السابقين من أئمّة الجرح والتعديل إنما قامت الحجّة عندهم بما وصل إليهم وبما جمعوه هُمْ، وبديهيٌّ أنَّ الناقدَ الواحدَ منهم يمتنع عقلاً وواقعاً إحاطته بمجمل المرويات، أو جمعه لها.
ثمّ ما المانع من النظر في ما وصل إلينا من روايات الراوي وأحاديثه؟! إذ ما سَنُحَصِّلُهُ في هذا بعد تدوين السنّة، وبعد وجود الطباعة التي ألقَتْ إلينا بأطنان من كتب الحديث والمسانيد والعلل والرجال، وبعد اختراع الحاسوب وما يوفِّره من وقتٍ وجهدٍ، أكثرُ ممّا كان يُحَصِّله آحاد النقاد في كلّ راوٍ من قَبْلُ. وهذا كافٍ ـ وزيادة ـ في توفير أرضية استقرائية متينة نبني عليها ـ بالسبر والمقارنة والموازنة ـ حُكْمَنا على الرواة… بل أكاد أقول بعلوّ كَعْب استقرائنا المنتظر على استقرائهم، ومن ثمّ أحكامنا على أحكامهم!
ثمّ إن دعوى «شمولية» استقراء آحاد النقّاد لمرويّات كلِّ راوٍ تحتاجُ إلى تدليل، ولا يكفي ذكر مثال أو مثالين ـ أو حتّى عشرة أو مئة ـ من استقراء ناقدٍ ما لرواياتِ راوٍ ما؛ إذ المطلوب إثبات وقوع هذا من كلّ النقّاد في كلّ الرواة، وهذا مستحيلٌ أو يكاد.
سَلَّمْنَا ـ جَدَلاً أو حقّاً ـ أن قول علماء الجرح والتعديل مُسَلَّمٌ لا نقاش فيه، ولا حاجة إلى بيان براهينه، فهذا يمكن إمضاؤه في التطبيق ـ بل يجب، أكاد أقول ـ في مَنْ اتَّفَقُوا على توثيقه أو تجريحه؛ (إذ صدورُ الاستقراءات غير التامّة من قِبَل نقادٍ ـ موثوقٍ فيهم بالطبع ـ مختلِفِي البيئات والثقافات والأوضاع والمناهج والعلم، وانتهاؤُها إلى ذات النتيجة، يفيد الظنَّ الغالبَ على أقل تقدير)، لكنْ ماذا نفعل في مَنْ اختلفوا فيه ما بين مُجَرِّح ومُوَثِّق، وهو كثيرٌ كثير؟!
ـ أنُصَنِّفُ النقّادَ إلى: متشدِّد؛ ومعتدل؛ ومتراخ، ونوازن بين آرائهم في ظلّ هذا التصنيف غير الموضوعي في مجمله؟ ما هي المعايير الموضوعية لهذا التصنيف ـ دون الاعتماد الكلّي على الثقة العمياء بأقوال المتأخِّرين، كالإمام الذهبي والحافظ ابن حجر وأضرابهم ـ؟! لن تجد في ذلك برهاناً إلاّ في ما يُذكَر ـ بحقٍّ ـ من تساهل ابن حِبّان وأضرابه في توثيق الرواة وتصحيح الأحاديث.
ـ أم نأخذ بقول الجارح ونقدِّمه على قول الموثِّق، كما ذكروه في قواعد الجرح والتعديل؟ ولماذا يُقَدَّمُ استقراءُ الجارح على استقراء المُوَثِّقِ؟ هذا في «العدالة» مقبولٌ؛ لأن الجارح ربما اطَّلع على ما لم يطَّلع عليه الموثِّق، أما في «الضبط» فاستقراءُ الجارح والموثِّق كلاهما يتكافأ أو يكاد (إلاّ في ما ينصّ عليه النقّاد من كونهم قد جمعوا الكثير أو جمعوا كذا وكذا)؛ لأن «الضبط» نسبيٌّ يعتمد على «مقدار» ما «جَمَعَ» الموثِّقُ والجارحُ من روايات الراوي و«سَبَرَاه»، فإنْ كان المجموع كبيراً كان الحكمُ أقربَ إلى الصواب، وإنْ كان قليلاً كان الحكمُ أقربَ إلى الخطأ (بغضّ النظر عن نوع الحُكم الصادر في حقِّ الراوي جَرْحاً أو توثيقاً).
نعم، هناك من الأخطاء ما لا يُغتَفَر لو ثبت وقوعه من قِبَل الراوي ولو مرّةً واحدة، ولكنْ ليس هذا بشائعٍ ولا غالب… وهاهنا أنَّى لنا أن نقف على «قدر المُسْتَقْرَأ عند كلّ ناقدٍ بعينه»؟… ولماذا لا يحقّ لنا أن نقوم نحن بهذا الاستقراء؟
ثمّ، بعد هذا وفوقه ومعه، لماذا لا نُفَعِّلُ الاجتهاد الجماعي في علم الرجال والجرح والتعديل؟! وكيفيَّتُهُ أنْ نحصر الرواة المختلف فيهم، ثمّ نجمع مرويّات كلّ راوٍ منهم، ثمّ نجمع روايات الثقات ـ المتَّفق على توثيقهم ـ لنفس تلك الأحاديث، ثمّ يتولى المعاصرون من المتخصِّصين في الحديث وعلومه، كلٌّ بحسب وسعه، المقارنةَ وعَدَّ الأخطاءِ والأوهامِ والموافقات والتفرُّدات، ويُعطَى كلُّ راوٍ نسبةً في الضبط ـ بالنظر إلى مجموع أخطائه مقسوماً على مجموع رواياته ـ.
ولا يُشْتَرَطُ أنْ يقومَ عالمٌ واحدٌ بهذا الأمر، بل يمكن أن ينظر عالمٌ في راوٍ واحد فقط، ويخرج بعد ذلك بنتيجةٍ. وغيره يفعل في غير الراوي الأوّل.
نحن ـ بحقٍّ وصدق ـ محتاجون إلى هذا، ولا سيَّما في الرواة المشْكِل أمرهم، والمستعر حولهم الخلاف حتّى الآن. وأكثرُ ـ إنْ لم أقُلْ: كلُّ ـ ما صُنِّفَ فيهم مِن قِبَل المُحْدَثين، هجوماً عليهم وجَرْحاً، أو دفاعاً عنهم وتوثيقاً، إنَّما اعتمد منهجَ النقل عن النقّاد، لا استقراءَ روايات الراوي وسبرها من جديد، بل لم يخطر على بال أحدٍ منهم ذلك، وإلاّ أشار إليه!
وختاماً، أرجو ملاحظةَ أنّي لا أدعو إلى اطِّراح ما قاله النقّاد، وإنما إلى البناء عليه ببيان براهينه الاستقرائية التي سكتوا عن بيانها كثيراً ـ إذا احتاج الأمر لذلك ـ، وإلى إعادة النظر ـ على الأقلّ ـ في مَنْ اختُلِفَ فيه من الرواة.
ثالثاً
وبعد بياننا بالحجّة والدليل لوجوب اجتهادِ المعاصرين في الجرح والتعديل (ومن ثمّ في التصحيح والتضعيف)، ونقاشِنا لِمَا قيل، ولِمَا يمكن أن يُقال، بخصوص وجوب غلق هذا الباب (دون أن نذكر أسماءَ وأرباب اتّجاه الغلق، كما هو عَهْدُنا دوماً في نقاشاتنا العلمية، فالمهمّ عندنا مناقشةُ هذا الاتّجاه وأدلّتِه، لا شخوصُ مَنْ قال به)، يبقى التطرُّق إلى مسألةٍ شهيرة، هي القولُ بسدِّ الإمامِ ابنِ الصَّلاح لباب الاجتهاد في التصحيح والتضعيف والتجريح والتعديل في وَجْهِ المتأخِّرين (وهو قولٌ مشهورٌ نَسَبه إليه قطاعٌ ضخمٌ من علماء الحديث قديماً وحديثاً)… فهل قال بهذا ابنُ الصلاح حقّاً؟ وهل يُمكن أن يُفهَمَ هذا من قوله؟…إلخ([9]).
وعليه نأتي (أوّلاً) بنصوص ابن الصلاح في المسألة:
1ـ يقول ابن الصلاح([10]): «النوع الأول من أنواع علوم الحديث: معرفةُ الصحيح من الحديث [..]. فوائد مهمّة:
ـ إحداها: الصحيح يتنوَّع إلى: متَّفق عليه؛ ومختلف فيه[…]. ثمّ إنّ درجات الصحيح تتفاوت في القوّة[…].
ـ والثانية: إذا وجدنا في ما يُرْوَى [وفي نُسَخٍ أخرى: نَرْوِي] من أجزاء الحديث وغيرها حديثاً صحيحَ الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصاً على صحّته في شيء من مصنَّفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنّا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحّته؛ فقد تعذَّر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرّد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلاّ وتجد مَنْ اعتمد في روايته على ما ذَكَر في كتابه: عَرِياً عمّا يُشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان، فآل الأمر في معرفة الصحيح والحسن (أي من هذه الأجزاء المُشار إليها وغيرِها) إلى الاعتماد على ما نصّ عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها ـ لشهرتها ـ من التغيير والتحريف، وصار معظم المقصود بما يُتداول من الأسانيد خارجاً عن ذلك؛ إبقاءً لسلسلة الإسناد التي خصّت بها هذه الأمّة زادها الله شرفاً»([11]). اهـ.
2ـ ويقول أيضاً: «أعرض الناسُ في هذه الأعصار المتأخِّرة عن اعتبار مجموع ما بَيَّنَّا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يَتقيَّدوا بها في روايتهم؛ لتعذُّر الوفاء بذلك على نحو ما تقدَّم وكان عليه مَنْ تقدَّم.
وَوَجْهُ ذلك ما قَدَّمنا في أوّل كتابنا هذا [وهو ما ذكرناه عن ابن الصلاح في النصّ السابق تحت الفقرة رقم «1»] من كونِ المقصودِ آلَ آخِراً إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمّة في الأسانيد والمُحَاذَرَة من انقطاع سلسلتها، فَلْيُعْتَبَرْ من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرُّده، ولْيُكْتَفَى:
ـ في أهلية الشيخ: بكونه مسلماً بالغاً عاقلاً غيرَ متظاهِرٍ بالفسق والسَّخَف.
ـ وفي ضبطه: لوجود سماعه مُثبَتَاً بخطٍّ غيرِ متَّهم.
ـ وبروايته: من أصلٍ موافق لأصل شيخه.
وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظُ الفقيهُ أبو بكر البيهقي&، فإنه ذَكَر ـ في ما رَوَيْنا عنه ـ تَوَسُّعَ مَنْ تَوَسَّعَ في السماع من بعض مُحَدَثي زمانه الذين لا يَحْفظون حديثَهم، ولا يُحْسنون قراءته من كتبهم، ولا يَعرفون ما يُقرأ عليهم بعد أنْ يكون القراءة عليهم من أصل سماعهم. وَوُجِّهَ ذلك بأنَّ الأحاديثَ التي قد صَحَّت أو وَقفت بين الصحة والسقم قد دُوِّنت وكُتبت في الجوامع التي جَمعها أئمّةُ الحديث، ولا يجوزُ أنْ يَذهبَ شيءٌ منها على جميعهم، وإنْ جاز أنْ يذهب على بعضهم؛ لضمان صاحب الشريعة حِفْظها. قال [أي البيهقي]:
ـ فمَنْ جاءَ اليومَ بحديثٍ لا يوجد عند جميعهم لم يُقبَلْ منه.
ـ ومَنْ جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه [أيْ الشخصُ الذي يَرويه] لا ينفرد بروايته، والحجّةُ قائمةٌ بحديثه برواية غيرِه، والقصدُ من روايته والسماعِ منه أنْ يصيرَ الحديثُ مُسَلسلاً بـ (حَدَّثنا) و(أخبرنا)، وتَبْقى هذه الكرامة التي خُصَّت بها هذه الأمة شَرَفاً لنبيِّنا المصطفى|، والله أعلم»([12]). اهـ.
قُلْتُ: وهذا الذي ذَكرَه ابنُ الصلاح(643هـ)، ونَقَل قولَ البيهقي(458هـ) فيه أيضاً، ذَكَره الخطيبُ البغدادي(463هـ) كذلك، حيث قال: «وقد استفرَغَت طائفةٌ مِن أهل زماننا وُسْعَها في كتب الأحاديث والمثابرةِ على جمعها، من غير أن يسلكوا مسلك المتقدِّمين، ويَنظروا نظر السَّلَف الماضين، في حال الراوي والمرويّ، وتمييز سبيل المرذول والمَرْضِيِّ[…]، ويقطعون أوقاتهم بالسَّيْر في البلاد؛ طلباً لما علا من الإسناد، لا يريدون شيئاً سواه، ولا يبتغون إلاّ إياه، يَحمِلون عَمَّنْ لا تَثبت عدالتُهُ، ويأخذون ممَّنْ لا تجوز أمانته، ويَرْوُونَ عَمَّنْ لا يَعرفون صحّةَ حديثِهِ، ولا يُتَيَقَّن ثبوتُ مسموعِهِ، ويَحتجون بمَنْ لا يُحسن قراءةَ صحيفته، ولا يقوم بشيءٍ من شرائط الرواية، ولا يُفَرق بين السماع والإجازة، ولا يُميز بين المسند والمرسل والمقطوع والمتصل، ولا يَحفظ اسمَ شيخِهِ الذي حَدَّثه حتّى يَسْتَثْبِتَهُ من غيره[…]. ويَرَوْنَ ذلك جائزاً، والعملَ بروايته واجباً، إذا كان السماعُ ثابتاً، والإسنادُ متقدِّماً عالياً[…]، وذلك منه غايةُ الجَهْلِ، ونهايةُ التقصير عن مرتبة الفضل[…]. أَعْيَتْهُم الأحاديثُ أنْ يَحفظوها، واختلفت عليهم الأسانيدُ فلم يَضْبِطُوها، فجانبوا ما استَثْقَلوا، وعَادوا ما جَهِلوا»([13]). اهـ.
3ـ ويقول ابن الصلاح أيضاً: «وهذه جُملةٌ تُدرَكُ تفاصيلُها بالمباشرة والبحث[…]. وإذا انفرد الراوي بشيءٍ نُظِرَ فيه؛ فإنْ كان ما ينفرد به مخالفاً لِمَا رواه مَنْ هو أَوْلَى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذّاً مردوداً، فإنْ لم تكن فيه مخالفةٌ لِمَا رواه غيره، وإنَّما هو أمرٌ رواه هو ولم يَرْوِهِ غيرُهُ، لِيُنظَرْ في هذا الراوي المنفرد، فإنْ كان عدلاً حافظاً موثوقاً وبإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به[…] فإذا ما كان المنفردُ به غيرَ بعيدٍ من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرُّده استحسنّا حديثه ذلك، ولم نَحُطه إلى قبيل الحديث الضعيف[…] رَدَدْنا ما انفرد به[…]. مَعرفةُ عللِ الحديث من أَجَلِّ علومِ الحديث وأدقّها وأشرفها، وإنَّما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، وهي عبارةٌ عن أسبابٍ خفيّة غامضة قادحة فيه. فالحديث المعلَّل هو الحديث الذي اطُّلِعَ فيه على علّةٍ تَقدح في صحّته، مع أن ظاهرَهُ السلامةَ منها، ويتطرّق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحّة من حيث الظاهر. ويُستعان على إدراكها بتفرُّد الراوي، وبمخالفة غيره له، مع قرائن تَنْضَمُّ إلى ذلك تُنَبِّهُ العارفَ بهذا الشأن على إرسالٍ في الموصول، أو وقفٍ في المرفوع، أو دخولِ حديثٍ في حديثٍ، أو وَهْمِ واهمٍ بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنِّه ذلك فيَحكم به، أو يَتردَّد فيتوقَّف فيه. وكلّ ذلك مانع مِن الحُكم بصحّة ما وُجد ذلك فيه»([14]). اهـ.
ثمّ نقوم (ثانياً) بتحليل هذه النصوص الصَّلاحِيَّة التي تَنطقُ (بذاتها، ودون حاجةٍ حتّى لتحليلٍ منّا لها) برَدِّ ما نُسِبَ ـ في ظننا ـ خطأً إلى ابن الصلاح واشتَهَر عنه، فنقول:
ـ بالنسبة للنصّ الصلاحِيِّ الأوّل مِن البَيِّنِ الواضحِ أنَّ ابن الصلاح:
أـ يَقصد مصنّفاتٍ خاصة: «أجزاء الحديث وغيرها»؛ وهي ما يُسَمَّى عند المُحَدِّثين المتأخِّرين بـ «الأجزاء» و«المَشْيَخَات» و«المعاجم». وحالُ أسانيد أكثرها سيأتي بيانُهُ توّاً.
فليس يقصد ابنُ الصلاحِ أحاديثَ أو رجال الكتب الستّة أو التسعة أو غيرها من دواوين السنّة الكبرى المشهورة المتقدِّمة.
ب ـ ويقصد زمناً محدَّداً: «في هذه الأعصار». وكثيرٌ منها ذات أسانيد عالية يتعذَّر تصحيحها أو تحسينها بناءً على ظواهر أحوال أسانيدها؛ (لما سيأتي).
فليس يقصد ابنُ الصلاحِ زمان وعصر الرواية المتقدِّم، وإنَّما يقصد زمانَ المتأخِّرين وعصورَهم.
ج ـ ويقصد كيفيّةً معينة: «بمجرد اعتبار الأسانيد»؛ إذ الاشتغال بدراسة وتصحيح أو تثبيتِ هذه الأسانيد متعذِّرٌ ممتنعٌ؛ للأسباب التي فَصَّلها ابنُ الصلاح والبيهقيُّ والخطيبُ البغدادي في ما نقلنا نصوصَهم فيه قبل قليلٍ. وكلُّها أسبابٌ تعودُ إلى مستجدّاتٍ طرأت على المُحَدِّثين ـ تَحَمُّلاً وأداءً ـ بعد تدوين دواوين السنّة الكبرى وانقضاء عصر الرواية، مستجدّاتٍ تمنع من الاطلاع على علل هذه الروايات والرواة؛ لعدم الاهتمام بهذا الجانب، ولا تحرّيه مِن قِبَل رجال هذه الأعصار، في مقابل شهوةِ الرواية لمجرّد الرواية. ولهذا «إذا وَجَدَ إنسانٌ في جزءٍ من الأجزاء حديثاً بسندٍ واحدٍ ظاهرُهُ الصحّةُ؛ لاتّصالِه وثقةِ رجاله [ظاهراً]، لم يُمكن الحكم بالصحّة لذاته؛ لاحتمال أنْ يكون له علّةٌ خفية لم يُطَلَّع عليها؛ لتعذُّرِ العلمِ بالعللِ في هذه الأزمان»([15]).
فليس يقصد ابنُ الصلاح دراسة أسانيد ومتون عصر الرواية المتقدِّم، وإنما أسانيد ومتون ما دُوِّنَ بعد عصر الرواية؛ حيث لا يتحقَّق «الحفظ والضبط والإتقان»، ومن ثمّ يَكثُرُ ولا يُؤمَنُ «التغييرُ والتحريف».
فليس كلامُ ابنِ الصلاح مطلقاً إذن، أي ليس عامّاً على مطلق الظروف والأعصار والكتب والرواة، وإنَّما هو خاصٌّ بظرفٍ وعصر معيَّن، وكتبٍ معينة، ورواةٍ معينين. وأما خلافُ هذه المُعَيَّنات من كتب ومُحَدِّثي عصر الرواية وتدوين كتب السنة الكبرى والجامعة فقد خَضَعَ لفحصٍ وضوابط كثيرة، تُمَكِّننا من التعامل معها ودراسة أسانيدها ومتونها وأحوال رجالها تحمُّلاً وأداءً (…إلخ)، بخلاف أسانيد المتأخِّرين ورواياتهم وكتبهم تلك؛ فإنَّها لا تخلو من قوادح، (بل هي أقرب للأباطيل والموضوعات، أو بالأقلّ الشواذّ والغرائب والمنكرات)؛ نتيجةَ تساهلهم (في) تطبيق قواعد الجرح والتعديل على هؤلاء الرواة، (وفي) مدى توافر شروط تحمُّل الحديث وأدائه فيهم([16]).
فليس المقصود بهذه الأسانيد النازلة ـ أو حتّى العالية منها ـ، ومتونِها المذكورة في تلك الكتب (كتب الأجزاء والمشيخات والمعاجم)، إثباتَ الحديث المرويّ أو تصحيحَه، وإنَّما إبقاءُ سلسلة الإسناد والرواية لا غير([17]).
د ـ ويقصد الوَرَعَ والاحتياطَ، لا التحريم والمنع وغلق الباب نهائياً: «فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحَّته».
ـ وبالنسة للنصّ الصلاحي الثاني فهو نصٌّ صريحٌ من ابن الصَّلاح، يستبينُ به ـ لكلّ مُرتابٍ متلجلجٍ أو متشكِّكٍ متردِّد ـ مقصدَ ابن الصلاح من النصّ الأول، ممّا يعزِّز تعزيزاً رأينا ورؤيتنا وتحليلنا الذي أبديناه.
ـ وبالنسبة للنصّ الثالث فهو مجموعةُ نصوصٍ أخرى صريحةٍ لابن الصلاح، يشيرُ فيها صراحةً إلى إمكانية تصحيح وتضعيف الأحاديث، وتعديل وتجريح الرواة، من طرف العلماء المتأخِّرين. فليس بابُ الاجتهادِ في التصحيح والتضعيف، أو في الجرح والتعديل، مُغْلَقاً في وجوههم، كما أشيع عن ابن الصَّلاح!([18]).
وبهذه «المعالجةِ المنهجيّةِ» غيرِ المسبوقة (في ما نعلم) حاولنا أن نصحِّح خطأً انتشرَ وشاعَ وعمَّ، وأنْ نُبَدِّدَ وَهْماً غَيَّمَ على كثيرٍ من الآفاق. والله تعالى أعلى وأعلم.
الهوامش
____________
(*) أستاذٌ وباحثٌ في علوم الشريعة الإسلاميّة، ومتخصِّص في الدراسات الفقهيّة. له عدَّة مؤلَّفات. من مصر.
([1]) أحمد شاكر، الباعث الحثيث (شرح اختصار علوم الحديث، لابن كثير) 1: 286.
([2]) المزّي، تهذيب الكمال 2: 43.
([3]) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل، ج2، الترجمة رقم 5.
([4]) المصدر السابق، ج2، الترجمة رقم 170.
([6]) وكذلك قال ابن حِبّان، متحدِّثاً عن سعدٍ هذا: «يروي عن أخيه وأبيه عن جدّه بصحيفة لا تشبه حديث أبي هريرة، يتخايل إلى المستمع لها أنها موضوعة أو مقلوبة أو موهومة. لا يحلّ الاحتجاج بخبره». (ابن حِبّان، المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين، ج1، الترجمة رقم 468).
وابن حِبّان وإنْ كان متساهلاً في التوثيق، فإنّ أحكامه واستقراءاته الواردة في كتابه «المجروحين» تضعه في مصافّ كبار النقّاد بارتياح؛ إذ يذكر فيها الجرح مفسِّراً معلِّلاً بعد جمعٍ واستقراء وسبر. ابن حبان إذا جَرَح رأيتَهُ ـ في الأعمّ الأغلب ـ يتفجَّر علماً.
([7]) بل ويشمل هذا أيضاً المرحلةَ الأولى؛ لأنَّ ادّعاءَ وجودِ التعارض بين معاني الروايات محل الدراسة والفحص وبين معاني القرآن والثابت من السنّة أمرٌ اجتهادي، يخضع لمناهج وسُبُل فهم وفقه النصوص وكيفيّة الاستنباط منها، ومدى الغَوْص على المعاني، وجلُّها أمورٌ ظنّية نسبية تختلف من مجتهدٍ لآخَر.
([8]) يقول ابن تيميّة بحقٍّ: «موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام». (ابن تيمية، مجموع الفتاوى 18: 22).
ويقول القاضي الحسين بن محمد المغربي وغيرُهُ بحقٍّ: «الواجبُ الرجوعُ إلى الظن القويَّ بحسب الإمكان[…؛ فإنَّ] التصحيحَ والتضعيف من المسائل الاجتهادية والنظرية». (الأمير الصنعاني، إرشاد النُّقَّاد إلى تيسير الاجتهاد: 75).
([9]) سنتعرَّض هاهنا إلى هذه المسألة؛ ليس لأنَّ عدمَ التعرُّض لها قادحٌ في نتيجة بحثنا هذا؛ (فإنَّ البحثَ في عينِ المسألةِ مستوفٍ للحججِ والمناقشات بدونها، بحمد الله)، وإنَّما من باب «إتمام الفائدة» و«تصحيح خطأ شائع» يتعلَّق بموضوع بحثنا هذا.
([10]) وهذا هو النصُّ اليتيم التي قام عليه هذا الرأي الشهير المذكور، وحتّى دون أن يُكَلِّفَ أصحابُهُ أنفُسَهم مراجعةَ بقيَّة نصوص ابن الصَّلاح؛ لِيُفهَمَ بعضُها في ضوءِ بعضٍ!
([11]) مقدّمة ابن الصلاح: 15، 17، 18، 19.
([12]) مقدّمة ابن الصلاح: 93 ـ 94.
([13]) الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية: 18 ـ 19.
([14]) مقدمة ابن الصلاح: 35، 63، 71.
([15]) جلال الدين السيوطي، التنقيح لمسألة التصحيح، مخطوطٌ في المكتبة الظاهرية بدمشق، مجموع رقم (5896 : عام). نقلاً عن: د. نور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث: 283، 282.
([16]) وإذا أضفْتَ إلى هذا وذاك أنَّ هذه الأحاديث ـ طرقاً و/ أو متوناً ـ التي تأخَّرت روايتُها كلَّ هذه القرون لو كانت ثابتةً عن رجال إسنادِها المتقدِّمين لَبَادَرَ إلى روايتها حُفّاظُ ذلك العصر والوقتِ وأصحابُ هؤلاء المتقدِّمين (أي لَتَمَّتْ روايةُ هذه الأحاديث منذ زمنٍ)، ولأخرجها أصحابُ الحديثِ في كتبهم، ولكنْ لَمَّا لم يحدُثْ شيءٌ من ذلك كان ـ على أقلّ تقديرٍ ـ قرينةً ـ في غاية القوّة ـ على وَهْمِ مَنْ رواهُ عن هؤلاء المتقدِّمين، وأنها طُرُقٌ أو متونٌ لا أصولَ لها إلاّ في خيالِ مَنْ رواها.
أقول: إذا أضفْتَ هذا إلى ما سبق تبيَّن لك صحّةُ ما ذَكَره ابنُ الصلاح والبيهقي والخطيب البغدادي والسيوطي وغيرهم.
([17]) ولا يخفاك أنَّ هذا أحد أعراض «مَرَض الشكلانيّة» الذي يضرب بأطنابه في كثيرٍ من جَنَبات تراثنا ومناهجنا وحركتنا في الفكر والحياة.
([18]) ويمكن، بالإضافة إلى ما سبق، أنْ يتتبَّع المرءُ ما أصدره ابنُ الصَّلاح من أحكامٍ على الأحاديث، تصحيحاً وتضعيفاً (سواء في فتاواه، أو في ما نقله عنه ابن الملقن في البدر المنير في جُزأيْهِ الثاني والثالث خاصّةً، أو في غير ذلك)؛ إذ بهذا التتبُّع سيتَّضح للمرء أنَّ ابنَ الصلاح قد مارسَ بنفسه ما ادُّعِيَ أنَّه لا يجوزُ ممارَسَتُهُ (أي إنه قد مارس التصحيحَ والتضعيفَ الذي نَسَبَ الكثيرون إليه ـ خطأ ـ أنه لا يُجيزه من المتأخِّرين الذين هو واحدٌ منهم).