أدّى القرآنُ الكريمُ دوراً أساسياً ومهماً في تغيير الحياة العربية، وما جاورها من بلدان، وما استطاع أن يصل إليه من بقاع. فهو الذي أخرج البلاد والعباد من ظلمات الجهل والعادات والتقاليد السيئة، وهو الذي أشاع القيم النبيلة والمعرفة الصادقة، والمنهج العلمي الصحيح في فهم الكون ومحتوياته المتنوعة.
وبذلك بنى حضارة إنسانية عالمية لم تنافسها أية حضارة في العالم قديماً وحديثاً، حضارة جمعت بين الدين والأخلاق العالية والقيم الكريمة والمعرفة النافعة، ولا سيما المعرفة العلمية، من رياضيات وحيوان ونبات وفيزياء وكيمياء وفلك… مما ميَّزها عن الحَضارات الأُخر بميّزة العلم، والمنهج العلمي الممزوج بالقيم والإنسانية، وهو أحد أهم العوامل في ازدهار هذه الحضارة وتفوقها على الحضارات الأُخر منذ انبثاق الرسالة وحتى اليوم.
وكان علم الفلك في هذه الحضارة، هو النقطة الأسطع بين العلوم الكثيرة المتنوعة التي اهتمت بها الحضارة الإسلامية، فكان وسيلة أساسية مُهمة في تأكيد الإيمان الحي بالخالق المبدع لهذا الكون، وكان المشتغلون بهذا العلم يدركون هذا المعنى تماماً، وقد تضمَّنت كتاباتهم الفلكية الكثير من الآيات الفلكية تأكيداً لدور العلم في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وفي مقدمة من ذكر الآيات الفلكية في مؤلفاتهم العالم الفلكي الشهير أبو عبدالله البتّاني المتوفى سنة (317هـ)، (كما سيأتي، وابن يونس الصدفي المتوفى سنة (399هـ) في زيجه الكبير.
وبذلك جمع علم الفلك بين المادة العلمية الدنيوية، والوصول إلى فهم صحيح للكون وما وراء الكون من قوة مبدعة (خالق الكون)، وهذا ما دعا إلى بذل الجهد والتعب لدراسة هذا العلم دراسة مثبتة محكمة، والدخول في تفاصيل علمية لم يدخلها السابقون.
إنّ القرآن الكريم، والدين الإسلامي الذي استند إليه (إلى القرآن)، دفعا إلى لمّ شتات ما توافر من معارف ومعلومات فلكية بسيطة كانت عند العرب، وما توافر عند الجوار الجغرافي ليبني المسلمون علمهم الفلكي الإسلامي، الذي أخذ مكانةً لم يأخذها أيّ علم في العصور الوسطى.
لم يكن قبل الإسلام مادة علمية فلكية منظمة، وإنما هناك معلومات وملاحظات وتجارب أملتها الحاجة والضرورة الحياتية، معارف ومعلومات وتجارب ارتبطت ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بالاحتياجات اليومية والشهرية والسنوية، وليس علماً منظماً يستند إلى أدلة وبراهين كما عند اليونانيين، والمسلمين بعد سيادة الحضارة الإسلامية. وقد أكد هذا صاعد الأندلسي بقولـه: bوكان للعرب مع هذا معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها وعلم بأنواع الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة لاحتياجهم إلى معرفة ذلك في أسباب المعيشة، لا على طريق تعلم الحقائق، ولا على سبيل التدرب في العلومv([1]).
وكانت تلك المعلومات والتجارب غزيرة ومتعددة الجوانب، فبعضها كان ذاتياً نابعاً من الاحتياجات المعاشية والبعض الآخر وفد إليهم عن طريق التجارة أو عن طريق الأجانب المقيمين مع العرب في الجزيرة العربية أو بطرق أُخر([2]).
وكانت معرفة العرب في العصر الجاهلي للأجرام السماوية، والظواهر الكونية المختلفة من نجوم وكواكب وأجرام أُخر شائعة معروفة على نطاق الجزيرة العربية، فقد عرفوا اسماءها ومواقعها وحركاتها معرفة عَمَلية، عاشوها وعاينوها، لا معرفة الدارس المتعمق في تفاصيلها العلمية، حتى لقد وجدنا رجلاً حضرياً يستغرب من غزارة ما يمتلكه أحد الأعراب من معرفة عن النجوم، قال الجاحظ: bوصف أعرابي لبعض أهل الحاضرة نجوم الأنواء، ونجوم الاهتداء، ونجوم ساعات الليل والسعود والنحوس، فقال قائل لشيخٍ عباديٍّ كان حاضراً: أما ترى هذا الأعرابي يعرف من النجوم ما لا نعرف! قال: ويل أُمّك! من لا يعرف أجذاع بيته؟v([3]).
إنّ هذا النص يدلّ على أنَّ معرفة أهل البادية للنجوم أشبه بالمعرفة الفطرية، يعرفونها كما يعرفون أركان بيوتهم؛ لكنها كما قال صاعد الأندلسي معرفة فطرية لا على سبيل التدرب في العلوم.
إنّ معرفة عرب البادية للنجوم والكواكب والظواهر الكونية جاءت بسبب احتياجاتهم إلى علامات يسترشدون بها في طُرقهم الطويلة ـ الصحراوية الخالية ـ من العلامات والمعالم، لذلك اتخذوا النجوم وحركاتها ومواقعها أدلةً ممتازة يسترشدون بها على مناطق البادية الشاسعة. فالسماء مليئة بالنجوم تختلف في أماكنها وصورها وألوانها ولمعانها وأشكالها وأحجابها، وبالتالي فأيّة علامات أفضل من هذه العلامات الثابتة الواضحة؟ وقد ورد في القرآن الكريم تأكيد لهذا المعنى وهو قولـه تعالى: > وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ<([4])، وقوله أيضاً: >وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ<([5]).
وذكر الجاحظ هذا المعنى بقولـه: bعرفوا الآثار في الأرض والرَّمل، وعرفوا الأنواء ونجوم الاهتداء؛ لأن كل من كان بالصحاصح الأماليس ـ حيث لا أمارة ولا هادي، مع حاجته إلى بعد الشقة ـ مضطر إلى التماس ما ينجيه ويؤديه. ولحاجته إلى الغيث، وفراره من الجدب، وضنِّه بالحياة، اضطرته الحاجة إلى تعرف شأن الغيث، ولأنه في كل حال يرى السماء وما يجري فيها من كوكب، ويرى التعاقب بينها، والنجوم والثوابت فيها، وما يسير منها مجتمعاً وما يسير منها فارداً، وما يكون منها راجعاً ومستقيماًv([6]).
وفي الشعر الجاهلي جاء ذكر بعض أسماء النجوم، مثل الفرقدين والدَبَران والعيّوق والثريا والسماكين والشعريين وغيرها.
وإضافة إلى هذه النجوم الواضحة عرفوا نجوماً خافتةً صعبة الرؤية ففي أمثالهم جاء: bأُريها السُها وتريني القمرv. والسُّها (نجم) يلتصق بنجم (العناق) وهو الكوكب الأوسط في مجموعة بنات نعش، والناس يمتحنون به أبصارهم فمن ضعف بصره لم يره([7]).
ولم تقتصر معرفة عرب العصر الجاهلي على النجوم ومواقعها، وإنما عرفوا إلى جانبها الكواكب السيّارة الخمسة المعروفة قديماً وهي: عُطارد، والزُهرة، والمرّيخ، والمشتري، وزحل، وميّزوها عن النجوم الثابتة وأدركوا أنها متحيرة لم تثبت في مسيرتها على صورة واحدة، كما في حالة النجوم.
وقد وردت الإشارة إلى هذه الخمسة في القرآن الكريم، قال عزّ وجلّ: >فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ<([8]) فالخنس على ما يقول الرازي السيارات الخمسة، والآية تشير إلى رجوع الكواكب السيّارة الخمسة واستقامتها ورجوعها هو الخنوس، وكنوسها اختفاؤها تحت الضوء([9]).
إنَّ ذكر هذه السيارات الخمسة في القرآن يعني أنها كانت معروفة في العصر الجاهلي. ويعتقد المستشرق نالينو أنهم (الجاهليون) سموها بأسماء مخصوصة قديمة الأصل، مجهولة الاشتقاق لم يزل استعمالها إلى الآن([10]). وقد وردت في أشعار الجاهليين ولا سيّما عُطارد والزهرة، أمّا زحل والمشتري والمريخ، فلا يشك نالينو في قدمها؛ لأنها مذكورة عند المؤلفين المسلمين قبل أن تنتقل إليهم العلوم الدخيلة([11]).
وأولى العرب في العصر الجاهلي القمر اهتماماً خاصاً وأدركوا بعض تفاصيله، كخسوفه ومنازله وأوجهه وأطواره، وكان من آلهة العرب الجنوبيّين، وكان يُعرف عندهم باسم (هلل)، والقمر من التسميات العربية الشمالية، وتابعوا منازله وعرفوا أنه يسير ضمن نطاق خاص قسّموه إلى 28 قسماً يحلّ كل ليلة في قسم واحد وأسموه (منـزلاً)، وقد ذكر القرآن منازل القمر بقولـه: >وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ<([12]).
وعرفوا الشمس، وأدركوا أهميتها وبعض خصائصها، وأدركوا أنها كتلة نارية، يقول ابن قتيبة: bالشمس يقال لها: ذُكاء، سمّيت بذلك لأنها تذكوا كما تذكو النارv([13]).
وعرفوا مواد فلكية أُخرى لكنها ـ كما قلنا ـ معرفة فطرية لم تصل إلى مرحلة العلم.
ونزل القرآن، ونزلت معه الرحمة والعلم والحضارة، وإذا الدنيا جديدة، والعالم جديد أيضاً، لقد ولّى الظلام، وسطع نور الإسلام، ومعه نور الحياة الكريمة، ونور العلم والحضارة في كل مكان وصل إليه، فلم يمضِ زمن طويل على نجاح الدعوة الإسلامية في جزيرة العرب في عهد النبي الكريم 2 وتوطيد دعائمها، حتى انتشر الإسلام خارج الجزيرة في فترة زمنية قياسية مدهشة، وامتدت الفتوح العربية بسرعة كبيرة إلى جميع أقطار الشرق الأدنى والأقاليم الشرقية، وازدادت اتساعاً في عهد الدولة الأُموية (41 ـ 132هجرية) وشملت رقاعاً شاسعة دخلت ضمنها شمالي إفريقية والأندلس (إسبانية) وبلاد فارس وأقاليم ما وراء النهر.
ومع انتشار الإسلام انتشر العلم والثقافة والكرامة، فرضع من معين الكتاب الإلهي عددٌ كبير من الرجال من مختلف الدول والأقاليم ليبنوا أعظم حضارة في التاريخ.
وكان العلم من أهم سمات الحضارة الإسلامية، حيث اهتم القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بالعلم والعلماء، ولم ينافسه أيّ دين آخر في هذا المجال، فإذا ما قارنّاه بالديانة المسيحية فسنجد الفرق بعيداً، يقول ج. برنال الباحث في تاريخ العلوم: bلم يضع الدين الإسلامي قيوداً على الفكر البشري مثلما وضعت المسيحية، فعندما ظهر الإسلام… سعى قادة المسلمين عقب القرن الأول لفتوحاتهم سعياً جاداً في الحصول على المعارف اليونانية القديمة وعلى غيرها من الثقافات بقدر ما كان القرآن يسمح بهv([14]).
فالقرآن يؤكد العقل والتفكير الصحيح، ويحارب تقليد الآباء وأساطير الأولين، يقول عزّ وجلّ: >وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ<([15]).
ويؤكد الحواس والعقل معاً في آية كريمة أُخرى فيقول تعالى: >وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ<([16]). وعدم استخدام هذه الأدوات يعني تحمل الإنسان مسؤولية كبيرة يقول عزّ وجلّ: >وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً<([17]).
ثم يأتي الحثُّ على النظر في الكون ومكوناته، سمائه ونجومه وشمسه وقمره وأرضه ونباته وزرعه وأشيائه الأُخر، وهذا هو عين المنهج الذي ظهر في العصر الحديث، وأدى إلى ظهور الحضارة العلمية الراهنة.
وفي القرآن الكريم آيات قرآنية كثيرة تؤكد العلم والعلماء وتصفهم بأفضل الأوصاف وأقدسها، وإلى جانب ذلك هناك الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة تؤكد هذا المعنى.
فلأهمية العلم أقسم الباري عزّ وجلّ بالقلم، فهو أداة مهمة من أدوات العلم، قال عزّ وجلّ: >ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ<([18]).
ولأهمية العلم أيضاً أكد القرآن الكريم في أول سورة على القراءة والتعلم قال عزّ وجلّ: >اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ<([19]).
ولقيمة العلم الكبرى قرن الباري عزّ وجلّ أهل العلم به، وبملائكته، بقوله تعالى: >شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ<([20]).
وهناك آيات أُخر كثيرة تؤكد العلم والعلماء كقولـه تعالى: >إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء<([21]).
وآية أُخرى: >وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا<([22]).
وآية أُخرى: >هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ<([23]).
وفي أُخرى: >يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ<([24]).
وآيات أُخر غير المذكورة لا مجال لذكرها.
وإضافة إلى هذه الآيات وأمثالها التي تحث على العلم، هناك أحاديث نبوية كثيرة في هذا المجال، نذكر منها:
ـ من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سَهّل الله له طريقاً إلى الجنة.
ـ اطلبوا العلم ولو في الصين، فان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
ـ إنّ الحكمة تزيد الشريف شرفاً وترفع المملوك حتى يدرك مدارك الملوك.
وأحاديث غيرها يمكن مراجعتها في أبواب العلم في كتب الحديث.
وفي نهج البلاغة أكَّد الإمام علي B العلم من خلال مخاطبته كميل بين زياد النخعي بقوله:
bالناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم وَلم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله.
يا كميل بن زياد! معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأُحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه. يا كميل! هلك خُزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر: أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودةv([25]).
وعلى هذا فالإسلام بكل إمكاناته وطاقاته دفع الإنسان إلى العلم دفعاً، بقرآنه الكريم ورسوله العظيم وأوليائه الكرام، من أجل بناء حضارة متينة تعتمد أساساً متيناً هو العلم والمعرفة العلمية إلى جانب المقومات الأُخر.
أكّد القرآن الكريم العلم بكل أنواعه وأشكاله (باستثناء العلم الضار) الذي كان الرسول الأكرم 2 يتعوذ منه بقوله: bأعوذ بالله من علم لا ينفعv.
والذي يذكره القرآن الكريم من العلوم المختلفة لم يذكره لذاته ونفسه، وإنما ليصب ضمن الهدف الإلهي الكبير الذي نزل القرآن من أجله، وهو هداية الناس وإنقاذهم من ظلمات الجهل والتردي إلى نور العلم ومناهجه، والحياة الكريمة، وهو هدف ذكره القرآن صراحة بقوله تعالى:
>كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ<([26]).
وقد وردت آيات علمية كثيرة تناولت مختلف ميادين المعرفة، من أُمور طبيّة ونباتية وحياتية وجيولوجية وفلكية وغيرها، على شكل حقائق أو إشارات أو شواهد… وليست على سبيل التفصيل الذي يخرج القرآن من هدفه الأساسي المذكور آنفاً وهو (الهداية)، والآية الكريمة التالية جمعت عدداً من المواد العلمية، قال تعالى: >أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالانْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء<([27]).
ففي هذه الآية وردت إشارات طبيعية وطبيّة وجيولوجية ونباتية وحيوانية وغيرها؛ ليعرف الناس من خلالها عظمة الله تعالى وإبداعه الهائل، وبالطبع فالعلماء أكثر الناس تأثراً وإدراكاً لمخلوقات الله، وبالتالي أكثر خشية من كل عباده، وللآيات الكونية الفلكية حصة كبيرة من آيات القرآن العلمية، ولا شك أنّ الكون وأجرامه وظواهره من أقوى الأدلة على الإيمان بالله وطاقاته غير المحدودة، فحضورها الدائم وانبهار العيون والعقول بتصميمها واكتشاف المزيد من أسرارها، جعلها في قمة الآثار على المبدع العظيم.
وفي القرآن الكريم جاء التأكيد على السماء والكون أشدّ وأقوى من التأكيد على الإنسان، وورد في أكثر من آية شريفة، ففي المقارنة بين خلق الإنسان وخلق السماء قال عزّ وجلّ: >أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا<([28]).
وهناك تأكيد آخر في آية أُخرى، قال عزّ من قائل: >لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ<([29]).
وفي القرآن عدد كبير من الآيات الكونية الفلكية تتوزع كالآتي:
وردت كلمة الأرض 461 مرة، ووردت كلمة السماء والسماوات 310 مرات، وكلمة الشمس 33 مرة، وكلمة القمر 27 مرة، وكلمتا النجم والنجوم 13 مرة.
وهناك إضافة إلى هذه الإحصائية البسيطة للكلمات الفلكية الواردة في القرآن الكريم، فقد وردت أسماء فلكية أو ظواهر سماوية وكونية لبعض سور القرآن الكريم نذكر منها: سورة المعارج، وسورة الشمس، والقمر، والنجم، والتكوير، والانشقاق، والانفطار، والبروج وغيرها.
ولنذكر الآن الآيات الأكثر أهمية في مجال السماء والفلك، والآيات التي تؤكد النظر إلى السماء والتفكر فيها وفي محتوياتها من شمس وقمر وكواكب ونجوم وظواهر فلكية مختلفة، من هذه الآيات يمكن أن نذكر:
ـ >إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ<([30]).
ـ >هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ الله ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ<([31]).
ـ >وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ<([32]).
ـ >أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ<([33]).
ـ >أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ<([34]).
ـ >أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ<([35]).
ـ >أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا<([36]).
هذه آيات قليلة من كثيرة تحدثت عن السماء وأجرامها وظواهرها، وقد تأثر العلماء والفلكيون ـ كما تأثر الناس الآخرون ـ بالآيات الفلكية والكونية الأُخر، فراحوا يتتبعونها ويفسرونها ويفصّلون في الحديث عنها. وكانت أحد العوامل التي دفعت بهم نحو المزيد من البحث في الفلك والسماء، وقد اعتبر بعضهم أنّ الفلك كله هو تفسير للآيات الكونية القرآنية. ففي تفسير الفخر الرازي ورد bأنّ عمر بن الحسام كان يقرأ كتاب المجسطي على عمر الأبهري (والمجسطي في ذلك الوقت هو الفلك كله)، فقال بعض الفقهاء يوماً: ما الذي تقرؤونه؟ فقال: أُفسّر آية من القرآن، وهي قوله تعالى: >أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا…< فأنا أُفسّر كيفية بنيانها. ولقد صدق الأبهري فيما قال، فإنّ كل من كان أكثر توغّلاً في بحار مخلوقات الله تعالى كان أكثر علماً بجلال الله تعالى وعظمتهv([37]).
إنّ ما أورده الفخر الرازي يعني أنّ علم الفلك هو ثمرة من ثمرات تفسير بعض الآيات الكونية القرآنية.
إنّ التأكيد القرآني على السماء والأرض والفلك عموماً كان من أكبر العوامل على تشجيع المشتغلين بالفلك لمتابعة دروسهم وبحوثهم وأعمالهم الفلكية والرصدية.
وفي هذا النصّ الذي ورد في مقدمة الزيج الصابي لأبي عبدالله البتّاني المتوفى سنة (317هـ) نرى المؤلف قد تأثر بالآيات الكونية القرآنية، مما جعله يقول: إنّ علم الفلك من أشرف العلوم.
يقول أبو عبدالله البتّاني: bإنّ من أشرف العلوم منـزلة، وأسناها مرتبة، وأحسنها حلية، وأعلقها بالقلوب، وألمعها بالنفوس، وأشدّها تحريراً للفكر والنظر، وتذكية للفهم، ورياضة للعقل بعد العلم بما لا يسمع الإنسان جملة من شرائع الدين وسنته، علم صناعة النجوم لما في ذلك من جسيم الحظ، وعظيم الانتفاع بمعرفة مدة السنين، والشهور، والمواقيت، وفصول الأزمان، وزيادة النهار والليل ونقائصها، ومواضع النيّرين وكسوفهما، ومسير الكواكب في استقامتها ورجوعها وتبدل أشكالها، مراتب أفلاكها وسائر مناسباتها إلى ما يدرك بذلك من أنعم النظر وأدام الفكر فيه من إثبات التوحيد، ومعرفة كنه عظمة الخالق وسعة حكمته، وجليل قدرته، ولطيف صنعه، قال عزّ من قائل: >إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ<، وقال تبارك وتعالى: >تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا<، وقال عزّ وجل: >وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً<، وقال سبحانه: >هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ<، وقال جلّ ذكره: >الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ< مع اقتصاص كثير من كتاب الله عزّ وجلّ يطول وصفه ويتسع القول بذكره واستشهادهv([38]).
من هذا النصّ نجد أنّ تأكيد القرآن الفلك والسماء خير دافع لهذا العالم الكبير للمزيد من البحث في هذا الحقل الكوني، وقد عدّ الباحثون في تاريخ العلوم أنّ الآيات الكونية القرآنية من أكبر العوامل في تطور العلم في العالم الإسلامي.
وإضافة إلى التأكيد القرآني على السماء وأجرامها وظواهرها، وردت في القرآن مفردات دينية ارتبطت بشكل مباشر بالشمس أو القمر أو ظواهر كونية أُخر. وبدون التحرّي والتدقيق اللازمين في سلوك هذين الجرمين النيرين، وبعض الظواهر السماوية، لا يمكن أداء الأحكام الشرعية المتعلقة بها أداءً شرعياً صحيحاً، وبالتالي يتعرض المسلم إلى الوقوع في الحرام، لذلك كان الالتزام الديني الإسلامي يحتّم على المسلم متابعة السماء ومعرفة دقائق عدد من الأمور الفلكية.
إنّ ارتباط تلك الأحكام الشرعية بمجموعة معقدة من المسائل الفلكية، وخاصة تلك التي تتعلق بعلم الفلك الرياضي، مثل تحديد الوقت أو مشاكل التقويم، جعل المسلمين يبحثون عن حلول أكثر تطوراً، فاضطروا إلى تجاوز الطرق والأساليب التي كانت عند اليونانيين، فاستخدموا (علم المثلثات)، العلم الذي فصلوه لأول مرّة عن علم الفلك، ونظّموه، وأضافوا إليه إضافات طبعته بطابع عربي إسلامي خالص.
القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كتاب صادق يؤكد العلم ويدعو إليه، وفي الوقت نفسه يحارب الخرافة والشعوذاب ويعاقب عليهما، بسبب أضرارها الكبيرة على العلم والمجتمع.
وإذا عرفنا أنّ علم الفلك هو مادة علمية تدرس الظواهر الكونية دراسة علمية منظمة، ويقوم على أُسس وقوانين دقيقة، ولـه إنجازات كبيرة معروفة لم تخف على أحد، فإنّ التنجيم غير ذلك أبداً، فهو المقابل لعلم الفلك، وهو مادة غير علمية، مادة خرافية تقوم على أسس واهية، ولا تقوم على علاقات صحيحة كما في العلوم الأُخر.
والتنجيم على إجماله هو التطلع إلى معرفة الغيب من خلال النظر في النجوم، ويفترض أنّ جميع ما يطرأ على العالم من التغيّر والتبدل يتصل اتصالاً مباشراً بطبائع النجوم وحركاتها.
عرّفه حاج خليفة في كشف الظنون بقوله: bهو الاستدلال بالتشكلات الفلكية من أوضاعها وأوضاع الكواكب من المقابلة والمقارنة والتثليث والتسديس والتربيع على الحوادث الواقعة في عالم الكون، والفساد في أحوال الجو والمعادن والنبات والحيوان، وموضوعه الكواكب بقسميها، ومباديه اختلاف الحركات والأنظار والقران، وغايته العلم بما سيكون بما أجرى الحق من العادة بذلك، مع إمكان تخلّفه عندنا كمنافع المفرداتv([39]).
وعلماء الفلك ينكرون التنجيم، ويعدّونه نوعاً من الخرافات والأوهام؛ لعدم استناده إلى أُسس علمية صحيحة. ومن دراسة التنجيم وتتبع نتائجه أكد الباحثون أنَّ: bالتنجيم هو لون من التفكير الخرافي يربط بين النجوم ومواقعها في السماء وطالع الناسv([40]).
لم يتحدث القرآن عن التنجيم صراحة، وإنما ورد في سياق إنكار الخرافات والأساطير والأوهام، وكل العلاقات والأفكار غير العلمية البعيدة عن الواقع الموضوعي.
فمن خلال تأكيد القرآن العبودية الصحيحة العقلانية، تأكيده عبودية الله تعالى وحده لا شريك له، وإنكاره أشدّ الإنكار أيَّ شكل من اشكال العبودية لغيره تعالى، مَهّد السبيل إلى تفتح العقول وتهيئة الأذهان إلى انتهاج الطرق السلمية لمعرفة أشياء هذا الكون.
ولا شك أنّ عبودية غير الله عزّ وجلّ تعني ضمن ما تعني الإيمان بالخرافات والأوهام والخزعبلات التي ما أنزل الله بها من سلطان. وهكذا عبدالناس قبل الإسلام الأصنام والأوثان والنجوم والشمس والقمر، وقد وردت آيات صريحة في إنكار عبادة هذه المخلوقات والتفكير بكونها حاكمة أو مؤثرة في الطبيعة وحياة الإنسان، وإنما الله وحده هو المؤثّر والمدبّر لهذا الكون، قال تعالى: >لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ<([41])، وقال تعالى أيضاً: >وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى<([42]).
لقد نبّه القرآن الكريم الإنسان إلى ما عقله من أوهام وخيالات منحرفة (أحياناً) تقف عائقاً في سبيل تقدمه وتطوّره مُبيِّناً أنَّ هذه الأُمور أكبر عقبة في سبيل انطلاقه إلى آفاق العلم والمعرفة والتقدم نحو الأحسن.
فكان القرآن حرباً شعواء على التقليد الأعمى، وثورة على كل من يقف ضد الدليل والحجة، وحرباً أيضاً على الذين يتمسكون بالرأي لا لأنهم عقلوه، ولكن لأنّ آباءهم قبلوه وآمنوا به، قال عزّ وجلّ: >وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ<([43])، وقال أيضاً: >وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ<([44]).
لقد طلب القرآن من أُولئك نبذ التعصب وموكداً في الوقت نفسه العقل والتعقل. وقد وردت كلمة العقل ومشتقاتها وما في معناها في عدد كبير من الآيات، منها قولـه تعالى: >كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ<([45])، وقال تعالى أيضاً: >إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ<([46]) وقال أيضاً: >كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لأوْلِي النُّهَى<([47])، وما في معنى هذه الآيات كثير كثير.
وفي الوقت نفسه دعا القرآن الناس إلى النظر في كل شيء عن طريق النظر الحسي، ابتداءً من مواقع اقدامنا إلى آفاق السماء والأنفس، وأعطى للحواشي مسؤوليتها الخطيرة من كل خطوة يخطوها الإنسان المؤمن.
فالقرآن الكريم في مجال البحث والنظر والتأمّل والمعرفة والتجربة يقول: >وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً<([48])، أي الإنسان.
كما حارب أُولئك الدجالين والمشعوذين والسحرة الذين يقدمون للناس معلومات غيبية لم ينـزل الله بها من سلطان، وحيث إنّ عمل المنجم الإخبار بأشياء مستقبلية من خلال تشكل ظاهرة فلكية معينة، كاقتراب بعض الكواكب من بعض، أو حدوث خسوف وكسوف، والادّعاء بمعرفة أُمور لم يعرفها أحد، كوقوع أمر عظيم أو حادث جلل أو موت سلطان أو رجل شهير وما شاكل ذلك، ولمّا كان كذلك استحق أن يدخل ضمن دائرة الدجالين والمشعوذين وأصحاب الخرافات.
إنّ الأُمور المستقبلية الغيبية لا يعرفها سوى الباري عزّ وجلّ أو ذلك الذي اختصه الله بعلم منه. والمشتغل بالتنجيم إنسان عاديّ لا يمكن أن يعرف شيئاً غير الأُصول العلمية التي تعلّمها واكتسبها من غيره عن طريق المراس والتجربة، ولا يمكن ـ بأيّ حال من الأحوال ـ أن يعرف ما يخبّؤه المستقبل لأحد، أو لشيء، فالنجوم والكواكب والشمس والقمر والأجرام الأُخر مخلوقات من مخلوقات الله الكثيرة مهما كانت أشكالها، وتنوعت أحوالها ومواقعها، وتشكلت خرائطها في السماء، ولا يمكن أن يكون تشكلها العفوي العادي دالاً على أمر ما عظيم أو غير عظيم سيحدث في المستقبل.
الحقيقة أنّ العلم بالأُمور الغيبية المستقبلية لله وحده، فهو وحده علاّم الغيوب، وقد زخر القرآن الكريم باختصاص الغيب بالله، يقول تعالى: >وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ<([49])، ويقول أيضاً: >قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ<([50])، ويقول عزّ وجلّ: >وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ<([51]).
حتى الرسول الأكرم 2 أقرّ بعدم علمه في هذا الباب إلاّ في حدود ما أطلعه الله عليه، قال تعالى: >قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ<([52]). فإن كان هذا حال الرسول الأكرم 2 وهو حبيب رب العالمين، فكيف بمنجم لا يعرف من دنياه غير بضعة أُصول، وبضع حيل فكرية! كيف يقدم لنا ما أراد الله أن يخفيه على أبناء آدم لمصلحة يعرفها الله تعالى ولا يعرفها غيره؟
لقد رفض القرآن الكريم كل ما رفضه العقل، ومجه السمع والبصر، كان حرباً لا هوادة فيها على كل شيء غير معقول وغير علمي وضار، كالخرافات والأوهام والتنجيم وما شاكل ذلك. وإذا كان حال القرآن هو التأكيد والحث على العلم وعلم الفلك خاصة، ورفض ونبذ كل ما يمتّ إلى الخرافات والأوهام بصلة، ومنها التنجيم، فذلك هو الجوّ المناسب لنمو علم فلك علمي متطور، وهكذا كان الفلك الإسلامي.
وهذا الصرح الشامخ من الإنجازات الفلكية الإسلامية الإبداعية، هو في الحقيقة واحد من عدد من الإنجازات العلمية المتنوعة، وقف وراءها القرآن الكريم وتعاليمه ومنهجه وروحه العلمية، وتنبيهه على التعامل الصحيح مع الطبيعة وأشيائها المتنوعة، التعامل العلمي لا الخرافي الوهمي.
فمن خلال تأكيد القرآن الكريم الأرض والسماء والأجرام السماوية الأُخر، وورود عدد من الآيات تتحدث عن النجوم والشمس والقمر، وعدد من الظواهر الكونية، وَتَمكُّن القرآن من نفوس المسلمين وعقولهم، امتلك الناس وعياً علمياً فلكياً، فراح كثير منهم يتابعون ما يجري في السماء ويدرسونه، وبرز عدد من الفلكيين وعلماء الفلك الكبار.
ومن خلال بعض المفردات الدينية القرآنية التي ارتبطت بمواد فلكية بحاجة إلى ضبطها وقراءتها علمياً؛ لأداء تلك المفردات أداءً صحيحاً شرعياً، اندفع المسلمون لدراسة هذا العلم المؤيّد من القرآن الكريم.
إنّ الفلك ـ لا التنجيم ـ هو الذي أفرزه القرآن الكريم؛ لأنّه ناتج من نواتج منهجه العلمي الصحيح، خلافاً للتنجيم الذي رفضهُ القرآن وحاربه ضمن حربه الشعواء على الخرافات والأوهام.
ومن خلال هذا المنهج القرآني نما علم الفلك وتطوّر، وعلى كل المستويات.
أولاً: على مستوى المراصد الإسلامية.
ثانياً: على مستوى الآلات الفلكية.
ثالثاً: على مستوى الإنجازات الفلكية الكبرى.
ولنتحدث باختصار عن هذه النقاط الثلاث..
انتشرت المراصد الإسلامية في طول العالم العربي الإسلامي وعرضه ووصلت إلى مرحلة مزدهرة شهد بها الباحثون المتخصصون، وقد بدأ إنشاؤها في أواخر عصر الخليفة المأمون العباسي المتوفى سنة (218هجرية).
ولعلَّ أشهر المراصد في الحضارة الإسلامية:
ـ مرصد الشماسية، أسسه المأمون في بغداد.
ـ مرصد جبل قاسيون، أسسه المأمون أيضاً على جبل قاسيون في الشام (دمشق).
ـ مرصد أبناء موسى، القائم على قنطرة بغداد المؤدية إلى باب الطاق.
ـ مرصد بني الأعلم، أُنشئ ببغداد سنة (250هجرية).
ـ المرصد الشرفي، المنسوب إلى شرف الدولة بن عضد الدولة البويهي، وقد بناه في حديقة قصره بدار المملكة ببغداد.
ـ أنشأ البتاني مرصداً في بلاد الشام (سورية حالياً).
ـ أنشأ ابن الشاطر الدمشقي مرصداً آخر في بلاد الشام.
ـ أنشأ الحاكم بأمر الله مرصداً في القاهرة، (بعض مؤرخي العلم يشكّون بوجود هذا المرصد).
ـ وفي بلاد فارس أُنشئ مرصد أبي حنيفة الدينوري بأصفهان.
ـ وفي سمرقند أنشأ الحاكم ألغ بك مرصداً مهماً.
ـ وفي استانبول أنشأ الفلكي تقي الدين الراصد مرصداً مهماً.
ـ أمّا أشهر المراصد الإسلامية على الإطلاق فهو مرصد مراغة الشهير، الذي ما زالت آثاره في مدينة تبريز الإيرانية. أنشأه العالم الفلكي والرياضي نصير الدين الطوسي المتوفى سنة (672هجرية) وساعده عدد كبير من علماء الفلك والرياضيات؛ ليصبح المرصد أشبه ما يكون بمجمع فلكي كبير، وقد جمع فيه الطوسي كتباً كثيرة وأدوات متنوعة وقاعات للدرس ومرافق أُخر. وقد قدم هذا المرصد إنجازات فلكية عديدة ومهمة، ولعلَّ في طليعة إنجازات المرصد هو تأليف جداول فلكية مهمة عُرفت بالزيج الإيلخاني، وقد كان معتمداً في أُوربا إلى عهد قريب. ولقراءة المزيد عن المراصد راجع كتاب كشف الظنون([53]).
الآلات الفلكية أو الأدوات الفلكية هي أدوات علمية استخدمها الفلكيون لدراسة المواد الفلكية المتنوعة، وهي متعددة متنوعة، وجزء أساسي من أجزاء المرصد الفلكي.
والآلات الفلكية قديمة، عرفت بعضها الحضارات القديمة، ولا سيما الحضارة اليونانية، ولعلّ أقدمها هي المزاول الشمسية والمائية والرملية، وقد عرفت الحضارة اليونانية الأسطرلاب وذات الحلق وأرباع الدائرة..، إلاّ أنّ علماء الفلك المسلمون ومن خلال منهجهم العلمي الذي وكّده القرآن الكريم، طوّروا الأدوات الفلكية القديمة، وزادوا عليها أنواعاً جديدة لم تكن من قبل.
ولعلّ أشهر الآلات الفلكية في الحضارة الإسلامية:
وفيه ثلاثة أنواع رئيسة: الأسطرلاب المُسطّح (القرصي)، والأسطرلاب الكروي، والأسطرلاب الخطّي، ووظيفتهُ قياس ارتفاع الشمس ومعرفة المطالع وسمت القبلة وعرض البلد، ووظائف كثيرة أُخر.
وقد اشتهر علماء الفلك بتطوير هذه الآلة، وصنعوا منها أفضل أنواع الأسطرلابات، وبرز متخصصون بصناعة هذه الآلة، عُرفوا (بالأسطرلابيين)، ولعلَّ أشهرهم البديع الأسطرلابي المتوفى سنة (534هجرية)، ذكره القفطي بقوله: bكان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية، وقد اطّلع على أسرارهاv([54]).
وهي آلة فلكية طوّرها الفلكيون المسلمون، وتتألف أساساً من حَلَق متداخلة ترصد بها الكواكب. ويصف حاجي خليفة هذه الآلة بقولـه: bوهي أعظم الآلات هيئة ومدلولاًv([55])، ووظيفتها هي وظيفة الأسطرلاب.
وهي نصف حلقة قطرها سطح من سطوح إسطوانة متوازية السطوح، يُعرف بهذه الآلة السمت وارتفاعه.
وتتكون من ثلاث مساطر على كرسي خاص يُعلم بها الارتفاع.
ويتكون من ربع دائرة، ويسمى أيضاً الربع المقطوع، وهو في الأصل جزء من الأسطرلاب يُنقش على ظهره، وله وظائف فلكية عديدة.
وهي جسم مربع مستو، يُعلم به الميل الكلي وأبعاد الكواكب وعرض البلد.
وهي حلقة تنصب في سطح دائرة المعدل؛ ليُعلم بها التحويل الاعتدالي. وهناك آلات فلكية عديدة، منها: الكرات السماوية، والسدس الفخري وأُخر غيرها([56]).
لا شك أنّ المنهج العلمي الصحيح الذي استوحاه العلماء المسلمون من القرآن الكريم لعب دوراً في تطور علوم المسلمين المتنوعة، ومنها علم الفلك الإسلامي. فمن خلال هذا المنهج حقق علماء الفلك المسلمين إنجازات يصعب تصديقها، فهي وإن بدت في الوقت الحاضر إنجازات عادية لا قيمة لها تجاه الإنجازات الفلكية الحاضرة، لكنها ـ وبتلك الإمكانات اليدوية المحدودة في ذلك الزمان ـ كانت عالمية كبيرة، والدليل على عالميتها وأهميتها مبادرة الغرب إلى جعلها أساساً لبناء فلكه الحديث، وهنا نستعرض ملامح ونماذج للإنجازات الفلكية الإسلامية.
فمن وعيهم بالعلم، وعلم الفلك بالذات، عدم تسليمهم بالماضي الفلكي المقدّس.
فكان الشك والنقد والهجوم شديداً وقاسياً على الأفكار الفلكية التي لم تتفق مع الأرصاد والذوق العلمي والفلسفي، مما كان بذرة قاتلة أقضّت مضجع نظرية مركزية الأرض البطليمية (العريقة)، ومقدمات ضرورية لسقوط (الأرض) وحلول الشمس محلها في مركز العالم (الكون).
أما المفردات الفلكية الكثيرة التي أنجزتها الحضارة الإسلامية، فيمكن أن نذكر منها:
ـ الاقتناع التام بكروية الأرض مع البراهين اللازمة لذلك.
ـ قياس محيط الكرة الأرضية قياساً علمياً مهماً.
ـ الإشارة أو التلميح إلى دوران الكرة الأرضية حول محورها.
ـ الإشارة أو التلميح إلى الجاذبية الأرضية.
ـ التعيين الدقيق لحركة أوج الشمس وشذوذ سيرها.
ـ ملاحظة النقصان التدريجي لميل سمت الشمس.
ـ معرفة أنّ نور القمر مستمد من الشمس.
ـ قياس الأجرام السماوية المختلفة بالأرقام، أحجامها، أبعادها، بطرق هندسية رياضية.
ـ تسجيل السوبر نوفا (النجم المنفجر) الذي حدث سنة 1006 ميلادي الموافق 396 هجري في كوكبة الذئب.
ـ معرفة أنّ مجرّة درب التبانة نجوم متكاثفة.
ـ تحديد موقع مجرة المرأة المُسلسلة، (كما ذكر الصوفي).
تسجيل عدد كبير من الظواهر الكونية، كالمذنبات والشهب والأحجار النيزكية.
إنّ العلوم الكثيرة التي ظهرت في الحضارة الإسلامية، والتي كانت أحد أهم أركانها (أي الحضارة الإسلامية)، وإن كانت قد نشأت من أسباب مباشرة كالترجمة ونمو الميراث العلمي القديم وجهود المسلمين، إلاّ أنّ السبب الأكبر وراء كل ذلك كان القرآن الكريم، فلولاه لما كان هذا الطود الشامخ من العلوم في بحر مدة قياسية قليلة.
فلولا القرآن لما كانت العلوم بالصورة التي ورثنا من عصر الحضارة الإسلامية، ولما تطوّر الفلك بالشكل الذي عرفته الحضارة الإسلامية.
* * *
______________________________
باحث في علم الفلك، من العراق.
([2]) التراث الفلكي عند العرب والمسلمين، عبدالأمير المؤمن، ص60.
([9]) تفسير الفخر الرازي، الرازي، مج 6، ج31، ص72.
([13]) الأنواء في مواسم العرب، ابن قتيبة، ص136.
([37]) تفسير الفخر الرازي، الرازي، مج2، ج4، ص199.
([38]) الزيج الصابي، أبو عبدالله البتاني، ص6 ـ 7.
([54]) إخبار العلماء بأخبار الحكماء، القفطي، ص222.
([56]) للمزيد عن الآلات الفلكية راجع كتاب كشف الظنون، ج1، ص146 ـ 147.