منارةٌ أحسائيّة عالميّة ثالثة في مجال الكتب والمؤلِّفين
ـ القسم الثاني ـ
د. محمد بن جواد الخرس(*)
المطلب الثاني: حفاوة الشيخ بالمؤلِّفين
لقد عاش الشيخ الفضلي الكتابة فعشقها، وأحبَّ كل مَنْ يأخذها طريقاً في بناء الإنسان ومعارفه، حتّى صار قِبلَةً لمَنْ أراد الاسترشاد والاستئناس بوجهات نظره، ليس من أجل التصويب والتصحيح فقط، بل ومن أجل التوسُّع والإفاضة في الموضوعات التي سيكتب فيها، إذا كانت في مجال الدراسات القرآنية، والقراءات، والحديث وعلم الرجال، والفقه، والأصول، واللغة: نحواً، وصرفاً، وبلاغةً، وأدباً، والمنطق، والفلسفة، وعلم الكلام، والتاريخ الإسلامي، وكلّ علم من العلوم الإسلامية؛ لأنه سيجد فيه عالماً لا ساحل له، وسيدرك عن قرب مصداقية مقولة السيد محمد باقر الصدر& فيه حين خرج الشيخ الفضلي من الحوزة، وتوجَّه إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدّة عام 1971م، حيث قال له: «إنّ ممّا يحزّ في نفسي أن تكون أوضاع الحوزة بشكلٍ يزهد في الإقامة فيها أمثالكم، ممَّنْ يرفع الرأس عالياً، ويشكِّل رقماً من الأرقام الحيَّة على عظمة هذه الحوزة، التي تتيح ـ رغم كلّ تبعثرها ـ أن ينمو الطالب في داخلها بجهده الخاصّ، إلى أن يصل إلى هذا المستوى المرموق فضلاً وأدباً وثقافة. وعلى أيّ حال، سواءٌ ابتعدت عن الحوزة مكاناً أو قربت، فأنت من آمال الحوزة ومفاخرها، وأرجو أن لا يكون انقطاعك عنها إلاّ شيئاً عرضياً».
لهذه الملكات لم يتردَّد العديد من طلاب العلم والأكاديميين في أن يعرضوا تجاربهم الكتابية عليه.
المطلب الثالث: قناعة الشيخ بأهمّية التأليف كرسالةٍ للمبلِّغين والدعاة
إن الفضلي؛ لشدّة اهتمامه وقناعته بأهمّية التأليف والكتابة، يرى عندما يكون في مقام تقييم تجارب العلماء وطلاب العلم أنّ مَنْ لا يكتب، أو يغادر هذه الدنيا دون أن يترك مؤلَّفاً ينتفع به الناس، فقد انثلم جانبٌ كبير من وعاء رسالته كداعيةٍ ومبلِّغ لشرع الله بين العالمين.
فهو يرى بأن العالِم إذا كتب يكون قد ترك بصمته الفكرية على طول خطّ الزمان الذي عاشه، والذي لم يعِشْه أيضاً: الماضي، والحاضر، والمستقبل. فبصمته على مَنْ سبقه تنكشف من خلال مناقشاته لآراء الماضين، أو عند اقتباسه لنصوصهم وقبوله لها، أو تقويمها؛ وبصمته في حاضره تتمثَّل في تناولاته الفكرية وإفاضاته الإبداعية، واستشرافاته المستقبلية؛ وبصمته في مستقبله تتمثَّل في كون أفكاره ستحتويها دفّات الكتب؛ لتسجل صوتاً سيظلّ يدوّي عبر الأجيال في مسامع الزمن، بل وسيجني ثمار جهده أكثر وأكثر إذا جاء من بعده مَنْ يكمل لوحته الفكرية؛ لتتذوَّق جمالها الأجيال، ويكون قد ساهم هذا الأخير في إحدى خطوطها وألوانها.
ومن مؤشِّرات قناعته تلك ما وجدته لمّا أتيته عند كتابتي لكتاب (ملامح الحياة الفكرية والأدبية في الأحساء)، ونويت خلالها التوسُّع في كتابة سيرة بعض الشخصيات العلمية الأحسائية لمختلف الطَّيْف المذهبي فيها، من إماميةٍ، وأحناف، وشافعية، ومالكية، وحنبلية. ونظراً لكمِّها الكبير ذكرتُ له أنّي استرشدت برأي الشيخ عبد الرحمن الملاّ، مؤلِّف كتاب تاريخ هجر، في خصوص مَنْ أكتب عنه من علماء أحسائيين من غير علماء الإمامية الأحسائيين، وقد فاجأني الشيخ عبد الرحمن حينها بأنْ أكتب فقط عمَّنْ كتب؛ لأنه وإنْ فقدت أشخاصهم لدى جيل الحاضر والمستقبل فهو باقٍ بينهم بعلمه وفضله الذي كتبه، ولا يزال يستفيد الناس من إنتاجه. عندها أردف الشيخ الفضلي بقوله: نعم، وهو الرأي الصواب. وزاد عليها ما ذكرته من مرئيّاته حول ضرورة التأليف، وكيف حال العالم إذا كتب يكون عاش بخطّ زمني طويل، يمتد أوّله في الماضين، وينتهي في القادمين.
ولأجل هذا العشق الذي عاشه للبحّاثة والمؤلِّفين تجده يمنح الأوراق التي تدخل مكتبه العناية الفائقة للمراجعة، سواءٌ كانت بغرض الاطّلاع أو التصويب، أوالتصحيح إنْ استلزم الأمر، حتّى ليحسب المؤلِّف أن الشيخ الفضلي ليس له من عمل غير تصحيح الكتب ومراجعتها، وتصويبها إنْ استلزم الأمر؛ لفرط سرعته واهتمامه بما يقدَّم إليه. وكلمة: (إنْ استلزم الأمر) أكرِّرها، وأعني بها من خلال هذا التكرار الشيء الكثير والهامّ الذي يميِّز الشيخ عند مراجعته لكتابات الآخرين، حيث تجد فيه الأدب الجمّ، والذوق الرفيع، بحيث لا يقتحم عالَم الكاتب وأفكاره إلاّ بوجه حقٍّ.
وهذا ما لاحظه الدكتور أحمد فتح الله التاروتي، مؤلِّف كتاب (معجم ألفاظ الفقه الجعفري). وهو ممَّنْ عركته الأيام والبحوث باللغتين العربية والإنجليزية. وقد كان؛ لاحتياطه العلمي في ما كتبه في كتابه المذكور، أراد أن يستأنس برأي مختصٍّ في مجال الفقه، فقد ذكر لي شطراً من تجربته عند تأليف هذا المعجم النافع لطلاب المعرفة في مجال الفقه، وخلاصتها: إنه لما أنهى دراسته في أمريكا، ومن أرقاها مستوى في مجال البحث العلمي، حيث لا يُتاح لطالب الدكتوراه أن يسجِّل عنوان أطروحته ليتمّ تحديد مشرف عليها إلاّ بعد أن ينشر بحثين محكمين في مجلة علميّة معتَرَف بها. وفعلاً قد اجتاز كلّ تلك الصعاب. وقد كان مجال دراسته في اللغات، وبالتحديد في مجال اللغة العربية، ومن جامعةٍ أمريكية، وذلك بعدما أنهى درجة البكالوريوس من جامعة الرياض، والمسمّاة حالياً جامعة الملك سعود.
وفي ظلّ هذه المعطيات عن شخصية الدكتور أحمد ندرك أنه قامة علمية كبيرة، ليس بحاجةٍ إلى مراجعة كتابه معجم ألفاظ الفقه الجعفري إلاّ احتياطاً منه، ونزاهةً واحتراماً للاختصاص الفقهي. وهو شعور وممارسة ليست بالغريبة على فاضل ومختصّ مثله، ولو أنه لم يدوِّن كتابه المعجم المذكور لن يمسّ ذلك من رسالته كأستاذٍ جامعي، شهدَتْ له مجلات البحوث اللغوية المحكمة، والجامعات التي تخرج فيها بمَلَكاته العلمية، وببحوثه العلمية المتقدِّمة.
يقول: عنَّ لي أن أكتب معجماً لألفاظ الفقه الجعفري، فاعتزلت في شقة في الأحساء لمدّة سنتين، حيث جامعتي التي أدرس فيها آنذاك، جامعة الملك فيصل بالأحساء، وعائتلي تسكن في مدينة تاروت في محافظة القطيف، وكتابتي لمعجم فقهي لم يكن من واقع الاختصاص كفقيهٍ، وإنما من واقعي كلغويّ أمتلك مهارة إعداد المعاجم في أيّ مجالٍ من المجالات، فاختَرْتُ ألفاظ الفقه الجعفري؛ رغبة منّي في خدمة العلم الشرعي. ولما فرغت من المعجم قدَّمته إلى الشيخ الفضلي، فما كان منه إلاّ ـ وفي وقتٍ وجيز جدّاً ـ قد أرجع الكتاب، و به بعض الملاحظات العلميّة والفنية، وقد ذيَّلها بملاحظاتٍ بالقلم الرصاص، مفادها أنّ لي القرار بالأخذ بتلك الملاحظات أو عدمها. وزادني دهشةً منه أن أجده ذات يوم بعد وفاة والدتي يقف على باب البيت معزِّياً، ومعتذراً عن تأخُّره في تقديم واجب العزاء له في حينه؛ لعلمه بوفاة والدتي متأخِّراً، على الرغم بأنّه لم تجمعني به صحبةٌ طويلة. ولما أبديت حَرَجي من تجشُّمه عناء الوصول إلى البيت بعد انتهاء أيّام العزاء، حيث فيه مشقّة على الشيخ وهو في ذاك العمر، أجابني بأنه لم يقُمْ بغير الواجب.
لعلّ هذه الحادثة تكشف عن عمق احترامه وتقديره للعلماء الكتّاب، وحفاوته بما يكتبون.
هذا شأنه مع النخبة العلمية التي التقت معه في محور التأليف. وتراه بنفس هذه الروح الطيبة ينفتح على الذين يبدؤون تجاربهم الكتابية، بل ويبارك لهم أعمالهم إذا طبعت، كما لو كان يبارك لأحدهم بولادة ولدٍ له. وقد عايشت إحدى تلك التجارب مع أحد المؤلِّفين، ولم يكتفِ بأن يستقبل مَنْ يفد إليه بعنوان الدَّعم في مجال التأليف والكتابة، بل تراه يبحث عنهم وعن إنجازتهم ويُبْرزها للعالم، ولا أدلّ على ذلك كتابه الذي جمع فيه عناوين مؤلَّفات الأحسائيين، بشتّى اختصاصاتهم، الدينية وغير الدينية.
وكم كان تفاعله بالغاً لما طلب منه (مهرجان الغدير) في مدينة الهفوف بمحافظة الأحساء في عام 1412هـ ـ وكان تحت رعاية السيد محمد علي الهاشم العلي، وإدارة الشيخ عادل بن علي الأمير ـ أن يكرِّر تجربة مسابقة البحوث التي أشرف عليها في لندن. وقد جاءته هناك بحوثٌ بالعديد من اللغات، ومن عدّة جنسيات: العربية، والإنجليزية، وغيرها من اللغات. وكما بلغني منه أن أحد اليابانيّين في لندن تقدم ببحث عن الإمام عليّ×.
أما التجربة الأحسائية في مسابقة مهرجان الغدير المذكورة فقد بارك الدعوة وواصل المشوار، تحديداً للعناوين، ومراجعة للبحوث، وتصحيحاً لأخطائها، وتقييماً لها؛ تمهيداً لتحديد مراكز المتسابقين، وتسليماً لجوائزها. وقد أسهم في تحكيم البحوث معه الشيخ الدكتور محمود المظفَّر، حيث كان يقوم بالتدريس آنذاك في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، بقسم النظم بكلّية الاقتصاد والإدارة. وكرِّرت التجربة مع إضافة مسابقة الترجمة فيها، وكان هذا في عام 1413هـ، وقد صدرت العديد من الدراسات، وتمّ طبعها.
المطلب الرابع: عنايته بتقريضٍ للمؤلَّفات
وأما تقريض المؤلَّفات فله شأنٌ آخر، حيث ينفق من وقته الثمين للتقريض والتزكية؛ احتراماً وتقديراً للجهد المبذول فيها، ولعلمه بما سيتركه في أعماق الكاتب حين يزفّه إلى العالم كاتباً واعداً، أو ربما كاتباً جديراً، لكنه بحاجةٍ إلى كسر حاجزٍ وهميّ في نفسه فقط، وبالتالي كتابة تقريض له يعمل في نفسه الشيء الكثير، وكأنَّما يزف شابّاً إلى عروسه.
ومن الملاحظ أن الشيخ الفضلي كان يكتب تلك التقاريض بعد قراءة كامل الكتاب، وتصحيح ما به من أخطاء إنْ وُجدت، سواء كانت نحوية أو إملائية أو تاريخية أو شرعية. بعدها يكتب تقريضه. وهذا ما وجدتُه من خلال مطالعتي لما قام به من تقريضٍ لبعض الكتب التي قرََّضها. كلّ هذا وهو في حالةٍ من أصعب أيام حياته ضيقاً وحرجاً؛ حيث إنه يشعر بأن صحّته في تدهور مستمرّ، وأنّ أيام سنين حياته في عدد، ولم يغادر جامعة الملك عبد العزيز بتقاعدٍ مبكر، إلاّ من أجل أن يتفرَّغ في ما بقي من عمره الشريف لإنجاز مشاريعه التأليفية، وبالخصوص في مجال كتابة المقرَّرات الدراسيّة، وتطوير موادّها وفق مناهج البحث العلمي الحديث. وإذا بالكتَّاب يأملون منه أن يكتب لهم تقاريض لكتبهم. ومع ذلك تراه قد آثر الجميع بوقته الثمين الذي كان ضنيناً به إلاّ عن المؤلِّفين والباحثين. ولكنْ يحسب له من إنجازاته في مجال التأليف ودعم المؤلِّفين أنه قرض 130 كتاباً، و95% من تلك التقاريض قدَّمها للمؤلِّفين بعد تقاعده من جامعة الملك عبد العزيز بجدّة. وعليه يمكن الخروج بنتيجةٍ مفادها أنه بدوره هذا قد أسهم بشكلٍ جوهريّ في دفع حركة التأليف في المنطقة.
ومع هذا وذاك، وفي غمرة هذه الظروف بين اعتلال الصحّة وطلب المؤلِّفين أن يراجع لهم كتاباتهم، تجده لم يتخلَّ عن القلم والدفاتر والمراجع، حتّى في نقاهته بعد وعكته الأولى، والتي طلب منه الأطباء فيها أن يستريح من عناء جدوله اليومي الشاقّ، وإذا به يكتب ثلاثة كتب ما بين عام (1427هـ ـ 2006م) وعام (1429هـ ـ 2008م)، وهي: خلاصة الحكمة الإلهية؛ والموجز في علم التجويد؛ ومن مصادر الفكر الإمامي في العقيدة والتشريع. بعدها أُصيب بمرضه الأخير الذي لازمه حتّى آخر أيام حياته، فصحّ أن يُقال عنه: إن الفضلي كتب ثلاثة كتب بين وعكتين.
المبحث الثالث: مدى إمكانيّة استنساخ تجربة الفضلي في البحث والتأليف
ما أحوجنا إلى استنساخ امتياز تجربته في عالم التأليف والكتابة، بغضّ النظر عمّا سطَّره في بعضٍ منها من وجهات نظر، قد تجعله في مقام النظر والتأمُّل من قبل البعض، والقبول والتأييد من البعض الآخر.
فتجربته مع القلم والكتابة يميِّزها أنها ستظلّ خالدة ما بقي الدهر. وهي سنّة الله في خلقه، وهذا هو ديدن العلم المكتوب، قد تكون أعيان المؤلِّفين فيه مفقودة، لكنّ آثارهم بين أيدي طلاب المعرفة موجودة. فقد انتقل إلى رحمة الله، وفارقنا ولم نرتوِ بعدُ من منهل تجربته، ولكنْ ممّا يُحْسَب له أنّه دوَّن شطراً من علمه على صفحات الكتب، لتظلّ رسالته خالدة ما خلدت الأيام والسنون، واستفادت منها الإنسانية حيثما وصلت إليها.
وعندما أطلّ على القراء بمسألة استنساخ امتياز تجربة الفضلي في الكتابة والتأليف، ربما أقولها من باب ما ينبغي أن يكون في حياته، وليس بعد رحيله؛ لأن استنساخ امتياز التجربة لأيّ مبدعٍ هي في واقع الأمر علم قائم تتكفَّل به بعض التقنيات في مجال التنمية البشرية، ولو تمكَّنا من ضبطها وتقييدها آنذاك لكان لها الشأن الكبير في تسرية نجاحه إلى متطلِّع للنجاح في مجال الكتابة. وفعلاً أشعر بالخسارة أنّي لم أقِفْ عليها بشكلٍ تفصيلي، لكنْ تلمَّسْتُ بعضها من خلال حديثه في جلسات متفرِّقة، وهي جديرةٌ بالذكر على الرغم من تفرُّقها، لذا سأذكر بعض ما لديَّ منها، وهي:
1ـ الاطلاع المكثَّف على الموضوع المراد الكتابة فيه بشكلٍ مسبق، حتى إذا ما جاء دور الكتابة يكون لدى الباحث رؤية واضحة. ولا يمنع من تدوين المقتطفات والملاحظات على ما يقرأ. وفي حالة عدم الأخذ بهذه الخطوة سيجد الباحث أنه في مراحل متقدِّمة من البحث قد يتعرَّض للترقيع، ولا سيَّما إذا ما واصل مطالعاته في المراجع والمصادر؛ حيث من المحتمل أن تبدو له فكرة إضافة استشهاد هامّ أو فصل أو مبحث أو مطلب دون الإعداد والتهيئة له في الخطة البحثية، وإذا ما أراد أن يقحم تلك الإضافة الهامّة في نظره، والتي تولَّدت بفعل المطالعة، سيجد أنّ من الصعوبة بمكان إدخالها، وإنْ حاول سيكون بعد جهدٍ جهيد، وإنْ لم تنفع المحاولة حتماً سيصاب بحثه بالترقيع كما ذكرتُ، وسيكتشفها مَنْ له خبرةٌ بالبحوث والدراسات، بل وحتى القارئ النبيه.
2ـ إذا ما تم كتابة النصّ على الكاتب أن يترك ما كتبه، وينشغل بأيِّ أمر آخر، سواء بقراءة موضوع ما أو إنجاز عملٍ مكتبي آخر، أو ربما السعي لشأن عائلي، ثمّ يعود للنصّ مرّة أخرى، عندها سيكتشف ثغراته البحثية، وربما أخطاءه الاستدلالية، أو أخطاءه اللغوية والإملائية. وإنْ سلم البحث من كلّ هذه المشاكل والعيوب ربما سيجد بصيصاً من النور في آفاق بحثه يلزمه متابعته، عندها سيجد مجالاً للتطوير والإضافة.
3ـ تنظيم الوقت، وما أدراك ما تنظيم الوقت في حياة الشيخ الفضلي! هي مسألة جادّة غير قابلة للمزاحمة، إلاّ ما استقطعه أو خصّصه في برنامجه اليومي، وقد دوّنت تجربته تلك بشكلٍ تفصيلي في كتابي (الناجحون: تجارب وعادات). وقلت فيها: «لقد أتاحَتْ لي العلاقة مع الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي مجالاً للاطلاع على برنامجه اليومي بعد أن تقاعد من جامعة الملك عبد العزيز بجدّة. وكان برنامجه مثالاً للاحتذاء، فقد أثمر عن شخصية ناجحة، بل تحوَّل بفضل الالتزام بتنظيم الوقت إلى مدرسةٍ للنجاح في عدّة ميادين علمية وميدانية. فهو الآن أحد أعلام العربية على الصعيد العالمي، وعالم ديني بارز، ومفكِّر، وكاتب، وأديب بارع. عاش الدراسة الدينية في أرقى منازلها العلمية، ومارس الحياة الأكاديمية، وكان في الطليعة المميزة بين أعضاء هيئة التدريس فيها. برنامجه اليومي يبدأ والعالَم من حوله يغطّ في سباتٍ عميق، عدا أمثاله من الناجحين. فهو يستقيظ باكراً، قبل الفجر بساعةٍ أو ساعتين، ويشرع في برنامج عبادي وبحثي حتّى تشرق الشمس، بعدها يتناول الإفطار، ثمّ يطلع على الصحافة المحلية، بعدها يواصل مشوار بحثه حتّى الظهيرة، وبعد صلاة الظهر والعصر، وأخذ قسط من الراحة وتناول الغداء، يفرغ لأبنائه وأحفاده وأسباطه عصراً وحتّى الغروب، وبعد صلاة المغرب والعشاء يستقبل زواره بشكلٍ منتظم حتّى الساعة التاسعة ليلاً، ثمّ يخلد للنوم؛ استعداداً ليوم آخر حافل بالنجاح والإنجاز. وبفضل هذا البرنامج ألَّف من الكتب والمراجع العلمية ما يربو على ستّين كتاباً. ولعل برنامجه يشتمل على نظامٍ يشترك فيه العديد من الناجحين، وذلك القاسم المشترك هو إيداع أكبر إنجازاته في وعاء يومه قبل كلّ شيء، ثم يتفرَّغ للأمور الاعتيادية المطلوبة منه كأبٍ مع أبنائه، أو كعالِمٍ بين روّاده من الباحثين والمثقَّفين.
الملفت في تجربة الشيخ الدكتور أنه استطاع أن يطبع أفراد عائلته ببرنامجه، واستوعبوها جيداً. فرسالته في الحياة معلَنة لدى الجميع، بل والكلّ يعلمها ويقدِّرها، ولذا يسعون بتهيئة الظروف لإنجاحها. وقد حدث أن عِشْتُ واحدةً من المواقف الكاشفة عن هذا الأمر.
ففي إحدى الليالي التي كنا نتردَّد عليه في منزله المسمّى بـ «دارة الغريين» بحيّ المباركية في مدينة الدمام عام 1427هـ ـ 2006م، وكان ـ كعادته ـ عالماً رائعاً في عرض معلوماته مهما تنوَّعت من حيث المشرب الفكري، طال بنشأتها الزمان أو قصر، حيث له من الذاكرة القوية، والرصد الدقيق للأحداث: قديمها؛ وحديثها، ما يلفت الانتباه ويثير الإعجاب. وقد ازدحم المجلس بالحضور في تلك الليلة، وزادت المشاركات والمداخلات من الضيوف، ما أدّى بالجلسة أن تزحف على موعد ختام برنامج الاستقبال اليومي المقرَّر سلفاً، فما كان من ابنه الأستاذ فؤاد إلاّ أن اعتذر بطريقةٍ لَبِقة كعادته، موضِّحاً أن برنامج الشيخ قد انتهى، ولا بُدَّ أن يستعدَّ للنوم»([1]).
هذا بعض ما وقفت عليه منه&. وربما تكشف الأيام عن باحثٍ استطاع أن يرصد بشكلٍ تفصيليّ عن الخطوات التي يعتمدها الشيخ كتقنيةٍ دأب عليها، فتقنَّن ويستفاد منها. وهذا أمرٌ موكول إلى الأخصّائيين في مجال الهندسة النفسيّة بشكلٍ حصري.
المبحث الرابع: القواسم المشتركة التي جمعت ابن أبي جمهور وابن زين الدين والفضلي
بعد أن تجوَّلنا في حياة هؤلاء الأعلام الأحسائيين الثلاثة لعلَّ من الجدير بنا أن نستخلص الدروس من حياتهم، وسيرتهم العملية، لنرى كيف أصبحوا أرقاماً عالمية، تخدم الإسلام، وتنشر راية المعرفة. كما أنها مثَّلت الأحساء عالمياً، في حراكه نحو العلم والمعرفة. وهذا أمرٌ منسجمٌ مع واقعها المعرفي والثقافي، فهي رحمٌ علمي كبير، كما يشهد بذلك مراقبو الساحة العلمية، أكَّدت على طول تاريخها القديم والمعاصر أنَّ أرضها لم تخلُ من المدارس العلمية. فقد أحصيتُ في كتابي (فقهاء الأحساء)، الصادر بتاريخ 1415هـ، مَنْ شهدت لهم العلماء بفقاهتهم بالمعنى الاصطلاحي، الذي يعني القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلة، فكانوا 41 فقيهاً أحسائياً من المذهب الإمامي. وهو مرحلةٌ مبكّرة في الإحصاء؛ إذ من المتوقَّع أن يرتفع العديد في تاريخنا المعاصر إلى 50 فقيهاً؛ وذلك بلحاظ كثرة الفضلاء الذين بلغوا درجة الفقاهة من الجيل المعاصر، ولا سيَّما منهم مَنْ تفرَّغ للدراسة الدينية في معاقلها العلميّة في كلٍّ من العراق وإيران في العقود الخمسة الماضية، وقد وقفتُ على الإجازات الفقهية للعديد منهم.
وإنّ ممّا يعزِّز بديهية هذه النتيجة هو أن الأحساء تحظى بطيفٍ مذهبيّ يندر وجوده على مستوى العالم في مساحةٍ جغرافية لا تزيد مساحتها عن 530000 كم2، تشكل الصحراء منها 40% من مساحتها، وفي الوقت ذاته تحتضن أكبر واحة على مستوى العالم وفق أدقّ المقاييس الدولية في تعريف الواحات، أغلبها أشجاره النخيل. وكما احتضنت النخل بثماره اليانعة احتضنت بيوت العلماء، وما يتّصل بهم من مراكز ذات صلةٍ في بعد إشعاعهم الروحي، من مساجد، وحسينيات، ورابطات علمية، ومدارس، وحوزات، ومكتبات. لذا تجد فيها العالم الإمامي، والحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي([2])، ليس على مستوى الأفراد، بل عوائل علمية في المجال الشرعي، لازمت الدرب طويلاً تتعهَّده بفلذات أكبادها؛ لتؤكد على طيب القرائح وحبّ العلم والمعرفة. بل وهناك حراكٌ علميّ نحو ولادة أُسَر علمية جديدة في مجال العلوم الشرعية؛ فقد برز في الجيل الجديد من بعض العوائل مَنْ أنجبت شخصيات علمية قدَّمت خدماتها الدينية في مجال الإرشاد الديني والتدريس، وبعضٌ منها بلغ درجة الفقاهة، وأصبحت شخصيات علمية هامة في تاريخ العلم الشرعي في الأحساء. ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى بحثٍ بتأنٍّ ورويّة، حتّى يتم استيفاؤه من الناحية البحثية كمصاديق، وليس عناوين فقط. ومَنْ أراد التوسُّع في معرفة علماء الأحساء على شتّى مذاهبهم، وشخصياته السابقة والمعاصرة، يمكنه الرجوع إلى عدّة مصادر مطبوعة أو على شبكة الإنترنت([3]).
وممّا لا شَكَّ فيه أنّ لهم حضوراً في التوعية الشفهية والكتابية، لكنْ يغلب عليهم التبليغ الشفهي بشكلٍ أكثر من التحريري. وهي سمةٌ لازَمَتْ الكثير منهم، وحتّى مَنْ كتب لم يعتنِ بطباعة ما يكتب([4])، وإنْ طبع فإنّ أغلب كتبهم تجدها في دائرتهم الخاصّة، ربما لا تفارق الدول المطلّة على الخليج العربي. هذا حال المؤلِّفين ممَنْ سبقوهم وأقرانهم، بدءاً من قرون ما قبل عهد الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي (المتوفّى ما بعد عام 906هـ ـ 1501م)، حتّى أوائل القرن الخامس عشر الهجري. وبعد هذا التاريخ بدأت تطلّ علينا كتابات بأقلام أحسائية جديرة بالذكر، وهي تعكس حالة من الوعي نحو التأليف والنشر معاً، و عبر دور متخصِّصة، ولكنّ هؤلاء الأعلام الثلاثة كان لهم ما يميِّزهم في تجربتهم العلمية، ولعلَّ أبرزها ما يلي:
1ـ الموسوعية المعرفية. وهي لازمتهم جميعاً؛ حيث لهم في أغلب مجالات المعرفة الاسلامية حضورٌ معرفي، وكتبوا فيها إمّا كتباً خاصّة بكلّ علم، أو تعرَّضوا لمطالبها بشكلٍ عرضي في بعض كتاباتهم، ما يعكس تضلعهم في تلك المعارف. بل قد يزيد عليهم الشيخ الأوحد باسترساله في بعض العلوم، كالرياضيات، والكيمياء والطبّ، والفلك، والهندسة، والعديد من العلوم التطبيقية.
2ـ التجديد والإبداع في ما يكتبون. وقد لا يكون التجديد في أصل الفكرة فقط، بل يمكن أن يكون التجديد في طريقة العرض أيضاً، بما يناسب أبناء الجيل الذين عاصروهم؛ استجابةً لمتطلّبات الساحة التي يعيشها، كالشيخ الفضلي في أسلوب عرضه للعديد من العلوم في العربية، والمنطق، وعلم الكلام، والفقه، والأصول، بل أغلب كتبه تتَّسم بطابع التجديد في أسلوب العرض، ما جعل طلاب العلم في بدايات تعلُّمهم يهفون إليها؛ لكي يعرفوا المراد من ألفاظها دون أيّ احتمالٍ آخر في فهم النصّ، وهذا ما كان يهدف إليه.
3ـ العناية بنشر ما يكتبون عبر القنوات العالمية. وقد سهَّل هذا الشأن اطّلاع أبناء الجيل الذي عاصرهم على ما يكتبون. ولكثرة رواجها وانتشارها تعاقَبَتْ أجيال على قبول تلك المواد والحفاوة بها، حتّى لقد بلغ من أحدهم، وهو الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، أنّه كان يعتني بالحِبْر الذي تستنسخ به كتبه، من حيث جودتها، حيث له خبرة في المركّبات الكيميائية، ووظَّف تلك في أحبار كتبه. أما الشيخ محمد بن أبي جمهور فكان مدوِّناً لكلّ ما يراه نافعاً من حراكه، ومن ذلك: مدوناته لمناظراته مع الفاضل الهروي في مشهد بإيران، واستنسخت من بعده وتمّ انتشارها.
4ـ اعتماد الجهات المختصّة لنتاجاتهم الفكرية، حيث لم تبقَ تلك الإبداعات رهينة الإقبال الفردي من قبل القرّاء، بل اعتمدتها النخبة العلمية، وكذلك الرسمية، إما كتباً درسية يتتلمذ عليه الطلاّب، أو مرجعاً يرجع إليه العلماء في أبحاثهم، كما هو الحال في كتاب عوالي اللآلي، للشيخ ابن أبي جمهور، حيث تحوَّل إلى مرجع في علم الحديث للعديد من مراجع التقليد في مباحثهم الفقهية واستدلالاتهم، بل تحوَّلت بعض الروايات التي نقلها في كتابه إلى قواعد فقهية من بعده، كقاعدة الناس مسلَّطون على أموالهم، وغيرها من القواعد التي مرَّ الحديث عنها في هذه المقالة عند الحديث عن الشيخ. وكذلك الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي تحوَّلت بعض كتبه إلى مراجع هامّة في باب الحكمة الإلهية، واعتمدها العديد من الأساتذة في إيران، والعراق، ودول الساحل الشرقي من الجزيرة العربية، بل وقد تسرّت العديد من المفاهيم التي كانت مستنكرة في زمان الشيخ إلى عبارات المتكلِّمين، وفي كتاباتهم، من دون الإشارة إلى مصدريّتها من الشيخ أحمد، كما صرح لي أحد الفضلاء بهذا الشأن. أما الفضلي فقد تحوَّلت بعض كتبه إلى مراجع في الحوزات العلمية، ككتاب ومذكرة المنطق، وتاريخ التشريع الإسلامي، ومبادئ علم الكلام، والعديد من الكتب. أما في الجامعات، كجامعة الملك عبد العزيز في جدة، فقد تخرج الآلاف، وليس المئات، على كتبه خلال تدريسه هناك. وحتى بعد رحيله عنها، وظلّت كتبه تطبع من بعده. وقد ساق لي حادثةً طريفة في هذا المقام، وقد كان الحديث في معرض أمانة بعض دور النشر تجاه المؤلِّفين، فقد كان ضمن إحدى زياراته إلى مدينة جدّة، وقد مرّ على دار الشروق بجدة، وكان يسأل عن بعض الكتب والإصدارات الحديثة، وقد تعرَّفوا عليه صدفةً، فإذا بهم يُكْبرون له التحيّة، وفي الوقت ذاته يعتبون عليه قطيعته لهم طيلة هذه المدّة؛ لأنهم قاموا بطباعة بعض الكتب دون إذنه؛ لكثرة الطَّلَب عليها، ولم يتمكَّنوا بعدها أن يصلوا إليه لتسليمه مستحقّاته كمؤلِّف، وقد كانوا يرحلون تلك المبالغ من ميزانية سنوية إلى أخرى، فما كان منهم إلاّ أن صاحبوه إلى قسم المحاسبة ليدفعوا له مستحقّاته. ومن الجدير بالذكر أن كتب الشيخ الفضلي تدرس حالياً في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن، كما ترجمت بعضها إلى الإنجليزية من قبل إحدى الجامعات الأمريكية، وتدرس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، وقم، والعديد من المراكز حول العالم.
5ـ الحضور الفعال في المناخات العالمية، للتواصل مع النخبة العلمية، ومتابعة تطوّرات الساحة، ومتطلّباتها، والإسهام الجادّ فيها. وقد أهَّلهم لهذا الدور الحضور المعلوماتي في ما يكتبون فيه، بشكلٍ يؤهِّلهم لمقابلة قرّائهم، والردّ على استفساراتهم، وردّ إشكالاتهم، ولسان حالهم يقول:
علمي معي حيث ما كنت يتبعني *** قلبي وعاء له لا بطن صندوق
إنْ كنت في البيت قام العلم يتبعني *** أو كنت في السوق كان العلم في السوق
الخاتمة
وتشتمل على النتائج والتوصيات:
1ـ النتائج
لعل أبرز النتائج التي خرجت به المقالة ما يلي:
1ـ إن الحاضرة الأحسائية تشتمل على رحم علمي كبير، درساً وتدريساً، ومن مختلف الطيف المذهبي: الإمامي، والحنفي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي. وقد مثلها عالمياً في مجال العلم والمعرفة، من علماء المذهب الإمامي، ثلاثة علماء امتازوا بالموسوعية المعرفية في العلوم الإسلامية، وهم: الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي، والشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي، والشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي.
2ـ للأعلام الثلاثة تجربة كتابية موسوعية كبيرة، في شتّى العلوم الإسلامية، والعلوم المساندة لها في مجال العلم الشرعي، كعلوم اللغة العربية، وعلم الدلالة، وعلم الأسلوب، وعلم المنطق، وعلم الرجال، وعلم الحديث، وعلم الكلام، والحكمة الإلهية، والفلسفة القديمة، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه.
3ـ اتَّسعت دائرة انتشار النتاجات الفكرية للأعلام الثلاثة لتتجاوز الحدود المحلّية في النشر والاهتمام، فاهتمّ بها علماء من الشرق والغرب، والمراكز البحثية، والجهات المعرفية. وهذا يعود إلى قواسم مشتركة جمعت بين الأعلام الثلاثة، وهي:
أـ الموسوعية المعرفية.
ب ـ التجديد والإبداع في مؤلَّفاتهم وبحوثهم.
ج ـ العناية بنشر تأليفاتهم وبحوثهم.
د ـ اعتماد الجهات المختصّة لنتاجاتهم الفكرية، فضلاً عن اعتمادها من قبل الأفراد.
4ـ إن نتاج الشيخ الفضلي الفكري، المكتوب على هيئة مؤلَّفات وبحوث ومقالات، وحوارات، وتقاريض للكتب، بلغ: 75 كتاباً، و155 مقالة، و15 حواراً، و130 تقريضاً.
5ـ إن الشيخ الفضلي تجاوز حدود الذات في مسألة التأليف والكتابة، ليشكل بؤرة إشعاع فكري، جعلت منه مقصداً للباحثين والمؤلِّفين؛ لمراجعة المؤلفات، وتصحيحها، واقتراح عناوينها، ورعاية مهرجاناتها، وتوسيع مدارك الباحثين في بعض جوانب مؤلَّفاتهم. الأمر الذي يوعز إلى رعايته تلك زيادة النشاط الفكري في مجال التأليف في المنطقة، ولا سيَّما إذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة التقاريض التي قرَّضها بعد تقاعده من جامعة الملك عبد العزيز بجدّة بلغت 95% من إجمالي تقاريضه.
6ـ إن الشيخ عبد الهادي الفضلي؛ بفضل تدرُّجه المعرفي في الوسطين الحوزوي والأكاديمي، استطاع أن يشخِّص فرصة هامّة في بيئته الخارجية، تتمثَّل في ضرورة تسرية مناهج البحث العلمي إلى الكتب الحوزوية. وكان من نتاجات تلك التسرية أن انفتح بها على العديد من العلوم الحديثة، التي ينبغي أن تأخذ بها؛ لكون الذي يقرِّر طبيعة المنهج الخاصّ لأيّ علمٍ من العلوم شيئان، هما:
أـ طبيعة مادة العلم.
ب ـ الهدف من وضع المادة.
7ـ من أبرز المؤلَّفات التي يمكن التعرُّف من خلالها على مجالات التجديد التي قام بها الشيخ الفضلي للحوزات العلمية كتابان: (دروس في أصول الفقة الإمامي)؛ و(دروس في فقه الإمامية). وكان أبرز مواضع التجديد أنه طبَّق فيهما العديد من الأُطُر البحثية التي كان ينادي بها وفق منهج البحث العلمي، وسطَّرها كمنهجية في بداية كلٍّ من أطروحتَيْه، وبالتالي لم يكتفِ بالتنظير الفكري لمناهج الحوزة، بل قدَّم تجربة عملية في هذا المجال.
8ـ ممّا رجَّحه الشيخ في منهج (دروس في أصول الفقه الإمامي) هو التخلُّص من المنهج الفلسفي والكلامي، الذي أثقل كاهل هذا العلم، ليكون مدار بحثه في إطارين، هما:
ـ المنهج اللغوي ـ الاجتماعي.
ـ المنهج الاجتماعي ـ الاجتماعي.
وذلك لكون الدرس الأصولي يعنى بمعالجة ظواهر اجتماعية عامّة، تتنوَّع إلى:
ـ ظواهر لغوية ـ اجتماعية.
ـ ظواهر اجتماعية ـ اجتماعية.
ومن شأن هذا المنهج في نظر الشيخ الفضلي أن يعود بأصول الفقه إلى ما كان في عهد الشيخ المفيد، حيث يقول: «ونحن بهذا نعود إلى المنهج الذي وضعه الشيخ المفيد، والذي أقصي عن ميدان البحث الأصولي عن غير قصدٍ، وإنما بتأثير هيمنة علم الكلام على منطلقات البحث الأصولي».
9ـ مما رجَّحه الشيخ في منهج (دروس في فقه الإمامية) هو ضرورة أن يمارس الفقيه دور الفقيه العرفي الذوقي، في قبال الفقيه الصناعي، بحيث لا يكتفي بدراسة بنيوية النصوص، وإنما لا بُدَّ أن ينتقل إلى البيئة الخارجية ليعمل أدوات البحث العلمي، وفق منهج الاستقراء، أو الملاحظة قدر الطاقة، ولا سيَّما منها في فقه المعاملات المالية؛ لأنها غير ذات طبيعة مادّية متجسِّدة في خارج الذهن، وإنما هي ظواهر اجتماعية تدخل ضمن فعاليات وآليات سلوك الإنسان، ووفق نظام خاصّ بها اعتمد في وضعه اعتبار المعتبر.
2ـ المقترحات
لعل أبرز المقترحات التي خرجت بها المقالة ما يلي:
1ـ عند استعراض تجربة الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي اتَّضح أن حراكه البحثي أثمر عن جهود علمية في مجال رواية الحديث، وذلك في كتابه عوالي اللآلي، وأن هذا الكتاب استطاع أن يؤثِّر في مجال الاستدلال الفقهي. وقد طرح الشيخ حسين العايش البراك، في ورقة بحثية بعنوان: الإبداع الفقهي والأصولي لابن أبي جمهور الأحسائي، العديد من الأدلّة على أثر الشيخ ابن أبي جمهور في المباني الفقهية للعديد من الفقهاء، بحيث إن بعض روايات الشيخ تحوَّلت إلى قواعد فقهية. هذا وقد خرجت المقالة باقتراح أن تتبنّى في هذا الصدد جهة علمية للقيام بأطروحة علمية يُختبر من خلالها ثلاث فرضيات؛ للتأكُّد من صحّتها. وهي تدور حول أثر كتاب عوالي اللآلي في المباني الفقهية بعد صدور الكتاب المذكور، هذا من جهة؛ ومن جهةٍ أخرى أن تلك الروايات المشار إليها لم تدخل دائرة الاستدلال الفقهي لدى الإمامية.
2ـ عند استعراض تجربة الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي اتّضح أن هناك دعوى من بعض الفضلاء مفادها أن الشيخ وإنْ تعرَّضت أفكاره إلى رفضٍ من قبل البعض في زمانه، ومن بعد وفاته أيضاً، إلاّ أنها استطاعت؛ بفضل تماسك أطروحته العلمية في مجال العقائد، أن تتسرّى مع مرور الزمن إلى الساحة العلمية المعاصرة، بل وتلقّاها الكثير بالقبول في الوقت الراهن، ولكنْ لا تسند تلك المفاهيم إلى الشيخ أحمد الأحسائي. وهنا أيضاً تمّ التقدُّم بمقترح تقديم أطروحات بحثية تتجاوز القبول الأوّلي لهذا الإفادة إلى ما هو أهمّ، ألا وهو بلورة مصاديق عملية تثبت صحّة فرضية هذا المدَّعى من عدمه.
3ـ عند استعراض تجربة الشيخ عبد الهادي الفضلي اتَّضح أن فضيلته انطوَتْ على جنبتين: حوزوية؛ وأكاديمية. وقد أفضى هذا التلاقح الفكري عن تجربته في كتابيه: (دروس في أصول الفقه الامامي)؛ و(دروس في فقه الإمامية)، إلى تطبيقات عملية لمنهج البحث العلمي القائم على الاستقراء والملاحظة. وقد تمّ التقدُّم في هذا المجال بمقترح أن تقدم أطروحات بحثية حول منهج الشيخ وأثره في الساحة العلمية، وملكات طلاب العلوم الشرعية الذين سيتتلمذون على كتبه في مرحلة السطوح، وأوجه تطوير هذه التجربة الفكرية التي أخذت بمعطيات العصر، وتحدّيات المرحلة.
4ـ نظراً لما يحتمل أن يواجهه الفقيه الذوقي العرفي في بحثه في مسائل المعاملات المالية يقترح أن تتشكَّل جهات بحثية داعمة له في ما يتعلَّق بالجانب الميداني، تكون مسؤوليتها مواكبة أطروحات الميدان من بنوك، ومؤسّسات مالية، وغيرها من الجهات الاختصاصية ذات الصلة؛ لجمع إصداراتها، وتحليلها، وتكييفها شرعياً، ومن ثم تزويد الفقهاء بها؛ ليستعينوا بها عند إصدار فتاواهم الشرعية.
الهوامش
(*) أستاذٌ وباحثٌ متخصِّص في الدراسات الاقتصاديّة، وكاتبٌ متابع في التاريخ الحديث للمنطقة الشرقية في السعودية. له أعمالٌ عدَّة. من المملكة العربية السعودية.
([1]) محمد بن جواد الخرس، الناجحون: تجارب وعادات: 83 ـ 85، الأحساء، مصنع الجواد للطباعة والتغليف، 1434هـ ـ 2013م.
([2]) محمد بن جواد الخرس، مدينة الهفوف: مدخل حضاري لدراسة مظاهر الحياة في مدينة الهفوف بمحافظة الأحساء: 350 ـ 397، بيروت، مؤسسة الأسفار، 1431هـ.
ـ أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف و الأحساء والبحرين، للشيخ عليّ بن حسن البلادي.
ـ مطلع البدرين في تراجم علماء الأحساء والقطيف والبحرين، للشيخ جواد بن حسين الرمضان.
ـ منتظم الدرّين تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين، للشيخ عليّ بن حسن البلادي البحراني.
ـ أعلام هجر، للسيد هاشم الشخص.
ـ شخصيات رائدة من بلادي، للأستاذ معاذ بن عبد الله المبارك.
ـ الفهرس المفيد في تراجم أعلام الخليج، للأستاذ أبي بكر عبد الله الشمري.
ـ من أعلام مدينة المبرز، للأستاذ عبد الله بن عيسى المبرز.
ـ كتاب (مدينة الهفوف) المتقدِّم ذكرت فيه الحوزات، والمدارس، والأربطة العلمية في مدينة الهفوف، ومَنْ تخرَّج فيها من أهل العلم. ومَنْ أراد التوسُّع أكثر يمكنه الاطّلاع في الكتاب نفسه، في الفصل الثاني منه، على قائمة الدراسات والكتب والبحوث التي أعددتها عمَّنْ قام بالتأليف عن الأحساء فقط؛ حيث كشفت الدراسة هناك عن مؤلِّفين عنها في مجال التاريخ، والجغرافيا، والاقتصاد، والزراعة، والتعليم، والاجتماع، والفكر، والأدب، سواء كانت باللغة العربية أو بلغاتٍ أجنبية. وما أرغب في الإشارة إليه هنا بخصوص الحديث عن حالة التأليف وطباعة ما يؤلَّف وينشر أن هذا الفصل أورد العديد من أسماء المؤلِّفين، وأغلبهم من الأحساء، كما يشير إلى أن هناك توجُّهاً إيجابياً لدى المؤلِّفين الأحسائيين نحو طباعة ونشر ما يتمّ تأليفه.
ـ العديد من مواقع الإنترنت نشرت العديد من بيانات النشر للمؤلّفات الأحسائية، كما هو الحال في موقع مشهد الأحساء، وموقع المطيرفي، وموقع شبكة هجر، وغيرها من المواقع المهتمّة بهذا الشأن.
([4]) أدرجتُ في كتاب لي بعنوان (ملامح الحياة العلمية والأدبية في الأحساء)، وكان زمان تأليفه في عام 1414هـ، وقد صدر منه الجزء المتعلِّق بفقهاء الأحساء في المذهب الإمامي في تاريخ 1415هـ، وقد اشتمل الكتاب على بعض الأحصائيات، ومن جملتها عناوين الكتب الذين كتبها علماء وأدباء الأحساء. وقد أحصيت آنذاك عناوين كتب علماء الأحساء وطلاب العلوم الشرعية من الإمامية فقط، ما بلغ 581 كتاباً، بما فيها أغلب كتب ابن أبي جمهور، وكتب الشيخ أحمد الاحسائي، وكتب الشيخ الفضلي المطبوعة آنذاك. ويلاحظ عليها أن أكثرها يصدق عليها حكم أن مَنْ كتب منهم لم يطبع، ومَنْ طبع كان انتشار كتبه في دائرة محدوده.