أ. علي إلهام(*)
مقدّمة ــــــ
يستعرض هذا البحث ـ كما هو واضحٌ من العنوان (الأنموذج في ثورة عاشوراء) ـ النظريات والتحليلات الصحيحة في موضوع ثورة عاشوراء، ويؤكّد على الاهتمام بها. والهدف الأساس لهذا البحث هو تطبيق واقعة عاشوراء التاريخية على جميع أنماط التغيير والتحوّل السياسي الاجتماعي المختلفة. وفي النهاية يصبو للوصول إلى نموذج أكمل؛ كي نستطيع أن نحلِّل جميع جوانب النهضة الحسينية؛ أي أن نبحث في سبب القيام وكيفيّته وماهيّته، ونحلّل ـ ضمن نطاق نظري ـ مجموعة ردود الفعل التي صدرت من الإمام الحسين× وأصحابه عند أزمات ذلك العصر، وبالتالي نصنع من هذه الثورة التاريخية قدوةً تتناسب مع أهداف الدين والمجتمع الديني في مقابل الأزمات المشابهة لكلّ عصرٍ ولكلّ مجتمع. من هنا نرى أنّ المقصود من استعمال لفظ «أنموذج» في البحث الحالي هو تحليل ثورة الإمام الحسين× تحليلاً علميّاً، والعمل على نقلها إلى دائرة الأبحاث النظرية، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى يُراد بهذا البحث الابتعاد عن التحاليل التاريخية ـ الوصفية البحتة، أو التحليل للوصول إلى غاية أو علّة معيّنة. لذلك سوف نتناول في هذه المقالة ثورة عاشوراء في نطاق واسع، وذلك عبر تحليل سبب هذه الثورة، وماهيّتها، وكيفية حصولها. وبسبب بعض خصوصيات هذا النموذج ـ أي الماهيّة العامة للقيام، وقابلية الانطباق على غيره، وإمكان تكراره ـ كان الهدف الأساس من هذا البحث هو التركيز على أن يتم إظهار الثورة الحسينية بمثابة ظاهرة تاريخية وعصرية، وإبرازها بشكل أرقى؛ كي تكون دليلاً ونموذجاً يحتذي به الأحرار والمؤمنون في كلّ عصر وزمان، عندما تتحقّق الشروط المثيلة، وتتهيأ الأرضية المشابهة والمناسبة لذلك.
لكنْ لا يمكن تأليف نموذج من ثورة عاشوراء، ونقد النظريات المختلفة حولها، دون المعرفة والبحث الدقيق في أحوال الثورة الحسينية، وشروطها، وأهدافها، والظروف التي أدّت إليها. ولذلك سوف نشرع في هذا البحث بتحليل الظروف التاريخية للثورة، من خلال الوثائق والمصادر التاريخية المعتبرة.
ثورة عاشوراء: الكيفية، والظروف ــــــ
ترتبط ثورة الحسين× بمسائل مختلفة ومتعدّدة. ولا يمكن تحليل هذه الثورة والتنظير لها دون أخذ تلك الأمور بعين الاعتبار. لقد طرأ بعد وفاة الرسول| وبعده، على امتداد خمسين سنة، طرأت تغيُّرات كثيرة في الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية والمعيشية في المجتمع الإسلامي، وتغيّرت معها أفكار وسلوكيات المسلمين عمّا كانت عليه في عصر النبيّ|؛ حيث يقول الإمام× في تفصيل وبيان هذه التغيُّرات: «إنّ الدنيا قد تغيّرت، وتنكّرت، وأدبر معروفها، ولم يبق إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترَوْن إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَماً. إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»([1]).
وكذلك ورد في كتابٍ له يخاطب فيه أهل البصرة: «أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت. فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد»([2]).
وفي خطابه إلى أخيه محمد بن الحنفية يقول: «إنّما خرجت في طلب الإصلاح في أمّة جدّي|، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب. فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أَوْلى بالحقّ…»([3]).
يبيِّن الإمام× في قوله هذا وقوع التغيُّرات التي طرأت، والفساد والانحراف الذي انتشر في المجتمع الإسلامي. وكأنّ الناس قد ارتدّوا عن المبادئ والأخلاق الإسلامية، وصاروا يمشون في طريق مخالف لدين رسول الله|.
إنّ التغيرات الاجتماعية، وتبدّل القيم والمبادئ، وانحراف السلوكيات والمسلّمات الاعتقاديّة والثقافيّة في المجتمع، لا تتغيَّر دفعة واحدة، ولا مع تغيُّر شخص في رأس الحكم، أو في مدّة قصيرة؛ بل تظهر هذه التغيّرات تدريجياً، وتحتاج إلى مدّة طويلة، وتظهر بشكلٍ خفي في البداية. لذلك يعتقد المؤرِّخون أنّ أرضيّة ثورة عاشوراء قد مُهّدت منذ السنين الأولى بعد وفاة الرسول الأكرم|، إلاّ أنّها وصلت إلى ذروة التبلور ـ أي البعد عن تعاليم الإسلام والسيرة النبوية ـ في زمن الأمويين. فقد كانت فترة خلافة الخليفة الثالث ـ التي كانت طويلة نسبيّاً (والتي امتدت إلى ما يقارب خمس عشرة سنة) ـ ممهِّدة لتشكيل نظام الحكم الأموي، وعودة نظام الأشرفيّة عند العرب. لذا نرى أنّ عثمان ـ من خلال تسليمه المناصب المهمّة والأساسية في الحكومة لأقربائه ـ أمَّر بني أميّة، وسلّطهم على المصير السياسي والاجتماعي والاقتصادي (بيت المال) للأمّة الإسلامية. كما أنّه أعطى معاوية الشام كلّها، وجعلها تحت تصرفه، في حين أنّ بني أمية كانوا ـ بقيادة أبي سفيان ـ الأساس في محاربة الإسلام ومناصرة الشرك، وكانوا المظهر التامّ للشرك عند العرب في الجاهليّة، وهم الذين كانوا يحاربون الإسلام منذ بداية بعثة رسول الله| في مكّة، كما أنّهم الذين تصدّوا لمواجهة النظام السياسي للإسلام بعد الهجرة إلى المدينة؛ فقد قاد أبو سفيان أهمّ الحروب الأولى ضدّ الإسلام ـ بدر وأحد والأحزاب وغيرها ـ، وضدّ إرساء النظام الديني لرسول الله|، والتي أسفرت عن مقتل أخ معاوية وجدّه من أمّه وخاله من جيش المشركين في معركة بدر الكبرى([4]). ولقد استسلم أبو سفيان وقبيلته بعد فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة، ثم أسلموا اضطراراً([5]). فعلى الرغم من عداوة بني أميّة التي يكنّونها للإسلام والرسول|، إلاّ أنّ أبواب الأمل فتحت أمامهم بعد أن تسلّم عثمان الخلافة. فقد ورد أنّه في اليوم الأول من تسلّم عثمان للخلافة اجتمعت بنو أمية في منزله، فقال أبو سفيان في خطابه إلى الحاضرين: أعندكم أحدٌ من غيركم؟ قالوا: لا، قال: يا بني أمية، تلقّفوها تلقُّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذابٍ، ولا حساب، ولا جنّة، ولا نار، ولا بعثٍ، ولا قيامة([6]).
ويصف الإمام عليّ× هجوم الأمويين لأخذ السلطة والخلافة بقوله: إلى أن قام ثالث القوم (عثمان) نافجاً حضنَيْه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته([7]).
وأخيراً، بعد كلّ هذا الظلم، واستغلال أقارب عثمان، وكذلك أساليبه الخاطئة وغير الدينية من جهةٍ، وعدم إنصاته واعتنائه، بل وتكبّره على نصائح ومواعظ الآخرين من جهةٍ أخرى، وتعذيبه ونفيه لبعض صحابة النبيّ|، كأبي ذرّ الغفاري، كلّ ذلك أدّى إلى غضب وثورة الناس على الخليفة، فهجموا على منزله. وبعد محاصرته مدّة قُتل في سنة 36هـ. وتوجَّه الناس بعد موت عثمان إلى الإمام عليّ×، وأرغموه على قبول الخلافة بعد إصرارٍ وإلحاح شديدين.
كان الإمام× يرى ابتعاد المجتمع الإسلامي عن مسير الإسلام الصحيح والسيرة النبوية الشريفة، فامتنع عن قبول الخلافة في أوّل الأمر، ولكنّه قبل خلافة المسلمين في النهاية؛ بسبب إصرار الناس وبيعتهم إيّاه([8]).
لقد حمل الإمام عليّ× على عاتقه زمام أمور المسلمين من سنة 36 إلى سنة 40هـ، أي مدّة أربعة سنين وتسعة أشهر، متَّخذاً من الكوفة مركزاً لخلافته. وقد سعى الإمام× بجدٍّ ليذيق الناس طعم العدل؛ كي يوقف الانحرافات والبدع الدينية والسياسية والاقتصادية التي حصلت بعد وفاة النبيّ|. ولكنّ عدالة الإمام جعلت المتضرِّرين منها، والطامعين، وعباد الدنيا، يُقدِمون على التمرّد، وإعلان العصيان على عليّ×. فلم يكن معاوية على استعداد ليتخلّى عن ولاية الشام بعد أن كان والياً عليها في زمن الخليفتين عمر وعثمان، بل نصّب نفسه عليها في زمن الإمام×، واستغلّ هذه الفرصة ليخوض حرب صفين ـ التي كانت شديدة، وأريقت فيها دماءٌ كثيرة ـ ضدّ الحكومة العلوية العادلة. وبعد ذلك حُمّل الإمام قضية التحكيم؛ بسبب خداع وكذب أصحاب معاوية، واحتيال وخداع عمرو بن العاص، وحماقة وجهل بعض أصحاب الإمام (أهل النهروان فيما بعد)، في قضية التحكيم. وهذا ما أدّى إلى حدوث الفرقة بين أهل الكوفة، وتمرّد أهل النهروان الفوضويّين على خلافة الإمام×. وبعد استشهاد الإمام عليّ× زحف معاوية إلى العراق والحجاز، فاضطرّ الإمام الحسن× أن يتنازل عن حكومته ـ التي لم تدُمْ لأكثر من أربعة أشهر ـ، وأن يوافق على الصلح بعد قتالٍ خفيف؛ بسبب خيانة وغدر بعض أصحابه. وقد أصبح ابن أبي سفيان ـ الذي كان والياً على الشام من سنة 18 إلى سنة 40هـ، أي لمدّة 22 سنة ـ الحاكم المطلق على جميع المسلمين من سنة 40 إلى سنة 60هـ، فحكم فيهم بحسب هواه، وبدّل الخلافة إلى حكم مَلَكي بشكلٍ علني، مستأثراً برأيه الشخصي لمدّة عشرين سنة. لقد كانت فترة حكم هذا الطاغية الفاسد من أحلك وأغرب الفترات في تاريخ المسلمين. فلم يتورَّع عن جميع أنواع الظلم والاعتداء على أولاد أمير المؤمنين×، بل قام بقتل وإعدام أصحاب وشيعة الإمام×. وكذلك لم يكن يخاف من الإقدام على أيّ عملٍ مخالف لتعاليم الإسلام، من وضع الأحاديث الكاذبة التي تتناول الإمام عليّ×، وتثني على عثمان والخليفتين الأوّل والثاني، وصولاً إلى الحكم بخلاف الشريعة الإسلامية، وتعطيل الحدود([9]).
وآخر طعنة للدين وللمجتمع الإسلامي قام بها معاوية كانت في فرض ابنه يزيد خليفةً من بعده، والحال أنّ يزيد كان مشتهراً باللهو واللعب مع الكلاب، ومجاهراً بالفسق وشرب الخمر والزنا، وسائر الأعمال المخالفة للدين الإسلامي. ومع ذلك فقد اختاره أبوه وليّاً للعهد، بناءً على اقتراح المغيرة بن شعبة، وأمر بأخذ البيعة له من الناس([10]). وبقيام معاوية بهذا الفعل يكون قد خالف ما التزم به في معاهدته، وأسّس لبدعةٍ كبيرة في العالم الإسلامي؛ فقد هيّأ الأرضية والظرف المناسب للحكم المَلَكي الوراثي، الذي حاربه الإسلام والرسول الأكرم|. وهكذا كان، فبعد موت معاوية تربَّع يزيد على عرش الحكم. ولكي يثبِّت حكومته سارع إلى أخذ البيعة له من مخالفيه وخصومه، وأجبرهم على ذلك؛ لأنّهم إذا بايعوا لن يستطيعوا أن يعترضوا على ظلمه ومخالفاته. ولذلك قام يزيد بعزل مروان بن الحكم عن ولاية المدينة قبل انتشار موت أبيه، وعيَّن مكانه ابن عمّه الوليد بن عتبة، وأمره أن يأخذ له البيعة من أهل المدينة، مع إخبارهم بموت معاوية، ولا سيّما من الحسين بن عليّ’، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر. وطلب منه أن يرسل إليه برأس مَنْ يرفض البيعة منهم.
وقد صدر هذا الأمر لعدّة أسباب:
أوّلاً: لكي يمنع أيّ تحرّك سياسي قد يصدر منهم ضدّ حكومته.
ثانياً: في حال مبايعتهم له سوف تكتسب الحكومة الأموية شرعيّة، وسوف تثبت دعائم حكومة يزيد.
ثالثاً: إذا أعرضوا عن مبايعته وقتلهم فسوف يخيف خصومه وأعداءه بقتل أشهر وأبرز مخالفيه، وأكثرهم قوةً، كالإمام الحسين بن عليّ×، وسيجعل الآخرين يحسبون ألف حساب لحكومته، دون أن يجرؤوا على مخالفته أبداً.
النتيجة ــــــ
بملاحظة ما سبق نستطيع أن نلخّص في جوانب مختلفة الآلام والمصاعب التي كان يعاني منها المجتمع في ذلك العصر، والتي لم يستطع الإمام الحسين× أن يقبل بها:
1ـ من الجهة الاجتماعية: الفساد والرشوة والظلم والقهر والغشّ والتزوير وعدم تساوي الفرص للجميع. وكما يقول الإمام×: «ألا وإنَّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود»([11]).
2ـ من الجهة الاقتصادية: كان بيت المال تحت تصرّفهم، وكانوا يصرفون أموال المسلمين على شهواتهم ومشتهياتهم. وقد قال الإمام× في هذا الموضوع: «واستأثروا بالفيْء»([12]).
3ـ من الجهة الأمنية وتطبيق الحدود الإلهية: نرى أنّ طريقة معاوية في الحكم هي عدم تطبيق الحدود الشرعية، وترك ملاحقة المجرمين ومعاقبة السارقين، حتّى صار الحكم بخلاف الشريعة الإسلامية([13]). وقد قال الإمام× في هذا الخصوص: «وعطَّلوا الحدود»([14]). وكذلك يقول: «ألا ترَوْن أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه»([15]).
4ـ من الجهة الثقافية: كان المجتمع في هذا النظام ينساق تدريجياً إلى نظام الأشراف الذي كان سائداً في العصر الجاهلي، وذلك من خلال إعادة إحياء العادات والقيم والسنن الباطلة، التي استحكمت في المجتمع الجديد الذي يفتخر بنسبه وانتمائه لقريش، فتدنّت المنزلة الاجتماعية للمسلمين غير العرب، إلى درجةٍ أصبح لا يسمح للموالي بأن يتزوَّجوا من بنات العرب. فكانت الامتيازات والحقوق توزّع على أساس المفاضلة بين كون الشخص عربياً أو غيره، وكونه قرشيّاً أو غير قرشي. وكادت القيم والسنن النبوية تنحرف وتمحى من أساسها. لقد كانت جذور هذا الانحراف الكبير قد بدأت بالظهور في عهد الخليفة الثاني. وقد قال في ذلك الإمام عليّ× حين جاء الناس لمبايعته: «إنّ بليّتكم عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيّكم|»([16]).
وقد ظهر في عصر الأمويّين خصوصاً ثقافة جديدة، أخذت وقْعاً وسطاً بين الإسلام والجاهلية، لا إسلام ولا جاهلية، ولكن بينهما. وفي ذلك يعبِّر أمير المؤمنين×: «لبس الإسلام في هذا الزمان لبس الفرو مقلوباً»([17]). ويتمثَّل هذا العكس ـ كما قال الإمام الحسين× ـ في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ الله: «وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلال الله»([18]). وفي إماتة السنن النبوية، وانتشار البدع المخالفة للدين أيضاً: «فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت»([19]).
نوع ثورة عاشوراء ــــــ
بعد أخذ الظروف والأرضيات التي ذُكرت بعين الاعتبار يطرح هذا السؤال نفسه: إلى أيّ نوع من أنواع الحركات السياسية ـ الاجتماعية تنتمي الثورة الحسينية؟ ثورة مدمّرة، أم دفاعية، أم إصلاحية إنمائية، أم إنّها حدثت لأجل القيام بالواجب وأداء الأمر الإلهي فقط؟
لقد قدَّم المفكرون نظريات وفرضيات كثيرة في تحليل ثورة عاشوراء. وسوف نتعرّض في هذه المقالة إلى النظريّات التي تستطيع أن تقدّم ـ من الناحية السياسية ـ صورة منطقية لنفسها، وأن تكون مقبولة من حيث التحليل السياسي، في مقابل وجهات النظر التي تكون بعيدة وغير مستساغة من حيث المنطق السياسي([20]).
1ـ نظريّة الثورة([21])ــــــ
إنّ ملاحظة معنى مفهوم الثورة في هذا التحليل يفيد أنّ الهدف الذي يتصدّر قائمة أهداف الإمام الحسين× في هذه الثورة هو تدمير نظام وبناء حكومة بني أمية السلطانيّة، مع بيان أنّ الإمام× لم يكن ينظر إلى غير التكليف الإلهي الذي كُلِّف به، وكيفية القيام به.
مقوّمات هذه النظريّة ــــــ
إنّما يمكن القول بأنّ ثورة عاشوراء هي ثورة مدمّرة فيما إذا كانت الظروف والأرضيات متوفِّرة لقيام هكذا ثورة، وأن يتمّ إثبات إمكانيّة إسقاط النظام السياسي الأموي بحسب الشواهد التاريخية، وإلاّ لكان إطلاق اسم الثورة عليها لغواً. لذلك اعتبر مؤيِّدو هذه النظرية ـ بالاستناد إلى الشواهد التاريخية، وتحليل الظروف السياسية ـ الاجتماعية للثورة ـ بأنّ تزلزل الخلافة الأموية هو من نتائج الثورة. واعتبروا أيضاً أن كون الثورة من العوامل المؤثِّرة في انتصار الإمام الحسين بن عليّ× أمرٌ مسلَّم. وقد استدلّوا على صحّة هذه النظرية بعدّة أمور:
1ـ تذمّر وسخط الناس عامةً، والباقي من أصحاب النبيّ| خاصةً، من حكومة بني سفيان.
2ـ الضعف المتزايد، وعدم الثبات من الناحية السياسية، في الحكومة الأموية بعد موت معاوية؛ بسبب عدم توفّر الكفاءة والجدارة. بالإضافة إلى كون يزيد حديث العهد بالخلافة، ولا خبرة لديه، من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى تدخّل المحيطين به في شؤون إدارة العالم الإسلامي الكبير.
3ـ انتشار الانحراف والفساد في رأس نظام الخلافة، وخصوصاً في شخص يزيد.
4ـ استعداد وتقبُّل الرأي العامّ للمسلمين في أكثر نقاط العالم الإسلامي لفكرة تولّي الإمام الحسين بن عليّ× زمام أمور الخلافة، كشيعة العراق واليمن والحجاز و غيرهم من المسلمين.
5ـ بروز شخصية الإمام الحسين× في أمور كثيرة، كالشجاعة وحسن المعاشرة والسياسة، فضلاً عن وجود الخبرة والجدارة لديه لقيادة وإدارة نظام الحكومة الإسلامي.
6ـ دعوة شيعة العراق الإمام الحسين× للقدوم إليهم، والتي تعدّ من جملة الدعوات الكثيرة والمتتالية التي تلقّاها الإمام×، وكذلك من أهل اليمن والحجاز وخراسان وآذربيجان، وانضمام عدد من المقاتلين المخلصين له من المدينة وغيرها([22]).
يعتقد مؤيِّدو هذه النظرية أنّ الموارد التي ذكرت سابقاً هي جزءٌ من العوامل التي كانت تستطيع أن تزلزل قواعد حكومة يزيد، وتوفّر أيضاً الشروط المناسبة للقيام بثورة سياسية. بالإضافة إلى أنّ الخلافة وقيادة الأمّة هي من شؤون الإمامة التي منحها الله تعالى لشخص الإمام×، فتقع على عاتقه مهمّة القيام بهذه الوظيفة الإلهية المهمة كلّما توفّرت الظروف وتهيّأت الأرضية المناسبة في المجتمع([23]).
إذاً فبحسب اعتقاد أصحاب هذه النظرية يجب على شخصٍ كالإمام الحسين× ـ مع الأخذ بعين الاعتبار العوامل والظروف التي ذُكرت ـ أن يثور ويتحرّك ضدّ هذا الباطل والظلم الأموي المتفشّي، سواءٌ كانت الثورة بهدف القيام بالرسالة الإلهيّة والعمل بها أم كانت ناتجة من الغيرة الدينية؛ لما يتّصف به من كونه إنساناً ثورياً وفدائياً؛ ليؤسِّس حكومة قائمة على أساس العدالة الاجتماعية، عبر إسقاط نظام حكومة بني أمية. ووفقاً لهذه النظرية سوف تنجح ثورة الإمام الحسين× إذا لم تعترض طريقه سائر الموانع الأخرى([24]).
ونستطيع أن نجد شواهد على هذه النظريّة في بعض أقوال وخطب الإمام×، التي تبيِّن أنّ قيامه كان بهدف إسقاط نظام بني أميّة الفاسد. ومن هذه الأقوال خطبته الجريئة في منزل بيضة (على طريق الكوفة)، والتي ألقاها بين المعسكرين حين اعترض الحُرّ بن يزيد الرياحي وجيشه طريق الإمام×: أيّها الناس، إنّ رسول الله قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله|، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان…، وأنا أحقّ من غيَّر…([25]).
يوجد في الخطاب السابق بعض النكات الجديرة بالانتباه:
1ـ نستطيع أن نفهم من تقديم الإمام× التصدّي العملي لمواجهة السلطان الجائر والظالم الذي نكث عهد الله وخالف الأحكام الإلهية والسنن النبوية على المواجهة الكلامية… أنّه يريد النهوض وإسقاط الحكومة الفاسدة.
2ـ إنّ جملة: «أنا أحقّ مَنْ غيَّر» تبيِّن هدف الإمام في القيام؛ حيث تحتوي على إعلانٍ صريح بأنّه يرى نفسه أجدر الناس بتغيير الظروف وأوضاع النظام الفاسد.
3 ـ إنّ استناد الإمام× إلى دعوة أهل الكوفة له وبيعتهم، وتأكيده على ثبوتهم ووفائهم لعهودهم، دالٌّ على وجود قوّةٍ حاضرةٍ قد اعتمد الإمام× عليهم وعلى حمايتهم في النهوض في وجه النظام الفاسد، وبذلك عزم على القيام بالثورة. كما أنّ كلام الإمام الحسين× في المدينة ـ بعد أن علم بخبر تعيين يزيد خليفة للمسلمين ـ دليلٌ آخر على هذا المدَّعى. فقد قال الإمام× بأنّه يجب الترحُّم على الإسلام إذا ابتليت الأمة الإسلامية بحكومة يزيد، حيث قال، نقلاً عن النبيّ|: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذا بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد. ولقد سمعتُ رسول الله| يقول: الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. وقد رآه أهل المدينة على المنبر فلم يبقروا بطنه، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق([26]).
نفهم من كلام الإمام× هذا، ومن عشرات الأقوال غيره، أنّ الإمام كان يريد القيام وإسقاط الحكومة الفاسدة.
نقد النظريّة ــــــ
يتوقف القبول بنظرية الثورة على أن يكون إسقاط الحكومة القائمة وتشكيل حكومة بديلة أمراً ممكناً من الناحية التاريخية، في حين أنّ بعض ما حدث في كربلاء من الظروف الاجتماعية، وكذلك بعض أفعال الإمام الحسين×، لا تتّفق مع هذا التحليل. ونذكر منها ما يلي:
1ـ يلزم في الحركات الثورية أن يحصل تخطيط دقيق ـ وهو يحتاج إلى مدّة طويلة ـ لتجهيز الناس وإعداد العدّة اللازمة، في حين أنّ الإمام× لم يجهّز الناس ويجمع المقاتلين، بل بدأ سفره بشكلٍ مفاجئ مع فئة قليلة العدد والعدّة، والتي يتألف معظمها من النساء والأطفال الصغار. ومن الواضح أن مثل هذه المجموعة لا تستطيع أن تقوم بثورةٍ، وتقلب النظام.
2ـ إذا كان في نيّة الإمام الحسين× أن يقوم بالثورة فلماذا كان يقول، حين واجه جيش الحرّ بن يزيد الرياحي وجيش عمر بن سعد ـ الذين قطعوا عليه طريقه ـ، بأنّه يريد تغيير مسيره إلى اليمن أو إلى أماكن أخرى، أو يقول بأنّه يريد أن يذهب إلى الكوفة؛ استناداً إلى طلب أهل الكوفة ورسائلهم؟!([27]).
3ـ يواجه هذا التحليل إشكاليّة مفادها أنّ القيام بالثورة بهدف إسقاط الحكومة واستبدالها بحكومةٍ جديدة يتنافى مع علم الإمام الحسين× بأنّه سوف يُقتل، وسوف تُسبى نساؤه، ويُؤسر أولاده وأولاد بني هاشم. وهذا ما يجعل هذا التحليل مستبعداً.
4ـ لو كان هناك أرضية مناسبة لإنشاء حكومة إسلامية عادلة ـ كما كانت الأرضية متوفّرة عند النبيّ| والإمام عليّ×، وبادروا إلى إنشاء حكومة فعلاً ـ لأقدم الإمام الحسين× على إنشاء هذه الحكومة من دون شكّ. ولكن لم تكن هذه الأرضية متوفّرة، لا في المدينة؛ بدليل خروج الإمام× ليلاً من المدينة، وسفره إلى مكّة، وسلوكه الطريق الوعر الذي لا يسلكه أحد([28])، ولا في العراق؛ لأنّ أهل الكوفة قد أثبتوا ضعفهم وخذلانهم، حين امتُحنوا في اختبارات سابقة على عهد أمير المؤمنين× والإمام الحسن بن عليّ×. ولم يكن الإمام× الوحيد الذي يعلم بضعف ووهن عهود الكوفيين، بل إنّ الكثير من أصحابه والمحيطين به كانوا على علم بخذلان أهل الكوفة([29])؛ فقد التقى الفرزدق بالإمام الحسين× وهو في طريقه إلى الكوفة، وأخبره عن أهل الكوفة بقوله: قلوبُهم معك، وسيوفُهم عليك([30]).
وأخيراً إنّ الثورة تحتاج إلى تحوّلات أساسية وجذرية، ولذلك تحتاج إلى تخطيط من جميع النواحي، ولمدة طويلة. فهل كان تخطيط الإمام الحسين× كافياً للقيام بالثورة؟
2ـ النظريّة الإصلاحيّة ــــــ
يعتبر البعض أنّ إصلاح الدين وبناء الحكومة هو المحور الأساسي لثورة الحسين×، وأنّ طلب الإصلاح والإحياء هو جوهرها وأساسها([31]).
والمقصود من الإصلاح الديني هو العمل على تقويم ما يتمّ ترويجه في المجتمع بعنوان أنّه من الدين، وما يرجع الناس إليه في مقام العمل، ويشوبه الكثير من الأمور التي ليست من الدين أساساً؛ إذ هناك جماعات يقومون بترويج البِدَع في الدين؛ بهدف الاستفادة السيّئة من العقائد الدينيّة عند الناس، ويمكن أن يصدّق الناس هذه العقائد والخرافات الخاطئة؛ بسبب جهلهم.
والمقصود من إصلاح بِنْية الحكومة هو أنّ النظام السياسي غير قادر على إنجاز وظائفه بالنحو المطلوب. وحينها يقدم المصلح الديني أو السياسي، عند رؤية اضطراب الأوضاع، على تطهير هيكل الدين والنظام السياسي من الشوائب، ويعمل على تنظيم الفكر والسلوك السياسي للناس والحكّام.
يعتقد أصحاب هذه النظرية أنّ هذه المسألة وردت عدّة مرات في أحاديث الإمام× عند التعريف بثورته، وأنّ هدف هذه الثورة هو إصلاح الدين، وإحياء سنّة النبيّ، وتطبيق الحدود، وإيجاد الأمن السياسي والاجتماعي بين الناس.
ويظهر هذا العامل في موارد متعدّدة في ثورة الحسين×([32]):
1ـ في خطابه لمعاوية في موسم الحجّ أمام جمع من الصحابة والشخصيات المسلمة البارزة، والتي يذكر فيها شيئاً عن النهضة:
أـ «نرد المعالم من دينك»؛ أي إصلاح الفكر الذي هو تحوّل في روح وضمير الإنسان.
ب ـ «نظهر الإصلاح في بلادك»؛ أي إيجاد تحوّل سياسي اجتماعي بين الناس.
ج ـ «يأمن المظلومون من عبادك»؛ أي إصلاح الروابط والعلاقات الاجتماعية.
دـ «تُقام المعطَّلة من حدودك»؛ أي إيجاد التحوّل في النظام المدني والاجتماعي([33]).
2ـ يورد الإمام× في وصيّته المعروفة لأخيه محمد الحنفية كلاماً يقول فيه: إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، بل خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي([34]).
3ـ يخاطب الإمام الحسين× في آخر لحظات عمره أهل العراق بقوله: أيها الناس، اسمعوا قولي، ولا تعجلوا، حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ، وحتّى أعذر إليكم، فإنْ أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإنْ لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون([35]).
بناءً على هذا فقد استعمل الإمام الحسين× طرقاً ووسائل مختلفة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من تبليغٍ بالقول، وتبليغٍ بالفعل، الذي أدّى في النهاية إلى استشهاده، وأسر أهل بيته.
يستند الشهيد المطهري& إلى كلام الإمام الحسين× في كون ثورة عاشوراء ثورة إصلاحية، ويكتب في ذلك: «لقد طرح طلب الإصلاح في القرآن الكريم بصفته شأناً من شؤون النبيّ، وكذلك مصداقاً من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»([36]).
نقد النظريّة ــــــ
1ـ إذا كان الهدف الأساس من ثورة الحسين× هو إصلاح الدين والمجتمع فهنا يطرح هذا السؤال نفسه: ألم يوجد في ذلك الوقت حلٌّ سلميّ يمكن أن يتخذه الإمام×، ويقوم بواسطته بعملية الإصلاح، دون أن يشهد الناس مزيداً من جرائم يزيد؟
إنّ المصلح الذي يسعى إلى التغيير الفكري والسياسي و… لا يستعمل أساساً العنف والخشونة في ذلك، بل يعرض للناس عقائده وبرنامجه وأفكاره الثقافية والاجتماعية، وفي النهاية يقدم على إجراء التغييرات اللازمة.
2ـ تقوم الإجراءات الإصلاحية على أساس تحسيني للأوضاع، لا تغييري لها. ولكي تبقى البنية التركيبية للمجتمع ثابتة ومحكمة على المصلح أن يعرض طرق حلّ إزالة شوائب المجتمع السياسية والثقافية بحكمةٍ وروية، يرفع بها هذه الشوائب والنواقص، ويصلح بها التواءات المجتمع، لا أن يقوم بإجراء تغييرات أساسية في النظام السياسي والاجتماعي. لكنّ الإمام× كان في صدد إيجاد تغيير أساسي في بنية المجتمع؛ حيث كان يريد أن يستبدل الحكم الأموي الوراثي بالإمامة والخلافة الإسلامية([37]).
3ـ يعتقد أصحاب هذه النظرية أنّ الإصلاح هو كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّه مستوحى من عبارة الصلح، الذي يكون بدافع حبّ الخير.
لكنّ هذا الأمر قابل للبحث فيه؛ فهل جميع مراحل عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي عمليات إصلاحية دائماً، أم هي كذلك فقط في الوقت الذي لم تصل فيه العملية إلى مرحلة التطبيق العملي، وبمجرد وصولها إلى هذه المرحلة يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكم ثورة انقلابيّة؟
ويبدو أنّ المراحل العملية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يأمر بالضرب والقتل والتغيير، هو طريقة انقلابية وتخريبية، إلاّ إذا كان هناك تعريفٌ آخر لكلمة الإصلاح ـ في دائرة الدين ـ يمكن على أساسه اعتبار هذه المراحل العملية من جملة الإقدامات الإصلاحية، لا الثورية. وفي هذه الصورة لا يعود هناك أيّ فرق بين «الإصلاح» و «الانقلاب».
مضافاً إلى ذلك لو كان الإمام× في صدد إصلاح الدين والمجتمع فإنّ هكذا تحرُّك لن يكون موفَّقاً مع وجود حكم بني أمية وصدارة يزيد؛ لأنّ نظامهم الفاسد لن يقبل بمثل هذا التحرّك أبداً. وإذا كان الحسين× في صدد إصلاح الفكر بواسطة إسقاط وتدمير حكومة يزيد فإنّ مسلك هذه الثورة سيكون مسلكاً انقلابياً، لا إصلاحياً.
4ـ يحدث التحرّك الإصلاحي في الأساس عندما لا يكون التحرّك الانقلابي ممكناً وقابلاً للتنفيذ. فالتحرُّك الانقلابي أَوْلى؛ لأنّه يعطي نتيجة أسرع، ويزيل الحكومة الفاسدة والخسائر المادية والمعنوية الناشئة عنها بصورة أسرع. كما هو الحال في إقدام الإمام علي× على عزل معاوية مباشرة؛ من أجل وضع حدٍّ لجرائمه.
وعلى أيّ حال إنّما تصحّ النظرية الإصلاحية إذا أثبتنا من الناحية التاريخية بأنّ الإمام× لم يمتلك شروط تنفيذ ثورة انقلابية على الحكومة؛ ليضع لفسادها حدّاً سريعاً؛ إذ مع توفّر تلك الشروط ليس من الصلاح الإقدام على خطوات إصلاحية تعطي نتائج بطيئة وبعيدة الأمد.
3ـ نظريّة الدفاع (القيام الاحترازي) ــــــ
اتفق الكثير من الذين حققوا في قضية الثورة الحسينية على أن الحسين× وأهل بيته كانوا في كل الأحوال ـ في المدينة ومكة وكربلاء، وحتّى في الطريق من كربلاء إلى الشام ـ في صدد الدفاع عن حرمة الإمامة، وكشف حقيقة ظلم وفساد وكفر بني أمية([38]).
مضمون النظرية ــــــ
يعتقد مؤيِّدو هذه النظرية بأنّ يزيد كان بحاجةٍ إلى غطاء ومبرر منطقي من أجل تحصين وتثبيت سلطته، وكان يشعر بأنّه إذا أخذ البيعة من الحسين× لن يواجه مشاكل في إعمال وتطبيق حكمه، وسيخضع الآخرون له أيضاً، وسيمنع بذلك حصول حركات احتجاجية من الإمام× أو غيره من المعارضين لحكومته في المستقبل.
ومن هذا المنطلق وضع بنو أمية الحسين× ـ معتمدين على قدرتهم الغالبة ـ أمام طريقين: الاستسلام للحكومة (مع مبايعته لها)؛ أو الشهادة([39]).
فأمّا القيام والقتال ضدّ القوة الحاكمة من أجل إزالتها عن منصبها فإنّه يتطلّب إمكانات بشرية واسعة، لم تكن متوفّرة في ذلك الوقت للإمام×؛ لكي يستطيع إسقاط حكومة يزيد ـ التي كانت محكمة الأساس والبنيان في كلّ مكان ـ بسهولة، ومن جهةٍ أخرى نرى أنّ استسلام الإمام الحسين× يعني قبوله بالحكم الوراثي، وإمضاءه فساد وجرائم بني أمية، وإقراره إبادة دين الله تعالى وسنن نبيّه|، والتي لم تكن من مصلحة الإسلام والمسلمين، ولم تكن مقبولة عند الإمام الحسين×.
وبناءً على ذلك لم يتبقَّ للإمام الحسين× إلاّ وسيلة واحدة، وهي الإقدام على حركة ثورية تفضح نوايا بني أمية الخبيثة، وتكشف كفرهم وصورتهم الدنيّة أمام الناس، يمنح بواسطتها العقلاء الغيرة والحميّة للنهوض إلى القتال والدفاع عن دين الله وسنّة نبيّه|([40]).
تبدأ ثورة الإمام× بالامتناع عن بيعة يزيد علناً. فحين دعا والي المدينة «الوليد بن عتبة» الإمام إلى بيعة يزيد رفض الإمام× هذه البيعة، وبيّن فضائله وأولويّته، وكذلك بيَّن سلوك يزيد المخالف للدين في خطبته المشهورة: إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة…، ويزيد رجلٌ شاربٌ للخمر، قاتل للنفس المحترمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله([41]).
في تلك الظروف كانت كل الأدوات والإمكانات متوفرة للحكومة الأموية. وقد قاموا ـ لتحقيق أهدافهم الشيطانية ـ بتحريف دين الله، ووظّفوا رواةً يروون الأحاديث والأخبار بصورةٍ كاذبة؛ ليضلّوا قلوب الناس وأذهانهم، ويعيدوهم تدريجياً إلى عصر الجاهلية. ولم يكن عند الإمام الحسين× ـ في ذلك الوقت ـ الإمكانات الكافية لتوعية الناس وتنبيههم وتحذيرهم من بني أمية.
من هنا يعتقد أصحاب هذه النظريّة أنّ الإمام× بادر قبل أن يسافر إلى الكوفة إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن توقظ الناس وتنبِّههم إلى مقاصد وأهداف بني أميّة بصورة أسرع. ومن هذه الإجراءات: خروج الإمام× غير المتوقَّع إلى مكة، ومن هناك إلى العراق، وإلقاء محاضرات كثيرة في أماكن مختلفة، وأمام جماعات مختلفة من الناس، وإرسال الرسائل والخطابات إلى أطراف البلاد الإسلامية، ومقابلة قبائل وشخصيّات مسلمة بارزة، والتفاوض معهم، وتركه المفاجئ لمكّة، وعدم إتمامه الحجّ، وحمله المجموعة الصغيرة المؤلَّفة من صغاره ونسائه، الذين كانوا أشد الناس ظلماً واضطهاداً على مرّ التاريخ. والصورة الأليمة التي حصلت بها واقعة الطفّ المحزنة، واستشهاد المظلومين، ومسير قافلة الأسرى إلى الشام، مصحوبة بخطابات السيدة زينب÷، وأمّ كلثوم، والإمام زين العابدين×، وباقي الأسرى والسبايا…، كلّ ذلك كان بداية أخرى لطريق إفشاء حقيقة النظام الأموي الفاسد، وبيان حقيقة نواياهم الخبيثة؛ بحيث يعلم جميع الناس، حتّى أهل الشام ـ الذين يتصوَّرون أن بني أمية هم أهل النبيّ| وقرابته ورحمه الأقرب ـ، حقيقة بني أمية، ومَنْ هو النبيّ| وأهل بيته حقّاً، ولماذا استشهدوا وأسروا([42]).
وعلى أساس هذه الرؤية كان الإمام الحسين× وأهل بيته في جميع الأحوال من المدينة إلى مكة، ومن هناك إلى كربلاء، وحتّى من كربلاء إلى الشام…، في صدد إفشاء ملامح استبداد ونفاق بني أمية، وهناك عُرفت الشهادة كأفضل وسيلة لإيقاظ الناس، وفضح العدوّ، والدفاع عن الدين.
نقد النظرية ــــــ
هذه الرؤية تقابل نظرية الانقلاب والثورة على الحكومة، التي كان يرى فيها أصحابها أنّها ممكنة بحسب الشواهد التاريخية؛ باعتبار أنّه ثبت بالشواهد التاريخية أنه لم يكن هناك أيّ وسيلة أخرى لإسقاط حكومة يزيد غير الوسيلة الدفاعية التي قام بها الحسين×، وهي الثورة، وإلاّ فمع توفُّر الشروط والإمكانات اللازمة للقضاء على الحكومة فليس هناك أيّ معنى للخطة الدفاعية، وحتّى سياسياً ستعتبر هذه الخطّة نوعاً من الضعف، الذي هو بعيدٌ عن الإمام الحسين×.
أضِفْ إلى ذلك أنّ الشخص الذي يملك القدرة الكافية لاستئصال الكفر والفساد من جذوره، وبسرعة، ليس لديه أيّ مبرّر أن يضحي بحياته وحياة أعزّ الناس إليه، ويجرح قلوب المؤمنين هكذا.
كما ثبت ـ بحسب الشواهد التاريخية ـ أنّ السكوت عن حكومة يزيد والقبول بها، ولو من باب التقية، ليس في مصلحة الإسلام والمسلمين. ولو كانت أسباب الثورة مهيّأة للحسين× في زمن معاوية، أو لسائر الأئمّة في باقي الأزمان أمام الحكّام الجائرين، لوجب عليهم الثورة، ولقاموا بها فعلاً، ولكنّها لم تكن مهيّأة.
4ـ نظرية التعبُّد (التكليف) ــــــ
يرى بعض أصحاب الرأي أنّ ثورة عاشوراء قامت على أساس أمر تعبّدي كان الإمام الحسين× مكلَّفاً به؛ بمعنى أنّ الحسين× كان في صدد تنفيذ مهمة إلهيّة عيَّنها الله له من قبل، واختصّه بها.
وقد ورد في تفسير هذا القول عبارات كثيرة ومختلفة، لا بدّ من التطرّق إلى الفرق بينها؛ للتمكن من تعيين المقصود منها، ثم نعمل على نقضها.
وهنا نشير إلى رأيين:
1ـ ربما كان أقدم تفسير لهذه النظرية هو تفسير الشيخ يوسف البحراني ـ أحد المفكّرين الأخباريين الشيعة ـ الذي يقول في تفسير ثورة عاشوراء: «لقد أمر الله تعالى الحسين× بأن ينال هذا المجد العظيم، وأن لا يتوانى عن التضحية ونيل الشهادة وأسر أهل بيته في سبيل الله»([43]).
وعلى أساس هذا التفسير تكون الثورة الحسينية مهمة تعبّديّة مختصة بالحسين×، وموكلة إليه من الله تعالى([44]). وقد لبّى الحسين× نداء الواجب في تأديتها بكلّ خضوع وشوق وعرفان. وحتّى في أصعب اللحظات عند مصرعه كان يقول: «إلهي رضاً بقضائك، وتسليماً لأمرك»([45]).
بناءً على هذا لم تكن ثورة عاشوراء مبنية على أساس المعادلات السياسية والاجتماعية، ولا يمكن تحليلها على أساس ذلك، بل هي مجرّد مهمّة إلهيّة مختصّة فقط بالحسين×، لا يمكن اعتبارها نموذجاً عامّاً لجميع الناس في كلّ العصور.
2ـ في المقابل هناك محملٌ آخر لهذه النظرية فسّرت فيه ثورة عاشوراء على أنها من باب العمل بالوظيفة الشرعية؛ لأن الإنسان المؤمن يعتبر نفسه دائماً مكلَّفاً بإنجاز الوظائف الدينية المطلوبة منه، سواءٌ كانت واجبة وجوباً تعبدياً أم توصلياً، وسواءٌ كانت تعود على ذلك الشخص أم لا.
وبناء على هذا التفسير كان الحسين× يعمل بواجباته الدينية، من الأمر بالمعروف والنهي عن منكر وإقامة العدل ومحاربة الظلم والفساد وإحياء دين الله وإقامة شعائره و…. وسلوك الإمام هذا مقبولٌ في دائرة الأحكام الشرعية، وغير خارج عنها، وبالتالي يمكن إعطاء المسلمين منه نماذج سلوكيّة على هذا الأساس.
لقد تطرّق الإمام الخميني& في بعض كتبه ومرويّاته إلى مفهوم «التكليف» في موضوع ثورة عاشوراء، حيث يقول: «إن سيد الشهداء× أخذ على نفسه تكليفاً بأن يذهب إلى أرض كربلاء، ويُقتل هناك أيضاً، ويمحو آثار معاوية وولده يزيد»([46]).
ومن الواضح أن مقصود الإمام الخميني هنا من كلمة «التكليف» معنى أكبر من مجرّد أمر تعبدي مخصوص بالحسين×، ومعيَّن له من قبل؛ لأنه يرى في قضية ثورة عاشوراء أنّها تمثّل مسائل أخرى أيضاً، كإقامة العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([47])، والتصدّي لحكومة الظلم([48])، وضع اليد على حكومة المسلمين([49])، وفضح يزيد وبني أمية([50])، وإحياء الإسلام وشعائره، و…([51]). ويتكلّم عنها بنحوٍ يوحي أنّ كلمة «التكليف» عنده تختلف عمّا ذكره الآخرون، كالبحراني.
بناءً على هذا فالمقصود هنا من نظرية «التكليف» هو التفسير الأوّل؛ لأن التفسير الثاني للإمام الخميني يتناسب أكثر مع «النظرية التركيبيّة»، التي سنتعرض للبحث فيها لاحقاً.
مباني النظريّة ــــــ
1ـ تُعتبر ثورة الحسين× عند القدماء أمراً تعبّدياً. والمراد بكلمة «تعبّدي» المصطلح الأصولي، الذي يقابله مصطلح «توصّلي».
وقد فسّر الأصوليون هذه الكلمة بعدّة معانٍ([52])، لكنّها هنا بمعنى «تنفيذ أمرٍ ما بداعي الامتثال لإرادة الباري عزَّ وجلَّ وكسب رضاه، حتّى لو لم يكن الفاعل عالماً بمصلحة هذا الأمر وأسراره الخفية»([53]).
من هذه الجهة لا تكون «النزعة التكليفية» بنفسها عملاً خارجياً، بل هي أسلوب يكون فيه الفاعل عند القيام بالعمل متوجِّهاً إليه، ومعتبراً أنّ كل عمل يقوم به هو بداعي التقرّب إلى الله تعالى.
2ـ عندما يعلم الإنسان رفيع الشأن بأنّ الله يريد منه شيئاً فإنّه لا يدَعُ أيّ تردّد أو كسل يعيقه عن تأدية هذا الأمر، حتّى لو كان هذا العمل عند العقل غير منسجم مع المصالح الشخصية والمعادلات السياسية([54]).
3ـ إنّ سبب امتثال الأمر يتوقّف على العلم بالتكليف. فعلم الإنسان العادي بتكليفه يحصل له بواسطة الأحكام الشرعية والعقل، أما الإمام المعصوم فهو ـ كما يعتقد الشيعة فيه ـ عالمٌ بجميع الأحكام والأوامر الإلهية، وبناءً عليه عندما يكلِّفه الله بأمرٍ ما فلن يكون هذا الأمر خارجاً عن دائرة علمه أصلاً، كما أنه لا يأتي بعملٍ غير مأمور به.
4ـ الإمام المعصوم الذي وصل إلى قمّة الكمال هو ـ يقيناً ـ منزَّه عن العمل العبثي وغير المجدي، ومنزَّه أيضاً عن الأسس غير الأخلاقية والأعمال الرذيلة، وكذلك منزَّه عن الحقد والعناد وطلب الدنيا وحبّ الشهوة و…، ولا يخرج بأيّ صورة عن دائرة التكليف أبداً.
5ـ إذا قام المكلَّف بعمله بدافع تأدية الواجب، وكان لديه دوافع أخرى لا تتنافى مع قصد القربة ورجاء المطلوبية، فإذا التفت إلى نية القربة أثناء عمله لن ينقص من ثواب عمله شيء أبداً، بل سيزيد من قيمته عند الله تعالى أيضاً.
6ـ بالتوجُّه إلى الروايات الكثيرة عن النبيّ| والأئمّة المعصومين^، يمكن أن نستنتج أنّ الثورة الحسينية كانت معلومة ومطروحة منذ البداية، بل حتّى قبل ولادة الحسين×، وكان الإمام الحسين نفسه على علمٍ واطّلاع كامل عليها أيضاً. وبناءً عليه كان الإمام على علمٍ بعاقبتها أيضاً. وعلى هذا الأساس لا يوجد أيّ توضيح لإقدام الحسين× يليق بشأنه ومقامه سوى أن نقول بأنّ ثورته كانت تأدية للواجب وإرضاء للباري عزَّ وجلَّ.
ومن هذا المنطلق، وعلى أساس نظرية التعبُّد هذه، لم تكن ثورة الإمام الحسين× من أجل نيل الحكومة، ولا مرتبطة بالحسابات السياسية. والدليل على هذا وصيته الشريفة، التي ذكرها حين أراد الخروج من المدينة، ووقف قرب قبر النبيّ|، وقال: «اللهمّ إنّي أحبّ المعروف، وأنكر المنكر، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَنْ فيه إلاّ ما اخترتَ لي ما هو لك رضاً، ولرسولك رضاً»([55]).
وفي آخر لحظات حياته وجّه نفسه إلى عتبة الباري عزَّ وجلَّ قائلاً: «إلهي صبراً على قضائك يا ربّ…، صبراً على حكمك»([56]).
وقد أجاب الإمام الحسين× المعترضين والمنتقدين له، الذين حاولوا منعه من الذهاب إلى العراق، وسألوه عن سبب قراره هذا، بأنّ هذا الأمر هو بإرادة ومشيئة الله تعالى، وقد صوَّر لهم الثورة على أنها مهمّة إلهيّة.
وقبل تحرُّك الحسين× إلى العراق أسرع إليه أخوه محمد بن الحنفية، وعرض عليه رأيه بالإقامة في المدينة أو في مكّة، أو الهجرة إلى اليمن، فأجابه الحسين×: سأنظر في رأيك. لكنْ في الصباح عندما علم محمد بخروج الحسين× لحق به وأدركه، ثم أمسك لجام فرس الحسين×، وقال: أَلَمْ تعدني بأنك ستنظر في طلبي؟ فأجابه الإمام×: بلى، ولكنْ رأيت رسول الله في الرؤيا، وقال لي: يا حسين، اخرج إلى العراق؛ فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً([57]). وعند ذلك نظر ابن الحنفية إلى أخيه، وقال: فلِمَ تأخذ معك النساء والأطفال؟ أجاب الحسين×: قد شاء الله أن يراهنّ سبايا([58]).
والحاصل أنه يمكن لأصحاب هذه النظرية ـ من خلال تحليل ظروف ومكانة الإمام الحسين×، والروايات والأخبار الموجودة حول ثورته الشريفة، وخطبه، وأحاديثه المنسوبة إليه ـ أن يخرجوا بنتيجة مفادها أنّ الإمام× حين ثار كان يؤدّي واجباً امتحنه الله تعالى به، ونجح الإمام في تأديته.
ولا شكّ في أنّ صحة هذه النظريّة مرهونة بالإجابة عن الأسئلة التالية:
1ـ تعارض هذه الفرضيّة النقل التاريخي القائل بأنّ الحسين× بعد مقابلته الحُرّ بن يزيد الرياحي ـ رسول عبيد الله بن زياد ـ قرَّر العودة إلى الحجاز (المدينة)؛ إذ لو كان الإمام الحسين× مكلفاً من قبل الله بالذهاب إلى كربلاء والاستشهاد هناك فإنّ إعراضه عن هذا التكليف، وطلبه العودة إلى المدينة، سيكون مناقضاً لمشيئة الله. وهذا ما يحتاج إلى تبريرٍ آخر.
2ـ ينبغي أن يُسأل أصحاب هذه النظريّة: إذا كانت عاقبة ثورة الحسين× (أي استشهاده وأسر أهل بيته) من الأمور التي عُيِّنت له مسبقاً، حتّى لو كان الحسين× قد اختار بإرادته الخروج والاستشهاد، فلو لم يمتثل الإمام الحسين×، ولم يخرج إلى العراق، أو أنّه قصَّر في تأدية هذه الوظيفة، فهل سيستحقّ العقاب من قبل الله تعالى؟ يجب على أصحاب هذه النظرية الإجابة عن هذا السؤال.
3ـ بعض الأخبار والروايات التي تستند إليها نظرية «التكليف» قابلة للمناقشة من جهة السند، وبعضها قابلٌ للتوجيه أيضاً، ممّا يضطر أصحاب هذه النظرية إلى التلفيق فيها([59]).
4 ـ على فرض صحّة الروايات، وبالتالي تمام هذه النظرية، تبقى النكتة الملفتة فيها هي أنّ هذا التحليل هو من جهة نظر الخالق إلى المخلوق، لا من جهة الرؤية البشرية، أي من المخلوق إلى المخلوق. والحال أنّ تكليف الإنسان في هذا الكون هو أن ينظر إلى الأمور والأحداث ـ والتي من جملتها واقعة كربلاء ـ من موقعه هو كمخلوقٍ، حتّى يستطيع أن يأخذها معياراً له في حياته السياسية والاجتماعية؛ لأن الله عزَّ وجلَّ جعل الأوصياء والنجباء أسوةً يتأسّى بهم البشر في سلوكهم، يقول القرآن الكريم : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21)، وبالتبع سيكون خلفاء النبيّ| أيضاً أسوةً وقدوة. فلو كانت حياة الحسين× واستشهاده خارجةً عن دائرة المعقول، وعن طاقات البشر، فكيف يمكن أن يجعله الله تعالى نموذجاً اجتماعيّاً، ومحتذى فرديّاً وسلوكيّاً للبشر؟
وبناءً عليه فالأوجب هو الالتفات إلى الجوانب البشرية في تحقيق ثورة عاشوراء، لا معالجة جوانب أخرى.
وقد وجَّه الشيخ مطهري& خطاباً إلى الذين يسندون سبب ثورة كربلاء إلى رؤيا، أو إلى أمور خارجة عن طاقة البشر، فقال: «إذا كان الأمر كما تقولون فلا يمكن اعتبار الإمام الحسين× منهجاً يُحتذى به، ولا يمكن للآخرين اتّخاذه قدوة وإماماً لهم»([60]).
ومن هنا يكون الإشكال الأساس على هذه النظرية هو أنّهم يرَوْن ثورة الحسين× خارجة عن نطاق قدرة البشر، وغير قابلة للاقتداء بها، بينما الحسين× يقول: «ولكُم فيَّ أسوةٌ»([61]).
5ـ النظريّة التوفيقيّة ــــــ
تعتمد ثورة الحسين× على مسائل مختلفة لا يمكن الوصول إلى تحليل مناسب للثورة دون الالتفات إليها. فحادثة كربلاء هي عبارة عن سيرة الإمام المعصوم العملية، ومن الواضح أنّ المعصوم× هو وارث الأنبياء ومظهر الدين، وهي تشبه الدين من حيث اشتمالها على أبعاد ومراحل متعدّدة، وكل مَنْ يعمل على تحقيقها والبحث فيها يراها بصورة مختلفة، ويفسِّرها على أساس هذه الرؤية.
وبناءً على ذلك ليس من اللائق عرض هذه الثورة الدينية في قالب فرضيّة ذات سبب واحد؛ بمعنى إمّا أن يكون سبباً سياسياً، أو اجتماعياً، أو عرفانياً؛ لأنّ القبول بأيّ واحدة من هذه الفرضيات، وحصر القضية بها، سيوقع المحلِّلين في مشاكل عند تفسير بعض أبواب القضية الحسينية.
لذا فالثورة الحسينية ثورةٌ، وهي في نفس الوقت عملية إصلاحية، وأداء للواجب، وإلقاء للمسؤولية على المجتمع، وفضح للحكومة، وتدميرٌ لها أيضاً… لقد كان الحسين× يسعى لإصلاح الفكر، وفي صدد تغيير البنية الاجتماعية أيضاً. فقد كانت ثورته سياسية واجتماعية وثقافية في آنٍ واحد، وكانت من أجل إسقاط الحكومة الأموية، وكانت لأجل تشكيل حكومة دينية عادلة أخرى؛ لأن للحسين× في كلّ هدف من هذه الأهداف كلامٌ، وله في كلّ جهة منها رسالة واضحة. ومن هذا المنطلق هناك نظرية يمكن لها أن تكون تفسيراً صحيحاً لهذه الثورة العظيمة، وفيها يتمّ التوجّه إلى جميع أهداف وعوامل الثورة، والإجراءات التي قام بها. ويعبَّر عن هذه النظرية بـ (النظرية التوفيقية) أو (النظريّة متعدّدة العوامل). وينبغي أن نعرض هذه النظرية عبر السؤال عن سبب هذه الثورة، وماهيّتها، وكيفيّة حصولها، وذلك على الشكل التالي:
الوضع الموجود:
وضعية القيام (الوضع المطلوب):
أبعاد النظرية التوفيقية للثورة ــــــ
لقد رأينا من خلال التحقيقات في تاريخ الحياة البشرية والسنة الإلهية أنّه كلّما ابتليت المجتمعات بأزمات فكرية وثقافية وعقائدية فلا بدّ أن يتبعها اضطرابات سياسية واجتماعية واقتصادية، وعند ذلك يظهر الأنبياء والمصلحون بأمر من الله عزَّ وجلَّ لهداية الأمم، ونجاة البشرية كافّة. فقد تمّ إرسال النبيّ محمد|؛ لكي ينجي المجتمع في عصره، وينقله إلى سناء نور الدين الإلهي، ويمهِّد لطريق هداية وتكامل المجتمع بواسطة عرض أحكام وأوامر الإسلام. وعلى هذا الأساس حصلت ثورة الإمام الحسين×، التي راعت قوانين العالم الإسلامي؛ من أجل إصلاح المجتمع فيه واتّحاده؛ كي تكون ثورة الحسين× منهجاً يُقتدى به في كلّ زمان ومكان.
عندما يريد أيّ مصلح القيام بعملية إصلاحية عليه أن يراعي عند قيامه وضوح الفكرة المطلوبة لديه عن مصير المجتمع مقابل الوضعية الموجودة حاليّاً فيه، وأن يرى النواقص والإشكالات الموجودة؛ بأن يتعرّف عليها في البداية، ثم يبحث عن طرق معالجتها وإصلاحها. من هنا نرى أنّ المجتمع المثالي الذي كان مطلوباً عند الحسين× هو المجتمع الذي كان في عصر النبيّ|، لكنّ إجراء تحقيق عن العالم الإسلامي يشير إلى أنّه كلما ابتعدنا عن عصر النبيّ| ابتعدنا أيضاً عن حقيقة الإسلام وقِيَمه المعنوية، واقتربنا أكثر من عصر الجاهلية، ولم يبقَ للإسلام ما يقيه؛ حيث سيطرت عليه تلك الحالة الجاهلية، وحاصرته الاضطرابات الفكرية والثقافية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية من كلّ جهة. كما تمسّك الحكام الأمويون ـ الذين لم يعطوا الإسلام حقّه ـ بمقعد الخلافة، وحكموا باسم الدين والإسلام، وأطلقوا العنان لأهوائهم في كلّ الأمور، وعانت الأمة منهم أنواع الظلم والقهر، وسادت المجتمع الإسلامي أجواء الفساد والفوضى والهلاك… في هكذا ظروف ماذا ستكون ردّة فعل المعصوم؟ وكيف سيتصرّف من أجل تخليص الناس من هذا الشرّ المحيط بهم؟ وما هي الوسائل التي سيستعملها في ذلك؟ ولأيّ شيء سيعطي الأولويّة؟.. لقد كانت ثورة عاشوراء جواباً عن جميع هذه الأسئلة.
محتويات نموذج الثورة ــــــ
يمكن الإشارة إلى أهمّ أهداف وأهمّ إجراءات قام بها الإمام× وأصحابه ـ الذين بيَّنوا سبب وكيفية وماهية نموذج الثورة ـ في ما يلي:
1ـ إحياء شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وذلك أمام فساد وظلم حكومة بني أمية، وانحرافاتها الفكرية والعملية، التي كانت مخبّأة تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما كان من الحسين× إلاّ أن يرفع راية الحرب عليهم؛ حتّى يضع قانوناً عامّاً للرقابة، أي تفعيل واجب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، الذي كان قد أُهمل ونُسي بين الناس، ويمنح الأمّة الشجاعة والإحساس بالمسؤولية، ويعرّفهم تكليفهم الديني في كلّ الظروف. لذلك عرض الحسين× في وصيته الشريفة هدفه بالصورة التالية: «أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر»([62]).
وأيضاً عند خروجه من المدينة مرّ بقبر جدّه| وقال: «اللهم إنّي أحبّ المعروف، وأنكر المنكر»([63]).
وهكذا لم ينهض الحسين× لإصلاح الفروع، بل ذهب مباشرةً نحو الأصول وجذور المنكر التي كانت في نموّ مستمرّ، يمكن أن يؤدّي بالدين والسنّة النبوية إلى الهلاك. ومن الجليّ أنّ منشأ هذه الأمور وأصلها كان حكم بني أميّة الجاهلي.
2ـ إصلاح الفكر: إنّ أهمّ سبب لانحطاط وتخلّف المجتمع الإسلامي هو الفكرة الخاطئة المأخوذة عن الدين وعقائده. كما أنّ أهم العوامل التي أدّت إلى ظهور الاعتقادات الدينية الخاطئة والتعصبات القبليّة هي:
أـ وصول المستغلّين المتنكّرين بزيّ الإسلام إلى منصب الخلافة. وقد عمل هؤلاء على استغلال الدين في تبرير أهدافهم ومنافعهم الشخصيّة وحكومتهم الفاسدة. وهذا ما بدأ فعلاً بعد رحيل النبيّ|.
ب ـ الابتعاد عن عقائد الإسلام، والعمل على إبعاد أنصار التوحيد الحقيقيّين ـ كأمير المؤمنين× وسلمان وعمّار وأبي ذرّ و… ـ عن مواقع التأثير في الحكومة.
ج ـ تسليم الساحة للمحرِّفين، أمثال: كعب الأحبار اليهودي، وأبي هريرة، و…، الذين سعَوْا في تضليل الناس، وحرف أذهانهم عن حقيقة الدين وسيرة النبيّ، وذلك بواسطة تزوير الأحاديث، وتفسيرها كما يريدون.
دـ ترويج عقيدة الجبر، وضرورة إطاعة الخليفة.
هـ ـ تشويه سمعة أصحاب الرسول المجاهدين؛ كالإمام عليّ× وأبي ذرّ…
لذا كان من واجب الإمام الحسين× ـ بصفته حجّة الله في الأرض، ومصباح الهدى([64]) ـ أن يقدم على إصلاح الفكر الديني في المجتمع، وتغيير نظرة الناس إلى منبع الثقافة الأصلي لديهم، أي الدين.
ولأجل ذلك فقد عزم الإمام× على محاربة بني أمية، وهداية الناس وتخليصهم من أمواج الجهل والظلام، وإرشادهم إلى برّ الأمان، وإبطال جميع الأفكار الباطلة والمنحرفة عن الدين، والتي كانت هي الرائجة في ذلك الوقت. ولهذا السبب يقول الحسين×: «إنّي خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله، والسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب×»([65]).
ومن الواضح جدّاً أنّ إصلاح الأمة متوقِّف على إصلاح الدين والفكر الديني، وإصلاح الدين أيضاً متوقِّف على وجود نظام رقابي على السلطة. وبناءً على هذا فإصلاح المجتمع، والفكر الديني، ونظرة الناس إلى الدين..، هي هدفٌ آخر من أهداف ثورة الإمام×.
3ـ نفي التواطؤ مع الطاغوت: إنّ السكوت أمام انحراف حكومة الظلم والفساد يوجب تثبيت وترسيخ المعايير والقيم المعادية للإسلام، ويعطي للحكومة الفاسدة المشروعية السياسية والاجتماعية. لذلك فقد حاول الإمام الحسين× في تلك الظروف ـ التي يسعى فيها بنو أمية لتثبيت وتشريع نظامهم المَلَكي والإرثي والعنصري بواسطة أخذ البيعة من الحسين× ـ رفض إعطائهم إيّاها بأيّ شكل من الأشكال، وهذا ما أوحى للناس بعدم مشروعيّة هذا الحكم والنظام، وأدّى إلى اعتبار إسقاطه وظيفة كلّ مسلم.
لقد حاول معاوية عندما كان جالساً على كرسي الخلافة أخذ البيعة من الحسين×، لكنّ الحسين× رفض ذلك، ووجَّه إليه رسالةً معترضاً عليه في ذلك، ورد فيه: «إنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمّة من إمارتك عليها»([66]).
وكذلك قال× في جواب عبد الملك حين دعاه إلى بيعة يزيد: «على الإسلام السلام إذا ابتُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد… الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان»([67]).
كما ورد في جواب الحسين× لأخيه محمد بن الحنفية يقول فيه: «يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن معاوية»([68]).
ومن هنا يعتبر إسقاط حكومة الجور وفضح صورة الأمويين المزيّفة بُعْداً آخر لثورة الحسين×.
4ـ إحياء مفاهيم الحرّية ورفض الذلّ وطلب الشهادة: لقد شجّع الحسين× الناس على القيام وإسقاط النظام الفاسد بكلّ ما يستطيعون، وإنْ لم يقدروا على ذلك حثّهم ـ على الأقلّ ـ على عدم الخضوع والاستسلام لهذا النظام. فالموت في نظر الإمام الحسين× أشرف من حياة الخزي والعار. لذا أطلق شعاره المشهور: «الموت أَوْلى من ركوب العار»، و«هيهات منّا الذلّة». كما أنّه خاطب الجاهلين وأصحاب المصالح والدنيا بقوله: «إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً»([69]).
5ـ الاستفادة من كلّ القوى والإمكانات: لمّا كانت كلّ الوسائل والإمكانات (من مال، وقوّة، وحكومة، ووسائل إعلام…) في يد العدوّ، وكانت تُستعمل في تدمير القيم الإسلامية، والإساءة إلى الثلة الطاهرة من أهل بيت النبيّ وأصحابه (كلعن أمير المؤمنين×)، وإلقاء الرعب في المجتمع…، لم يعُدْ يسمع لشخصٍ كلام أو اعتراض على الباطل؛ بسبب اليأس والإحباط الذي أصاب الأمّة. والوحيد الذي نهض في مواجهة تلك الحالة هو الإمام الحسين×؛ فقد قام بكلّ وجوده، حاملاً نساءه وأطفاله الصغار معه، مغتنماً كلّ فرصة في سبيل ذلك، ومستفيداً من كلّ موقع ومكان، ومستعيناً بكلّ فرقةٍ ومحبّ باع نفسه من أجل حفظ الدين وسنّة النبيّ|، حتى أنّه ضحّى برضيعه البالغ ستة أشهر فقط، وترك ابنته الصغيرة لتُسلب وتؤسر عند أعدائه. وكان جوابه للذين حذَّروه من الخروج إلى العراق أنّ رسول الله| قال له في الرؤيا: «إن الله شاء أن يراك قتيلاً»، كما أجاب مَنْ سأله عن سبب اصطحابه النساء والأطفال بقوله: «إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا»([70]). كما أنّه وجّه كلمة لكلّ المؤمنين والعاشقين، وقال: «ألا مَنْ كان فينا باذلاً مهجته، وموطِّناً على لقاء الله نفسه، فليرحَلْ معنا، فإنّي راحلٌ مصبحاً إنْ شاء الله تعالى»([71]).
لم يتوقَّف الحسين× في لحظة من لحظات وجوده في المدينة ومكة وعند الكعبة، وعند مسيره إلى العراق، بل حتّى عند مصرعه…، عن تحذير الناس من حقيقة الأمويين المزيَّفة والفاسدة، مستفيداً في ذلك من كلّ الفرص المتاحة، ومظهراً مظلوميته وغربة الإسلام أمام الناس. بل كان يتحدّث إليهم ويخطب فيهم في كلّ مناسبة، ويدعوهم إلى نصرة الدين، بدءاً من شجعانهم وكهولهم ـ كزهير بن القين ـ، إلى شبابهم حديثي العهد بالإسلام ـ كوهب ـ، وانتهاءً بنسائهم الكبار العجائز ـ كأمّ وهب ـ، أو اللاتي تزوَّجْنَ حديثاً ـ كزوجة وهب ـ، لقد دعاهم جميعاً إلى الإيمان والإيثار، وإلى القيام والجهاد في سبيل الله، وإحياء روح المقاومة ومقارعة الظلم.
6 ـ إعطاء الأهمّية لإرادة الناس وتصميمهم: تترك الثورات الإصلاحية في نفسها أثراً على أفكار وآراء الناس ومشاركاتهم. وقد جرت حركة الحسين× في ظروف خاصّة كانت تحكم المجتمع في ذلك الزمان. وبمجرَّد أن علم أهل الكوفة بتحرُّك الإمام أرسلوا إليه الكتب والرسائل التي يدعونه فيها للمجيء إلى الكوفة، وبهذا أظهروا استعدادهم لنصرة الإمام وحمايته والمشاركة في ثورته. ومع أنّ دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين× كانت ظاهرة سياسية اجتماعية حرّكتها ثورة الإمام نفسه فقد تركت تأثيرات عدّة على شكل وطابع قضية الإمام الحسين×. وقد دلّ إرسال الإمام× مسلمَ بن عقيل إلى الكوفة ممثِّلاً عنه على اهتمامه× برغبة أهل الكوفة بالمشاركة في الثورة، كما أنّه بحركته نحو الكوفة يكون قد أتم الحجّة عليهم، وأجابهم إلى ما بذلوه له من النصرة والعون.
أضِفْ على ذلك أنّ تاريخ أهل الكوفة مهما كان سيئاً، وأنّهم هم الذين نقضوا بيعتهم لأمير المؤمنين× والإمام الحسن×، فقد رأى الحسين× أنه إنْ لم يلبِّ دعوتهم لأمكنهم أن يحتجّوا عليه ويعترضوا، دون أن يكون لديه جوابٌ عن ذلك.
من هنا لا يمكن لنا الجزم بأنّ الحسين× خرج فقط لوضع اليد على الحكومة والسيطرة عليها؛ لأنّ مثل هذا الخروج سيحتاج إلى تأسيس جيش، وتحصينه، وتأمين التجهيزات العسكرية والوسائل القتالية، وغير ذلك. ومن الواضح أنّ هذا الأمر لا ينسجم مع إحضار النساء والأطفال إلى المعركة! ولكنْ من جهة أخرى لا يمكن القول بأنّ الإمام لم يكن مهتمّاً أبداً باستلام حكومة الإسلام وقيادة المسلمين؛ لأنّ دور الإمامة في الإصلاح يتجسّد في قلب الحكومات والمجتمعات من الأساس. أضِفْ إلى ذلك أنّه إذا سلمنا بأنّ الإمام خرج بهدف إحياء الدين والسنّة النبوية ـ وهو كذلك ـ فلا يمكن تطبيق الأصول الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقضائية و… بدون تشكيل حكومة؛ إذ إنّ الإسلام دين اجتماعي لا يمكن تطبيق أحكامه وقواعده إلاّ في ظل حكومة إسلامية عادلة. ولو لم ينقض أهل الكوفة ميثاقهم مع الإمام الحسين×، ولم يقصّروا في نصرته، لكان من الممكن أن تؤدّي تلك الثورة إلى زوال بني أمية عن الحكم. وعند ذلك سوف يشكِّل الإمام الحسين× ـ وبدون أيّ تردُّد ـ حكومة عادلة، كما فعل جدّه محمد|، وأبوه عليّ×. وفي ذلك يقول الإمام الخميني&: «حياة سيد الشهداء هي حياة صاحب العصر، وحياة كلّ الأنبياء، من أولّهم آدم إلى آخرهم محمد|، وهي أنّهم كانوا يسعون لإقامة حكومة العدل مقابل حكومة الجور»([72]).
ومن الواضح أنّ استلام زمام الأمّة هو من حقّ المعصوم×، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة عن أئمّتنا: «السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة، وموضع الرسالة…، وساسة العباد، وأركان البلاد»([73]).
ونختم بكلامٍ للإمام الحسين× تتجلّى فيه جميع أهدافه؛ إذ يقول: «اللهمّ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكنْ لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك»([74]).
والحاصل أنّه لا يمكن الوصول إلى مجتمع كهذا من دون تشكيل حكومة. وبناءً على هذا فإن تشكيل حكومة عادلة يعدّ من أهمّ أهداف هذه الثورة، لكنّ تغيّر الظروف وتقلّبها حال دون تحقيق هذا الهدف.
امتيازات النظريّة التوفيقيّة ــــــ
أعتقد أنّ للنظرية الجديدة امتيازات عدّة، تتفوّق بها على النظريات الأخرى المخالفة لها. ونذكر بعضاً منها في ما يلي:
1ـ إنها جامعة وشاملة لجميع الجوانب: والنظر هنا إلى أنّ التحليل فيها غير محدود باتّجاه محدَّد أو رؤية واحدة فقط، بل تعمل على تحليل جميع الجوانب والزوايا والأحداث الصغيرة والكبيرة، وتأخذ بعين الاعتبار جميع أقوال الإمام× وأصحابه؛ بحيث يكون فيها كلّ حدث من الأحداث أو الأقوال مكمّلاً للثورة من موقعه الخاصّ. كما أنّ التحليل في هذه النظرية يتّبع أسلوباً يمنح قضية كربلاء عظمة ورونقاً خاصّاً. خلافاً للنظريات الأخرى التي تتّبع في التحليل أسلوب الرؤية الواحدة؛ إذ تعرّض أصحابها إلى بعض الأحداث والأقوال فقط، وغفلوا عن الباقي.
2ـ إنها قابلة للتعميم، وحاوية للعبر: تحتوي هذه النظرية ـ بشكل عامّ ـ على الكثير من العبر والرسائل الخاصة، التي يصحّ إجراؤها في كلّ ظرف وفي أيّ مجتمع. فمثلاً: تشتمل النظرية التوفيقية لثورة عاشوراء على تحليل خاصّ؛ إذ إنّها تدعو إلى التضحية والشجاعة عند احتدام القتال، بينما في الظروف العادية والمستقرة تعمل على إلقاء مسؤولية الإصلاح والإعمار على عاتق المؤمنين، وكذلك تعيّن العمل في ظروف الاختناق والضيق والضغوطات السياسية. وعليه فثورة الإمام الحسين× هي المعيار العامّ لكيفية التصرّف والتعامل في أوضاع مختلفة وعوامل متفرّقة. بينما ليس للنظريات الأخرى هذه الخصوصيّة، ولا هذه المكانة؛ لأنها تعتمد على التحليل من منظار واحد فقط.
3ـ تطابق النظريّة مع النموذج: تعرض النظرية التوفيقية نموذجين سياسيين في مجال القيام والثورة، وفي مجال الوضعية المطلوبة، والهدف المنشود منها. بينما عملت النظريات الأخرى على تحليل الفرضية الموجودة، وتبرير أحداثها غير المنسجمة، دون العمل على عرض نموذج عمليّ لها.
4ـ قابليّة التنفيذ: صوّرت النظرية الجديدة ثورة عاشوراء بصورةٍ يمكن أخذ الاعتبار منها في أيّ ظرف اجتماعي وسياسي. وبعبارة أخرى: هذه النظرية تعرض توصيات وإرشادات متنوعة، يمكن للناس تطبيقها في أيّ مجتمع كان، بحسب ظروفه السياسية والاجتماعية. بينما النظريات الأخرى ليست أكثر من آراء وفرضيات لا يمكن الاعتماد عليها خارج مجالها، أو تطبيقها في الكثير من الموارد.
الهوامش
(*) باحثٌ في التاريخ الإسلامي.
([1]) المجلسي، بحار الأنوار 44: 318؛ محمد صادق نجمي، سخنان حسين بن علي أز مدينه تا كربلا (فارسي): 148.
([3]) القرشي، حياة الإمام الحسين× 2: 264.
([4]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 2: 86.
([5]) الواقدي، المغازي 2: 791.
([6]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 9: 53، الخطبة 139.
([7]) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة (الشقشقية).
([8]) راجع: مروج الذهب 2: 409؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 3: 23، 16: 161، 187؛ الأميني، الغدير 10: 179، 196، 214، 216، 11: 28، 41، 52.
([10]) الكامل في التاريخ 3: 503، 511.
([11]) الكامل في التاريخ 2: 522؛ تاريخ الطبري 3: 306.
([13]) الأميني، الغدير 10: 169، 214.
([14]) الكامل في التاريخ 2: 552.
([16]) نهج البلاغة، الخطبة 16.
([17]) نهج البلاغة، الخطبة 108.
([20]) كنظرية العفو (الفداء)، التي تقول بأن جميع مصائب الإمام الحسين× وأصحابه وأهل بيته تغفر جميع ذنوب الأمّة، وسوف تكون سبب دخول جميع الشيعة إلى الجنّة. (ابن طاووس، اللهوف: 23).
([21]) يمكن القول بأنّ الشيخ المفيد& في كتابه «الإرشاد»، والسيّد المرتضى& في كتابه «تنـزيه الأنبياء: 175 ـ 177»، والشيخ الطوسي& في كتابه «تلخيص الشافي»…، كانوا من العلماء المتقدّمين الذين تبنّوا هذه النظرية. كما يظهر ذلك أيضاً من بعض العلماء المتأخِّرين، كالسيد الخميني& في بعض بياناته. (راجع: قيام عاشوراء في كلام الإمام الخميني: 39).
([22]) راجع: نعمة الله صالحي النجف آبادي، شهيد جاويد (فارسي): 3 ـ 53.
([23]) راجع: مرتضى مطهري، إمامت ورهبري: 70 و 162.
([24]) صالحي النجف آبادي، المصدر السابق: 42.
([25]) تاريخ الطبري 4: 304؛ الكامل في التاريخ 2: 552.
([26]) الخوارزمي، مقتل الحسين× 1: 185؛ ابن طاووس، اللهوف: 20.
([27]) ابن الأعثم، الفتوح 5: 135.
([29]) من قبيل: محمد بن الحنفية أخ الإمام×، وابن عباس، وغيرهم. (المصدر السابق 5: 113).
([30]) تاريخ الطبري 4: 290؛ ابن الأعثم، الفتوح 5: 124.
([31]) محمد إبراهيم آيتي، بررسي تاريخ عاشوراء (فارسي): 75 ـ 85.
([32]) راجع: محمد مهدي شمس الدين، ثورة الحسين×: 177.
([33]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 172.
([34]) الخوارزمي، مقتل الحسين×: 188.
([35]) المفيد، الإرشاد: 200؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 262.
([36]) مرتضى مطهري، نهضت هاي إسلامي در صد ساله أخير (فارسي): 8.
([37]) يظهر صراحة من الكلمات المنسوبة إلى الإمام الحسين× الحديث عن إسقاط حكومة بني أمية، من قبيل: قوله: «وعلى الإسلام السلام إذ بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد، ولقد سمعتُ جدّي رسول الله| يقول: الخلافة محرَّمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتُم معاوية على منبري فابقروا بطنه». (مقتل الخوارزمي 1: 185). وكذلك حين يقول: «أيّها الناس، إنّ رسول الله قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله…، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان…، وأنا أحق من غيَّر». (تاريخ الطبري 4: 304).
([38]) راجع: محسن الأمين، سيرة المعصومين^: 206 (عن الترجمة الفارسية)؛ محمد حسين الجعفري، أصل الشيعة وأصولها: 242 (عن الترجمة الفارسية لمحمد تقي آيت اللهي)؛ علي شريعتي، مجموعة آثار (حسين وارث آدم) (فارسي): 361؛ عبد الله العلايلي، سموّ المعنى في سمو الذات: 88 (عن الترجمة الفارسية).
([39]) الشاهد على هذا المدَّعى قول الإمام× المعروف: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلة، وهيهات منّا الذلة».
([40]) راجع: مجموعة مقالات مؤتمر الإمام الخميني الدولي، وفرهنگ عاشورا (فارسي)، الدفتر الأول: 283.
([41]) القرشي، حياة الإمام الحسين× 1: 120.
([42]) راجع: مجموعة مقالات مؤتمر الإمام الخميني الدولي، وفرهنگ عاشوراء (فارسي)، الدفتر الأول: 383؛ علي شريعتي، مجموعة آثار (حسين وارث آدم) (فارسي): 154 ـ 155؛ محمد حسين الجعفري، أصل الشيعة وأصولها: 242 (عن الترجمة الفارسية لمحمد تقي آيت اللهي).
([45]) القرشي، حياة الإمام الحسين× 2: 288.
([52]) راجع: محمد رضا المظفر، أصول الفقه 1: 66؛ محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث الشهيد السيد محمد باقر الصدر) 2: 63.
([53]) كاظم قاضي زاده، مجموعة مقالات مؤتمر الإمام الخميني، وفرهنگ عاشوراء (فارسي)، الدفتر الثاني: 201.
([54]) راجع: الطباطبائي، رسالة بحثي كوتاه درباره علم إمام× (فارسي).
([59]) راجع: نعمت الله صالحي النجف آبادي، شهيد جاويد (فارسي): 367 ـ 438.
([60]) مرتضى مطهري، مجموعة آثار (فارسي) 17: 151.
([62]) فرهنگ جامع كلمات إمام حسين× (فارسي): 330.
([64]) مضمون الحديث الشريف عن النبيّ|: «إنّ الحسين× مصباح الهدى، وسفينة النجاة».
([65]) فرهنگ جامع كلمات إمام حسين× (فارسي): 330.
([70]) ابن طاووس، اللهوف: 53؛ فرهنگ جامع سخنان إمام حسين× (فارسي): 371.
([71]) فرهنگ جامع سخنان إمام حسين× (فارسي): 370.