دراسةٌ في نظريّة العلاّمة الطباطبائي
د. كاظم قاضي زاده(*)
أ. مريم الجعفري(**)
مقدّمة ــــــ
لقد تعرّض علماؤنا منذ زمن بعيد للبحث في مسألة حجية أو عدم حجية الروايات غير الفقهية، ومنها الروايات التفسيرية.
ويلاحظ شبه غياب لهذه المباحث في كتب أهل السنّة، ولم يشهد عندهم التمييز بين الروايات الفقهية عن غيرها، ومَنْ قبل منهم إجمالاً بحجّية خبر الواحد قال بحجّيته في التفسير.
مع الإشارة إلى وجود مجموعة بين أهل السنّة تشكِّك في حجّية السنّة إجمالاً، وترى الكفاية للقرآن.
وهناك مجموعةٌ ثالثة تتّفق وبعض علماء الشيعة في القول بعدم حجّية خبر الواحد، وبالتالي عدم قبوله في التفسير بطريق أَوْلى.
بينما كثر الحديث عن هذا الموضوع عند علماء الشيعة، وتوسَّع البحث فيه، حيث طرح في المباحث الأصولية، وفي علوم القرآن، وفي مقدّمات التفسير، رغم أن المباحث الأصولية إنّما تصبّ جلّ اهتمامها على الروايات الفقهية، ويقتصر تطرّق الأصوليين لخبر الآحاد على الفقهيّة منها. كما طرحت حجّيته بشكل متفرّق في مباحث العقائد. وقد اعتنى العلاّمة الطباطبائي بحجّية خبر الواحد، وكان موقفه منه أساس مبناه في التفسير. وممّا قاله في الموضوع: يكاد يجمع علماء الشيعة على الأخذ بخبر الواحد، رغم اختلاف مبانيهم في الأخذ به. فالبعض قد استند إلى أدلة من القرآن، ومجموعة من البراهين العقلية، وسيرة العقلاء، والمتشرِّعة؛ ليبرهن على حجية خبر الواحد؛ والبعض الآخر قال بالانسداد دليلاً على حجّيته. هذا في خصوص آحاد الروايات الفقهية، أمّا آحاد الروايات التفسيرية فقد اختلف القول فيها، وتعدَّدت فيها الآراء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اعتبار السنّة القطعية والأخبار المتواترة أصلٌ مفروغ منه يشترك فيه الموافقون والمخالفون لحجّية خبر الواحد التفسيري، وإنّما الكلام والإشكال في أخبار الآحاد المنقولة، ولا علاقة له بقبول أو عدم قبول حديث الثقلين.
بصرف النظر عن نسبة القول بعدم حجّية مطلق خبر الواحد إلى مجموعة من الفقهاء، أمثال: الشيخ المفيد، السيد المرتضى، ابن إدريس الحلّي، القاضي ابن البرّاج، والشيخ الطبرسي، إلاّ أنّ عمدة الفقهاء والأصوليين وأهل الحديث بشكلٍ عامّ يقولون بحجّية خبر الواحد في الجملة .
من هنا فنحن أمام رأيين أساسيين:
أـ رأي المخالفين: وهم يعتبرون الأحاديث المتعلقة بالأحكام العملية، والتي ينشأ عنها أثرٌ شرعي، أما ما عداها من الروايات غير الفقهية، سواء كانت في العقائد أم في التفسير، فلا يقبلون بها، ولا يقولون بحجّيتها.
ب ـ رأي الموافقين: وهم يرَوْن الاعتبار الإجمالي للروايات غير الفقهية، سواء كانت في التفسير أم في غيره، رغم اختلاف مبانيهم وأقوالهم في كمّها وكيفها، وفي محدوديتها وسعتها. وقد كان هذا سبباً في اعتماد بعض المحقِّقين رأياً ثالثاً أكثر تفصيلاً، يحدِّد في الواقع نطاق وحجّية هذه الروايات، وبالتالي يكشف عن مدى سعة مجالها أو ضيقه ومحدوديّته.
بالنسبة للفئة الأولى يمكن ذكر كلٍّ من: الطوسي، النائيني، العراقي، الطباطبائي.
وبالنسبة للفئة الثانية يطرح اسم كلٍّ من: الخوئي، معرفت، اللنكراني، السبحاني.
ورغم أنّ السيد المرتضى وابن إدريس والقاضي ابن البرّاج قد تمّ تصنيفهم ضمن الفئة الأولى، إلا أنّ هذا ليس من جهة قولٍ خاص في الأحاديث غير الفقهية، وإنما كان لقولهم بعدم حجّية خبر الآحاد مطلقاً.
العلامة الطباطبائي والقول بعدم حجية الروايات التفسيرية ــــــ
بقي العلاّمة الطباطبائي يصرّح في مواقع ومناسبات مختلفة بعدم حجّية الروايات غير الفقهية، ومنها: الروايات التفسيرية. وقد بسط القول في هذا الموضوع، واستدلّ على رأيه، متبنياً أساليب مختلفة.
مع تفانيه الكامل وإيمانه الخالص بالعترة الطاهرة من أهل البيت^، والسنّة الشريفة، وملازمتها للقرآن، واعتقاده التامّ بحجّية الروايات الفقهية، ودورها في تفصيل وتبيين أحكام القرآن، لكنّه في ما يخصّ الروايات التفسيرية لم يكن يرى لها حجّية في غير الأحكام العملية. فنظريّة العلاّمة الطباطبائي تقوم على استقلالية القرآن في تفسير نفسه بنفسه، وعدم احتياجه إلى الروايات التفسيرية في الكشف عن جهازه المفاهيمي، وعن معانيه. ويرى السيد الطباطبائي أنّ أسلوب الشيعة في التعامل مع الأحاديث يقوم على الحديث الذي تمّ سماعه من النبيّ الأكرم| أو من أئمّة أهل البيت^ مباشرةً وبدون واسطة، وحكمه حكم القرآن؛ لكنْ ما كان منهما بواسطةٍ فالشيعة تتعامل معه وفق التالي:
في أمور العقيدة؛ وحيث نصّ القرآن على ضرورة العلم ولزوم القطع، يصحّ العمل بالخبر المتواتر، أو الخبر المحفوف بقرائن قطعيّة على صحّته. وأمّا خبر الواحد فغير معتبر. لكنْ في غير مجال العقائد، وبالذات في مجال استنباط الأحكام الشرعية؛ ونظراً للأدلة القائمة في موضوعه، فبالإضافة إلى الخبر المتواتر ومقطوع الصحّة يكون العمل كذلك بخبر الواحد الذي تقوم شواهد على وثوقه. إذاً فالخبر المتواتر ومقطوع الصحّة واجب الاتّباع عند الشيعة، أما الخبر غير القطعي (خبر الواحد) فهو مشروط بوثوق الصدور بالظنّ النوعي، وهو بهذا الشرط حجّة في الأحكام الشرعية الفرعية([1]).
وقد أكَّد العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان) أكثر من مرّة أن حجية واعتبار الروايات إنّما يختص بمباحث الفقه. وقد انتقد مقولة صاحب تفسير (المنار) في ما يخصّ ما نقله من روايةٍ عن تفسير الثعلبي، وقال: وبعد هذا كلّه فالروايات من الآحاد، وليست من المتواترات، ولا ممّا قامت على صحته قرينة قطعيّة، وقد عرفت من أبحاثنا المتقدّمة أنّا لا نعوِّل على الآحاد في غير الأحكام الفرعية، على طبق الميزان العامّ العقلائي، الذي عليه بناء الإنسان في حياته([2]).
كذلك نجده على هامش قصّة النبيّ لوط×، في سورة هود، يشير إلى بعض الأقوال، فقال: «والذي استقرّ عليه النظر في المسألة أنّ الخبر إنْ كان متواتراً أو محفوفاً بقرينة قطعية فلا ريب في حجّيته…. وأما غير ذلك فلا حجّية فيه، إلاّ الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية…. والقضايا التاريخية والأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجّية فيها؛ لعدم ترتُّب أثر شرعيّ، ولا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علماً، وتعبيد الناس بذلك»([3]).
فالسيد الطباطبائي يبيِّن، وبشكلٍ صريح، أنّ حجّية روايات الآحاد إنما تكون حين يترتَّب عليها أثرٌ شرعيّ عملي وتكليفي؛ لأنه في هذه الموارد يمكن للفقيه أن يستعمل الحجّية في بعض الظنون، وأمّا في ما لا يترتَّب عليه أثرٌ شرعيّ فلا مسوِّغ للعمل بالظنّ؛ حيث يجب العلم، ولا معنى لجعل الحجّية في موارد تجعل الفرد المسلم يتعبَّد بالظنّ.
كما أنّه استدلّ بالآية الشريفة: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44) ليبيِّن أنّ قول النبيّ الأكرم| والأئمّة المعصومين من آل بيته^ هو مصداقٌ لتبيين القرآن، وهو حجّة، أمّا الخبر الذي ليس متواتراً، ولا محفوفاً بقرائن تكشف عن صحّته وقطعيّته، فهو، سواءٌ وافق الكتاب أو خالفه، ليس حجّة؛ لأنّه في حال مخالفته للقرآن فهو ليس بياناً، وأمّا إذا وافق الكتاب فهو غير محرز للبيانية، وبهذا لا يكون مصداقاً لبيان المراد في الآية: «وفي الآية دلالة على حجّية قول النبيّ| في بيان الآيات القرآنية، وأما ما ذكره بعضهم… فلا حجّية فيه؛ لعدم كونه بياناً في الأوّل؛ وعدم إحراز البيانية في الثاني»([4]).
نظريّة استقلال القرآن وعدم حجّية الروايات التفسيرية ــــــ
إنّ نظرية استقلال القرآن في بيان وتبيُّن نفسه بنفسه من أبرز نظريات العلاّمة الطباطبائي في التفسير. فالقرآن يدعو الناس إلى التدبُّر واستعمال التفكُّر فيه؛ لأنّه متكفِّل ببيان معانيه والكشف عن مراداته. كما أن تحدّي القرآن يقتضي مفهوميته وتبيانه، وهذا يقتضي أن لا يكون في حاجة إلى بيان النبيّ والأئمة^: «إنّ الله سبحانه لم يبطل حجّية العقل في كتابه…. وكيف يتبيَّن ما هو تبيان كلّ شيء بشيءٍ دون نفسه؟!»([5]).
فهو يرى أنّ القرآن بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه، أي إنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريقٍ آخر خارج عنه، فكيف يتصوَّر أنْ يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنّه هدى، وأنّه نور، وأنّه تبيانٌ لكلّ شيء، مفتقراً إلى هادٍ غيره، ومستنيراً بنور غيره، ومبيَّناً بأمر غيره. أن يكون في فهم نفسه هداية وتبياناً وفرقاناً ويحتاج إلى غيره هذا في عرف المنطق والعقل مصادرةٌ على المطلوب! وحاشا أين يكون القرآن تبياناً لكلّ شيء ولا يكون مبيناً لنفسه. وهذا لعمري هو الدور الباطل، وقد قال تعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾. وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقاناً ونوراً مبيِّناً للناس في جميع ما يحتاجون، ولا يكفيهم في احتياجهم إليه، وهو أشدّ الاحتياج؟! وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، وأيّ جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه؟! وأيّ سبيل أهدى إليه من القرآن؟!»([6]).
يرى السيد الطباطبائي أنّ تمام آيات القرآن لها قابلية الفهم في ذاتها من قِبَل الناس، ومبدئياً لا توجد آية يمتنع فهمها، أو يكون فهمها محالاً. وهذا الأمر يستفاد من ادّعاء القرآن الهداية والنور والتبيان، وكذلك هو مقتضى التحدّي الذي صرَّح به القرآن في أكثر من آية»([7]).
فالقرآن في نظر العلاّمة مستقلٌّ في بيان مراداته، ولا يحتاج إلى غيره في بيان معانيه وتفسيرها. وهذا الأمر ميسَّر للجميع؛ لأن القرآن نزل للنّاس كافة: «فالحقّ أنّ الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود… فكيف يتصوَّر أن يكون الكتاب الذي عرَّفه الله تعالى بأنّه هدى، وأنّه نور، وأنّه تبيانٌ لكلّ شيء، مفتقراً إلى هادٍ غيره، ومستنيراً بنور غيره، ومبيّناً بأمر غيره؟!»([8]).
ويستفاد من قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء: 82) أنّ هذه الدعوى تستلزم أن فهمه يتناسب حتّى مع إدراك وفهم الإنسان العادي، وهو كتابٌ لا يقبل النسخ، ولا الإبطال، ولا يقبل الاستكمال، ولا التهذيب، والكلّ له القدرة على فهمه، من خلال إعمال التدبُّر والتفكُّر والبحث، ويرتفع به ما يتراءى من تعارضٍ أو اختلاف بدوي»([9]).
لكنّ كل ذلك لا ينفي التعلُّم من النبيّ الأكرم|، ووجوب استحضار دوره في تبيين وتفصيل القرآن. وهذا موكول إلى تفصيل الأحكام؛ حيث ليس هناك من سبيل سوى اعتماد ما جاء في السنّة النبوية الشريفة وما رُوي عن العترة الطاهرة. نعم، تفاصيل الأحكام ممّا لا سبيل إلى تلقّيه من غير بيان النبيّ|، وقد أرجعها القرآن إليه في غير آيةٍ، كذلك تبيين القصص القرآني، وما يرتبط بالمعاد، يرجع فيه إلى النبيّ|؛ فشأنية النبيّ الأكرم| تقتضي التعليم، والتعليم عبارة عن هداية المعلِّم الخبير وإرشاداته، حيث يصعب على المتعلِّم الوصول إلى حقيقة بعض الأمور، والمراد الإلهي منها. وهذا لا يتنافى والقول بأنّ طريق فهم القرآن ليست مسدودة؛ لأنّ التعليم في حقيقة الأمر هو تسهيل وتقريب المقصد، وليس يعني إيجاد وخلق المقصد: «ومن هنا يظهر أنّ شأن النبيّ في هذا المقام هو التعليم فحسب، و…؛ لأنه| يبيِّن لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله، فإنّ ذلك لا ينطبق البتّة على مثل قوله: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾»([10]).
القول باستقلال القرآن مقدّمة للقول بعدم اعتبار الروايات التفسيرية ــــــ
ربما يتبادر إلى الأذهان أنّ القول باستقلال القرآن في الفهم، وفي بيان معانيه للمخاطبين، مسألةٌ، والقول بعدم اعتبار الروايات التفسيرية مسألة أخرى، ولا ترابط بين المسألتين، بل قد يفهم أنّ القول باستقلال القرآن لا يخلو من القول باعتباريّة تلك الروايات، وحجّيتها، وإمكانية الجمع بينهما.
لكنّ مع إمعان النظر واستعمال الدقّة في تقريرات السيد الطباطبائي، وما يعنيه باستقلال القرآن، يتبيَّن أنّ هذا القول هو في الحقيقة مقدّمة للقول بعدم اعتبار الروايات التفسيرية، وخصوصاً أنّ ملاك اعتبار تلك الروايات هو القرآن نفسه. ووفق ما سبق فبيان معاني القرآن غير متوقِّف على أيّ بيان خارجي، وبيانات النبيّ الأكرم| هي مسهِّلة للفهم وتقريب المعاني، لا أنّه بدونها لا يمكننا الكشف عن الغرض والمراد الإلهي.
من هنا فإنّ نطاق ومجال حجّية الروايات ينحصر في بيان وتفصيل الأحكام، أو أمور أخرى خاصّة، أما في غير هذه الموارد؛ ولأن للقرآن الاستقلالية، فهو نورٌ وهداية ومبين، تبقى تلك الروايات في مجال التفسير مجرَّد ميسِّر للفهم، ولا يتوقَّف فهم القرآن عليها. وهي في ما يتماشى ومعاني القرآن وشروطه لها دورٌ في فهم القرآن، لكن ليس لها اعتبارٌ مستقلّ. وبطبيعة الحال فإنّ لهذا القول مستلزماته، ومنها عدم تخصيص السنّة للقرآن. ومقتضى هذا التقرير أن فهم القرآن والأخذ بعموماته لا يلازمه البحث عن مخصِّصات خارج القرآن نفسه، والبحث في تلك القيود والمخصِّصات. وقد اعتنى السيد الطباطبائي بهذه النقطة، فهو يرى أنّ عمومات القرآن إنّما تحتاج في البحث عن مخصِّص من داخل القرآن نفسه، وليس عن مخصِّص خارجيّ آخر. وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7) تعني حجّية ما بيَّنه لنا الرسول الأعظم|، والذي هو نفسه السنّة النبوية، ما يعني أنّ عموميات القرآن تخصَّص ببيانات النبيّ الأكرم|، وهذا يختص بالأحكام الفرعية والعملية. وفي النتيجة فالبيان الموجود في القرآن نفسه يكفي في فهم مقصوده ومراده. وقد أشرنا في ما سبق إلى أنّ قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ يؤكِّد هذا القول ويثبته؛ لأنّه يبيِّن أنّ القرآن يكفي في رفع الاختلافات عن نفسه، حتّى عند مَنْ هم غير مستعدّين للاستماع لكلام النبيّ الأكرم|. لذا فالبحث عن مخصِّص لعمومات القرآن في غير الأحكام الفرعية يكون في القرآن نفسه، ولا يلزم تعدّيه إلى البحث عن مخصِّصات في السنّة: «إنّ عمومات الكتاب في غير الأحكام الفرعية يقتصر البحث عن مخصِّصها بما في الكتاب، من غير لزوم التعدّي إلى السنّة، ومن غير جواز التعدّي إلى العقل والرأي والتفسير »([11]).
ويفهم من هذه العبارة أنّ الاستفادة من الروايات التفسيرية يكون بالتبع، وليس لها حجّية أو أصالة مستقلّة بذاتها، بحيث لو كانت لتلك الروايات حجّية مستقلة لقصرت الحجّية على ظاهر بيان أهل البيت^، رغم عدم موافقتها له في كثيرٍ من المواضيع، وفي ما توافقت معه، وبدل أن تكون مسهِّلة للوصول إلى الغرض فهي إمّا تطرح طريقاً آخر غير المراد في الآيات، أو هي تحصيل للحاصل. وهذا كله يمكن الوصول إليه بشيء من التدبُّر في نفس الآيات، وبدون الحاجة إلى تلك الروايات.
وقد بيَّن السيد الطباطبائي، في المجلَّد الأول من تفسيره الميزان، أنّ الروايات التفسيرية في غير مقام تفصيل الأحكام تكون في مقام بيان أسلوب وطريقة التفسير. وفي الواقع هناك الكثير من الروايات التفسيرية التي تعلِّم كيفية تفسير القرآن بالقرآن، وتدريب ذوق المفسِّر على أسلوبه. وقد استطاع السيد الطباطبائي من خلالها أن يقوّي من استدلاله على استقلال القرآن في بيان معانيه، وتفسير مراده، حيث قال في هامشها: «هذا هو الطريق المستقيم والصراط السويّ الذي سلكه معلِّمو القرآن وهداته صلوات الله عليهم»([12]).
وقال في ذيل حديث الثقلين: «على أن جمّاً غفيراً من الروايات التفسيرية الواردة عنهم مشتملة على الاستدلال بآيةٍ على آية، والاستشهاد بمعنى على معنى، ولا يستقيم ذلك إلاّ بكون المعنى ممّا يمكن أن يناله المخاطب، ويستقلّ به ذهنه؛ لوروده من طريقه المتعيِّن له»([13]).
ويصرح بالقول: إنّه لو كان القرآن في استمداد معانيه في حاجة إلى الروايات التفسيرية، أو بعبارة أخرى: لو فهم من حديث الثقلين لزوم الأخذ بتلك الروايات في مجال التفسير، وأنّ الوصول إلى فهم مراده يستلزم الأخذ بتلك الروايات، فسنكون محكومين ساعتها بالدور الباطل. ولأنّ الدور محالٌ وباطل فكذلك هذا اللزوم بالأخذ بتلك الروايات، في غير باب التعليم والاستعانة في فتح الطريق، ويكون الاقتصار عليها في فهم كلام الله وذكره الحكيم محالاً.
وحديث الثقلين دالٌّ على حجّية قول النبيّ الأكرم وأهل البيت^ في القرآن في صورة المشافهة، أو التواتر، أو الخبر المحفوف بقرائن تكشف عن قطعيّته. فالدلالة على معانيه والكشف عن المعارف الإلهية تامّة في نفسه. ولأهل البيت^ الدلالة على الطريق، وهداية الناس إلى الأسلوب الصحيح في التفسير (تفسير آية بأخرى، وإرجاع المتشابه منه إلى محكمه، وهكذا دواليك)، وإلا لو كان يقصد من التعليم تعليم المعاني والمعارف التي لا يمكن للإنسان أن يصل إليها من طريق القرآن نفسه لكان هذا مخالفاً للآيات التي تصف القرآن بالعربيّ المبين، ولآيات التحدي([14]).
نقدٌ لمباني العلامة الطباطبائي ــــــ
1ـ نقد لمبناه الأصولي ــــــ
من الأدلّة التي يمكن الاستشهاد بها هنا الدليل العقلي. فالقول بالصدور الإجمالي للروايات عن الأئمة^ قولٌ لا شكّ فيه، رغم أن هذا الإجمال غير مشخَّص لنا وغير معين. ولازم هذا العلم الإجمالي بصدور بعض الروايات أصالة الاشتغال، وهي حكم عقلي؛ لأنّ هذه الأحكام ووظائفها غير مختصّة بزمان الأئمة^، لكنّ التوصّل إليها ممكن من طريق الأئمة^ فقط، ما يعني أنّه لا طريق لنا لتلك الأحكام سوى بالاتّكاء عمّا صدر عن العترة([15]). و بعبارة أخرى: التكليف باقٍ إلى يوم القيامة، في حين أنّ أكثر التكاليف إنّما بيِّنت عن طريق خبر الواحد غير قطعي الصدور، وهذا يكشف في واقع الأمر عن حجّية خبر الواحد.
2ـ قد يمكن الادّعاء، وفق اعتراف أكثر كبار الأصوليين، أنّ الدليل الواحد الذي لا يقبل الخدش، والذي يمكن عن طريقه إثبات حجّية خبر الواحد، هو الدليل العقلائي، أو ما يصطلح عليه بسيرة العقلاء([16]). إذا كان مبنى العقلاء هو اعتبار روايات الآحاد، وكان ذلك بمرأى من الشارع، ولم يردَعْ عنه، فهذا يعني أنّ الشارع يوافق عليه، وهذه ملازمة عقلية، ومبنى العقلاء يجري مجرى الأدلة العقلية.
يرى الشيخ معرفت أنّ نظرية السيد الطباطبائي قامت على دعامتين، وبعد أن نقلهما، ولخَّص نظرية العلاّمة في عدم حجّية خبر الواحد وإشكالاته في هذا الباب، قام بنقدها، وقال: إن استدلال العلاّمة غير تامّ؛ فخبر الواحد الثقة ليس فقط ذو جنبة تعبدية، وإنّما وفق نظر العقلاء ذو جنبة كاشفية ذاتية، وقد أمضاها الشارع. فالمبنى عند الإنسان ترتيب الأثر على خبر الثقة، ويتعاملون معه تعاملهم مع الخبر الواقعي. وهذا ليس مجرد تعاقد عندهم، ولا تعبديّاً محضاً، بل تأتّت الحجّية له من جنبته الكاشفية التي وهبته هذه الخاصّية. والشارع المقدَّس ـ الذي هو صفوة العقلاء ـ يمشي على نفس الطريق، ولم يتعرَّض لها بالنقد، اللهم في الموارد التي يكون المخبر غير ملتزم بالصدق، وهو ما يرفع الاطمئنان، وبدون تحقُّق من خبره لا يترتَّب أيُّ أثر على قوله. ومن هنا فإنّ اعتبار خبر الواحد الثقة لا يختصّ بالفقه والأحكام الشرعية، ولا هو ذو جنبة تعبّديّة، بل هو اعتبار عامّ، وفي كل الموارد الفقهية وغيرها، وقد استعمله العقلاء، وقد أمضاه الشارع وقبل به. ويتمتّع اعتبار خبر الواحد العدل الثقة العقلائي، سواءٌ كان في مجال تفسير القرآن أم في مجالات أخرى، بإمضاء الشارع وقبوله به، بالإضافة إلى كونه يكشف ويبين بيانات المعصوم×، وحجة خبره بمنزلة الشخص الذي تلقّى بشكلٍ مباشر من المعصوم»([17]).
2ـ نقد مبناه في التفسير ــــــ
1ـ يرى العلامة الطباطبائي ـ كما بيَّنّا سابقاً ـ أنّ آيات الأحكام، وبعض آيات المعاد، وكذلك القصص القرآني، ونحوها، لا تحتاج إلى البيان، وتستقلّ بالفهم في حكمها الكلّي، لكنْ في تفصيلها وحكمها الفرعي تحتاج الى مبيِّن.
وإشكالنا المتواضع على هذا المبنى: هل أنّ تبيان ونور القرآن يخضع للاستثناء في ما يخصّ بعض الموارد؟ هل يمكن افتراض كون بعض القرآن بياناً ونوراً، وبعضه الآخر يفتقد إلى هذا الوصف؟
والظاهر أنّ العلاّمة نفسه لا يلتزم بهذا المحذور؛ لأنّ كون القرآن نوراً ومبيناً وتبياناً لا يتنافى مع كون بعض الآيات في تفسيرها وتبيانها تحتاج إلى السنّة، وليس هناك من سبب يمنع اعتبار وحجّية السنّة في التفسير، ويخرجها من دائرة التفسير، ويجعل بالتالي القرآن في غنىً عنها. ونستطيع القول: إنّ اتّكاء بعض الآيات على السنّة لقصد الفهم والتبيان لا يمسّ بكلّية نورانيّته وتبيانه، فالعديد من الآيات تحتاج إلى الروايات، سواء بلحاظ الإبهام المصداقي أو الإبهام المفهومي؛ لإخراجها من هذا الإبهام، ومع ذلك تبقى على نورانيتها وهدايتها. والآية الشريفة: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل: 64) تؤكِّد على موضوعيّة بيانات النبيّ الأكرم|. ورغم أنّ العلاّمة الطباطبائي قد تحدث عن الحجّية الإجمالية لأحاديث النبيّ| وأهل البيت^ في التفسير، في بيان الآيات القرآنية، وفي الظاهر منها، والمتشابه، وفي المرتبطة بالأسرار الإلهية ممّا يحتاج إلى التأويل([18])، إلاّ أنّه يخالف تعميم تلك الحجية، وخصوصاً في الموارد التي تكون مطالب الروايات غير مستفادة من القرآن نفسه، أو تكون الروايات مخالفة لظاهر القرآن وغير متوافقة معه.
ومع قوله بحجّية الروايات التفسيرية بعنوان (مرشد) و(مؤيِّد)، إلاّ أن كلامه يوحي بعدم الحاجة إلى تلك الروايات.
وهو قولٌ غير مقبول، بل إنّ الروايات نفسها تصرِّح بخلاف ذلك، وتبيِّن أن القرآن يحتاج إلى تبيين أهل البيت^.
2ـ استند العلاّمة بشكلٍ أساس على الآيات التي تدعو إلى التدبُّر والتفكُّر، ومنها الآية الكريمة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82).
وما يُفهم من الآية كون التدبُّر في القرآن طريقاً نحو الكشف عن عدم وجود اختلاف بين الآيات، وليست دالّة على أنّ الآيات حتّى المتشابه منها تقبل الفهم من خلال التدبُّر في الآيات. وكذلك الحال بالنسبة إلى الآيات التي تتحدّث عن تبيان القرآن، فهي لا تعني أنّه يمكننا أن نستفيد منها، بل ما أورده العلاّمة من معنى بخصوصها إنّما يقتصر على فئة، وليس على الجميع. فالعلاّمة نفسه صرَّح أنّه حتّى كبار العلماء وجهابذتهم، والذين استطاعوا إلى حدٍّ ما الغوص في بحر القرآن العميق، لم يستطيعوا الإجابة عن الكثير ممّا يجهلونه فيه([19]). وهو تصريحٌ في خضم الاعتقاد بنورانيّة وتبيان القرآن، وهو ما نفهم منه أنّ نورانية الكتاب وتبيانه لها مداليل تختلف من مخاطبٍ إلى آخر. فالآيات التي تتحدَّث عن نورانيّته وتبيانه لا تعني بأيّ حال إمكانيّة فهمه بدون وساطة أهل البيت^. لذلك وجدنا الروايات تكشف عن أن تبيان القرآن ونورانيّته خاصّة بالنبيّ الأكرم| وبالأئمّة من أهل البيت^([20]).
ونفس الأمر يستفاد من الآية الكريمة: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت: 3). فقَيْد «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» يوضِّح أنّ تفصيل الآيات خاصّ بفئة من الناس، وليس لعموم الناس، والمقصود بهذا القيد الإمام المعصوم×([21]).
أمّا ما صرَّح به العلاّمة بخصوص الآية 103 من سورة النحل، من أنّ القرآن مستقلٌّ بذاته عن الروايات، فهذا الفهم يتناقض وصدر الآية نفسها؛ لأن الآية في موضع نفي التهمة التي وجهت إلى النبيّ الأكرم| من طرف بعض المشركين بأنّ القرآن يدرسه ويتعلّمه عند أحد الأعاجم: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾، فأجابهم الله على لسان نبيّه: ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103). فوصف «مبين» هو للسان، وكذا وصف «عربي». فالقرآن نزل بلسان عربي مبين. وهذا واضح في بيانه، ودلالاته، ومعانيه، ومفاهيمه. إذاً فالآية لا تقتضي أن الناس، وبدون وساطة النبيّ الأكرم والأئمّة من أهل بيته^، يمكنهم فهمه واستيعاب مداليله.
ويمكن إضافة نقطة أخرى لإثبات مدّعانا، وهي أن دعوة الله سبحانه وتعالى الناس إلى التدبُّر قد تكون بمعنى التدبُّر في المحكمات، والإيمان الإجمالي بالمتشابِهات. أيضاً هناك مجموعة من الروايات تبيِّن أنّ العلم بالمتشابِهات مختصٌّ بأهل البيت^، وينحصر بهم، وإذا وصل إلى الناس تفسيرٌ لشيء من تلك المتشابِهات عن طريقهم حينها يجوز التدبُّر فيه، ومن دون هذا الطريق يكون التدبُّر في المتشابِهات محل الزلّة والهفوة([22]).
قال السيد الخوئي&، في شرحه لقول أمير المؤمنين×: «وموسع على العباد في جهله»: «كالمتشابِهات، التي جعل علمها مخصوصاً بالراسخين في العلم، وغيرُهم منها في سعة، كما قال: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾»([23]).
فكون القرآن نوراً وهداية لا نجادل فيه مطلقاً، لكنْ ليس بمعنى أنّ فهمه ميسَّر للجميع بشكلٍ مباشر. فالبشر عاجزون، ولا قدرة علمية لهم على فهمه كلياً. لذا فهم لا يستطيعون بمعارفهم الناقصة أن يتسلَّطوا على كلّ مطالب القرآن، ويفهموه بنفسه، لكنّ أهل البيت^؛ بما لديهم من شأنية علمية، وبكمالهم في العلم والمعرفة و…، استحقّوا بالفعل أن يكونوا من الراسخين في العلم، الذين لهم معرفة القرآن بمحكَمه ومتشابِهه، ولهم المكنة في سبْر غور معانيه، والغوص في بحر مفاهيمه ومداليله، ومن هنا كانت أقوالهم حجّة.
قال الإمام عليّ×: «إنّ الله قسَّم كلامه ثلاثة أقسام؛ فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلاّ مَنْ صفا ذهنه، ولطف حسّه، وصحّ تمييزه ممَّنْ شرح الله صدره للإسلام؛ وقسماً لا يعرفه إلاّ اللهُ وأمناؤه والراسخون في العلم»([24]).
ونستشرف من هذه الرواية الشريفة أنّ التوصّل إلى معاني الآيات لا يمكن أن يكون دون المدد من الراسخين في العلم. وهي مقدّمة موضوعية لإثبات حجّية الروايات التفسيرية، وليس العكس.
3ـ لا يوجد أحدٌ يدّعي الفهم اليقيني والتامّ للمراد الإلهي من آيات القرآن الكريم. ووجدنا العلامة الطباطبائي في أكثر من موضع من تفسيره يغمر تفسيره بالشكّ والتردُّد، وهي حالة تكتنفه في ظلّ التدبُّر في الآيات التي هي نورٌ وتبيان. إذاً فادّعاء العلم واليقين وعدم الاختلاف، وخصوصاً في غير المتشابِه، دعوةٌ غير تامّة.
وكمثال على عدم تمامية هذا المدّعى في تفسير العلاّمة نفسه أنّه؛ ولكي يعيِّن المراد من لفظ «تأويل» في الآية 7 من سورة آل عمران، عرض عشر نظريّات؛ وفي المتشابِه ذكر عشرين قولاً([25]).
كذلك تحدَّث عن كثرة الاختلاف حول معنى لفظٍ من الألفاظ القرآنية، حيث قال: «لكن القوم اختلفوا في المقام. وقد شاع الخلاف، واشتد الانحراف بينهم، وينسحب ذيل النزاع والمشاجرة إلى الصدر الأوّل من مفسِّري الصحابة والتابعين، وقلّما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب ممّا مرّ من البيان، فضلاً عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق»([26]).
وكتب في تفسيره لسورة الكوثر: «وقد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافاً عجيباً…. وقد نُقل عن بعضهم أنّه أنهى الأقوال إلى ستّة وعشرين»([27]).
وفي تفسير الآية 32 من سورة فاطر قال: «وفيها للقوم اختلافٌ عجيب. وهناك أقوالٌ متفرّقة أخرى، تركنا إيرادها، ولو ضُربت الاحتمالات بعضها في بعض جاوز الألف»([28]).
وفي تفسيره للآية 102 من البقرة قال: «وقد اختلف المفسِّرون في تفسير الآية اختلافاً عجيباً، لا يكاد يوجد نظيره في آيةٍ من آيات القرآن المجيد…. وإذا ضربت بعض الأرقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر ارتقى الاحتمالات إلى كمّية عجيبة، وهي ما يقرب من ألف ألف ومائتين وستّين ألف احتمال و…»([29]).
ونتيجة هذا الكلام أنّ هناك في القرآن آياتٍ خفي مقصودها عن الناس والمفسرين، رغم تدبُّرهم وجهدهم في الرجوع في عرضها على الآيات المحكَمات، إلاّ أنّ مرادها ظلّ خفيّاً عنهم، وهو ما سبَّب الاختلاف في وجهات نظرهم، ما يعني وجود الشكّ والترديد في جميع الأقوال والآراء التي توصَّلوا إليها. وبالمناسبة هذه علامة واضحة على خفاء المطلب، والحاجة إلى البحث خارج القرآن. وإنّ وجود هذا الخفاء وكثرة الاختلاف في تفسيره لا تتّفق ونورانيّة القرآن وتبيانه، وفق تفسير العلاّمة، فلا يمكن أن يكون نورانيّاً ويكون الخلاف حوله، كما لا يمكن الادّعاء بأحقيّة كلّ تلك الآراء المختلف فيها. وهذا يفرض الإقرار بضرورة وجود مرجعٍ يعيِّن المعنى الواقعي للمتشابِه المختلف حوله.
بل لا بدّ من التذكير بأنّ الاختلاف قد لا يزول حتّى بعد الرجوع إلى الروايات، وعرض المتشابِهات على المحكَمات، فما بالك بالاعتماد على التدبُّر الشخصي. فالعقل لا يرافق الدرب دائماً، وقد يخطئ، وقد يصيب؛ بتبع المقدّمات. والرجوع إلى العترة لا يعفي من الاختلاف؛ لما لحق عملية نقل كلامهم من آفات. لكنّ الأهم في كلّ هذا اتّخاذ الأسلوب الصحيح، حيث تقيم الحجّية الفهم وتحسِّن من مستواه، وبالتالي يكون عملنا واعتقادنا منجّزاً ومعذّراً.
4ـ لقد ادّعى السيد الطباطبائي إمكانيّة كلّ البشريّة فهم القرآن، وهذا أحد لوازم فصاحة القرآن التي أخبرنا بها الحقّ تعالى في القرآن نفسه. لكنّنا نقول: إنّ التاريخ قد نقل لنا في موارد متعدِّدة عدم فهم بعض ألفاظ القرآن فهماً لغويّاً، فما بالك بفهم المعنى؟! ففي زمن النبيّ الأكرم| كان بعض العرب عاجزين عن فهم معنى بعض الألفاظ القرآنيّة، بالإضافة إلى عدم فهمهم لبعض الآيات، وهم أهل فصاحة وبيان، وقد نزل القرآن بلسانهم، ولم يجدوا بدّاً من طرح معضلتهم على النبيّ الأكرم| وعلى العترة الطاهرة^. وهذا إنّما يكشف في واقع الأمر عن مكنة العترة، وأنّه بدونهم لا يمكن فهم حتّى ظواهر الألفاظ، ولو بشكلٍ كلّي. إذاً فأيّ ادّعاءٍ باستقلالية القرآن وعدم حاجته لمدد خارجيّ، وأيّ طعن في حجّية الروايات التفسيرية القطعيّة أو المحفوفة بقرائن الصحّة، غير مقبول ومورد الطعن.
5ـ يعترف العلاّمة في غير موقعٍ بأن معنى بعض الآيات لا يمكن أخذه من القرآن نفسه. ففي تفسيره للآية 82 من سورة النمل يقول، وبكلّ صراحة: «ولا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية، وأنّ هذه الدابّة، التي سيخرجها لهم من الأرض فتكلِّمهم، ما هي؟ وما صفتها؟ وكيف تخرج؟ وما الذي تتكلَّم به؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أنّ القصد الإبهام، فهو كلامٌ مرموزٌ فيه»([30]).
فهذه الصراحة تأتي من العلاّمة، رغم التدبُّر في الآيات، وبأسلوبه المعهود لم يستطِع أن يرفع ذلك الإبهام عن الآية. إذاً هذه الصراحة تنقض أيَّ ادعاءٍ؟! هل تنقض التحدّي، أم الهداية، أم النور، أم…؟!
كذلك من آرائه أنّ الحروف المقطَّعة من المواضيع القرآنية التي لا يمكن الحصول على معناها من القرآن، وليست من المتشابِهات: «فلا هذه الحروف المقطَّعة متشابِهات، ولا معانيها المراد بها تأويلات لها»([31]). فهو يعتقد أنّ الحروف المقطَّعة التي أتت في أوائل بعض السور القرآنية من الرموز التي لا نملك شفرتها، ولا يجعلها من المتشابِهات؛ لأنّ مبناه يقول بأنْ ليس هناك آيةٌ معقَّدة، بحيث يستعصي فهمها، فأيّ تشابه فيها يعرض على المحكَمات، فتحلّ عقدتها، ويتجلى معناها: «وليس بين آيات القرآن (وهي بالطبع ألف آية) آيةٌ واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها، بحيث يتحيَّر الذهن في فهم معناها»([32]).
وكما هو معروف منطقيّاً فإنّ التقسيم فيصلٌ في عدم الاشتراك. الله سبحانه وتعالى قسَّم الآيات في القرآن إلى: محكَمات؛ ومتشابِهات، فكيف يمكن أنْ لا تكون الحروف المقطَّعة ضمن واحدةٍ من هذا التقسيم الثنائي؟! يلزم من هذا وجود منطقة برزخيّة بين المحكَمات والمتشابِهات. وهو الأمر الذي لا يقبله العلاّمة نفسه، حيث كتب قائلاً: «لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكَم والمتشابِه»([33]).
فإذا كان لا يقبل بوجود واسطة برزخيّة بين المحكَمات والمتشابِهات فكيف نفسِّر قوله بأنّ تلك الحروف المقطَّعة لا تنتمي إلى واحدٍ من هذين القسمين؟
والظاهر أن سبب وقوعه في هذا المحذور هو ما يفرضه عليه مبناه من قواعد.
أمّا لو أقررنا بأنّ المتشابِهات قابلةٌ للفهم بإرجاعها إلى المحكَمات، أو في الكثير من المواضيع إلى أهل البيت^؛ انطلاقاً من الروايات التفسيرية المشروطة بالصحّة، لما وقعنا في هذا الإشكال.
هذا وقد صرَّح العديد من المفسِّرين بأنّ الحروف المقطَّعة تدخل ضمن دائرة المتشابِه، وتجيء روايات أهل البيت^ لتصدق هذا القول وتؤكِّده في أكثر من رواية([34]).
6ـ رفع الدور الباطل الذي ادّعاه العلاّمة أمرٌ ليس بالعسير، وخصوصاً أنّ جهات الدور متفاوتة ومختلفة موضوعاً عن بعضها البعض؛ حيث إنّ عرض الروايات على القرآن إنّما هو لجهة إحراز عدم التطابق، وعدم المخالفة له، وليس لتأييدها، وهو الأمر الذي صرَّح به العلاّمة. ولا يلزم أن يؤيِّد القرآن ما جاء في الروايات، أو يطابقها، بل يعني صرفاً عدم مخالفة المحكَمات؛ إمّا مخالفة بالتباين؛ أو بالتناقض؛ أو بغيرهما من أنحاء المخالفة، والرجوع إلى العترة إنّما يكون لغرض البحث عن المقيِّد أو المخصِّص. إذاً فمحكَمات القرآن تعبِّر عن اعتبار الروايات وحجّيتها، ما دام فهم المتشابِهات في القرآن متوقِّفاً على إرجاعها إلى محكَمات الروايات. وهذا الأمر ينفي وجود أيّ دورٍ باطل.
7ـ صرَّح العلاّمة في أصول مبناه أنّ بعض أمور الاعتقاد، والقصص، والمعاد، والحروف المقطَّعة، مستثناة، ولا بدّ من الرجوع إلى الروايات التفسيريّة لفهم مرادها. وكذلك استثنى تفصيل آيات الأحكام، التي ترجع إلى الروايات لاستكمال معانيها. فإذا كانت الدعوى إلى التدبُّر في القرآن بشكلٍ كلّي تامّ ودائمي فكيف يمكننا الاستثناء؟! وما هو ملاك الاستثناء؟! وإذا كان الرجوع في تلك الموارد إلى الروايات لا يقدح في التحدّي فكذلك ضمّ الآيات المتشابِهات إلى هذا الاستثناء، وتفسيرها بالروايات التفسيرية، وبالتَّبَع يكون الاعتراف بحجّية تلك الروايات لا يخدش في إعجاز القرآن وتبيانه.
وبلا شكّ فإنّ الحكم بعدم حجّية الروايات لا يمكن الاستدلال عليه بآيات التحدّي؛ إذ لا موضوعيّة في البين.
فلو فرضنا أنّ أحداً عثر على كتاب علمي، وفي الكتاب دعوة إلى التحدّي، وبعد مطالعة الكتاب تبيَّن أنّه فريدٌ في نوعه، فهل هذا التحدّي يستلزم كون الكتاب قابلاً للفهم بشكلٍ مستقلّ، بدون الرجوع إلى بعض المراجع؟
من الواضح عدم وجود مثل هذه الملازمة، ولا داعي لوجودها.
ونفس القاعدة تجري على القرآن. فإذا قرأ شخصٌ قسماً من آياته، وأذعن بوجود نوع من الإعجاز فيها، سواءٌ كان بلحاظ إخبارها عن المغيَّبات، أم بلحاظ فصاحته وبلاغته، ونحوها، فإنّه بالإضافة إلى الإيمان بحقّانية القرآن يكون التحدّي محقَّقاً في هذه الآيات بلا منازع.
8ـ من الإشكالات الأخرى الواردة على مبنى العلاّمة في ما يخصّ تحدي وبيان القرآن: هل يمكن القول بأنّه قبل نزول كلّ آيات القرآن لم يكن معجزاً؟
بطبيعة الحال لا يذهب السيد الطباطبائي إلى ذلك، ولا يعتقد به. فماذا لو نزلت آيةٌ من المتشابِه ولم ينزل معها ما يبيِّن المراد الإلهي منها؟! كيف يمكننا بوسيلة التدبُّر رفع هذا التشابه أو أن نفهم إعجازها؟! الظاهر أنّ وصف القرآن بالمبين، والنور، وكذا دعوته إلى التدبُّر، لا تستلزم القول بعدم حجّية الروايات التفسيرية، وليس من داعٍ لإقحامها في الموضوع.
إشارة إلى الأدلّة التي اعتبرناها في القول بحجّية خبر الواحد التفسيري ــــــ
بالالتفات إلى أنّ أهمّ دليل على حجّية خبر الواحد هو السيرة العقلائية التي أمضاها الشارع، وفي الحدّ الأدنى لم يردَعْ عنها، نقول: إنّ السيرة العقلائية ترى حجية خبر الثقة المعتبر، وتقبل به عقلائيّاً، والمهمّ في الأمر هو مسألة الاطمئنان والوثوق بالخبر الصادر عن المعصوم وفق الأصول العقلائية، حتّى وإنْ لم يكن موافقاً لليقين المنطقي، أو لم يتحقَّق من وثاقة الراوي؛ لأنّ الضابطة التي يحتكم إليها في الموضوع هي الاطمئنان بالصدور([35]).
من هنا فالخبر الواحد الواجد لشروط القبول، حتّى وإنْ جاء مخالفاً لظواهر القرآن، يكون حجّةً ومعتبراً مطلقاً. فلا تعدّ مخالفتُه لظواهر القرآن دليلاً على عدم حجّيته، وبالتالي سقوط اعتباره؛ لأنّ الأدلّة على حجّية خبر الواحد من الكثرة بحيث تشمل حتّى ما تعارض منه مع القرآن([36]).
ولا معنى لتخصيص بعض أخبار الآحاد بالحجّية، واستثناء التفسيري؛ إذ لا مخصِّص. وحتّى لو كان بلحاظ المنطق ظنّيّاً فهو يكفي في إحراز العلمية.
وبالنتيجة فالاعتماد على خبر الواحد لا يعني نسبة أمر بدليلٍ ظنّي إلى المولى، بل هو خبرٌ يفيد العلمية، رغم عدم إفادته لليقين والعلم. والاستدلال على حجّيته بالدليل العقلائي لا يحصره فقط في الأحكام الفرعية العملية، بل تتّسع دائرته لتشمل غيره من أخبار الآحاد، وفي كلّ الموضوعات. هذا مع العلم بأنّه لا دليل نقليّاً على انحصار حجّية الخبر الواحد بالأحكام العمليّة.
الروايات الواردة في التفسير، بخصوص التوحيد، وصفات الله سبحانه وتعالى، وجزئيات المعاد، ومواقف القيامة، ونحوها من الروايات الكثيرة، هي من الآحاد المعتبرة. وكونها غير محفوفة بالقرائن القطعيّة غير كافٍ في إسقاطها وعدم اعتبارها.
إنّ نظرية الاستقلال بالروايات في أمور إثبات المبدأ، وأصل لزوم البعث، و…، مسألة غير عملية. أمّا الرجوع إليها في التشريعات ضمن الأحكام العملية، وبيان القصص والتاريخ، أو الأمور الخاصّة بأصول ومعالم الدين، فهي إجمالاً معتبرة وضرورية.
ومن جهة أخرى فالثابت أنّ قدماء الأصحاب والمعاصرين للأئمة^، وهم في الفترة القريبة من عصر الرسالة، قد عملوا بأخبار الآحاد؛ كما ثبت التزامهم العملي بعدم نفي الحجّية المطلقة؛ وهذا الموقف العملي دليلٌ على حجّية تلك الروايات والأخبار. وقد نستطيع القول: إنه نوعٌ من الإجماع العملي على حجّية أخبار الآحاد، ويكون شاهداً على اعتبار الروايات التفسيرية.
الهوامش
(*) أستاذٌ مساعد في قسم العلوم والدراسات في جامعة آزاد الإسلاميّة في طهران.
(**) باحثةٌ في علوم القرآن والحديث.
([1]) العلاّمة الطباطبائي، قرآن در إسلام: 70.
([2]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 6: 57.
([4]) الميزان في تفسير القرآن 12: 161 ـ 162.
([11]) الطباطبائي، حاشية الكفاية: 162 ـ 163.
([12]) الميزان في تفسير القرآن 1: 12.
([14]) الميزان في تفسير القرآن (المقدّمة) 1: 6؛ الميزان في تفسير القرآن 11: 53، 84 ـ 85؛ قرآن در إسلام: 70، حاشية الكفاية: 162 ـ 163.
([15]) الأنصاري، فرائد الأصول 1: 350.
([16]) المظفَّر، أصول الفقه 2: 92.
([17]) معرفت، العدد 1: 122 ـ 146.
([18]) الميزان في تفسير القرآن 12: 261.
([20]) تفسير العياشي 2: 266؛ تفسير فرات الكوفي: 145، المجلسي، بحار الأنوار 13: 243، 17: 145، 26: 194، 90: 95.
([21]) المجلسي، بحار الأنوار 33: 13، 89: 100.
([22]) المصدر السابق 65: 283، 96: 90، 69: 118 ـ 119، 122؛ العلاّمة الحلّي، الألفَيْن: 98.
([23]) حبيب الله الخوئي، منهاج البراعة 2: 185.
([24]) الطبرسي، الاحتجاج: 253.
([25]) انظر: الميزان في تفسير القرآن 3: 31 ـ 32.
([27]) الميزان في تفسير القرآن 20: 370.
([28]) المصدر السابق 17: 46 ـ 47.
([29]) المصدر السابق 1: 233 ـ 234.
([34]) الطوسي، التبيان 1: 48؛ الطبرسي، جوامع الجامع 10: 61؛ الطبرسي، مجمع البيان 1: 75؛ المجلسي، بحار الأنوار 88: 10.