قراءةٌ فقهية وفقاً لحركة الإمام الحسين×
د. الشيخ محمد رحماني زروندي(*)
مقدّمة ــــــ
لا تعدّ ثورة عاشوراء على الساحة التاريخيّة مثالاً أعلى للشيعة فقط، بل صارت المصدر المُلهِم لجميع شرائح الناس، ولطلاب الحرّيّة في هذا العالم، من أمثال: غاندي.
ولا زال شعاع هذه الملحمة الكبيرة يشعّ ببركاته وآثاره الجَمّة منذ البداية وإلى وقتنا الحاضر، حتّى قيل بأنّ السبب في حدوث الدين الإسلامي المقدَّس هو نفس رسالة النبيّ الأكرم|، وأنّ السبب في استمرار وديمومة هذا الدين هو ثورة ودماء سيّد الشهداء× وأصحابه.
وفي عصرنا الحاضر تعدّ الثورة العظيمة للشعب الإيراني، بقيادة الحفيد الصالح للإمام المعصوم× السيد الخميني&، ثمرة من آلاف الثمار والبركات التي عادت علينا من الثورة العاشورائيّة للإمام الحسين×.
وعلى الجانب الآخر ـ وبالتزامن مع نهضة سيّد الشهداء× ـ يتأجَّج عند عشّاق الإمام وشيعته ذلك الحبّ الكامن في أعماق أنفسهم وأرواحهم، والمتأصّل في معتقداتهم، حتّى صاروا يبدؤون حياتهم بالتبرُّك بماء فراته، ويختمونها مرفقين بتربته المقدّسة والطاهرة.
ولا يخفى أنّه مهما بذلنا من جهود في البحث عن الأهداف والدوافع، والخطب والكلمات، والمحتوى والمضمون، والعوامل الممهّدة والموطّئة لهذه الحركة المقدّسة، فإنّ بعضاً من أبعادها سوف يبقى غامضاً ومجهولاً.
والجدير بالذكر أنّ دراسة نهضة سيّد الشهداء من المنظار الفقهيّ ينبغي أن تستوعب جهات عدّة وحيثيّات مختلفة، ومن جملة ما يلزم تناوله هو الموضوعات الفقهيّة (الأحكام الفقهيّة للتربة، ماء الفرات، العزاء، الزيارة)، تأثير عاشوراء في الفقه السياسيّ، جعل عاشوراء أنموذجاً يقتدى به في المسائل الفقهيّة ـ من قبيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ، البحث والتحقيق الفقهيّ حول بعض الإشكالات والشبهات التي طُرحت حول هذه النهضة، وغير ذلك.
سوف نستعرض في هذه المقالة الموضوعات المتقدّمة، وستتكفَّل بتقديم الإجابات عن بعض الأسئلة التي طُرحت حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قام به سيّد الشهداء×. ومن جملة هذه الأسئلة:
لقد اشترط الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدّة شروط، منها: الأمن من الضرر (عدم ترتّب المفسدة). وعلى هذا الأساس لن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على سيّد الشهداء×؛ وذلك تمسُّكاً بالقاعدة العقليّة التي تقضي بانتفاء المشروط عند انتفاء شرطه.
والشرط الآخر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بالتأثير، أو احتماله على أقلّ تقدير، وهذا الشرط كان منتفياً في قضيّة عاشوراء أيضاً.
ومع ملاحظة عدم تحقّق الشروط المعتبرة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا يعدّ الإقدام عليه من مصاديق إلقاء النفس في التهلكة؟!
وهذه المقالة التي نقدّمها بين يدي القارئ ستقوم بنقد الأدلّة التي أقامها الفقهاء على اشتراط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذين الشرطين.
1ـ كلمات سيّد الشهداء× حول الهدف من نهضة عاشوراء ــــــ
لقد صرّح سيّد الشهداء في مواطن عديدة بأنّ الهدف من قيامه وثورته ضدّ يزيد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يسَعُ المجال في هذه المقالة لذكر جميع الموارد ـ والتي تصل إلى تسعة موارد ـ، ولذلك سنكتفي بعرض جملةٍ منها:
أـ عند قبر رسول الله| ــــــ
عندما عزم الإمام على التوجّه نحو مكّة تشرّف، وللمرّة الثانية، بزيارة قبر رسول الله|، وأباح هناك بمكنون قلبه وآلامه، ثمّ قال: «اللهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمد|، وأنا ابن بنت نبيّك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمتَ، اللهمّ إنّي أحبُّ المعروف، وأنكر المنكر»([1]).
ب ـ في وصيّته ــــــ
يبيِّن سيّد الشهداء في وصيّته لأخيه محمد الحنفيّة الدافع والباعث على سفره، فبعد أن حمد الباري وشكره، وشهد على حقّانيّة الجنّة والنار، قال: «إنّي لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي|، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر»([2]).
ج ـ في حديثه ــــــ
يقول الإمام× في حديثٍ له، وذلك بعد بيان أهمّيّة الموعظة وقراءة الآية: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾، ما يلي: «فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت استقامت الفرائض كلّها، هيّنها وصعبها؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام، مع ردّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها»([3]).
2ـ خلفيّة البحث عن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ
لا شكّ أنّ البحث في تاريخ المباحث العلميّة يترك أثراً هامّاً في فهم حقائق المسائل وإدراكها. وهذا الدور مضاعفٌ في العلوم النقليّة، وخاصّة في الفقه؛ لأنّ أقوال علماء الصدر الأوّل وآراءهم ـ وبالخصوص الفقهاء المعاصرين لعصر الغيبة وبداية الغيبة الكبرى ـ هي في حكم الروايات.
ويحظى هذا المطلب بأهمّيّة أكثر في موضوعنا الذي نبحث عنه، أي شروط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (احتمال التأثير وعدم ترتّب المفسدة)؛ لأنّه قد استدلّ على ثبوت هذه الشروط بإجماع الفقهاء.
ومن أجل بيان صحّة الإجماع أو عدمه سنقوم بعرض أقوال الفقهاء:
لم يطرح ابن بابويه(329هـ) في فقه الرضا؛ ولا ابن أبي عقيل العماني(340هـ) في مجموعة الفتاوى، بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وكذلك الشيخ الصدوق(381هـ)، فإنّه لم يذكر في كتاب المقنع والهداية هذا البحث أيضاً.
نعم ذكر الشيخ المفيد(413هـ) مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد في الدين»، واشترط هناك عدم ترتّب المفسدة، حيث قال: «إذا تمكَّن الإنسان من إنكار المنكر بيده ولسانه، وأمن في الحال ومستقبلها من الخوف بذلك على النفس والدين والمؤمنين، وجب عليه الإنكار بالقلب واليد واللسان. وإنْ عجز عن ذلك، أو خاف في الحال أو المستقبل من الفساد بالإنكار باليد، اقتصر فيه على القلب واللسان. وإنْ خاف من الإنكار باللسان اقتصر على الإنكار بالقلب، الذي لا يسع أحداً تركه على كلّ حال»([4]).
ولم يتعرّض السيد المرتضى(436هـ)، في كتاب الانتصار، ورسائل الشريف، والناصريّات، إلى أصل البحث.
أمّا أبو الصلاح الحلبي(447هـ) فقد ذكر مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت عنوان مستقلّ. وفي ما يتعلّق بخصوص شرط التأثير قال: «إنّ أدلّة إيجاب الأمر والنهي مطلقة، غير مشروطة بظنّ التأثير، وإثباتُه شرطاً يقتضي إثبات ما لا دليل عليه، ويؤدّي إلى تقييد مطلق الوجوب بغير حُجّة»([5]).
وعندما وصل الكلام إلى شرط عدم المفسدة قال: «واشترطنا عدم المفسدة؛ لعلمنا بوجوب اجتناب ما أثر وقوع قبيح، أو كان لطفاً فيه؛ لقبحه كالقبيح المبتدأ. فالأمر أو النهي متى كان سبباً لوقوع قبيحٍ من المأمور المنهيّ أو من غيره بالآمر الناهي أو بغيره، يزيد على المنكر أو ينقص، لولاه لم يقع، يجب الحكم بقبحه، ووجوب اجتنابه؛ لأنه لا يجوز عقلاً، ولا سمعاً، من المكلَّف أن يختار القبيح؛ ليرتفع من غيره»([6]).
ويقول الشيخ الطوسي(460هـ)، في ما يتعلّق بشرط عدم الخوف من الضرر: «فمتى لم يتمكَّن من هذين النوعين، بأن يخاف ضرراً عليه أو على غيره، اقتصر على اعتقاد وجوب الأمر بالمعروف بالقلب»([7]).
كما أورد الشيخ في الجمل والعقود أصل هذا البحث، من دون ذكر الشروط؛ أمّا في الخلاف فلم يطرح البحث من أصله.
وذكر الشيخ في كتابه الاقتصاد كلا الشرطين، وأقام فيه الردّ على شرط احتمال التأثير، مع قبوله لشرط عدم المفسدة، وقال: «المنكر له ثلاثة أحوال: حال يكون ظنه فيها بأنّ إنكاره يؤثِّر فإنّه يجب عليه إنكاره بلا خلاف؛ والثاني يغلب على ظنّه أنه لا يؤثِّر إنكاره؛ والثالث يتساوى ظنّه في وقوعه وارتفاعه، فعند هذين قال قومٌ: يرتفع وجوبه، وقال قومٌ: لا يسقط وجوبه، وهو الذي اختاره المرتضى&. وهو الأقوى؛ لأنّ عموم الآيات والأخبار الدالّة على وجوبه لم يخصّه بحالٍ دون حال…؛ ولأن كونه مفسدة وجهٌ قبيح»([8]).
ولم يتعرّض سلاّر(463هـ) في كتابه المراسم لهذا البحث.
أمّا القاضي ابن البرّاج(481هـ) فقد اشترط في كتابه المهذّب عدم المفسدة، حيث قال: «واعلم أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… إنّما يصحّ إذا كان متمكِّناً منهما، ويعلم أو يغلب في ظنّه أنّه لا ضرر يلحقه في ذلك، ولا غيره من الناس، لا في حال الأمر والنهي، ولا فيما بعد هذه الحال من مستقبل الأوقات»([9]).
وأشار ابن حمزة الطوسي(580هـ) إلى شرط عدم المفسدة فقط، وقال: «فإنْ لم يقدر على شيء من ذلك، أو خاف مفسدة فيه، اقتصر على القلب»([10]).
ولم يتعرّض السيد ابن زهرة(585هـ) إلى مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أمّا ابن إدريس(598هـ) فقد أشار إلى الشرطين بشكلٍ أوضح من غيره، حيث قال: «ثالثها: أن يظنّ أنّ إنكاره يؤثِّر أو يجوزه. ورابعها: أن لا يخاف على نفسه. وخامسها: أن لا يخاف على ماله. وسادسها: أن لا يكون فيه مفسدة»([11]).
وقد تلقّى أكثر فقهاء العصور اللاحقة هذين الشرطين بالقبول، ومن جملتهم: المحقِّق الحلّي([12])، العلاّمة الحلّي([13])، الشهيد الأوّل([14])، الشهيد الثاني([15])، المحقِّق الأردبيلي([16])، وصاحب الجواهر([17]). واستدلّ الأخير في كتابه جواهر الكلام على كلا الشرطين بشكلٍ مفصّل.
ولا يخفى أنّ فقهاء الصدر الأوّل غير متّفقين على اشتراط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمن من الضرر والظنّ بالتأثير. ولهذا المطلب تأثيرٌ بالغ في استنباط الحكم الشرعي.
3ـ شرط الأمن من الضرر ــــــ
أـ الاختلاف في عنوان الشرط ــــــ
اختلف الفقهاء الذين تعرَّضوا لهذا الشرط في عنوان الشرط؛ فطرح بعضهم هذا الشرط تحت عنوان عدم المفسدة، والبعض الآخر تحت عنوان عدم الضرر. وأوّل من طرح هذا الشرط من الفقهاء ـ أي الشيخ المفيد ـ عنونه بعنوان خوف المفسدة. وأوّل فقيه عنون هذا الشرط تحت عنوان عدم الضرر هو القاضي ابن البرّاج، حيث قال: يجب أن نعلم أو نظنّ ظنّاً قويّاً بعدم الضرر.
ومن الواضح أنّ عنوان المفسدة أعمّ من الضرر. لكنّ ثمّة قرائن تدلّ على أنّ المقصود من المفسدة هو ذلك الضرر. واستدلّ بعض مَنْ عنون هذا الشرط بعنوان عدم المفسدة بقاعدة لا ضرر.
ومن ناحية أخرى فإنّ المقصود من عدم الضرر عند القائلين بهذا الشرط أعمّ من:
1ـ الضرر المالي والنفسي والعِرْضي.
2ـ الضرر الحالي والمستقبلي.
3ـ الضرر الشخصي وضرر الغير.
ويعتبر تحقُّق واحد من هذه الأضرار سبباً لنفي الوجوب([18]).
أمّا بالنسبة إلى شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي عبارةٌ عن شرطين: الأمن من الضرر أو المفسدة، واحتمال التأثير والقبول. والظاهر أنّ الشكل الذي تمّ فيه تناول هذين الشرطين في الكتب الفقهيّة لم يكن صحيحاً؛ لأنّنا إنْ لم نقُلْ بأنّ شيئاً من هذين الشرطين ليس شرط واجب أو شرط وجوب، فلا أقلّ يمكن القول بأنّ المعنى المطروح عند الفقهاء والمتداول فيما بينهم غير صحيح. وبما أنّ هذا البحث يمتاز بأهميّة خاصّة وهو مطروحٌ بنحوٍ أكثر تفصيلاً فقد تمّت الإشارة إجمالاً إلى تاريخ هذين الشرطين بين فقهاء الصدر الأوّل؛ وذلك لإثبات أنّ المسألة لم تكن مجمَعاً عليها بينهم.
ولا يخفى أنّ الهدف الأساس من هذه المقالة ليس الاستدلال على عدم اعتبار كلا هذين الشرطين في جميع موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلاّ فإنّ شرطيّة كلٍّ من هذين الشرطين مسلّمةٌ في بعض الموارد، وغير قابلة للنقض أبداً.
ب ـ تحرير محل النزاع ــــــ
من أجل تقرير مفهوم هذا الشرط، وبيان دائرته، يلزم ملاحظة النكات التالية:
1ـ لقد ذكر الشرط في كتب بعض الفقهاء تحت عنوان عدم المفسدة، من قبيل: ما ذكر في كتاب شرائع الإسلام([19])، تحرير الأحكام([20])، والوسيلة([21]). والبعض الآخر من الفقهاء ذكر الشرط تحت عنوان عدم الضرر، من قبيل: الشيخ الطوسي([22])، وابن إدريس([23])، ولكنْ مع التدقيق في كلام الطائفة الأولى يتَّضح أنّ مقصودهم من المفسدة هو الضرر نفسه.
2ـ لقد استعمل مفهوم الضرر في هذا البحث على نطاقٍ واسع؛ والسبب في ذلك:
أوّلاً: إنّه شامل للضرر النفسي والمالي والعِرْضي.
وثانياً: إنّ متعلَّق الضرر أعمّ من الضرر اللاحق بالشخص والآخرين، بل ما يشمل سائر المؤمنين.
3ـ لا يدور الضرر مدار العلم فقط، بل إنّ موضوع الضرر متحقِّق بوجود الظنّ القويّ والاحتمال العقلائيّ أيضاً.
4ـ تلحق المشقّة والحرج الشديد بالضرر أيضاً.
ج ـ الأدلّة ــــــ
لقد تمسَّك الفقهاء في مسألة شرط عدم الضرر بمجموعة أدلّة. وأكثر مَنْ استدلّ على ذلك هو صاحب الجواهر. ولذلك من المناسب أن ننقل كلامه وننقده.
يعتقد المحقِّق الحلّي بوجود شرطٍ رابع وهو شرط عدم المفسدة، حيث قال: يسقط وجوب الإنكار إذا ظُنّ لحوق ضرر نفسيّ أو ماليّ على الآمر والناهي أو على أحد من المسلمين. وقد عرض صاحب الجواهر بعد نقله لكلام المحقِّق أدلّة هذا الشرط، وهي كالتالي:
1ـ عدم وجود مخالف (الإجماع).
2ـ قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
3ـ قاعدة لا حرج.
4ـ قاعدة سهولة الدين وسماحته.
5ـ قاعدة اليسر.
6ـ خبر عيون أخبار الرضا×([24]).
7ـ خبر مسعدة([25]).
8ـ خبر شرائع الدين([26]).
9ـ خبر يحيي الطويل([27]).
10ـ خبر المفضَّل([28]) بن يزيد([29]).
تعتبر بعض هذه الأدلّة أدلّة عامّة؛ والبعض الآخر أدلّة خاصّة في هذا البحث فقط. وفي الحقيقة لا يمكن لأيٍّ من هذه الأدلّة أن ينهض على إثبات عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند احتمال وجود ضرر نفسيّ أو ماليّ أو عِرْضيّ على النفس أو على الآخرين.
الدليل الأوّل: الإجماع ــــــ
يعتري الاستدلال بالإجماع إشكالان: صغرويّ؛ وكبرويّ. وتصوير الإشكال الصغرويّ على النحو التالي:
أوّلاً: لم يطرح الكثير من الفقهاء بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساساً، أو أنّهم لم يتعرَّضوا إلى هذا الشرط بالذات.
ثانياً: لا دلالة لجملة «لا أجد خلافاً» على الإجماع.
أمّا الإشكال الكبرويّ فلا يخفى أنّ الإجماع الذي ثبتت حجّيّته إنّما هو الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم. ومن الواضح في المقام أنّه إذا لم نقُلْ بأنّ الإجماع هو إجماعٌ مدركيّ قطعاً، فعلى الأقلّ احتمال مدركيّته كبيرٌ جدّاً، وبذلك لا يكون كاشفاً عن قول المعصوم، وبالتالي ليس حجّة.
الدليل الثاني: قاعدة لا ضرر ــــــ
لقد استدلّ صاحب الجواهر أثناء توضيحه لكلام المحقِّق الحلّي بهذه القاعدة، وقال: «فلو علم أو ظنّ توجّه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى عِرْضه أو إلى أحد من المسلمين في الحال أو المآل سقط الوجوب…؛ لنفي الضرر والضرار»([30]).
ولا يخلو هذا الاستدلال من إشكالٍ من عدّة جهات؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: لا تشمل قاعدة لا ضرر موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ بين هذه القاعدة وإطلاق أدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزاحماً. وقد قُرّر في باب التزاحم أنّ الوظيفة حال التزاحم هي ترجيح الدليل المتضمِّن للملاك الأهمّ، وفي المقام يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذا مصلحةٍ وملاك أهمّ؛ إذ إنّ مصلحة هاتين الفريضتين شاملةٌ لعموم المسلمين والمجتمع الإسلاميّ، أمّا مصلحة قاعدة لا ضرر فإنّها ترجع إلى شخص الآمر والناهي فقط. نعم، إذا كانت مصلحة دفع الضرر عن الآمر والناهي أكثر من مصلحة تحقُّق المعروف وترك المنكر فإنّ قاعدة لا ضرر ستقدَّم على أدّلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكم العقل.
ثانياً: إنّ قاعدة لا ضرر خارجةٌ عن مورد البحث تخصُّصاً؛ لأنّ هذه القاعدة جارية في مورد الأحكام التي يكون موضوعها غير ضرريّ ابتداءً، من قبيل: وجوب الصلاة والصيام، فهذه الأحكام يلازمها الضرر في بعض الأحيان، وفي هذه الحالة يُرفع وجوبُها ببركة قاعدة لا ضرر.
ولكنْ إذا كان الحكم مصاحباً للضرر النفسيّ أو الماليّ أو العِرْضيّ دائماً أو غالباً، مثل: وجوب الجهاد، والخمس، والزكاة، فإنّه لا يمكن حينئذٍ رفعه بقاعدة لا ضرر؛ وذلك لاستلزام إجراء هذه القاعدة في تلك الحالات لغويّة أدلّتها، وهذا قبيحٌ على الشارع الحكيم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبيل هذه الأحكام؛ لأنّ الكثير من الآيات والروايات قد اعتبرت الجهاد مصداقاً للأمر بالمعروف أو بالعكس، أي إنّ الأمر بالمعروف هو مصداقٌ للجهاد. وقد أشارت الآيات والروايات إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محفوفٌ بالمشقّات النفسيّة والعِرْضيّة دائماً أو غالباً، وأنّه ينبغي الصبر عليها وتحمُّلها.
ثالثاً: يوجد في قاعدة لا ضرر مبانٍ متعدّدة، وأهمّها:
أـ مبنى الشيخ الأنصاري، القائل بأنّ لا ضرر تدلّ على نفي الحكم الضرري([31]).
ب ـ مبنى الآخوند الخراساني، القائل بأنّ لا ضرر تدلّ على نفي الحكم الضرري بلسان نفي الموضوع([32]).
ج ـ مبنى شيخ الشريعة الأصفهاني، الذي يعتقد بأنّ «لا» في لا ضرر «ناهيةٌ»، وليست نافية. وبناءً عليه فإنّ لا ضرر تدلّ على النهي عن إلحاق الضرر بالآخرين([33]).
د ـ مبنى الفاضل التوني، القائل بأنّ المستفاد من لا ضرر ولا ضرار هو أنّ الحكم الضرري الذي لا يمكن تدارك ضرره هو غير مجعول في الشريعة([34]).
وعلى أيّ حال إنّما يمكن القبول بإمكان أن تنفي قاعدة لا ضرر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا استلزما الضرر إذا قبلنا المبنى الأول والثاني. أمّا على المبنى الثالث والرابع فلا يمكن إثبات المدّعى؛ لأنّه على طبق المبنى الثالث لا تدلّ قاعدة لا ضرر إلاّ على النهي فقط، فلا تنفي الحكم الضرري؛ وأمّا على المبنى الرابع فإنّ قاعدة لا ضرر تنفي الحكم الضرري غير المتدارَك، أمّا الضرر الناتج من الأمر والنهي فيجبر بالثواب الجزيل.
رابعاً: مع ملاحظة الثواب الجزيل والأجر الإلهي على هذا الفعل فإنّ ما يتحمّله الآمر والناهي لا يعدّ ضرراً بنظر العقلاء؛ لأنّ الضرر بنظر العقلاء إنّما يصدق بعد حساب «النفقات والواردات»، ولا شكّ أنّ ما يحصِّله المكلّف في هذه الموارد هو أكبر بمراتب من النفقات التي بذلها، والمشقاّت التي أصابته.
خامساً: على فرض صدق الضرر في هذه الموارد فقد تمّ مقابل الضرر اليسير (وهو الضرر الشخصيّ) رفع ضرر أكبر وأهمّ (وهو الضرر الاجتماعيّ وفساد المجتمع)، وعليه يمكن مع تحمُّل الفاسد أن يرتفع الأفسد منه، وفي هكذا موارد لا تجري قاعدة لا ضرر.
الدليل الثالث: قاعدة لا حرج ــــــ
يقول صاحب الجواهر بأنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرتفع مع وجود الضرر؛ بدليل… نفي الحرج في الدين([35]).
وهذا الاستدلال غير تامٍّ أيضاً؛ حيث إنّ الكثير من الإشكالات التي وُجّهت أثناء الحديث عن قاعدة لا ضرر جاريةٌ هنا كذلك، ومن جملتها: الإشكالان الأوّل والثاني. ومن الواضح أنّ بين قاعدة لا ضرر ولا حرج تفاوتاً من بعض الجهات. ومحلّ بحثها خارج عن نطاق هذه المقالة.
الدليل الرابع: قاعدة السهولة ــــــ
والاستدلال بهذه القاعدة غير تامّ أيضاً. فليس المقصود من سماحة الدين الإسلامي وسهولته أنّه يخلو من أيّ مشقّة أو تكلُّف، بل المقصود هو أنّ الإسلام ـ بالمقارنة مع الأديان والمذاهب الأخرى ـ يتمتّع بأحكام أسهل، وقابلة للتحمّل أكثر. ولو فرضنا أنّ أداءها سيؤدّي إلى المشقّة والأذى فبما أنّه مصحوب بالدافع الإلهيّ والإخلاص والعشق والحبّ فسوف يكون تحمُّله سهلاً عندئذٍ.
ومسألة سهولة الدين الإسلامي وسماحته إنّما تتّضح عندما ندرك مدى صعوبة الأحكام التي جاءت في الأديان السماويّة السابقة، ومدى مشقتها([36]). فقد جاء الإسلام بقواعد وأصول تسهِّل على المكلِّفين وتريحهم، منها: قاعدة لا ضرر، لا حرج، البراءة، أصل الصحّة، أصل الحلِّيّة، قاعدة الطهارة، وغيرها.
وبناءً على ما تقدَّم لا يمكن لقاعدة السهولة أن ترفع أيّ حكم أو تكليف يكون أداؤه أو تركه صعباً وشاقّاً على المكلَّف.
الدليل الخامس: قاعدة اليُسْر ــــــ
ليست قاعدة اليُسْر في حقيقتها إلاّ قاعدة السهولة، إلاّ أنّ مستند هذه القاعدة هو آياتٌ من القرآن، ومن هذه الآيات: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾(البقرة: 185).
وعلى أيّ حال فإنّ المطالب والإشكالات التي تقدَّمت حول قاعدة السهولة متوجّهة إلى هذه القاعدة أيضاً. وبناءً عليه لا يمكن لهذه القاعدة أن تنفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حال وجود ضرر أو مفسدة محتملة.
والظاهر أنّ مراد صاحب الجواهر من قاعدة اليُسْر ليس دليلاً مستقلاًّ، بل مراده من عطف قاعدة اليسر على قاعدة السهولة هو العطف التفسيري.
الدليل السادس: خبر عيون أخبار الرضا× ــــــ
تدلّ هذه الرواية على أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ على مَنْ لا يخاف على نفسه. وفي رواية أخرى: هو واجب على مَنْ لا يخاف على نفسه وأصحابه وزملائه. ولكنّ الاستدلال بهذه الرواية على المدَّعى غير تامّ؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: سند الرواية ضعيف؛ لوقوع الأعمش في طريقه، وهو ممَّنْ لم يثبت في حقّه توثيق.
يقول الشيخ نوري: هذه الرواية ضعيفة سنداً؛ لوقوع الأعمش في طريق السند، ووثاقته واستقامته غير ثابتة.
وتفصيل المسألة كالتالي: لقد صرّح عالمان كبيران ـ وهما الشيخ البهائي والمير داماد ـ بأنّ الأعمش رجلٌ مستقيم أو ممَّنْ يوثَق به، ولكنّ كبار علم الرجال، من أمثال: محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي(329هـ)، والشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي(460هـ)، والعلاّمة الحلّي(726هـ)، قد ردُّوا رواياته في كتبهم، دون إبداء رأيهم فيه. كما صرَّح ابن داوود بأنّه مهملٌ. وأما الطريق الآخر للرواية المتقدّمة فقد نقله الشيخ أبو جعفر محمد بن عليّ بن بابويه الصدوق(381هـ) عن الفضل بن شاذان. وسند هذا الطريق ضعيفٌ أيضاً؛ لوجود شخصين فيه لم تثبت وثاقتهما، وهما: «عبد الواحد بن عبدوس»، و«عليّ بن محمد بن قتيبة»([37]).
ثانياً: على فرض تماميّة السند والدلالة فإنّ هذه الرواية معارَضةٌ بروايات أخرى دالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتّى في صورة خوف الضرر.
الدليل السابع: خبر مسعدة ــــــ
يدلّ هذا الخبر على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المكلّف القادر والمطاع (أي مَنْ يكون قوله مقبولاً). وفي الحقيقة لا ينهض هذا الخبر دليلاً على المدَّعى (وهو شرط الأمن من الضرر)؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: سند الرواية ضعيفٌ؛ لوقوع مسعدة بن صدقة في السند. وطبقاً لآراء كبار الرجاليين ـ من أمثال: النجاشي([38])، والشيخ الطوسي([39]) ـ فإنّ مسعدة لم يوثَّق. ولا اعتبار في توثيق مَنْ وثّقه، أمثال: المحقِّق المامقاني؛ لأنّه حدسيّ([40]).
ثانياً: على فرض التسليم بتماميّة السند فإنّ الدلالة غير تامّة؛ لأنّه لا ربط لمدلول الرواية بالأمن من الضرر، بل تدلّ على لزوم تحقُّق القدرة ووجودها في الآمر والناهي، ووجود القدرة مغايرٌ لعدم الضرر.
ثالثاً: على فرض تماميّة السند والدلالة فإنّ هذه الرواية معارَضةٌ بمجموعة روايات سيأتي ذكرها في آخر البحث.
الدليل الثامن: خبر شرائع الدين ــــــ
ويدلّ هذا الخبر على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القادر والمتمكِّن من القيام بذلك الواجب، مع عدم الخوف على نفسه وعلى أصحابه وأقاربه.
ودلالة هذه الرواية على المدَّعى تامّة. ولكنْ يرِدُ عليها عدّة إشكالات، منها:
أوّلاً: إنّ سندها غير تامّ؛ لوقوع الأعمش في طريقه، وقد تقدَّم البحث في هذا الأمر بشكلٍ مفصّل.
ثانياً: هذه الرواية معارَضةٌ بالروايات الدالّة على عدم الاشتراط.
الدليل التاسع: رواية يحيى الطويل ــــــ
يدلّ مضمون هذه الرواية على أنّ مَنْ يجب أمرهم بالمعروف هم خصوص الأشخاص الذين لا يمتلكون القدرة فقط، أمّا ذوو القدرة (أصحاب السوط والسيف) فإنّ أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر غير واجب؛ لاحتمال وجود الضرر.
ولا تدلّ هذه الرواية على المدَّعى أيضاً؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: يعتبر يحيى الطويل مجهولاً، ولم يرِدْ في حقّه توثيقٌ خاصّ. ولقد ذكره الكثير من أصحاب الرأي من غير توثيق، ومن جملتهم: الأردبيلي([41])، والمامقاني([42]).
ثانياً: يوجد الكثير من الروايات التي تصرِّح بأنّ أفضل الجهاد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام سلطانٍ جائر. والروايات التي تتضمَّن هذا المعنى كثيرةٌ، منها: «أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر يقتل عليه»([43]).
ثالثاً: هذه الرواية معارَضةٌ بالروايات الدّالة على أنّ أصل الوجوب غير مشروط بعدم الضرر.
الدليل العاشر: رواية المفضَّل بن يزيد ــــــ
ومضمون هذه الرواية هو أنّ مَنْ تعرّض لسلطان جائر، وأصابته بليّةٌ، لم يؤجَر عليها. ويرِدُ على هذه الرواية إشكالاتٌ عديدة، وهي:
1ـ لم يرِدْ في حقّ المفضَّل بن يزيد توثيقٌ خاصّ. كما صرّح في كتاب جامع الرواة([44])، وتنقيح المقال([45])، أنّه لم يرِدْ في حقّه توثيقٌ أو مدح.
2ـ لا يتناسب مضمون هذه الرواية مع الروايات الدالّة على أنّ أفضل الجهاد هو كلمة حقّ عند السلطان الجائر، والظَّلَمة من ذوي القدرة.
3ـ هذه الرواية معارَضةٌ بالروايات الدالّة على أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مشروطٍ بعدم الضرر.
د ـ الروايات المعارِضة ــــــ
وفي مقابل تلك الروايات يوجد مجموعةٌ من الروايات المعارِضة لها ـ وبالخصوص كلام الإمام عليّ× في نهج البلاغة ـ، والتي تدلّ على عدم سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى مع وجود المشقّة والضرر.
بالإضافة إلى وجود السيرة العمليّة للأئمّة^ وأصحابهم، أمثال: أبي ذرّ، وميثم التمّار، وحجر بن عدي، ونظائرهم. وهي تشهد على هذا المدَّعى.
ومن جملة الروايات الدالّة على أنّ أفضل العبادات هي كلمة عدلٍ عند سلطان جائر ما ورد في نهج البلاغة: «وأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقرِّبان من أجلٍ، ولا ينقصان من رزقٍ، وأفضل من ذلك كلِّه كلمة عدلٍ عند إمام جائر»([46]).
وفي هذا الحديث شقّان يدلاّن على المدَّعى:
1ـ عبارة «لا يقرّبان…»، والتي تدلّ بالكناية على عدم سقوط الأمر والنهي مع احتمال وجود خطر على النفس والمال.
2ـ الجملة الأخيرة، التي تدلّ على أنّ كلمة العَدْل عند السلطان الجائر لا تنفكّ في أكثر الأوقات عن الضرر والخطر، ومع ذلك فهي من أفضل مصاديق الأمر والنهي.
وهناك رواياتٌ كثيرة تدلّ أنّه ينبغي على المسلمين أن يتحمَّلوا ويتحلَّوْا بالصبر أمام المشقّات والمشكلات التي تعتريهم أثناء قيامهم بتنفيذ الأوامر الإلهيّة وامتثالها؛ لأنّ الدخول إلى الجنّة يستلزم تحمُّل المصائب، وتخطّي العقبات الكؤود، ومن جملتها: «إنّ الجنّة حُفَّتْ بالمكاره، وإنّ النار حُفَّتْ بالشهوات. واعلموا أنّه ما من طاعة الله شيءٌ إلاّ يأتي في كُرْهٍ، وما من معصية الله شيءٌ إلاّ يأتي في شَهْوة، فرحم الله امرءاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه»([47]).
هـ ـ طرق رفع التعارض ــــــ
مع ملاحظة ما تقدّم ذكره يتبيّن أنّ بين هاتين الطائفتين من الروايات تعارضاً قطعيّاً، بحسب الظاهر. لذا فقد تمّ اقتراح طرقٍ ووجوه عديدة لحلّ هذا التعارض، ومن جملتها: ما قدّمه صاحب الجواهر، حيث ذكر أنّ الروايات الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى مع وجود الضرر ـ كما في الخبر المنقول عن الإمام الباقر([48]) ـ تحمل على أناس مخصوصين [ولكنْ لا عموم لهذه الروايات حتّى تعارض الطائفة الأخرى]، كما ويحمل الضرر في الطائفة الثانية من الروايات على إرادة فوات النفع [وفي تلك الحالة يكون لروايات الطائفة الأولى ظهورٌ في سقوط الأمر والنهي مع وجود الضرر]، أو تُحمَل روايات الطائفة الثانية على وجوب تحمُّل الضرر اليسير [أمّا تحمُّل الضرر الكبير فليس بواجب]، أو تُحمَل روايات الطائفة الثانية على استحباب تحمُّل الضرر العظيم([49]).
والحقّ أنّ هذه الوجوه الأربعة التي قُدِّمت لحلّ التعارض والتنافي بين الروايات غيرُ صحيحة؛ لأنّ الجمع الصحيح والمنطقي هو الجمع الذي يؤيِّده العرف، ويكون له وجهٌ ودليلٌ. وجميع هذه المحاولات المتقدِّمة لا تتمتَّع بأيّ وجهٍ من وجوه الجمع.
وبناءً عليه فسيبقى هذا التعارض تعارضاً مستقرّاً([50]). وعند استقرار التعارض يلزم الرجوع إلى سائر المرجِّحات الأخرى. وعليه يمكن أن يقال:
أوّلاً: إنّ روايات الطائفة الأولى ضعيفة السند. وعليه فالترجيح يكون لروايات الطائفة الثانية([51]). أمّا روايات الطائفة الثانية فإنّها، مضافاً إلى قوّة سندها، موافقةٌ لإطلاق الكتاب.
ثانياً: إنّ روايات الطائفة الأولى ناظرةٌ إلى الأضرار التي هي من قبيل قتل النفس، وفي هذه الصورة يكون الضرر النفسيّ موجِباً لسقوط الأمر والنهي، أمّا الأضرار التي هي دون قتل النفس ونحوه فهي غير موجبة لسقوط الأمر والنهي.
ثالثاً: مع افتراض وجود التعارض واستحكامه فإنّ هاتين الطائفتين ستسقطان. وبعد التساقط يكون المرجع عموم الكتاب وإطلاقه، الذي يدلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى في حالة وجود الضرر. ويخرج بهذا الإطلاق الأضرار التي لا يرضى الشارع بوقوعها وتحمُّلها فقط، من قبيل: قتل النفس ونحوه، أمّا في غير هذه الموارد فإنّ وجوب الأمر والنهي باقٍ على حاله.
و ـ فروع المسألة ــــــ
لو كان المعروف والمنكر من الأمور التي يهتمّ به الشارع الأقدس، كحفظ نفوس مجموعة من المسلمين أو نواميسهم، أو خطر الوقوع في محو آثار الإسلام وإبطال براهينه بما يوجب إضلال المسلمين، أو إبطال بعض شعائر الإسلام، كهدم بيت الله الحرام، بحيث يمحى آثاره ومحلّه، وأمثال ذلك، ففي مثل هذه الحالات لا بُدَّ من ملاحظة الأهمّيّة، ولا يكون مطلق الضرر ـ ولو النفسيّ أو الحرج ـ موجِباً لرفع التكليف. فلو توقَّفت إقامة حجج الإسلام بما يرفع بها الضلالة على بذل النفس أو النفوس فالظاهر وجوبه، فضلاً عن الوقوع في ضَرَر أو حَرَج دونها([52]).
لو وقعت بدعة في الإسلام، وكان سكوت علماء الدين ورؤساء المذهب أعلى الله كلمتهم موجباً لهتك الإسلام وضعف عقائد المسلمين، يجب عليهم الإنكار بأيّ وسيلة ممكنة، سواء كان الإنكار مؤثِّراً في قلع الفساد أم لا. وكذا لو كان سكوتهم عن إنكار المنكرات موجِباً لذلك، ولا يلاحظ الضَّرَر والحَرَج، بل تلاحظ الأهمّيّة([53]).
ز ـ الردّ على كلام الحلبيّ ــــــ
لقد تقدّم أنّ الحلبيّ يقول بأنّه لا يجوز رفع القبيح (المنكر) بارتكاب القبيح (وهو العمل الموجب لترتُّب الضرر). وبطلان هذا الكلام واضحٌ وجليّ. كما أنّ استدلاله غير تامّ؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: هذا الكلام مجملٌ؛ فإنْ كان مقصوده من القبيح هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموجِب للضرر فهذا الكلام غير تامٍّ، فمَنْ قال بأنّ هذا الأمر والنهي قبيح؟! في الوقت الذي وصل التأكيد عليه في الروايات ـ بل في الآيات ـ الكثيرة إلى حدّ الوجوب.
ثانياً: يستدلّ الحلبيّ نفسه أثناء ردِّه لشرط احتمال التأثير بأنّ النهي عن المنكر كان واجباً في حقّ أبي لهب والكثير من الكفّار، مع أنّ احتمال التأثير في أمثال هؤلاء لم يكن موجوداً.
ويُقال في مقام الردّ بأنّ نهي هؤلاء الأفراد عن المنكر إذا لم نقُلْ بأنّه كان موجِباً للضرر بشكلٍ قطعيّ، فعلى الأقلّ كان احتماله موجوداً.
4ـ شرط احتمال التأثير ــــــ
يجب أن يبحث شرط التأثير على عدّة مراحل:
أـ البحث في أدلّة اعتبار التأثير.
ب ـ على فرض التسليم باشتراط التأثير إذا كان قيام شخصٍ واحد بالأمر أو النهي غير مؤثِّر، وكان احتمال التأثير موجوداً بأداء الجماعة له، فهل يصير واجباً على الجميع أم لا؟
ج ـ إذا لم يكن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيُّ تأثير، بل كان محتملاً لفوائد أخرى مترتِّبة عليه، فهل يكون واجباً أم لا؟
أـ المرحلة الأولى ــــــ
اشترط بعض الفقهاء ـ في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ العلمَ بالتأثير، أو احتمالَه على أقلّ تقدير. ويعدّ جواهر الكلام من أكثر كتب الفقهاء التي تناولت هذا البحث بشكلٍ مفصّل، مع بيان الأدلّة. ولهذا سنبحث في الأدلّة التي أوردها صاحب الجواهر، ونقوم بنقدها. وقبل نقد أدلّة شرطية التأثير من اللازم علينا أن نحقِّق ونبحث في مفهوم التأثير:
تحرير محل النزاع ــــــ
يعدّ مفهوم التأثير من المفاهيم الواسعة والشاملة؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: التأثير أعمّ من التأثير الفوريّ والتدريجيّ.
ثانياً: التأثير أعمّ من التأثير على المخاطَب أو التأثير على الآخرين، فمن الممكن أن لا يتأثَّر الشخص العاصي من النهي عن المنكر، بل يكون هذا النهي مؤثِّراً في الآخرين الذين يريدون ارتكاب المعصية في المستقبل.
ثالثاً: إذا لم يؤثِّر الأمر والنهي في المرّة الأولى، لكنْ كان تكراره مؤثِّراً، فيلزم تكرار الأمر والنهي؛ لتحقُّق شرط الوجوب في المقام.
رابعاً: من الممكن أن لا يؤثِّر الأمر والنهي في إقامة الواجب والزجر عن المعصية، إلاّ أنّ له آثاراً مهمّة أخرى؛ كإحياء الشرع والمنع من نسيان أحكامه، والمنع من استمرار المذنبين، والوقوف في وجه المخالِفين والتضييق عليهم. وفي هذه الحالات يكون شرط التأثير متحقِّقاً.
خامساً: إذا كان السكوت ـ بسبب عدم تأثير الأمر والنهي ـ موجِباً لتحقُّق معصيةٍ أخرى ـ مثل: اشتراك الآخرين بالفعل الحرام، والرضا به ـ ففي هذه الموارد يكون السكوت حراماً أيضاً.
أدلّة وجوب التأثير ــــــ
1ـ الإجماع ــــــ
قال صاحب الجواهر، أثناء توضيحه لكلام صاحب الشرائع ـ الذي جعل الشرط الثاني للأمر والنهي هو جواز تأثير الإنكار، حيث قال: لو غلب على ظنِّه أو علم أنَّه لا يؤثِّر لم يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ، ما يلي: «بلا خلاف أجده في الأخير [العلم بعدم التأثير]، بل في ظاهر المنتهى الإجماع عليه»([54]).
وادّعاء الإجماع صغرويّاً وكبرويّاً مشكلٌ. والإشكالات الواردة هنا قد تقدَّم بحثها بالتفصيل في شرط الأمن من الضرر، ولن نعيد ذكرها في المقام.
وبالإضافة إلى تلك الإشكالات يقول صاحب الجواهر نفسه في مقام الإشكال على الإجماع المدَّعى في هذه المسألة: «لكنْ قد يشكَل بالنسبة إلى المرتبة الأولى منه ـ وهو الانكار القلبيّ ـ، الذي ستعرف وجوبه على الإطلاق»([55]).
2ـ خبر مسعدة([56])ــــــ
سمعتُ أبا عبد الله× يقول، وقد سُئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ|: «إنّ أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند إمام جائر»، ما معناه؟ قال: «هذا على أنْ يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلاّ فلا»([57]) .
إنّ دلالة هذه الرواية على شرط التأثير واضحةٌ جليّة؛ لأنّ الإمام× يقول: إنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما هو على الأشخاص الذين يُطاع كلامهم، ويقبل منهم.
ويرِدُ على الاستدلال بهذه الرواية عدّة إشكالات، منها:
أوّلاً: هذه الرواية ضعيفة السند؛ لأنّ في سندها مسعدة بن صدقة ـ كما تقدّم سابقاً في شرط الأمن من الضرر ـ، وهو ضعيفٌ عند البعض؛ وعلى رأي جماعة أخرى أنّه لم يحظَ بتوثيقٍ خاصّ على الأقلّ.
وعلى فرض تماميّة الدلالة، فإنّ سند الرواية فاقدٌ للاعتبار.
ثانياً: حملت الرواية على التقيّة؛ لأنّ مسعدة عامّيٌّ، وقد سأله عن أمر السلاطين والخلفاء بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وقد أجابه الإمام بجوابٍ يوافق رأي أهل السنّة.
ثالثاً: هذه الرواية معارَضةٌ بروايات أخرى.
3ـ خبر يحيى الطويل([58])ــــــ
قال أبو عبد الله×: «إنّما يُؤمَر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمنٌ فيتَّعظ، أو جاهل فيتعلَّم، فأمّا صاحب سَوْط أو سَيْف فلا»([59]).
من جملة الإشكالات الواردة على الاستدلال بهذه الرواية هو ضعف سندها. وقد تقدَّم بيان هذا الإشكال بشكلٍ مفصّل أثناء الحديث عن شرط الأمن من الضرر.
كما أنّ هذه الرواية معارَضةٌ بالروايات الدالّة على أنّ أفضل مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو كلمة حقٍّ عند سلطان جائر.
وكذلك هي معارَضةٌ بسيرة أصحاب الأئمّة^.
4ـ خبر داوود الرقّي ــــــ
سمعتُ أبا عبد الله× يقول: لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قيل له: وكيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق([60]).
إنّ الاستدلال بهذه الرواية غير تامّ أيضاً؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: الرواية ضعيفة السند؛ لوقوع داوود الرقّي في طريقه، وهو غير موثَّق([61]).
ثانياً: إنّ دلالة الرواية غير تامّة؛ لأنّ عدم التعرُّض لما هو غير مقدور لا ربط له بشرط التأثير، فبينهما عمومٌ وخصوص من وجهٍ؛ فتارة تكون القدرة موجودةً من دون وجود التأثير؛ وأحياناً يكون التأثير موجوداً من دون القدرة؛ وتارة يجتمع كلا الأمرين.
5ـ خبر الحارث بن المغيرة ــــــ
يقول الإمام الصادق×: «…ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون، وما يدخل علينا به الأذى، أن تأتوه فتؤنِّبوه وتعذِّلوه، وتقولوا له قولاً بليغاً؟! قلتُ: جُعلت فداك، إذن لا يقبلون منّا، قال: اهجروهم، واجتنبوا مجالسهم»([62]).
والاستدلال بهذه الرواية غير تامّ أيضاً؛ وذلك لما يلي:
أوّلاً: الرواية ضعيفة السند؛ لأنّ فيها سهل، وخطّاب بن محمد([63]).
ثانياً: دلالة هذه الرواية على نفي الشرط أكثر من دلالته على إثباته؛ لأنّه بعد فرض تأثير الأمر بالمعروف يقول الإمام: من الواجب أن تبتعدوا عنهم، وأن لا تشاركوا في مجالسهم. ويعتبر الابتعاد عنهم نوعاً من أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6ـ خبر أبان ــــــ
عن أبي عبد الله× قال: «كان المسيح× يقول: إنّ التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة…، إلى أن قال: فكذلك لا تحدِّثوا بالحكمة غير أهلها فتُجهَّلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثَموا، وليكُنْ أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي؛ إنْ رأى موضعاً لدوائه؛ وإلاّ أمسك»([64]).
إنّ الاستدلال بهذه الرواية غير تامّ أيضاً؛ وذلك:
أوّلاً: لم يوثَّق سهل بن زياد (وهو من رواة هذا الحديث)، ويعدُّه البعض، من أمثال: أحمد بن محمد بن عيسى، من الغلاة([65]).
ويعتقد الكشّي بأنّ دهقان ـ وهو عروة بن يحيى([66]) ـ ملعونٌ([67]).
ثانياً: دلالة الرواية غير تامّة؛ لأنّ علاج الطبيب لا يدور مدار تحقُّق العلم بالتأثير أو الظنّ القويّ به، بل تقوم المعالجة واستمرارها على أساس وجود الاحتمال مهما ضعف.
يقول صاحب الجواهر في هذه الصدد: «بل يمكن ظهوره خصوصاً الأخير [أي هذا الخبر الأخير الذي بين أيدينا] في عكسه [أي في الدلالة على نفي شرط التأثير]؛ فإنّ الطبيب قد يعطي الدواء مع احتمال الشفاء»([68]).
ويقوى إشكال صاحب الجواهر مع ملاحظة صدر الرواية؛ لأنّه قد جاء في صدر الرواية: إنّ الشخص الذي يترك المجروح؛ لصرف احتمال عدم تأثير الدواء، يكون شريكاً في موته. وبناءً عليه يكون صدر الرواية ظاهراً في أنّ ترك معالجة المجروح؛ لصرف عدم احتمال تأثير الدواء، يعدّ قبيحاً. ويقول في ذيل الرواية أيضاً: يجب أن تكونوا كالطبيب، ولا تتركوا معالجة المجروح لاحتمال عدم التأثير.
ثالثاً: يمكن القول بأنّ الرواية لا ربط لها بالشروط؛ لأنّ ما يريد أن يقوله الإمام× أنّه ينبغي للآمر والناهي أن يكون كالطبيب المعالج المشفِق، وأن يكون إنكارُه لطفاً ورحمةً على المرتكِب.
ب ـ المرحلة الثانية والثالثة ــــــ
بعد الفراغ من المرحلة الأولى، والخلوص إلى أنّ الظنّ بالتأثير ليس شرطاً في الوجوب، تصل النوبة إلى البحث في المرحلة الثانية. وموضوع هذه المرحلة هو ما إذا كان أمر شخص أو نهيه غير مؤثِّر، وكان التأثير متوقِّفاً على تكراره من قبل فردٍ أو عدّة أفراد. ولا يبعد القول ـ على فرض أنّ الظنّ بالتأثير هو شرط للوجوب ـ بوجوب الأمر والنهي عندما يكون الأمر والنهي الصادر من الشخص الواحد غير مؤثِّر إلاّ بعد تكراره؛ وذلك لأمور:
أوّلاً: إنّ فرض المسألة هو أنّ التأثير موجودٌ، ولكنّ حصوله سيكون على نحو تدريجيّ. والأدلّة مطلقةٌ من ناحية اشتراط حصول التأثير دفعةً أو تدريجاً.
ثانياً: يمكن القول ـ مع غضّ النظر عن إطلاق الأدلّة ـ بأنّ المراتب الأولى للأمر والنهي ـ الذي يحصل تأثيره بالتكرار ـ واجبةٌ من باب مقدِّمة الواجب.
أمّا في ما يتعلّق بالمرحلة الثالثة، وهي إذا لم يكن للأمر والنهي أيُّ أثر يُذكَر، بل كان له آثارٌ أخرى مترتِّبة عليه، فيلزم هنا أن يفرَّق بين الآثار والمنافع التي تستفاد منه، فإنْ كان هذا الأمر والنهي ممّا يبيِّن الأحكام الإسلاميّة ويحييها، ويشنِّع المذنبين على أعمالهم، فلا شكّ سيكون واجباً. وقضيّة الإمام الحسين× هي من هذا القبيل.
ج ـ تحصيل مقدِّمات التأثير ــــــ
هل يجب تحصيل مقدّمات تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهذا السؤال مطروحٌ في جميع الواجبات. وقد قيل في هذا الصدد: إذا كانت هذه الشروط والمقدِّمات دخيلةً في أصل الوجوب فليس تحصيلها واجباً، أمّا إذا كانت دخيلة في الواجب فإنّ تحصيلها واجبٌ.
يتمتّع هذا البحث بخصوصيّة جعلت ـ رغم أنّ تأثير الأمر والنهي شرطٌ للوجوب ـ تحصيل مقدِّمات التأثير واجبةً. وهذه الخصوصيّة عبارة عن اهتمام الشارع بهذين الواجبين، وعدم رضاه بتركهما. والشاهد على ذلك هو الجهاد الذي يعتبر نوعاً أو مصداقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه مشروطٌ بالقدرة؛ لأنّها من الشروط العامّة للتكليف([69]).
وفي هذه الحالة، تصير تهيئة المقدِّمات، وإعداد عدّة الحرب، والاستطاعة والاقتدار، واجبةً؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60).
ومن المناسب في هذا المقام أن نسلّط الضوء على بعض كلمات الفقهاء؛ لتتّضح أهمّيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهةٍ؛ وللمنع من سوء الاستفادة من هذا الشرط من جهةٍ أخرى.
ينقل الشيخ النوري عن الشيخ الطوسي في هذا المجال قولَه: إذا سُئل: هل يجب حمل السلاح للنهي عن المنكر وإنكار الفساد؟ نقول في الجواب: نعم، إذا اقتضت الضرورة بحسب الظروف الممكنة؛ لأنّ الله قد أمر بذلك. فعندما تفقد الموعظة والإنذار أثرها عند المذنبين، ولا يتدارك الهدف باستعمال اليد، يصير حينئذٍ حمل السلاح واجباً([70]).
وكذا ينقل عن الشيخ الأنصاري في بحث حكومة الظالم أنه قال: لا إشكال في أنّ تحصيل الحكومة [الحكومة الإسلاميّة] واجبٌ. ويعدّ هذا الموضوع مقدّمة لتأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتحصيل مقدّمة تأثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب([71]).
وكذلك ينقل عن صاحب الجواهر الكلام التالي: عندما يصير دفع الفساد وإزالته أو الأمر بالمعروف غير ممكن إلاّ في ظلّ حكومة [الحكومة الإسلاميّة] فإنّ إقامة الحكومة حينئذٍ تصير واجبةً…([72]).
ويتحصَّل ممّا ذكر أنّه لا يمكن اتّخاذ هذا الشرط ـ على فرض أنّ احتمال التأثير شرطٌ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ ذريعةً للفرار من تحمُّل مسؤوليّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د ـ بعض الفروع الفقهيّة ــــــ
ولإيضاح جوانب هذا الشرط يجدر في المقام أن نورد بعض الفروع التي ذكرها الإمام الخميني في تحرير الوسيلة، مع الاستدلال الإجمالي عليها: «لا يسقط الوجوب مع الظنّ بعدم التأثير، ولو كان قويّاً، فمع الاحتمال المعتدّ به عند العقلاء يجب»([73]).
نعم، هذه المسألة من المسائل الخلافيّة؛ فبعض الفقهاء ـ ومنهم المحقِّق الحلّي ـ يصرِّح بأنّه مع الظنّ القويّ على عدم التأثير لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([74]).
وفي رأيي فإنّ هذا المطلب غيرُ تامّ؛ لأنّ إطلاق الأدلّة يقتضي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً، حتّى مع عدم علمنا بالتأثير. ويخرج من هذا الإطلاق موردٌ واحد فقط، وهو صورة القطع بعدم التأثير. أمّا بالنسبة للصور الأخرى، كما لو كان هناك ظنٌّ قويّ بعدم التأثير، فإنّ مرجعها إطلاق الأدلّة: «لو علم أنّ إنكاره لا يؤثِّر إلاّ مع الإشفاع بالاستدعاء والموعظة فالظاهر وجوبه كذلك، ولو علم أن الاستدعاء والموعظة مؤثِّران فقط، دون الأمر والنهي، فلا يبعد وجوبهما»([75]).
ودليل ما تقدَّم هو وجوب مقدِّمة الواجب. أمّا وجوب الاستدعاء والموعظة لوحده فدليله أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائيّة، والمهمّ في الواجبات الكفائيّة هو تحصيل غرض الشارع. ومن ناحية أخرى فإنّ الأمر والنهي طريقيّ لا موضوعيّة له، ولذلك لو تحقَّق الغرض ـ أي فعل المعروف وترك المنكر ـ بواسطة الموعظة والاستدعاء يصير الأخيران واجبين: «لو علم أو احتمل أنّ أمره أو نهيه مع التكرار يؤثِّر وجب التكرار»([76]).
والدليل على وجوب التكرار إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ الغرض ما لم يتحقَّق فإنّ وجوب الأمر والنهي باقٍ على ما هو عليه.
وإذا أُشكِل بأنّ صدق الأمر والنهي متحقِّق بالمرتبة الواحدة يمكن أن يجاب بأنّ تكرار المراتب الأخرى هو من باب مقدِّمة الأمر والنهي، وأنّ آخر مرتبة ـ التي يتحقَّق بها التأثير ـ هي الواجبة فقط: «لو توقَّف تأثير الأمر أو النهي على ارتكاب محرَّم أو ترك واجب لا يجوز ذلك، وسقط الوجوب، إلاّ إذا كان المورد من الأهمّيّة بمكانٍ لا يرضى المولى بتخلُّفه كيفما كان، كقتل النفس المحترمة، ولم يكن الوقوف عليه بهذه المثابة، فلو توقَّف دفع ذلك على الدخول في الدار المغصوبة ونحو ذلك وجب»([77]).
إذا كان الواجب الواقع في محلّ الأمر أو الحرام الواقع موقع النهي مساويين للواجب الذي يجب تركه أو للحرام الذي يجب فعله… ففي هذه الحالة لا يجوز الأمر والنهي؛ وذلك لأنّه سيكون نَقْضاً للغرض ولغواً.
أمّا إذا كان الواجب الذي تعلَّق به الأمر بالمعروف، أو الحرام الذي تعلَّق به النهي عن المنكر، في غاية الأهمّيّة فحينئذٍ يجوز ارتكاب الحرام أو ترك الواجب، بل هو واجبٌ؛ لأنّ هذه المسألة من مصاديق التزاحم بين الواجبين، أو بين الواجب والحرام. وقد ثبت في علم الأصول أنّ الوظيفة في باب التزاحم هي ترجيح الواجب أو الحرام الأهمّ على الواجب أو الحرام غير المهمّ.
هـ ـ النتيجة ــــــ
1ـ لم يقع شرط احتمال التأثير وشرط الأمن من الضرر أو المفسدة موضع اتفاق فقهاء صدر الإسلام (القدماء).
2ـ أقام صاحب الجواهر الكثير من الأدلّة على اشتراط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمن من الضرر واحتمال التأثير، حيث تمّ عرض أدلّة كلٍّ من هذين الشرطين بشكلٍ مفصَّل، مع النقد والتحقيق. وقد ثبت بطلانها. وفي النتيجة بان عدم صحّة القول باشتراطهما.
3ـ بالإضافة إلى ما ذكر من ردّ الأدلّة التي أُقيمت على الاشتراط تمّ بيان سبعة أدلّة تثبت أنّ هذين الواجبين غير مشروطين بذَيْنك الشرطين.
4ـ لو تنزَّلنا ووصلت النوبة إلى التعارض فإنّ الترجيح سيكون لأدلّة عدم الاشتراط؛ لأنّ من الأدلّة آيتين قرآنيّتين دلالتهما تامّة، بالإضافة إلى رواياتٍ ضعيفة السند لا يمكن ـ مهما كانت كثيرة ـ أن تُعارِض الآيات قطعيّة السند.
5ـ وعلى فرض قبول سند ودلالة الأدلة التي أُقيمت على اشتراط وجوب هاتين الفريضتين بعدم الضرر والمفسدة فإنّه من اللازم ملاحظة منافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثاره؛ لأنّه من الممكن أن تكون آثاره وفوائده أكثر بمراتب من الضرر الناشئ منه. وفي هذه الموارد لا يمكن أن يُقال بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرريّ غير واجب.
6ـ لا بُدَّ من ملاحظة احتمال التأثير النوعيّ؛ لأنّه من الممكن أن يكون الأمر أو النهي المتوجِّه إلى مخاطَب معيَّن غير مؤثِّر في تحريكه نحو أداء الوظيفة، أو زجره عن المحرَّم، بل يكون مؤثِّراً في الآخرين. وفي هذه الحالة ـ بناءً على فرض اشتراط احتمال التأثير ـ يكون الشرط متحقِّقاً.
7ـ إنّما يكون هذان الشرطان ـ إذا تنزَّلنا واعتبرناهما ـ مقبولَيْن إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائراً مدار الفرد أو الأفراد، أمّا إذا كانت حياة الإسلام والمجتمع الإسلاميّ وبقاؤهما متوقِّفين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ففي هذه الحالة لن يكون وجوب هاتين الفريضتين متوقِّفاً على أيِّ شرطٍ من الشروط، بل ينبغي أن نضحّي بجميع الأمور في سبيل حفظ الإسلام والنظام الإسلاميّ. ولا شكّ في أنّ قضيّة عاشوراء هي من هذا القبيل.
8ـ إذا قامت البِدَع ـ كأعمال يزيد ـ فيجب على الجميع الإنكار، وخصوصاً العلماء. ولا يخفى أنّ ردَّ البِدْعة ومحاربتها واجبٌ بكلّ الوسائل الممكنة، ومهما كانت الظروف.
9ـ تبتني كافّة هذه الأجوبة الثمانية على أساس النظر إلى ثورة عاشوراء من منطلق الفقه المصطَلَح عليه. وأمّا إذا نظرنا إليها من جهة أنّ سيّد الشهداء هو إمامٌ معصوم وعالمٌ بالغيب فلا مجال هنا لهذه الأبحاث بتاتاً.
10ـ تدلّ الفتاوى التي ذُكرَتْ من تحرير الوسيلة على عدم اشتراط الأمر والنهي بهذين الشرطين.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الحوزة العلمية، وعضو هيئة تحرير مجلة فقه أهل البيت^.
([1]) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين× 2: 259.
([3]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: 237.
([5]) أبو الصلاح الحلبي، الكافي: 265.
([6]) المصدر السابق: 266 ـ 267.
([9]) القاضي ابن البرّاج، المهذّب 1: 341.
([10]) ابن حمزة الطوسي، الوسيلة: 207.
([11]) ابن إدريس الحلّي، السرائر 2: 23.
([12]) المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام 1: 258.
([13]) العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام 2: 240.
([14]) الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقيّة: 75.
([15]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 102.
([16]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 7: 536.
([17]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 371.
([24]) «والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على مَنْ أمكنه ذلك، ولم يخَفْ على نفسه». (الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذيل ح22).
([25]) عن أبي عبد الله×، قال: «سمعتُه يقول، وسئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجبٌ هو على الأمّة جميعاً؟ فقال: لا، فقيل له: لِمَ؟ قال: إنّما هو على القويّ المُطاع العالِم بالمعروف من المنكر…إلخ». (المصدر السابق، الباب 2، ح1).
([26]) عن جعفر بن محمد×، في حديث شرائع الدين، قال: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على مَنْ أمكنه ذلك، ولم يخَفْ على نفسه، ولا على أصحابه». (المصدر السابق، الباب 1، ح22).
([27]) قال أبو عبد الله×: «إنّما يُؤمَر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمنٌ فيتّعظ، أو جاهلٌ فيتعلّم، فأمّا صاحب سَوْط أو سَيْف فلا». (المصدر السابق، الباب 2، ح2).
([28]) عن أبي عبد الله×، قال لي: «يا مفضَّل، مَنْ تعرّض لسلطانٍ جائر، فأصابته بليّةٌ، لم يؤجَر عليها، ولم يرزق الصبر عليها». (المصدر السابق، الباب 2، ح3).
([35]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 371.
([36]) فلتُراجع في هذا الخصوص الروايات التي تدلّ ـ بحسب الظاهر ـ على أنّ حكم الشيء المتنجِّس في الأديان السالفة هو القصّ (وسائل الشيعة)، وإنْ كان المرحوم الشعراني وجَّه هذه الروايات، وحملها على خلاف الظاهر.
([37]) حسين النوري، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 188.
([40]) المامقاني، تنقيح المقال 3: 212.
([41]) الأردبيلي، جامع الرواة 2: 330.
([43]) الطبرسي، مجمع البيان 2: 263.
([46]) وسائل الشيعة 16: 134، باب 3 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح9.
([47]) نهج البلاغة: 25، الخطبة 176.
([48]) وسائل الشيعة 16، باب 2 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح6.
([49]) جواهر الكلام 21: 372. (النقل بالمعنى مع الشرح). والجدير بالذكر أنّ الجمعَيْن الأخيرين قد نُقلا من وسائل الشيعة، وقام صاحب الجواهر بدَوْره بنقدهما.
([50]) المقصود من التعارض المستقرّ هو التعارض الذي يفقد سبل الحَلّ الفنِّي والمنطقي؛ لرفعه.
([51]) لأنّ بعض روايات هذه الطائفة قد أخذت من نهج البلاغة، حيث إنّ سندها تامٌّ.
([52]) تحرير الوسيلة 1: 646، المسألة 6.
([53]) المصدر السابق، المسألة 7.
([57]) وسائل الشيعة 16: 126، باب 2 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح1.
([59]) وسائل الشيعة 16: 127، باب 2 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.
([60]) المصدر السابق: 158، باب 13، ح1.
([61]) داوود الرقّي، ويُعرَف أيضاً باسم داوود بن كثير. لقد تعارضت الأقوال بشأنه بين موثِّق ومضعِّف. ولازم ذلك عدم ثبوت التوثيق. وعلاوة على ذلك فإنّ سند الطوسي والصدوق إليه ضعيفٌ. راجع: الخوئي، معجم رجال الحديث 7: 122.
([62]) وسائل الشيعة: 145، باب 7، ح3.
([63]) لم يوثَّق أيٌّ منهما. راجع: معجم رجال الحديث 8: 338، 7: 56.
([64]) وسائل الشيعة: 128، باب 2، ح5.
([66]) كان من أصحاب الإمام الهادي×، ووكيلاً معتمداً، ثمّ انحرف بعد ذلك، وهو ملعونٌ. (معجم رجال الحديث 11: 139).
([69]) الشروط العامّة للتكليف هي عبارة عن الشروط التي يحكم العقل بلزوم توفُّرها في جميع التكاليف، من قبيل: القدرة والبلوغ وغيرها.
([70]) حسين النوري، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 147.
([73]) تحرير الوسيلة 2: 429، المسألة 1.
([75]) تحرير الوسيلة: 492، المسألة 3.