لقد كشفت تجربة نصر حامد أبي زيد الفكرية عن رغبة كبيرة في تبيئة النسق التأويلي القائم على إعادة قراءة الخطاب ( بالفهم الواسع لكلمة "الخطاب" ) قراءةً تتعدى البحث عن الباطن الدلالي للكلام الذي هو أقرب من ظاهره و إن كان الأخير أقرب ضمن سياقات التعبير ، و ببيان آخر ، تجاوز ممارسة التأويل المعهودة لدى المنشغلين بتفسير النص الديني الإسلامي و الذي يقوم على إرجاع قصدية الكلام إلى مغزى باطني غير الدلالة الظاهرة من اللفظ ، فأبو زيد يعتقد أن هذا التأويل يقوم على عملية كلاسيكية في بيان مضمون الكلام ، لان التحليل البنيوي لــ ( فيردناند دي سوسير ) تجاوز وسائل و ممارسات كهذه ، و راح يحطم كل أنطقة الدوغما السائدة – كما هم يعتقدون – التي تجعل النص يتعالى على زمكانياته ليكون عابراً للأزمنة و الأماكن ، فالتأويل الجديد لا يكتفي بالبحث عن باطن الكلام ، بل يعيد هيكلته من جديد و تقسيمه بنيوياً ( بل حتى تفكيكه ) ، بغية استخلاص الحقيقة الكامنة في النص الخطابي .
و بعيداً عن مديات الجدة و الاستحسان لدى النظرية الجديدة في التأويل ، فإن أبا زيد قد إعتمدها كوسيلة ليس لإيجاد أبعاد أخرى يمكن أن يُنتجها الخطاب ربما غفل الأقدمون عنها أو أنها لم تفصح عن نفسها كفاية فحسب ، بل راح إلى استخدامها في حربه ضد التيار الديني بشكلٍ عام ، إذ إعتمد على التأويل في إعادة قراءة الخطاب الديني الذي إعتقد انه يقوم على دوغما قاتلة ، تجعل من العقل الإنساني عقلاً سكونياً إستاتيكياً لا يعرف سوى الخنوع و الإستقالة من خلال الاعتكاز على البعد الغيبي و إرجاع كل شيء إليه ، لذا فإن واحداً من أهم كتبه التي أراد من خلالها تحقيق هذه الغاية ، و الذي أثار جدلاً لغير قليل من الزمن و في أكثر من مكان ، هو كتابه ( نقد الخطاب الديني ) .
لقد سعى أبو زيد في هذا الكتاب إلى إعادة قراءة الخطاب الديني المعاصر و محاكمته فكرياً ، فقام بترتيب آليات هذا الخطاب و منطلقاته و تحليلها ، و من ثم عالج اليسار الإسلامي الذي إعتقد أن ابرز ممثليه هو ( حسن حنفي ) و سبر غور هذا الخطاب و منهجيته الانتقائية – كما يرى أبو زيد – في العودة إلى التراث و إستلهامه لبناء الحاضر الفاعل تمهيداً للمستقبل المنشود ، و بعد ذاك عمد إلى التأويل فأوضحه و مايزه عن التلوين و ايضاً تعرض إلى القراءة البريئة و غير البريئة و القراءة المغرضة و غيرها من المواضيع التي تضمنها الكتاب ، و في هذه العجالة سنقوم بتسجيل جملة من الملاحظات على منهجية أبي زيد في التأويل إبان نقده ( بل إنتقاده ) للخطاب الديني المعاصر ، و من خلال هذه الملاحظات ستتجلى الإجابة على السؤال الجوهري ، و هو هل أن التأويل المعاصر ، كممارسة معرفية أُريد منها كشف اللثام عن خبايا الخطاب الديني و طلاسمه ، مثلت تعبيراً حقيقياً عن هاجس معرفي حمل صاحبه على خوض هذا الغمار الصعب أو كانت فخاً أراد أبو زيد أن يوقع قارئه فيه ؟ و بعبارة أخرى ، هل أن الارتكان إلى التأويل جاء من أجل التحليل الموضوعي للوصول إلى الحقيقة و إيصالها إلى القارئ أو أن الإجابة القبلية – عكس بعدية – كانت حاضرة و بقوة و لم يكن الارتكان إلا سربال تجلبب به لايقاع القارئ في الفخ ؟
· الملاحظة الأولى : التأويل :
لقد جاءت منهجية التأويل المعاصر كإجابة فاعلة على السؤال الإشكالي المتمحور حول من يمثل مصداق أحقية التعامل مع النص الديني في أوربا المسيحية ، و التي عانت الكثير جراء جثوم رجالات الدين على صدر الأمة الغربية من خلال إحتكار تفسير النص المقدس و تأويله بما يحلو لهم ، من هنا إنطلقت المساعي الجادة في توسيع رقعة المسموح لهم بالتعاطي مع النص الإنجيلي و سبر أغواره و كشف دلالاته بعيداً عن سطوة الأكليروس ، فتم إفساح المجال أمام الجميع في أن يدلوا دلوهم ببيان ما إنطوى عليه النص من أبعاد ، فلم يعد رجل الدين ، أو غيره من الذين تخصصوا بقريب من مجال اللاهوت – كما حدث لاحقاً – ، وحدهم الذين بإمكانهم كشف حقيقة النص و إيحاءاته ، من هنا نشأت ( الهرمونطيقيا ) التي جاءت في تهيكلها الأساسي كمحاولة لتقديم أدوات مهمة و فعالة في تحقيق أنجع النتائج خلال التعامل مع النص الديني بغية إستشفاف مكنوهاته ، و قد إتسعت رقعة الهرمونطيقيا بعد مجيء ( شلاير ماخر ) الذي يعود له الفضل في جعلها لا تقتصر على النص الديني ، بل ذهب إلى أن من الممكن إستخدامها في مختلف المجالات ما دام هنالك نص يُراد تأويله ، لكن الهرمونطيقيا لم تأخذ شكلها الناضح و الناجع إلا من خلال ( جورج هانس غادامير ) الذي منهجها علمياً بصورة أكثر جدية ، لكن على العموم بقي الشغل الشاغل للهرمنوطيقيا هو سبر أغوار النص الديني ، دون إنكار أن التأويل كان أيضاً التعبير السائد في إطار التعامل مع النص غير الديني ، لا سيما بعد مرحلة شلاير ماخر ، و قد تلاقحت جهود الهرمنوطيقيين مع البنيويين – و خصوصاً فيردناند دي سوسير – الذين وظفوا نتاجات سابقيهم في تحصيل المُنجز النهائي لتوليفة معرفية أسهمت في بيان حقائق النصوص ، و على وفق هذا ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة و هي أن هناك جهة من الارتباط بين الهرمونطيقيا التي هي في الأساس محاولة لتأويل النص الديني ، و بين التأويل الدي سوسيري الذي هو منهج بنيوي / تأويلي يهدف إلى تقديم آليات جديدة في بحث خبايا النصوص و كشف مستوراتها ، و لعل من الجائز ، بل من الواجب ، القول أن التأويل الذي يُمارس اليوم ما هو إلا تطور معرفي للهرمونطيقيا التي سبقته منذ قرون ، و بقدر ما أن هذا التوشج بين الاثنين واضح بجلاء ، بقدر ما أن هناك من أراد أن يوسع الهوة بينهما و يقطع دابر كل وصال ، مدفوعاً بأن الحداثة – و ما بعدها – جبّتا عما سبقهما ، و تحديداً ذاك الوصال مع كل ما له علاقة بالسماء من لحاظ عدم السماح بإعطاء بعض الخصوصيات للنص الديني .
من هنا كان البعض ينطلق من هاجس فصم العرى بين الهرمونطيقيا و بين ما يمارسه من تأويل ، لأنه يعي تماماً أن هذا الأمر سيرجعه إلى كيفية البداية التي إنطلقت منها ، و كيف أن أربابها الأوائل – قبل توسيعها – كانوا مع خصخصة النص الديني و أنها أتت لتُلبس النص الديني لباساً جديداً غير ما كان هو عليه ، نعم هناك من اقرّ بهذا الوصال بين الهرمونطيقيا و التأويل المعاصر ، لكن أكثر المقرين يقفزون على ما منحته الهرمونطيقيا للنص الديني و يعمدون إلى التعاطي معه على انه كسائر النصوص ، و لعل أبا زيد واحد من أولئك الذين إعتبروا التأويل المعاصر إمتداداً للهرمونطيقيا ، بيد أنه تجاوز الأخيرة و إعتبر النص القرآني كسائر النصوص الأخرى لجملة من الذرائع التي سوّقها ضمن تطميناته لقرائه بأنه ليس ضد الدين !!
و ربما يصح القول أن أبا زيد و الكثير من أمثاله سعوا إلى أن يوقعوا القارئ بفخ التأويل الذي يتبنوه من لحاظ اقرارهم بكونه نتاجاً عن ممارسة تأويلية كانت تعطي خصوصية للنص الديني .
إذ أن تأويل النص ضمن سياقاته داخل المنظومة الغربية لم ينتقل مباشرة إلى مرحلة التأويل المعهودة في عالم اليوم ، و إنما إبتدأ عبر الهرمونطيقيا التي كان أحد هواجسها الكبيرة هو التعاطي مع النص الديني تعاطياً يعطي الأخير ضرباً من ضروب الخصوصية التي تمايزه عن غيره من النصوص ، إذ بعد حين تم إدخال منهجيات التأويل المتطورة عن الهرمونطيقيا في بيان مكنوهات عامة النصوص ، و يبدو أن إغفال هذا الأمر أو تغافله هو الذي جعل الكثير من مفكري عالمنا الإسلامي يثبون على التطور الصيروري للبناء المعرفي بذريعة أخذ المنجز الكامل و ترك التسلسل التدريجي له ، فقاموا بتطبيق التأويل المعاصر على النص الديني ما أدى إلى نتائج خطيرة ، لعل من أهمها ما توصل إليه أبو زيد من نتاجات تشي بأن النص الديني يهدده خطر فادح إذا ما تم الاستمرار بهذا الدرب ، و هذا ما سيتضح في قابل الصفحات ، أي انه تحت ذريعة الحصول على النتاج النهائي لممارسة معرفية ، تم تسويق التأويل المعاصر و ترك أُسّه الجوهري – المرتبط بالنص الديني – و هو الهرمنوطيقيا ، و هذا بدوره سيؤدي على تعرية النص عن كل قداسة و خصوصية …
من هذا السرد الذي نراه مهماً ، يأتي السؤال الذي يتمحور حول إمكانية فهم ما أراده أبو زيد من مضامين فكرية تضمنها كتابه ، فهل يمكن أن نفهم ما أراده ؟ إن المسألة الأساس في هذا الإطار لا ترتبط بموضوعة قراءة النص و معرفة بعض الجوانب الواضحة التي يفصح عنها بغير جهد كبير ، و إنما ترتبط في إمكانية أن يكون فهمنا للنص الزيدي – تبعاً لأبي زيد – قادراً على أن يُقدم لنا رؤى كاتبه بعين الهدفية و الغائية التي أرادها ، و التي إدعى فيها أنها موضوعية و معرفية بحتة ، و يبدو أن التأويل المعاصر و الذي يؤمن به أبو زيد غير قادر على تقديم إجابة ضامنة لتحديد كهذا ، بل إنها لا تستطيع إعطاء تطمينات على الاقتراب من تينك المحورين (الهدفية و الغائية) ، ذلك ( أن لكل قراءة – بالمعنى التأريخي الاجتماعي – جوهرها الذي تكشفه في النص )([1])، بيد أن تأطير القضية بالمعنى التاريخي الاجتماعي غير كافٍ ، لا سيما إذا ما تماشينا مع ما ذهب إليه ( غادامير ) من ( إن إعادة بناء الشروط الأصلية و محاولة إستعادة المعنى الأصلي محاولة فاشلة ، فما نُعيده ليس الحياة الأصلية ، و التأويل ، بمعنى إستعادة المعنى الأصل ، هو مجرد نقل لمعنى ميت )([2]) و أيضاً الرأي القائل أن ( النص بمجرد أن تتم كتابته يتحول إلى تراث ) ، فالقضية كما هو واضح تتعدى نطاق زمكانية النص – وفقاً لأصحاب التأويل المعاصر – ، إذ أنها تحطم قيود كهذه ، لتؤسر مضمون النص و أبعاده الدلالية بأُسار المفردات التي يستمدها كاتب النص من اللغة ليُنتج ( الكلام ) ، و تتعقد القضية أكثر إذا إستلهمنا ما آمن به البعض من أن دلالات النص و معانيه تتعدد بتعدد قراءه، فالنص لن يبقى أسيراً لكاتبه ، فقد مات ( المؤلف ) ، و لم يعد مستساغاً ، و لا ممكناً ، الإتكاء على أن الكاتب أراد شيئاً و القارئ لم يفهم مرامه ، كل هذا إنتهى ، و نتيجة لذلك سيكون أبو زيد حاله أمام نصه كحال الآخرين ، لا فرق بينهم إلا في مقدار ما يمدنا به التأويل من ممكنات الولوج إلى عالم ( الكبت النصي ) – إذا جاز التعبير – ، فالنص يكبت مضامينه ، و نحن جميعنا أسراء اللغة ، بل الكلام ، و لا شفيع آخر لنا إلا ممكنات التأويل التي لا تفصح هي الأخرى عن ذاتها إلا إذا كان القارئ مالكاً لاستراتيجيات معرفية تُمكّنه من إخراج النص إلى عالم اللا شعور لينزاح ستار النص و يكشف العقل الباطن عما كُبِت !!
لكن من المهم الإشارة إلى أن التأويل أجاد في تطوير القراءة للنص و إمكانيات إعادة منهجة التعاطي مع التراث ، بغية إيجاد مجالات أو فسحات للخروج من الانسداد التاريخي الذي مرت و تمر به غير قليل من الأمم ، كما أنه – للأمانة – أسهم في إثراء البناء المعرفي الإنساني و إغناءه لما أتاحه من سطوة للقارئ على النص لم تكن موجودة ، أو لنقل معروفة ، سابقاً ، لكن المشكلة بالنسبة لنا تتعلق بالإشكالية الأساسية التي لطالما رزح و مازال يرزح تحت وطأتها العقل البشري بإطاره العام ، ألا و هي إشكالية التأليه للمعاش و تلعين السابق من جانب و نتاجات الآخر من جانب آخر ، فقد تم تأليه العقل الإنساني إبان الحداثة و لُعنت المنجزات الدينية و الروحية بكل ما إنطوت عليه من عناصر القوة و القابلية للتطوير و هكذا …. ، فلا مشكلة مع التأويل المعاصر ما دام يهدف إلى تقديم ممكنات لقراءة جديدة للنص مع إحترام خصوصيات النص الديني ( العقلاني ) الذي له دلالات و مضامين لا تكشف عن نفسها لمجرد أن القارئ قرأ كتابين في منهجية التأويل !! و ما دام لا يلعن القراءة الدينية للنص و التي أفنى فيها متخصصوها عمرهم في سبيل تحصيل الأدوات اللازمة و المُمَكّنة من تحليل النص لسبر دلالاته و الإبحار في لُجاج مجاهيله .
كما لا مشكلة مع التأويل فيما إذا أقر دُعاته للكاتب سلطةً معينة ، و أن اللغة بمفرداتها قد تؤثر في إيصاله ما أراده إلى القارئ و لكن شريطة أن لا تنمحي هذه السلطة لندخل في دوامة العبثية و اللا عقلانية .
· الملاحظة الثانية : عنوان الكتاب و هيكليته :
لقد إتخذ أبو زيد لكتابه عنوان ( نقد الخطاب الديني ) ، و كما هو معلوم أن مفردة ( نقد ) تنطوي على محاولة لإبراز نقاط القوة و الضعف في الموضوعة المُراد نقدها ، بيد أن القراءة العاجلة للكِتاب تفي بالإقرار بأن النقد كان إنتقاداً حاداً فقط ، و لم يتعرض فيه أبو زيد إلى أية نقاط قوة أو إيجابية في الخطاب الديني ، و بغض النظر عن المصاديق التي إتخذها لمن يعبرون عن الخط الديني ، فإن من إيجابيات الخطاب الديني – و نحن هنا لا نريد أن نذكرها كلها – هو انه خطاب يوشج علاقة متلقيه بالسماء ، و هذا ما عجزت عنه غيره من الخطابات ، و حتى هذه الايجابية التي تشترك فيها الكثير من التيارات الدينية – بالحمل الاولي طبعاً – فإنه غفل عنها ، بل تغافلها ، و راح يسرد في المثالب و السلبيات و …
كما أن هناك لبساً واضحاً من حيث عدم التمييز بين ( الخطاب ) و ( النص ) من لحاظات المنهجية العلمية ، فهو لم يعط لقرائه مائزاً موضِحاً أو معياراً محدِداً يتمكن من خلاله التفريق بين الاثنين ، ما أدى إلى إدلهام صورة الاثنين لدى متطلع الكتاب ، فهل أن ( الخطاب = النص ) ؟ أو أن احدهما اكبر من الآخر ؟ و هل أن علاقتهما علاقة ( كلي و جزئي ) أو ماذا ؟ ربما يقول البعض أن الخطاب يعني المنطوق فحسب ، لكن أبا زيد لا يؤمن بذلك بدليل انه تعامل مع الخطاب من خلال المقروء ايضاً ، و لعل البعض الآخر يرى أن النص يعني المكتوب ، بيد أن أبا زيد يؤكد أن النص يتعدى نطاق المكتوب ليشمل غيره من منطوق و أحداث و غيرهما .
إن اللبس الناجم عن عدم التمييز و التفريق بين الخطاب و النص يكتنف الكثير من الكتابات التأويلية ، و أنا أميل إلى أن الخطاب أعم من النص ، فالأخير يرتبط بالمكتوب و بكل حادثة أو قول إذا ما إنتقل إلى عالم المقروء لتتم تبيئتها في مختبر التأويل و تشريحها بمباضعه ، أما الخطاب فهو يشمل مختلف الدلالات الإيحائية و الأبعاد النصية و الأحداث و المجريات التي حصلت سابقاً أو خلال آنية الفعل أو إعمالا في كشف مستقبلاته ، فالنص جزء من الخطاب ، و الهرمونطيقيا عندما تريد أن تتعامل مع الخطاب فإنها تُصيّره نصاً كيما يتحقق لها تأويله .
عموماً فعند تشخيص مصاديق الخطاب الديني الذي سعى أبو زيد إلى نقده ، بل إنتقاده ، نرى انه أخذ الجانب المصري فحسب ، و كأن العالم الإسلامي قد خلا من أي خطاب ديني و لم يبق إلا المصري ، بل أنه لم يشمل في ممارسته الفكرية جميع التيارات المشكلة للخطاب الديني في مصر ، و إنما إقتصر على تيار الحاكمية الذي يعتبر سيد قطب منظّره و ملهمه ، مع بعض من ( يوسف القرضاوي ) الذي يعد رائداً لتيار الصحوة ، و القليل من ( فهمي هويدي ) احد أبرز رواد التيار المعتدل .
كان من الأفضل للكاتب أن يعنون كتابه ، كيما يكون موائماً لمضامينه ، بالشكل الآتي : ( إنتقاد الخطاب الديني المصري )([3]) فعندئذ لن يُسجل عليه أي ردٍ لان العنوان سيحقق إنسجاماً تاماً مع ما إنطوت عليه المضامين .
و بالولوج إلى هيكلية الكتاب يُلاحظ انه عالج الخطاب الديني من خلال تقسيمه للآليات و المنطلقات و غيرها من المواضيع ، أما الآليات فهي :
2 – تفسير الظواهر كلها بردها جميعاً إلى مبدأ أو علة أولى ، تستوي في ذلك الظواهر الاجتماعية و الطبيعية .
3 – الإعتماد على سلطة ( السلف ) أو ( التراث ) و ذلك بعد تحويل النصوص التراثية – و هي نصوص ثانوية – إلى نصوص أولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا تقل – في كثير من الأحوال – عن النصوص الأصلية .
4 – اليقين الذهني و الحسم الفكري ( القطعي ) و رفض اي خلاف فكري – من ثم – إلا إذا كان في الفروع و التفاصيل دون الأسس و الأصول .
5 – إهدار البعد التاريخي و تجاهله([4]) .
في حين المنطلقات الفكرية للخطاب تتمثل في :
تُرى ما معيار التمييز بين الآلية و المنطلق ؟ فإذا كان المنطلق يعني المبدأ الذي تبعاً له تحدد الآليات فمن الصعب الإقرار بهذا ، للاختلاف الجوهري بين مفردتي ( المنطلق و المبدأ ) هذا من جهة ، و من جهة أخرى فإن هناك آليات ستكون منطلقات كالآلية الثانية([7]) .
يسعى أبو زيد لتقديم إجابة حول تقديمه الآليات على المنطلقات بالقول ( إن المنطلقات تتأسس – من الوجهة المنطقية الصورية على الأقل – على الآليات )([8])، حسناً ، لا أريد أن أقف على إرتكانه إلى المنطق الصوري الذي يتعارض كلياً مع منهجه و طرائقه في التحليل ، و لكن إذا كانت المنطلقات تتأسس على الآليات ، و الأخيرة – كما تكشف عن ذاتها – تحتاج إلى مبادئ لتكون وسيلة لبلوغها ، فأين إذن هذه المبادئ ؟؟
في إعتقادي إن في هذا التقسيم خللٌ واضح ، و لست ادري كيف أقدم أستاذ جامعي يُعد في طليعة المفكرين العرب – كما يعتقد البعض – على أخطاءٍ كهذه في ممارسة إدعى أنها معرفية لدرجة كبيرة !! . كما أن هناك الكثير من المغالطات و الأخطاء التي لا يسع المقام لإيرادها جميعاً لذا سنعرض عنها صفحاً .
· الملاحظة الثالثة : ( التطرف / الاعتدال ) – ( التأويل – التلوين ) – ( القراءة غير البريئة – القراءة المغرضة ) :
يوضح أبو زيد جملة من التمايزات التي يرى أن من اللازم الالتفات إليها بغية الخروج بنتائج معرفية تُسهم في إنضاج منجز عقلاني داخل العقل العربي المسلم مما سيؤول إلى عقلنة الطرح الفكري ضمن سياقات التكامل الواجب تحقيقه ، و يذهب إلى أن من الأهمية بمكان التمييز بين ( التطرف ) و ( الاعتدال ) فهو يرى أن الخطاب الديني يُعد خطاباً متطرفاُ يسعى جاهداً إلى إقصاء الآخر و التعاطي معه بنظرة إقصائية غير قائمة على مبدأ إحتمالية صحة الآخر و خطأ الأنا .
إذ أن هذا التطرف هو واحد من أهم العناصر الأساسية المسهِمة في تعطيل الخطاب الديني عن التطور المعرفي و الارتقاء نحو إنتاج فكر ، و من ثم سلوك ، قابل للتعايش مع عالم اليوم المتسارع في وثباته التطورية ، بيد أن أبا زيد و مع إقراره بوجود تيار ( الاعتدال ) داخل بنية الخطاب الديني فإنه مع ذلك يعتقد أن ( الفرق بين المتطرف و المعتدل الديني هو فارق في الدرجة لا في النوع )([9]) ، فالتطرف لا يختلف عن الاعتدال إلا من حيث الدرجة ، و ليس الاختلاف في المبادئ الأساسية التي تسهم في إنتاج المعرفة فالسلوك لدى التيارات التي ينطوي عليها الخطاب الديني ، و بما أنها غير مختلفة فإن أبا زيد سعى إلى أن يُركز على التيار المتطرف الذي يُعد أبرز منظّريه هو ( سيد قطب ) ، و من هنا عمد إلى مناقشة جملة من أفكار الأخير و السعي صوب تفنيدها ، لكن السؤال هنا ، إذا الاختلاف بين التطرف و الاعتدال هو إختلاف درجة و ليس نوعاً فلماذا ركّز على التيار المتطرف دون التيار المعتدل ؟؟ يبدو أن السبب هو محاولة لجعل القارئ يرزح تحت وطأة حالة من التشوش الذهني المقصودة و التي توقعه في الفخ المعرفي الذي خطط له أبو زيد ، لان الخطاب ، أي خطاب ، إذا كان منطوياً على أكثر من مدرسة ، أو على الأقل أكثر من رأي ، فعند التركيز على جهة دون الأخرى فذلك يستلزم وجود مرجح موضوعي ، و مع إنعدامه يكون قد رجح شيئاً بلا مرجح .
و بعد حين من الصفحات يُناقض أبو زيد نفسه إذ يقول حول ( مسألة العلاقة بين المسلمين و غير المسلمين في الخطاب الديني المعاصر نجد المتشددين يتمسكون بحرفية ( اخذ الجزية ) و ( الخضوع ) بينما يحاول المعتدلون تأكيد مبدأ ( المساواة ) و الإلحاح على المشاركة في الوطن أو التساوي من حيث المواطنة )([10])، لا ادري كيف حصل مثل هذا الفارق الكبير بين المتشددين و المعتدلين خلال التعاطي مع غير المسلمين في الوقت الذي إختلافهم فيه هو إختلاف في الدرجة لا في النوع ؟؟؟
إن الهاجس الذي يُحرك أبا زيد هو إثبات أن الخطاب الديني يعد خطاباً دوغمائياً – إقصائياً مهما حاول هذا الخطاب من أن يتجلبب بلباس الاعتدال و التسامح ، فهو يقصي الآخر و يسعى جاهداً إلى الغائه و عدم الاعتراف بوجوده ، و إستجابةً لهذا الهاجس فإنه على إستعدادٍ تام في تحريف كل الحقائق إبان تحليله ، فالمعتدل لا يختلف عن المتطرف ، لان كلاهما آمن بأن من أهم أسباب الأزمات التي تعصف في المجتمع هو الابتعاد عن المنهج الإلهي ، أما ما مصادر التشريع و كيف تتم عملية إستنطاق النص الديني و ما آليات هذه العملية و الأحكام المترتبة عليها …. فكل هذا لا يُغير من الأمر شيئاً !!!
أما الاعتدال الحقيقي الذي يؤمن به أبو زيد ، فهو الاعتدال القائم على التأويل المعاصر للنص الديني بوصفه نصاً كغيره ، لا شيء يميزه عن سائر النصوص ، و من ثم لا تحتاج عملية التأويل و إستكناه حقيقة ما أراد صاحبه سوى الاطلاع على كيفية التأويل و إستخراج دلالات الكلام ، فالقضية لا تحتاج إلى وجود متخصصين في الشأن الديني ( العلماء ) لكونهم يعيشون حالة من الانتكاس و الرجعية و قد فتكت بهم الدوغما إلى حد جعلتهم يسيرون القهقري .
أما ثنائية ( التأويل – التلوين ) فهي تأتي في إطار التمييز بين الجهد التأويلي الذي يمارسه أبو زيد و غيره ، و بين المشروع الفكري لــ ( حسن الحنفي ) ، هذا الجهد الذي – سواء إتفقنا معه أم لم نتفق – يعد مشروعاً كبيراً يهدف ، لمدى معين ، إلى إستلهام التراث في سبيل إنهاض الأمة العربية الإسلامية من حالة الخمول الفكري و الجمود الحضاري ، فمجرد إقرار حنفي بأهمية التراث و بإيجابيات الرجوع إليه لاحيائه في الحاضر جعلت نتاجه يتحول – على وفق أبي زيد – إلى قراءة تلوينية كونها نتاجاً لليسار الإسلامي كما يصنفها .
إذ من غير السليم ( قراءة الحاضر في الماضي ) تبعاً لمنهجية حنفي ، لأنها ممارسة تلوينية تهدف إلى إضفاء جملة من الاصبغة ( المُجمِّلة ) على قضايا تراثية بذريعة استلهامها ، لان أبا زيد يرى أن التراث لا يمكن أن يعود للحياة في الحاضر المعاش ، فضلاً عن المستقبل المنشود ، نعم هو يقبل من التراث ما يتلائم مع توجهه التأويلي و متبنياته ، أما عدا ذلك فعلى التراث السلام .
و هو لا يألو جهداً في وصم مشروع حنفي بأنه ( قراءة مغرضة )([11]) ، و هي فرصة لإيضاح توصيفاته لثنائية ( القراءة غير البرئية – القراءة المغرضة ) ، فهو بعد أن يستبعد وجود قراءة بريئة ، يوضح الفرق بين الأخريين ( إن إنعدام البراءة في النشاط المعرفي عموماً ، و في قراءة النصوص خصوصاً ، أمر له تأويله الابستمولوجي ما دام فعل المعرفة لا يبدأ من فراغ مطلق شامل مطابق لحالة البراءة الأصلية الأولى على إفتراض وجودها ، أما القراءة المغرضة فهي على عكس ذلك ، لا تأويل لها إلا في إطار الايديولوجيا )([12]) .
فالقراءة غير البريئة ، و إن كانت تتسم بعدم البراءة و بتوشجٍ بضرب من القصدية ، يجد لها أبو زيد مبرراً معرفياً ، في حين المغرضة تنحصر في التبرير الايديولوجي ، و هذا يستلزم تماشياً مع طريقة أبي زيد في التحليل ، إن كل القراءات التي تختلف معه تكون مغرضة كما هي الحال في قراءة حسن حنفي للتراث ، و حتى نعرف هل أن قراءة أبو زيد للخطاب الديني قراءة غير بريئة أو مغرضة ، فسأعرض جملة من الشواهد التي تثبت انه مارس القراءة المغرضة ( الايديولوجية ) و إن كان أراد إيقاع قارئه في فخ تأويله ، فهو عندما يناقش شروط تطبيق حد قطع اليد للسارق ، يذكر شرطين فقط ينقلهما عن سيد قطب ، و هما شرط أن يكون المال أو العين في مكان محرز أو لنقل في مكان مغلق و مؤمَّن ، و الثاني أن لا يكون للسارق نصيب في المال المسروق ، ثم يعمد إلى مناقشة هذين الشرطين بهدف تعرية مقاصديتهما ليتوصل إلى حقيقة أن الخطاب الديني يمثل خطاباً دوغمائياً و ساذجاً([13]) !! هل نسي أبو زيد أن شروط قطع يد السارق تتجاوز العشرين شرطاً ؟ و تبعاً للسؤال السابق : هل غفل عن أن شروط القطع جاءت منسجمة مع وضع الرفاهية التي أرادها الإسلام للمجتمع ، بحيث يصبح مع انعدامها توافر شروط القطع امراً مستحيلاً ؟؟
كما انه يقرأ النتاج المعرفي للكُتّاب قراءة مغرقة في غرضيتها الايديولوجية ، فيشير إلى احد كتب إبن تميمية التي عمد فيها كاتبها إلى المواءمة بين المعقول و المنقول ألا و هو ( موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول )([14])، بيد انه يقول بعد صفحة واحدة ( و هكذا ينتهي الخطاب السلفي إلى التعارض مع الإسلام حيث يتعارض مع أهم أساسياته ( العقل ) و يتصور انه بذلك يؤسس ( النقل ) ، و الواقع انه ينفيه بنفي أساسه المعرفي )([15])، هكذا تحول إبن تميمة و هو رائد التيار السلفي ضمن الخطاب الديني بمختلف أزمنته ، من دُعاة العقلانية و أرباب المواءمة بين المعقول و المنقول لكونه ألّف كتاباً بذلك ، و يسدل أبو زيد الستار على كل الممارسات التنظيرية و السلوكية الدوغمائية التي تجلت في إبن تميمية و مدرسته المتطرفة !! لا أدري كيف سمح لنفسه أن يخرج بتوصيفات غير منطقية كهذه ، كما انه في قراءته غير البريئة ( و لكنها ليست مغرضة !! ) إبتسر الخطاب الديني في بعض النماذج المصرية ، أما البنية الشيعية داخل الخطاب الإسلامي فهي لا تستحق أن يقرأها أبو زيد ، ربما لكونها لا تنتمي إلى الخطاب الإسلامي اصلاً ؟؟؟
· الملاحظة الرابعة : الحاكمية :
لقد برزت الحاكمية ، بعدها وجهة نظر في التعاطي مع السلطة العليا – السياسية – داخل المجتمع من منطلق عدم الاعتراف بحق الحكم لغير الله تعالى ، إبان حرب صفين التي جمعت بين جيشي الإمام علي (ع) و معاوية بن أبي سفيان عام 37 هــ ، إذ حين لاح لجيش الإمام النصر على عدوه ، إستنجد معاوية بإبن العاص الذي أشار عليه بأن يأمر جنوده برفع المصاحف على أسنة الرماح و النداء بأن ( لا حكم إلا لله ) ، الأمر الذي أدى إلى خروج الخوارج على الإمام علي (ع) و رفعهم لشعار ( لا حكم إلا لله ) ، و في أكثر من موضع كان أبو زيد يُشير إلى أن جيش الشام ( هو من طرح مفهوم الحاكمية و ليس الخوارج على عكس ما يروج الخطاب الديني المعاصر )([16])، و تأتي تاكيدات أبي زيد هنا ليس في إطار الاستنتاج المعرفي ، أو لنستخدم تعابيره ، ليس في إطار القراءة غير البريئة ، بقدر ما الهدف منها هو ضرب الحاكمية المعاصرة التي يريد أن يقول لهم – ضمنياً – أن المرتكز الذي ترتكزون عليه لم ينطلق إلى الوجود كإستنطاق للنص الديني بقدر ما جاء كإستجابة لرغبة النفعيين في الخلوص من القتل المحتم ، و بعبارة أخرى ، جاءت كنتاج لقراءة مغرضة و ليس غير بريئة .
ثم يعمد إلى تحليل الحاكمية بالقول ( إن النتائج الخطيرة التي تترتب على طرح مفهوم الحاكمية ، بالإضافة إلى ما يؤدي إليه من إهدار لدور العقل و مُصادرة الفكر على المستوى العلمي و الثقافي ، إن هذا المفهوم ينتهي إلى تكريس اشد الأنظمة الاجتماعية رجعيةً و تخلفاً )([17])، إن هذا القول ينطوي على مقدار ليس بالقليل من الصواب ما أخذنا بنظر الاعتبار دُعاة الحاكمية ( السطحيين بالخصوص ) الذين نشطوا في المجتمع المصري و بعض المجتمعات الإسلامية الأخرى ، بيد أن من غير الصحيح تعميم هذا الحكم على الحاكمية بأشكالها كافة ، ففي إيران – على سبيل المثال – هناك تطبيق ، لمديات معينة ، للحاكمية ، و سواء إتفقنا مع الحاكمية في إيران و المتجسدة في نظرية ( ولاية الفقيه ) أم لم نتفق فإن من غير الصحيح القول أنها أسهمت في رجعية المجتمع الإيراني و تخلفه ، بل على العكس ، أسهمت و لدرجة كبيرة في تطويره – لا سيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار حالته إبان العهد البهلوي – و لم تجعله رجعياً و متخلفاً .
إن المشكلة في منهجية أبي زيد التحليلية و التأويلية تكمن في إسلوبه التعميمي القصدي ، الذي يقوم بتشخيص بعض مكامن الخلل في جملة من المصاديق المصرية للخطاب الديني ، و من ثم يقوم بتعميمها على كل الحالات في مختلف الزمكانيات .
إن الحاكمية إذا أُريد بها توشيج العلاقة بين الأرض و السماء من خلال إتباع الأحكام الإلهية الثابتة و الصحيحة لم و لن تعنِ النكوص و لا التقهقر بقدر ما ستعني الارتقاء بالمجتمع و تفعيل دور العقلانية فيه ، لكون الرسالة الإسلامية لم تعارض العقل ، بل دعت و شجعت – بل أوجبت – التفكر و التدبر و التعقل …. ، إذ لا يكفي ، لا سيما و اننا ندعي المعرفية ، أن نبتسر الحقائق و نثب على إيجابيات الأمور لكونها تعارضت مع بعض مسلماتنا التي نرتكن إليها .
لنتأمل كلام أبي زيد الآتي ( إن رد كل أزمة من أزمات الواقع في المجتمعات الإسلامية – بل و في كل أزمات البشرية – إلى ( البعد عن منهج الله ) هو في الحقيقة عجز عن التعامل مع الحقائق التاريخية ، و إلقاؤها في دائرة المطلق و الغيبي ، و النتيجة الحتمية لمثل هذا المنهج ، تأييد الواقع و تعميق إغتراب الإنسان فيه و الوقوف جنباً إلى جنب مع التخلف ضد كل قوى التقدم )([18])، إن أبا زيد يعمم جملة من مصاديق دُعاة الحاكمية المصريين على مبدأ يهدف بالدرجة الأساس إلى الارتقاء بالمجتمع من خلال ربطه بتعاليم السماء ، فالحاكمية على وفق تصويره تنسجم ، بل تتماهى ، مع النظرة الكنسية التي رزحت تحت وطأتها شعوب أوربا غير قليل من الزمن ، و هي تتعارض جملة و تفصيلاً مع ما جاء به الإسلام و أراده ، لذا فمن غير السليم الحكم على مبدأ ما أو نظرية من خلال بعض المصاديق .
· الملاحظة الخامسة : العقل :
ينظر أبو زيد إلى الخطاب الديني على انه ( يختصر علاقة الإنسان بالله في بعد واحد فقط هو العبودية ، التي تحصر – الأخيرة – فاعلية الإنسان في الطاعة و الإذعان ، و تحرّم عليه السؤال أو المناقشة )([19]) ، و ايضاً ( إن اختزال دور الإسلام و مقصده الكلي في تحرير الإنسان من العبودية لغيره من البشر ، لكي يرده إلى عبودية من نمط آخر ، هو التزييف بعينه ، لأنه مقصد شكلي ما دام يسلمه إلى عبودية كهنة النصوص )([20])، و كلام أبي زيد هنا صحيح جداً ، على وفق المصداق الذي لم يوضحه لقرائه بشكل صحيح ، بل شخّص ليقفز على المشخَّص فيعمم النتائج على الجميع ، فالعبودية التي جاء الإسلام ليحرر الإنسان منها ولم يجعلها بمثل مضامينها عبودية لله تعالى ، فعبادة العبد شيء ، و عبادة الخالق سبحانه شيء آخر ، في الأولى القيود و التسافل و الابتعاد عن روح الأخلاق و التسامي ، و في الثانية التحرر من قيود الدنيا و الأشخاص و التمسك بمنهج الله تعالى و الأخلاق الفاضلة ، يكفي لإدراك ذلك أن نقارن بين شخص يعبد صنماً أو شخصاً أو لذةً و بين شخص يعبد الله تعالى ( بالمعنى الواقعي للعبادة ) .
عندما يعمد أبو زيد إلى تشخيص أولى محاولات إلغاء العقل لحساب النص فيقرر أنها لحظة رفع المصاحف على أسنة الرماح([21])، لكن لماذا كل هذا التأخر لعام 37 هــ و هو العام الذي نشبت فيه حرب صفين ؟ لماذا ليس التأسيس للفكر الجبري القائم على إستقالة العقل من منطلق أن أفعال الإنسان من خلق الله تعالى فلا يصح الاعتراض عليها ، و هو فكر أسس له معاوية في الشام ليلغي دور العقل و يُنوّم أتباعه تنويماً يجعلهم يتبعونه إتباعاً أعمى دون قيد أو شرط ؟ و كذا لماذا ليس في زمن عثمان بن عفان الذي أراد أن يُغالط الذين ثاروا عليه لانحراف سيرته من خلال توظيف التأكيدات التي جاءت في القرآن الكريم و السنة الشريفة ، بأنه ( كيف أنزع قميصاً ألبسنيه الله )([22])([23]) ؟ ، و الغريب في الأمر أن أبا زيد ذكر هذه الحادثة في كتاب آخر له([24])؟ هكذا يقفز على الحقائق ليوقع قارئه في فخ تأويله الذي يدعي له المعرفية !!
يعتقد أبو زيد أن العقل يقف على الضد من الجاهلية التي جاء الإسلام لمحاربتها و القضاء عليها إذ يقول ( و إذا كان الإسلام يمثل الموقف النقيض [ للجاهلية ] فمعنى ذلك انه يمثل ، جوهرياً ، موقف الإحتكام إلى العقل و المنطق حتى في فهم نصوصه ذاتها )([25])، و لكن من الأهمية بمكان البحث عن مراده بالعقل ، فالعقل الإنساني ، لا سيما إذا تماهينا مع جملة من دُعاة المنطق الذاهب إلى أن من الصعب الإجماع على مرتكزات عقلية ثابتة في كل زمان و مكان ، لا يمكن أن يُشكل مقياساً واضحاً لتصويب النتائج و تخطيئها .
إن العقل الذي يجعله أبو زيد واحداً من ثالوث مقاصد الشريعة التي يدعو لإستبدالها بــ ( العقل – العدل – الحرية ) ليس عقلاً واحداً ، فكثير من القرارات التي تُسمى عقلانية تكون قرارات متناقضة !! و ربما يمكن القول أن العقل الذي يدعو إليه أبو زيد هو ذلك الذي يدعو إلى عدم محاربة الاستعمار لأسباب طائفية !!!
لقد أعلن أبو زيد ، في احد لقاءاته مع جريدة الأهالي إبان العدوان على لبنان ، إلزامية عدم إستنكار هذا العدوان لأنه سيعني الوقوف مع حزب الله([26]) !! ، اجل هذا هو العقل الذي يدعو إليه أبو زيد و يريد أن يجعله أحد مقاصد الشريعة ، و لعمري لقد أجاد ( هادي العلوي ) عندما قال ( و هكذا يصبح العدو الأوحد بالنسبة لتسعين بالمئة من مثقفينا هو الإسلام ( السياسي ) و هذه الإلحاقة [ يقصد السياسي ] للتمويه ، فالعدو هو الإسلام نفسه )([27])، فالذريعة الابتدائية لشرعنة المواجهة و تبريرها هي الإسلام السياسي ، بيد أن هؤلاء لا يكتفون بإبعاد الإسلام عن السلطة السياسية ، و إنما يتجاوزون الأمر إلى إبعاده عن الحياة برمتها ، و من هنا لا يمكننا الوثوق بالتطمينات التي قدمها أبو زيد من أن ( العلمانية ليست في جوهرها سوى التأويل الحقيقي و الفهم العلمي للدين ، و ينبغي التفريق بين فصل الدين عن السياسة و بين فصل الدين عن المجتمع و الحياة ، فالأولى ممكنة أما الثانية فعبارة عن وهم …)([28])، فهذه التطمينات لم تعد قادرة على أن تجعل المجتمع يثق كفاية بالعلمانية ، لا سيما على وفق مساراتها داخل بعض المجتمعات التي طبّقتها ، أليست العلمانية في تركيا سُوقت من قبل أتاتورك على أنها الحل الأمثل لإبعاد الدين عن السياسة ، بيد أنها اليوم تمنع الحجاب في الجامعات و المؤسسات التركية ؟؟ ، أليست فرنسا و هي ( رائدة الحرية كما يدعي البعض ) صارت ترغم النساء على عدم ارتداء الحجاب و تفرض العقوبات لتحقيق ذلك ؟؟
هذا إذن العقل الذي يتعامل وفقاً له أبو زيد مع النص الديني و يسعى إلى أن يأوّله ، بل يلوّنه !! و الغريب في الأمر أن جملة من مثقفينا مهما إدّعوا أنهم علمانيون و أنهم لا يؤطرون حياتهم تناغماً مع الأفكار الدينية التي يقولون أنها ضيقة ، فإنهم في تخريجاتهم النظرية و سلوكهم العملي طائفيون من الطراز الرفيع !!
· محاولة لإعطاء تبرير :
لأجل أن لا نقع في عين الأخطاء التي وقع فيها أبو زيد ، فإننا سنحاول أن نتفهم المحيط الذي إحتك به أبو زيد ، و الذي جعله يتخذ مواقف مسبقة من الآخر فرتب نتائجه الفكرية عليها ، فجملة من المؤمنين بالحاكمية من التيارات الدينية المصرية قد الغوا العقل في كثير من المواطن التي يجب أن يكون له فيها دور ، فعلى سبيل المثال ، ذهب بعضهم إلى تحريم تعلم القراءة و الكتابة لكونها قد تكون سبباً في ضلال الإنسان في حال قام بالتعرف من خلالها على الأفكار التي إعتقدوا أنها تدعو إلى الضلال ، و بعض سعى إلى التهوين من هذه الحدة ، فدعا إلى جواز التعلم على أن تقتصر القراءة على القران الكريم و بعض الكتب الدينية ، و بعضٌ أخر حرّم الذهاب إلى الطبيب أو تناول الدواء ، لان ذلك يجعل الإنسان راغباً في البقاء طويلاً في هذه الدنيا و الجنوح عن لقاء الله تعالى عاجلاً ، و آخرون نظروا إلى المجتمع الإسلامي على انه مجتمع كافر لكون الأحكام المطبقة فيه لا تتوافق كلياً مع الأحكام الإسلامية فراحوا يُطلّقون النساء من الرجال و يبيحون الدماء و … ، فأعادوا بذلك منهج الخوارج في تشددهم و تسطيحهم للأحكام الإسلامية و عدم تفريقهم بين ( الإسلام و الإيمان ) .
في خضم هذه الأجواء و ضمن مناخاتها نظر أبو زيد إلى الخطاب الديني ، فلم يجد فيه غير السطحية و السذاجة و إعلان إستقالة العقل البشري و تفويض الأمر كله لنصوص هي بحاجة ايضاً إلى العقل الذي إستقال !! ما أدى إلى إنتاج خطاب متيبس ، خال من المحتوى و المضمون ، بعيد كل البعد عن روح الإسلام و قيمه ، و بهذا قد يكون أبو زيد معذوراً في تحليله الذي قام به وفقاً لمنهجية التأويل و إستنتاجاته التي تمخضت عنه ، و تزداد القضية إستيعاباً و تبريراً إذا ما علمنا أن أبا زيد قد تم تكفيره من قبل الجهات التي تُعد معتدلة و أكثر إنفتاحاً من أولئك الذين ذكرنا أمثلة عن بعض أفكارهم ، كما ان المنطلقات و الآليات التي حددها في كتابه هي صحيحة ضمن طرائق إنتاج الأحكام و التوصيفات عند مصاديقه داخل الخطاب الديني …
بيد أن السؤال الجوهري في هذا الإطار : هل أن كل هذا يعد مبرراً مقنعاً و كافياً لان يقوم أبو زيد بإبتسار الخطاب الديني هكذا إبتسار و تأويله بإسلوبٍ كهذا ؟؟ أعتقد إننا مهما حاولنا أن نبرر لأبي زيد ما فعل فإن محاولات التبرير ستبوء – بلا ريب – بفشل ذريع ، لا سيما إذا ما إنطلقنا من كونه يعد واحداً من ابرز الذين يُعتبرون مفكرين كما يذهب البعض .
لكن ينبغي عدم إغفال الجهد المعرفي الذي بذله في جملة من كتاباته و نتاجاته الفكرية ، و التي أسهمت على الأقل في زيادة الحِراك داخل العقل الإسلامي و هو يسعى جاهداً في الرد عليها ، كما يمكن القول ، أن ما قدّمه أبو زيد من منجز كان يمكن أن يكون له دور كبير في إحياء المشروع العقلاني داخل المنظومة الإسلامية – العربية لولا ما إكتنفها من طابع إيديولوجي متسربل باللباس المعرفي .
Woodlion0085@yahoo.com
[1] ) نصر حامد أبو زيد ( نقد الخطاب الديني ) الطبعة الثانية 1994 م ، نشر دار سينا – القاهرة ، ص 118 .
[2] ) خيرة حمر العين ( الشعرية و إنفتاح النصوص ، تعددية الدلالة و لا نهائية التأويل ) في مجلة ( الخطاب ) دورية تصدر عن جامعة مولود معمري – تيزي وزو ، العدد السادس 2010 ، ص 11 .
[3] ) و إذا ما أُريد أن يكون العنوان أكثر دقة ، فمن الأفضل أن يكون كالآتي : ( إنتقاد الخطاب الديني المصري ، دراسة لنماذج ) !! .
[5] ) المصدر السابق ، ص 101 .
[6] ) المصدر السابق ، ص 117 .
[7] ) كان من الأفضل أن تُرتب الموارد على شكل ( مبادئ ) و ( آليات ) .
[8] ) المصدر السابق ، ص 77 .
[9] ) المصدر السابق ، ص 67 .
[10] ) المصدر السابق ، ص 211 ، أرجو من القارئ العزيز أن يلتفت إلى الأفعال التي يستخدمها في بيانه ، فهو حين تحدث عن المتشددون إستخدم فعل ( يتمسكون ) ، أما حين تحدث عن المعتدلون إستخدم فعل ( يحاول ) ، إنه يعرف تماماً كيف ينتقي المفردات لايقاع القارئ في فخه ، و هي طريقة معرفية تقوم على ممارسة تلقينية للاشعور القارئ من خلال إستخدام مفردات يُراد منها أن تلتصق في العقل الباطن للقارئ حول الجهة المُراد بيان مثالبها.
[11] ) المصدر السابق ، ص 162 .
[12] ) المصدر السابق ، ص 142 .
[13] ) المصدر السابق ، ص 88 .
[14] ) المصر السابق ، ص 101 .
[15] ) المصدر السابق ، ص 103 .
[16] ) ينظر على سبيل المثال : المصدر السابق ، ص 85 .
[17] ) المصدر السابق ، ص 113 .
[18] ) المصدر السابق ، ص 95 .
[19] ) المصدر السابق ، ص 116 .
[20] ) المصدر السابق ، ص 134 .
[21] ) المصدر السابق ، ص 102 .
[22] ) محمد بن جرير الطبري ( تأريخ الأمم و الملوك ) (8) أجزاء ، د.ط ، د.ت ، نشر مؤسسة الاعملي – بيروت ، ج 3 ص 407 ، و أيضاً : عز الدين بن أبي الحديد ( شرح نهج البلاغة ) (20) جزء ، تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم ، د.ط ، 1378 هـ / 1959 م ، نشر دار الكتب العلمية – بيروت ، ج 2 ص 150 ، و ايضاً : عبد الحسين الأميني ( الغدير ) (12) جزء ، الطبعة الرابعة 1397 هـ / 1997 م ، نشر دار الكتاب العربي – بيروت ، ج 9 ص 183 .
[23] ) النكتة اللطيفة هي أن عثمان ، و بعد أن إستنفد جميع وسائله لثني الثوار عن عزمهم على خلعه ، لجأ إلى موضوعة ( أن الخلافة منصب الهي ) لأنه يُدرك تماماً أن الشارع قد أوضح هذا الأمر في الكثير من المواضع لذلك أراد أن يُذكّر الثوار به ، و هذا يُثبت انهم كانوا مقرين بأن الخلافة تنصيب إلهي و لكن هي الدنيا !!!
[24] ) نصر حامد أبو زيد ( النص ، السلطة ، الحقيقة ، الفكر الديني بين إرادة المعرفة و إرادة الهيمنة ) الطبعة الأولى 1995 م ، نشر المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء ، ص 55 .
[25] ) نصر حامد أبز زيد ( نقد الخطاب الديني ) ، مصدر سابق ، ص 97 .
[26] ) هادي العلوي ( المرئي و اللا مرئي في الأدب و السياسة ) الطبعة الثانية 2003 م ، نشر دار المدى – دمشق ، ص 45 .
[27] ) المصدر السابق ، ص 46 .
[28] ) نصر حامد أبو زيد ( نقد الخطاب الديني ) مصدر سابق ، ص 46 .