قراءةٌ وتأمّل
د. عبد الكريم سروش(*)
تمهيد ــــــ
لطالما تحاشيت الحديث عن الأسماء والشخصيات التي لا تسمح سياسة البلد الحالية بنقدها؛ لأن المرء سيكون منحازاً ـ لا محالة ـ إلى جانب تلك الشخصيات، فلا يملك لنفسه سوى الإطراء عليها. إلاّ أن عظيماً بمستوى السيد شريعتي لا يحظى ـ حالياً ـ بهذه المكانة من القدسية، ولهذا من الممكن ـ إلى جانب تقدير دوره وعطائه ـ استعراض آرائه وحركته الفكرية بالنقد والتحليل، الأمر الذي يترك أيدينا مبسوطة، وأذهاننا طليقة، في دراسة أبعاد شخصيته؛ لنخرج بنتائج أكثر إيجابية ومصداقية بعونه تعالى.
يجدر بنا ـ ونحن بصدد تسليط الضوء على زاوية جديدة من نتاجات شريعتي ـ أن نرصد هذه المرّة رأيه في وصف رؤيته الفكرية، ومن هنالك ننطلق في تحليلنا ونقدنا للمواقف والأفكار. فهو يعدّ حركته نوعاً من البروتستانتية([1])، وهي اللفظة المستعملة في كتاباته، بحيث يمكن لمَنْ يقف عليها أن يدرك انتماء شريعتي إليها. والبروتستانتية مذهبٌ معروف، ظهر في القرن السادس عشر في أوروبا على صعيد الفكر والديانة المسيحية، فكان بمثابة زلزال مدمّر يكتسح قارة المسيحية الكبرى، وترك خلفه أيضاً العديد من الهزّات العنيفة في واقع الدين ـ نظرية وتطبيقاً ـ، فأحدث ذلك انقساماً واسعاً نتج عنه أن انشطرت المسيحية إلى فرقتين أساسيتين، تقتسمان أمداً طويلاً من النزاعات والتضادّ، وحملت كلّ فرقة قراءةً ورؤية في المسيحية مغايرة للأخرى. ولم يؤثِّر هذا التحوّل العارم في المتكلِّمين فقط، وإنما امتدّ ليستقطب نظريات علماء الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا، فأدلى كلٌّ بدلوه في تفسير وتحليل الظاهرة.
لقد باتَتْ أدبيات التحوُّل البروتستانتي في العالم المسيحي من الأدبيات والتجارب الغنيّة والمفيدة جدّاً. ونظراً لوجود الشراكة في تجارب الشعوب ـ سواءٌ على صعيد الكلام أم الفلسفة أم العلم والفنّ ـ فإن هذه التجربة المسيحية الهامّة تتضمن الكثير من الدروس لنا، نحن المسلمين.
وقد نمرّ على هذه الظاهرة مرور الكرام متفرِّجين، فنزعم أنها إنْ كانت بلاءً مبرماً فهو لم يقع علينا، وإنْ كانت مجرّد حدث فهو عائد للتاريخ ولا علاقة لنا به.
إلاّ أن هذا النوع من التعامل ليس صائباً إطلاقاً. نعم، ليس من الممكن تطبيق كلّ ما يقع من حوادث تاريخية معينة على الأزمنة الأخرى بحذافيرها. فالتاريخ عالم للإبداع والابتكار، إلاّ أن روح تلك الحوادث هي التي تتكرّر مع الزمن. فإذا اختلفت المظاهر والأشكال بقيت الروح واحدة، ويبقى بإمكان الحاذق أن يتجاوز مسألة الجسد، ويركِّز على محتوى الروح؛ لكي يستفيد من المقاربات ويعتبر بها.
وهذا ما يمكن أن نستفيده من التجربة البروتستانية. لذا نرى شريعتي راصداً للتجربة من مبدأ العبرة والاعتبار؛ بوصفها تجربة كلامية اجتماعية كبيرة في الساحة الدينية آنذاك. فانطلق ينظّم فكرته مع أفكار الحركة البروتستانتية؛ إحساساً منه بضرورة ولا بُدِّية وقوع التجربة ذاتها في العالم الإسلامي، واستحالة الكلام عن الدين والتديُّن في الوقت الحاضر دون حضور هكذا تجربة كلامية اجتماعية، تقدّم لنا رؤية الدين كمذهبٍ فعّال، وله حضور ملموس.
ولهذا يصح لنا أن نسمّي رؤية شريعتي بحركة التنوير الديني. كما من الممكن جدّاً أن نصفها بحركة أدلجة الدين، أو الحركة البروتستانتية على صعيد العالم الإسلامي أو العالم الشيعي.
ولكي نتبيَّن مقصود شريعتي من استعمال هذه المفردة، ومنهجيته المتّبعة هنا، يتحتَّم علينا الوقوف ـ قليلاً ـ عند ماهية الحركة البروتستانتية في المجتمع المسيحي قبل أربعة قرون؛ لنفهمها على واقعها. ومن خلالها ننفذ إلى سبر أغوار حركة شريعتي الفكرية والعلمية عن كَثَب.
مفهوم البروتستانتية، ومصداقها ــــــ
دعت الحركة البروتستانتية في المسيحية إلى مقولة الدين للدنيا. وهذا هو المغزى من اهتمام شريعتي وغيره بها. لسنا نبالغ إذا قلنا بأن من أهداف الاتجاهات التنويرية في جميع أنحاء العالم الإسلامي هو هذه الدنيوية نفسها. وسيتّضح معنى هذا الكلام خلال البحث.
وليس من شكٍّ في أن ماهية البروتستانتية في الدين المسيحي تتبلور في توظيف الدين للدنيا، أو جعله مناسباً لمتطلّبات الحياة، بمعنى التوفيق بين الالتزام الدنيوي ووضع مفهوم موحّد لهما.
وكان شاغل الدكتور شريعتي وغيره ممَّنْ يسير في ركب الإصلاح الديني هو خلق هذه الدنيوية في الواقع الديني. وهذا ما كانوا يصرِّحون به.
وحتّى لو لم يصرِّحوا فإنه بإمكاننا الاستدلال عليه، وإثبات ذلك في حقّهم؛ فإن تتبُّع واستقراء مصادر ثقافة شريعتي التي كان يصدر عنها، وينظر لها كمنهجية في التنوير الديني، يدل على أنها لا تحتمل إلا هذا المضمون، وهو العمل على استخراج عناصر من صميم الدين تؤدّي إلى دنيوية الدين نفسه. لذا كان من جملة مصاديق دنيوية الدين هذه جعله عنصراً من عناصر هذه الثورة، وسلاحاً من أسلحتها. فحتى بحوث شريعتي في باب الأمّة والإمامة لم تكن بمنأى عن هذه التوجّهات، بل هي منضوية في صميم هذه المنظومة. وكانت هذه الروح تسري في جميع تلك الأبحاث.
فكلّ شيء عند شريعتي ينبض بها، سواء على صعيد فلسفة التاريخ أم الأنثروبولوجيا أم الرؤية الإسلامية، أي إن جميعها كان ينبض بمقولة الدين للدنيا.
ومع أن لهذا المفهوم معانٍ سلبية وإيجابية في الوقت ذاته، لكنّنا لسنا بصدد الحكم على هذا الجانب. وإنما نريد أن نقول بأن البروتستانتية المسيحية دعَتْ إلى الدين الدنيوي، فأدّى ذلك ـ ومن غير قصدٍ ـ إلى خدمة الحضارة الأوروبية بما لم يسبق للأحداث الأخرى تقديمها. والتاريخ مليءٌ بالمفاجآت والمعطيات العفوية، فقد يكون المرء يعمل ويفكّر في شيء، لكنّ النتائج تأتي بعيدةً جداً عن توقّعاته ومخيلته.
لقد كان (لوثر) قسيساً مسيحياً ومتكلِّماً، كما كانت توجّهاته كلامية صرفة، عندما أدرك وجود تعارضات كلامية في المسيحية، ونشبت خلافاته الكلامية ـ الدينية مع بابا الفاتيكان ونظامه. كما كانت الثغرات الكلامية هي باكورة الخلل الطارئ على المسيحية. إلاّ أن حضور الدين الفعّال في المجتمع الأوروبي كان له تأثيره البالغ على الناس، والاستحواذ على عقولهم. وهذا ما انعكس على إبداعات ذهنية دينية جديدة لدى الناس، فأدّى إلى خلق متغيِّرات دنيوية عجيبة في المجتمع الأوروبي وتاريخه وحضارته، الأمر الذي لم يكن في حسبان المفكِّرين والمؤرخين.
وبعدما أخذت رقعة التحوّلات تتّسع يوماً بعد يوم في تفاصيلها بدأ المفكرون وعلماء الاجتماع ـ أمثال: ماكس ويبر، وتوين بي، برصد جذور هذه الحضارة الأوروبية الجديدة، وتحليل أبعادها، كاشفين النقاب عمّا قدّمه لوثر وكالفن وأمثالهم من خدمةٍ وإنجاز عظيم غير متوقَّع لتاريخ أوروبا. وإن ما كان في الظاهر عبارة عن مجرّد تجاذب ديني ـ كلامي تحوّل إلى معطيات أبعد بكثير من حدود الدين من جهةٍ، ومخالفة لرأيه في بعض الأحيان من جهةٍ أخرى، أي قد تؤدّي نتائجها إلى اللادين. ومثل هذه النتائج لم تكن تخطر على بال لوثر وكالفن، ولا على بال أحد من معاصريهم أيضاً. ولو كان الأمر متوقَّعاً لما كان مرغوباً فيه أساساً.
شريعتي ومشروع الإصلاح الديني ــــــ
هنا نتساءل: كيف كان ينظر شريعتي إلى هذا الحدث التاريخي؟ ولماذا كان يرى نفسه قريباً من هذه الحركة؟ ولماذا تمنّى أن يشهد العالم الإسلامي مثل هذه التجربة؟
هنا لا بُدَّ لي من الاستشهاد بكلمات شريعتي؛ لاستنتاج رأيه في الموضوع. فقد كان له لقاءٌ بطَلَبة كلية النفط في عبادان، وقد ألقى خلاله محاضرةً بعنوان: «المثقَّف والمجتمع»، فجاء السؤال الأوّل يقول: إذا كنّا حقّاً نمثِّل طبقة مثقّفة فما هي علاقتنا بالمجتمع؟ وما هي الطرق التي يجب اتّباعها في التعامل معه؟
أجاب الدكتور جواباً وافياً، وقال فيه: ثمة عاملان أساسيان أسهما في تأسيس الحضارة الجديدة؛ أحدهما اقتصادي؛ والآخر فكري. أما العامل الأول فهو استبدال النظام الإقطاعي بالبُورجوازي، أي تنامي البُورجوازية في قبال طبقة الإقطاع الأرستقراطية، التي كانت سبباً في الانحطاط والرجعية. كما كان العامل الثاني فكرياً ـ وهذا ما يفسِّر رسالة المثقَّف ـ، وهو استبدال الكاثوليكية بالبروتستانتية. وليس المعنى أنّ مثقَّف القرن الرابع عشر قد ألغى دور الدين، بل أبقى على الديانة ذات النفوذ والسطوة في أوروبا كما هي، بما لها وعليها من تسبُّب في الانحطاط والجمود، لكنّه عمد إلى استبدال مسارها من الأخروي إلى الدنيوي، أي استبدل أهداف الروح والأخلاق والرياضيات النفسية بالعمل والبناء والمثابرة. كما تحوّل من النزعة الصوفية إلى الانتقاد، ومن الفردية إلى الاجتماعية. وهكذا تحوَّل الدين ـ وهو مصدر ثقافة أوروبا المتنفّذ ـ بواسطة المثقّف إلى عنصر حيوي منتج وخلاّق.
هذا هو ملخَّص كلام شريعتي. وهو واضحٌ لا غبار عليه. فهو يرى من الممكن تحويل الدين إلى مادّة قابلة لتغيير صورتها، أي إنه يرى البروتستانتية عبارة عن استبدال مذهب رجعيّ منحطّ بآخر فعّال ومتجدِّد.
لقد كان انتقاد شريعتي للمثقّف غير الديني أو المخالف لأصل الدين([2]) يتمحور في إعراضه عن مصدر غزير الطاقة والإنتاج بالقوة، وهو المصدر الذي لا يمكن للمثقّفين تجاهله في المجتمع الإيراني. فهو يرى أن الدين موجودٌ بالفعل، وله تأثيره على عقول عامّة الناس، يأمرهم ويوجّههم، وأن مقاطعة المثقّفين له؛ بذريعة الرجعية ووصف الناس بالتخلف وفقدان أهلية الحوار، لن يغيِّر شيئاً في أصل القضية. بل قد يزيد هذا من نفوذه وسيطرته. فمن وجهة نظر شريعتي من الممكن أن يرفض الفرد أن يكون متديناً، لكنْ لا يمكنه تجاهل هذا المصدر الغزير بالإمكانيات والقابليات في مجتمعه. فسواءٌ اعتبره مصدراً مقدّساً أو لم يَرَ ذلك، وكان يمثّل لديه مجرّد مصدر للثقافة والفكر، فإنّه يتحتّم عليه الإفادة منه وتوظيف معطياته.
وهذا ما تحقّق ـ في رأي شريعتي ـ في أوروبا. فإنّ واقع انطلاقة كالفن ولوثر وغيرهم إلى الإصلاح الديني كان من صميم العقيدة الدينية نفسها. فهم عمدوا ـ كما يدَّعون ـ إلى سدّ الثغرات وإصلاحها. وإنّهم فعلوا ما أراده الربّ، وقبله المسيح. لكن النتيجة على أرض الواقع أن أصبح الدين دنيوياً وحَسْب. وهو ـ كما يعبِّر شريعتي ـ خرج من دائرة الأخرويات وصار إلى الدنيا، أي خرج من الانحطاط والرجعية إلى الازدهار والتقدّم، وتخلّى عن مبدأ الانقياد الصوفي، فرفع راية الانتقاد والمناقشة([3]).
لقد أراد شريعتي أن يصنع من الإسلام والتشيُّع شيئاً على هذا المنوال. فكان يحدّق في الحركة البروتستانتية؛ ليقتبس النموذج، ويطبقه هنا.
فمقصوده من البروتستانتية انتشال الدين الرجعي كمادّة، وكسوتها بصورة دين دنيوي منتقد ومتقدّم.
أيضاً كانت لشريعتي مراسلات مع بعض مفكِّري العالم الثالث، أمثال (فانون). وهي دليلٌ آخر على ما كان يدور في خلده. وكان فانون وغيره يرى أن الدين في مجتمعاتهم متخلِّف ومنهار تماماً، وليس فيه أيّ أمل. فهو في رأي فانون ميتٌ لا أمل في حياته إطلاقاً. لكنّ شريعتي كان يرى أن هذا الحكم باطلٌ في حقّ الإسلام والتشيُّع خصوصاً، وأن هناك في التشيُّع ما يكفي من عناصر وقابليات ثورية، يمكن تنظيمها وإعادة هيكليتها بسهولة؛ لتشكل مذهباً ثورياً ناجحاً. وهذا هو رأي شريعتي في الموضوع.
وها نحن اليوم في موقع يمكننا الحكم على رأيه إنْ كان صائباً حقّاً أو لا، وهل كان بمستوى المهمّة أم لا؟ وهل استطاع استخلاص العناصر المطلوبة وتوظيفها بشكلٍ سليم؟ هل تمكّن من بثّ الروح الثورية في جسد المجتمع؟ هل نجح في تغيير نظرة الشباب تجاه التشيُّع؟
أجوبة جميع هذه التساؤلات باتت اليوم بمتناولنا. أما على عهد شريعتي فالأمر مختلف جدّاً؛ إذ كان يواجه جبهتين من المعارضة الشرسة: الأولى: من رجال الدين؛ والأخرى: من المثقَّفين العلمانيين، بل المناوئين للدين. وكان لهما انطباعٌ خاصّ وصائب أيضاً، ومفاده أن قراءة شريعتي للدين وما كان يبغيه منه لم يكن مألوفاً في تلك الحقبة، ولم يفكِّر به أحد. فكان الارتياب في الواقع يستحوذ على كلا الجبهتين. أما رجال الدين فتتملّكهم خشية مسّ الدين بالتحريف. كما كان المثقَّفون العلمانيون أو المناوئون للدين على خيفة من أن تعود الروح إلى ما كانوا يظنّون موته، واندثار تاريخه ودوره الفاعل، فيحدث في مجتمعهم الفساد والفتنة. وهذا أصلُ انتقادهم لشريعتي، إذا كانت نظرتنا متفائلة في قراءة التفاصيل.
ومع ذلك كلّه نجح شريعتي، وخدمته الظروف في الخارج كثيراً، أي إنّ المعطيات الفكرية والمعرفية ليست وحدها من فعّل آراءه، بل كانت الظروف على أرض الواقع مؤاتية أيضاً؛ إذ انتشرت كلماته في مجتمعنا كالهشيم الذي هبَّت عليه الريح، فثارت ناره في كلّ جانب، وتحوَّلت إلى عناصر مؤثِّرة في ثورة إيران الإسلامية فيما بعد.
وتجدر الإشارة إلى أن الثورة الإسلامية ـ وعلى الرغم من حماسيتها العالية ـ كانت تعاني من شحّ التنظيرات. وهذا الشحّ لا يزال قائماً إلى اليوم. وقد كانت توجيهات شريعتي التنظيرية تمثِّل واحدة من أبرز العناصر التي شقَّتْ طريقها إلى هذه الثورة.
ومع أن صفة الكمال محالٌ في مثل هذه التجارب، لكنْ لا بُدَّ من الاعتراف بأن لشريعتي نصيباً أوفر في مجال التنظير الاجتماعي والثقافي والديني. فهناك الكثير من المفاهيم الدينية التي طرحها صرنا نحملها نحن اليوم، ونعمل بها. ويكفينا مراجعة واقع جيلين سابقين؛ ليقصّوا لنا مجريات التديُّن وقراءة الدين على عهدهم؛ لنحدد المقولات المتداولة اليوم بين المتدينين والشباب، ونحسّ غيبتها في فهم الدين قبل ثلاثة أو أربعة عقود سابقة.
وعلى أيّ حال يبقى دور المثقّف فكرياً في الأساس. فإذا تمخّضت منه ممارسةٌ ما فإن ذلك جزءٌ من معطيات دوره الأساسي الذي يتشكَّل قوامه من العمل الفكري، وهو عادة عبارة عن طرح مجموعة من المفاهيم الجديدة وبيان حالها. ويمكن وفقاً لهذا المعيار معرفة ما يقدِّمه الفيلسوف والمفكِّر أو المثقّف، وأهمّ تقسيمات النظرية، ومقدار التفكيكات المجدية التي أسهمت في تبدُّد الغيوم واتّضاح الرؤية. فمهما تكلّمنا عن أهمية هذه التقسيمات والتفكيكات، ودورها في جلاء الأذهان وطرد الشكوك عنها كان قليلاً بحقّها. فدور المثقّف ـ باختصار ـ عبارة عن تقديم جملة من المفاهيم الجديدة، مع جملة من القوالب الجديدة أيضاً؛ ليتمكَّن الأفراد من السير بمنطقية في الفكر والعمل تحت مظلّة ذلك المفهوم، وفي إطار ذلك القالب. وليس دور المثقّف في صنع سيارة، أو في الالتزام بتأسيس حكم أو إدارة حربٍ ما، وإنْ تحقَّقت هذه الأمور على أرض الواقع؛ فإنّها من نتاجات دوره الأساسي، الذي هو تقديم رؤية وفكرة سديدة ومتقنة؛ إذ يتجلّى هذا الدور الفكري المتقَن في عملية الكشف عن المفاهيم البكر، وما تفرزها من تقسيمات وتفكيكات.
شريعتي والإنجاز الكبير ــــــ
إذا أخذنا بنظر الاعتبار كلّ هذه المعايير سنعرف كم كان إنجاز شريعتي كبيراً وناجحاً! فحين كتب (إيزيبرلين) كتيِّبه المتواضع شَكْلاً، لكنّه كبير وذو عمق، في تناول ماركس وحركته، ذكر فيه أنه إذا كان ملاك العبقرية هو أن يتحدّث المرء بشيء مثير للجدل، ويعارضه الكثير من الناس، ثم يتحوّل حديثه بمرور الزمن والأحداث إلى قضيةٍ بدهية لا يرتاب أحدٌ في صدقها، فإنّ ماركس عبقري وفق هذا الملاك؛ لأنه حين طرح نظريته في الاقتصاد والطبقات تعرّض لحملات شرسة، ليس من قبل المتديِّنين وحَسْب، بل ثار عليه أيضاً علماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد والمؤرِّخون وغيرهم، أما اليوم فقد باتت العديد من مفاهيم ماركس من مسلَّمات العلوم الاجتماعية، ولا أحد يشكِّك فيها أبداً.
فإنْ عدَدْنا هذا الملاك من معايير مصداق العبقرية فلا شكّ في حظوة شريعتي بهكذا عبقرية؛ وذلك أن ما كان يطرحه من مفاهيم آنذاك تسبَّب في حدوث سجالات غريبة، أما الآن فهي بمثابة الماء يروي التربة والنبات، وواحدة من خلفيات مجتمعنا الفكرية والدينية. وقد أصبحت بعض تلك المفاهيم في عداد المسلَّمات غير القابلة للنقد والتشكيك، حتّى أن شبابنا المتديِّن تصوّرها من مفاهيم الإسلام القديمة التي عمل بها جميع المسلمين الأوائل. فكم هو سيِّئ أن لا يتحلّى المرء بهذه الرؤية التاريخية، ولا سيَّما المتديِّن منا.
وعلى أيّ حال، هذا ما قدَّمه شريعتي، وما كان يؤمن به.
ولا بأس هنا أن نقارب بين آرائه وأفكار شخص آخر من المثقّفين الدينيين، أعني الدكتور مهدي بازرگان. فعندما تحدَّثت ـ في ما مضى ـ عن أفكار بازرگان كنتُ ألاحظ أيضاً هذا البعد من حركة شريعتي. فقد طرح بازرگان في أواخر عمره قضيةً لم يكن يذكرها من قبل، وهي أن الدين ـ في واقع الأمر ـ ليس دنيوياً. وخلاصة الأمر أن آخر ما توصّل إليه بازرگان هو أن الدين الدنيوي ليس ديناً، وأنّ فهم الدين بهذه الطريقة فهمٌ خاطئ تماماً؛ لأن هدف الأنبياء الأساسي متمثِّل في الإله الواحد والآخرة، وهو كما يرى المثل القائل: «لا بُدَّ دون القمح من زائد القشّ».
فإن وجدت في الدين منافع دنيوية فلا بُدَّ أن نعدّها من معطياته الثانوية والعرضية، ولم تكن مراداً أساسياً لدى الشارع. أما مراد الدين والمقصود منه، والذي لا بُدَّ من رصده وتوقّعه، فهي المنافع الأخروية، وعمارة الدار الآخرة.
لقد كانت حركة شريعتي تسير في الاتّجاه المعاكِس تماماً لهذه الفكرة. فهو كان يعتقد أن الدين الذي لا جدوى منه ما قبل الموت لن يكون مُجْدياً أيضاً بعد الموت([4]). وكان هذا مبدأ شريعتي الأوّل، وبهذا النحو من الجرأة والفصاحة. وقد اختزل في هذا البُعد أفقاً رحباً من الأفكار الدينية والتنويرية، فبات ينادي بأننا لا نريد الدين ولا نبحث عنه، إلاّ إذا كان ينفعنا في أمور دنيانا. فليُخرجنا من الظلم والرجعية والانحطاط والاستغلال فيكون عاملاً في تعالي عزّتنا في هذه الدنيا.
نعم، لا بُدَّ في الدين من أن يكون نافعاً أيضاً لمستقبل الآخرة، لكنّ هذا لا يعني أن نجعل من حياتنا الدنيا محض كبش فداء للدين، فنلغي وجودنا ونسحقه؛ بذريعة أننا سنُثاب في عالم آخر.
إذاً فحركة شريعتي كانت تهدف إلى جعل الدين دنيوياً. وكما أطلق عليها: الحركة البروتستانتية.
وكانت أفكار بازرگان تصبّ في الاتجاه نفسه، قبل أن يعدل إلى رأيه الأخير، أي إنّه كان بصدد فكرة ترمي إلى تفعيل الدين دنيوياً. فعلى سبيل المثال: نحن نعلم أنّ مسألة العمل في العالم كانت من أبرز محاور الحركة البروتستانتية، وإنْ كان البعض، كـ (لوثر) و(كالفن) لم يقصدوا به الاقتصاد المتداول اليوم، لكنّ هذا تمخض عن أفكارهم، وكانت الفكرة في غاية الأهمية أيضاً. وكان لبازرگان كرّاس صغير يحمل عنوان «العمل في الإسلام»، وفيه تنبَّه إلى أنّنا، نحن المسلمون، تناسينا الدنيا بفعل التلقينات الصوفية، فتحوّلنا إلى طبقة من المتصوِّفة تعشق الدروشة والأذكار، وبات جلُّ همِّنا الحج مرّة أو مرتين، وأن نقف للصلاة وحَسْب، أما بالنسبة إلى مفاهيم الازدهار والتطوّر وإحياء الدنيا من حولنا فهي مفرداتٌ لا وجود لها في قاموسنا. ولهذا كان يرى من الضروري إحياء مفهوم العمل في الإسلام. وهذا كان نابعاً من إيمانه بجدوائية دنيوية الدين، وقابلية الدين الدنيوي على عمارة الدنيا وتطيرها.
لقد استكمل شريعتي مشروع بازرگان، فبلغ الذروة على يده. ولم تعمر الدنيا هذه المرة وحَسْب، وإنّما تفجرت من صميم الدنيا ثورة دنيوية. وليس هذا بالعمل السهل في عصرنا الحالي، بأنّ تصدر هذه الثورة باسم الدين؛ لتطالب بتغييرات جذريّة على صعيد السياسة والحكم. وهذا ما نظّر له شريعتي، وأتمّ بنيانه بنحوٍ من الأنحاء. علماً أن الأقطاب المعارضة لنظام الشاه آنذاك كانت تحمل أهدافاً متعدّدة، لكنّها تتّفق على مبدأ واحدٍ هو الإطاحة بالشاه وحكمه. وبعد أن تمّ ذلك بدأت الخلافات تدبّ بين أولئك الذين كانوا شركاء في السابق، ولا تزال هذه الحال إلى يومنا هذا، كما نعلم.
لقد كانت بعض الأقطاب ترى أن الشاه مغتصِبٌ لحقّ الفقهاء، ولا بُدَّ من إزالته وتقلُّدهم زمام الأمور. كما كان آخرون يحملون انطباعاً مختلفاً حيال ممارسات الشاه الجائرة. لكنْ يبقى الجميع يتّفق على مبدأ كونه ظالماً ومستبدّاً في كل الأحوال. وبعد جلاء الشاه طفَتْ الخلافات إلى السطح. وهذا ديدن جميع الثورات في العالم. وعلى أيّ حال فإن بازرگان كان أيضاً من دعاة الدين الدنيوي والحياتي، لكنّه عدل عن فكرته فيما بعد.
ثلاثيّة «الدين، الدنيا، الآخرة» ــــــ
كانت الحركة البروتستانتية حركة الدين الدنيوي. وهي تهدف أيضاً في مغزاها إلى ربط الآخرة بالدنيا، واتصالها بها، فلا ترمي إلى إلغاء الآخرة، ولا إلى استغراق الدين في ملذّات الدنيا، إثْر تهميش الجوانب المعنوية والأخروية. فهي لا تعني عبادة الدنيا، أو اتخاذ الدين وسيلة من الوسائل بُغية تحقيق أهداف دنيوية وحَسْب؛ فإن عنصر الآخرة وفكرة العالم الآخر باقيةٌ على حالها، وإنما الذي حصل وتجلّى شيئاً فشيئاً هو بقاء الدنيا وبقاء الآخرة معاً. وجاء تعريفٌ جديد لنمطية العلاقة بينهما. الأمر الذي قد يكون من أصعب ما يقوم به المفكِّر الديني، ويقع على عاتقه، أي الكشف عن العلاقة بين مقولتَيْ الدنيا والآخرة، وتحديد مفهومهما.
وقد أشَرْتُ في السابق إلى نقطة محورية، وهي أنه إذا لم تكن هناك آخرة، وإذا لم تكن أمامنا حياة أخرى تنتظرنا، وكنّا بلا وجود بعد الموت، لما كانت هناك حاجة وضرورة لمجيء الدين أيضاً؛ فإن ضرورته التي تقود الناس وراءه ليست كونهم من سكّان هذا العالم، وإنّما لكونهم سينتقلون إلى عالمٍ آخر، ولا بُدَّ لهم من التزوُّد من عالمهم هذا للعالم الآخر.
وكما كانوا يطمحون إلى عمران عالمهم هذا، والعمل على رقيّه، فلا بُدَّ أن يكونوا بصدد عمران عالمهم الآخر وسعادته. أما إذا كنا نقتصر حياتنا ووجودنا على عالم واحد لانتفت الحاجة إلى حضور الدين. فحَسْب التعاليم الدينية للملائكة عالم واحد، ولهذا ليس عندهم رسولٌ أو دين بالمعنى المتداوَل بيننا. وكذلك الحيوانات ليس لها إلاّ عالم واحد، أي لا حشر ينتظرها، ولا حياة لها بعد الموت، ولذا ليس لها تعاليم أو شرائع ومناسك.
وقد خصّ الله تعالى الموجودات التي تحيا بعالمين وحياتين ـ وهي نحن البشر ـ بإرسال الأنبياء والرسل. فلو لم تكن لنا حياةٌ أخرى لما كان لنا دينٌ أصلاً.
وبناءً على ذلك لا يمكن لكلّ صاحب دين إنكار الحياة الأخروية، وتجاهل استعداداته لها؛ لأن الأنبياء هم مَنْ أسَّس فكرة الآخرة، والمتدينون يسيرون على نهجهم في كلّ شيء.
ثم إذا لم تكن الآخرة موجودةً فلن يكون لوجود الدين معنى منطقيّ.
وبناءً عليه فإن مبدأ الحياة الأخرى، والتفكير في سعادة العالم الآخر، أو كما يعبّر عنه في القاموس القرآني بمبدأ الإيمان بالغيب والعمل في سبيله، هو من أهمّ عناصر أيّ فكر ديني. لكنّ الكلام كله يكمن في كيفيّة فهمنا وتعريفنا لنوع العلاقة بين هذين العالمين.
إنّ ما حصل في البروتستانتية كان عبارة عن نظرية جديدة في وصف هذه العلاقة في عالم التديّن. ولم يكن الموضوع يعني غير المتديِّنين ممَّنْ لا يفكر إلاّ بعالمه المادي. أما بالنسبة لمَنْ يستوقفه العالم الآخر، ويرى ويعلم ضرورته، فلن يجلس مكتوف الأيدي أو يهدأ له بالٌ.
وقد نظَّرت البروتستانتية لهذا المعنى، ولاقى قبولاً واسعاً أيضاً، وهو أن هذه الدنيا ليست مجرّد مقدمة زمنية للعالم الآخر، بل هي مقدّمة منطقية وأخلاقية له أيضاً. فنحن كثيراً ما يخيَّل لنا أن هذا العالم مقدّم على العالم الآخر، وأنه تقدّم زمني وحَسْب، أي إننا نحيا في البدء هنا، ثم ننتقل إلى عالم ما بعد الموت. وكأنّ المسألة مختزلة في التقدُّم والتأخُّر لا أكثر. لكن البروتستانتية كانت قد ركَّزت على نقطة أخرى، وهي أن هذا العالم يمثّل مقدّمة أخلاقية للعالم الآخر. فكلّ ما يعد من الفضيلة والسعادة في هذا العالم سيجلب لصاحبه الخير والفضيلة والسعادة أيضاً. وهذا الثاني هو الذي كان محلّ النزاع والتهميش. وكان متصوّفتنا، وحتّى الرهبان ـ كنموذج للبُعْد الأخلاقي ـ يدْعون إلى هذا المبدأ بالتحديد، من أن التسديد والسعادة الأخروية تبقى مرهونةً بحرمان النفس من متعلّقات هذه الدنيا. فهم يعتقدون أنه كلما قلَّتْ بضاعتنا فيها، وقلَّ تعلُّقنا بها، سنكون أوفر حظّاً في التزوُّد لآخرتنا، وسنكون مرضيّين بعين الله.
لم يكن الحديث سهلاً عن مدخلية النجاح في هذا العالم، وتأثيره على نيل السعادة والنجاح في العالم الآخر. فلم يجرؤ أحدٌ على طرق هذا الباب، والتمسُّك بهذا الموقف كمبدأ دينيّ يدافع عنه. لكنّ هذا ما دافعت عنه البروتستانتية، ودعَتْ إليه بكلّ جوارحها. فقيل: سيكون لأولئك الذين حقَّقوا نجاحات أكبر في هذه الدنيا نصيبٌ أكبر في آخرتهم، أي أولئك الذين هم أكثر دَخْلاً وأوسع عَيْشاً في المأكل والمشرب والمسكن والنفوذ. وهذا بالتحديد ما كان ينبغي لهم الإفصاح عنه بجرأةٍ دون محاباة، الأمر الذي لم يكن ليدخل قناعة المتديِّنين، أو يلاقي ترحيباً منهم، يؤيد فكرة أنّ مَنْ كان مرفَّهاً في عيشه لا بُدَّ أن يكون مرفَّهاً في آخرته. فالمتديِّنون لا يقولون بهذا، بل لم يكونوا قد فكَّروا فيه، وليس لديهم أيّ أطروحة في هذا الاتّجاه. وحتى إذا كان قد طُرح من أحدٍ ما فلن يُقْبَل منه مطلقاً. ولعلّ هناك قلة كانوا يفكِّرون بهذه الطريقة، إلا أن الأمر لم يبلغ حدَّ الشيوع أبداً. كما أن أساس النظرية الدينية وفهمها لدى المتديِّنين لم يكن يوحي بأن الانسان الناجح في الدنيا سيكون ناجحاً أيضاً في الآخرة، بل كان الاعتقاد السائد بأن مَنْ زاد تعلّقه بالدنيا وملذّاتها المادية فإنّه إنْ لم يعاقَب على غفلته هذه، فلن يكون له جزاءٌ أو أجر. وإذا تجاوزنا رأي الغزالي القائل: كلّما زاد نصيب المرء في الدنيا قلّ نصيبه في الآخرة فإن الفكرة السائدة ـ على أيّ حال ـ بين المتديِّنين تقول: إن التفكير بالآخرة لا يعني أن يكون الشخص معتنياً بالدنيا.
أما البروتستانتية فقد دعَتْ إلى هذا المعنى، أي إننا كلّما عملنا على إحياء دنيانا وتطويرها سننال أجراً أكبر في آخرتنا. على أن البروتستانتية لم تنصّ على هذا المبدأ بالتصريح، لكنْ يمكن استنتاجه من تعاليمها، وأنه ما من ضرورةٍ في شغل بالنا بتفاصيل الآخرة. فإذا ضمنّا الدنيا ضمنّا أيضاً الآخرة معها. ومن المعلوم أنّنا إذا ربطنا الآخرة بالدنيا، وجعلناها تابعة لها، وقلنا: إن الدنيا مقدّمة منطقية وأخلاقية لها، فإن أمر الآخرة سيصلح تباعاً. وعليه سواءٌ فكّرنا بالآخرة أم لم نفكِّر فإننا إذا كنا مهتمّين بشأن الدنيا فهذا يعني في صميمه التفكير بالآخرة أيضاً. إنّ ضمان رفاهية وسعادة هذا العالم هو بنفسه ضمانٌ لرفاهية وسعادة العالم الآخر. إذاً يمكن تفسير روح البروتستانتية ومبادئها في الدعوة إلى الدين الدنيوي بأنّنا نطلب الآخرة، لكنّنا نجعلها تابعةً لسعادة الدنيا ونجاحاتها.
ومن هذا المنطلق وصف ماكس ويبر ـ عالم الاجتماع المعروف ـ البروتستانتية بأنها من أهمّ العوامل في تنامي البورجوازية.
بالطبع لم يخُضْ شريعتي في الموضوع إلى هذا الحدّ، ولا كانت استنتاجاته بهذه الجرأة والإفصاح، إلاّ أن تلميحاته واضحة الدلالة في كونه كان يعيش هذا الهمّ في هواجسه. ومعنى هذه الرؤية الداعية إلى توجيه الدين إلى البعد الدنيوي، بدلاً من الأخروي، وإلى طابع الانتقاد والمؤاخذة، بدلاً من الانحطاط والرجعية والدروشة العمياء، هو التفكير في الدنيا والاهتمام بأحوالها. وهذا يكفي في إحراز الفرد سعادته الأخروية؛ كونها من لوازم طبيعة الفرد المنطقيّة في حياته الدنيوية.
شريعتي وموقفه من العلمانيّة ــــــ
يقول شريعتي بنحوٍ من النقضيّة: «إن الدين الذي لا ينفع قبل الموت لن يكون نافعاً بعده أيضاً». ومفاده في الإثبات: «إن الدين الذي ينفعنا قبل الموت لا بُدَّ أنه سينفع أيضاً بعده». وفي تحويل العبارة هذه من السلب إلى الإيجاب تنضوي البروتستانتية بكلّ كيانها في نشاطات شريعتي وأفكاره، أي لا حاجة إلى التفكير في ما بعد الموت، بل يكفينا أن نكون مهتمّين بمرحلة ما قبل الموت. وهذا تماماً ما فعله شريعتي، وكان السرّ أيضاً وراء النقود اللاذعة التي وُجِّهَتْ إليه. وبغضّ النظر عن صحّتها أو عدمها ـ فهو مبحثٌ آخر ـ تبقى هذه الرؤية مستوحاة من حركة شريعتي، وظاهرة على أفكاره. وهذا لا يعني تبنّي العلمانية بمفهومها السلبيّ إطلاقاً، فهي تنفي وجود الآخرة أساساً، أمّا فكر شريعتي وكلّ مفكّر ديني غيره فلا يدَّعي نفيها بوجهٍ من الوجوه. ثم إن جوهر الدين قائمٌ على مبدأ الآخرة والعالم الآخر، فإذا تجاهلنا هذا المبدأ أو أنكرناه انتفت الحاجة إلى وجود الدين من الأساس. ولو أنّنا سلبنا مبدأ الاعتقاد بالآخرة من منظومة أفكار شريعتي سنحوِّله حينئذٍ إلى مفكِّر غير ديني يتَّخذ من الدين وسيلة مؤثّرة وحَسْب، لكنّ شخصية شريعتي وفكره لا يوحي بهذا الموضوع إطلاقاً. ويمكن الحكم ـ وبضرسٍ قاطع ـ بإثبات عقيدته الدينية، وحبّه الشديد للدين، وأنه لم يستبعد عنصر الآخرة من ذهنه مطلقاً. وعلى أيّ حال يبقى فكر شريعتي الديني ـ تبعاً لتوجهاته البروتستانتية ـ يصبّ في مؤدّى الآخرة، ولهذا فإنّ بعض الإبهام الذي قد يكتنف عباراته يمكن تفسيره من خلال نافذة الأفكار البروتستانتية؛ للوقوف على أصل الفكرة عنده.
وحدويّة الموضوع عند شريعتي ــــــ
نفهم من حركة شريعتي أنها كانت تجربة من تجارب تاريخنا الديني. وهنا حان الوقت لنقضي ـ منطقياً ـ باستحالة الجمع بين الدين الدنيوي والدين الأخروي؛ فإما أن يكون الدين دنيوياً وحَسْب؛ أو أخروياً وحَسْب. وهذا أهمّ محور يدعو إلى التأمُّل والتفكير. لقد كانت حركة شريعتي وحدوية الفكرة والموضوع. وهذه هي نقطة القوة في أفكاره وفاعليتها؛ حيث إنّ الحركات التي تسعى إلى استيعاب كل شيء لن تحقِّق أهدافها. فأنت حين تقرِّر التصويب نحو الهدف الواحد بأكثر من سهم، أو قمْتَ بذلك دون قرارٍ مسبق، فإنّ فرص نجاحك ستكون أكبر لا محالة، أما لو أردت الجمع بين المواضيع فإنّك ـ حتّى وإنْ كنتَ على صواب في خطابك ـ ستقلِّل من فرص نجاحك هذه المرّة.
إن من أهم أسرار نجاح حركة شريعتي وحدوية موضوع خطابه، وهو أننا نريد ضمان حياتنا الدنيوية عن طريق الدين. نعم، هو لم ينصّ على هذا صراحةً، إلاّ أن جميع الدلائل تنصّ عليه. ولو أن أحداً أراد ضمان الدنيا والآخرة معاً لما حقَّق ناتجاً يذكر. لقد ابتعدَتْ حركة بازرگان ـ نوعاً ما ـ عن هذه الوحدوية، وكان ـ في الواقع ـ بصدد الجمع بين الدنيا والآخرة في آنٍ واحد. وإذا كانت حركة شريعتي قد حظيت بنضجٍ أكبر من حركة بازرگان وسائر حركات الفكر الديني في السابق فإن ذلك عائدٌ إلى التزام شريعتي بوحدوية الموضوع في التنظير والتطبيق معاً، وكأنّه غير معنيّ بموضوع الآخرة إطلاقاً، في حين أنها قابعةٌ في صميم أفكاره، محرزة وفقاً للمفاهيم البروتستانتية.
ويمكن تصنيف الحركات الفكرية في مجتمعنا، وفي العالم الإسلامي، كالتالي:
1ـ الحركات الفكرية الساعية إلى إحراز الدنيا والآخرة معاً.
2ـ الحركات الفكرية التي تعدّ الآخرة من لوازم الدنيا، ولهذا ينصب سعيها على بناء الدنيا فقط.
وهذا القسم الثاني هو المعني بدنيوية الدين أو البروتستانتية، وهو أحاديّ الهدف والموضوع، ومختلف تماماً عن الحركات الفكرية والدينية الإصلاحية السابقة. فهذه الحركة تحمل شعار البروتستانتية المسيحية. أما مطلب السعي وراء إحياء الدنيا والآخرة معاً عبر قناة الدين فهو ما يعتقد به رجال الدين عندنا، ولا يزالون يدافعون عنه أيضاً. وهذا الأمر في رأيي صعب المنال؛ فقد علَّمتنا تجارب الحركات الدينية هذه النتيجة، وهو ممّا يمكن أن نقدم إثباتاته بأنّ هذا المطلب مستحيل التحقُّق خارجاً. وليس معنى ذلك أنه لا يمكن إحياء الآخرة والدنيا عبر الدين، وإنما هي استحالة إحياء الاثنين في عرضٍ واحد، ولا يمكن ذلك إلاّ إذا جعلناهما في اتّجاه طولي، أحدهما يلي الآخر، أي أن نقول: إذا عمرت دنيانا عمرت آخرتنا بالتبع، وإذا كنا نفكر بالآخرة سيصلح أمر دنيانا بنفسه. أما إذا قلنا بأن الدين والدنيا كلَيْهما في عرضٍ واحد، ولا أحد منهما مقدّمة منطقية أو أخلاقية للآخر، وصِرْنا ننظر لهما معاً، فإنهما أطروحةٌ مصيرها الفشل.
كلمة الختام ــــــ
كانت هذه نبذة عن حركة شريعتي وقراءتها بواقعية، وإعطاء صورة عن العلاقة القائمة بين الدنيا والآخرة، وبيان أن حركة الإصلاح الديني ستبقى مشوّشة ما لم يتمّ الإفصاح فيها عن طبيعة العلاقة بين الدنيا والآخرة، وإلا فلن تحقِّق أهدافها.
وحين تنبَّه شريعتي إلى«أن الدين الذي لا ينفع قبل الموت لن ينفع بعده» دأب على تحقيق أهدافه. أمّا بالنسبة إلى الحركات الإصلاحية التي لم تقدِّم حلاًّ في هذا الصدد فقد ظلَّت في دوّامتها المشوّشة، وشوشت أيضاً أفكار الآخرين معها. علماً أنّه لا ينبغي أن ننسى أن الدين الدنيوي هو مجرّد نظرية، لكنْ هل تؤيِّدها المفاهيم الدينية أو لا؟ وهل يمكن فهم الدين بعيداً عن الدنيوية، ودون المطالبة ببناء الدنيا، فيكون للدين دور مختلف؟ كلُّ هذه أسئلةٌ بحاجة إلى دراسةٍ مستقلة.
وعلى أيّ حال كان فهم شريعتي للدين هو أن بناء الدنيا مستلزِمٌ لبناء الآخرة، وأن الدين إذا لم ينفع قبل الموت لن ينفع بعده.
الهوامش
(*) مفكّرٌ إيراني معروف، وأشهر منظِّري الإصلاح الديني في إيران. طرح منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي سلسلة طروحات فلسفية دينية أثارت جدلاً واسعاً.
([1]) لقد بيَّن شريعتي نظرته للبروتستانتية الإسلامية في مناسبات متعدِّدة، منها ما كتبه في (المجموعة الكاملة ـ باللغة الفارسية ـ 2: 292 ـ 294): «على المفكِّر أن يسعى إلى خلق بروتستانتية إسلامية يحدث من خلالها ثورة فكرية جديدة في المجتمع، كما زلزلت البروتستانتية المسيحية أوروبا في القرون الوسطى، وأطاحت بكل مظاهر الرجعية القائمة باسم الدين، وباسمه جمدت الفكر والمصير. وخلافاً للبروتستانتية الأوروبية التي لم تمتلك العناصر الكافية، واضطرت إلى أن تصنع من مسيح الصلح والسلام مسيح التحرّر والشمولية، فإن لبروتستانتية المسلمين عناصر جمّة مليئة بالنشاط والحيوية والتنوير والمسؤولية العالمية، حيث الشهادة أبرز مفاهيمها، بالإضافة إلى مبدأ السعي الإنساني والمثابرة. كما أن تاريخ المسلمين حافل بالنضال ضدّ الظلم، والدعوة إلى المساواة، والمفردات التنويرية الملزمة بالحفاظ على حرية الإنسان… ومن خلال تيار «البروتستانتية الإسلامية» ـ لا سيَّما على صعيد التشيُّع، مذهب التصدّي والانتقاد، حيث المبدأ هو المساواة والقيادة، وتاريخه الجهاد والشهادة الدائمة ـ يتمّ استبدال روح التقليد والتخدير لدى الشعب بروح الاجتهاد والمبادرة والانتقاد؛ ليستخرج هذه القوّة الكامنة من صميم المجتمع وتاريخه، فيتّخذ منها عناصر مولّدة ومؤثّرة في المجتمع، تنوّر عصره، وتحرّك أبناءه.
([2]) من جملة تلك الانتقادات: 1ـ «لسنا نحن المثقّفين أو النخب جماعة مستقلّة عن المجتمع… فعندما نحلّل ونفكر على أساس أمزجتنا المتنوّعة، وانطلاقاً من عقيدتنا الخاصة بالدين، يبقى هذا المبدأ يحكم الجميع، وهو أننا جزءٌ من هذا الكلّ، اسمه المجتمع، وهو هذا الحاضر بواقعه أمامنا ضمن ما يحدّه من أطر جغرافية وتوجهات عقدية، وبكل ما يكتنفه من واقع العاطفة والعلاقات والمميزات والهموم. أما نحن المثقّفون فسنبقى ننتمي إلى مجتمعنا الديني، وتاريخنا الديني أيضاً… ولا ينبغي للمثقَّف أن يحكم تمام المجتمع وفقاً لتوجّهاته وتطلعاته الفكرية. إنّ هذا لهو من أبرز هفوات المثقّفين. فنحن نعيش وسط مجتمع ديني، وننتمي إلى تاريخنا الديني، ونحيا في أجواء فكرية دينية، كما أن ثقافتنا دينية أيضاً. وإذا كان المثقّف هو صاحب الوعي واليقظة، وعلى عاتقه يقع واجب إرشاد المجتمع وتنويره، فعليه ـ قبل كلّ شيء ـ أن يفكِّر في مدّ جسور الثقة بينه وبين أفراد المجتمع، وهذا لا يتأتّى إلاّ من خلال عنصر الدين، والوقوف على تفاصيله، وتحليله تحليلاً علمياً، بوصفه شريان حياة المجتمع». (المجموعة الكاملة ـ باللغة الفارسية ـ 14: 5 ـ 6).
2ـ «إذا كنتم قد سمعتم عن ارتكاز أفكاري على الدين والإسلام فإنّ ذلك نابعٌ من تبنّي الإسلام التجدُّدي الصادر عن النهضة الإسلامية، ولم تتبلور رؤيتي الدينية هذه من خلال استقراء الفرق والمذاهب والأديان، ودراستها واحدة تلو الأخرى، ثم خلصت إلى اختيار الإسلام بوصفه «الدين الأمثل»، وإنّما تمّ تحصيل ذلك عن طريقٍ ونهج آخر. وأنا إذ أعلن عن هذا الطريق هنا فذلك من أجل أن لا يقتصر خطابي على المثقّفين والجامعيين المؤمنين بحقيقة المذهب والدين، بل بإمكان كلّ مفكِّر واعٍ، حرّ بأفكاره، ويرغب في خدمة مجتمعه، وإيصال رسالته لجيله، أن ينتهج النهج الذي سرنا عليه. المحصّلة لم يكن اعتمادي عنصر الدين نابعاً عن العاطفة المجرّدة، الأمر الذي ساعد في دعوة المثقّف غير المتفاعل مع الدين إلى الاعتماد هذه المرّة واتّباع فكرتنا. غير أن تعاملي كان من باب الإيمان والواجب الاجتماعي، أمّا ذلك المثقّف فكان تعامله مقتصراً على الواجب الاجتماعي فقط، وهنا نقطة الاشتراك بيني وبينه». (المجموعة الكاملة ـ باللغة الفارسية ـ 4: 11 ـ 12).
([3]) يقول شريعتي في هذا الصدد، في (المجموعة الكاملة ـ باللغة الفارسية ـ 20: 491): «لم يكن مثقّف القرن الرابع عشر بصدد إلغاء الدين، بل بقي محافظاً على الدين المهيمن على أوروبا، وصار سبباً في انحطاطها وتخلُّفها، لكنّه غيَّر وجهته من الأخروية إلى الدنيوية، ومن الجمود على أعتاب الروحانيات والأخلاق إلى العمل والبناء والمثابرة، ومن الدروشة إلى الانتقاد، ومن الفردية والأنانية إلى الاجتماع والمصالح العامة، بمعنى التحول إلى البروتستانتية، أي إنّ المثقَّف صنع من ذلك المصدر الفكري والديني المهيمن على صميم أوروبا عنصراً منتجاً وفعّالاً».
إذاً علينا أن نعتمد هذه الركيزة، لا ما قاله سارتر أو ماركس أو جان جاك روسو، فهؤلاء جاؤوا بعد قرنين من زمن التحوُّل. نحن لا بُدَّ أن نعمل من أجل المجتمع الذي نعيش فيه، وليس من أجل رغباتنا الشخصية، وإذا كنّا نهتمّ بـ (لوثر) و(كالفن) وإنجازاتهما فذلك لأنهما صنعا من القوة التي حكمت أوروبا ألف عام بالراديكالية عنصراً خلاّقاً ومثمراً.
([4]) إن مَنْ يؤسِّس دنياه على الخيبة والتعاسة ستكون آخرته أكثر تعاسة وخيبة. ولا يتصوّر أن الجنّة هي المقابل لتقاعسه وضعفه وذلّته في الدنيا. ولا يتصوّر أيضاً أنّ ما لم يتمكّن من تحصيله هنا سيناله في الحياة الأخرى. (المجموعة الكاملة ـ باللغة الفارسية ـ 1: 16).