قراءةٌ أصوليّة
ـ القسم الأوّل ـ
أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
مقدّمة
لم يتّضح بشكلٍ جلي أن هناك مسافة كبيرة بين ممارسة السياسة والالتزام بالقيم الأساسية للسلوك الإنساني «الحلال والحرام»، ولم ينفصل الفقه «قانون الحياة في المجتمع الإسلامي» عن ممارسة الشأن العام بوصفه ممارسة حياتية يلزم أن تتقيد بقوانين الممارسة. بَيْدَ أن الذي حصل تاريخياً هو انفصالٌ بين التجربة السياسية والرؤية الفقهية للممارسة. وظهر ذلك جليّاً في فقه الأحكام السلطانية، بوجهها الآخر المختلف عن الوجه الذي عرضه أبو يوسف في الخراج، وأبو عبيد في الأموال، والماوردي والفرّاء. إنه الوجه الذي حدّد موقف المكلف المسلم من السلطة غير الشرعية من جهة، وعموم السلطة غير العادلة من جهة أخرى.
ويلحظ في تجارب الأمة الإسلامية اطّراد التباين القيمي بين النخبة المنتجة للمعرفة وبين السياسيين الذين امتلكوا سلطة المؤسسة الحاكمة، فانعكس على السلوك اليومي والتفضيلات والمواقف التي يجب أن يلتزم بها المكلف إزاء السلطة، سواء كان النقص فيها عدم الشرعية أو كونها سلطة جائرة؛ ذلك لأن (السلطة) في ماهيتها ومفهومها في التجربة الحضارية الإسلامية ليست نتاج اختيار الأمة المطلق للحاكمين، بل هي ناتج توصيف الفقه لمشروعيتها ووظيفتها وأسلوب تداولها ورسالتها العالمية. لكن الذي حصل أن السلطة قد تكوّنت ووجدت خارج التوصيف الفقهي، واختطت لها مساراً تأسيسياً قائماً مرّة على إرادات مراكز القوى الاجتماعية، كما حصل في (السقيفة)، أو نتاج استخدام القوة المسلحة، كالذي حصل في تأسيس (السلطتين الأموية والعباسية) وما تلاهما. وعليه فإن مشروعية السلطة السياسية في التجربة الإسلامية لم يكن ناتج الموقف الفقهي، ولم يكن ناتج إرادة الأمة، بل كان ناتج إرادات القوى الاجتماعية والسياسية. لذلك فإن الموقف السياسي للفقهاء إزاء السلطة تكوّن من الرؤية الفقهية لهذا المسار، سواء في تأسيسه أو تطوره وعلاقته بالإنسان. وقد ظهر هذا الموقف في مواضع متعدّدة من البحث الفقهي، مثل: مدى مشروعية العمل في أجهزة حكومات السلطان الجائر، وأحكام الجهاد مع السلطان الجائر، والزكاة، والجمعة، وفقه القضاء في ظلّ السلطان الجائر، وفي مدى قبول جوائز السلطان، وأخيراً مدى مشروعية التغيير السياسي الذي أطلق عليه في مباحث الفقهاء (أحكام الخروج على السلطان)، وقد كان له وجهان: الأوّل هو عبارة عن جريمة بغي إذا كان السلطان عادلاً؛ واختلف في مشروعيته إذا كان السلطان جائراً.
المبحث الأوّل: السلطان وإشكالية المشروعية والعدالة
المطلب الأوّل: مفهوم السلطان
لقد ظهر مصطلح خليفة رسول الله‘ مع خلافة أبي بكر كتوصيف لمشروعية ووظيفة الحاكم السياسي في أوّل نشأة الدولة الإسلامية بعد الرسول‘، مقابل لفظ أو مصطلح (الإمام)، الذي تبناه الفكر الكلامي الشيعي؛ للإشارة إلى الشخص الذي يجمع بين السلطة السياسية (الخلافة) والقيادة الدينية للمجتمع (الإمامة)([1]).
وتطوّر الأمر في زمن عمر بن الخطاب، ليصبح لقب الحاكم (أمير المؤمنين). واستمر هذا اللقب حتّى حينما تضاءلت مصداقية هذا الوصف السامي للحاكم السياسي تدريجياً؛ بسبب السلوكيات غير الإسلامية التي قدّمتها التجربة السياسية الأموية والعباسية، ثم استبدل الاسم في فترة الدويلات إلى لفظ السلطان. ولم يكن لفظ السلطان في بداية الأمر مصطلحاً رسمياً؛ لأن مصطلح السلطان يرمز إلى أحد أمرين: إمّا الإشارة إلى شخص تولّى السلطة «بطرق غير شرعية»؛ أو يرمز للاستبداد الذي يمارسه الحكام. ولعل الثاني أكثر إطلاقاً وعمومية من الأول؛ ذلك لأن مَنْ أراد البيان والتوضيح فلا بُدَّ أن يقيِّد لفظ السلطان إما بالعادل أو الجائر، فهو أعمّ منهما معاً. مما يشير إلى صورة الاستبداد التي اقترنت مع حكّام الولايات شبه المستقلّة عن المركز، أو أمراء الحروب والمقاطعات. ومن الجدير بالإشارة أن بعض فقهاء المسلمين وهم يصنعون النظرية السياسية الإسلامية للسلطة، ماهيتها ومشروعيتها ووظائفها وأسلوب تداولها، يجعلون سلطة التغلُّب من صور الممارسة التاريخية؛ لأن أمارات المتغلبين قد ظهرت في التجربة السياسية الإسلامية، كما يصطلح عليها الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية([2]). فاستقرّ هذا التوصيف في الأدبيّات، فكانت المدونات الفقهية تجعل وظيفة السلطان تحت عنوان (الأحكام السلطانية)، أو سيرة الملوك([3]). وبذلك تضاءل مضمون مصطلح الخليفة، ومضمون مصطلح أمير المؤمنين، وبقي فقط الاسم التاريخي. ولعل هذا المصطلح ينطوي على الإشارة أن شخص السلطان هو الذي ينفرد بممارسة السلطة بكلّ تنوعاتها و«ملابساتها»، مع شعور الفقهاء بضرورة الرجوع إلى (شكليات الخلافة) نظريّاً وعملياً؛ رغبةً في بقاء الكيان السياسي لأمة الإسلام أصيلاً، لذلك استقرّ مصطلح (الخليفة) حتّى حينما تناقص مضمونه بوصفه رمزاً دينياً وسياسياً في المركز، وتفرّد السلاطين والأمراء والملوك في ولايات الأطراف بالسلطات الفعلية.
إزاء هذا الواقع أصرّ الفقهاء من كلّ المذاهب على تسمية هؤلاء الحكام بالسلاطين. وفي هذه التسمية إشعارٌ واضح بعدم الاعتراف بالشرعية السياسية لسلطاتهم، مما جعلهم ينأَوْن بأنفسهم فكرياً وسلوكياً ونفسياً، رافضين الخضوع لمنطق القوة والغلبة، متطلِّعين إلى ما يجب أن يكون الوضع المعياري في إقامة السلطة الشرعية العادلة. لذلك نلحظ القصدية في استعمال الفقهاء لهذا الوصف للحاكمين، التي ربما تستبطن الإشارة إلى استخدامهم العنف السياسي كسبب رئيس للحصول على السلطة، أو كأسلوب لممارسة السلطة ضدّ الناس، ولا سيَّما الذين لا يحققون تماماً ما يريده «السلطان»، إشارةً إلى الاستبداد، والاستحواذ على المال العام (الخراج). ومن هنا نشأت معالجاتهم للعلاقة مع السلطان الجائر، سواء بالحكم على عدم شرعية العمل في أجهزة السلطة المتعسفة، مثل: سلطة المهدي العباسي، الذي همَّ بقتل القاضي شريك بن عبد الله؛ لمجرد رؤيا رآها في الحلم أنه دخل على بلاطه فوطأ فسطاطه بحذائه، وفسَّر له المفسِّرون ذلك الحلم بعدم احترام القاضي للسلطان. لقد انطلق الفقهاء من واقعٍ فعلي لتحديد الازدواجية لمَنْ يعمل مع السلطان الجائر، وهو إذا عمل مع سلاطين الجور وقع في الاضطرار إلى التساهل في دينه وعقيدته وتكاليفه وواجباته، وعندئذٍ يتنازل عن آخرته بالعمل مع سلطةٍ جائرة، أو يصطدم مع السلطان عندما لا ينفذ إرادته، فيتنازل عن دنياه وسلامته، ويتعرَّض للملاحقة والمطاردة والتجويع والسجن، وربما القتل والصلب، ثم الإساءة لسمعته ولتديُّنه، كاتهامه بالزندقة، أو البغي على السلطان، إلخ.
وفي أدبيات الشيعة الإمامية، الذين عانوا في تاريخهم الطويل أبشع ما عانته جماعة عقائدية، فكانوا دائماً على خوفٍ من السلطان في تاريخهم بأدواره المتعاقبة، نجد عندهم أن مصطلح السلطان العادل لا ينطبق إلاّ على أحد ثلاثة: إما الإمام المعصوم؛ أو نائبه الخاص؛ أو نائبه العام، شرط أن يكون مبسوط اليد في إقليمٍ ما([4])، وهو الفقيه العادل الجامع لشرائط التقليد. أما في الفكر السياسي الإسلامي غير الشيعي فإن السلطان العادل هو «الحاكم» الذي يساوي بين الرعيّة، ويحمي السائد العقائدي، دون البحث عن أسلوب اكتساب السلطة.
ممّا تقدَّم يظهر لنا أن الفكر الشيعي كان أكثر تحفُّظاً حينما حدّد مصاديق السلطان العادل على أسس معروفة وقابلة للتشخيص، وأشار إلى أن غير هذه النماذج الثلاثة لا يدخل في المصطلح، لكن يبقى في الواقع السياسي أنموذج لا ينطبق عليه السلطان العادل، ولا ينطبق عليه سلطان جائر؛ إذ ربما يكون سلطاناً أقل سوءاً وجوراً من السلطان الجائر، أي المستبد الذي يستعمل القمع، ويستولي على المال العام.
وفي الفكر الإسلامي غير الشيعي فإن تحديد السلطان الجائر يبقى على أسس ومعايير ربما (سياسية). فسياسياً تُقاس عدالة الحاكم بالمساواة بين الناس، ويقاس تديُّنه بالتزامه بالأصول والضوابط السائدة لتلك المدرسة الفقهية، فيشار إلى عدله أو جوره بناءً على هذين العاملين. لقد حفل التأريخ السياسي الإسلامي بنماذج اضطهادات الحكام الأمويين لكبار الفقهاء من التابعين، وقد قتل الكثير منهم، مثل: سعيد بن جبير، الذي قتله الحجّاج. وكان ممَّنْ تعرّض للاضطهاد الإمام أبو حنيفة، في العصرين الأموي والعباسي؛ في خضمّ مؤازرته للشهيد زيد بن عليّ بن الحسين^، ومؤازرته لثورة محمد ذي النفس الزكية؛ وكذلك مالك بن أنس؛ لمؤازرته ثورة محمد ذي النفس الزكية([5])؛ وكذلك الشافعي؛ لحبه لآل البيت^؛ وأحمد بن حنبل؛ لقوله بقِدَم القرآن؛ ولروايته لفضائل أهل البيت^، واستقلاله برأيٍ عقائدي مقابل الرأي العقائدي الذي تبنَّته السلطة العباسية (عصر المأمون والمعتصم).
فقد جاء في موسوعة البحوث الفقهية: إن أبا حنيفة كان يرى جواز الخروج مع زيد بن عليّ([6])، كما أورده الجصّاص، الذي ذكر قول الأوزاعي فيه: (احتملنا أبا حنيفة على كلّ شيء، حتّى جاءنا بالسيف)([7]). ويقصد هنا أن أبا حنيفة يجيز استخدام القوّة للتغيير السياسي نحو إقامة سلطة شرعية وعادلة، وقضيته في حمل المال إلى زيد معروفة، وفتيا الناس سرّاً في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله المَحْض. وقد روى الكثير أن مالك بن أنس كان يحثّ الناس على نصرتهم، والتمرُّد على سلطة العباسيين، بإطلاقه فتواه بأن بيعة الناس للعباسيين كانت بيعة المُكْرَه، وهي غير ملزمة، وقد أوضح لهم ذلك بقياسها على طلاق المُكْرَه.
بَيْدَ أن فقهاء الحنفية المتأخِّرين اعتبروا قول أبي حنيفة بنصرة العلويين وآل البيت، والتمرد والخروج على السلطة القائمة، رأياً له أوّل أمره، ويرَوْن أن أمره استقرّ، كما يقولون، على اعتقاد أهل السنة والجماعة، الذي وصفه الطحاوي بقوله: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإنْ جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم طاعة لله عزَّ وجلَّ، وهي فريضةٌ، ما لم يأمروا بكفرٍ ومعاصٍ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة»([8])، وبذلك يتّضح أنّ متأخِّري فقهاء المذهب الحنفي قد شاركوا الموقف العام لأهل السنة والجماعة بالقبول بالأمر الواقع، ونسبوا لأبي حنيفة أنه غيَّر موقفه، حتّى أصبح عدم الخروج على السلطان علامةً على سلامة العقيدة.
ومن ذلك يتّضح أن السلاطين في قسوتهم وجورهم تعاملوا مع جميع الفقهاء تعاملاً استبدادياً قمعياً؛ لأنهم لم يخضعوا لهم، سواء كانوا من مذهبهم أو من مذهب آخر. وإن كبار أئمّة الفقه قد تعرَّضوا إلى اضطهاد السلاطين، وقد أوغلت تلك السلطات في إذلالهم، وقرّرت أن تجبرهم على أن يعملوا ضمن أجهزة السلطة؛ إمعاناً في الاستلاب، وتزييف وعي الناس لشرعية زائفة يقدِّمونها للناس. بَيْدَ أن الفقهاء رفضوا ذلك، وتعرضوا؛ بسبب رفضهم، إلى متاعب جمّة، وممارسات انتقامية، ربما وصل بعضها إلى الاغتيال ـ كما تتداوله بعض المصادر ـ.
والأغرب أن هذا الموقف (من الفقهاء) قد تمّ التعتيم عليه؛ لصالح تاريخ السلطة الرسمي (التجربة التأريخية السياسية الإسلامية)، فإنك حين تقرأ سيرة حياة هؤلاء الفقهاء، ولا تجد هذا الجانب مذكوراً فيه، بل لا تجد ظلم السلاطين لهم، ولعل ممَّنْ تعرّض أيضاً سفيان الثوري، وابن عيينة، وغيرهم، لكنّنا حينما نقرأ تراجمهم لا نجد ذلك واضحاً، إلاّ بعد بحثٍ قصدي، وعندئذٍ قد تجد شيئاً بسيطاً وتجد مقابله ما يعارضه. في ظلّ هذا النوع من الممارسة السياسية للسلطة، والموقف منها عند الفقهاء، نجد أنفسنا أمام إشكالية الانفصال القِيَمي بين الحكام ورجال السلطة وبين الفقهاء والقرّاء، ونجد أنهم يمثِّلون معارضة فكرية وسياسية هادئة ومتوازنة، رغم كل التعسف الذي لاقوه. وقد ظهرت معارضتهم في قضايا كثيرة، منها:
أـ مدى جواز العمل في أجهزة الدولة مع السلطان الجائر.
ب ـ مدى قبول هداياه ومنحه وجوائزه.
ج ـ مدى إجراء الزكاة المدفوعة له.
د ـ موقف المكلّف من أداء صلاة الجمعة، والجهاد معه.
هـ ـ حكم الخروج عليه لأغراض التغيير السياسي نحو الأكثر عدلاً والأكثر مشروعية.
سأحاول عرض هذه المواقف، وإيجاد الرابط بينها وبين الظروف السياسية، من خلال ربط آراء الفقهاء وأدلتهم، وبعد عرض آراء الفقهاء في مصطلح العدالة، وبعد عرض تطوُّر مصطلح السلطان.
المطلب الثاني: مفهوم العدالة
العدالة لغةً: هي تعادل الأحوال تساوياً؛ لأنها لغة الاستواء والاستقامة. ويعني هذا التحديد أن لدى الإنسان قوى نفسية تدفعه لسلوكيات تحقّق مصلحته مطلقاً، بغضّ النظر عن المشروعية، فإذا عادل هذه القوى يحقّق توازناً في البواعث والاستجابات لتلك البواعث.
وهي شرعاً، كما يحدِّدها الفقهاء: ملكة نفسانية تبعث على ملازمة التقوى والمروءة([9]). والمراد بالملكة القدرة المستقرة في النفس، التي تلتزم بالأحكام الإسلامية وتستلزم المروءة. والذي عليه أكثر الفقهاء أن كل المسلمين على العدالة، إلى أن يظهر منه ما يزيلها؛ لمقولتهم المشهورة: «الأصل في تصرُّفات المسلم الصحة الفقهية».
من ذلك قول الشيخ المفيد: إن عدالة الشاهد هي ظاهر الإسلام، وعدم ظهور ما يقدح بها؛ لأن الأصل في أقوال المسلم وأفعاله الصحّة، والفسق طارئٌ على الأصل. فالبحث عن فسقٍ خفيّ لا يلزم، والحكم على الشخص بمجرد الالتزام الظاهر أمام الناس كافٍ، دون الحاجة إلى تحرّي الأحوال غير الظاهرة.
وقال في الوسيلة: العدالة في ثلاثة أشياء: (الدين، المروءة، الحكم).
ففي الدين تعني اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر. وفي المروءة تعني الاجتناب عمّا يسقط المروءة، ويراد بها السلوك الأكثر رقيّاً وترفّعاً وإحساناً مما هو أكثر من دائرة الحلال والحرام إلى دائرة ما بعد الحلال والواجب من الأعمال الإيجابية، كالتبرُّع وإسقاط الدَّيْن عن المدين، والعفو والتسامح عن المسيء، إلخ. وفي الحكم تعني البلوغ وكمال العقل. لذلك ورد في المبسوط للطوسي والسرائر: العادل مَنْ كان عَدْلاً في دينه، وعَدْلاً في مروءته، وعَدْلاً في أحكامه.
ومَنْ يتتبع مفهوم العدالة فإنه سيجد ثلاثة إطلاقات: اثنان للمتقدمين؛ وثالث للمتأخرين:
أما إطلاق المتقدِّمين فيُراد بها:
1ـ إنها ظاهر الإسلام؛ لأن الاخبار الظاهرة في عدم كفاية مجرد الإسلام تبلغ التواتر المعنوي، فلا بُدَّ إذن من ظهور المراسيم الإسلامية على السلوك الفردي؛ لأن ذلك من مصاديق التديُّن. فالنطق بالشهادتين لا يكفي؛ إذ لا بُدَّ من تصديق العمل للاعتقاد.
2ـ إنها حسن الظاهر: وقد استدلّ له بالروايات أيضاً، ويعني ظهور الالتزام السلوكي بأحكام الإسلام، على مستوى الفرد والأسرة والتعامل الاجتماعي.
أما عند المتأخِّرين فهي:
3ـ ملكة الاستقامة وعدم الميل إلى ما يعارض الشريعة: وهذا ما يوجب الفحص عن المراد توصيفه بالعدالة؛ كون العدالة ملكة؛ لأنها تنشأ من ثلاثة اعتدالات: الحكمة؛ والعفة؛ والشجاعة. وإن الشارع وإنْ اعتبرها مع الشهادتين، إلاّ أنه جعل حسن الظاهر علامة عليها، لذلك صار عدم العثور على ما ينافيها دليلاً عليها.
ممّا تقدّم يظهر أن اتجاهات الفقهاء في ماهية العدالة ثلاثة:
أـ يكتفى بالإسلام سبباً للعدالة.
ب ـ يُراد مع الإسلام الالتزام بأحكامه ظاهراً.
ج ـ أن تتحقّق في النفس مَلَكة (قدرة نفسية) للاستقامة.
وأعتقد أن اشتراط العدالة من حيث الرتبة يختلف من حالٍ إلى آخر. فعدالة الشاهد غير عدالة القاضي، وعدالة إمام الصلاة غير عدالة المسؤول عن توزيع الزكوات، وعدالة الإمام الأعظم غير عدالة حكّام الولايات. ولذلك فإنْ كان نوعها واحداً فالرتبة من حيث المشروط بها يختلف بحَسَب جسامة المهام.
وخلاصة القول في المراد بالسلطان العادل: هو ذلك الشخص الذي أسلم لله طواعية، والتزم عن وعيٍ بأحكام الإسلام، وتميز بالالتزام بمقتضى ما يحقّق المروءة، بحيث أصبحت قدرةً نفسية مستقرة وثابتة وظاهرة في ممارسته لإدارة الشأن العام. ويعتقد فقهاء الإمامية أن السلطان العادل لا يتحقّق مصداقاً إلاّ في الإمام المعصوم، وعبَّروا عنه بإمام الملّة، والإمام العادل، وإمام الأصل، وهو المراد بلفظ (الإمام) إذا ورد مطلقاً في الروايات، مثل: (صلاة الجمعة ركعتان مع الإمام، وبغير الإمام أربع)، ولا يقصد به هنا (إمام الجماعة)، إنما يقصد الإمام المعصوم. وقد لاحظ أستاذنا د. هاشم جميل ذلك، فقال: وينبغي أن يعلم هنا أن المقصود بالسلطان عند الإمامية هو الإمام المعصوم، أما الآخرون فإنهم يعنون به رئيس الدولة([10]).
وعدالته عندهم: انتهاجه سياسة العَدْل بين الرعية، ومحافظته على ما استقرّ عليه الناس عقائدياً وفقهياً (السائد الإسلامي)، بغضّ النظر عن طريق وصوله إلى السلطة.
المبحث الثاني: العمل مع السلطان
المطلب الأوّل: العمل ضمن ولاية السلطان الجائر عند الإمامية
يقصد بالعمل مع السلطان تولّي الوظائف العامة، والاشتغال في الأجهزة الحكومية التي يرأسها حاكم غير شرعي، أو حاكم جائر، على سبيل الديمومة. وربما يدخل فيه الذين يقدّمون للسلطات «أعمالاً» مهمة خلال فترة معينة، كالتعهُّدات، وبناء المؤسسات.
وقد اختلف فقهاء المذاهب في مدى جواز ذلك على أقوال:
1ـ قال الإمامية: تقبل الوظائف العامة من السلطان العادل، بل هي راجحة ومستحبة؛ لندب المعاونة على البرّ، وربما تجب إذا تعيَّن الأمر في شخصٍ ما لأداء الأمانات، والعمل لمؤازرة السلطان العادل. أما قبولها من السلطان الجائر:
أـ فهي محرَّمة بصورةٍ عامة إذا كان الشخص مختاراً. وبه يخرج المُكْرَه، على أن لا يسري الإكراه لرفع الإثم في جرائم القتل؛ لأن التقيّة لا تصحّ في الدماء.
ب ـ وتحرم جَزْماً إذا كانت الولاية على عمل محرَّم، أما في المهام الجائزة فهناك خلافٌ بين الفقهاء.
ويقولون: تحريم الانخراط في أجهزة السلطان الجائر، ولأداء المهمات غير الجائزة شرعاً، من الضروريات التي يستغنى عن ذكر دليلها؛ لأنها من بديهيات العقل، وما تسالم عليه عقلاء وحكماء البشر.
أما الانخراط وبمهامّ جائزة شرعاً فقد انقسم الفقهاء بين: مانعٍ؛ ومجيز:
القول الأوّل: هي محرّمة؛ لجهة صدور التسليط والتمكين من الجائر الذي لا يملك الحقّ في التولي والتولية.
والقول الثاني: هي جائزةٌ؛ لأن مهامها من جنس الجائز، والعبرة بالأفعال؛ لأنها مناط التكليف ومحلّ المسؤولية.
ويرد أصحاب القول الأول: إنه لكون الأصل فيها صدورها ممَّنْ لا يملك الإذن والسلطة فهي حرامٌ، إلاّ إذا حصل له إذنٌ خاص أو إذن عام من الإمام المعصوم أو نائبه الخاص أو نائبه العام؛ لخبر أبي حمزة: «مَنْ أحللنا له شيئاً أصابه من أعمال الظالمين فهو له حلالٌ، وما حرَّمنا من ذلك فهو عليه حرامٌ»([11]). واشترطوا مع الإذن ـ طبقاً للروايات ـ أن تكون الولاية (الوظيفة) في جهاز السلطان الجائر مسوغة بالنية والعمل لقضاء حوائج المؤمنين وتفريج كربهم. وعلى هذا الوجه يُحْمَل دخول عليّ بن يقطين ومحمد بن إسماعيل بن بزيع والنجاشي والسيد المرتضى والخواجة نصير الدين والمحقّق الثاني والشيخ البهائي والمقدّس المجلسي ونحوهم ـ كلٌّ بحسب حاله([12]) ـ.
وعلى الرغم من وجود نصوصٍ تصرِّح برفض العمل مع السلاطين فقد جاء في فقه القرآن، للراوندي: إن تقليد السلطان الجائر لرجلٍ ما جائزٌ إذا تمكّن الرجل من إيصال الحقوق لمستحقّيها، ويجوز للمحسن أن يطلب الولاية؛ لأن يوسف× قال: اجعلني على خزائن الأرض([13]).
ويحتجّ المخالفون للراوندي بأنّ ذلك لا يتحقَّق عملياً مع سلاطين الجور، حتى ورد عنهم^: إن تناول السماء أيسر من ذلك([14])، وورد عنهم أيضاً: إن الرجل إذا عمل لهم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينه مثله([15]).
وفرَّق بعض الفقهاء في الأعمال على نوعين:
الأوّل: أعمال تتضمن أخذ الضرائب لهم، وجباية الأموال من الناس على غير الموازين الشرعية.
الثاني: العمل بجهة الصناعة لهم، أو التجارة معهم على وجه الإجمال.
فأفتوا بحرمة الأول، وجواز الثاني.
والأول ـ كما يقولون ـ ظاهرٌ في الحرمة التكليفية والوضعية؛ إذ إن الإثم والوزر ثابتٌ، وما يترتَّب على الوظيفة من الأمور من الباطل الذي يحرم أكل المال بإزائه؛ لأنها معونة على الظلم، وهي موجبة لكبيرةٍ من الكبائر؛ لأن في ولاية الجائر دروس الحق (تلاشيه)، وظهور الظلم والجور والفساد، فلا تجوز إلاّ لجهة ضرورة، كضرورة أكل الميتة والدم.
أما الثاني فهو المعروف والاعتيادي للناس من أهل المهن، الذين يقدِّمون خدماتهم من دون أن يكلَّفوا بالتعرُّف تفصيلياً عن أحوالهم.
ويفرِّق آخرون في هذا الموضوع من حيثيةٍ أخرى، وهي أنّ تلك الأحكام الصارمة التي تحرِّم العمل مع السلطان الجائر كانت بصدد الوالي المحارب للعقيدة الصحيحة، مثل: حكام بني أمية وبني العباس؛ أما مَنْ لم يكن غرضه محاربة الدين، كما هو شأن ملوك هذا العصر، فلا تحرم الولاية من قبله([16])؛ لما في ذلك من الحَرَج. أما كون بعض ولاياته ووظائفه وأعماله محرمة فإنّ الحرمة ترد لعنوانٍ آخر، فالحرمة ليست ذاتية، كما في النمط الأول؛ إذ الحرمة لنفس ولاية الجائرين([17])، أما هنا فالحرمة للعمل ذاته.
ويرى الطباطبائي أن ولاية الجائر من المحرمات الذاتية، واشتمالها على المعاصي موجبٌ لمضاعفة الحرمة؛ لأحاديث النهي عن إعانتهم على المباح، بل على بناء مسجد([18]).
وفرّق بعض أهل العلم بين العاملين مع السلاطين بصورةٍ دائمة، ممَّنْ يأخذون رزقاً مرتباً، وبين مَنْ يقدّمون عملاً مقابل عطيةٍ. وكان الشيخ الطوسي قد أوضح الفرق بين (الراتب) و(المكافأة المقطوعة)، فقال: الرزق بدل عن الوظائف الدائمية والتفرغ الدائم لها، حتّى لو لم يؤدِّ لها عملاً؛ إذ يكفي التفرُّغ. والأجر هو العمل على إنجازٍ خارج السياقات الدائمية.
والخلاصة في حكم السلطان الجائر: إن للفقهاء فيها أقوال:
القول الأوّل: إنه غير جائز وحرام تكليفاً، وباطل وضعاً، في الحالات التالية:
أـ لمجرد صدورها من والٍ غير شرعي، فهو لا يملك التنصيب، ومنح الصلاحيات. لذلك فالقبول بها قبول به.
ب ـ لصدورها من الوالي الجائر؛ لأن جوره والظلم الذي يصدر منه يجعل معونته إعانة على الإثم.
ج ـ لمجرد صدورها ممَّنْ يحارب الدين الحقّ، بلا تفريق في نوع الولاية.
د ـ إذا كانت الوظيفة ممزوجةً من أعمال الحلال والحرام فالحرام وحده كافٍ في حرمة القبول بها.
القول الثاني: إن الولاية جائزةٌ ومباحة في الحالات التالية:
أـ اذا كان الوالي ممَّنْ لا يحارب أهل الحقّ، وكان عادلاً، وإنْ لم يكن من أهل التديُّن، وإنْ لم يكن قد تولّى السلطة بوسائل شرعية.
ب ـ إذا كان العمل في مجال الصناعة والتجارة والأعمال السائغة شرعاً. وفي هذا الفرض خلاف بين الفقهاء؛ فمنهم مَنْ نظر إلى نوع العمل ذاته، فاعتبره مباحاً؛ ومنهم مَنْ نظر الى ما يحقِّقه العمل لسلطةٍ غير شرعية.
ج ـ إذا أجاز إمام العصر أو نائبه العام أو الخاص لأحد الموالين له العمل مع السلطان استثناءً فذاك يصحِّح الفعل.
د ـ إذا كان المتولّي قادراً على ردّ الحقوق إلى أصحابها، وتفريج كرب المؤمنين، وقضاء حوائجهم. وهي وإنْ كانت حالاتٌ نادرة لا تقام عليها قاعدةٌ عامّة، إلاّ أنها وصفٌ يجب ذكره.
هـ ـ إذا كانت مهامّ الوظيفة كلّها من جنس الحلال، من دون أن يفرض عليه نوع العمل.
و ـ إذا أمن على نفسه حينما يعمل حَسْب الموازين الشرعية من بطش السلطان، وقدر على أداء مهام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ز ـ إذا أُكره عليها، فيجوز له الدخول حتّى في ما يحرم عليه؛ دفعاً للضرر؛ ولأن الإكراه مسقطٌ للتكليف؛ لحاكمية (لا ضرر) على الأدلّة الأولية.
وقد فصَّل الشيخ الأنصاري في كتابه المكاسب أن معونه الظالم كما دلَّتْ عليه الروايات العديدة عملٌ محرّم بالإجماع والنصوص المستفيضة([19]). لكنْ في تفاصيل ونوع المعونة اختلافٌ يسير بين الفقهاء([20])؛ فمنهم مَنْ يرى الحرمة إذا كانت المعونة على المحرمات؛ أما في المعونة في الأعمال المباحة فهم على قولين:
الأوّل: إنها حرامٌ مطلقاً طالما أن السلطان ظالم. والحرمة من جهة فقدانه صلاحية التولية.
الثاني: التفريق بين أن يكون الذي يعمل مع السلطان الجائر من الأعوان الدائمين فهذا من صنف الأعمال المحرّمة، ولو كانت معونتهم على المباح؛ لقول الإمام×: لا تَبْنِ لهم مسجداً([21])، وبين أن يعمل لهم (صفقة واحدة) من الأعمال المباحة فهذا لا بأس فيه، ولا يُعَدّ معيناً دائمياً؛ لأصل البراءة الشرعية؛ إذ لا يوجد الدليل على تحريم مثل هذه الأعمال.
المطلب الثاني: العمل ضمن ولاية السلطان الجائر في المذاهب الأخرى
لقد أفرز التاريخ الرسمي للتجربة السياسية الإسلامية (الأمويين والعباسيين والعثمانيين) ظواهر إخضاع التنظير الفقهي الاجتهادي لإرادة السلطة، وترسّخ عرفٌ متوالٍ أن السلطة بكلّ أنواعها وأشكالها سلطة مشروعة، أو على الأقلّ سلطة لا يجوز الخروج عليها وعصيانها. وعليه فإن العمل مع السلاطين الجائرين تحظى بموقف متسامح؛ لأن العمل أهون من طاعتهم المطلقة، التي أصبحت إحدى أهمّ المعتقدات التي ترسّخت كفيصل بين أهل السنة وبين غيرهم في تلك الفترة. لذلك فإننا نجد في فقه الحنفية مَنْ يذهب إلى جواز تقلُّد الوظائف من السلاطين، رغم أن الموقف التأسيسي للإمام أبي حنيفة هو عدم التعامل معهم، وقد اشتهر رفضه لتولّي القضاء للخلفاء العباسيين.
قال في العناية ـ شرح هداية الميرغيناني ـ: يجوز التقلُّد من السلطان الجائر، كما يجوز من السلطان العادل؛ لأن الصحابة تقلدوه من معاوية، وكان الحقّ مع علي×، وتقلّده التابعون من الحجّاج بن يوسف الثقفي، وكان جائراً. فلقد قبل سعيد بن جبير القضاء من الحجّاج، وقبلها أبو نعيم بن أبي مريم في إصفهان. لكنّهم في شأن القاضي اشترطوا أن لا يمنعه من القضاء بالحقّ، فإنْ لم يمكنه فلا فائدة من تقلُّده([22]). وفي هذا الاستدلال إشكالٌ؛ لأن السيرة العملية التاريخية للصحابة والتابعين كانت نتاج بيئة لها مواصفاتها، فلا تُعامل تلك السيرة إذا عارضت النصوص والمبادئ الكلية على أنها مستند أصولي للأحكام، ولا يقاس تقبُّل القضاء على الأعمال الأخرى؛ لميزة خاصة في القضاء في التجربة الحضارية الإسلامية؛ إذ تأسّس احترامه منذ بواكير أزمان هذه التجربة، فنشأ مستقلاًّ لا يعلو عليه إلاّ القانون.
موقف الزيدية: لا يصحّ تولّي القضاء في وقت إمام أو محتسب إلاّ بولايةٍ منهما. أما من السلطان الجائر فقد قال أحمد بن عيسى والشافعي وزفر: يجوز؛ وقال الهادي: لا يجوز. وهو اختيار الأزهار؛ لأن التولي من جهتهم فسقٌ؛ لما يوهم أنهم محقّون([23]). وفي فتح التقدير للشوكاني قال: يجوز تولّي الأعمال من جهة السلطان الجائر، بل حتى من الكافر، لمَنْ وثق من نفسه القيام بالحقّ([24]).
ونجد عند الحنابلة ما قاله ابن مفلح: إنه يجوز العمل مع السلطان وقبول جوائزه([25])؛بينما قال غيره في التبصرة: يجوز العمل مع مَنْ غلب عدله؛ وهناك قولٌ ضعيف بالكراهة.
وفي شأن تولّي الأعمال ـ وإنْ تقدّم ـ أنّ القضاء كان عملاً أقلّ إمكانية للتداخل من السلطة في مجرياته، إلاّ أن العلماء اختلفوا في قبول ولاية القضاء من السلطان الجائر.
فقد قال سحنون: اختلف رواة مالك في هذا؛ فذهب ابن فروخ إلى القول بأنه لا ينبغي له قبول الولاية؛ وذهب ابن غانم إلى الجواز، فكتب الناس إلى مالك بن أنس، فقال: أصاب ابن فروخ، ولا يصحّ عند أغلب فقهاء المذاهب أن ينصب أحداً نفسه للقضاء إلاّ بأمر السلطان.
فقد جاء في درر الحكام: إن القاضي وكيل السلطان، وللأخير حقّ النصب والعزل.
وقال ابن رشد: لا خلاف في أن تولية الإمام الأعظم ـ ويقصد الملوك أو السلاطين أو الخلفاء ـ للقاضي شرطٌ في صحة القضاء، ثم عقب فقال: وهذا ممّا لا خلاف فيه. وذكر خلاف العلماء في مَنْ ارتضاه المتداعيان ممَّنْ ليس مكلَّفاً من السلطان؛ فقال مالك: لا يجوز؛ وجوَّزه الشافعي في أحد قولَيْه؛ وقال أبو حنيفة: ينفذ حكمه إذا وافق حكم قاضي البلد.
وللشيعة الإمامية موقفٌ خاصّ بهم، ومغاير لما تقدَّم من آراء للمذاهب الأخرى، ولا سيَّما في مجال القضاء؛ ذلك لأن حاجة الناس إلى التقاضي وحسم المنازعات حاجة يومية؛ ولأن للسلطان الجائر جهازاً قضائيّاً له فقه ربما يختلف مع فقه الإمامية.
فذهبوا إلى أنه ممّا يشترط في ثبوت ولاية القاضي إذن الإمام×، أو مَنْ فوض له الإمام ذلك.
ولو استقضى أهل البلد قاضياً لم تثبت ولايته، ولم ينفُذْ حكمه، بَيْدَ أنه ذكر أن الخصمين لو ارتضيا أحداً صحّ، حتّى لو كان هناك قاضٍ منصوب.
ومع عدم حضور الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت^ الجامع للصفات المشترطة في الفتوى؛ لقول الصادق×: انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضائنا فاجعلوه بينكم قاضياً؛ فإني جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه. واستدلّوا بمقولة ابن حنظلة: انظروا إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارْضُوا به حاكماً.
إن الضغط والمعاملة غير المنصفة التي كان يقاسيها أئمّة آل البيت^ وأتباعهم في فتراتٍ طويلة من التجربة السياسية قد تكون وراء هذا التأسيس لقضاء شعبي؛ لأجل عدم اللجوء إلى القضاء الرسمي. وبذلك منح الفقهاء إذناً دائمياً لتولّي القضاء والفصل في الخصومات، طالما هناك قضاءٌ غير موثوق به.
وقد وضح أن الإمامية لا يختلفون مع الجمهور في أن ولاية القاضي لا بُدَّ لها من قرار الإمام، سوى أن الخلاف في الإمام نفسه. فالقاضي عندهم كالوكيل والوصي، وتولية القضاء حقٌّ للإمام، له أخذه كما له إعطاؤه.
بَيْدَ أن المحقِّق الحلّي ـ في الشرائع ـ لا يرى حقّ السلطان في عزل القاضي إذا استقرّت ولايته، فلا تزول تشهِّياً، لكنّه أجاز عزله اذا تحقَّقت في العزل مصلحةٌ عامة.
وعند الإمامية: إذا مات الإمام انعزل القضاة أجمع؛ لأنهم وكلاء الإمام، وينتهي عقد الوكالة بموت الموكِّل، فولايتهم فرعٌ عن ولايته، وهذا في النهاية. أما في المبسوط فقد عدل عن ذلك، وأفتى بأن ولايتهم لا تزول بموته([26]).
المبحث الثالث: أحكام قبول جوائز السلطان
المراد بجوائز السلطان ما يدفعه للناس من أموال أو هبات، سواء كانت أجوراً (رواتباً على عملٍ رتيب دائم) أو منحاً مقابل عمل محدّد، أو مقابل شيءٍ ما لصالح مقتضيات السلطة. ويعالج هذا الموضوع بمدخلين:
1ـ مدخل شرعية السلطة. فكونه متولٍّ للسلطة بلا وجه شرعي لا يجوز له التصرف بالمال العام. ولأنه غير جائز له التصرُّف فإنّ قبول العطايا والجوائز يحوطه الإشكال؛ لعدم جواز تصرُّف السلطان غير الشرعي بالمال العام؛ لأن المال العام له ضوابطه.
2ـ مدخل استحقاق الممنوح، وبالعناوين المتعدِّدة: فلا يجوز له أن يمنح أحداً مالاً عاماً بلا استحقاق.
ويلاحظ أي باحثٍ أن الفقهاء يمنعون من التصرُّف بالخراج بوصفه في أوقات ازدهار المعرفة الفقهية كان هو الجزء الرئيس من المال العامّ (وهو متروك التصرُّف به لنظر الولاة الشرعيين). فالمحدِّدات للتصرف بالمال العام تحقُّق الشرعية أوّلاً، وتحقُّق المصلحة العامة، وهو غير المحدِّدات في صرف الزكاة أو الخمس أو الكفارات، والخراج عبارةٌ عن حق الدولة في استغلال الأراضي المفتوحة العامرة، ومن حقها منح الناس حقّ العمل فيها مقاسمةً أو بنسبةٍ ما؛ ليبقى مالاً مرصوداً للنفع العام.
ويضاف إليه: إلى جانب خراج الأرض هناك جزية أهل الذمة، وأموال الفَيْء، والمعادن الباطنة، والثروات غير المملوكة مِلْكاً خاصاً. فكلّ هذه مفردات ومكونات الثروات الوطنية.
ونجد عند الفقهاء إشارة إلى أن بعض الجبايات للأموال جبايات مشروعة وصحيحة؛ وبعضها جبايات محرمة ومتعسفة، وتؤخذ من الناس بالقوّة، ومن دون وجه حقٍّ. فالمتغلِّبون يفرضونها على الناس جوراً؛ وذلك سببٌ من أسباب التحفُّظ الفقهي على جوائز السلطان، أي «نوع الجباية المالية»، الذي سيكون سبباً إلى جانب عدم شرعية السلطة المتغلبة. وكل هذه تجعل هذه الإشكالات تنسحب على العطايا التي يعطيها السلطان الجائر لبعض الناس من المال المغصوب الحرام، وهي محرمة قطعاً في أصلها والتقلُّب بها، فلا يجوز أخذها، ولا يتمكّن أن يتملَّكها الآخذ.
سببٌ آخر يحرّك الفقهاء للإفتاء بالحرمة هو أن هذه الأموال تحبِّب السلطة الجائرة إلى الناس رغم جورها. فالذين يمنحون هذه العطايا يستميلون الناس لصالح سلطات الجور، في وقتٍ نهى الباري تعالى عن مودّتهم، وحرَّم معونتهم واستمالتهم. فأخذ الهبات منهم توهم الناس أنّهم عدولٌ، فينشأ رأيٌ عام زائف وغير حقيقي للتضامن مع السلطات الجائرة، هذا على جهة الإجمال. وتبقى قضية العلم بالتفاصيل، فهي أمرٌ آخر له صلة بهذا الموضوع، ومنه ـ مثلاً ـ: هل يعلم المستفيد أن عطايا السلطان من المال الحرام قطعاً، مثل: أن يمنح السلطان شخصاً ما بيتاً لشخصٍ مصادراً من الحكومة بغير وجه حقّ، أو مصنعاً، أو أرضاً زراعية، إلخ؟
لقد كانت هذه التفاصيل محلّ التركيز في اللوائح الفقهية أكثر من قضايا جوهرها هو الموقف السياسي من السلطة. وسنعرض لهذه القضايا من خلال آراء الفقهاء:
المطلب الأول: جوائز السلطان في فقه الإمامية
أجمع علماء الإمامية أن المستفيد من أموال الدولة الممنوحة له من السلاطين إذا علم أنها أموال محرمة بعينها فهي حرامٌ، بلا خلاف، ولا يجوز له قبولها، ولا يصحّ تملُّكها والتصرُّف بها.
يقول في مفتاح الكرامة: «إذا علمت علماً يقينياً أنها مغصوبة، أو مأخوذة بغير حقّ، على أيّ نحوٍ كان»، فهي حرامٌ بالإجماع([27]).
بينما ذهب في الشرائع والدروس والكفاية إلى أن الجوائز المحرَّمة هي التي يعلم أنها حرام بعينها، وهذا يعني أن ما لا يعلم أنه حرامٌ بعينه فيجوز أخذه.
وفرَّع الفقهاء على هذا الفرض: هل كان علم الآخذ لجوائز السلاطين أنها من المال الحرام قبل أن يأخذها أم بعده؟ فإنْ كان يعلم (حرمتها) قبل الأخذ لا يجوز له أخذها، إلاّ مُكْرَهاً، مع ضرورة توفُّر نيّة الردّ، فتكون الأموال أمانةً في يده، وإلاّ يُعَدّ غاصباً؛ أما لو علم بالحرمة فيما بعد فهو ضامنٌ لها؛ لأنه أخذ المال بنيّة التملُّك، وعندئذٍ عليه أن يعيدها إلى المالك إنْ عرفه، أو يتصدَّق بها نيابةً عنه.
يقول العلاّمة في القواعد: وتعاد إلى المالك إنْ قبضها؛ فإنْ جهله تصدَّق بها عنه، ولا تعاد للظالم اختياراً([28]). ويوضِّح هذا القول شارح القواعد: إنه لو مات مالكها الحقيقي أُعيدت إلى ورثته عيناً أو فعلاً أو قيمة؛ أما لو جهله فأقوال:
أـ يتصدّق بها نيابة عنه مطلقاً.
ب ـ حفظها عنده أمانة لصاحبها، والوصية بها لحين التعرُّف عليه.
ج ـ تُعامَل كاللقطة؛ إذ يعرِّف بها لمدّة سنة.
د ـ هو مخيَّر بين التصدُّق بها، أو حفظها أمانة، أو دفعها إلى الحاكم الشرعي.
يقول العاملي: (وهذا التخيير كأنه خلاف الاحتياط)، ولا ريب عندهم أنه ضامنٌ إذا لم يَرْضَ المالك بقول القابض: إنه تصدَّق بها نيابةً عنه([29]).
ولو اختلط مال السلطان الحلال بالحرام فإما أن يكون نوع المال متميزاً فيعرف الحلال من الحرام؛ أو يكون المال مختلطاً بحيث لا يتميَّز. فإنْ تميّز فالحكم واضحٌ؛ وإلاّ فالمال الحرام إما أن يحصر؛ أو لا يمكن حصره. وعند ذاك حكم الكثير من الفقهاء بالكراهة في حالة أن لا يميز الممنوح من أموال السلطان أيّها الحلال وأيّها الحرام.
وربما يُراد بالكراهة هنا الكراهة التحريمية، ويبعد حملها على التنزيهية. فمَنْ يراها تحريميةً يستند إلى ضرورة ترك الشبهات، ومَنْ يحملها على التنزيه يستند لقاعدة اليد؛ لأن يد السلطان على المال دليلٌ على الملكية؛ لعدم وجود دليل على بطلان تملُّكه، وإن الاشتغال اليقيني يحتاج إلى دليلٍ يقيني؛ إذ مجرّد الاحتمال لا يكفي، ولأن القول بالتحريم في مثل هذه الحالات يوجب المشقّة المرفوعة بقاعدة رفع الحَرَج.
وإزاء ذلك وضع فقهاء الإمامية حلولاً، منها: إخراج الخمس منها؛ لاعتباره مطهِّراً للمال الحلال المختلط بالحرام غير المتميِّز مقداره وصاحبه؛ أو الاقتراع عليها؛ لأن القرعة لكلّ أمرٍ مشكل.
وذهب العلاّمة ابن إدريس في السرائر إلى عدم البأس في أخذ الجائزة أو الهبة من السلطان، حتّى اذا كان المال مخلوطاً بالحرام وغير متميّز([30]).
ويرى الشيخ يوسف البحراني في الحدائق أن مجرّد مجهولية حال الأموال تجعل الصلة مقبولة، وإنْ لم يعلم أن له مالاً حلالاً([31]).
ويقول العاملي في مفتاح الكرامة: قد اتّفقت كلمة الأصحاب على أنه إنْ لم يعلم حرمتها فهي حلالٌ([32])، وإنْ علم أن في ماله مظالم فإنّه جائزٌ أيضاً؛ للأصل، والصحاح المستفيضة، ومنها: قوله×: لا بأس حتّى تعرف الحلال بعينه. بَيْدَ أن ما يعارض ذلك الاتفاق المزعوم كلمة القائلين بالكراهة، فالشهيد الثاني في مسالك الأفهام يكره([33]) أخذها، والمقداد السيوري في التنقيح([34]) كذلك، والأردبيلي في المجمع([35]). وقد سبق القول عن الطوسي في النهاية([36]) أن الأفضل التورُّع عنها، ومعه أكثر مَنْ تأخَّر عنه، مثل: العلاّمة في منتهى المطلب([37])، والبحراني في الحدائق([38]) والطباطبائي في رياض المسائل([39]).
ونسب صاحب الكفاية القول بالكراهية إلى أنه مشهور مذهب الإمامية([40]).
واستدلّ القائلون بكراهة قبول جوائز السلطان بالأدلة التالية:
1ـ عدم قبول الإمام الكاظم× جوائز الرشيد، ثمّ تعليل قبولها لها بتزويج عُزّاب آل أبي طالب.
لكنْ يعارضها قبول الإمامين الحسن والحسين’ (عطايا معاوية).
ويمكن دفع التعارض بـ:
أـ إن قبول الإمام الكاظم× لها معلَّلٌ، وهي العلّة ذاتها في قبول الحسنين’ لعطايا السلاطين المغتصبين للسلطة.
ب ـ إن المراد من تصرُّفهم^ دفع توهُّم الجواز، مقروناً بالحثّ على التورُّع.
ج ـ إن القبول جاء منهما’ بعد علمهما بخلوصها عن الحرام، وغالب جوائز السلاطين محرّمة.
ويَرِدُ: استدلال المانعين بأن الحسن والحسين’ كان لهما استيفاء حقوقهما، فهما يملكان هذا العطاء أصلاً، فلا تصحّ المقايسة، ويبطل حديث التأسّي. وقيل: لأنّ باب التقية والاضطرار في شأنه× واضحٌ ومفتوح؛ لأن الإمام الحسن× قد صالح ظاهراً، فقبوله بعطايا معاوية «تطمين للجائر» على استمرار الهِدْنة.
2ـ قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (هود: 113).
ووجه الدلالة أن أخذ الجوائز منهم ركونٌ إليهم، فهي مقدّمة لمحظور، وهي محظورة أيضاً؛ للاستلزام، وإنها قلّما تنفكّ عن الارتباط بهم، وطالما كان المنهي عنه غير منفك فإن النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه. فلا تصحّ تكليفاً فهي حرام، ولا تصح وضعاً فهي باطلة، غير قابلة للتملُّك.
المطلب الثاني: جوائز السلطان في فقه المذاهب
رُوي عن أبي هريرة أنه قال: «ما أحدٌ يُهدي إليَّ هدية إلاّ قبلتها، فأمّا أن أسأل فلا».
ورُوى أن النبي‘ أعطى عمر مالاً، فقال له: أَعْطِهِ إلى مَنْ هو أفقر مني، فقال‘ له: خُذْه فتموَّله أو تصدَّق به([41]).
ويُروى أنه سُئل الإمام الباقر× عن جوائز السلاطين؟ فقال: إنْ علمتَ أنه من غصبٍ أو سحت فلا تقبله.
وعن أبي الدرداء مثله. وقد قبلت السيدة عائشة جوائز معاوية، وقبل عبد الله بن عمر هدايا المختار، وهو في رأيهم من السلاطين المتغلِّبين. وكذلك ابن عباس.
ويستند الفقهاء في الغالب على قول عثمان بن عفان: «جوائز السلطان لحم ظبي ذكي».
وقيل: إن معاوية قدم للإمام الحسين× أربعمائة ألف دينار.
وقبلها التابعي علقمة، والأسود، والنخعي، والشعبي، والحسن البصري، وآخرون.
ويستند إلى أن النبيّ ندب إلى قبول عطية غير ذي سلطان.
لكنْ هناك مَنْ كره قبول هدية السلطان.
إن خالد بن أسيد أعطى مسروقاً ثلاثين ألفاً، فأبى أن يقبلها، فقيل له: لو أخذتها فوصلت بها رحمك، قال: أرأيت لو أن لصّاً نقب بيتاً ما أبالي أخذتها أم أخذت ذلك.
ولم يقبل ابن سيرين، ولا أبو رزين، ولا ابن محيريز، هدايا السلطان.
وبعث هشام إلى عبد الله بن الزبير أموالاً، فقال له أخوه: ردّها، فما أكلها أحدٌ وهو غنيٌّ إلاّ أحوجه الله إليها.
وممَّنْ كره جوائز السلطان: الثوري، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل.
رأي الطبري: يرى الطبري أن الرسول‘ ندب أمته لقبول عطيّة كلّ مُعْطٍ جائزة عطيته، سلطاناً كان أو رعيّة؛ لأنه‘ قال لعمر: (ما آتاك الله من المال وأنت غير مشرف ولا سائل فاقبله) (رواه مسلم). فهذا ندبٌ عامّ من غير تخصيص بسلطانٍ أو بغيره، جائر أو عادل، سوى ما استثناه‘، أو ما جاء من وجهٍ حرام، أو غصبٍ يعلمه الآخذ.
إذا كان الحديث النبوي المتقدِّم صحيحاً، ودلالته كافية لجواز قبول عطايا السلاطين مطلقاً، فما الوجه الاستدلالي في مَنْ ردَّ عطايا السلاطين من أهل العلم؟
قيل: إنّهم ردّوا عطية مَنْ كان الأغلب من أمره أنّه لا يأخذ المال من وجهه، فرأوا أن الأسلم لدينهم ترك قبولها، وقبول ما لا شَكَّ في حِلِّه. فإنْ كان فيه لبس فالأَوْلى في ترك قبوله.
ممّا تقدَّم فإن مواقف الفقهاء من قبول جوائز السلاطين ثلاثة: ما علم أنه حلالٌ فالمستحب قبوله؛ وما علم أنه حرامٌ فاليقين ردّه؛ وما لم يعلم حاله فقد قالوا: لقد وضع عن الناس تكلُّف البحث عن أسبابه. وظاهر الحكم أنّ السلاطين أَوْلى بالمال العام من غيرهم، ما لم يستحقّه مستحقّ، فالواجب قبول عطيّة كلّ معطٍ.
موقف الحنفية: يرى الحنفية أنّه لا يجوز قبول هدية أمراء الجور؛ لأن الغالب في أموالهم الحرمة، إلاّ إذا علم أن أكثر أموالهم حلالٌ، بأن يكون لصاحبه تجارة أو زرع؛ لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام([42]).
أما مَنْ لم يعرف بالجور قال أبو الليث: اختلف الناس فيه؟ فقال بعضهم: يجوز ما لم يعلم أنه يعطيه من حرام. وقال محمد بن الحسن الشيباني: وبه نأخذ ما لم نعرف شيئاً حراماً بعينه، وهو قول أبي حنيفة([43]).
ويتحدّث العيني عن راوٍ من رواة الحديث، هو إبراهيم بن طهمان الخراساني، فيمدحه بالقول: كان لا يقبل جوائز السلطان، وهي تصريحٌ بالمدح. وقد قال فيه أحمد: يستنزل بذكره القطر([44]).
ويمتدح صفوان بن سليم بكلمة (الإمام القدوة)، ممَّنْ يستسقى به، يقولون عنه: إن جبهته ثقبت من كثرة السجود، ثم يقول بعد ذلك: كان لا يقبل جوائز السلطان([45]).
روى يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله يعطيني العطاء، فأقول: أعطه مَنْ هو أفقر مني، فقال‘: خذه. إذا جاءك من هذا المال شيءٌ وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، [وإلاّ] فلا تتبعه نفسك. ونقل العيني عن الطبري: إن ما يستفاد من قوله (فخُذْه) إجماعهم على أنه أمر ندب وإرشاد، وليس كما يذهب آخرون إلى أنه أمر يقتضي الوجوب أو الندب، وقال بعضهم: هو ندب لكلّ مَنْ أُعطي عطية أن يقبلها، سواء كان المعطي سلطاناً أو غيره، صالحاً كان أو فاسقاً، إذا كان ممَّنْ تجوز عطيّته([46]).
وجاء في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح أن القاسم بن محمد وابن سيرين وابن المسيّب لا يقبلون جوائز السلطان([47]). ونقل عن الغزالي قوله: إن السلاطين في زماننا هذا ظلمة، قلما يأخذون شيئاً على وجهه وبحقّه، فلا تحلّ معاملتهم، ولا معاملة مَنْ يتعلق بهم، حتّى القاضي، ولا التجارة في الأسواق التي بنوها بغير حقٍّ. والورع اجتناب الربط والمدارس والقناطر التي بنوها بالأموال المغصوبة، التي لا يعلم مالكها([48]).
وعن سفيان: إنه كان قد رأى ناراً، فسأل عنها؟ فقيل له: نار صاحب الشرطة، فذهب في طريقٍ آخر، وحينما سأله صاحبه أفاد بعدم جواز الاستضاءة بنارهم([49]).
وجاء في مجمع الأنهر: ولا يجوز قبول هديّة أمراء الجور؛ لأن الغالب في مالهم الحرمة، إلا إذا علم أن أكثر ماله من حِلٍّ، بأن كان صاحب تجارة أو زرع([50]).
وفي البزازية قال: يراعى الغالب على المال؛ فإن كان الغالب حلالاً جاز.
نُقل عن أبي حنيفة قوله: إن المبتلى بطعام الظلمة يتحرّى؛ إنْ وقع في قلبه حلّه قبل وأكل؛ وإلاّ فلا؛ لقوله‘: «استَفْتِ قلبك». وفي الأشباه والنظائر كذلك([51]).
موقف الشافعية: قال القيلوبي: لا يحرم الأكل، ولا المعاملة، ولا أخذ الصدقة ولا الهدية، ممَّنْ أكثر ماله حرام، إلاّ ما علم حرمته([52]). وهذه قاعدة عامة تقتضي قبول جوائز السلاطين، إلاّ أن يعلم حرمتها قطعاً وعلى وجه الجزم.
موقف المالكية: نقل ابن عبد البرّ في التمهيد، عن سفيان، أنه قال: جوائز السلطان أحبّ إليّ من صلات الإخوان؛ لأنهم يمنّون. قال ابن عبد البرّ: يحتمل أنه يرى لنفسه حقّاً في بيت المال؛ لأن الآثار المروية عن النبيّ كراهته([53]).
وفي التاج والإكليل يستند للجواز بقبول ابن عمر هدايا المختار، وقد تقدّم أنهم لا يرَوْنه من سلاطين العدل؛ وقبول ابن عباس من معاوية؛ وقول الحسن البصري: «لا يردّ عطاياهم إلاّ أحمق أو مراءٍ. وهذا في ما لا يعلم فيه الحرام بعينه([54]).
وفي مواهب الجليل قال: لقد قبل جوائز السلطان مَنْ علمت من أئمّة الهدى والعلم، فقد أخذ ابن عمر جوائز الحجّاج، وأخذ محمد بن شهاب الزهري جوائز عبد الملك بن مروان، وأخذ مالك بن أنس جوائز أبي جعفر المنصور([55]).
فإنْ قيل: إنهم أخذوها على وجه الخوف. قلنا: إن فيهم مَنْ يأمن السلطان بترك الأخذ منه، فليس هذا العذر لهم جميعاً. وقد ذكر أن المنصور أمر لمالك بثلاث صرر دنانير، فسقطت من حاملها صرّة في الزحام، فلما أتاه بالصرّتين سأله عن الثالثة؟ فأنكرها، فألزمه مالك بالثالثة، وألحّ عليه، حتّى وجدها أحدٌ فجاء بها إليه. ومالك لم يفعل هذا إلاّ متطوِّعاً غير خائفٍ من السلطان.
ونقل عن سحنون قوله: مَنْ قبل جوائز السلطان فهو ساقط الشهادة عندنا. ومن أدمن الأكل على موائد السلطان فهو كذلك. ويرى سحنون أن الاحتجاج بقبول ابن شهاب ومالك قياسٌ مع الفارق؛ لأن مالك يرى الخلفاء ممَّنْ تجري على يده الدواوين، وهو أمير المؤمنين، وهو مكلَّف بإيصال العطاء الى أهل العلم.
وجوائز الخلفاء جائزةٌ لا شَكَّ فيها على شرط مالك؛ لإجماع الخلق على قبول العطاء من الخلفاء، ممَّنْ يرضى به وممَّنْ لا يرضى به، أما الأمراء الذين فوض إليهم الخليفة قبض الأموال وصرفها باجتهادهم، كالحجّاج، فقبض الجوائز منهم كقبضها من الخلفاء، فإنْ صحّ أخذ ابن عمر جوائز الحجّاج فهذا وجهه.
وجاء في منح الجليل: إنه رُوي عن مالك: إنه لا بأس بأخذ جوائز الخلفاء، أما جوائز العمال ففيها شيء من التأمُّل؛ للنظر هل هم مفوَّضون بالعطاء؟ فإنْ كان العامل (الوالي) عَدْلاً في قسمته اتّفق أهل العلم على جواز أخذ الجائزة منه، وإنْ لم تقبل قسمته فهناك قولان؛ فالأكثر على جواز أخذ الجائزة منه؛ وكرهها بعضهم، ولا سيَّما إذا شاب المجبى منه الحلال والحرام، فالأكثر على كراهة الأخذ؛ أما إذا كان المال المجبى حراماً فالإجماع أنه حرامٌ([56]).
ونقل البناني تقسيم ابن رشد أموال الأمراء إلى:
1ـ مال حلال من سلطان لا يعدل في قسمه، فالأكثر على جواز قبوله منهم، وقيل: يكره.
2ـ مال مختلط حلال وحرام، فالأكثر على كراهة أخذه، وقيل: يجوز.
3ـ مال حرام، قيل: يحرم أخذه، وقولٌ ضعيف بالجواز.
ونقل ابن عبد البرّ في الاستذكار الأدلّة على قبولها، ومنها: إن ابن عمر قبل جوائز عبد العزيز بن مروان([57])، ونقل مقولة سفيان في (جوائز السلطان)، وأضاف: إن سفيان كان يحتجّ بقول ابن مسعود: (لك المهنأ، وعليه المأثم). ثم نقل قول عثمان بن عفان: (لحم ظبي ذكي)، ومقولة الحسن البصري: لا يردّ جوائزهم إلاّ أحمق أو مراءٍ، ثم قال ابن عبد البرّ: ما أعلم أحداً لم يقبل جوائز السلطان من علماء التابعين، إلا سعيد بن المسيّب وابن سيرين([58]).
موقف الحنابلة: سأل الناس أحمد عن قبول جائزة السلطان؟ قال أحمد: أكرهها، وكان يتورَّع عنها، ويمنع أولاده منها، ويأمرهم بالتصدُّق بما أخذوه منها؛ لأن أموال السلاطين تختلط بالحرام، فيصير مالاً ذا شبهة([59]).
جاء في الفروع لابن مفلح أن هناك رأيين:
الأول: يجوز قبول جوائز السلطان، ولا سيَّما ممَّنْ غلب عدله.
الثاني: تكره جوائز السلطان مطلقاً([60])؛ لأن أحمد قال: أكرهها. ونقل عنه قوله: إن جائزة السلطان أحبّ إليّ من الصدقة، وقال: هي خيرٌ من صلة الإخوان. ولكنْ أيضاً رُوي عنه: إن المرء يموت بدينه، ولا يعمل معهم. وقد هجر أحمد أولاده وعمّه وابن عمّه عندما أخذوها، وهذا يقتضي جواز الهجر لمَنْ أخذ مالاً بشبهةٍ.
وقال الخلال: كان أحمد يجيز لمَنْ أخذها لحاجةٍ، فلمّا أخذوها مع الاستغناء هجرهم.
ونقل المجيزون من الحنابلة أن فقهاء المدينة السبعة، سوى ابن المسيّب، يقبلون جوائز السلطان. لكنّ أحمد كان لا يقبل جوائز السلطان، وينكر على ولده وعمّه قبولها، ويشدّد في ذلك، ولم يكن يأكل في بيوتهم شيئاً، ولا ينتفع بشيءٍ منهم. وممَّنْ كان لا يقبلها ابن المسيّب والقاسم وبشر بن سعيد والثوري وابن المبارك. قال المجيزون كان هذا منهم على سبيل الورع والتوقّي، لا على أنها حرامٌ؛ لقول أحمد: جوائز السلطان أحبّ إليّ من الصدقة؛ ولقوله: ليس أحدٌ من المسلمين إلاّ وله في هذه الدراهم نصيب، فكيف أقول: إنها سحت؟!([61]).
وأمّا الذاهبون إلى حرمتها من الحنابلة فقد استدلّوا بأن أموال السلاطين تختلط بما يأخذونه من الحرام والظلم وغيره، فتصير أموال شبهة. وقد قال‘: الحلال بين، والحرام بين… فمَنْ اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن واقع الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه؛ وقوله‘: دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك.
واحتجّوا أيضاً بأنّ جماعةً من الصحابة تنزَّهوا عن مال السلطان، مثل: حذيفة؛ ومعاذ. ولكن رغم ذلك لم يَرَ أحمد أنها من المال الحرام، لكنه قال: أحبّ إليّ أن يتنزه عنه. وفسّر ابن تيمية موقف أحمد، فقال: لقد بين أحمد أنه إنما امتنع منه، وحثّ أهله على تركه، لئلا يصير ذلك سبباً الى أن يداخل الخليفة الفقهاء في ما يريد. وقد نقل عن النبيّ‘: خُذْ العطاء ما كان عطاءً، فإذا كان عوضاً عن دين أحدكم فلا يأخذه([62]).
ويفسّر ابن تيمية امتناع الفقهاء عن أخذ جوائز السلاطين بقوله: ومن الناس مَنْ آل به الإفراط في الورع إلى أمر اجتهد فيه، فيثاب على حسن قصده، وإنْ كان المشروع خلاف ما فعله([63]). وبذلك يقرّر جواز الأخذ بجوائز السلطان.
وجاء في مجموع الفتاوى قال: إن أصول الشريعة كلها مبنية على أصل التفريق في المنهيات بين المحتاج وغيره، ولهذا أبيحَتْ المحظورات عند الضرورة([64]). ومن أتباعه مَنْ فسّر امتناع أحمد وابن المبارك أنه من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسُّع، وليس لاعتقاد التحريم([65])، واستدلّ بأن النبي‘ قبل هديّة المقوقس وصاحب دوحة الجندل، وهو‘ لا يقبل إلاّ طيباً.
وقال ابن رجب في النصائح: إن الصالحين نصحوا سفيان بن عيينة في موضوع جوائز السلطان، فأجاب: إنّه ما أخذ منهم إلاّ دون حقِّه.
وقال ابن حجر العسقلاني: إن لفظة (خُذْه) في حديث النبيّ‘ أمرٌ للندب بغضّ النظر عن المعطي([66]). وقال ابن المنذر المالكي: عطية السلطان جائزٌ أخذها ومرخَّص فيه.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) رئيس قسم الدراسات العليا في كلِّية الفقه، ومدير مركز الدراسات، في جامعة الكوفة. من العراق.
([1]) الشهرستاني، الملل والنحل: 161؛ الماوردي، الأحكام السلطانية: 3.
([2]) الماوردي، الأحكام السلطانية: 3.
([3]) التبر المسبوك في نصيحة الملوك: 15.
([4]) العاملي، مفتاح الكرامة 8: 193.
([5]) ثورات العلويين في العصر العباسي: ؟؟؟.
([7]) الجصّاص، أحكام القرآن 2: 161.
([8]) الطحاوي، العقيدة الطحاوية 1: 47، باب وجوب طاعة الأئمة والولاة.
([10]) هاشم جميل، مسائل في الفقه المقارن 1: 120.
([11]) وسائل الشيعة، باب ما يُتكسَّب به.
([12]) العاملي، مفتاح الكرامة 12: 375.
([13]) قطب الدين الراوندي، فقه القرآن.
([14]) وسائل الشيعة، باب ما يُتكسّب به.
([16]) وهو رأي بعض الفقهاء المتأخرين.
([17]) الطباطبائي، رياض المسائل 8: 105.
([18]) وسائل الشيعة، باب ما يُتكسّب به.
([19]) الأنصاري، المكاسب 4: 256.
([21]) وسائل الشيعة، باب ما يُتكسّب به.
([22]) العيني، العناية، شرح الهداية 10: 217.
([24]) الشوكاني، فتح الغدير 2: 35
([25]) ابن مفلح، الفروع 4: 409.
([27]) العاملي، مفتاح الكرامة 12: 389.
([28]) العلامة الحلي، قواعد الأحكام؛ العاملي، مفتاح الكرامة 12: 389
([29]) العاملي، مفتاح الكرامة 12: 389.
([31]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 18: 268.
([32]) العاملي، مفتاح الكرامة 12: 389.
([33]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 141.
([34]) السيوري، التنقيح الرائع 2: 20.
([35]) الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 8: 86.
([36]) الطوسي، النهاية في الفقه والفتاوى.
([37]) العلامة الحلي، منتهى المطلب 2: 1026.
([38]) يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 18: 268.
([39]) علي الطباطبائي، رياض المسائل 8: 105.
([40]) الخوانساري، كفاية الأحكام.
([41]) جامع مسلم؛ سبل السلام 2: 749.
([42]) الموسوعة الفقهية 2: 5211، مادة جائزة.
([43]) الفتاوى الهندية 5: 342.
([44]) العيني، العناية شرح الهداية 5: 293.
([48]) إحياء علوم الدين 5: 240.
([50]) مجمع الأنهر وملتقى الأبحر 8: 138.
([51]) الأشباه والنظائر 1: 137.
([52]) حاشية قيلوبي وعميرة 4: 262.
([53]) ابن عبد البر، التمهيد 4: 106.
([54]) التاج والإكليل 11: 163.
([57]) ابن عبد البر، الاستذكار 8: 605.
([59]) ابن مفلح، الفروع 4: 409.
([61]) ابن قدامة، المغني 8: 500.
([62]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى 7: 336.