ملاحظاتٌ حول الدفاع عن الملاّ صدرا
د. السيد حسن إسلامي(*)
مقدّمة ــــــ
عمد الأستاذ أكبر ثبوت في مقالٍ له تحت عنوان: ضعف الأساليب عند منتقدي صدر المتألِّهين([1])، المنشور في مجلة (كتاب ماه، العدد 71، شهر مرداد، من عام 1392هـ.ش)، إلى الدفاع عن صدر المتألهين، وانتقد مخالفيه ومنتقديه. وأنا أتَّفق معه في ما يهدف إليه من الدفاع عن صدر المتألِّهين في مواجهة المعارضين للفلسفة والظاهريّين. ولكنْ يبدو أنه سمح لنفسه بالوصول إلى هذه الغاية بسلوك طرق وأساليب غير صحيحة. ومن هنا فقد اتّخذ لنفسه طريقاً غير منتجٍ على المستوى العلمي، ولا مقنع على المستوى البلاغي، وغير قابل للدفاع على المستوى الأخلاقي. وكان حصيلة ما قام به في هذا السياق مقالاً مفصَّلاً، ذا مضمون ضعيف، وبنية هشّة، وألفاظ غير مهذّبة. وفي هذا المقال سوف أتجنّب الخوض في أبحاثه المضمونية، وأقتصر على بيان عشر ملاحظات نقديّة باختصار؛ لأثبت أن أسلوبه في هذا المقال ـ كما سبق لي أن ذكرتُ ذلك في مقالٍ آخر([2]) ـ يضاهي أسلوب المخالفين للفلسفة، وبذلك فإنّه لا يختلف عنهم.
1ـ مصادرة هويّة الكاتب ــــــ
لا يذكر الأستاذ ثبوت في مقاله الطويل اسم الناقد الذي يسعى إلى الإجابة عن نقده. وقد احتوى المقال من بدايته إلى نهايته على أوصاف من قبيل: (الجهل) و(الافتقار إلى المنهج)، ولكنّنا لا نعرف هوية هذا الجاهل، والذي لا يمتلك المنهج، وإنما كل ما نعرفه عنه هذه الأوصاف، ومن ذلك: قوله: (هذا الناقد) أو (السيد المحترم)! (ص 14)([3])، (لا يتمتّع بسعة الصدر الكافية للتحقيق، ويتحدَّث عن تقليد) (ص 7)، (يخلط الحابل بالنابل) (ص 11)، مولع بـ (توضيح الواضحات وإثبات البديهيات) (ص 19)، و(على الرغم من مقامه العلمي، وتسنُّمه مقام الأستاذ، إلا أنّه لم يقرأ حتى القليل من صفحات نهج البلاغة) (ص 11).
إن من أبسط البديهيات في ما يتعلق بالإجابة عن النقد هو العمل على دراسة رأي المنتقد، بعد ذكر اسمه، والتعريف الصريح بشخصه، بعيداً عن التعريض والكناية. وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: لماذا أحجم الأستاذ ثبوت عن ذكر اسم هذا الكاتب والمنتقد؟ إنْ كان اسمه لا يستحقّ الذكر فلماذا استهلك الأستاذ ثبوت ما يقرب من عشرين صفحة في الردِّ عليه؟ وإنْ كان إنما يتعاطى مع الكلام دون المتكلِّم فلماذا يصف المتكلِّم بهذه الألقاب والصفات التعريضية؟! أيّاً كان الدافع إلى ذلك فهو لا ينسجم مع الاحتراف، ولا يتناغم مع المروءة. وإذا كانت ادّعاءات الشخص تستحقّ الردّ فإن اسمه يستحقّ الذكر أيضاً.
2ـ مصادرة هويّة المكتوب ــــــ
كما أن الأستاذ أكبر ثبوت يتناول في مقاله مدّعيات هذا الناقد المجهول بالنقد والردّ، اعتماداً على مقالين منشورين له، ولكنّه لا يذكر عنوان هذين المقالين أبداً، مع أن طبيعة الردّ على النقد تقتضي الشفافية والوضوح، من خلال ذكر عناوين المقالات التي نروم الردّ عليها. ولكنّنا لا نجد شيئاً من ذلك. فعلى الرغم من ذكر نصوص من هذين المقالين، لا يكلِّف الأستاذ ثبوت نفسه بذكر عنوانيهما ومصدريهما. وعندما يعمد إلى الإحالة إليهما، يشير إلى المجلتين اللتين نشرتا هذين المقالين على النحو التالي: «قال هذا الناقد المحترم: […]» (مجلة آيينه پژوهش، العدد: 131، ص 31) (ص 10)، «إن السيد فلان قال في المقال الفلاني» (مجلة آيينه پژوهش، العدد: 131، ص 32) (ص 7)، و«كذلك قال الناقد المحترم: […]» (مجلة كتاب ماه فلسفه، العدد 67، ص 66) (ص 15). وفي الإحالة إلى المقال يكتفي بذكر اسم المجلة، دون عنوان المقال.
في حين أننا ـ في حدود ما نعرفه وتعلَّمناه في دورات أساليب التحقيق ـ نعلم أن هناك اختلافاً رئيساً بين الكتاب والمجلة، وإن طريقة الإحالة إلى الكتاب تختلف عن طريقة الإحالة إلى المجلة أيضاً. وهذا ما تمّ التنويه له حتّى في صفحة (الدليل إلى تنظيم المقالات) الذي يقع في بداية المجلات العلمية أيضاً. إن الإحالة إلى المجلة لا يحدِّد هوية واسم المقال، ولا يمكن لعنوان المجلّة أن يحلّ محل عنوان المقال. وهنا نتساءل: هل كانت هذه الطريقة غير العلمية ناتجة عن الغفلة وعدم الدقّة الصرفة، أم أنّ الأستاذ ثبوت لا يفرِّق بين المجلّة والكتاب، أم أنه يرى أن عنوان هذين المقالين لا يستحقّ الذكر، كما هو اسم كاتبهما؟!
3ـ شخصنة البحث ــــــ
إن من الأخطاء الواضحة في هذا المقال، وغيره من مقالات الأستاذ ثبوت، أنه بدلاً من التركيز ـ في معرض الدفاع عن صدر المتألِّهين ـ على البحث العلمي، والسير في حدود مسار البحث العامّ، ينحرف باتجاه الشخص، ويستهدفه بسهام النقد والهجوم، حيث ينهمك في جرحه وإسقاطه عن الاعتبار. فمثلاً: كان القسم الأعظم من مقاله السابق هو الهجوم على شخص الأستاذ ضياء الدين الدرّي، والعمل على إظهاره شخصاً يدين بالولاء للشاه رضا خان البهلوي. وفي مقاله الأخير، بدلاً من الإجابة عن إشكالات الناقد، يهاجمه بالقول: إن هذا (المقام العلمي)، والذي يتحلى بصفة (الأستاذ)، لا يفقه شيئاً، وإنّه لم يقرأ حتّى أربع صفحات من نهج البلاغة، ويسأله أن يحقِّق بشأن ادّعاء «مرجع تقليده»، يعني بذلك الآغا ضياء الدين الدرّي (ص 7). وبغضّ النظر عن عدم صوابية هذا الادعاءات، فإننا في ما يتعلّق بالمسائل العلمية لا عداوة لنا مع الأشخاص، بعد أن كانت الغاية هي الوصول إلى الحقيقة، ولا يهمّ مَنْ هو قائل الحقيقة. وعلى حدِّ تعبير العلامة الطباطبائي: «إنّ الحق حقٌّ حيثما كان موضعه، وكيفما تمَّ الحصول عليه، وأيّاً كان قائله، دون أن يكون لفسق أو كفر أو إيمان أو تقوى قائله أدنى تأثير عليه. وإنّ الإعراض عن الحقّ؛ من أجل بغض قائله، ليس سوى تمسّكٍ بعروة العصبية الجاهلية التي تمَّ شجبها من قبل الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على لسان أنبيائه»([4]).
ومع ذلك فإن هذا السلوك من الأستاذ ثبوت يأتي وكأنّه من خلال إثبات التبعية السياسية للناقد، وتشويه سمعة منتقدي صدر المتألِّهين، قد نجح في الإجابة عن أصل المدَّعى. وهذا خطأٌ قد ارتكبه الأستاذ ثبوت مراراً وتكراراً، مع أنه لو كتب آلاف الصفحات في التعريض بهؤلاء الأشخاص يبقى السؤال قائماً: هل ارتكب صدر المتألِّهين حقّاً ما يُنسَب إليه من تهمة الانتحال أم لا؟ وفي هذه الحالة نبقى بحاجة إلى الإجابة الدقيقة والوافية بهذا الشأن.
وفي الحقيقة إننا نلاحظ في كتابات الأستاذ ثبوت وقوعه مراراً في خطأ المنشأ([5])، حيث يتصوَّر أنه من خلال إثبات أن الشخص الأوّل الذي أثار بحث انتحال صدر المتألِّهين ـ والذي هو الآغا ضياء الدرّي ـ كان من بطانة رضا خان يكون قد حسم المسألة لصالح صدر المتألِّهين. وحتّى لو ظهر اليوم مَنْ يعيد إثارة هذه المسألة يكون أيضاً مقلِّداً لذلك الآغا ضياء الدين الدرّي، وقد تحدَّد الحكم بشأن «مرجع التقليد» هذا سَلَفاً. هذا في حين سبق لسقراط أن بيَّن بطلان هذا السنخ من الاستدلال قبل أكثر من 2500 سنة، حيث قال: «ألم تسمع بأن أوّل نبوءة في معبد زيؤوس الواقع في دودونا قد سمعت من شجرة بلوط؟ حيث لم يكن الناس آنذاك مثلكم أيّها الشباب من العلماء، فإنهم لبساطتهم وسذاجتهم يصغون لكلمات الأشجار والأحجار، وكانوا إذا سمعوا كلاماً صادقاً منها عملوا به، ولكنْ يبدو أن الأمر مختلفٌ بالنسبة لك، حيث تنظر إلى هوية المتكلِّم، وإلى البلد الذي ينتمي له؛ لأنّك لا تكتفي بكلامه فقط، وما إذا كان هذا الكلام صادقاً أو كاذباً»([6]).
4ـ التعرُّض للناقدين بالشتم والإهانة ــــــ
إن الأستاذ أكبر ثبوت ـ وللأسف الشديد ـ لا يتورَّع عن شتم منتقديه أو منتقدي صدر المتألِّهين، ولا يتريَّث في التقليل من شأنهم. وبالمناسبة هناك من المخالفين لصدر المتألِّهين مَنْ يقوم بذات الشيء أيضاً. فليس من المهمّ ما هي حقيقة المسألة؟ وإنما المهمّ أن هناك مَنْ تجرّأ على تحدّي المدَّعيات الشائعة؛ فإنْ عمد إلى انتقاد المدرسة التفكيكية تمّ وصمه بأنه «مبتدئ» و«يافع» و«أمّي»؛ وإنْ انتقد مَنْ يدّعي الفلسفة اتهم بأنه «لم يقرأ حتّى أربع صفحات من نهج البلاغة»، و«أنه مصابٌ بالجهل المركب»، بمعنى أنه ليس جاهلاً فحَسْب، وإنّما لا يدرك أنه جاهلٌ أيضاً. وعلى سبيل المثال: نجد السيد الحكيمي يصف الذين ينتقدون المدرسة التفكيكية بعباراتٍ من قبيل:
ـ (إنّ على المبتدئين غير المؤدَّبين، والمتبجِّحين، الذين لا حظّ لهم من المسكة ومهلة النظر، أن لا يفكروا بكتابة نقدٍ أو ردّ)([7]).
ـ (حتّى يدرك أولئك الذين يصطلح عليهم بـ «منتقدي المدرسة التفكيكيّة» ويعلموا موطئ أقدامهم)([8]).
ـ (على كلّ ناقدٍ يجيز لنفسه أن يمارس النقد […] أن يدرك أنّ للقوس باريها)([9]).
ـ (إن مَنْ ينتقد «المدرسة التفكيكيّة» كمَنْ يضع الماء في الغربال)([10]).
ـ (على المبتدئين وأشباههم […] من الذين يسعون إلى انتقاد «المدرسة التفكيكيّة» أن يصحوا ويثوبوا إلى رشدهم أوّلاً، وأن لا يحاولوا تقييم هذه الفلسفة)([11]).
ـ (عليكم حتماً أن تقرأوا الفصل […]، دون غرض أو مرض)([12]).
وهكذا الشأن بالنسبة إلى الأستاذ أكبر ثبوت، حيث يهاجم منتقديه على الشكل التالي:
ـ (ما حيلتي مع أولئك الذين لا يفهمون، ولا يفهمون أنّهم لا يفهمون، ولا يريدون أن يفهموا؟) (ص 19).
ـ (أنَّى لهؤلاء الناقدين المحترمين […] أن يقولوا غير هذه الكلمات الواهية […]، التي يكررونها تكرار الببغاء […] وما إلى ذلك؛ لإثبات وجودهم وفضلهم؟) (ص 7).
ـ (كأنّ هذا الناقد المحقِّق لا علم له بالسيرة العملية لأكثر العلماء الكبار، ولم يشاهد أيّاً من مؤلَّفاتهم. وعلى الرغم من مكانته العلمية، وتسنُّمه مرتبة الأستاذ، لم يقرأ حتّى بضع صفحات من نهج البلاغة […]) (ص 11).
الحقيقة أنّي طوال أكثر من عقدٍ من الزمن أمضيته في القراءة المتكرِّرة لنصوص أعداء الفلسفة وعبّاد الفلاسفة على السواء لم أجِدْ فرقاً بينهما في أساليب البحث. من هنا يبدو لي أن أحد أسباب نكوص الفلسفة الإسلامية في العصر الراهن لا يعود إلى قوَّة وصلابة أعداء الفلسفة، وإنّما السبب في ذلك يعود إلى ضعف أنصارها.
5ـ الأقيسة الاعتباطيّة والاستشهادات الواهية ــــــ
إن لدى الأستاذ ثبوت شغفاً عارماً بتحشيد الأسماء، والاستشهاد بالشخصيات الكبيرة. فعلى سبيل المثال: تراه قد ذكر في الصفحة الأولى من مقاله الأخير أسماء خمسة وسبعين شخصاً من العلماء الكبار. وهذا ما قام به في مقالاته السابقة أيضاً. وإن انتقادي لهذا الأسلوب هو أننا في الأبحاث العقلية إنّما نتعاطى مع الأدلّة والحجج والبراهين، وليس بالاستشهاد بأقوال العلماء ونقل آرائهم. إن الأستاذ ثبوت يقول في الدفاع عن أسلوبه هذا: «لو أنك تعاطيت مع كتب مثل جواهر الكلام لوجدت أنه عندما يروم الإجابة عن كلّ مسألة فقهية يقوم قبلها وبعدها بسرد فهرسٍ طويل من أسماء الفقهاء الذين قالوا بذلك الجواب أو رفضوه. فهل تعتبر أمثال هؤلاء الفقهاء مخطئين؛ إذ يحشدون أسماء هذه الشخصيات؟!» (ص 19).
أجل، لقد تعاطيت كثيراً مع كتب مثل جواهر الكلام. ولو كان الذي يطرح هذا السؤال عليَّ شخصٌ لا يعرف الفرق بين منهج الفقهاء ومنهج الفلاسفة، وأن الفقه من العلوم «النقلية» والفلسفة من العلوم «العقلية» لعذرتُه، وشرحتُ له الفرق بين هذين العلمين. ولكنْ عجبي من الأستاذ ثبوت كيف يسمح لنفسه بإجراء هذه المقارنة وقياس الفلسفة على الفقه، مع أنه قياسٌ مع الفارق؟! فنحن في ما يتعلق بالفقه نتعاطى مع فتاوى وأقوال العلماء، حيث يمكن للشهرة الفتوائية وإهمال الفتوى وترك العمل بها أن يغيِّر مسار البحث الفقهي إلى حدٍّ كبير؛ ولهذا السبب نجد الفقهاء غالباً ما يجهدون أنفسهم بحشد الأنصار والموافقين لرأيهم من الفقهاء الآخرين، وترتفع أصواتهم عند العثور على مَنْ يقول برأيهم: «مرحباً بناصرنا». أما الفلسفة فلا تتعاطى بأقوال الفلاسفة الآخرين، وكم هو عدد القائلين بهذا الرأي أو ذاك؟ وعليه تكون الموازنة التي قام بها الأستاذ أكبر ثبوت والقياس بين علم الفقه وعلم الفلسفة خاطئاً، وفي غير محلّه.
والمثير للانتباه أن أعداء الفلسفة ـ أي أولئك الذين يسعى الأستاذ أكبر ثبوت إلى وقف جزء من نشاطه العلمي على تشويه سمعتهم ـ إنّما يعملون على توظيف ذات هذا الأسلوب والمنهج. فعلى سبيل المثال: نجد الأستاذ الحكيمي في كتابه (إلهيات إلهي، وإلهيات بشري) يذكر أسماء أكثر من أربعين شخصية من الفلاسفة وغيرهم، مستشهداً بأقوالهم؛ لكي يثبت بطلان الفلسفة. وقد سبق لي أن بيَّنت هذا النمط من الاستدلال، وعدم جدوائيّته([13]). ولا أعتب في ذلك على أعداء الفلسفة، ولكنْ لا يمكن لنا أن نتوقَّع من الأستاذ ثبوت أن يلجأ إلى هذا النوع من الاستدلال مثلهم.
6ـ حرق الأخضر واليابس ــــــ
إن أوّل نقد كتبتُه كان موجَّهاً إلى «المدرسة التفكيكية»، وجفائها بحقّ الفلسفة الإسلامية، والتهم الباطلة التي وجهتها هذه المدرسة إلى الفلاسفة، ومنهم: صدر المتألِّهين. وكان ذلك قبل عشر سنوات، ولا زلت على ذات الموقف([14]). وقد دافعت في جانبٍ من مقالاتي عن صدر المتألِّهين دفاعاً شديداً، وسعيتُ إلى بيان خطأ تفسير التفكيكيّين للمعاد الجسماني. وفيما بعد أدركتُ ـ للأسف الشديد ـ أن بعض هذه الأساليب غير المنهجية في تحليل وفهم مدَّعيات الخصم قد تسلَّلت إلى المدافعين عن الفلسفة أنفسهم أيضاً. من هنا سعيتُ من خلال التطرّق إلى بعض الأبحاث الأسلوبية إلى القول بأن أسلوب وسلوك المدافعين عن الفلسفة أو الباحثين عن الحقيقة يجب أن يكون مختلفاً عن سلوك وأسلوب المناوئين للفلسفة. وهذا ما صرَّحت به في النقد الذي كتبتُه على الأستاذ ثبوت، وقلتُ بأنني من تلاميذ هذه الفلسفة، وأنني قد ترعرعتُ في أحضان الفلسفة الإسلامية، وقد سعيتُ إلى إكمالها من خلال الفلسفة التحليلية. ولذلك إذا كان عندي من نقدٍ أو إشكال فلا ينبغي أن يتمّ تصنيفي ضمن خانة المخالفين للفلسفة. ومع ذلك نجد جواب الأستاذ ثبوت وكأنّه لا يوجد فرقٌ بيني وبين أتباع المدرسة التفكيكيّة، الذين يهدفون ـ على حدّ تعبير الأستاذ ـ إلى مجرد إسقاط الحكيم (ص 11). وإنّ كلّ مَنْ يحاول إحداث أدنى تغيير في الوضع القائم، يثير حفيظة الأستاذ ثبوت، ويهبّ صارخاً: «ارفعوا أيديكم عن صدر المتألِّهين؛ فإنّه إذا لم يكن من أكثر الناس براءةً فهو ليس بأسوئهم قطعاً» (ص 20).
إن الصعوبة التي أعاني منها في هذه الأجواء تكمن في عدم رضوخي لمدَّعيات أعداء الفلسفة، من الذين يبيحون لأنفسهم إلصاق أيّ تهمةٍ بصدر المتألِّهين، حتّى ما كان من قبيل: الدعوة إلى إباحة اللواط. وفي الوقت نفسه لا أرفع الراية لأمثال: الأستاذ أكبر ثبوت، الذي لا يتورَّع ـ من أجل إثبات براءة صدر المتألِّهين ـ عن توظيف الشتائم ضدّ الخصوم. وقد كنتُ أتصوَّر أن الأستاذ ثبوت بعد قراءة مقالي سيغيِّر من أسلوبه، ويواصل دفاعه المحقّ عن صدر المتألِّهين، من خلال توظيف الأساليب الصحيحة والمقبولة، والمبادرة إلى إصلاح أساليبه السابقة، ولكنَّه أثبت لي، من خلال إصراره على ذات النهج، «أني كنتُ مخطئاً في تصوُّري».
7ـ استطراداتٌ لا ضرورة لها ــــــ
في الحقيقة إن جزءاً كبيراً من مقال الأستاذ ثبوت لا يلعب أيَّ دورٍ في تطوير البحث، ولا ينفع في إثبات دعواه. بل الأمر على العكس من ذلك تماماً. فإن هذا الجنوح نحو الأمور الهامشية يؤدّي إلى تشتيت ذهن القارئ، حيث يبيح الأستاذ ثبوت لنفسه في أثناء البحث بأن يروي ذكرى أو خاطرة، وهكذا يخرج عن مسار البحث: «وهنا أجد من المناسب أن أروي هذه الخاطرة، فقبل أربعين سنة ونيف […]» (ص 4).
وأحياناً تتّخذ هذا الاستطرادات شكلاً مقيتاً للغاية، حيث يستشمّ منها رائحة التحقير والاستهزاء بالخصم. ومن ذلك: ما قاله في أثناء بحثه الجادّ، معرِّضاً بالشيخ فضل الله النوري، فجأةً ومن دون مقدّمات: «وما يدريك لعلّ أتباع الشيخ المرحوم يمنّون أنفسهم يوما بتزيين أحد الشوارع العريضة في العاصمة بالاسم المبارك لضياء الدين، ويقيمون له بعد ذلك العديد من المهرجانات والمؤتمرات الوطنية والدولية أيضاً؟» (ص 18). في حين أنّ هذه العبارات والنصوص الاعتراضية والتهكمية تمثل خروجاً عن البحث، وهذا لا ينسجم مع الأساليب والمناهج العلمية الصحيحة.
8ـ توظيف الأدبيّات البوليسيّة والسوقيّة ــــــ
إن الأستاذ أكبر ثبوت ـ للأسف الشديد ـ يستعمل في هذا المقال، والمقال الذي سبقه، تعبيرات لا تليق بالبحث العلمي أبداً. في حين أن توظيف الألفاظ والتعبيرات السوقية، بل وحتى أساليب الصعاليك، لا تؤدّي إلى غير الحطّ من مستوى البحث، وتشكِّك القارئ في قدرة الكاتب العلميّة والإقناعيّة.
كما أن عدم الفصل بين البحوث العلمية والملفّات الجنائية والقضائية وتوظيف الأدبيّات البوليسيّة لا يؤدّي بالتالي إلى تخويف الخصم، وإنّما يثبت أن الكاتب عاجزٌ عن إثبات مدَّعاه.
من باب المثال: لا يمكن للنصّ العلمي أن يشتمل على عبارات من قبيل:
ـ (أنا على استعداد لكي أقف موقف المحقِّق في الشرطة […]. هل يسعى المنتقد المحقِّق إلى فتح ملفّ للمجلسي يدَّعي عليه قيامه بالسرقة والانتحال أم يجب من بين جميع اللصوص في التاريخ قصر الاتّهام على صدر المتألِّهين فقط، ولا بُدَّ من إسقاط الحكيم فقط؟) (ص 13).
وهناك في هذا المقال الكثير من العبارات التي هي على شاكلة: «التشنيع وفتح الملفات» (ص 5)، و«اتّخذوا من ذلك ذريعة للتهويل عليه» (ص 8)، و«سائر المخبرين والمستجوبين» (ص 13)، و«كتّاب التقارير» (ص 4)، و«التشهير» (ص 7)، و«لغاية فتح الملفّات لصدر المتألِّهين» (ص 8)، و«في قفص الاتّهام» (ص 11)، و«الملفّ الخاصّ بصدر المتألِّهين» (ص 12)، و«قبل إقامة المحكمة لصدر المتألِّهين» (ص 19)، و«الإعلان عن إدانته» (ص 19)، و«الملف الخاصّ بصدر المتألِّهين»، و«يحكمونه ويصدرون الإدانة بحقّه»، و«التشهير به بوصفه نهّاباً»، و«في قفص الاتّهام» (ص 11)، و«بغية تكبير حجم ملفّ صدر المتألِّهين» (ص 18).
حبَّذا لو كان الأستاذ ثبوت يركِّز في عمله على دور الباحث والكاتب المحترف، ولم يتقمص شخصيّة المخبر البوليسي والباحث الجنائي؛ إذ لا يتوقَّع منه بعد هذه السنوات الطويلة التي قضاها في البحث والدراسة والتأليف أن يسلك سلوك المفتِّش في سلك الشرطة، وإنّما المتوقَّع منه أن يسلك سلوك الباحث المحترف.
9ـ غلبة منطق «أنتَ لا تفهم» ــــــ
يرى الأستاذ ثبوت أن الآراء المخالفة للرأي المقبول والمعروف، وأن الجهود التي تأتي في سياق نقد النصوص الفلسفية أو الفلاسفة، إنما هي وليدة الجهل أو النوايا السيئة. من هنا فإنه يتهم الناقدين له بالجهل وعدم الفهم بكلّ بساطة، بينما يحيط نصوصه الخاصّة بهالة كبيرة من الجلال والتقديس، حتّى تأخذ الآخرين الرهبة من الدنوّ والاقتراب من ساحتها. وهكذا نجده يوظف أدبيَّاته المحبّبة لديه ليقرّر الموضع التالي بهذا الأسلوب: «إنّ لكل نصٍّ لغته الخاصة التي لا يفهمها إلاّ أولئك القادرون على فهمها، وليس كلّ مَنْ يستاء من أمّه» (ص 19). وهكذا يبدي انزعاجه من المخالف له في الرأي، فيقول: «ما حيلتي مع أولئك الذين لا يفهمون، ولا يفهمون أنهم لا يفهمون، ولا يريدون أن يفهموا؟» (ص 19).
ومشكلة هذا الموقف أن ليس هناك أيّ طريق أو وسيلة لتقييمه. والملفت للانتباه أن خصوم الأستاذ ثبوت، من الذين ينتقدون صدر المتألِّهين، والذين ينتصرون لمدرسة التفكيك، يعملون على توظيف ذات المنطق، ويعتبرون أمثال الأستاذ ثبوت مفتقراً إلى المعرفة، وأنه عاجز عن فهم تعاليم أهل البيت^. ويكفي للوقوف على هذه الحقيقة أن تقارن الادّعاء المتقدّم، وكذلك المقاطع الأخرى من هذا المقال، بالنص التالي المكتوب في سياق الدفاع عن المدرسة التفكيكيّة، حيث يذكر الأستاذ الحكيمي في دفاعه عن آراء الميرزا مهدي الإصفهاني، وبيان مواقف الناقدين للتفكيك، قائلاً: «لا يمكن لأيّ شخص أن ينتقد آراء سماحته […]، وإن الشأن في ذلك يتجاوز بكثير كتابة رسالة أو أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في قسم الفلسفة. فإن الدكتور في الفلسفة حتّى إذا أمضى عشرين سنة من التفكير والتأمّل الإلهي والمتابعات الفلسفية والخفايا الإلهية (التي لا حظَّ للسادة منها)، مع امتلاك النفس المهذّبة […] وامتلاك الحسّ المعرفي، ثم تمكّن من فهم آراء الكبار، من أمثال: السيد موسى الزرآبادي، والميرزا مهدي الإصفهاني، والشيخ مجتبى القزويني، يمكن أن نعتبر فهمه لها إنجازاً يستحقّ التقدير […]. هناك من الناس مَنْ يتظاهر بالغفلة […]، ويبيح لنفسه ممارسة النقد، ويتصوّر أنه يستطيع التمويه على صاحب الرأي والفكر الحرّ، الذي يقرأ مسائل التفكيك، ويحكم بشأنها! ولا يزال البعض أغراراً في هذا المجال […].
أيّها المحترم، إن ساحات الوغى ليست مكاناً لأمثالك… فهل النقد ـ وفوق ذلك نقد المذهب، الذي يعود إلى صميم القرآن ومدرسة أهل البيت^، والذي تمّ بيانه من قبل النفوس المهذّبة والكاملة ـ لا يقوم على أسس ومعايير مدروسة، ولا يحتاج إلى أهليّة وكفاءة وتجربة طويلة وكافية؟ ألا يحتاج ذلك إلى ممارسة الرياضات الشرعية ومجاهدة للنفس؟([15]).
كلا الطرفين يعمل على توظيف أسلوبٍ واحد يتلخّص في احتقار الخصم؛ ليظهر أن الآراء التي يتبنّاها هي نسيج وحدها، أو أنه يتّهم الخصم بالجهل وعدم الفهم، وأنه لا يزال في بداية الطريق، وخاصّة من خلال توظيف الأدبيات الهابطة. فالمواقف مختلفةٌ، ولكن الأسلوب والمنطق واحد. يقول أعداء الفلسفة: «إن صدر المتألِّهين (أ)، وكلّ مَنْ ينكر ذلك هو (ب)»، ويقول أمثال الأستاذ ثبوت في المقابل: «كلا، إن الذي ينتقد صدر المتألِّهين هو (أ)، وكلّ مَنْ ينكر ذلك هو (ب)». ويضع كلٌّ منهما مكان (أ) و(ب) ما يشاء من الأوصاف المختلفة، التي تنسجم مع معرفته وأدبه ومبلغ علمه، ابتداءً من الشتائم البسيطة إلى الاتّهامات الوقحة.
لبُّ كلامي وجوهره أن أعداء الفلسفة إذا كانوا يبيحون لأنفسهم توظيف كلّ أسلوب فعلى المدافعين عن الفلسفة ـ لما يدّعونه من حبِّ الحقيقة ـ أن لا يسلكوا ذات النهج والأسلوب، وعليهم أن يلتزموا على الدوام منهجاً واضحاً وصائباً. فإنّ ما نجده حالياً هو تبادل لإطلاق النار، وهو ما أشرْتُ له في مقدّمة كتابي (رؤياي خلوص)، وهذا الأسلوب لا يساعد على التعمُّق في الأبحاث العلمية([16]).
10ـ توظيف منطق «وإنْ عدتُمْ عُدْنا» ــــــ
إن اللغة التي يوظِّفها الأستاذ ثبوت في هذا المقال، قبل أن تعبِّر عن البحث عن الحقيقة، تحكي عن اتّخاذه موقفاً مسبقاً، ويعمل على الدفاع عنه بكل الوسائل الناجعة وغير الناجعة. وهذا الأسلوب هو الذي يفوِّت عليه فرصة الإقناع، حتّى في ما يقوله من الحقّ والصواب، ولا يسمح للآخرين بالمضيّ بالبحث العلمي قدماً. وقد عمد الأستاذ ثبوت في نهاية المقال، بدلاً من القول: إن الأدلة التي ساقها هذا الناقد المجهول غير مقنعة، ومن الأفضل له أن يقدِّم أدلّةً أخرى أكثر إقناعاً، إلى القول: إنه لا يزال في كامل طاقته لمواصلة البحث، و«إنْ عدتُمْ عُدْنا!» (ص 20).
ويبدو هنا أن الأستاذ ثبوت يخلط بين ميدان البحث العلمي وحلبة المصارعة أو المهارشة بين الدِّيَكة! وكأنَّه يتعيَّن علينا في البحث العلمي أن نقرأ الأراجيز على مسامع الخصم، وأن نسعى إلى التغلُّب عليه، والقيام بحركات استعراضية. ولكنّ هذا لن يكون من البحث العلمي، ولا يمكن تسميته بحثاً أو جَدَلاً. إن الهدف من المناظرة هو الوصول إلى الحقّ، وليس الغلبة على الخصم، وتمريغ أنفه في التراب. يقول إمام الحرمين الجويني في بيان أدب المناظرة والجَدَل: إن الهدف من المناظرة ينبغي أن يصبّ في الوصول إلى الحقيقة، وإنّ على الشخص المناظر أن «لا تكون غايته التغلب على الخصم، والشعور بالغبطة من التغلُّب عليه؛ فإن هذا إنّما هو من طبيعة البهائم المتهارشة، كالتيوس والديكة»([17]).
إن طلب المزيد من النقاش ومواصلة البحث إنما يكون نافعاً إذا كان الهدف منه هو الوصول إلى الحقيقة. وعلى حدِّ تعبير الغزالي: «أن يكون في طلب الحقّ كناشد ضالّةٍ، لا يفرِّق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد مَنْ يعاونه». فلا يختلف الأمر عنده بين أن يتمَّ العثور على هذه الضالّة على يده أو على يد غيره. وعليه في مثل هذه الحالة أن «يرى رفيقه معيناً، لا خصماً، ويشكره»([18]). وهذا هو مكمن الاختلاف بين البحث العلمي الجادّ وبين المراء والمكابرة.
يذهب الأستاذ ثبوت في دفاعه عن موقفه بعيداً جدّاً، حتّى يدعي أن الانتحال كان جائزاً في الثقافة الإسلامية؛ إذ يقول: «بشكلٍ عامّ كان نقل أقوال الآخرين دون الإشارة إلى ذكر المصادر أمراً جائزاً» (ص 4). إذا كان هذا الأمر صحيحاً فإلى أيِّ شيءٍ يشير كلّ هذا الاعتراض والضجيج ضدّ المنتحلين، ممّا نراه في بداية كتب المتقدِّمين؟([19]).
ولو كان هذا الأمر مباحاً فلماذا يشكو أبو الحسن الهجويري في مقدّمة كتابه (كشف المحجوب) من سرقة كتابه من قبيل الآخرين مرَّتين؟([20]).
ولماذا يذكر الغزالي في إحياء علوم الدين الانتحال بوصفه واحداً من الأمثلة على احتيال حَمَلة الأقلام، ويعتبره مرادفاً للسرقة؟ حيث يقول: «ولعلّه يحكي من الكلام المزيف ما يزيد من تزييفه، فيعزوه إلى قائله، وما يستحسنه فلعلّه لا يعزوه إليه؛ ليظنّ أنه من كلامه، فينقله بعينه، كالسارق له، أو يغيِّره بأدنى تغيير، كالذي يسرق قميصاً فيتَّخذه قباء؛ حتّى لا يُعرَف أنه مسروق»([21]).
لو صحّ أن منهج العلماء «بشكلٍ عامّ كان [يقوم على] نقل أقوال الآخرين دون الإشارة إلى ذكر المصادر [واعتبار ذلك] أمراً جائزاً» فلماذا نجد سعد الدين التفتازاني يشكو في مقدّمة شرح المختصر من الاستيلاء على كتابه، ومسخ محتوياته، ويبدي قلقه من هذه الظاهرة؟([22]).
ولو كان هذا الأمر مباحاً فلماذا نجد السيد علي خان المدني الشيرازي يستعيذ بالله، في خاتمة شرحه على الصحيفة السجّادية، من لصوص العلم، ويروي حكاية مريرة عن تعرُّض كتابه للسرقة، ولذلك يرفع يدَيْه بالدعاء إلى الله؛ كي يحفظه من السرقة، ويقول: «وأنا أسأل الله تعالى بجاههم العظيم، المحلّى بدرّ الشرف النظيم، أن يصونه عن كلّ ناصبٍ مارق، وكلّ غاصبٍ سارق»؟([23]).
إن الأستاذ ثبوت، من خلال الانتقال إلى منطق «وإنْ عدتُمْ عُدْنا»، يثبت أنه لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة، وإنّما كلّ همِّه يتلخّص في استهداف شخص الخصم، وإسقاطه عن الاعتبار. وباختصارٍ فإن هذا المنطق إنما ينفع في إلزام الخصم، أو «إفحامه»، أو «إسكاته»، ولا ينفع في توخّي الحقّ. وهذا المنهج بعيدٌ كلّ البعد عن الطبيعة الفلسفية. وإذا كان الشخص حكيماً، أو مناصراً ومدافعاً عن الحكماء، فعليه أن يكون منذ البداية مستسلماً للحقّ، لا أن يكون من أصحاب منهج «وإنْ عدتُمْ عُدْنا». ولذلك فإنه إذا كان من الراغبين في الدوران داخل هذه الدائرة الضيِّقة فأنا لستُ من أولئك الراغبين في الخوض داخل هذه الدائرة.
مسك الختام ــــــ
كنتُ في ما مضى أتعلَّم المسائل من خلال قراءتي المباشرة لمؤلَّفات الأستاذ أكبر ثبوت. وسوف أواصل قراءتي لمؤلَّفاته والاستفادة منها. ولكنني من خلال قراءتي لمقاله الأخير حصلتُ على تجربةٍ شبيهة بتجربة الدكتور (داريوش شايغان) مع السيد (فرديد)، حيث يقول: «في البداية علَّمني أن لا أخلط في الأبحاث، وأن أتدبَّر في الشروخ التاريخية، وأن أبتعد عن الكيميائيات الفلسفية التي يتمّ فيها مزج الميتافيزيقا والعرفان واللغات، ليتمّ الخروج بخلطةٍ لا تعرف ماهيتها. وفي الختام قدَّم لي عن نفسه صورةً سلبية لشيءٍ لا يجب أن أكون عليه»([24]).
قد يكون كلّ ما كتبه ذلك الكاتب المجهول في تلك المقالات المهلهلة خاطئاً، ولا أساس له من الصحّة أبداً؛ وقد لا يكون قد نظر في حياته مرَّةً واحدة إلى نهج البلاغة؛ وقد يكون في كلّ ما قاله مقلِّداً للآخرين؛ وقد تكون رسالته مستنسخة عن الرسالة العملية للآغا ضياء الدين الدرّي، ولكنْ مع كلّ هذا لم تكن هناك من حاجة في الدفاع عن صدر المتألِّهين، وإبطال التُّهَم الموجَّهة ضدَّه، إلى شخصنة البحث، من خلال إهانة الخصوم، واعتبارهم من الأغبياء والجَهَلة، وإنكار الحقائق التاريخية، والاستطراد في الأمور الهامشية، وتجاهل أبسط قواعد النقاش والكتابة.
إذا كان الأستاذ أكبر ثبوت يسعى للدفاع عن صدر المتألِّهين فهذا ليس هو الأسلوب الصحيح في الدفاع عنه، بل سبق للقرآن الكريم أنْ هدانا إلى الطرق الصحيحة في مناقشة الآخرين. وتلك الطرق عبارةٌ عن: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وذلك طبقاً لما جاء في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل: 125).
وقال بعضٌ: إن الموعظة يجب أن تكون حسنة؛ كي تمتاز من الموعظة السيئة، أما الجدال فيجب أن يكون أكثر من الحسن، بمعنى أن يكون «أحسن»([25])، فلا يكون حَسَناً فقط، وإنما يجب أن يكون أحسن. وهذا ما لم نلمسه في المقال الأخير للأستاذ أكبر ثبوت، للأسف الشديد.
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة والجامعة، وأستاذٌ في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.
([1]) العنوان بالفارسية: (كاستي ها در شيوه هاي منتقدان صدرا).
([2]) انظر: كاستي هاي روشي در دفاع أز ملا صدرا، مجلة كتاب ماه فلسفه، العدد 67، شهر فروردين، من عام 1392هـ.ش.
([3]) رعايةً للاختصار سنذكر جميع الإحالات إلى مقال الأستاذ ثبوت في النصّ، بينما نذكر سائر الإحالات الأخرى في الهامش.
([4]) السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 258.
([8]) نقد تفكيك وتفكيك نقد، العدد 41: 58.
([10]) پيام جاودانه، سخني چند پيرامون قرآن كريم وآفاق آن: 78.
([12]) متأله قرآني، مقدّمة الأستاذ حكيمي: 70.
([13]) انظر: إلهيات إلهي، إلهيات بشري، نقدي روش شناختي.
([14]) انظر: رؤياي خلوص؛ بازخواني مكتب تفكيك.
([15]) انظر: متأله قرآني، شيخ مجتبى قزويني خراساني: 64 ـ 66.
([16]) انظر: رؤياي خلوص، بازخواني مكتب تفكيك.
([17]) انظر: الكافية في الجدل: 529.
([18]) انظر: إحياء علوم الدين 1: 108، بيان التلبيس في تشبيه هذه المناظرات بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف، الشرط السادس، دار المعرفة، ط1، بيروت، 2004.
([19]) للمزيد من التوضيح بشأن الانتحال انظر: نوشتن در جزاير پراكنده، جستارهايي در أخلاق پژوهش، السيد حسن إسلامي، أنجمن قلم ونور مطاف، قم، 2012.
([20]) انظر: كشف المحجوب: 2 ـ 3.
([21]) إحياء علوم الدين 3: 518، وقد نقل هذا الكلام بنصّه أيضاً، دون زيادة أو نقصان، في كتاب المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء 6: 317، تصحيح: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، 1983.
([22]) وممّا قاله التفتازاني في هذا الشأن: «ثم رأيت الجمع الكثير من الفضلاء، والجمّ الغفير من الأذكياء، يسألوني صرف الهمّة نحو اختصاره، والاقتصار على بيان معانيه وكشف أستاره؛ لما شاهدوا من أن […] المنتحلين قد قلبوا أحداق الأخذ والانتهاب، ومدّوا أعناق المسخ على ذلك الكتاب، وكنتُ أضرب عن هذا الخطب صفحاً». انظر: الخطيب القزويني، شرح المختصر على تلخيص المفتاح 1: 5. أشكر سماحة الدكتور محمد حسن محمدي على إرشادي إلى هذا المطلب.
([23]) وممّا قاله في شرح الصحيفة السجّادية بهذا الشأن: «رأيتُ مؤلِّفها قد ركب الخطة الشنعاء، وغار غارته الشعواء؛ فانتحل جلّ ما وقف عليه من رياض هذا الكتاب، ولم يبالِ في ما فعل بلومٍ ولا عتاب، وساق هذا اللصّ عبارتي بالنصّ، ونسبها إلى جنابه، وسوَّد بانتحالها وجه كتابه، موهِماً أن تلك القلائد مما فصّله كلامه، وأن تلك الأوابد ممّا قيَّدَتْه أقلامه». (رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين صلوات الله عليه 7: 249).
([24]) انظر: زير آسمان هاي جهان، حوارٌ بين داريوش شايغان ورامين جهانبغلو: 78.