د. السيد حسن إسلامي(*)
مقدّمة توضيحيّة ــــــ
إشارةٌ ــــــ
في العدد 63 (بتاريخ: آذر 1391هـ.ش/2012م) نشرت مجلة «كتاب ماه فلسفه» [كتاب الشهر الفلسفي] مقالاً بقلم: الأستاذ أكبر ثبوت، بعنوان: «دفاع عن الفيلسوف: الفيلسوف المعارض للتقليد، والمقلِّدين المعارضين له». ويأتي هذا المقال ضمن سلسلة مقالات واظب الكاتب على نشرها في هذه المجلّة في السنوات الأخيرة، وقد جذبت على الدوام مؤيِّدين ومعارضين لها؛ ليدخلوا في بحث وجدال حول ما جاء فيها. والمقال الذي بين أيديكم يتصدّى لنقد هذا المقال، وهو من تأليف الدكتور السيد حسن إسلامي. والأمل معقودٌ على أننا من خلال هذه الحوارات سنشهد نموّاً وازدهاراً على صعيد الأفكار الفلسفية في إيران.
كتاب الشهر الفلسفي ــــــ
يهاجم الأستاذ أكبر ثبوت في مقاله «دفاع عن الفيلسوف: الفيلسوف المعارض للتقليد، والمقلِّدين المعارضين له»([1]) الناقدين لملاّ صدرا، مدَّعياً أن ما دفع هؤلاء لانتقاده إنما هو الجهل في فهم نظريّاته، أو انتقدوه بدافع العداء له. وقد قسَّم في هذا المقال الناقدين لصدرا إلى ثلاثة مجموعات، ووضعهم في سلّةٍ واحدة، وأصدر عليهم نفس الحكم:
أما المجموعة الأولى: فهم بعض المعارضين لصدرا، من الذين اتَّهموه بالترويج للواط، من قبيل: «الفقيه نافذ الحكم آقا محمد علي كرمانشاهي»، وابنه آقا محمد جعفر، حيث ادّعوا أن الملا صدرا «يرتِّب على هذا الفعل الخبيث السخيف فوائد عظيمة حكمية، وغايات فخيمة عقلية». لكنّ هذه التهمة «إذا لم تكن ناشئة عن التعصُّب فهي تكشف عدم فهمهم لكلام صدرا، وبما أن أرواحهم ملوَّثة فقد تصوَّروا أنه كان يدعو إلى إشاعة البغي والفحشاء» (ص 97).
والمجموعة الثانية: ينضوي تحت لوائها الأشخاص الذين اتَّهموا صدرا بالانتحال؛ نتيجة للجهل، وعدم القدرة على فهم نظرياته، أو نتيجة للحقد على تيار خاصّ.
وأخيراً المجموعة الثالثة: وأصحابها ثلّةٌ من مقلِّدي صدرا، حيث إنهم، بدلاً من تحمُّلهم مسؤولية التقييم الدقيق لتراثه الفلسفي، «قاموا بالترويج لهذه المطالب الساذجة، والكلام الركيك» (ص 104).
والقسم الأساسي من المقال يتصدّى للنقاش في المجموعة الثانية، حيث اهتمّ السيد ثبوت اهتماماً خاصاً بضياء الدين دُرّي، وسعى إلى فضحه، وإبطال مدّعياته.
وأنا أسعى في هذا المقال المختصر إلى بيان بعض أوجه القصور في أسلوب الأستاذ أكبر ثبوت، وأوضِّح أنّه في تقريره لما ادّعاه في الدفاع عن الملاّ صدرا اتَّبع نفس المنهج الذي اتَّخذه ويتّخذه المعارضون لصدرا. بينما يُرتقب ويُرجى من المدافعين عن الفلسفة الصدرائيّة أن يتبعوا الأسلوب والمنهج الفلسفي في هذا المجال.
1ـ تحقير المخالفين لصدرا ــــــ
يلاحَظ بوضوحٍ في أيامنا هذه، وفي العصر الحاضر، رواج حالة فقدان المنهج العلمي في النقد، وربما التنصُّل عنه، وعن أخلاقيات البحث العلمي، بين بعض المعاصرين، الذين تعرَّضوا لانتقاد صدر الدين الشيرازي، متذرِّعين بشعار الدفاع عن التشيُّع وأهل البيت^. فأحد هؤلاء يدَّعي أن الفلسفة الصدرائية تدعو إلى الشيوعية (الإباحية) الجنسيّة: «وهذا من مقتضيات دينه»([2]). ويكتب حول المثلية الجنسية: «يقول صدرا: يجب ترويجها وإشاعتها، متأسِّفاً بشدّة لأنّ الحمقى لا يعرفون قيمة الاستفادة من ذلك، ويقول مؤيِّدو صدرا: إن الذين يعارضونه لا يعرفون فلسفة الجمال. وهذه المسألة هي إحدى الثمرات المشتركة بين الليبرالية الغربية والليبرالية الصدرائية»([3]).
ويجعل آخر من صدرا الفيلسوف تفكيكيّاً معادياً للفلسفة، ويقدم إليه كتابه قائلاً: «إلى حضرت صدر المتألِّهين الشيرازي، الفيلسوف الكبير، والتفكيكي العظيم»([4]).
وفي الوقت نفسه لا خشية لديه من أن يصفه بأنه أحياناً يدير ظهره للشريعة، وأحيانا يهرول نحوها نادماً، مغيِّراً «عقيدته»، وطالباً العفو عن ماضيه، ونادماً على اشتغاله بالفلسفة([5]).
ولقد بحثتُ هذا النهج والسلوك في مكانٍ آخر، وسعيتُ للكشف عن أنه في مجال نقد صدرا لم يتمّ اتّباع أبسط أصول النقد والتحليل، والضوابط الأخلاقية في التحليل والفهم([6]).
ولكنّ الذين يتعاملون مع الحقيقة كالعجينة في أيديهم، يشكِّلونها كما يرغبون، لا يجدون في كلّ ذلك أيَّ حرجٍ؛ فهناك مَنْ يجمع سلسلة من الفلاسفة مدَّعياً أنهم قاموا بتكفير الملاّ صدرا، ويُرجع القارئ إلى مصدر يشتمل على وثائق لتأييد كلامه، لكنْ حين نراجع ذلك المصدر لا نجد عيناً ولا أثراً لذلك الادّعاء الكبير الذي أطلقه. ومن مفارقات هؤلاء اللطيفة أن العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الفيلسوف والمفسِّر والعارف، يتحوَّل في ما كتبوه إلى شخصٍ يعترف «بأن الجمع بين القرآن والفلسفة والعرفان من المحالات، وهو شبيه المحالات في الرياضيات»([7]).
وطريقة هؤلاء في احتقار المنتقدين، واعتبارهم «مبتدئين عديمي الأدب، ولا يمتلكون دقّة النظر»([8]).
ثم ينسبون إلى مَنْ ينتقدهم بأنهم «يدورون في فلك سياسية بني أميّة وبني العبّاس، سواء كان ذلك عن علمٍ أو جهل»([9]).
لقد استعرضتُ الإشارات المتقدّمة؛ لكي أوضِّح بأن نقد صدرا، والمدافعين عنه، كالسيد ثبوت، لا يعني أبداً معاداة الفلسفة، أو العداء لصدرا؛ حيث إنّ نقدي بعيدٌ كلّ البعد عن هذه الدوافع.
2ـ اتّباع الأسلوب غير النبيل الذي يتَّخذه الخصم ــــــ
لا شأن لي هنا بالذين يجيزون لأنفسهم كلّ الوسائل من أجل تسقيط الفلسفة. لكنَّني أوجه خطابي للذين يرَوْن أنفسهم تربّوا في أحضان الفلسفة، ويعتبرون أنفسهم من المدافعين عن فلاسفةٍ من قبيل الملاّ صدرا. فإذا كان منهجهم في الدفاع عنه هو اتّخاذ نفس ذلك الأسلوب غير الأخلاقي الذي اتَّخذه المعارضون للفلسفة فأين الاختلاف بين هذين التيّارين؟ إنّ اتّخاذ هذه الطريقة، والجواب عن التحقير بتحقيرٍ مثله، هو ـ بحسب قول الإمام الصادق×([10]) ـ منح المشروعية له. إنّ الدفاع بالنحو الصحيح عن الشخصيات الكبيرة، والفلاسفة المسلمين المشهورين، يعتبر هدفاً نبيلاً، لكنّه بحاجة إلى أدواتٍ نبيلة أيضاً. وفي غير ذلك لن يكون هناك أيُّ فارقٍ بين الذابّين عن الفلسفة، أو محبّي الحقيقة، وبين الذين يرَوْن([11]) مشروعيّة الاتّهام؛ حفاظاً على دين العوامّ، أي العامّة من الناس.
3ـ الإشكاليّات المنهجيّة ــــــ
لا شأن لي هنا بهدف ومضمون مقال السيد ثبوت، ولن أتطرَّق هنا أبداً إلى صحّة وسقم ادّعاء قيام الملاّ صدرا بالانتحال؛ لأنني بحثتُ هذا الموضوع بنحوٍ موسَّع في مقالٍ آخر([12]). وعليه فسوف أقتصر في مقالي هذا على استعراض وتحليل السلوك والنهج العلمي، الذي سار عليه المقال المذكور.
وإذا تجاوزنا نوعيّة خطاب السيد ثبوت غير الدقيق، والحادّ والشديد في بعض الأحيان، بل والعامّي والتسطيحي في بعض الموارد، من قبيل: «أمسك، حرامي حرامي» (ص 97)، فإن النهج الذي اتَّخذه لبيان بطلان اتهام الانتحال، والدفاع عن صدرا، يمكن نظمه ضمن أربع مراحل استدلالية، وهي:
1ـ إنكار ادّعاء الانتحال.
2ـ مهاجمة الشخص الناقد.
3ـ الاستعانة بالشخصيّات العلمية.
4ـ شخصنة البحث.
وعليه فسوف أجعل بحثي يدور حول هذه المحاور الأربعة.
3ـ 1ـ إنكار ادّعاء الانتحال ــــــ
في القسم الأول يتبع السيد ثبوت عدّة طرق؛ لينكر من خلالها أصل ادّعاء الانتحال. وحصيلة هذا البحث هي، وخلافاً لمَنْ اتَّهم صدرا بهذه التهمة، كالسيد دُرّي، فإنّ صدرا كان نقيَّ الثوب عن هذه التُّهمة. ويحاول من أجل الوصول إلى هذه النتيجة اتّباع عدّة طرق، إذا أردنا أن ننظمها وننسّقها على عجالة يمكننا أن نرمِّمها ونجعلها في الإطار التالي:
أـ مقارنة عمل صدرا بعمل الخطباء ــــــ
يحاول السيد ثبوت أن يشبِّه ما قام به صدرا من اقتباس مطالب الآخرين دون ذكر المصدر بمحاضرة الخطيب، فيقول: «إذا لاحظتم أحد الخطباء لوجدتموه يبدأ كلامه بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، ثمّ يذكر مقطعاً من إحدى خُطب نهج البلاغة، أو آيات من القرآن الكريم، ثمّ يستشهد خلال محاضرته بآيات أو روايات أخرى، ولا يذكر مصادر ما ينقله. فهل أراد هذا الخطيب بهذه الطريقة أن يوحي إلى المستمعين بأن الآيات والأحاديث والجمل المأخوذة من نهج البلاغة، أو من أشعار المشاهير، أو الأدعية المأثورة، هي نتاج لقريحته، أو أنها من تأليفه؟» (ص 98).
لكنّ هذه المقارنة قياسٌ مع الفارق، كما يقول المناطقة. فمقام المنبر والخطابة غير مقام التصنيف والتأليف. لذلك إذا ألقى شخصٌ خطبة، ولم يذكر المصادر في نهايتها، لا يتَّهم بالسرقة العلمية، لكنّه إذا ألَّف كتاباً، ولم يذكر المصادر في نهايته، أو لم يذكر بعضها، ممّا يجعل القارئ يتوهَّم أنها من نتاج أفكاره، فقد ارتكب خطأً. وبعبارةٍ أخرى: إن الخطيب يستند إلى «العلوم العامة». فمثلاً: إذا كان يلقي خطابته بغير اللغة العربية ـ كاللغة الفارسية ـ، وفجأة ذكر نصّاً عربيّاً، فإن المستمعين ينتبهون إلى أنّه يستند إلى مصدرٍ خاصّ، وليس الكلام له. ولو أن هذا الخطيب نقل حادثة يرويها الشاعر سعدي في كتابه «گلستان» مثلاً، ثم نسبها إلى نفسه قائلاً: حدثَتْ لي شخصيّاً، فسيكون حينئذٍ قد ارتكب الانتحال. لذلك ينبغي أن نفرِّق بين القرآن ونهج البلاغة، اللذين هما من العلوم الدينية العامّة بين المسلمين، وبين كتب الفلسفة، من قبيل: الأسفار.
والحاصل إن هذا الاستدلال لا يصمد أمام الشواهد التي قدَّمها الخصوم لإثبات الإنتحال لدى الملاّ صدرا، بل لا يمتلك حتّى مستوى الإقناع الخطابي.
ب ـ الاستدلال بأنّ تهمة الانتحال حديثةٌ ــــــ
وهذا الدليل الذي يذكره السيد ثبوت في ردّ تهمة الانتحال عن صدرا هو أنه إذا كان قد انتحل «فلماذا لم يُشِرْ أكابر فلاسفتنا، والمتخصِّصون في الحكمة، طوال القرون المتمادية إلى هذا الأمر؟» (ص 99).
لكنّ هذا الدليل غير صحيح؛ فإن نظرية الهيئة البطليموسية تسيَّدت العالم المتمدِّن اثنا عشر قرناً من الزمن على أقلّ تقدير، ولم يلتفت إلى خطئها كبار المنجِّمين والحكماء، إلى أن جاء في نهاية المطاف أشخاص، مثل: كوبرنيكوس وكبلر، فأبطلوها. وكذلك الكثير من العقائد والنظريات الخاطئة التي حظيت بالقبول لسنواتٍ متمادية، إلى أن جاء مَنْ يبطلها، ويكشف زيفها. ومثال ذلك في مجال الفلسفة: كتاب أثولوجيا، الذي كان يُعتَقَد لقرونٍ متوالية أنّه من تأليف أرسطو، وقد صبَّ الفلاسفة جزءاً من جهودهم لتنسيق وموائمة الأفكار الواردة فيه مع سائر مؤلَّفات أرسطو، إلى أن جاء القرن التاسع عشر، فبدأ أوّلاً التشكيك في نسبته إلى أرسطو، ثمّ تمّ إنكار تلك النسبة. وفي الحقيقة بعد أن نشر ديتريجي الترجمة الألمانية لهذا الكتاب قام فالنتين روز([13]) في سنة 1833م بتعريف الكتاب في مجلّة (نقد الكتاب) الألمانية، وقدَّم أيضاً جدولاً دقيقاً للمتشابِهات بين هذا الكتاب وكتاب التّاسوعات، وأوضح أن هذا الكتاب هو في الحقيقة الأجزاء الرابع والخامس والسادس من كتاب التّاسوعات، لأفلوطين([14]).
والطريف هو أنه خلال هذه القرون المديدة صرَّح الكثير من الفلاسفة المسلمين، ومنهم: الملاّ صدرا والميرداماد، بأن هذا الكتاب هو لأرسطو، واستندوا إليه على أنّه له. ومن ذلك أن صدرا يستند إلى هذا الكتاب قائلاً: «إمام المشّائين […] قال في كتاب أثولوجيا.
الميرداماد أيضاً في مجال الاستناد إلى هذا الكتاب يقول: «قال أرسطوطاليس في كتاب أثولوجيا»([15]).
وكذلك رجب علي التبريزي في رسالة إثبات الواجب يقول: «وأما المعلِّم الأول فقد قال في الأثولوجيا»([16]).
والفارابي أيضاً كان يرى أن أثولوجيا هو لأرسطو([17]).
وفي مقابل هذه الحقيقة الواضحة يذهب مهدي الحائري اليزدي إلى أن الحكماء المسلمين لم يكونوا يؤمنون أن أثولوجيا لأرسطو، وإنّما هذا خطأٌ وقع فيه المؤرِّخون الغربيّون، وقد جرى على ألسنة الباحثين المسلمين أيضاً([18]).
وإذا كان فالنتين روز ـ وهو ليس مدرِّساً للحكمة المتعالية، ولا أستاذاً للأسفار ـ ادَّعى أن هذا الكتاب ليس لأرسطو، فيجب علينا أن نردّ عليه، قائلين: «لماذا طوال القرون المتمادية لم يشِرْ أكابر فلاسفتنا، والمتخصِّصون في الحكمة، إلى هذا الأمر؟» (ص 99). وعلى أيّ حال فإنّ كلّ نظرية وفكرة لا بُدَّ لها من بداية. وبذلك اتَّضح أن هذا النمط من الاستدلال مخدوشٌ.
ج ـ الاستدلال بـ «هل كان الميرداماد غافلاً عن مؤلَّفات الملاّ صدرا؟» ــــــ
الدليل الآخر الذي يستدلّ به السيد ثبوت هو أنه إذا كان صدرا قد سرق في مؤلَّفاته من كتاب (الأفق المبين)، للميرداماد، فلماذا لم يلتفت الميرداماد لذلك، فنراه يمجِّده ويشيد به، بل قد نظم شعراً في مديحه؟ فيقول جرياً على هذه الطريقة: «هل أن الميرداماد لم يقرأ مؤلَّفات صدرا، وخاصّة الأسفار، وهو أهمّ مؤلَّفاته؟» (ص 99).
لكنّ هذه الدليل غير وجيه أيضاً؛ حيث نقول: نعم، وما المشكل في عدم قراءته لها؟ فليس من الضروري أن يقرأ كلّ الأساتذة جميع مؤلَّفات تلاميذهم، لينتبهوا إلى مثل هذا الانتحال. ومثال ذلك: إن أحد تلامذتي، الذي كان يكتب رسالته تحت إشرافي، أخذ من كتبي ومقالاتي دون ذكر المصدر، متصوِّراً أنّني لن ألتفت إلى ذلك، وأنا أيضاً في البدء كنتُ لا أتصوَّر أن تلميذي يختلس من مؤلَّفاتي، ثمّ يعرض عليَّ ذلك؛ لتقييمه. لكنَّني التفتُّ إلى الأمر بنحو المصادفة. لذلك فإنّ هذا الاستدلال لا يعدو كونه استبعاداً، لا أكثر.
د ـ الاستدلال بـ «هل أنت أكثر فهماً أم…؟» ــــــ
في موضع آخر يستدل السيد ثبوت على إنكار الانتحال بهذا النمط من الاستدلال: «هل أن جميع العلماء الذين كانوا يدرِّسون كتاب الأسفار في مختلف البلدان، ويعرِّفون به، وينشرونه، ويتصدَّوْن لحلّ مشكلاته ودقائقه، كلّهم لم يمتلكوا عقلاً بمقدار السيد ضياء، ولم يفهموا أو يلتفتوا إلى مسألةٍ في هذه الدرجة من الأهمّية؟» (ص 100).
ومع الأسف إنّ هذا النمط من الاستدلال هو نفس نمط استدلال معارضي الفلسفة، الذين لا يرتضيهم السيد ثبوت. وخلاصة المعادلة في هذا الاستدلال هي: «أأنتَ تفهم أكثر أم…؟»، ويحتلّ مكان هذه النقاط الثلاث اسم شخص أو تيّار محترم. فالشخص إذا كان معادياً ومعارضاً للفلسفة فسوف يضع محلّ تلك النقاط اسم الخواجة نصير الدين، أو السيد جمال؛ وإذا كان من المدافعين عن صدرا فسيضع اسم أحد أساتذة الفلسفة. لكنّ بُنية وهيكلية هذا الاستدلال واحدةٌ لدى الفريقين. لكنّ هذا لا يعدُّ استدلالاً، بل لا يعدو كونه مجرَّد «استبعاد»، وتخويفاً للخصم، واستهانةً به، لا أكثر. والعَجَب أن بعض الذين يهاجمون صدرا بشدّة باسم المدرسة التفكيكية، وقد أطلقوا عليه أحياناً عنوان «التفكيكي الكبير»، استعملوا هذه الطريقة مراراً وتكراراً، محاولين كمّ أفواه خصومهم بهذا النمط من التساؤلات. ومثال ذلك: إنهم في مقام نقد الفلسفة والتفلسف استدلوا بالنحو التالي: «هل أن شخصاً بمنزلة الشيخ بهاء الدين العاملي ـ الشهير بالشيخ البهائي ـ، الذي اعتبر كتاب الشفاء ـ لابن سينا ـ كأساً من السمّ، لم يفهم الدين؟»([19]).
وهذا النمط من الاستدلال، واستعمال منطق «أنتَ تفهم أكثر أم…؟ »، لا يساعد على فهم الحقيقة، بل هو أكثر ما يكون لإدخال الرعب في قلب القرّاء والمخاطَبين، ودعوتهم إلى الصمت والاستسلام والخضوع. وكذلك ينبغي أن نضيف هنا أمراً، وهو أن البحث هنا ليس بحثاً عقلياً تحليلياً، بل هو بحثٌ نقليّ، حيث إنّني قد قرأتُ أحد النصوص مراراً وتكراراً، متصوِّراً أنّه للمؤلِّف، لكنْ بعد ذلك اكتشفتُ أنّه مسروق وفقاً للأدلة والشواهد المتوفِّرة لديَّ، أو أنّ شخصاً أخبرني بأنه مسروق.
هـ ـ الاستدلال بملازمةٍ باطلة ــــــ
الاستدلال الآخر للسيد ثبوت هو استدلال بكلام للشيخ الشعراني، يقول فيه: «الذين اتَّهموا صدرا بسرقة النتاج الفكري من الآخرين لم يُهينوا الملاّ صدرا فقط، بل أهانوا الغالبيّة العظمى من حكمائنا وفلاسفتنا، منذ عصره إلى يومنا هذا».
ثم يذكر أسماء فلاسفة عديدين، منهم: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، قائلاً: «وفقا لما يدَّعيه معارضو صدرا فإنّ جميع المذكورين […] كانوا حمقى، ونتيجة لحماقتهم كانوا يشيدون بصدرا كلّ تلك الإشادة، مع أنه سارق علمي، وفقاً لما يدَّعيه معارضوه» (ص 100).
لكنّ هذا الاستدلال خاطئٌ؛ حيث إنه لا ملازمة منطقية بين ادّعاء سرقة صدرا وحماقة هؤلاء العلماء. فهؤلاء العلماء لم يكونوا مطَّلعين على السرقة فيما لو كانت قد حصلَتْ بالفعل، والنتيجة هي أنه ليس بسبب الحماقة، بل بدافع الثقة، وأصل الحمل على الصحّة، والتفسير بالأحسن، كانوا يثنون على صدرا، ويشيدون به.
وعلينا أن لا ننسى أنه في بلدنا، وفي بلدان أخرى، يتمّ طباعة بعض الكتب، ويُكرَّم مؤلِّفوها، ويمنحون الجوائز عليها، لكنْ يُكتَشَف بعد ذلك أنّ أجزاءً من تلك الكتاب ما هو إلاّ سرقة علمية، وربما يكون الكتاب كلّه سرقة.
وهذه المسألة موجودة في مجال المسابقات الرياضيّة أيضاً، فقد تكرَّر على المستوى العالمي حصول الرياضي على البطولة، ونيله الميدالية الذهبية، ثم يُكتَشَف بعد أشهر أنّه تناول المنشِّطات المحظورة. فإذا قام شخصٌ بفضح أمثال هؤلاء السارقين فهل يجب أن يُقال له: إنك بعملك هذا قد أهَنْتَ الناشرين والقرّاء والمشجِّعين واللجان المانحة للجوائز؟ وإذا ثبت أنّ مؤلِّفاً أقدم على الانتحال فهل هذا دليلٌ على حماقة الناشر والقرّاء الذي وثقوا به وبمؤلَّفاته؟
والحاصل هو أن قسماً هامّاً من استدلالات السيد ثبوت ترجع في الواقع إلى إنكار أصل ادّعاء الاتحال، وذلك في إطار وقالب «التعجُّب»، وليس من باب إقامة أدلّة وجيهة.
3ـ 2ـ مهاجمة الشخص الناقد ــــــ
وينتهي قسمٌ من استدلالات السيد ثبوت بمهاجمة مدَّعي انتحال الملاّ صدرا، وعلى التحديد السيد ضياء دُرّي. فهو، بدلاً من أن ينكر تحقّق الانتحال، يهاجم الشخص المنتقِد ويشهِّر به. وهو، بدلاً من أن يحلّ أصل الإشكال، يقوم بحلّ الشخص المنتقِد نفسه. وفي هذا المسار يقوم السيد ثبوت بعملين رئيسين:
أـ يؤكِّد على التبعيّة الشخصية والسياسية للسيد دُرّي.
ب ـ يدعي أن السيد دُرّي بنفسه ارتكب الانتحال.
أـ التأكيد على التبعيّة الشخصية والسياسية للسيد دُرّي ــــــ
خصّص السيد ثبوت ما يقارب الصفحتين من مقاله لهذا الأمر؛ ليثبت أن دُرّي كان معادياً للحركة الدستوريّة، وأنه كان مؤيِّداً للشيخ فضل الله النوري، وأنه من المشيدين بسياسة رضا خان ـ وهو أبو محمد رضا بهلوي ـ. وفي هذا المجال يقول، استناداً للشعراني: «ضياء الدين دُرّي كان من المعارضين للحركة الدستورية، ومن المؤيّدين لتيار المشروعية الذي قاده الشيخ فضل الله النوري»، وبعد ذلك صار مدافعاً عن رضا خان، وكان «يعتبر من المادحين له»، و«كانت له علاقات وطيدة مع رجال رضا خان» (ص 100). وكذلك قام بنقل العبارات التي يمدح فيها دُرّي رضا خان في مقدّمة كتابه كنز الحكمة.
لكنّ السؤال المهمّ هو: هل هذا الاستدلال مقبولٌ، ومقنع؟ فعلى فرض أن دُرّي كان كما ذُكِر، فما علاقة ذلك ببحث انتحال صدرا؟ ففي هذا البلد حين قامت الحركة الدستورية أيَّدها أشخاصٌ، وعارضها آخرون. فصار البعض مؤيِّداً لفضل الله النوري، والبعض الآخر عارض ذلك، وأصبح عدوّاً لدوداً له. فلو كان تأييد فضل الله النوري يعتبر من أسباب «القدح» والتسقيط لدُرّي فمن الأفضل أن نعلم أن معارضة النوري، والانضواء تحت لواء الحركة الدستوريّة، تعتبر أيضاً سبباً للقدح في الشخص لدى البعض الآخر.
فتصوَّروا أن شخصاً يريد أن يقيِّم مؤلَّفات محمد علي فروغي وتراثه الفكري فيستدلّ بهذا النمط من الاستدلال، ليستنتج قائلاً: بما أن فروغي كان لديه علاقات حَسَنة مع رضا خان، ولديه علاقات وطيدة مع رجال دولته، بل هو بنفسه كان من رجال دولته، فسوف يسقط عن الاعتبار تصحيحه لكتاب «كلّيّات سعدي» الشيرازي، وكذلك ترجمته رسالة ديكارت «مقال عن المنهج».
ومن المفارقات أيضاً أنّ شخصاً مثل: إحسان طبري يستدلّ بنفس هذه الطريقة في مقام تأييده للماركسية ضدّ المثالية، ويسقط فروغي عن الاعتبار. وبحسب ما جاء في كلام طبري فإن «محمد علي فروغي في كتابه مسار الفلسفة في أوروبا، والذي يعتبر ترجمة حرّة لكتاب تاريخ الفلسفة، للمؤرخ الفرنسي فوييه، أراد أن يظهر وكأن كلّ مسار الفلسفة في أوروبا في القرون الأخيرة، وعلى الأقلّ منذ ظهور الفلسفة النقديّة (التقييمة) لـ عمانويل كانط، كانت تبشِّر ببزوغ الشمس العرفانية لهنري بريجسون، والذي يعتبر بدوره شعاعاً من النور العرفاني الشرقي بنحوٍ عامّ، والإيراني بنحو خاصّ. […] وببركة فروغي وأعوانه، الذين وصفهم بأنهم كسرويّون([20]) خبثاء، تسرَّبت التعليمات العرفانية إلى الكتب الدراسية في وزارة الثقافة»([21]).
لكنّ العقل يقضي بأن لا نخلط الشؤون الشخصيّة والمواقف السياسية لفروغي بالمسائل العلمية، والحكم على مؤلَّفاته وتقييمها.
ثم إن السيد ثبوت، بعد أن ينقل مقدّمة دُرّي التي يمدح فيها رضا خان، يؤكِّد على أن قصده ليس «التعريض بالمرحوم دُرّي، وتخطئة نهجه»، ويصرِّح بأن «مديح وإطراء القائمين على السلطة له امتدادٌ طويل في تاريخنا، ولا يقتصر على شخصٍ معين»، وإنّما هدفه مجرّد بيان ردود الفعل التي استتبعَتْ سلوكاً معيَّناً منه، وأنه «كيف يفتعل ملف الانتحال والسرقة، ويلصقها بصدر الدين الشيرازي. وإنا لله وإنا إليه راجعون» (ص 102).
لكنّنا نلاحظ أنه لا يوجد ربطٌ منطقي بين المقدّمة التي ذكرها والنتيجة التي انتهى إليها.
وفي هذا المجال تعتبر حياة وأفكار المفكِّر هيدجر درساً جيِّداً لمحبّي الفلسفة؛ حيث إن العلاقات الشخصية والسياسية لهيدجر، ودعمه للسلطة النازية، وصيرورته آلةً بيد هتلر، أشهر من أن تخفى على أحدٍ، وقد ألِّفَتْ الكتب حول هذا الموضوع. ودائماً كان هناك مَنْ يسعى لإنكار هذه العلاقة، أو التقليل من أهميتها، أو تبريرها. لكنّ الباحث فيكتور فارياس([22]) أنجز بحثاً شاملاً نقَّب فيه في الوثائق المتوفِّرة، وألَّف كتاب هيدجر والنازية([23])، ونشره سنة 1987م. ومن خلال نشره لوثائق وأدلة دامغة لم يدَعْ أيَّ مجالٍ للتشكيك في وجود علاقةٍ واسعة بين هيدجر والسلطات النازية، وأغلق بذلك الباب أمام أيِّ تبريرٍ أو إنكار في هذا المضمار.
ولقد كان لهذا الكتاب صدى واسعٌ، وتصدّى البعض للردّ عليه، وقام آخرون بالدفاع عنه وتأييده. وأما ريتشارد رُورتي فقد استعرض هذا الكتاب ودوَّن ملاحظاته عليه في مقالةٍ قطع بها الطريق أمام الذين يحاولون باستمرار الربط بين شخصية الكاتب والكتاب، ويسعون من خلال التنقيب في الحياة الشخصية والخاصة للمؤلِّف أن يسقطوا عن الاعتبار ما ألَّفه من كتبٍ ونتاج علمي. وخلاصة كلام رُورتي في مقالته، التي تحمل عنوان «التعامل الجادّ مع الفلسفة: تأمّل في هيدجر والنازية»، هي: إن هيدجر كان على صلة بالنازية، وكان شخصاً عديم الأخلاق، وكان نرجسياً متكبِّراً. وكلّ ما قاله خصومه فيه صحيحٌ. وقد سعى بكلّ وجوده ليكون الفيلسوف الرسمي للحزب النازي، ولم يبخل عن أيِّ خدمةٍ ليقدِّمها في هذا المجال. لكنْ مع كلّ هذا لا يمكن لهذه الحقائق أن تدفعنا لأن نعتبر فلسفته غير أصيلة، وأن لا نتعامل مع نتاجه تعاملاً جادّاً. وكذلك عالم الرياضيات الألماني فيرجه كان مؤيِّداً للنازية، ومع ذلك فإن رياضياته معتبرة([24]).
ولقد خطى رورتي خطوة أبعد من ذلك، حيث ادَّعى بأن الشخص يمكن أن «يكون مفكِّراً أو فناناً عميقاً، وأصيلاً، وعظيماً، وفي الوقت نفسه يكون تافهاً بكلّ معنى الكلمة»([25]). ولذلك فإن كتاب هيدجر «الكينونة والزمان» يمكن، بل يجب، فصله تماماً عن هذه القضايا، وتحليله وتقييمه بعيداً عنها.
والإمام عليّ× أيضاً في نفس الوقت الذي يصف امرأ القيس بأنه «ضلِّيل» من الضُّلاّل يرى أنه أفضل الشعراء([26]).
والحاصل أنّ صلة دُرّي برضا خان لا ربط لها بقيمة ما يدَّعيه. وإذا كان له كلامٌ في الانتحال فيجب تحليله والبحث فيه؛ لمعرفة صحّته من سقمه. لذلك فإن جرجرة الشيخ فضل الله النوري إلى هذا البحث، والدخول في مسألة معارضة الحركة الدستورية، وتأييد رضا خان، ما هي إلاّ محاولة لإثارة الغبار في الأجواء العلمية، وليس من السعي في الوصول إلى الحقيقة. والحال أنّه يجب على الفلاسفة ـ وفقاً لتعريف الفلسفة ـ أن يسعَوْا وراء الحقيقة والحقّ، لا غير.
ب ـ ادّعاء انتحال الطرف المقابل ــــــ
ومع كلّ ما تقدّم لم يستقرّ ولم يرتَحْ بال السيد ثبوت، بل رأى أنه من الضروري؛ «من أجل التعرف على أخلاق وطريقة عمل السيد ضياء الدين دُرّي، الذي كان له قدم السبق في اتّهام صدرا بالسرقة والانتحال، يجب إضافة نقطتين» أخريين (ص 102).
وفي حاصل هاتين النقطتين، استناداً إلى كلام الأستاذ مشكات ومهدي إلهي قمشه إي، وباستعراض هوامش كتاب كنز الحكمة، لدُرّي، يتّضح أن دُرّي نفسه قام بالانتحال، و«لم يذكر مصادره» في عدّة موارد. ومع ذلك فإنه «بسلوكه هذه الطريقة المقبولة في رعاية الأمانة، وعدم التعدّي على حقوق الآخرين، يتَّهم صدر المتألِّهين» بالانتحال (ص 103).
إن ادّعاء الانتحال هذا ـ على فرض صحّته ـ لا ربط له أساساً ببحثنا. فمن الجيِّد أن يكون «الآمر» ملتزماً بما يقوله، و«عاملاً» بما يأمر به، ولكنْ لا يمكن أن نستنتج من عدم عمل العالم بعلمه أن ذلك العلم لا أساس له. واللافت أن إحسان طبري أيضا يستدلّ بنفس هذا الأسلوب ضدّ فروغي؛ حيث إن محمد القزويني يستند إلى فروغي في اتّهام ميرزا ملكم خان بانتحال مؤلَّفات والتر ومونتسكيو. ويرى طبري أن حكم القزويني عاطفي، ثم يضيف: «إن شهادة فروغي حول هذا الانتحال لا أساس لها من جهتين […]. والجهة الثانية: إن فروغي نفسه، وهو الذي انتحل تاريخ الفلسفة لـ Fouillet (وقد نشره تحت عنوان مسار الحكمة ـ الفلسفة ـ في أوروبا)، لا يمتلك حقّاً أخلاقياً في اتهام الآخرين بالانتحال»([27]).
لكنّه من الناحية المنطقية لا دليل على صحّة استدلالٍ من هذا القبيل، وقد ارتكب المستدلّ مغالطة «أنتَ أيضاً فعلت!»([28]). فهو، بدلاً من أن يثبت أن ملكم خان لم يرتكب الانتحال، يدّعي بأن فروغي نفسه ارتكب مثل هذا العمل. لكنْ على فرض صحة ما ادّعاه طبري يبقى «الانتحال» عملاً غير صحيح، ولا يعتبر قيام فروغي به دليلاً على صحة ما قام به ملكم خان.
إنّ هذه المنهجية الخاطئة التي سادت في مجالات كثيرة؛ وبسبب شهرتها وشيوعها، خُصص لها بحثٌ في كتب المنطق العملي، والتفكير النقدي([29]).
3ـ 3ـ الاستعانة بالشخصيّات العلمية ــــــ
من الأساليب الشائعة في أيامنا هذه بين المعارضين لصدرا هو الاستعانة بالشخصيات العلميّة الشهيرة لإسقاط الفلسفة عامّة، والحكمة الصدرائية خاصّة، عن الاعتبار. وكمثال على ذلك نذكر ما جاء في كتاب «إلهيات إلهي وإلهيات بشري»، حيث حشد أسماء أربعين عالماً مشهوراً، وبعضهم محسوب على الفلاسفة، مدَّعياً أن هؤلاء أعلنوا بطلان الفلسفة والفلسفة الصدرائية. وقد غفل عن أنّ هذا الادّعاء ـ على فرض صحته ـ لا يقوى على إثبات المدَّعى. وقد بيَّنتُ وأوضحتُ هذا الموضوع في مكانٍ آخر([30])، فلا أريد أن أبحثه هنا. لكنْ أكتفي هنا بالإشارة إلى نقطةٍ واحدة، وهي: إن المسائل الفلسفية والنظرية لا يمكن حلُّها بتحشيد الشخصيات، وبعبارةٍ فنية أكثر: إن «الإجماع» لا حجّية له في القضايا العقلية. ولكنّ السيد ثبوت يتّبع نفس هذا المنهج والطريقة. فهو؛ من أجل إثبات مدَّعاه، يستعين بالشخصيات العلميّة المحترمة؛ ليوضِّح خطأ الخصم. وحين يروم الردّ على ادّعاء أشخاص، من قبيل: السيد محمد علي كرمانشاهي، يحشد أسماء أربعة وعشرين أستاذاً بارزاً من أساتذة الفلسفة كانوا يدرِّسون الأسفار، ثم يتساءل قائلاً: «أليس أمراً مخجلاً أن يُدَّعى بأن كتاب الأسفار […] مؤلَّفٌ لإشاعة اللواط؟» (ص 97).
وهذا الاستدلال ليس وجيهاً؛ لأن الشخص المستعدّ لإلصاق هذه التهمة بالملاّ صدرا لن يتورَّع عن إلصاقها بأتباع مدرسته أيضاً، أو على الأقلّ يدّعي بأن هؤلاء الأشخاص لم «ينتبهوا» إلى هذا الأمر، أو يوجِّه الأمر بعشرات التوجيهات الأخرى. والمنهج والسبيل الصحيح أن يُشار إلى البحث المذكور في الأسفار، الذي نشأت بسببه هذه التهمة، ويتمّ إيضاحه بشكلٍ كاف، لا أن يتمّ اللجوء إلى منهج الخصم، من خلال تحشيد أسماء عددٍ من العلماء بطريقة جدليّة، لا أكثر؛ لأنه إذا فتحنا الباب أمام هذه الطريقة فإن الخصم بدوره يمكنه أن يحشد ضعفهم من الشخصيات المعارضة للفلسفة، ممَّنْ قالوا في الملا صدرا كذا وكذا. وعليه فإنه في نطاق البحث الفلسفي، وبدلاً من ذكر قوائم من مختلف الأسماء، يجب إقامة البحث على أسس راسخة ومتينة.
3ـ 4ـ شخصنة البحث ــــــ
كما تقدَّم فإنّ من الخطأ مهاجمة الشخص، والسعي لتشويه سمعته، ولكنّ هذا العمل قد يكون وجيهاً في بعض المجالات، وذلك من قبيل: التصدّي للادّعاءات التاريخية، أو في مجال الأحاديث والروايات إذا استطعنا الكشف عن أن الراوي أو المؤرِّخ الفلاني شخصٌ مخدوش أو غير صالح، ولا يعتمد عليه، فحينئذ نستطيع أن التشكيك في أحكامه وما يرويه، وعلى هذا نقوم من خلال «جرحه» بالكشف عن أنه شخص لا يمكن الوثوق به، والاعتماد عليه.
ولكنّنا في بحث الانتحال المنسوب إلى صدرا لا نتعامل مع بحثٍ تاريخي، أو نقل حادثة. وحين يوجد مَنْ يدَّعي أن صدرا قام بالانتحال، ويذكر موارد لذلك، فحينئذ يجب علينا أن نتعامل مع مؤلَّفات صدرا، فنراجعها، وكذلك المصادر التي ادُّعي أنه سرق منها. وأصحّ المناهج هنا، وأكثرها دقّة وعلميّة، هو أن نقوم بتحليل النصوص، لنرى هل حَدَث مثل هذا الفعل أم لا؟ وفي حال وقوعه نسعى في توضيح أو «توجيه» هذه القضية.
لكنّ السيد ثبوت، بدلاً من أن يطوي هذه المراحل في الطريق، اتَّخذ طريقاً آخر لا يمكن توجيهه أخلاقياً، ولا يوصل إلى أيِّ نتيجةٍ، حيث قام بالتعرُّض والتدخّل في الحياة الخاصّة للسيد ضياء دُرّي، وتشويه سمعته. وهذا لا يقلِّل من قبح تهمة «الانتحال» الموجَّهة إلى صدرا؛ لأنه على فرض النجاح في تسقيط دُرّي فماذا نعمل مع الآخرين الذي يشاركونه في اتِّهام صدرا؟
يعترف في أيامنا هذه الكثير من أساتذة الحكمة المتعالية المحترمين، والمدافعين عن الفلسفة الصدرائية، بأنّ صدرا نقل في بعض كتبه من كتب الآخرين، ولم يُشِرْ بنحوٍ مناسب إلى المصادر التي نقل عنها. وبعض هؤلاء الأساتذة هو من العاملين على تصحيح مؤلَّفات صدرا، وهم: الدكتور محسن جهانغيري([31])، والدكتور رضا أكبريان([32])، والدكتور نجف قلي حبيبي([33])، والدكتور غلام حسين إبراهيمي ديناني([34])، وكذلك الشيخ عبد الله جوادي الآملي، الذي يعتبره السيد ثبوت مدرِّساً للأسفار، ويستفيد من اسمه في نزاعه مع خصومه، وقد أشار جوادي آملي في موارد من شرحه على الأسفار إلى هذا الأمر([35]). بل حتى الدكتور مهدي الحائري اليزدي، وهو من المعارضين لنسبة الانتحال إلى صدرا، يشير إلى هذه الحقيقة، حيث «عثر على عدّة مواضيع اقتبسها من المباحث المشرقية، وذكرها في الأسفار الأربعة، دون أن يشير إلى مصدرها»([36]).
وفي الحقيقة إن هؤلاء الأشخاص كلَّهم من المدافعين عن صدرا، ولا يمكن الحكم عليهم بأنهم «لم يستطيعوا أن ينتقدوا نظريّاته بالشكل الصحيح، فلم يجدوا سبيلاً أسهل في تخطئته سوى اتّهامه بالسرقة والانتحال» (ص 97).
ومن المفارقات أن هذا الفصل، الذي كان دليلاً تمسَّك به أشخاصٌ من قبيل: محمد علي كرمانشاهي في اتّهام صدرا بترويج الشذوذ الجنسي، مأخوذٌ من رسائل إخوان الصفا. ويشير السيد علي رضا ذكاوت إلى هذا الأمر قائلاً: «هناك فصل كامل في عشق الفتيان المُرْد موجودٌ في الأسفار، وهو بعينه موجود في رسائل إخوان الصفا. وكلُّ مَنْ أراد التأكُّد فعليه المقارنة بينهما»([37]).
ولقد عملتُ بنصيحته هذه، وأجريتُ شخصياً هذه المقارنة، فكانت النتيجة كما قال؛ حيث إن الرسالة السابعة والثلاثون من رسائل إخوان الصفا في ماهية العشق([38])، وقد نقل صدرا ذلك البحث في الأسفار، مع قليل من التصرُّف في العبارة([39]).
وبملاحظة ما تقدَّم يتَّضح أنه لا يصحّ في هذا البحث استهداف الأشخاص، وإذا تمّ استهدافهم فلا ينبغي تخصيص ذلك الاستهداف بالسيد ضياء الدين دُرّي، أو أي شخص آخر. وكان من الأفضل، بدلاً من تخصيص عدّة صفحات لذكر عيوب السيد دُرّي و«مثالبه»، السير نحو العثور على توجيهٍ وجيه لعمل ومؤلَّفات الملاّ صدرا.
4ـ كلمة الختام ــــــ
إن السيد ثبوت، بدلاً من أن يجيب عن الإشكالية الأساسية، ألا وهي انتحال الملاّ صدرا، واستيضاح حقيقة هذا الأمر، نراه ـ مضافاً إلى إنكاره هذا الادّعاء، وتجاهله لجميع الشواهد والأدلّة المتنوّعة التي أقيمت عليه ـ يبدأ بمهاجمة الشخص المدَّعي، ويستخدم بنحوٍ رئيس طريقتين معروفتين: إحداهما: مغالطة تسميم البئر([40])؛ والثانية: المغالطة القائلة: أنتَ فعلتَ ذلك أيضاً! وأحياناً يرتكب مغالطةً تقول: إنه لا سابقة لهذه التُّهْمة. وفي نظر السيد ثبوت فإن الأشخاص الذي يؤمنون أن صدرا ارتكب الانتحال هم «معارضون للفلسفة، أو لمشرَب صدرا الفلسفي».
لكنّ حكمه هذا لا ينسجم مع الذوق الفلسفي، ولا يُشاهَد له قرينةٌ قويّة في مؤلَّفات مُدّعي الانتحال.
وأخيراً يجب أن يضع كلّ محبٍّ للفلسفة نصب عينيه وصيّة أرسطو القائلة: «إن مسؤوليتنا هي أن نتغلَّب على مشاعرنا؛ من أجل الوصول إلى الحقيقة، وخاصّة لأننا فلاسفة، أو محبُّون للعلم»([41]).
وفي الحقيقة إنه من خلال شخصنة البحث، بدلاً من أن يساهم في تقدُّم وتطوير فكر الملاّ صدرا والدفاع عنه، نراه قد استخدم أساليب وطرق غير مقبولة وغير لائقة، ومتنافية مع الفلسفة، اتَّضحت خلال نقد مدَّعياته، والحال أنّ «غسل الدم بالدم محالٌ ومحال».
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة والجامعة، وأستاذٌ في جامعة الأديان والمذاهب في إيران.
([1]) كتاب ماه فلسفه [كتاب الشهر الفلسفي]، العدد 63: 97 ـ 104، آذر 1391هـ.ش(2012م).
([2]) محيي الدين در آئينه فصوص، شرحي بر فصوص الحكم [محيي الدين في مرآة الفصوص، شرح على فصوص الحكم]: 73.
([4]) معاد جسماني در حكمت متعاليه [المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية]، صفحة الإهداء.
([5]) للتوسُّع في البحث حول هذا الموضوع راجع: رؤياي خلوص، بازخواني مكتب تفكيك [حلم النقاء، إعادة قراءة المدرسة التفكيكية].
([6]) إلهيات إلهي إلهيات بشري، نقدي روش شناختي [الإلهيات الإلهية والإلهيات البشرية، رؤية نقدية معرفيّة].
([7]) معاد جسماني در حكمت متعاليه [المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية]: 31.
([8]) عقلانيت جعفري [العقلانية الجعفرية]: 13.
([9]) مقدّمه بر متآله قرآني شيخ مجتبى قزويني خراساني [مقدمة على المتأله القرآني الشيخ مجتبى القزويني الخراساني]: 69.
([11]) حول هذا الموضوع راجع: أخلاق مخالفت [أخلاق الاختلاف].
([12]) الملا صدرا ومعضل انتحال، بازسنجي دفاعيه ها [ملا صدرا ومعضلة الانتحال، إعادة تقييم الدفاع عنه]: 22 ـ 36.
([15]) الصراط المستقيم (في ربط الحادث بالقديم): 9.
([16]) منتخباتي أز آثار حكماي إلهي إيران، أز عصر ميرداماد ومير فندرسكي تا زمان حاضر [مختارات من مؤلَّفات حكماء إيران الإلهيين، منذ عصر الميرداماد والمير فندرسكي إلى العصر الراهن].
([17]) لمراجعة ونقد هذا الكلام راجع: رحيق مختوم، شرح حكمت متعاليه [الرحيق المختوم في شرح الحكمة المتعالية] 6: 280.
([18]) جستارهاي فلسفي (مجموعه مقالات) [البحوث الفلسفية (مجموعة مقالات)]: 518.
([19]) «عقل خود بنياد ديني» [العقلانية الدينية]، مجلة همشهري ماه، العدد 9: 43، شهر آذر 1380هـ.ش(2001م).
([20]) يقصد أتباع المؤرِّخ الإيراني الشهير السيد أحمد كسروي، الذي اغتالته جماعة فدائي إسلام، التابعة للسيد نواب صفوي. (المترجم).
([21]) إيران در دو سده وابسين [إيران في العقدين الأخيرين]: 249. وهنا أتقدّم بالشكر للأستاذ حسين توفيقي الذي نبَّهني إلى هذا المطلب، ووضع هذا الكتاب بين يدي.
([23]) Heidegger et le Nazisme.
([24]) Richard Rorty, «Taking philosophy seriously: A review of Heidegger et le Nazisme by Victor Farias,» in About Philosophy, Robert Paul Wolff, 10th edition, Pearson Prentice Hall, USA, 2009, p. 42 ـ 47.
([27]) إيران در دو سده وابسين [إيران في العقدين الأخيرين]: 131.
([29]) Douglas Walton, Ad Hominem Arguments, The University of Alabama press,1998, p. 14.
([30]) لكي يتَّضح المطلب بنحوٍ أكبر راجع: إلهيات إلهي إلهيات بشري، نقدي روش شناختي [الإلهيات الإلهية والإلهيات البشرية، رؤية نقدية معرفيّة].
([31]) كسر أصنام الجاهلية، مقدّمة المصحِّح: 34.
([32]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 9: 101.
([34]) نيايش فيلسوف (مجموعه مقالات) [ابتهال الفيلسوف (مجموعة مقالات)]: 451 ـ 452.
([35]) رحيق مختوم شرح حكمت متعاليه [الرحيق المختوم في شرح الحكمة المتعالية] 9: 205.
([36]) كاوش هاي عقل نظري [بحوث العقل النظري]: 32.
([37]) سير تاريخي نقد ملاّ صدرا [المسار التاريخي في نقد الملا صدرا]: 18.
([38]) رسائل إخوان الصفا وخلاّن الوفا 3: 269 ـ 286.
([39]) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة 7: 229 ـ 239.
([40]) مغالطة تسميم البئر (Poisoning the well) تحصل حين يتمّ الإفصاح عن معلومات غير مرغوب فيها ـ سواء كانت المعلومات صحيحة أو خاطئة ـ عن الشخص الآخر؛ بغرض تشويه سمعة ما قد يقوله لاحقاً. [المترجم].