د. أبو القاسم فنائي(*)
«لا دين لمَنْ لا مروّة له، ولا مروّة لمَنْ لا عقل له» (الإمام الصادق×).
1ـ المدخل
تعرّضنا في محلّه لنقد ودراسة أدلّة تبعية الأخلاق للدين بالتفصيل. وقد توصّلنا إلى نتيجةٍ عامّة مفادها عدم تبعية الأخلاق للدين، وأن الأخلاق العلمانية ـ أي الأخلاق القائمة على الأسس والفرضيات غير الدينية أو ما وراء الدينية ـ ممكنة ومعقولة أيضاً. وفي هذا الفصل سوف نتعرّض لأدلة تبعية الدين للأخلاق بالنقد والدراسة. إن نفي تبعية الأخلاق للدين يثبت مجرّد استقلال الأخلاق عن الدين، إلاّ أن إثبات تبعية الدين للأخلاق يثبت أن الأخلاق مقدَّمة على الدين. وفي ما يتعلق بتبعية الدين للأخلاق هناك نظريات متنوّعة، ونحن سنستعرض بعض أهمّ تلك النظريات.
2ـ تبعيّة الدين اللغوية للأخلاق
إن المراد من تبعية الدين اللغوية للأخلاق هو أن المفاهيم الأخلاقية مأخوذةٌ في تعريف بعض المفاهيم الدينية. فإذا صحّ هذا الادّعاء كانت نتيجته أن الأخلاق متقدّمة على الدين من الناحية المفهومية؛ وأما إذا توقّف تعريف وتصوّر بعض المفاهيم الدينية على المفاهيم الأخلاقية فإن تبرير وتصديق التعاليم الدينية المشتملة على المفاهيم الدينية سيتوقّف أيضاً على القول بالمتبنيات الأخلاقية أيضاً، بمعنى أن تبعية الدين اللغوية للأخلاق سوف تستتبع تبعية الدين المنطقية والمعرفية للأخلاق.
وإنّ أهمّ مفهوم ديني يستحق البحث في هذا الشأن هو مفهوم «الله». يمكن الادّعاء بأن الصورة التي ترسمها الأديان الإلهية عن الله تشتمل على الفضائل الأخلاقية، من قبيل: العدالة والرحمة والعفو والحكمة، بمعنى أنّ مفهوم الله الفاقد لهذه الصفات مفهومٌ ينطوي على الكثير من المفارقات.
ولكنْ يمكن لنا أن نناقش في هذا الادعاء؛ لأنه يقوم على الخلط بين «التصوّر الإجمالي» و«التصوّر التفصيلي»، أو الخلط بين «المفاهيم» و«تفسير» المفاهيم. إن التصوّر الإجمالي لمفهوم هو المفهوم المشترك بين جميع الذين يستعملون الألفاظ الدالة على ذلك المفهوم، ويبرعون في استعمالها. وإن هذا الاشتراك المفهومي هو الذي يجعل التواصل اللغوي والتفاهم بين الأفراد ممكناً. إلاّ أن التصوُّر الإجمالي من الغموض والإبهام والإجمال بحيث يصعب العثور على مرادفٍ مستقلّ له.
ففي التصوُّر الإجمالي لشيء لا تؤخذ الكثير من صفاته.
إلاّ أن التصوُّر التفصيلي يخلو من هذه الخصائص. فأوّلاً: إن مختلف الأفراد الذين يتمتّعون بمهارة في استعمال مفردةٍ ما قد يمتلكون تصوّرات تفصيلية متفاوتة عن الموضوع الذي تدلّ عليه تلك المفردة. وثانياً: إن التصوّر التفصيلي لموضوع ما يشتمل على جميع الأوصاف والخصائص التي يعتقد الشخص توفّرها في ذلك الموضوع.
إن التصوّر التفصيلي لشيء في الحقيقة هو التعريف أو التفسير الذي يحمله الفرد في ذهنه عن ذلك الموضوع([1]). وإن هذا التصوُّر قابلٌ للتكميل والتعميق والإصلاح والتشذيب وإعادة النظر، ويكون مشمولاً للقبض والبسط والتحوُّل والتكامل([2]).
بالالتفات إلى هذه النقطة يمكن الادّعاء بأن الصفات الأخلاقية غير مأخوذة في التصوُّر الإجمالي لله، بل هي مأخوذة في بعض التصوّرات التفصيلية، أو في بعض التفسيرات التي يحملها بعض الأفراد عن هذا المفهوم؛ فإن لدى الأفراد تصوُّر إجمالي مشترك عن الله، وإن هذا التصوُّر هو الذي يمكّنهم من التحاور فيما بينهم بشأنه، ويتبادلون الآراء والعقائد والأفكار بشأن هذا الموضوع والموضوعات المرتبطة به. إلاّ أن هذا التصوُّر يفتقر إلى جميع الصفات والخصائص التي يختلف الأفراد في نسبتها إلى الله. وإن الصفات الأخلاقية من الخصائص التي يختلف الناس في إطلاقها على الله؛ فإن الله بالنسبة إلى بعض الأفراد يمتلك هوية شخصية، في حين أن إله غيرهم إله غير متشخِّص. وإن بعض الناس يؤمنون بتعدُّد الآلهة، بينما يؤمن البعض الآخر بإله واحد فقط. وإن إله بعض الناس إلهٌ مستبدّ، وإله بعضٍ آخر إله مصلحي، وإله بعضٍ إله أخلاقي، وهكذا. وعليه فإنّ الأفراد يحملون تعريفات تفصيلية متفاوتة عن الله. وإن بعض هذه التعريفات تشتمل على صفات أخلاقية. وهذا يُثبت أن الصفات الأخلاقية غير مأخوذةٍ في فهم وتفسير الله عند جميع الناس.
وعلى الرغم من ذلك يصحّ هذا الادّعاء القائل بأن التعريف الذي يُفهم من ظاهر النصوص الدينية للأديان الإبراهيمية عن الله يتضمّن الصفات الأخلاقية، من قبيل: «العدالة» و«الرحمة» و«العفو» و«إرادة الخير» أيضاً. إلاّ أن هذا التعريف ليس مقبولاً من قبل جميع أتباع الديانات الإبراهيمية، فضلاً عن الذين يؤمنون بالله ولكنهم في الوقت نفسه لا ينتمون إلى أيِّ واحدٍ من هذه الأديان. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نستنتج من هذا الادّعاء أن الصفات الأخلاقية مأخوذةٌ في تعريف الله. إنما الشيء الوحيد الذي يمكن قوله هو أنّ تعريف بعض الأفراد لله يشتمل على الصفات الأخلاقية أيضاً. بَيْدَ أن التصوّر الإجمالي ـ على كلّ حال ـ يفتقر إلى هذه الأوصاف. وفي الوقت نفسه يمكن أن نستنتج من هذا البحث أن الذين يشتمل تصوُّرهم لله على مفاهيم أخلاقية لا مندوحة لهم من القول بتقدُّم الأخلاق على الدين على المستوى «اللغوي» و«الوجودي» و«المعرفي». فمثلاً: إن الذي يعتقد بأن «الله عادل» يجب عليه الإذعان بما يلي:
1ـ إمكان تعريف العدالة بغضّ النظر عن إرادة وأمر الإله المشرِّع. وإن تعريفه التفصيلي لمفهوم الله يفترض تعريف العدالة في مرتبة سابقة (التقدُّم اللغوي).
2ـ إن العدالة أمرٌ حَسَن، وإنّ حُسْنها ووجوبها لا يتوقّف على إرادة وأمر الإله المشرِّع، بل الأمر على العكس من ذلك تماماً، بمعنى أن عدالة الله إنما هي بسبب حُسْنها (التقدّم الوجودي أو المعرفي).
3ـ إن معرفة مصاديق العدل والظلم ممكنةٌ بغضّ النظر عن فعل وإرادة وحكم الإله المشرِّع، وأن إثبات المضمون القائل: (إن إرادة وأمر الإله المشرِّع عادل) يتوقّف على مثل هذه المعرفة (التقدّم المعرفي).
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن سائر المفاهيم الدينية الأخرى؟ إن من المفاهيم الدينية الهامّة الأخرى، والتي تشتمل على صبغة أخلاقية قوية وعميقة، مفهوم «التقوى». وربما أمكن الادّعاء بأن التقوى من الناحية الدينية تعدّ أمّ القِيَم، ومصدر الفضائل الأخلاقية. فعلى سبيل المثال: يقول الله في القرآن الكريم: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8). وقد رُوي عن الإمام عليّ× في نهج البلاغة أنه قال: «التُّقى رئيس الأخلاق»([3]). والذي يبدو لنا هو أن حقيقة التقوى عبارة عن الرجوع إلى «الشاهد المثالي» في مقام اتخاذ القرار والعمل، وتقديم رأيه وتشخيصه على الميول والأهواء النفسية، وعلى النزعة المصلحية والنفعية للعقل الاقتصادي والأنوي، في حالة التعارض. وإن الشاهد المثالي ـ كما سنرى ـ من وجهة النظر الدينية هو «إله الأخلاق»، وإنّ حكم هذا الإله متقدِّمٌ على حكم «الإله المشرِّع» أو «إله الفقه».
أما المفهوم الآخر الذي يجدر ذكره هنا فهو مفهوم «العمل الصالح». ليس هناك من شكٍّ في أن العمل الصالح هو العمل المنطبق على الموازين الأخلاقية، وأن العمل الذي لا ينسجم مع الموازين الأخلاقية لا يمكن أن يكون عملاً صالحاً، حتّى إذا كان منسجماً مع الموازين الفقهية، أي إنّ مجرَّد الانسجام مع الموازين الفقهية لا يكفي في جعل أو صيرورة العمل صالحاً. ومن هنا ـ وخلافاً للتصوُّر السائد ـ فإنّ تأكيد النصوص الدينية على العمل الصالح وربطه بالإيمان لا يعني التأكيد على الفقه والشريعة بمعزل عن الأخلاق، أو بشكلٍ منفصل عن الأخلاق، أو بوصفه بديلاً عن الأخلاق([4]).
كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الدينية ذات الفحوى الأخلاقي الواضح. وقد استشهد البعض بهاتين الوظيفتين الدينيّتين لإثبات عدم الانسجام بين الدين وحقوق الإنسان، أو الاختلاف بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان في الغرب.
ولكنْ يمكن الادّعاء أوّلاً: أن المعروف والمنكر الأخلاقي يختلف عن المعروف والمنكر الفقهي. وثانياً: إن تحديد المعروف والمنكر الفقهي يتوقّف على التحقيق بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق. ولو أن شخصاً قبل بتقدُّم الأخلاق على الدين، واعترف بالقيم الأخلاقية بوصفها إطاراً ومعياراً لفهم واستنباط الأحكام الشرعية، سيضطرّ ـ في مقام تعيين وتشخيص المعروف والمنكر، وفي مقام أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ قبل كلّ شيءٍ إلى الرجوع إلى الأخلاق، والتعرُّف على مقتضى الأصول الأخلاقية في مورد هذا الموضوع، ليرجع بعد ذلك إلى النصوص الدينية في ظلّ هذا المعيار. وعلى هذا الأساس لا يمكن نقض حقوق الإنسان استناداً إلى النصوص الدينية الدالّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن قيمة واعتبار المعرفة الدينية رهنٌ بانسجام مضمون هذه المعرفة مع القيم الأخلاقية، ومن بينها: حقوق الإنسان، بمعنى أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخلاقهما الخاصة. وإنّ تطبيق هذه الوظائف خارج إطارها الأخلاقي هو في حقيقته واحدٌ من المنكرات الأخلاقية الشائعة في المجتمعات الدينية. وحيث إن الأمر كذلك لا يمكن نسبة هذا الحكم إلى الشارع من خارج الأطر الأخلاقية.
وبعبارةٍ أخرى: إن «المعروف» و«المنكر» أوّلاً وبالذات من المفاهيم الأخلاقية، وإن المعروف والمنكر الشرعيين وإنْ كانا ليسا عين المعروف والمنكر الأخلاقيين، إلاّ أنهما يحملان إطاراً أخلاقياً. وإن المنكرات الأخلاقية لا تتحوَّل إلى مباح أو معروف بحكم الشرع، ولا يجوز ارتكاب المنكرات الأخلاقية للحيلولة دون ارتكاب المنكرات الشرعية. وإنّ الأمر بالمعروف الشرعي من خلال الطرق غير الأخلاقية إنما هو في الحقيقة واحدٌ من المنكرات الأخلاقية.
3ـ تبعيّة الدين الوجودية للأخلاق
يمكن بيان ومناقشة تبعيّة الدين الوجودية للأخلاق على مستويين مختلفين.
يمكن القول: إن الدين بالمعنى العامّ والخاص للكلمة تابعٌ للأخلاق من الناحية الوجودية. ويمكن تأييد تبعية الدين للأخلاق بالمعنى العامّ للكلمة بأدلّة متعدِّدة. فمثلاً: يمكن إثبات أن الهداية الدينية للناس، وإرسال الأنبياء والرسل، وإنزال الكتب السماوية من قبل الله، تنبثق عن صفاته وفضائله الأخلاقية. ولو أن الله كان فاقداً لهذه الصفات والفضائل لما كان هناك دينٌ ولا نبوّة ولا كتاب. وبعبارةٍ أخرى: إن تدخّل الله في حياة الإنسان، وإرادته القائمة على هداية الناس، ينشأ عن أخلاقيته، ويكون لهذه الظاهرة تبريراً أخلاقياً. كما يمكن أن نثبت بالأدلة الدينية أن تخلّق الناس بالفضائل الأخلاقية، وتهذيب أنفسهم من الرذائل الأخلاقية، وتعاطيهم الأخلاقي مع الآخرين، من بين أهمّ أهداف الأنبياء. ولذلك فإن الأخلاق تمثّل «العلة الغائية» للدين وفلسفته الوجودية. وعلى هذا الأساس تكون تبعية الدين الوجودية للأخلاق من سنخ تبعية المعلول للعلة الغائية. كما يمكن القول بأن «الأخلاقية» و«السلوك الأخلاقي» من الشروط الضرورية للتقرُّب من الله، واكتساب التجربة الدينية، والرقيّ المعنوي، بل هو شرطٌ للدخول في عالم المعنوية، والحصول على السعادة الخالدة([5]).
وأما تبعيّة الدين الوجودية للأخلاق بالمعنى الخاصّ للكلمة، بمعنى تبعية «الشريعة» للأخلاق، فيمكن بيانها على أحد معنيين.
وطبقاً للمعنى الأول تقع القِيَم الأخلاقية في سلسلة علل الأحكام الشرعية. وإنّ الشريعة بوصفها مجموعة من الأحكام الشرعية الثابتة في اللوح المحفوظ تنشأ من القِيَم الأخلاقية.
وأمّا طبقاً للمعنى الثاني فإنّ الأحكام الشرعية وإنْ كانت لا تنشأ عن القِيَم الأخلاقية دائماً، إلاّ أن الشريعة لا تخالف القِيَم الأخلاقية، أي إنّ لها إطاراً أخلاقياً، وإنّ الأحكام الشرعية لا تنقض الأطر الأخلاقية.
وبعبارةٍ أخرى: إن لهذا الادّعاء قراءتين: قراءة في «الحدّ الأقصى»؛ وقراءة في «الحدّ الأدنى». أما القراءة في حدّها الأقصى فتقول: إن الأحكام الشرعية إمّا هي القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية التي صيغت بصيغة الأمر والنهي، ولبست ثوب الشريعة، أو إنها لا تنقض هذه القِيَم والضرورات والمحظورات. والفرض الأول في الحقيقة يحمل مضمون «قاعدة التلازم بين حكم العقل العملي وحكم الشرع». وهذا من الناحية النظرية مورد قبول الكثير من فقهاء الشيعة أيضاً، وقد اشتملت كتب أصول الفقه الشيعي على بحوثٍ تفصيلية حول هذا الموضوع.
وأما في ما يتعلّق بالقراءة في حدّها الأدنى فيُقال: إنّ الأحكام الشرعية ذات مبنى ومنشأ مستقلّ عن الأخلاق، فهي لا تنشأ عن القِيَم الأخلاقية بالضرورة دائماً، ولكنْ في الوقت نفسه هناك إطارٌ أخلاقي للشرع، وإنّ إرادة الإله المشرِّع تابعة للقيم الأخلاقية، بمعنى أنه لا ينقض القيم الأخلاقية، وأن أوامره ونواهيه لا تتجاوز الأطر الأخلاقية. وطبقاً لهذه الرؤية قد تكون بعض الأعمال «المباحة» من الناحية الأخلاقية «محرّمة» أو «واجبة» من الناحية الشرعية، رغم أن الأعمال «القبيحة» أو «غير الصائبة» من الناحية الأخلاقية لا يمكن أن تكون «مباحة» أو «واجبة» من الناحية الشرعية، وإن الأعمال «الواجبة» من الناحية الأخلاقية لا يمكن أن تكون «محرّمة» أو «مباحة» من الناحية الشرعية([6]).
إن القراءة القصوى لتبعيّة الشريعة الوجودية للأخلاق تؤدّي إلى الارتباط المنطقي والإنتاجي والاستنتاجي للأخلاق والشريعة، ولا يمكن الدفاع عنها، أي إنّه لا يوجد بأيدينا دليل عليها. أما القراءة في الحدّ الأدنى لهذه التبعيّة فيمكن تبريرها والدفاع عنها. ونحن نسمّي القراءة في الحدّ الأقصى بـ «التلازم الوجودي بين الأخلاق والشريعة»، والقراءة في الحد الأدنى بـ «الشريعة في إطار الأخلاق». وسوف نتناول هاتين الرؤيتين في عنوانين متعاقبين.
أـ التلازم الوجودي بين الأخلاق والشريعة
كما ذكرنا فإن الكثير من فقاء الشيعة على المستوى النظري يقولون بالملازمة بين «حكم العقل» و«حكم الشرع»([7]). ويرَوْن أن حكم العقل يشمل القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية أيضاً. وفي ما يتعلّق بالمعنى الدقيق لقاعدة التلازم، والأدلة على هذه القاعدة، والتطبيق العملي لها في معرفة الشريعة، هناك الكثير من البحث والنقاش. ويتمّ تقسيم الأحكام العقلية في كتب أصول الفقه إلى: أحكام العقل النظري؛ وأحكام العقل العملي. وإنّ القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية تندرج عادةً ضمن أحكام العقل العملي. وأما في الرؤية الشهيرة فإنّ أحكام العقل العملي تتلخّص في أحكام المصالح، ويُدَّعى بأن حكم العقل بالحُسْن والقُبْح إنما ينشأ من علم العقل بالمصالح والمفاسد. إنّ الفهم السائد بين علماء الشيعة للحُسْن والقُبْح الأخلاقي يقوم على النتائج والذاتيات، بمعنى أن حُسْن الفعل وقُبْحه من الناحية الأخلاقية تابعٌ للنتائج التي يحصل عليها الفاعل من وراء قيامه بذلك الفعل([8]).
وعلى أيّ حال فإن قاعدة التلازم تقول إجمالاً: إنّ حكم الشرع تابعٌ لحكم العقل على المستوى الوجودي، وهو بمعنىً من المعاني معلولٌ له وناشئ عنه، ولذلك لا يوجد للشرع حكمٌ لم يكن موجوداً لدى العقل في مرحلةٍ سابقة. ومن الطبيعي أن يستتبع الارتباط الوجودي والعلّي والمعلولي بين حكم العقل وحكم الشرع ارتباطاً منطقياً ومعرفياً بينهما؛ إذ عندما يكون حكم الشرع تابعاً ومعلولاً لحكم العقل يجب التعرُّف على حكم الشرع من خلال التعرُّف على حكم العقل (بالبرهان اللمّي)([9]).
وأيّاً كان فمن وجهة نظري لا توجد أيُّ ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. وحيث كان هناك حكم للعقل لا حاجة لحكم الشرع بالضرورة. وحيث يكون هناك حكم للشرع لا حاجة لحكم العقل بالضرورة. فلا الإله المشرِّع مضطرٌّ ليكون له أمر ونهي «مولوي» بموازاة حكم العقل، ولا العقل مضطرٌّ لأن يكون له أمر ونهي بموازاة حكم الشرع؛ فإن حيثية «عقل» الله و«حكمته» تختلف عن حيثية كونه «مشرِّعاً». وبطبيعة الحال هناك ترابطٌ وصلة بين هاتين الحيثيتين، إلاّ أنّ هذه الصلة والارتباط ليس على النحو المذكور. فلا مانع من الاقتران بين حكم الشرع وحكم العقل، ولكنْ ليس هناك أيُّ دليلٍ يقضي بضرورة واستمرار هذا الاقتران أو التلازم الوجودي بينهما.
لو توفَّر لدى الفرد طريقٌ يوصله إلى حكم العقل، أو صعب عليه الوصول إلى هذا الطريق، ولكنّ الله أمكنه من الوصول إليه، من خلال تذكيره أو توجيهه إلى حكمه «الإرشادي»، ففي هذه الصورة لن تكون هناك ضرورةٌ لجعل الحكم الشرعي المولوي، المعادل والمناظر لحكم العقل من قبله.
نعم، مع افتراض وجود الله وشارعيّته يكون اتّباع أوامر الشرع من الناحية الأخلاقية ضروريّاً، أي إنّنا مكلَّفون باتّباع الضرورات والمحظورات الشرعيّة أخلاقيّاً. إلاّ أنّ هذا لا ربط له بقاعدة التلازم بين حكم العقل وحكم الشرع. وكما سنرى قريباً فإن الوجوب الأخلاقي لاتّباع الأحكام الشرعية ليس مطلقاً، وإنما هو مشروطٌ بانسجام تلك الأحكام مع القِيَم الأخلاقية. فإذا كان الفرد ممَّنْ ينفي التلازم (الضروري) بين حكم العقل وحكم الشرع فسوف لا يستطيع الكشف عن حكم الشرع أو إثباته من طريق حكم العقل، بمعنى أنه عندما لا تكون هناك أيّ ملازمة ضرورية بين حكم العقل وحكم الشرع لن يكون بالإمكان من الناحية «المنطقية» و«المعرفية» أن نقيم بين هذين الحكمين صلةً إثباتية «استنتاجية»، واستنباط الأحكام الشرعية من صُلْب القيم الأخلاقية.
والمسألة الجديرة بالتأمُّل أن علماء الشيعة رغم قولهم بهذه الملازمة، إلاّ أنهم من الناحية العملية، وفي مقام استنباط الأحكام الشرعية، قلّما يتمسَّكون بقاعدة التلازم، وعذرهم الوحيد في ذلك هو أن حكم العقل إنّما يكون حجّةً ومعتبراً إذا كان قطعياً ويقينياً، ولا يمكن اكتشاف الحكم الشرعي واستنباطه من طريق الحكم العقلي الظنّي. إلاّ أن هذا العذر غير وجيهٍ؛ لأن حكم العقل في موقعه يحتوي على قيمةٍ، ويكون معتبراً أيضاً. وإن التفكيك بين الظنون العقلية والظنون النقلية غير مقبولٍ، ولا مقنع أبداً، بل هو مخالفٌ للعقلانية([10]).
وعليه لا توجد أيّ ملازمة بين حكم «العقل الأخلاقي» وحكم الشرع. ولكنْ هل يمكن القول بوجود مثل هذه الملازمة بين حكم «العقل المصلحي» وحكم الشرع؟
إن الإجابة عن هذا السؤال رهنٌ بأن نؤمن بتبعيّة «أحكام الشرع للمصالح والمفاسد» أو لا. إلاّ أن بين العلماء في هذا المورد اختلافاً. وعلى أيّ حالٍ فإن إثبات مثل هذه الفرضية بشأن جميع الأحكام الشرعية صعبٌ للغاية. ويمكن القول في الحدّ الأدنى بعدم وجود دليلٍ مقنع لصالح هذه الدعوى العامة. إنّما الادعاء الوحيد الذي يمكن طرحه في هذا الشأن هو أن الدين يشتمل على واجبات ومحرّمات، وأنّ بعضها ينشأ عن المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية والفردية، وأنّ على المؤمن أن يلتزم بها عملياً بمقتضى إيمانه، وأمّا القول:
1ـ إن جميع الأحكام الشرعية تابعةٌ للمصالح والمفاسد.
2ـ وإن هذه المصالح والمفاسد غيبية دائماً.
3ـ وإنها تعود إلى شخص الفاعل.
فهي فرضياتٌ لا تستند إلى تبريرٍ مقبول، أو معقول، بل هناك الكثير من الأدلة على خلافها([11]).
ولكنْ حتّى لو قبلنا بوجود تلازم بين حكم العقل المصلحي وحكم الشرع فإنّه لا يمكن لنا القول بأن هذه المصالح والمفاسد غيبية وأخروية دائماً، أو أنها تعود إلى شخص الفاعل؛ فإنّ مصالح ومفاسد الأعمال إمّا دنيوية أو أخروية؛ وإما فردية أو جماعية؛ وإما ظاهرية أو غيبية. وبالتالي إذا آمنا بأن جميع الأحكام الشرعية تنشأ عن المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية والفردية يمكن القول: هل حكم العقل المصلحي مُلزِمٌ بشكلٍ مطلق، أم إنه إنما يكون مُلْزِماً بشرط انسجامه مع القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية؟ لو قبلنا بتقدُّم العقل الأخلاقي على العقل المصلحي، ولو قلنا بأن تداعيات ونتائج العمل لمجرّد كونها واحدةً من الخصائص المرتبطة أخلاقياً، وبوصفها صانعة للحُسْن والقُبْح، أو الصواب والخطأ، ففي مثل هذه الحالة يجب علينا القول: عند حصول التعارض بين حكم العقل المصلحي وحكم العقل الأخلاقي لن تكون هناك ملازمةٌ بين حكم العقل وحكم الشرع، بمعنى أنه لا يوجد في الشرع حكمٌ مخالف للأخلاق، وأنّ المصالح والمفاسد الذاتية إنّما تنتهي إلى الحكم الشرعي إذا كان الفعل مورد البحث مسموحاً به من الناحية الأخلاقية.
نرى أن الرؤية الوحيدة المقبولة بشأن منشأ الأحكام الشرعية هي الرؤية في «الحدّ الأدنى». تقول هذه الرؤية: إن لله واجبات ومحرّمات ينشأ بعضها عن المصالح والمفاسد الغيبية، وليس كلها، وإن تلك المجموعة من الأحكام الإلزامية ذات المناشئ الأخرى، غير المصالح والمفاسد الأخروية والغيبية، تنسجم مع المصالح والمفاسد الغيبية، بمعنى أنها لا تنقض هذه المصالح والمفاسد. وعلى هذا الأساس فإن الواجبات والمحرّمات الشرعية، سواء أكانت ناشئة عن المصالح والمفاسد الغيبية أو من المناشئ الأخرى، لا تنقض القِيَم والمعايير الأخلاقية، وإنّ معرفتها والعمل بها لن يُغني المؤمنين عن معرفة الواجبات والمحرّمات الأخلاقية، والواجبات والمحرّمات العُرْفية. وهذا يعني عدم وجود أيّ دليل على جامعية وشمولية علم الفقه ـ الذي يتكفَّل بمعرفة الواجبات والمحرّمات الشرعية فقط ـ، وأن علم الفقه لا يكون بديلاً عن علم الأخلاق، ولا بديلاً عن علم الحقوق.
يجب القول صراحةً: إن علم الفقه لا يمثِّل نظرية لإدارة المجتمع من المهد إلى اللحد. أجل، يمكن القول: إن الواجبات والمحرَّمات الشرعية من السعة والشمول بحيث تستوعب جميع حياة الإنسان من المهد إلى اللحد، بل حتّى ما قبل ولادته، وما بعد وفاته أيضاً، إلاّ أن معرفة هذه الواجبات والمحرَّمات واتّباعها لا يكفي لوحده لإدارة المجتمع البشري، إلاّ إذا قلنا بأن الواجبات والمحرَّمات الأخلاقية والعرفية ممضاةٌ من قبل الشارع أيضاً. إلاّ أن إمضاء الشارع هنا يعني مجرَّد أن الشارع لا يُخالف الإلزامات الأخلاقية والعُرْفية، ولا يعني ذلك أن هذه الإلزامات هي عين الإلزامات الشرعية، ويمكن الكشف عنها من خلال المنهج المتَّبع في الفقه التقليدي.
وعلى أيّ حالٍ فإن إمضاء الأحكام الأخلاقية والعرفية من قبل الشارع لا يستلزم جعل الحكم الشرعي المتناظر مع هذه الأحكام من قِبَله. من هنا فإن علم الفقه ـ كما ذكرنا ـ لا يمكن له أن يسدّ الفراغ الذي يخلِّفه علم الأخلاق وعلم الحقوق. وإن القِيَم والمعايير الضرورية لإدارة المجتمع الإنساني المنشود من المهد إلى اللحد تستخرج وتستنبط من ثلاثة مصادر مختلفة، ومن خلال الاستفادة من ثلاثة أساليب مختلفة. وإن الشريعة إنّما تشكِّل مجرّد مصدر واحد من هذه المصادر. وإن المنهج والأسلوب الفقهي إنما هو واحد من هذه الأساليب الثلاثة. وإن جانباً واحداً فقط ممّا يمكن الحصول عليه لإدارة المجتمع الإنساني يتمّ الحصول عليه من هذا المصدر، ومن خلال الاستفادة من هذا الأسلوب، وليس بأجمعه، بل وليس ذلك هو الجانب الأهمّ أيضاً. وعليه فإن كلاًّ من الشريعة والفقه ـ الذي هو علم معرفة الشريعة ـ يعتبران من الحدّ الأدنى، ولا دليل مقنع على فهمهما على مستوى الحدّ الأقصى. فالفقه لا يُلبّي جميع حاجات الناس، بل لا يلبّي حتّى حاجتهم إلى القوانين القِيَمية والمعيارية بشكلٍ كامل، بمعنى أنه لا يغني حتّى على المستوى الحكمي، فضلاً عن أن يكون مغنياً على المستوى البرمجي والإداري.
ب ـ الشريعة في إطار الأخلاق
أذهب إلى الاعتقاد بأن المعنى المقبول والمنطقي لقاعدة التلازم يمكن بيانه على الشكل التالي: «إن القِيَم الأخلاقية تؤيّد وتمضى من قبل الشرع»، بمعنى أن الشارع لا يحكم على خلافها، ولن يصدر إذناً بنقضها، وأن للشريعة إطاراً أخلاقياً. ليس هناك بين الفقه والأخلاق علاقةٌ منطقية أو استنتاجية، إلاّ أن واجبات ومحرّمات أخلاق السلوك تشكِّل جزءاً من محظورات أخلاق التفكير والبحث الفقهي. هناك فرقٌ بين قولنا: «إن حكم الشرع مطابق لحكم العقل» وبين قولنا: «إن حكم الشرع لا يخالف حكم العقل». ففي الصورة الأولى يمكن إثبات أو تبرير حكم الشرع من خلال الاستعانة بحكم العقل، في حين أن أقصى ما يمكن لنا فعله في الصورة الثانية هو إبطال حكم الشرع ـ أو بعبارةٍ أصحّ: إبطال فهم وتفسير خاصّ عن حكم الشرع ـ من خلال الاستعانة بحكم العقل. وإن الصفات الأخلاقية للشارع وكمال علمه وحكمته لا تقتضي منه ما هو أكثر من عدم نقض القِيَم والمعايير الأخلاقية في مقام تشريع أحكامه، وأن لا يُصدر حكماً على خلاف الإلزامات الأخلاقية. تقع أوامر ونواهي الإله الشارع في طول القِيَم الأخلاقية، أي إنها منسجمةٌ مع هذه القِيَم.
وعليه فإن الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ملازمةٌ سلبية، وليست إيجابية. وإن الدليل الذي يمكن تقديمه لصالح هذه الملازمة على النحو التالي:
إن «التشريع» و«التقنين» فعلٌ إرادي واختياري، وهو مثل كلّ فعل إرادي واختياري آخر محكوم للقِيَم الأخلاقية، سواء أكان المقنِّن هو الله تعالى أو غيره. إن كلاًّ من «القانون» و«المقنِّن» قابلين للاتصاف بالحُسْن والقُبْح، بمعنى أننا من الناحية الأخلاقية لدينا قانون حسن وقبيح، ولدينا أيضاً مقنِّن جيّد وسيّئ. كما أن كلاًّ من مفاد القوانين التشريعية يتمّ تحديدها من طريق الواجبات والمحظورات الأخلاقية، ومنهج تشريع القوانين وشرائطها ومقدّماتها أيضاً.
وعلى هذا الأساس فإن للتشريع والتقنين أخلاقاً خاصّة، وإن المقنِّن والمشرِّع إنما يتمتَّع بحقّ التقنين والتشريع في إطار الضرورات والمحظورات الناظرة إلى مقام التشريع، أو رعاية قِيَم الأخلاق الحاكمة على هذا المقام. ومن جهةٍ أخرى يمكن القول: حيث إن الله كمال مطلق، ولا يصدر عنه عملٌ غير أخلاقي، فإنّ تشريعه وتقنينه سوف يكون منسجماً مع الموازين الأخلاقية، وليس هناك في الشرع حكمٌ يخالف الموازين الأخلاقية، لا أنه ليس في الشرع حكم لا يوجد في الأخلاق. ولو كانت مثل هذه الملازمة قائمةً بين حكم العقل وحكم الشرع لما كانت هناك حاجة إلى حكم الشرع أساساً.
والنتيجة هي أنه لا يوجد بين علم الأخلاق وعلم الفقه علاقةٌ استنتاجية، بمعنى أنه لا يمكن تبرير أو إثبات الحكم الشرعي من طريق القِيَم الأخلاقية، ولا يمكن التوصُّل إلى نتيجة فقهية من خلال تركيب وضمّ المقدّمات الأخلاقية. إلاّ أن النصوص الدينية إذا كانت مشتملةً على حكم غير منسجم مع القيم الأخلاقية فإنها ستفقد اعتبارها، وسوف يسقط سندها أو دلالتها عن الحجِّية.
وعليه فإنّ الفتاوى الفقهية التي هي عبارةٌ عن فهم واستنباط الفقهاء من النصوص المبيِّنة لأحكام الشرع قابلةٌ للإبطال أخلاقياً. وإنّ حجِّيتها واعتبارها مشروطٌ بانسجامها مع القِيَم والإلزامات الأخلاقية.
وباختصارٍ: يمكن إبطال فتوى فقهية من خلال التمسُّك بقِيَم أخلاق السلوك، ولكنْ لا يمكن من هذا الطريق تأييد أو إثبات أيّ فتوى فقهية. وبطبيعة الحال لو كان هناك فتويان متعارضتان في مورد، وكانت إحداهما منسجمةً مع القِيَم الأخلاقية، والأخرى غير منسجمة معها، فإنّ الفتوى المنسجمة مع القِيَم الأخلاقية سوف تحظى بمزيدٍ من التبرير، وسوف يرتفع احتمال صدقها. ولكنْ هذا رهنٌ بأن تحصل هذه الفتوى على تبريرها الأوّلي وفي بادئ النظر([12]) من طريقٍ آخر، وأن يكون هناك دليلٌ آخر لصالحها، بحيث يجعل إسناد ذلك الحكم إلى الشارع ممكناً.
إن الملازمة السلبية بين حكم العقل وحكم الشرع أوّلاً وبالذات ملازمة «أنطولوجية» و«ميتافيزيقية». وفي الوقت نفسه تنطوي هذه النظرية على تداعيات منطقية ومعرفية هامّة سوف نتناولها بالبحث في كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية). وفي الحقيقة فإنّ إحدى أهمّ نتائج هذا الادّعاء هو أن معايير وقِيَم «أخلاق السلوك» تتجلّى في دائرة الفقه على شكل معايير وقِيَم «أخلاق البحث والتفكير». لا يمكن كشف وإثبات حكم العقل من خلال الاستعانة بالعقل المحض، ومن طريق استدلال العقل المحض، ولكنْ يمكن من خلال الاستعانة بهذا العقل كشف وإبطال الفهم الخاطئ لحكم الشرع. وكذلك يمكن كشف وإبطال التفسير والاستنباط الخاطئ للنصوص الدينية أيضاً. وهذا الادّعاء منسجمٌ مع مضمون الحديث القائل: «إن دين الله لا يُصاب بالعقول الناقصة»([13]) تمام الانسجام؛ إذ إن معنى هذا الحديث أن العقل المحض لا يستطيع كشف وإثبات حكم الإله الشارع، لا أن العقل المحض لا يستطيع كشف وإبطال الفهم والتفسير الخاطئ لحكم الله. إن هذا الحديث لا يريد القول: إن أحكام الله غير معقولة. وباعتقادي فإنّه حتّى عند القطع واليقين بحكم العقل لا يمكن الكشف عن حكم الشرع وإثباته، وإن الحائل المنطقي القائم بين العقل والشرع وبين الأخلاق والفقه لا يخصّ الظنون العقلية فقط، وإنّما يشمل أحكام العقل القطعية أيضاً. ولكنْ يمكن من طريق حكم العقل ـ سواء القطعي أو الظني ـ القول ما هو الحكم غير الموجود في الشريعة، وما هي الفتوى غير المبرَّرة والفاقدة للاعتبار. وبعبارةٍ أخرى: يمكن لنا أن ننسب حكم العقل إلى الإله الحكيم أو العادل، الذي هو الشاهد المثالي أو إله الأخلاق، ولكنْ لا يمكن نسبة حكم العقل إلى الإله المشرِّع.
4ـ تبعيّة الدين العقلانية للأخلاق
إن تبعيّة الدين العقلانية للأخلاق تعني أن عقلانية الالتزام الديني رهنٌ بالأخلاق([14]). إن التحقيق بشأن تبعيّة الدين العقلانية للأخلاق يتبلور في الحقيقة حول هذا السؤال القائل: «هل تجب إطاعة الله من الناحية الأخلاقية؟»، أو «هل حقّ الطاعة لله على العباد في نفسه حقٌّ أخلاقي؟».
ولكي نجيب عن هذين السؤالين لا بُدَّ أوّلاً من الإجابة عن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الله؟».
وقبل الخوض في هذا السؤال لا بُدَّ أيضاً من التذكير ببعض الأمور التمهيدية:
الأمر الأوّل: إن الإجابات المقدّمة عن هذا السؤال تؤكِّد على بعض صفات الله وخصائصه، وتسعى على هذا الأساس إلى تبرير حقّ الطاعة له أو وجوب إطاعته، وتخلق لدى الفرد الدافع الضروري إلى اتّباع أوامره. وعليه فإن جميع هذه الإجابات لا مندوحة لها من افتراض مقدّمة خاصّة لإثبات المطلوب. وإنّ موضوع تلك المقدّمة صفة من صفات الله، ومحمولها مفهوم دالّ على «الوجوب».
ولكنْ كما سوف نرى فإنّ هذا «الوجوب» يمكن أن يكون أخلاقياً، ويمكن أن يكون مصلحياً، ولكنّه شرعيٌّ في كلتا الحالتين.
الأمر الثاني: إنّ لهذا السؤال في الحقيقة معنيين، أو إنه ينحلّ إلى سؤالين.
المعنى الأوّل لهذا السؤال يقول: «ما هو التبرير المتوفّر لإثبات إطاعة الله؟ أو كيف يتمّ تبرير وجوب إطاعة الله؟».
والمعنى الثاني لهذا السؤال يقول: «ما هو الدافع الذي يمكن أو يجب أن نمتلكه لإطاعة الله؟».
وبعبارةٍ أخرى: إن هذا السؤال في حقيقته سؤالٌ عن دليل العمل، ودليل العمل يمكن أن يكون دليلاً تبريرياً([15])، ويمكن أن يكون دليلاً تحفيزياً([16]). إن الدليل الذي يبرِّر العمل هو الذي يبرِّره من الناحية العقلانية. وإنّ المطالبة بمثل هذا الدليل يعني السؤال عن عقلانية أو معقولية العمل مورد البحث. وأما الدليل التحفيزي فهو الأمر الذي يخلق الحافز لدى الفرد للقيام بذلك العمل. وسوف نقتصر هنا على مناقشة معنى السؤال الأوّل فقط. وأما مناقشة المعنى الثاني فنتركه إلى القسم الآتي.
الأمر الثالث: يمكن أن نجيب عن السؤال السابق طبقاً للمعايير الأخلاقية؛ ويمكن أن نجيب عنه طبقاً لمعايير المصلحة. وفي الحقيقة هناك العديد من الإجابات عن هذا السؤال. وإن البعض من هذه الإجابات فقط هو المقبول من الناحية الأخلاقية. وعلى هذا الأساس يمكن تحليل هذا السؤال إلى الأسئلة الأربعة التالية:
1ـ هل هناك تبريرٌ أخلاقي على إطاعة الله؟
2ـ هل هناك تبريرٌ مصلحي على إطاعة الله؟
3ـ هل هناك دافعٌ أخلاقي على إطاعة الله؟
4ـ هل هناك دافعٌ مصلحي على إطاعة الله؟
إن فرضية فصل وتفكيك السؤال الأول عن الثاني هي أن التبرير العقلاني ينقسم إلى: أخلاقي؛ ومصلحي. وإن فرضية فصل وتفكيك السؤال الثالث عن الرابع هي أن الدافع العقلاني ينقسم إلى: أخلاقي؛ ومصلحي. وبعبارةٍ أخرى: إن هذا التفكيك يقوم على أساس القول بفرضية أن العقل والعقلانية العملية تنقسم إلى: عقلانية أخلاقية؛ وعقلانية مصلحية (نفعية أو أنانية أو أنوية). وإن الإجابات العديدة عن السؤال حول سبب وجوب إطاعة الله إنما تنشأ في الحقيقة عن معايير أحد هذين النوعين من العقل والعقلانية.
وهنا سوف نبحث في السؤال الأول والثاني، ونترك بحث السؤال الثالث والرابع إلى القسم التالي. إن السؤال الأول والثاني يتساءلان عن الدليل الذي يبرّر إطاعة الله، وليس عن الدليل الذي يحفّز الأفراد نحو إطاعة الله. يقول هذا السؤال: «هل يمكن تبرير إطاعة الله من الناحية العقلية؟». وإذا كان الجواب موجباً: «هل هذا التبرير مجرّد تبرير أخلاقي» أم يمكن تقديم نوع آخر من التبرير العقلاني لإطاعة الله أيضاً؟ إذا أمكن لنا أن نثبت أن وجوب إطاعة الله أو حقّ الطاعة له لا يُختزل في الوجوب والحق الأخلاقي عندها يمكن القول بأن الدين من الناحية العقلانية غير تابع للأخلاق، وإن بالإمكان تبرير الالتزام الديني عقلانياً من طرق أخرى أيضاً، بمعنى أن القول بتبعية الدين العقلانية للأخلاق إنما تكون مبرّرة إذا أمكن إثبات أن الالتزام والتمسّك بالدين واتّباع تعاليم الله إنما تقبل التبرير العقلاني من طريق القِيَم الأخلاقية فقط، ولا يمكن تبريرها على أساس أنواع العقلانية الأخرى.
وهنا لا مندوحة لنا من الفصل والتفكيك بين «التبرير الأخلاقي السلبي» و«التبرير الأخلاقي الإيجابي». إن التبرير الأخلاقي السلبي إنما هو تبريرٌ في الحدّ الأدنى، وإن الالتزام الديني إنما يكون مبرَّراً من الناحية الأخلاقية إذا لم يستلزم نقضاً للقِيَم والمعايير الأخلاقية، ولم يكن هناك دليلٌ أخلاقي على خلافه. أما التبرير الأخلاقي الإيجابي فهو تبريرٌ في الحدّ الأقصى، وإن الالتزام الأخلاقي بهذا المعنى من الناحية الأخلاقية إنما يكون مبرَّراً إذا كان لدينا دليلٌ أخلاقي لصالح هذا الالتزام، وكان هذا الالتزام الأخلاقي ناشئاً عن القِيَم والإلزامات الأخلاقية.
وعلى هذا الأساس فإن تبعية الدين العقلانية للأخلاق تعني أن عقلانية الالتزام الديني رهنٌ بالتبرير الإيجابي أو الأكثري، ومنوط بامتلاك دليلٍ أخلاقي لصالح هذا الالتزام. إلاّ أن استقلال الدين العقلاني عن الأخلاق يعني أن عقلانية الالتزام الديني ليست رَهْناً بالتبرير الإيجابي والأكثري، وإن التبرير السلبي والحدّ الأدنى من هذا الالتزام يُعَدّ كافياً من الناحية الأخلاقية، شريطة أن يكون هناك تبريرٌ مصلحي لصالح هذا الالتزام([17]).
نرى أن الدين من الناحية العقلانية غير تابع للأخلاق؛ إذ يمكن تبرير الالتزام الديني من الناحية العقلانية على أساس معايير العقلانية المصلحية.
وكما رأينا فإن العقلانية العملية على معنيين. وإن الالتزام الديني يمكن أن يكون التزاماً عقلانياً، وفي الوقت نفسه لا يحظى بأيِّ دعامةٍ أخلاقية إيجابية.
وعليه إذا كان المراد من تبعية الدين العقلانية للأخلاق عدم وجود أيّ تبرير مصلحي لصالح الالتزام الديني وجب القول: إن الدين من الناحية العقلانية ليس تابعاً للأخلاق. وأما إذا كان المراد من هذه التبعيّة أن الالتزام الديني إنما يكون معقولاً إذا كان مضمون الدين ومحتواه منسجماً مع القِيَم الأخلاقية فعندها يجب القول: إن الدين من الناحية العقلانية تابعٌ للأخلاق، إلاّ أن هذه التبعية هي تبعية في الحدّ الأدنى، دون الحدّ الأقصى.
وعليه لو ارتضينا بتقدُّم العقلانية الأخلاقية على العقلانية الذاتية لن يكون لنا في إثبات عقلانية الالتزام الديني مناصٌ من القول:
أوّلاً: إن الإقبال على الدين والإيمان به من مقتضيات العقلانية الذاتية.
وثانياً: إن هذا الاقتضاء لا ينافي أيَّ واحدٍ من اقتضاءات العقلانية الأخلاقية.
وعلى هذا الأساس فإن مجرّد إقامة البرهان لصالح المقدّمة الأولى لن يكون كافياً لإثبات عقلانية الالتزام الديني. إن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الله؟» موضع اهتمام جميع الأديان التي تقول بوجود الله وهدايته التشريعية، بمعنى أنها تؤمن بوجود «الإله المشرِّع».
وتكمن أهمّية هذا السؤال بالنسبة إلى بحثنا في أن الإجابات المقدّمة عنه ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببحث العلاقة بين الدين والأخلاق.
ويمكن العثور على إجابات متعدِّدة عن هذا السؤال في الدين الإسلامي. وسوف نتعرّض هنا إلى نقد ومناقشة أهمّ هذه الإجابات. ولكنْ قبل الخوض في هذه الأجوبة لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه المسألة الهامة، وهي أن موضوع بحثنا هنا هو وجوب إطاعة أوامر «الإله المشرِّع» (إله الفقه)، وليس إطاعة أوامر الله بوصفه «شاهداً مثالياً» (إله الأخلاق)؛ لأن السؤال عن سبب وجوب إطاعة أوامر الشاهد المثالي ليست كذلك.
الجواب الأوّل: إن الجواب الأول عن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة أوامر الإله المشرِّع؟» يستند إلى المقدّمة القائلة: «يجب دفع الضرر المحتمل».
ويمكن تنسيق هذا الاستدلال على النحو التالي:
1ـ إن في إطاعة أوامر الإله المشرِّع دفعاً للضرر المحتمل.
2ـ دفع الضرر المحتمل واجبٌ.
ـ إذن تجب إطاعة أوامر الإله المشرِّع([18]).
يتمّ تبرير المقدّمة الأولى من هذا الاستدلال على أساس احتمال أو الاعتقاد بوجود حياة بعد الموت والجزاء الأخروي.
وأما المقدّمة الثانية فيقال في تبريرها: إنها من بديهيات العقل العملي.
ولكنْ بالالتفات إلى أن العقل العملي ينقسم إلى نوعين، أو أن العقل العملي يُصدر نوعين من الأحكام، يمكن التساؤل: عن أيّ نوعٍ من أنواع العقل العملي يصدر هذا الحكم؟
وبعبارةٍ أخرى: إن الحكم بـ «وجوب» دفع الضرر المحتمل إمّا أن يصدر عن العقل الأخلاقي أو عن العقل المصلحي. وفي الحالة الأولى يمكن القول: إن العقل الأخلاقي لا يُصدر مثل هذا الحكم، بمعنى أن حكم هذا العقل بدفع الضرر المحتمل ليس مطلقاً، بل هو مشروطٌ بانسجامه مع القِيَم الأخلاقية، بمعنى أن دفع الضرر المحتمل من ناحية العقلانية الأخلاقية إنما يجب في إطار القِيَم الأخلاقية، وإنّ تحمّل الضرر في مقام العمل بالوظائف الأخلاقية هو الكلفة التي يتعيَّن على الفرد دفعها لكي يتّصف بكونه أخلاقياً، ويبقى ملتزماً بالضوابط الأخلاقية.
وإن إطاعة شخصٍ من أجل دفع الضرر المحتمل إنما تجوز بشرط أن تنسجم أوامر هذا الشخص مع القِيَم الأخلاقية.
فعلى أساس هذا الاستدلال لا يمكن استنتاج وجوب إطاعة الإله المشرِّع بالمطلق، بحيث تشمل هذه القاعدة حتّى أوامره المنافية للأخلاق أيضاً.
فلو أمر الله بالظلم ـ على فرض المحال مثلاً ـ لا يقول العقل الأخلاقي: حيث يمثِّل الظلم الذي أمر به الله مقدّمة لدفع الضرر (وإنني إذا لم أظلم أحتمل الخلود في جهنم)، ودفع الضرر المحتمل واجبٌ، إذن يجب عليَّ أن أظلم الآخرين.
وأما في الحالة الثانية فيمكن القول: حيث إن المحتمل يحظى بأهمِّية كبرى فإن العقل المصلحي يحكم بوجوب دفع الضرر المحتمل.
إلاّ أن هذا الحكم إذا كان يستلزم انتهاك القيم الأخلاقية لا يعني سوى الاستسلام للقوّة والسلطة. وحيث إن حكم العقل الأخلاقي مقدَّمٌ على حكم العقل المصلحي عند التعارض بينهما يمكن الاستنتاج بأن إطاعة أوامر الإله المشرِّع ـ من حيث المجموع ـ إنّما تجب من ناحية العقل إذا كان مضمون تلك التعاليم منسجماً مع القِيَم الأخلاقية([19]).
إن التأكيد على هذا القيد ليس من أجل الشكّ في أخلاقية أوامر الإله المشرِّع، وإنما هو لقطع الطريق على إساءة استغلال الدين في انتهاك حقوق الإنسان والقِيَم الأخلاقية، والحيلولة دون التنظير للعنف والوحشية باسم الدين.
لا شَكَّ في أن صفات الله الأخلاقية تمنع من جعله وإصداره الحكم المنافي للأخلاق، إلاّ أن الحكم الشرعي إنما يمكن أن يكون أخلاقياً إذا كان منسجماً مع القِيَم الأخلاقية في ظروف زمانية ومكانية خاصّة، وهو يفقد هذه الخصوصية عند تغيُّر الأوضاع والظروف، ويتحوَّل إلى حكم منافٍ للأخلاق.
وفي هذه الحالة لا يمكن التمسّك بعموم وإطلاق الأدلة النقلية لتعميم ذلك الحكم على جميع الأزمنة والأمكنة.
ومضافاً إلى ذلك فإن انسجام الأحكام الصادرة عن الله مع القِيَم الأخلاقية لا يستوجب من تلقائه انسجام فهم وتفسير الفقهاء لذلك الحكم مع القِيَم الأخلاقية أيضاً.
ليس هناك من شكٍّ في عدالة حكم الله، إلاّ أن الفقهاء قد يُخطئون في فهم حكم الله العادل، فيحكمون استناداً إلى الأدلة النقلية بحكمٍ ظالم ينسبونه إلى الله.
ومن الواضح أنه لا يمكن نسبة مثل هذا الفهم والاستنباط الفقهي من الشريعة بذريعة عدالة الأحكام الشرعية في اللوح المحفوظ، أي لا يمكن القول بأن مسؤولية مواءمة الحكم الشرعي مع القِيَم الأخلاقية تقع على عاتق الله، وإنه قد عمل على طبق مسؤوليته، ولا يحقّ لنا أن نقيِّم فهمنا للأحكام الشرعية من خلال القِيَم الأخلاقية.
إن هذه كلمةُ حقٍّ يُراد منها الوصول إلى نتيجةٍ باطلة. صحيحٌ أن مسؤولية مواءمة الحكم الشرعي مع القِيَم الأخلاقية تقع على عاتق الله؛ إذ بيده جعل الحكم الشرعي، وهو الذي يراعي قِيَم «أخلاق التشريع» في تشريعاته، إلاّ أن مسؤولية انسجام فهم وتفسير الأفراد للأحكام الشرعية مع القِيَم الأخلاقية تقع على عاتق الأفراد أنفسهم، ولا تقع على عاتق الله؛ لأنّ فهم وتفسير الشريعة واستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها ليس من مسؤولية الله، وإنّما هو من مسؤولية الأفراد الذين يجوز عليهم الخطأ. وإنّ عليهم في مقام فهم واستنباط الأحكام الشرعية مراعاة المعايير والقِيَم المتَّبعة في «أخلاق التقنين والتشريع». وإن قِيَم أخلاق التقنين تتّحد مع قِيَم أخلاق معرفة القوانين. ولذلك يمكن من خلال معرفة قِيَم أخلاق التقنين الكشف عن الأفهام والاستنباطات الفقهية الخاطئة، والعمل على إبطالها.
الجواب الثاني: إنّ الجواب الثاني عن السؤال عن سبب وجوب إطاعة الله يسعى إلى استنتاج هذا الوجوب من قاعدة «وجوب شكر المنعم».
وتنسيق هذا الاستدلال على النحو التالي:
1ـ إن في إطاعة أوامر الله المشرِّع شكراً للمنعم.
2ـ إن شكر المنعم واجبٌ.
ـ إذن تجب إطاعة أوامر الله المشرِّع.
يبدو أن لا نقاش أو شكّ في أن إطاعة أوامر الله المشرِّع تنطوي على نوع من أداء واجب الشكر له.
إلاّ أن قاعدة «وجوب شكر المنعم» بوصفها قاعدةً عامة بحاجةٍ إلى المزيد من البحث والنقاش. فإنّنا إذا تمسَّكنا لإثبات وجوب إطاعة أوامر الله بوجوب شكر المنعم يجب علينا الالتزام بثلاث تداعيات أخرى في الحدّ الأدنى. ويمكن بيان تلك التداعيات على النحو التالي:
أوّلاً: إن وجوب شكر المنعم حكمٌ عقلي، وليس حكماً شرعياً. وإن العقل الذي يحكم بالوجوب الأخلاقي لشكر المنعم يحكم بالوجوب الأخلاقي للكثير من الأمور الأخرى أيضاً، بمعنى أن هناك الكثير من الأمور الأخرى الواجبة بحكم العقل أيضاً. وإن إدراك ومعرفة هذه الأحكام من حيث التبرير والاعتبار المعرفي تقع على نَسَقٍ واحد تقريباً.
وثانياً: إن وجوب شكر المنعم واحدٌ من بين الكثير من القواعد والقِيَم الأخلاقية. وهو يقع على مرتبةٍ واحدة بين سائر القواعد والقِيَم الأخلاقية الأخرى، ولا يتقدّم عليها أبداً، بمعنى أن هناك من القواعد والقِيَم الأخلاقية ما يتقدّم على وجوب شكر المنعم عند التعارض فيما بينها وبينه.
فمثلاً: إذا تعارض وجوب العدل وحرمة الظلم مع وجوب شكر المنعم كان التقدّم لوجوب العدل وحرمة الظلم على وجوب شكر المنعم، بمعنى أن المنعم إذا أمر بظلمٍ لا يمكن الاستناد إلى وجوب شكره لتبرير إطاعته في ذلك الأمر الظالم.
وبعبارةٍ أخرى: إن العقل الذي يقول: «إن شكر المنعم واجبٌ» هو نفسه الذي يقول: إن المنعم لا يحقّ له من الناحية الأخلاقية أن يأمر بالظلم، ولا يحقّ لنا أن نطيعه في ذلك؛ فإنّ ذلك الحقّ وهذا التكليف كلاهما مقيّدٌ بالحدود والقيود الأخلاقية، بمعنى أن المنعم لا يحقّ له أن يصدر حكماً مخالفاً للأخلاق، ولسنا مكلَّفين بإطاعة مثل هذه الأحكام والأوامر.
فمثلاً: لا يحقّ للأب أو الأمّ أن يأمرا ولدهما بقتل بريءٍ. ولو أصدرا مثل هذا الأمر لا يستطيع الولد ارتكاب القتل بذريعة وجوب إطاعة الوالدين؛ لكونها نوعاً من أداء واجب الشكر لهما، أي إنه لا يمكن تبرير «صدور» مثل هذه الأوامر والأحكام و«اتباعها» استناداً إلى وجوب شكر المنعم.
وعليه فإننا نذعن بأن شكر المنعم من التكاليف الأخلاقية. إلاّ أن هذا التكليف يقع في طول وعرض سائر التكاليف الأخلاقية الأخرى. وكما لا يحقّ لنا أن ننتهك القِيَم الأخلاقية في مقام شكر المنعم لا يحقّ لنا ذلك في مقام إطاعة أمر المنعم أيضاً.
وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بوجوب شكر المنعم، والقول تَبَعاً لذلك بوجوب إطاعة الله، والاستناد إلى ذلك في انتهاك سائر القِيَم الأخلاقية.
ولا يمكن القول بحقّ الطاعة لله بوصفه حقّاً أخلاقياً، والتعويل على هذا الحقّ في إنكار حقوق الإنسان. إن حقّ إطاعة الله وحقوق الإنسان كلاهما من الحقوق الطبيعية والأخلاقية، إلاّ أن القول بأحدهما لا يُبرَّر بإنكار الآخر. وإن الدليل الأخلاقي على وجوب إطاعة الله لا يستوجب إطاعة الأوامر اللاأخلاقية (على فرض وجود مثل هذه الأوامر). ولذلك لا يمكن لنا أن نستنبط جواز نقض القِيَم الأخلاقية من صُلْب الأخلاق.
الجواب الثالث: إن الجواب الثالث عن علّة وجوب إطاعة الله([20]) يؤكِّد على «خالقية» الله. ويمكن بيان هذا الاستدلال على النحو التالي:
1ـ إن إطاعة أوامر الله المشرِّع إطاعة لأوامر الخالق.
2ـ إن إطاعة أوامر الخالق واجبةٌ.
ـ إذن إطاعة أوامر الله المشرِّع واجبة.
وفي ما يتعلق بهذا الجواب تحتاج المقدّمة الثانية إلى مزيدٍ من النقاش والتأمّل.
فأوّلاً: يمكن القول: إن الخالقية بما هي خالقية لا تقتضي من الناحية الأخلاقية أيَّ حقٍّ للخالق، ولا تتضمّن أيَّ تكليفٍ للمخلوق، بمعنى أنه لا يوجد أيُّ أصلٍ أخلاقي غير اشتقاقي في هذا المورد. وإن جميع الحقوق والتكاليف المترتِّبة على عنوان الخالق والمخلوق اشتقاقية([21]) واستنتاجية([22]). وبعبارةٍ أخرى: إن وجوب إطاعة الخالق ليس بديهياً، وهو بحاجةٍ إلى تبريرٍ استنتاجي. وإن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الخالق؟» هو سؤالٌ مفتوح. وإذا أراد شخصٌ تبرير وجوب إطاعة الخالق من خلال صفة الخالقية سيرتكب مغالطة «الوجوب» و«الكينونة»، أي إن هذا الوصف إنما يقتضي ـ من الناحية الأخلاقية ـ حقّاً وتكليفاً إذا انضمّ إلى أوصاف وعناوين أخرى، من قبيل: «المنعم»، و«المالك».
وثانياً: إن وجوب إطاعة الخالق ليس مطلقاً، وإنما هو مشروطٌ بانسجام أوامره ونواهيه مع القِيَم الأخلاقية. ولذلك لا يمكن التذرُّع بهذا الوجوب الأخلاقي لنقض وإنكار سائر الحقوق والقِيَم والتكاليف الأخلاقية، بمعنى أنه لا يمكن الاستناد إلى وجوب إطاعة الخالق من أجل سلب الحقوق الطبيعية والفطرية للبشر، وتجاهل التكاليف المنبثقة عن هذه الحقوق. لا يحقّ لأيِّ خالقٍ أن يظلم عباده، أو أن يأذن للآخرين بظلم الآخرين من قبله، أو بالاستناد إلى حكمه.
الجواب الرابع: إن الجواب الرابع عن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة أوامر الإله المشرِّع؟» يستند إلى وصف الله بـ «المالكية»، ويسعى إلى استنتاج وجوب إطاعة الله المشرِّع من خلال «حقّ المالكية». ويمكن تنسيق هذا الاستدلال على النحو التالي:
1ـ إن الله هو المالك الحقيقي لجميع المخلوقات.
2ـ لا يجوز ـ من الناحية الأخلاقية ـ التصرُّف في ملك المالك دون إذنه.
3ـ إن رضا الله مشروطٌ بإطاعة أوامره وتعاليمه.
ـ إذن تجب إطاعة الأوامر الإلهية.
إن مقدّمات هذا الاستدلال بحاجةٍ إلى شرح وتوضيح أيضاً.
فأوّلاً: إن أيّ عمل يقوم به الفرد، وأيّ فعلٍ أو ترك يصدر عنه، إمّا أن يكون عين التصرُّف في ملك الله، أو مستلزماً لمثل هذا التصرُّف. وإن تصرُّف الإنسان في الأشياء المحيطة به وفي روحه وجسده، وتصرُّفه في الآخرين ـ ممّا يُعَدّ بأجمعه داخلاً في ملكيّة الله ـ دون إذن الله ورضاه يُعَدّ تصرُّفاً غصبياً، ولا يمكن لهذا التصرّف أن يكون جائزاً من الناحية الأخلاقية. وبعبارةٍ أخرى: إن جميع المواهب والنِّعَم الطبيعية والإمكانات التي وضعها الله تحت تصرّف الإنسان إنما هو أمانة إلهية، وإنّ أيّ تصرُّفٍ غير شرعي في هذه النعم الإلهية يعتبر خيانة للأمانة.
وثانياً: إن حقّ الملكية إجمالاً من البديهيات الأخلاقية. وإن بين هذا الحق والضرورات والمحظورات الأخلاقية المترتّبة عليه علاقة «أنطولوجية» و«ميتافيزيقية» يمكن إدراكها من طريق الشهود الأخلاقي. وإن القول بوجود مثل هذه الضرورات والمحظورات لا ينطوي على مغالطة «الوجوب» و«الكينونة». ولا فرق من هذه الناحية بين الملكية الحقيقية والملكية الاعتبارية، أو الملكية التكوينية والملكية التشريعية.
إن القول بأن بين «الكينونات» و«الوجوبات» حاجزاً منطقياً منيعاً لا يقبل الاختراق يعني مجرّد عدم إمكان استنتاج «الوجوبات» (المنطقي ـ الاستنتاجي) من «الكينونات»، بمعنى أنه لا يمكن «استنتاج» أيّ «وجوب» من أيّ «كينونة»، ولا يمكن «الاستدلال» بكلّ «كينونة» لصالح أو بضرر كلّ «وجوب». إن هذا الحاجز المنطقي إنما يمنع نوعاً خاصّاً من الاستدلال القياسي منطقياً، ولا يعني
(1) أن أيّ «كينونة» لا «تقتضي» أيّ «وجوب». كما لا يعني
(2) أن الارتباط بين «الكينونات» و«الوجوبات» ارتباطٌ اعتباري وجزافي تماماً، أو أنه يتبع المزاج والرغبة الجزافية للمعتبر.
هناك ارتباطٌ بين بعض «الكينونات» وبعض «الوجوبات». وهذا الارتباط هو من نوع الارتباط بين اللازم والملزوم، أو الترتُّب، ويتمّ إدراكه من طريق الشهود. إن هذه العلاقة الأنطولوجية والميتافيزيقية إنما تقوم بين «الوجوبات» وبعض «الكينونات، بمعنى أن «الكينونات» تنقسم إلى ذات صلةٍ وغير ذات صلة. وإن معرفة «الكينونات» ذات الصلة، وتمييزها من «الكينونات» غير ذات الصلة، إنما يكون بمساعدة الشهود الأخلاقي. وعليه لا مناص لنا هنا من الفصل بين ثلاثة أنواع من الروابط، وهي:
1ـ الارتباط المنطقي.
2ـ الارتباط الأنطولوجي (الوجودي).
3ـ الارتباط الشهودي (الارتباط المعرفي غير الاستنتاجي).
وإن نفي الارتباط المنطقي بين «الوجوبات» و«الكينونات» منسجمٌ وقابل للجمع مع الارتباط الأنطولوجي والشهودي بينهما.
فعلى سبيل المثال: إن القول بأن «كلّ شخص يجب عليه أن يتعامل مع الآخرين على أساس العدل» لا يحتوي على أيّ استدلال واستنتاج، لكي نصل بعده إلى الحديث بشأن صحّة أو سقم هذا الاستدلال أو الاستنتاج، واعتباره نوعاً من المغالطة المنطقية. وبعبارةٍ أخرى: إن وجود الحاجز المنطقي بين «الكينونة» و«الوجوب» ينسجم مع وجود الارتباط العيني والتكويني بين بعض «الكينونات» وبعض «الوجوبات»، وكذلك يتناغم مع وجود القضايا البديهية التي تعبِّر عن علاقة «الكينونة» و«الوجوب». إن هذه القضايا شهودية، ولا تحصل على تبريرها الأوّلي من الاستدلال والاستنتاج القياسي، رغم أن هذا التبرير الشهودي قد يتعزَّز أو يتمّ إضعافه من مختلف الطرق. وإن التبرير الاستنتاجي لا يُختزل في التبرير المنطقي (القياسي). إن الحاجز المنطقي هو غير الحاجز العيني والأنطولوجي، وأخصّ من الحاجز المعرفي. ولا وجود لأيِّ ملازمة بين هذه الأنواع الثلاثة من الحواجز. وعلى هذا الأساس فإن الارتباط العيني والأنطولوجي بين بعض «الكينونات» وبعض «الوجوبات»، والذي يمكن اكتشافه والتعرُّف عليه من خلال الشهود، قابلٌ للجمع والانسجام مع وجود الشرخ المنطقي بين القضايا المشتملة على «الكينونة» والقضايا المشتملة على «الوجوب» بشكلٍ كامل.
وعلى الرغم من ذلك يمكن المناقشة في هذا الاستدلال من عدّة جهات، أي إن هناك إشكالاً في التمسُّك بـ «حقّ الملكية» للمالك من أجل إثبات «وجوب إطاعة أوامر المالك بشكلٍ عامّ»، والتمسُّك تَبَعاً لذلك بملكية الله لإثبات وجوب إطاعة أوامره بشكلٍ خاصّ، وخاصّة إذا أراد الفرد القول بأن هذا الوجوب مطلقٌ، وليس خاضعاً لأيّ حدودٍ أو قيود.
فأوّلاً: كما أن للمالك حقّاً وحقوقاً تحدّ من دائرة تصرُّف المملوك وتصرّفات الآخرين في ملكه، كذلك للملوك حقّ وحقوق تحدّ من دائرة تصرُّفات المالك، وخاصّة إذا كان هذا المملوك كائناً مثل: الإنسان، يتمتَّع بهوية ومنزلة أخلاقية خاصّة. فلا يحقّ للمالك أن يتصرَّف في ملكه كما يحلو له، أو أن يبيح للآخرين مثل هذا التصرُّف في ملكه. إن حقوق المالك وحقوق المملوك تنبثق عن مصدرٍ واحد، وتحظى باعتبارٍ متكافئ، وإن القول بأحدهما وإنكار الآخر لا يحظى بأيّ دعامةٍ عقلية أو منطقية، ولا يمكن إلغاء أحدهما أو تجاهله بالاستناد إلى الآخر. إن كلاًّ من حقوق المالك وحقوق المملوك ينشآن عن «حقوق طبيعية»، ومبدأ واحد، ويتمّ إدراكهما وتبريرهما من طريقٍ واحد، ويحظيان بدعامةٍ وقاعدة فلسفية واحدة. وإن الأدلة التي نمتلكها بشأنهما تتمتَّع بقيمة واعتبار معرفي متكافئ. ولذلك فإن التفريق بين حقوق المالك وحقوق المملوك، وترجيح أحدهما على الآخر، يعتبر نوعاً من الترجيح بلا مرجِّح، ولا يمكن تبريره والدفاع عنه منطقياً.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن الله هو المالك الحقيقي لجميع الكون وعالم الوجود. وإن مالكيته لهذا العالم مطلقة.
إلاّ أن حقَّه في الملكية ليس مطلقاً؛ إذ لا يحقّ لأي مالك بالاستناد إلى حقّه في الملكية أن يمارس الظلم بحقّ مملوكه، أو أن يتخلّى للآخرين عن مثل هذا الحقّ؛ إذ لا وجود أساساً لمثل هذا الحقّ بشكلٍ مطلق، ولا يمكن تبريره وإثباته؛ فإنّ تصرّف المالك في ملكه خاضعٌ للتقييم والنقد الأخلاقي، ويتمّ تقسيمه من الناحية الأخلاقية إلى: تصرُّفٍ حسن وقبيح، ومباح وممنوع، وصائب وخاطئ.
لا يمكن لله أن يخلق كائناً ثمّ يسلبه حقّه في الحياة والمأكل والمشرب والملبس والمسكن والحرّية، أو أن يفرِّق بينه وبين الكائنات الأخرى التي تساويه من حيث الشأن والمنزلة الأخلاقية.
كما لا يمكن لله أن يخلق إنساناً ثمّ يعمل على تجريده من كرامته، أو ينتهك هذه الكرامة، بمعنى أن كرامة الإنسان تحدّ من دائرة حقّ الله في ملكه.
وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا أن نستند إلى حقّ الله في ملكه لكي نبيح له كلَّ تصرُّف أو حكم، وتبرير اتّباع ذلك الحكم على أساس ذلك.
كما لا يمكن تبرير التفريق الحقوقي بين الناس على هذا الأساس.
إنّ أهمّ شرطٍ في وجوب إطاعة أوامر المالك هو أن يكون مضمون هذه الأوامر منسجماً مع القِيَم الأخلاقية؛ لأن وجوب إطاعة المالك هو وجوب أخلاقي. ولكي يكون هذا الوجوب وجوباً أخلاقياً يجب أن لا يعمل متعلّقه على نقض تلك المعايير والموازين الأخلاقية.
وعلى هذا الأساس فإن مجرّد كون الشخص مالكاً لا يبيح له أيّ تصرُّف في مملوكه؛ فإنّ تصرّف المالك في ملكه والخالق في مخلوقه مقيَّدٌ برعاية القِيَم الأخلاقية. ولا يحقّ لأيّ مالكٍ أن يتصرَّف في ملكه تصرُّفاً يؤدّي إلى سلب حقوق الآخرين، أو الإضرار بهم. وإن القواعد الأخلاقية قد وجدت في الأساس كي تحدّ من دائرة تصرُّف الكائنات العاقلة والمختارة والمسؤولة على المستوى الأخلاقي، حتّى إذا كان هذا التصرُّف داخلاً في أملاك تلك الكائنات. وإن السؤال عن سبب إطاعة أوامر المالك أو الخالق بشكلٍ مطلق سؤالٌ مفتوح. وبعبارةٍ أخرى: إن حق إطاعة الله على العباد ليس مطلقاً، بل هو مشروطٌ بأن يكون مضمون الأمر والنهي الإلهي منسجماً مع القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية.
وثانياً: إن تنظيم العلاقة بين الله والإنسان على أساس نموذج المالك والمملوك لا ينسجم مع شأن الله ومنزلته، ولا مع شأن الإنسان ومرتبته.
إن هذا النموذج لا يتناسب مع شأن الله ومنزلته؛ لأنّ الله بالإضافة إلى المالكية يتّصف بالعديد من الصفات الأخرى التي يكون لها دخلٌ في تنظيم علاقته بالإنسان، ولا بُدَّ من أخذها بنظر الاعتبار أيضاً. إن قيمة وأهمّية كسب مرضاة الله ليست لمجرّد كونه مالكاً، وإن أوامره لا تنشأ من حيثيّة مالكيته فقط، ولذلك فإنّ وجوب إطاعة أوامره لا يدور مدار مالكيته، فحتّى لو لم يكن الله مالكاً يكون حقّ وجوب إطاعته باقياً.
كما يأتي عدم انسجام هذا النموذج مع إنسانية الإنسان؛ من حيث إن كرامة الإنسان من ذاتيّاته، وإن هذه الكرامة هي التي ترفع شأن الإنسان إلى مقام الخلافة الإلهية. وعليه فإن الإنسان في الوقت الذي يُعَدّ مملوكاً لله هو خليفتُه أيضاً. وإن هذه الخصوصية تستدعي شأناً ومنزلة خاصّة لا بُدَّ من أخذها بنظر الاعتبار في تنظيم العلاقة بين الله والإنسان. وعلى هذا الأساس فإن عنوان «المالكية» و«المملوكية» ليس مرآةً عاكسة لجميع صفات الله وصفات الإنسان، ولا حتّى أبرز صفات الله والإنسان. وإن تنظيم العلاقة بين الله والإنسان على أساس هذين العنوانين يستلزم في الحقيقة تجاهل سائر الخصائص المرتبطة على المستوى الأخلاقي، والتي يجب أخذها بنظر الاعتبار في تنظيم هذه العلاقة.
كما يصدق هذا المعنى بشأن «ولاية» الله أيضاً؛ فإنّ ولاية الله مقيَّدة لبِّياً بالقِيَم الأخلاقية أيضاً. ولذلك لا يمكن تبرير أيُّ حكمٍ فقهي غير أخلاقي أو مخالف للأخلاق، وغير منسجم مع الكرامة الإنسانية، من خلال التمسُّك بإطلاق الولاية الإلهية.
وعلى هذا الأساس هناك غموضٌ بشأن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الله؟».
فأوّلاً: لا بُدَّ من تحديد من هو الإله المقصود في هذا السؤال، ثمّ السؤال عن سبب وجوب إطاعته. وفي الحقيقة إننا بَدَلاً من هذا السؤال الواحد نواجه العديد من الأسئلة التي يمكن إجمالها كما يلي:
1ـ «لماذا تجب إطاعة الله بوصفه شاهداً مثالياً؟».
2ـ «لماذا تجب إطاعة الإله المشرِّع؟».
3ـ «لماذا تجب إطاعة الإله الخالق؟».
4ـ «لماذا تجب إطاعة الإله المنعم؟».
5ـ «لماذا تجب إطاعة الإله المالك؟».
إذا كان الإله مورد البحث هنا هو «الشاهد المثالي» كان الجواب عن هذا السؤال واضحاً وبديهياً؛ لأن وجوب إطاعة الشاهد المثالي يُعَدّ واحداً من مقتضيات العقلانية في باب الأخلاق. وإن السؤال القائل: «لماذا تجب إطاعة الشاهد المثالي؟» يعادل من الناحية المنطقية السؤال القائل: «لماذا يجب على المرء أن يكون أخلاقياً؟». وبعبارةٍ أخرى: إن القضية القائلة: «تجب إطاعة الشاهد المثالي» قضية تحليلية، وإن «وجوب الإطاعة» هنا يُستنتج من تحليل وتعريف مفهوم الشاهد المثالي، وهو من اللوازم والعوارض الذاتية لذلك المفهوم. إن وصف الشاهد المثالي لا يتمتَّع بحضور واسع في ثقافتنا، رغم أنّه بالإمكان استنباطه من الكثير من آيات القرآن الكريم، حيث تمّ التأكيد في القرآن الكريم كثيراً على هذا المعنى، وبتعبيراتٍ متفاوتة. وسوف نبحث هذا الوصف بالتفصيل في دراسة لاحقة، حيث سنُبرز أهمّيته في حسم النزاع بين الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية. والذي يمكن قوله هنا هو أن هذا الوصف متقدّمٌ على سائر الصفات الإلهية الأخرى، من قبيل: «الخالقية»، و«المالكية»، و«المشرِّعية»، بمعنى أن وصف الشاهد المثالي يحدّ من الاقتضاءات المعيارية والعملية لسائر الصفات الإلهية الأخرى، وأن حكم الله بوصفه شاهداً مثالياً ـ والذي هو الحكم الأخلاقي ـ متقدّمٌ على الحكم الصادر عنه بوصفه خالقاً أو مالكاً أو مشرِّعاً، وأن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية هي التي تعيِّن وتحدِّد رقعة ومساحة خالقية الله ومالكيته وشارعيته، ودائرة تصرُّفاته التكوينية والتشريعية.
وبعبارةٍ أخرى: لو التزمنا بأن الله شاهدٌ مثالي لن يكون لنا مناصٌ من تقسيم أحكامه وأوامره إلى قسمين:
القسم الأوّل من الأحكام والأوامر الإلهية يشتمل على ذات الضرورات والمحظورات التي تنشأ عن علمه أو إرادته بوصفه شاهداً مثالياً، وتعبِّر عن المسائل الأخلاقية دون المصلحية.
إن هذه الأحكام هي أحكامٌ «إرشادية»، وليست «تعبّدية»، أو «مولويّة».
أما القسم الثاني من الأحكام والأوامر الإلهية فهي التي تنبثق عن إرادته بوصفه خالقاً أو مشرِّعاً أو مالكاً. وقد تكون تابعةً للمصالح والمفاسد الغيبية أو لا تكون كذلك، بمعنى أن الله ليس ملزماً بإقامة أحكامه الشرعية على المصالح والمفاسد الغيبية، وإن المصالح والمفاسد الغيبية لا تضيِّق من دائرة حقّ الله في جعل الأحكام، أي إن الأمر لا يقوم على استحالة أن يجعل الله حكماً شرعياً إلزامياً، إلاّ إذا كانت في البين مصلحةٌ أو مفسدة غيبية.
وبطبيعة الحال فإن موافقة أو مخالفة حكم الله وإرادته يشتمل على آثار وتداعيات إيجابية وسلبية، دنيوية وأخروية، إلاّ أن الآثار المترتِّبة على موافقة ومخالفة أحكام الله وأوامره ليست بالضرورة ملاك وعلّة جعل هذه الأحكام، وصدور تلك الأوامر.
أما القسم الثاني من الأحكام والأوامر الإلهية فهو الأحكام التعبُّدية والمولويّة. وهذه الأحكام تنقسم إلى قسمين: 1ـ «تأسيسيّة؛ 2ـ «إمضائية». وكل واحد من هذين القسمين ينقسم بدوره إلى: 1ـ «ثابت»؛ 2ـ «متغيِّر».
يمكن أن تكون لله أحكام تعبّدية وتأسيسية ثابتة أو متغيِّرة. كما يمكنه أن يُمضي ما عليه مختلف الشعوب والأمم من التقاليد والأعراف والسِّيَر والاعتبارات السائدة بينهم.
وإنّ تمييز الأحكام الثابتة من الأحكام المتغيِّرة رهنٌ بالفصل بين الظرف والمظروف، أو فصل الدين ما وراء التاريخي والمطلق عن الدين التاريخي، والذي يتمّ تطبيقه على الظروف والأوضاع والأحوال الخاصّة، وبحاجةٍ إلى التفسير اللغوي للنصوص الدينية. وقد تعرَّضنا لهذا الأمر بالتفصيل في كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية).
أما القسم الأول من أوامر وأحكام الله فهي ليست مولويّة وتعبّدية. وإن طريق معرفتها هو الكشف عن حكم الشاهد المثالي، من خلال الرجوع إلى عقل وعُرْف العقلاء. وعلى أيّ حالٍ، فإنّ هناك مسألة ثابتة ومسلَّمة، وهي أن إرادة الله بوصفه شاهداً مثالياً (إله الأخلاق) مقدَّمٌ على إرادته بوصفه خالقاً أو مشرِّعاً أو مالكاً (إله الفقه)، بمعنى أن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية تعيِّن وتحدِّد مساحة ودائرة الشريعة في صُلْب الواقع واللوح المحفوظ، وليس هناك في الشرع حكمٌ يخالف القِيَم الأخلاقية، رغم وجود الكثير من موارد معارضة القِيَم الأخلاقية في ما يتعلَّق بفهم وتفسير المؤمنين للشريعة. وعليه يمكن القول: إن وجوب إطاعة أوامر إله الأخلاق مطلق، في حين أن وجوب إطاعة أوامر إله الفقه ليس مطلقاً، بل هو مقيّد بانسجام تلك الأوامر مع القِيَم الأخلاقية، أو بعبارةٍ أخرى: إنه مقيّدٌ بأن تكون الأوامر منسجمة مع أوامر إله الأخلاق.
ومن الضروري هنا التأكيد على هذه المسألة، وهي أن بحثنا لا يدور حول السؤال القائل: «هل تجب إطاعة الإله الخالق أو المالك أو الشارع أو المنعم أو لا؟»، بل يدور حول:
1ـ ما هو المبنى أو الدعامة التي تبرِّر وجوب إطاعة الإله الخالق والمالك والمنعم والمشرِّع؟
2ـ ما هي اللوازم والتداعيات المترتِّبة على هذا المبنى، والدعامة التبريرية لمعرفة الأحكام الشرعية؟
3ـ ما هو أسلوب معرفة أوامر الإله الخالق والمالك والمنعم والمشرِّع؟
أي إن البحث يدور حول:
1ـ ما هي الأشياء التي أمر بها الإله المشرِّع؟ وما هي الأشياء التي نهى عنها؟
2ـ ما هو الأسلوب الصحيح لتفسير النصوص الدينية، والمنهج الصائب لفهم الشريعة؟
وإن النتيجة التي توصَّلنا إليها هي أن وجوب إطاعة الله المشرِّع يمكن تبريره من الزاوية الأخلاقية. كما يمكن تبريره من الزاوية المصلحية. بمعنى أن هذا الوجوب ينسجم مع معايير العقلانية الأخلاقية، كما ينسجم مع معايير العقلانية الأنويّة. ولكنْ حيث إن حكم العقل الأخلاقي مقدّمٌ على حكم العقل الأنوي والمصلحي فإن وجوب إطاعة الإله المشرِّع إنما يمكن تبريره والدفاع عنه عقلانياً إذا كانت الأحكام الشرعية منسجمة مع القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية. وفي غير هذه الصورة لن يكون المؤمنون ملزمين بالعمل على طبق هذه الأحكام، بل سيكونون مسؤولين إذا عملوا على طبق هذه الأحكام، ويمكن مؤاخذتهم على ذلك، وسيكونون مستحقّين للعذاب والعقاب. وعلى هذا لا يمكن تبرير أيّ سلوكٍ غير أخلاقي لمجرّد الإحساس بالتكليف الشرعي. وإن الذي يقول: «إذا شعرتُ بالتكليف فإني سأهتك عرض الناس» لن يكون من الأخلاق في شيءٍ.
5ـ تبعيّة الدين النفسية للأخلاق
إن تبعيّة الدين النفسية للأخلاق تعني أن دوافع البشر نحو الدين والإيمان به، واختيار النموذج الديني للحياة، واتّباع التعاليم الدينية، هي مجرّد دوافع أخلاقية حصرية، أو يجب أن تكون كذلك.
هناك الكثير من الدوافع المختلفة والمتنوِّعة التي تدفع الناس إلى اعتناق الدين أو الإعراض عنه. وإن هذه الدوافع تنقسم إلى: دوافع «معقولة» و«غير معقولة»، أو «عقلانية» و«غير عقلانية».
كما تنقسم الدوافع العقلانية بدورها إلى: 1ـ دوافع عقلانية «أخلاقية»؛ 2ـ دوافع عقلانية «مصلحية».
لو كان الفرد عاقلاً فإنه لا محالة سيختار لأمره دوافع عقلانية. وكذلك الحال لو كان عاقلاً بالمقدار الكافي، حيث سينشد لنفسه دوافع أخلاقية حتماً.
وكما رأينا فإن العقلانية العملية تنقسم إلى نوعين: 1ـ عقلانية أخلاقية؛ 2ـ عقلانية نفعية. من هنا يمكن لدوافع الإنسان في الاتّجاه إلى الدين أن تكون دوافع عقلانية، وتكون في الوقت نفسه دوافع مصلحية، ولا تعارض الأخلاق بالضرورة. وبعبارةٍ أخرى: إن التبرير العقلاني أعمّ من التبرير الأخلاقي. ولذلك فإن الدوافع المنبثقة عن العقل والعقلانية لا تُختزل في الدوافع الأخلاقية.
وقبل مواصلة البحث لا بُدَّ من الالتفات إلى أن الموضوع مورد البحث هنا ليس في الدوافع الفعلية للإنسان في ما يتعلَّق بالدين؛ فكما قلنا: إن الناس يعتنقون الدين أو يعرضون عنه للكثير من الدوافع المختلفة والمتنوِّعة. وإن الكشف عن هذه الدوافع وتحليلها ودراستها يرتبط بعلم النفس الديني، أو علم الاجتماع الديني، أو فلسفة الدين، ولا يرتبط بفلسفة الأخلاق. وعلى أيّ حالٍ فإن السؤال عن الدوافع الفعلية للناس في الاتجاه إلى الدين هو سؤالٌ «توصيفي»، وليس سؤالاً «معيارياً».
إلاّ أن الذي ننشده هنا هو:
1ـ ما هي الدوافع التي يجب أن ينطلق منها الناس في توجُّههم إلى الدين؟
2ـ هل الدافع الوحيد المعقول والمبرّر في التوجّه إلى الدين واعتناقه هو الدافع الأخلاقي فقط؟
وهذه الأسئلة هي أسئلةٌ تقييمية([23]) ومعيارية([24])، وليست أسئلةً توصيفية([25]).
والجواب عن السؤال الأول هو: يجب على الإنسان أن يقبل على الدين منطلقاً من الدوافع العقلانية، وليس بدوافع غير عقلانية.
ولكنْ؛ حيث تنقسم العقلانية إلى نوعين، وهما: العقلانية في حدّها الأقصى؛ والعقلانية في حدّها الأدنى، فإن الدوافع العقلانية تنقسم بدورها إلى: دوافع عقلانية في الحدّ الأقصى؛ ودوافع عقلانية في الحدّ الأدنى أيضاً.
أما العقلانية في «الحدّ الأدنى» أو «المسوّغة» فهي العقلانية التي على أساسها يكون الشيء مباحاً وجائزاً. إن الدافع إنّما يكون عقلانياً هنا إذا لم ينقض معايير العقلانية فقط.
وأما العقلانية في «الحدّ الأقصى» أو «المؤيّدة» فهي العقلانية التي يكون الشيء على أساسها واجباً. إن الدافع إنّما يكون عقلانياً هنا إذا كان منبثقاً عن المعايير العقلانية فقط، ولا يكفي هنا مجرّد الانسجام والتناغم والمطابقة مع معايير العقلانية لكي يُعتبر الدافع أو يكون عقلانياً.
أما الجواب عن السؤال الثاني فهو النفي؛ إذ كما رأينا فإن العقلانية العملية تنقسم إلى نوعين: عقلانية عملية أخلاقية؛ وعقلانية عملية مصلحية. وإن الدافع في الرجوع إلى الدين ـ حتّى إذا استحال أن يكون دينياً ـ يمكن أن يكون مصلحياً، وهذا المقدار يكفي لمعقوليته.
إن الدافع العقلاني أعمّ من الدافع الأخلاقي، وإن الاتجاه المصلحي والنفعي إلى الدين جائز ومبرَّر ومقبول من الناحية العقلانية، ولكنْ بشرط أن ينسجم مع الموازين الأخلاقية. وبالتعبير الديني: إن إطاعة أوامر الله وتعاليمه خوفاً من عذابه، وشوقاً إلى ثوابه، يحظى بالقبول من قبل الله، ويمكن تبريره على أساس معايير العقلانية المصلحية.
إن التديُّن المصلحي هو من أكثر أنواع التديُّن شيوعاً وانتشاراً. وإنّ هذا النوع من التديُّن وإنْ كان يشكو من الافتقار إلى التبرير الأخلاقي الإيجابي، إلاّ أنه لا يتنافى في حدِّ ذاته مع القِيَم الأخلاقية، ويمكن تبريره والدفاع عنه، بشرط أن لا يؤدي إلى نقض القِيَم الأخلاقية. كما يمكن أن (يشتمل على التبرير الأخلاقي السلبي) أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الدافع يتوفَّر على الحدّ الأدنى من الشروط التي يحتاج إليها الدافع ليكون أخلاقياً ومعقولاً.
وعليه فإننا حتّى في حقل الدوافع لا مناص لنا من الفصل بين الأخلاق في حدّها الأدنى والأخلاق في حدّها الأقصى([26]).
إن الدوافع يمكن أن تكون أخلاقيّة بأحد معنيين:
فمن ناحية الأخلاق في الحدّ الأدنى إنما يكون الدافع أخلاقياً إذا كان ذلك الدافع مباحاً وجائزاً من الناحية الأخلاقية، ولكي يكون الدافع مباحاً وجائزاً من الناحية الأخلاقية يكفي مجرَّد أن لا يكون مخالفاً للمعايير الأخلاقية، بمعنى أنه من ناحية الأخلاق في الحدّ الأدنى يعتبر مجرَّد عدم نقض الشخص الفاعل لأيّ قيمةٍ أو معيار أخلاقي في امتلاكه للدافع كافياً في اعتبار دافعه أخلاقياً.
وأما من ناحية الأخلاق في الحدّ الأقصى فإنما يكون الدافع أخلاقياً إذا كان منبثقاً عن إدراك واعتناق القِيَم الأخلاقية، وأن يكون حسناً وواجباً من الناحية الأخلاقية. وفي هذه الحالة لن يكون المحرِّك للفاعل ودفعه نحو العمل غير القِيَم الأخلاقية لذلك العمل، خلافاً للمورد السابق الذي كان محرِّك الفاعل فيه هو المصالح والمفاسد والمنافع والمضارّ التي يشتمل عليها ذلك العمل لذات الفاعل.
وعلى هذا الأساس فإن الدافع الأخلاقي بالمعنى الأول يتوقَّف على امتلاك التبرير الأخلاقي السلبي للعمل، وبالمعنى الثاني يتوقَّف على امتلاك التبرير الأخلاقي الإيجابي لذلك العمل.
وإن الدافع الأخلاقي بالمعنى الأول من مقتضيات «العقلانية الأخلاقية في الحدّ الأدنى»، وبالمعنى الثاني من مقتضيات «العقلانية الأخلاقية في الحدّ الأقصى».
وحصيلة القول: إننا في ما يتعلَّق بتبعية الدين النفسية للأخلاق يجب علينا القول بالتفصيل.
فإذا كان المراد هو أن دافع المؤمنين في الالتزام الديني لكي يكون عقلانياً يجب أن ينبثق بالضرورة عن القِيَم الأخلاقية وجب القول: إن الدين ليس تابعاً للأخلاق من هذه الناحية؛ إذ يمكن لدافع الالتزام الديني أن يكون دافعاً مصلحياً وأنوياً، وفي الوقت نفسه عقلانياً. وإنّ مثل هذا الدافع لا يكون في حدِّ ذاته مستلزماً لنقض القِيَم الأخلاقية. ولذلك فإنّ الالتزام الديني المنبثق عن العقلانية الأنوية أو المصلحية ينطوي على الحدّ الأدنى من العقلانية اللازمة، بشرط عدم مخالفته للأخلاقيات. وهذا يعني استقلال الدين النفسي عن الأخلاق.
وأما إذا كان المراد هو أن دافع المؤمنين في الالتزام الديني لكي يكون عقلياً يجب أن لا يخالف القِيَم الأخلاقية ففي مثل هذه الحالة يجب القول بأن الدين من الناحية النفسية تابعٌ للأخلاق؛ لأن الدافع المخالف للأخلاق دافعٌ مغاير للعقلانية، ولا يكون معقولاً.
6ـ كلمةٌ أخيرة
بحثنا في هذا الفصل أنواع تبعيّة الدين للأخلاق. وقلنا بأننا لا نستطيع أن نصدر حكماً كلّياً وعامّاً في هذا الشأن؛ فإن بعض المفاهيم الدينية من الناحية المفهومية واللغوية غير تابعة للأخلاق، وليس للمسائل الأخلاقية دورٌ فريد في تعريف هذه المفاهيم؛ إذ يمكن تعريفها دون الحاجة إلى الرجوع والتمسّك بالمفاهيم الأخلاقية.
وعلى جميع الأحوال فإن تعريف الله في الأديان الإبراهيمية يشتمل على بعض المفاهيم الأخلاقية.
وكذلك هناك مفاهيم دينيّة هامّة أخرى مفعمةٌ بالمضامين الأخلاقية.
ويمكن لهذا الأمر أن يكون شاهداً على تبعيّة الدين اللغوية للأخلاق في خصوص هذه الموارد.
وأما في ما يتعلق بتبعية الدين الأنطولوجية للأخلاق فقد ذكرنا أن الدين بالمعنى العام للكلمة ـ للعديد من الأدلة ـ تابعٌ للأخلاق. إلاّ أن الدين بالمعنى الخاص للكلمة (الشريعة) فهو من بعض النواحي تابعٌ للأخلاق، ومن بعض النواحي الأخرى غير تابع للأخلاق. وإن استقلال وتبعيّة الشريعة الأنطولوجية للأخلاق تقوم على تفكيكين هامين، وهما: تفكيك الأخلاق في حدّها الأقصى عن الأخلاق في حدّها الأدنى؛ وتفكيك التبعيّة الإيجابية عن التبعيّة السلبية.
إن الأخلاق في حدّها الأقصى في هذا المقام تعني أن الأحكام الشرعية تنبثق عن القِيَم الأخلاقية. وإن الأخلاق في حدّها الأدنى في هذا المقام تعني أن الأحكام الشرعية لا تتنافى مع القِيَم الأخلاقية، ولا تنقضها.
إن الأخلاق في الحدّ الأقصى تقتضي نشوء الأحكام الشرعية عن القِيَم الأخلاقية، في حين أن الأخلاق في الحدّ الأدنى تقتضي مجرَّد عدم مخالفة الأحكام الشرعية للقِيَم الأخلاقية.
إن التبعيّة الإيجابية هنا تعني أن بين الأحكام الشرعية والقِيَم الأخلاقية علاقة إيجابية وعينية وتكوينية (علية ومعلولية). وإن التبعيّة السلبية تعني أن القِيَم الأخلاقية تعمل على مجرّد رسم الحدود النهائية للشريعة، وتحدِّثنا عن مجرّد الحكم الذي لا يوجد في الشريعة، ولا يمكن له أن يوجد فيها، ولكنّها لا تحدِّثنا عمّا هو الحكم الموجود في الشريعة، والذي يجب أن يكون فيها.
وعلى هذا الأساس لو أردنا من «الأخلاق» الأخلاق في حدّها الأقصى، ومن «التبعيّة» التبعيّة الإيجابية، وجب علينا القول بأن الشريعة غير تابعةٍ للأخلاق.
وأما إذا كان مرادنا من «الأخلاق» الأخلاق في حدّها الأدنى، ومن «التبعيّة» هي التبعيّة السلبية، وجب علينا القول بأن الشريعة تابعة للأخلاق.
وإن الأخلاق بهذا المعنى متقدّمةٌ على الدين والشريعة. وإن هذا التقدُّم هو تقدّم «أنطولوجي» و«ميتافيزيقي». إلاّ أن تقدُّم الأخلاق الأنطولوجي على الدين يؤدّي بالمعايير الأخلاقية إلى أن تعمل في مقام معرفة واستنباط أحكام الشرع من النصوص الدينية على شكل المعايير المبطلة، بمعنى أن تبعية الدين الأنطولوجية للأخلاق بالمعنى المتقدّم تستلزم تبعيّة الدين «المعرفيّة» للأخلاق، وتؤدّي إلى «الإمكان الأخلاقي على إبطال الاستنباط الفقهي». وبعبارةٍ أخرى: إن معايير وقِيَم أخلاق السلوك تشكِّل جزءاً من معايير وقِيَم أخلاق التفكير والبحث الفقهي.
إن فصل الأخلاق في حدّها الأقصى عن الأخلاق في حدّها الأدنى، وفصل التبعيّة الإيجابية عن التبعيّة السلبية، يمنحنا القدرة على الحكم بشأن تبعيّة الدين النفسية والعقلانية للأخلاق أيضاً.
والنتيجة التي توصّلنا إليها بشأن هذين الموردين هي أننا لو أردنا من «الأخلاق» الأخلاق في حدّها الأقصى، ومن «التبعيّة» التبعيّة الإيجابية، يجب علينا القول بأن الدين من الناحية العقلانية والنفسية ليس تابعاً للأخلاق؛ إذ يمكن تبرير الالتزام الديني على أساس العقلانية المصلحية. كما يمكن لدوافع الناس العقلانية في اتباع الدين أن تكون دوافع مصلحية أيضاً. وعليه فإن التبرير العقلاني للالتزام الديني والمحرِّك العقلاني للتديُّن لا ينبثق عن الأخلاق ضرورةً، وإنْ كان بالإمكان تبرير التديُّن على أساس القِيَم الأخلاقية أيضاً. وإنّ مثل هذا التبرير هو المحرِّك للأحرار في اعتناق الدين والتديُّن.
وأما إذا كان مرادنا من «الأخلاق» الأخلاق في حدّها الأدنى، ومن «التبعيّة» التبعيّة السلبية، فيجب القول: إن الدين تابعٌ للأخلاق من الناحية العقلانية، ومن الناحية النفسية أيضاً، بمعنى أن الناس إنّما يحقّ لهم اتّباع التعاليم الدينية إذا كانت منسجمة مع القِيَم الأخلاقية، وإلاّ لن يكون لديهم دافعٌ عقلاني لتبرير هذا العمل. والدليل على هذا القول هو تقدُّم العقل والعقلانية الأخلاقية على العقل والعقلانية المصلحية.
الهوامش
(*)أحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) يتمّ بيان هذا التفكيك في فلسفة الغرب في اطار التفاوت بين الـ (concept) و(conception) أو التفاوت بين الـ (concept) والإصلاح العقلاني لذلك المفهوم (rational reconstruction). انظر في هذا الشأن:
– Rawls, J. (1999) A Theory of Justice (Oxford: Oxford University Press). Revisied edition. First published in 1971.
([2]) في ما يتعلق بـ (التصوّرات التفصيلية) أميل إلى الشمولية (holism)، أو الترابط المنطقي (coherentism). وفي ما يتعلق بـ (التصوّرات الإجمالية) أميل إلى الأصولية المعتدلة (moderate foundationlim).
([3]) نهج البلاغة، قصار الكلم، الحكمة رقم 410.
([4]) يعتبر (الإيمان) و(العمل الصالح) في القرآن شرطاً للفلاح. وعُدّ المؤمنون من اليهود والنصارى والصابئين إذا كان عملهم صالحاً من المفلحين. في حين لا شَكَّ في أنهم غير متمسكين بالفقه الإسلامي. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 62)، وقال أيضاً: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (المائدة: 83).
([5]) سندرك فيما بعد أن الأخلاق تمثّل شرطاً ضرورياً في فهم رسالة الدين بشكلٍ صحيح.
([6]) لو ادعى شخصٌ بأن القِيَم والضرورات والمحظورات الأخلاقية لا يمكن التعرُّف عليها إلاّ من خلال الرجوع إلى (الشاهد المثالي)، وقلنا بأن الله هو المثل الأعلى للشاهد المثالي، أمكن له القول بأن الأحكام (الإرشادية) لله، أي الأحكام التي يصدرها بوصفه (شاهداً مثالياً)، مقدّمة على أحكامه (المولوية)، أي الأحكام التي يصدرها بوصفه (شارعاً) و(مولىً) و(مقنّناً).
([7]) ويبرزون ذلك ضمن القاعدة الشهيرة التي تقول: (كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع).
([8]) طبقاً لهذه الرؤية تنشأ قِيَم الأخلاق الاجتماعية، من خلال اتّفاق العقلاء ضمن مماكساتهم حول المصالح الشخصية.
([9]) إن تركيب قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وقاعدة الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، واحدةٌ من القراءات المعتدلة لنظرية الأمر الإلهي. انظر في هذا الشأن:
– Berg, J. (1991) “How Could Ethics Depend on Religion?” in Peter Singer (ed.) A Companion to Ethics, (Oxford: Blackwell Publishers), p. 526.
([10]) في ما يتعلق بنقد ودراسة هذه الرؤية بالتفصيل انظر كتابنا (أخلاق المعرفة الدينية)، الفصل الأول، الفقرة رقم (1/2/2/1)، و(1/2/2/2)، والفصل الثالث، الفقرة رقم (3/7).
([11]) يبدو أن السعي إلى عقلنة وهضم الادّعاء الثقيل القائل بأن جميع أحكام الشريعة ثابتة وخالدة قد حمل الفقهاء على القول بأن جميع الأحكام الشرعية قاطبةً، ومن دون استثناء، تنشأ عن المصالح والمفاسد الغيبية.
إلاّ أن نفس هذا الادّعاء يقوم على تفسير وفهم خاطئ لخلود الدين والشريعة.
ومن وجهة نظري لا بُدَّ في هذا المورد من الفصل بين الرؤية في حدّها الأدنى والرؤية في حدّها الأقصى. يمكن الادّعاء بشكلٍ مبرّر وقابل للدفاع بأن الأحكام الشرعية يجب أن لا تنقض المصالح والمفاسد الغيية والأخروية؛ إذ إن حياة الآخرة من الزاوية الدينية مقدّمة على حياة الدنيا، ولكنْ لا يمكن الادعاء بأن الأحكام الشرعية يجب أن تنشأ عن المصالح والمفاسد الغيبية. إن وجود المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية وعلم الله بهذه المصالح والمفاسد لا يؤيِّد الادعاء القائل بأن جميع الأحكام الشرعية قد نشأت عن المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية. إن النتيجة المنطقية التي يمكن استنتاجها من هذه المقدّمات هي مجرّد أن الأحكام الشرعية لا تنقض المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية، وإن بعض هذه الأحكام تنشأ عن المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية، وليس كلّها.
وعليه فإن دعوى أن حكماً خاصاً ينشأ عن مصلحة ومفسدة غيبية سوف يحتاج إلى دليلٍ خاص. وإن مجرّد احتمال أن حكماً واحداً ينشأ عن المصالح والمفاسد الغيبية لا يصحِّح تعميمه على جميع الأزمنة والأمكنة؛ لأن مثل هذا التعميم لا ينسجم مع العلم الإجمالي بوجود أحكام لا تنشأ عن المصالح والمفاسد الأخروية، والتي تكون مؤقتة ومختصة بزمنٍ ومكان خاصّ. يمكن القول: في الموارد التي توجد فيها مصلحة أو مفسدة ملزمة لا يعلم بها العقل البشري العادي يجب على الله؛ من باب اللطف، أن يرشد الناس بشكلٍ من الأشكال إلى وجود تلك المصلحة أو المفسدة. وإن أحد تلك الأشكال هو جعل الحكم الإلزامي الشرعي. إلاّ أن عكس ذلك لا يكون صادقاً، بمعنى أنه لا يمكن الادّعاء بأن جميع الأحكام الشرعية الإلزامية لا تنشأ عن مثل هذه المصالح والمفاسد. نرى أن المصالح والمفاسد الأخروية للأعمال، وبتبعها الثواب والعقاب، تابعة بشكلٍ كامل لنيّة الفاعل وصدقه وجدِّيته أو عدم صدقه وعدم جديّته في مقام تشخيص التكليف والعمل به. وهذا هو مضمون كلام النبي الأكرم(ص) إذ يقول: «إنما الأعمال بالنيّات» (بحار الأنوار 67: 210). وقد ذكرت الشرح التفصيلي لهذا الادّعاء في كتاب (أخلاق المعرفة الدينية)، الفصل الثالث، الفقرة: (3/4/5).
([14]) لا يكفي مجرّد الأحقّية النظرية للتعاليم الدينية ـ بمعنى صرف القابلية على تبريرها على أساس المعايير العقلانية النظرية ـ لتبرير التوجُّه الأوّلي للإنسان نحو الدين، وخلق الدافع عنده إلى ذلك. وإن الإنسان في إقباله على الدين بحاجةٍ إلى التبرير والدوافع الأخلاقية أو المصلحية أيضاً، حتّى تبرّر له معرفة الدين والإيمان به من ناحية العقل العملي، وتدفعه نحو القيام بهذا العمل. إن كلاًّ من المعرفة والإيمان من الأفعال الاختيارية، والتي تكون عرضةً لتقييم العقل العملي، وتكون محكومةً لضوابط ومعايير العقل العملي. وبعبارةٍ أخرى: إن بحثنا لا يدور حول معقولية العقائد الدينية، وإنما يدور حول معقولية الإيمان والتديُّن والسلوك الديني. وجميع هذه الأمور الثلاثة تندرج تحت مقولة العمل، ولذلك فإنها بحاجةٍ إلى تبريرٍ على أساس معايير وضوابط العقلانية العملية.
([17]) إن للعقلانية المصلحية، مثل العقلانية الأخلاقية، مرتبتين: مرتبة في الحدّ الأدنى؛ ومرتبة في الحدّ الأقصى. إلا أننا نحجم عن ذكر هذا التقسيم هنا تجنُّباً لتعقيد البحث. ومن الجدير أن نعلم أن تقسيم مراتب العقلانية إلى الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى لا يختص بالعقلانية العملية، بل هو سائد حتّى في دائرة العقلانية النظرية أيضاً.
([18]) وفي الكتب الكلامية يذكر «وجوب دفع الضرر المحتمل» عادةً كدليل لإثبات وجوب المعرفة الدينية. ولكنْ يمكن توظيفه بوصفه دليلاً على إثبات وجوب إطاعة الله أيضاً. وقد استند بعض فلاسفة الغرب في إثبات وجوب إطاعة الله بقدرته على العقوبة، انظر مثلاً:
– Geach, P. (1994) God and the Soul (Bristol: Thoemmes Press). P. 127.
ولنقد أدلة غيتش انظر:
– Phillips, D. Z. (1970) Death and Immortality, (London: Macmilan). P. 39.
([19]) إن هذا القيد قيدٌ لبّي، وليس لفظيّاً؛ فإن وجوب إطاعة الله من الناحية اللفظية مطلق، إلاّ أن هذا الإطلاق لا يعني أن إطاعة أوامر الله واجبة حتّى إذا أمر الله بفعل يتنافى مع الأخلاق. وإن هذا الإطلاق إنما يعني حصول ذلك القيد اللبّي دائماً.
([20]) يعمد بعض الفلاسفة والمتكلِّمين الغربيين إلى تبرير وجوب إطاعة الله في ظل اتّصافه بالخالقية أيضاً. انظر على سبيل المثال، دون الحصر:
– Swinburne, R. G. (1993) The Coherence of Theism (Oxford: Oxford University Press). P. 12 – 211.
([26]) يمكن بيان الاختلاف بين الأخلاق في حدّها الأدنى والأخلاق في حدّها الأقصى من خلال التشبيه التالي: إن القيم الأخلاقية في ما يتعلَّق بالأخلاق في حدّها الأدنى تلعب دور الكابح والمقود بالنسبة إلى السيارة، وأما المحرِّك فهو شيءٌ آخر، حيث يتمّ توفير الوقود والطاقة المحرِّكة لها من خارج الأخلاق. وأما بالنسبة إلى الأخلاق في حدّها الأقصى فإن القِيَم الأخلاقية تلعب دور المحرِّك أيضاً، حيث يتمّ توفير الوقود والتزوُّد به من داخل الأخلاق أيضاً.