مدخل
من أهم ما وصف به آخر المرسلين في كتاب الله الكريم أنه «رحمة للعالمين<، فمن هذا المنطلق تعتبر دعوة الناس إلى السلام رسالة هامة يحملها الدين الإسلامي للبشرية، وكان من أول الأعمال التي قام بها نبينا’، عندإقامة الدولة الإسلامية في المدينة، وأشير إليه في القرآن الكريم، إقرار السلام، إيجاد الصداقة، وعقد الأخوة.
يدعو الإسلام الناس ـ مهما كان شأنهم ـ إلى إحلال السلام بينهم، ولم يكن ربنا يسمح لنبينا’، حتى بعد مضي سنوات من تولّيه الرسالة في مكة، أن يحارب ـ ولو دفاعاً عن النفس ـ العدو الذي ما كان يرعى أي أصول إنسانية، ودام هذا الوضع حتى بعدما هاجر’ إلى المدينة، حيث لم يكن يجوز له أن يقاتل إلا في ظروف ضرورية، وفي إطار خاص.
في الفترة المذكورة التي أشرنا إليها كانت تهدف جميع المحاولات إلى أن يعامل أعدى أعداء الإسلام بالعفو والرحمة.
تعامل الإسلام ـ إلى أقصى حد ممكن ـ مع المشركين والكفار على أساس السلام، كتعامله مع أهل الكتاب.
وفي هذا المقال تمّ التركيز على إثبات هذين الأمرين:
أولاً: إن هناك في الدين الإسلامي حلولاً للحيلولة دون وقوع الحرب والقتال.
ثانياً: المبدأ الأساس في التصرف مع المشركين والكفار وأهل الكتاب هو السلام، سوى بعض الحالات المعدودة، فلا تجوز الحرب والقتال إلا مع المستكبرين، الذين لا يعرفون أي منطق، وإذا لم يواجهوا بالقوة يقومون بارتكاب الجريمة والظلم ضدّ الناس.
الآليات الخاصّة للحيلولة دون وقوع الحرب
المهم في عملية إقرار السلام والود العناية التامّة للحيلولة دون وقوع المشكلة،
فتعتبر الحيلولة دون الحرب أهم من إقرار السلام بعد العداء، وقد أشار القرآن الكريم أيضاً إلى هذا الأمر، وقدم حلولاً واقتراحات للمنع دون وقوع الحرب والقتال، وإليكم بعضاً منها:
1ـ النهي عن الجدال العقيم
والجدال عبارة عن حوار يتبعه تمسك طرف واحد بمواقفه، التي لا يقبل بها الطرف الآخر، وينتهي إلى سجال يحكمه العناد.
يوصي الإسلام دائماً بحوار يُبنى على أساس ذكر الدلائل والبراهين المقبولة. ويريد من الذين يرفضون الدين أن يدخلوا في الحوار، وأن يذكروا براهينهم لهذا الرفض.
يخاطب القرآن الكريم 4 مرات الذين لا يعتنقون الإسلام ديناً أن يأتوا ببراهينهم فقد تكررت آية {هاتوا برهانكم} أربع مرات في القرآن الكريم: [البقرة:111]، [الأنبياء: 24]، [النمل: 64]، و[القصص: 75].
فحسب ما مرَّ تبيّن لنا أن الإسلام لا يريد فرض العقائد، بل ما يتطلع إليه هو أن يدخل من يرفض الدين في حوار حول المبادئ والأصول الإسلامية، ويأتي ببرهانه، فإذا وجد رأيه (نفسه) ضعيفاً، ورأى الإسلام قوياً مقنعاً، فليعتنق الإسلام ديناً، وتشير آية {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] إلى هذه الحقيقة وهي أن لا يكون قبول مبادئ الدين الإسلامي بالإجبار، بل بالدليل والبرهان.
وعلى هذا الأساس يكون رأي ابن مسعود وابن زيد من صحابة النبي’، اللذين يعتقدان بأن آية {لا إكراه في الدين} قد نسخت بعد نزول آية السيف، خاطئاً([1]؛ لأن الإسلام لا يريد أن يتوسّل بالقوة في نشر مبادئه، وبالحرب لإثبات صواب طريقه، بل إنه في البداية يحاول كل المحاولة لتقديم أدلة واضحة تميّز الحق عن الباطل للناس، وما تلا الآية المذكورة من الآيات، نحو: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، يقودنا إلى أنه ليس هناك أي إكراه أو إجبار لقبول الإسلام، ومن الواجب أن يكون قبوله معتمداً على الدليل والبرهان، وإذا كان اعتناقه للدين الإسلامي غير معتمد على التأمل والتفكّر فلا يقبل منه إسلامه.)
ونظراً لما ذكرناه آنفاً يفتي جميع فقهاء الشيعة بعدم جواز التقليد والتبعية في قبول أصول الدين([2])، وبعبارة أخرى فليعتمد قبول المبادئ الدينية، كربوبية الله تعالى، حقانية الدين الإسلامي حقانية كلام رسول الله، وقناعات أخرى، على الدليل والبرهان لا على تبعية عمياء.
وبهذا يتبيّن أنّ آية {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} لم تنسخ، بل تعبر عن هذه الحقيقة، وهي أن من لم يثبت له حقانية الدين الإسلامي بالدليل فعلينا أن لا نكرهه على قبول الدين؛ لأن الإنسان غير المعاند وغير المتعنِّت عندما يتبين له الحق، ويقتنع بحقانية الدين الإسلامي بالبرهان والاستدلال، يعتنق الدين، وذلك يعود إلى فطرته الإنسانية، التي تقبل الحق إذا كان مبنياً على الاستدلال والبرهان السليم.
ونستنتج مما مرّ أن القرآن يدعو الإنسان إلى التعقل والحوار، اللذين يعتمدان على الاستدلال والبرهان، غير أنه لا يقبل الجدال، وينهى المسلمين عنه. وكم من حرب أو قتال أثار شعلته الجدال والمراء، فالقرآن بنهيه للمسلمين عن الجدال يحاول الحيلولة دون وقوع الحرب والقتال.
وإليكم بعض الآيات التي تنهى المسلمين عن الجدال، وتمنعهم منه، وتطالبهم بترك أيّ حوار أساسه العناد:
1 ـ {قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139].
وكما يلاحظ، يمنع ربنا تعالى المسلمين عن المحاجّة، ويريد منهم أن يفوّضوا الأمر إلى الله تعالى.
2 ـ يؤكد ربنا بقوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] على أن أيّة أمّة وأي إنسان ـ مهما كان دينه ـ سيجد نتيجة عمله في القيامة، ولا تعذّب أمة لما قامت به سائر الأمم من أعمال سيئة، ولما آمنت به من المعتقدات الباطلة، فيحول القرآن بهذه الصورة دون جدال لا جدوى له.
وقد أُعيدت عبارة: {تلك أمة …} بعد فاصل قصير من الآية 134، في الآية 141 من سورة البقرة، وذلك للفت انتباه المسلمين أكثر فأكثر إلى هذا الأمر.
3 ـ في آية {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] يقول ربنا مخاطباً رسوله: يا أيها النبي ابتعد في حوارك مع الكفّار عن الجدال، وفوّض أمرك إلى الله.
4 ـ يخاطب القرآن الذين لا يؤمنون بقوله: {وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ}[هود: 121 ـ 122]، فالقرآن بتأكيده على ضرورة إيكال الأمر إلى الله تعالى يريد من المؤمنين أن يجتنبوا الجدال مع الكفّار.
5 ـ نهى القرآن المؤمنين عن الردّ بالمثل في قضايا مثل: الفحش والسب، وأراد منهم الاجتناب عن سب غير المؤمنين، فقال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: 109].
حيث يؤدي الفحش والسب في كثير من الأحيان إلى نعرات دموية، فلهذا يحاول الإسلام؛ بنهيه المؤمنين عن هذا العمل، الحيلولة دون هذه النعرات.
6 ـ يخاطب ربنا تعالى، في مواقف مختلفة، نبيَّه، مطالباً إياه بالإعراض عن المشركين والذين لا يؤمنون، وبالابتعاد عن الجدال، ومنها: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]، ونجد تكراراً له في آيات أخرى، نحو: [النساء: 63 و81]، [المائدة: 42]، [الأعراف: 199] ، و[النجم: 29]([3]).
7 ـ من تلك الآيات التي يخاطب الله فيها نبيه، ويأمره بترك الذين لا يؤمنون وشأنهم، وتفويض أمرهم إلى الله في القيامة، هي الآية 83 من سورة الزخرف: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}، وقد تكررت نفس العبارة {فذرهم...} في الآية 42 من سورة المعارج.
وملخَّص القول: إن أول عامل يمثل دوراً هامّا في الحيلولة دون الحرب والقتال هو ترك جدال لا يتمخّض عنه شيء، وقد منع القرآن الكريم المسلمين عن الخوض في مثل هذا الجدال وأمرهم بإيكال الأمر إلى الله تعالى، والابتعاد عن مواصلة الحوار المبني على الجدل.
2 ـ تحريم القتل بغير الحق، والعقوبة المترتبة عليه
العامل الثاني الذي له تأثيره الهامّ في الحيلولة دون الحرب والقتال هو التأكيد على حرمة القتل بغير الحق، والإشارة إلى العقوبة التي حدّدها الشرع لمن يرتكب القتل ويُريق دماً.
إن الله قد وعد في قرآنه من يقتل الآخر بغير حق بأشد العذاب، يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الأَْرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32].
كما نلاحظ في هذه الآية أنّ من قام بقتل أحد من الناس فكأنه قام بقتل جميع الناس، من بداية الخلق إلى نهايته. إذاً يتبع قتلَ أحد من الناس غضبُ الله تعالى وسخطه.
وقد جاء في تفسير هذه الآية: مكانُ من قتل نفساً بغير حق في الجحيم مكانُ من قام بقتل جميع الناس، فإن أعاد القتل يشتد عذابه في الآخرة([4]).
ويُعتبر تخويف وتحذير الناس من العذاب في القيامة عاملاً هاماً في الحيلولة دون الإقدام على بالقتل بغير حق، حيث المانع الذاتي (الوجدان الإنساني) أكثر أهمية من المانع الخارجي؛ لأنه يمكن للمجرم الهروب من المانع الخارجي، ولكن المانع الذاتي، المتكوّن من معتقدات وقناعات حول الآخرة، لا يترك الإنسان، ولا يمكن الفرار منه.
ونظراً لذلك لا يعتني الدين الإسلامي في برامجه لمكافحة الجرائم بالمانع الخارجي فحسب، بل إنه يحاول كل المحاولة تقوية المانع الذاتي، المتشكّل من الإيمان بالغيب (خاصة بالقيامة والعقوبات الأخروية)، كي يخلق في الإنسان قوة تمنع صاحبها عن ارتكاب الجرائم، ولا يمكن الفرار منها.
ومن جهة أخرى لم يكتفِ الإسلام بتحديد عقوبات أخروية لمن يقتل الآخر بغير حق، بل إنه قد حرّم الظلم ـ مهما قلّ ـ، ووعد الظالم بالعذاب في الآخرة، وهكذا قد سعى الإسلام للحيلولة دون ظلم الظالمين.
وحسب ما ورد في القرآن الكريم لا يستحق أحد الإمساك بالسلطة إلا من لم تمتدّ يده للظلم، قال تعالى: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124].
واتفق فقهاء الشيعة بأجمعهم، ولا يختلفون، على أن من الشروط الرئيسية لإمامة الناس كون ملف حياة الإمام خالياً عن أي ظلم([5]×، في آخر ما وصّى به ابنه: «يا بني، إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلاّ الله»([6]).). قال الإمام الحسين
وبهذا يظهر أن تأكيد القرآن على حرمة ظلم الناس، وبتحديد عذاب أخروي لمن قام بذلك، يحول دون وقوع القتال والحرب بين الذين يعتقدون به (جلّ شأنه) وبكتابه إلى حدّ لا بأس به.
ولا يقتصر الذين لا يسمح الإسلام بالظلم لهم على المسلمين فحسب، بل إنّه يتعدى إلى اليهود النصارى والمجوس من أهل الذمّة، فإن الإسلام لا يسمح بأن يؤذي أحد أهل الذمّة، ومن قام به يستوجب العذاب.
وقد روي عن نبينا’ أنّه قال: «إن من آذى أهل الذمة فكأنه آذاني»([7]).
فالإسلام؛ بتحريمه الظلم للآخرين، والوعد بعذاب أخروي لمن يظلم غير المسلم، يمهد أرضية مناسبة للسلام.
وهناك مانع آخر يحول دون القتل وإراقة الدماء، وهو القصاص. فمن ارتكب قتلاً بغير حق، أو سبّب إصابة لشخص، يُقتص منه، كما جاء في القرآن الكريم: {وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الأَْلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].
فالمراد من تشبيه القصاص بالحياة أنه يمنع من أن يقوم شخص بارتكاب جريمة قتل، حيث إنّ الخوف من القصاص لا يسمح للشخص أن يبادر لقتل أحد بغير حق، أو يسبب إصابة لشخص آخر. ومن هذا المنطلق يضمن تطبيق حكم القصاص الحياة للبشر، ويؤدي عدم تطبيقه إلى انتشار أنواع من الجرائم.
ومن الجدير بالذكر هنا أن العقاب الدنيوي لا يخصّ القاتل الذي قام بقتل مسلم بغير حق فحسب، بل إنّه يتعدى إلى من قام بقتل كافر غير حربي لم يحارب الدولة الإسلامية، فمن قام بجريمة القتل بحق كافر غير حربي يحكم عليه بعقوبة التعزير.
والعقوبة التعزيرية هي عبارة عن عقوبة يحدّد نوعها وكيفيتها حاكم الشرع، ويُجمع الفقهاء على أن المسلم إذا قام بقتل كافرٍ غير حربي يصدر عليه حكم تعزيري، وإن أعاد هذا العمل، واعتاد على قتل غير المسلمين من أهل الذمة، يُقتص منه([8]).
والمراد من كلمة الاعتياد إعادة ارتكاب القتل، ومعنى ذلك أنه إذا قام القاتل بعد صدور الحكم التعزيري بقتل غير المسلمين من أهل الذمّة يُقتصّ منه.
ويرى الفقهاء أنه إذا قام مسلم شيعي بقتل مسلم يحكم عليه بالقصاص، ولا تُغيِّر الحكم جنسيةُ القاتل أو المقتول؛ أما إذا قام رجل غير مسلم بقتل مسلم، أو غير مسلم، فيجري عليه حكم القصاص؛ بينما إذا بادر مسلم ـ في بعض الحالات ـ إلى قتل غير مسلم بغير حق فيقتص منه، ولكن صدور الأحكام التعزيرية في جميع الحالات ثابت.
وعلى هذا الأساس يمنع الإسلام؛ بتحديده عقوبة القصاص لمن ارتكب قتلاً بغير حق، كثيراً من حالات القتل والنزاع، ويجعل دعائم السلام أكثر استحكاماً، ويحول دون أعمال العنف.
3 ـ التحكم في رغبة الثأر والانتقام
في الجاهلية عندما كان يقوم شخص من قبيلة ما بقتل شخص من قبيلة أخرى كان التعصّب الجاهلي يدفع قبيلة المقتول إلى الهجوم على قبيلة القاتل، وارتكاب المجازر بحق عدد كثير من الناس؛ بذريعة الثأر والانتقام.
كم من حروب وقعت بين قبائل وبلدان مختلفة بسبب قتل واحد، أو عدد قليل من الناس، فيسعى القرآن؛ بإشارته إلى عدم جواز الإسراف في القصاص، إلى أن يمنع وقوع كثير من الحروب.
ورد في القرآن الكريم: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً}[الإسراء: 33]، فبعد إشارته إلى تطبيق حكم القصاص على القاتل يطالبُ أقرباء المقتول بعدم الإسراف وتعدي الحدود في أخذ الثأر، والتجنّب عن قتل أهل قبيلة أو مدينة أو بلد القاتل، بل يختّص العقاب بالقاتل والضالعين في القتل ـ حسب الدور الذي أدوه في تنفيذ الجريمة ـ ولا يشمل أحداً سواهم.
بعبارة أخرى: لا يجوز أخذ الثأر من غير الضالعين في الجريمة.
ومن جهة أخرى يسعى الإسلام؛ بتحديده نوع القصاص، وتحريمه التمثيل بجثمان القاتل، ومنعه القصاص بأشكال مروعة، إلى التحكم في رغبة الثأر والانتقام لدى أهل المقتول وذويه، كي لا يرى هؤلاء أياديهم مبسوطة لأي تصرف تجاه القاتل.
وقد أمر علي×، موصياً ابنيه الحسن والحسين‘، أن لا يضربا قاتله إلاّ ضربة واحدة؛ لأنه ضرب الإمام ضربة واحدة، ويجتنبا التمثيل بجسد القاتل؛ لأن النبي قال: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور<([9]).
وهنا يحاول الإسلام ـ بتحكمه في رغبات الثأر والانتقام لدى الأشخاص ـ أن يحول دون قسوة القلوب، فالدين الإسلامي يمنع من أن يرى ذوو المقتول أنفسهم مجازين بالقيام بأي عمل تجاه القاتل؛ لأن مثل هذا الأمر يجعل قلوبهم قاسية ويقوي مشاعر الشخص للقيام بالجريمة، ومن أجل ذلك منع نبينا المسلمين من تمثيل وتقطيع جسد حيوان ميت مثل الكلب.
الإسلام ساحة الودّ والسلام، توليفة التعاليم السلمية
ترعرع الإسلام في بلد كان يمتاز الأشخاص فيه بعرقهم ولغتهم والقبيلة التي كانوا ينتمون إليها، ويعتبر العرق العربي أفضل عرق في العالم، ويدعى غير العربي بالعجمي، ويتباهى العرب بعربيتهم وقبيلتهم ولغتهم، غير أن الإسلام أتى على جميع ما كان يعتبر عند العرب معيار التفضيل، وأعلن أن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وإطاعة ما أمر الله به. وقد أراد تعالى بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ} [الحجرات: 13] الإشارة إلى أن المعيار الرئيس لتفضيل الأشخاص ليس كما يتصوّره العرب.
ومن أهم ما قام به نبينا في حياته التأكيد على أن تنوّع اللغات والأعراق هو أداة للتعارف، إذ لو كان لجميع الناس خصائص واحدة غير متمايزة من شخص لآخر لصعب على الإنسان معرفة الأشخاص.
إذاً فالتكلُّم بلغة خاصّة، أو الانتماء إلى جنسية خاصة، لن يكونا من معايير التفضيل حسب ما أشار إليه الإسلام، بل إنهما آليتان لمعرفة الأشخاص بصورة أفضل.
ومن هذا المنطلق نشاهد الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يكونوا كالإخوة، وأن لا يرى أحد نفسه أفضل من الآخرين؛ للغته وعرقه.
ويأمر ربنا تعالى نبينا، الذي يعتبر ـ حسب التعاليم الإسلامية ـ أشرف المخلوقات، بالتواضع أمام المؤمنين، ويقول: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، ويقول في مكان آخر: {وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، وكلمة خفض الجناح تدلّ على نهاية التواضع في التعامل مع الآخرين.
وهكذا نجد أن الله يطالب نبيه أن يكون متواضعاً أمام المؤمنين ـ بغض النظر عن جنسيتهم أو لغتهم أو عرقهم ـ، ويتحدّث بلين معهم، ويأمر المسلمين أن يتعاملوا، بغض النظر عن الخلافات الموجودة بينهم، مع إخوتهم في الدين بالودّ والأخوية، حيث يعتبر القرآن الكريم جميع المسلمين، مهما كان عرقهم وانتماؤهم القبلي، إخوة، ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].
ونظراً لكون المسلمين إخوة فعليهم إحلال السلام فيما بينهم. والمعروف أن نبينا الكريم’، في أول خطواته في المدينة، قام بعقد الأخوة بين المسلمين، في وقت كان العداء بين هؤلاء شديداً، فبفضل الإسلام حل الإخاء مكان العداء، يقول القرآن في هذه المناسبة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً} [آل عمران:103].
ويوصي الإسلام أتباعه إلى تعزيز أواصر الودّ والأخوة، والابتعاد عن أي عمل ينتهي إلى الخلاف والنزاع. فقد حرم الله النميمة والتهمة والاغتياب وغيرها مما يجلب الخلاف والنزاع، وجعل عذاب من يأتي بالذنوب المذكورة أعلاه ـ حسب ما ورد في تعاليمنا الدينية ـ أشدّ من عذاب مضيع حقوق الله تعالى.
ومن جهة أخرى فإن ثواب إحلال السلام والودّ بين المسلمين أعظم من ثواب جميع الأعمال التي لها صبغة عبادية بحتة، قال علي× في وصيته، نقلاً عن رسول الله’: «صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»([10]). وفي هذا الحديث دلالة على أن ثواب إصلاح ذات البين أكثر من ثواب الصلاة والصيام مائة عام، إذا افترضناه أقصى حدٍّ يمكن أن يعمِّره الإنسان.
يُدعى رسول الله’ في القرآن الكريم بـ «رحمة للعالمين»، قال تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ولذلك نراه قد أتى للعالمين ـ مهما كانت جنسيتهم ودينهم ـ بالرحمة و الودّ والسلام.
وفي سياق الآية، الذي يفيد الحصر، تأكيدٌ على أن الرحمة والسلام جزءان أساسيان للإسلام.
ويوصي القرآن الكريم المسلمين أن يتصرفوا ويتعاملوا مع الآخرين، من المسلمين وغير المسلمين، سلمياً، ولهذا الأمر الكلي استثناءات، ولكن علينا أن نترك الاستثناءات ونتمسك بالحالات التي يطبق عليها هذا الأمر الكلي.
ففي الآية: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83] يأمر الله تعالى المسلمين أن يتعاملوا مع الآخرين من المسلمين وغير المسلمين بخلق حسن، وليس المراد من هذه الآية حسن القول فحسب، بل إنه يتعدى إلى رعاية الحسن في التصرف والتعامل.
وأفضل ما يُثبت هذا الادّعاء قوله سبحانه: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]، ففي هذه الآية لم ينه الله سبحانه وتعالى عباده المسلمين عن حسن الخلق عند التعامل مع غير المسلمين الذين لم يحاربوا الدولة الإسلامية، ولم يمنعهم من الإحسان إليهم.
وبهذا وصى القرآن المسلمين بالإحسان في القول والعمل عند التعامل مع الآخرين.
وقد جاء في آية قرآنية عن أوصاف المتقين: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، ومعناه أن المتقين هم أهل العفو، وغض الطرف عن أخطاء الناس، المسلمين منهم وغير المسلمين، ولا يردون السيئة بالسيئة. فالمبدأ الأساسي هو العفو وإقامة علاقات سليمة مع الآخرين.
يأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 33] يأمر رسوله وجميع الذين يدعون الناس إلى الإسلام والإيمان بالله أن يتصرفوا مع الأعداء تصرفاً سلمياً، ويتحلوا بالصبر، ويغضوا الطرف عن سوء خلقهم، لتبلغ تصرفات الداعين للإسلام إلى درجة من الكرم والود بحيث يُصبح الأعداء أصدقاء أوفياء.
وقد روي عن نبينا’ أنّه قال: «أحسن إلى من أساء إليك»([11]، والمراد من كلامه أن الأصل في الإسلام الإحسان إلى الآخرين، والعفو عن أخطاء جميع الناس ـ المسلمين منهم وغير المسلمين ـ والتصرف سلمياً.)
السيرة النبوية في العلاقة مع غير المسلمين
على الرغم من جميع ما تحمّله رسول الله من الأذى طيلة إقامته في مكة، المستغرقة 13 عاماً؛ أمر الله نبيه أن يصبر، وأن يسالم الكفّار والمشركين، ولم يكن يؤذَن له، رغم اعتداءات هؤلاء الأعداء، أن يبدأ حرباً، إلاّ بعدما أنزل سبحانه وتعالى آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39].
نزلت هذه الآية المباركة ـ حسب رأي المفسرين والمروي عن أئمتنا^، والوارد في التاريخ ـ في المدينة، وكانت أول آية منزلة فيها تأذن لرسول الله وأصحابه أن يحاربوا المشركين كي يبقوا في أمن من ظلم الظالمين([12]).
إذاً لم يكن ردّ النبي على تصرفات كفار قريش، الذين أكثروا إيذاءه، إلاّ المعروف.
نعم، حاول النبي كل المحاولة أن لا يقتل أحداً، فعلى سبيل المثال: سعى رسول الله عند فتح مكّة ـ رغم امتلاكه جيشاً عظيماً، يبلغ عدد أفراده عشرة آلاف رجل ـ أن لا يراق دم. فمع أن كفار قريش نقضوا بنود صلح الحديبية تعامل النبي معهم بكرم بالغ، وسعى أن لا يقتل منهم أحداً، وتفتح مكة بالسلامة والهدوء.
لقد قرّر النبي فتح مكّة رداً على إجراءات كفار قريش المناقضة لصلح الحديبية، وبذل قصارى جهوده لئلا يصاب أحدٌ بأذى، ومن أجل تحقيق هذا الهدف (الحيلولة دون إراقة الدماء) استفاد من جميع التكتيكات، ومنها: توسط عمه العباس بن عبد المطلب.
لو نظرنا إلى كيفية تصرفات نبينا بقريش، وخاصة رؤساؤها، عند فتح مكّة، فسنجدها تجسيداً لقوله تعالى: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. فعلى الرغم من جميع الجرائم التي اقترفها أبو سفيان (وهو من رؤساء الكفر والشرك في مكة) بحق نبينا عندما رآه النبي مستسلماً ومسلماً انصرف عن عقوبته، معلناً أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، كما أعلن أن من أغلق بابه، أو دخل المسجد الحرام، فهو آمن([13]).
وليتّضح الأمر أكثر نلاحظ كيفية تصرف النبي’ مع صفوان بن أمية، فمع أن صفوان كان مجرماً معروفاً، وكان اسمه بين العشرة الذين أهدر رسول الله دمهم أينما حلّوا، استأمن له الصحابي عمير بن وهب، فأعطاه، وحينما حضر صفوان عند النبي قال له’: «أفضل لك أن تسلم»، فطلب صفوان فرصة قدرها شهران، كي يتأمل في الإسلام، فأعطاه نبينا أربعة أشهر([14]).
يجد المتأمِّل في تصرفات النبي مع صفوان بن أمية أنه لم يكن يريد فرض معتقداته، بل أراد أن يكون إسلام صفوان نابعاً من بصيرة كاملة، وهكذا عفا رسول الله عن صفوان بعد إسلامه، ولم يعاقبه على جرائمه الكثيرة.
بل بلغ حسن خلق النبي في التعامل مع صفوان بن أمية إلى حدٍّ لا يصدَّق، حيث يُذكر أنه في يوم حنين، طلب رسول الله من صفوان سبعين ترساً، فقال له صفوان: طوعاً أم كرهاً يا محمد؟ فأجاب النبي: طوعاً، عارية مضمونة أردها إليك([15]، فلنلاحظ كيف أن رسول الله لم يرض بمصادرة أموال صفوان عقاباً لما ارتكبه من الجرائم.)
وقد نقل المؤرِّخون أنه حينما دخل جيش الإسلام مكّة كان يحمل الراية سعد بن عبادة، ويقول عند مروره من أمام أبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً. وعندما وصل الخبر إلى رسول الله، قال: اليوم يوم المرحمة، واليوم أعز الله قريشاً([16]).
يقول ابن هشام والواقدي، وهما من كبار مؤرخي الإسلام: إن النبي بعد ما سمعه من سعد أخذ الراية منه، وأعطاها لعلي([17]).
ورغم كل ما ارتكبه كفار قريش من الجرائم بحق رسول الله قال لهم عند فتح مكة: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء»([18]).
ومن هذا يتبين لنا أن حسن خلق النبي لم يكن يشمل المسلمين فحسب، بل كان يتجاوزهم إلى المشركين والكفار؛ حيث جاء في القرآن: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
فلسفة الجهاد في الإسلام
ويتبين لنا من خلال دراسة حروب رسول الله أن جميع الحروب كانت لها صبغة دفاعية، والعقل يحكم بوجوب الدفاع فيقول العقلاء: «لا بد من الدفاع عن النفس أمام هاوي حرب لا يرحم أحداً، وقد ورد في القرآن الكريم: {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
إذاً التعامل بالمثل في مواجهة المعتدي وضرورة الدفاع عن النفس شيئان يحكم بهما العقل، وعلى الرغم من أن الدفاع حكم عقلي فقد منع الإسلام متّبعيه لسنوات عديدة من تنفيذ هذا الحكم، ولم يسمح للنبي’ طيلة إقامته في مكة، البالغة 13 عاماً، بالدفاع عن النفس؛ وذلك كي تبعث تصرفاته السلمية، والمبنية على الرحمة، الوعي في قلوب هؤلاء الغافلين.
فمع أن الدفاع عن النفس ومعاقبة المعتدي حكمان عقليان غير أن تصرفات النبي مع هؤلاء المجرمين عند فتح مكة كانت في غاية الرحمة والعطف.
ومن الجدير بالذكر أن معنى الجهاد في الإسلام هو الدفاع حيث استخدم بعض الفقهاء، كالإمام الخميني، عبارة «كتاب الدفاع» بدلاً من عبارة «كتاب الجهاد» لتسمية فصل من كتابه الفقهي الذي يخص الجهاد([19]).
وقد أجاز الإسلام الجهاد الابتدائي (أن يبدأ المسلمون الحرب ضد الكفار)؛ حيث ورد في القرآن الكريم: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَْشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]؛ ولكن هذه الآية نزلت في السنة التاسعة بعد الهجرة، حيث كان لدى المشركين فرصة قدرها 20 سنة كي يبحثوا في حقانية الإسلام، وأن يأتوا ببرهانهم لعدم إسلامهم، فإذا كانت براهينهم مقبولة لا يُراد منهم أن يتركوا مبادئهم الفكرية.
ومن جهة ثانية فإنّ الآية المذكورة سالفاً قد خُصِّصت بآية أخرى تليها، وهي: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6]، وهذه الآية تخصص الآية التي قبلها؛ حيث يخاطب الله المسلمين قائلاً: إذا جاءكم أحد المشركين ملتجئاً ـ لعدم معرفته بحقانية الإسلام أو الارتياب في الأمر ـ وطلب فرصة للبحث في حقانية الإسلام فعلى الرسول والمسلمين أن يجيروه.
وحسب ما ورد في الآية الكريمة فإن على المسلمين السماح للمشركين بسماع كلام الله، ويرى المفسرون أنّ المراد من «كلام الله» القرآن، ولكنهم أخطأوا، فالمراد منه السماح للمشرك أن يفحص في الدين والتعاليم الإسلامية.
والنقطة الهامة الملفتة للانتباه قوله سبحانه وتعالى الذي يأمر المسلمين فيه بإعادة الكافر ـ بعد تعرفه على التعاليم الإسلامية ـ إلى بيئته؛ كي لا يكون قبوله الإسلام بالإكراه، بل يتخذ الكافر قراره في جو آمن، يخلو من أي ضغط من جانب المسلمين.
وملخَّص القول إنّه لا يمكن وقوع جهاد ابتدائي بهدف محاربة الجاهلين الذين يفتقدون أيّة معرفة عن الإسلام، بل إن الهدف منه محاربة أشخاص معاندين، متعنتين، مستبدين، لا يقبلون الحق، ولهم في عدم اعتناقهم الإسلام مصالح، فلذلك لا يسلمون، ونجد هؤلاء المعاندين يشهرون سيفاً على المسلمين دفاعاً عن مصالحهم.
ومن جهة ثالثة نجد بعد دراساتنا الآيات المباركة التي تلت الآية 5 من سورة التوبة أنّ الجهاد الابتدائي له صبغة دفاعية، فتشير آية: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [التوبة: 8] إلى أن المشركين لو غلبوا المسلمين لا يراعون عهداً، بل يقترفون أي جريمة أو ظلم يمكن لهم القيام به، وهذا المعنى نجد له تكراراً في الآية 10 من سورة التوبة، ويأمر الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الآية 12 من نفس سورة التوبة بقتل أئمة الكفر؛ لأن أكثرهم من هواة الحرب، ومن هذا المنطلق يجب على المسلمين مواجهتهم، وليس المقصود هنا قتل عامة الناس من الكافرين، بل الذين اتبعوا أئمتهم فحسب.
وفي الآية 13 من سورة التوبة يدعو القرآن المسلمين إلى محاربة المشركين؛ لأنهم بدأوا الحرب، وشهروا سيوفهم أمام المسلمين، يقول سبحانه: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36].
إذاً فالجهاد هو نوع من التعامل بالمثل، وله صبغة دفاعية فحسب، ويفترض أن يكون العدو فيه هاوي حرب لا يراعي أيّ أصول إنسانية.
ومن جهة رابعة لم ينفَّذ الأمر بالجهاد الابتدائي؛ لأن النبي لم يرَ ضرورةً في ذلك، فكأنما أراد الله تعالى في تنزيله آيات الجهاد الابتدائي أن يحذر المشركين، وفعلاً بعد نزول هذه الآية وظهور حقانية الإسلام، أسلموا أفواجاً، ولم يرَ النبي ضرورةً لتنفيذ حكم الجهاد الابتدائي.
وهكذا نلاحظ أنّ الجهاد والحرب في الإسلام له صبغة دفاعية بحتة، وقد أجازه الله عند الضرورة، وفي حالة حدوث الحرب كان لدى النبي’ والأئمة^ حلول لإنهاء الحرب، كي تكون للحرب أهداف علاجية، ومثل هذه الحرب مثل طبيب شفيق، يقوم ببتر عضو من جسد المريض علاجاً له.
وقد أشار الله في قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57] إلى ماهية الجهاد العلاجية، حيث يأمر تعالى المسلمين بالشدّة على العدو، والإسراع والمباغتة في العمل العسكري، حتى يخلق ذلك خوفاً في قلوب العدو، ولكن الهدف الرئيس من وراء هذه الشدّة وهذا الإسراع والمباغتة تذكير الأعداء وهدايتهم، وبعبارة أخرى لهذه الشدّة أهدافٌ علاجية.
السلام أساس علاقة المسلمين مع أهل الكتاب
المقصود من أهل الكتاب اليهود والنصارى والزرداشتية، الذين يحاول الإسلام إيجاد علاقة سليمة متينة بينهم وبين المسلمين.
وقبل أن نخوض في هذا الموضوع أكثر لا بد من التطرق إلى المشاكل التي خلقها هؤلاء (أهل الكتاب) للإسلام، ولكن الإسلام تعامل معهم بالرحمة والسلام، ساعياً إلى إحلال السلام، بينهم وبين المسلمين.
1 ـ نقاش وجدال أهل الكتاب فيما بينهم، وعلى سبيل المثال: تنازع اليهود والنصارى، وادّعى كلٌّ منهما أن إبراهيم× كان منهم، بينما أشار القرآن في الآية 65 من سورة آل عمران إلى أن النبي إبراهيم عاش قبل عيسى وموسى‘ بألف سنة، فهذا التخاصم بين اليهود والنصارى ينمّ عن اشتياقهم إلى الحرب، وحرصهم على القتال.
2 ـ سهر بعض من أهل الكتاب على تضليل المسلمين وحرفهم عن طريق الهداية [آل عمران: 69].
3 ـ كان أهل الكتاب لا يقبلون أوضح المسائل، رافضين جميع الأدلة والبراهين، فأثبت هؤلاء ـ بعملهم هذا ـ تعنُّتهم ومعاندتهم [آل عمران: 70 ـ 71].
4 ـ كان أهل الكتاب يُسلمون صباحاً، ويندمون مساءً، هادفين إلى أن يجعلوا المسلمين ضعفاء في دينهم، ويخربوا معنوياتهم، كي يعدل بعض من المسلمين عن طريقهم الحق بعد رؤية مثل هذه المشاهد، ويصيروا مرتدين.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع في قوله تعالى: {وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72].
5 ـ كان أهل الكتاب يريدون حرف المسلمين عن طريق الحق وحسب ما ورد في الآية 99 من سورة آل عمران فقد أُمر النبي’ بالصبر أمام أعمال أهل الكتاب الإيذائية، وعدم الرد عليها.
ونجد هذا المعنى أيضاً في آية أخرى من آيات الكتاب الكريم، وهي: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
يقول الله في هذه الآية: إن أهل الكتاب قد تبين لهم حقانية الإسلام، ولكنهم ـ حسداً ـ يودّون تركَ المسلمين دينَهم وكفرَهم بالله، فعلى المسلمين في هذه الحالة الصبر أمام أعمال أهل الكتاب القبيحة، والعفو عنهم.
وهناك من يعتقد بأن الآية 109 من سورة البقرة قد نُسخت بعد نزول الآية 29 من سورة التوبة، ولكن الواقع ـ حسب رأي بعض العلماء ـ أنّها لم تنسخ([20]، وقد جاءت الآية 29 من سورة التوبة تخصيصاً لها، حيث تشير إلى بعض الحالات التي لا يجوز فيها العفو والصبر؛ لكن في غير هذه الحالات ـ كما إذا شك أحد في ما عليه أن يفعل من الصبر أو التعامل بالمثل ـ يجب أن يعمل على أساس الحكم الكلي.)؛ فالآية 109 من سورة البقرة تأمر المسلمين بالصبر والعفو
أما قوله تعالى: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فليس معناه أن الأمر بالعفو والصبر مؤقَّت وغير دائم، بل المقصود من الأمر في تتمة الآية أمر تكويني، وليس بأمر تشريعي، وهذا الادّعاء يؤيده ما يلي جملة: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} من عبارات، تضم في طياتها إشارات صريحة إلى قدرة الله على كل شيء، ونظراً إلى كون قدرة الله الرافد الرئيس والمنشأ الحقيقي للأمر التكويني فالله تعالى ـ بأمره التكويني الذي يقتضي الهيبة للإسلام والمسلمين ـ يُفهم أهل الكتاب أن حسدهم هذا لا يجلب للإسلام ومتَّبعيه ضعفاً.
ونستنتج مما مرّ آنفاً أنّ الحكم الكلي الإلهي في كيفية التصرف أمام إجراءات أهل الكتاب الإيذائية هو الصبر والعفو.
ومن جهة أخرى يأمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالجدال الأحسن، الذي يمتاز بكونه يقام من دون أية إهانة للطرف الآخر وفي هدوء تام، قال تعالى: {وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 47] وما رُوِّج حول نسخ هذه الآية بواسطة آيات أخرى خطأٌ، ويعتقد بعض علماء التفسير أنّ هذه الآية لم تنسخ([21]، فالآية 47 من سورة العنكبوت تأمر المسلمين بالجدال الأحسن إذا انتهى الأمر إلى الجدال. )
ولا ربط بين الدعوة لمحاربة أهل الكتاب وأخذ الجزية منهم ـ كما في بعض الآيات ـ بمضمون الآية 47 من سورة العنكبوت، الذي يقتضي رعاية الأدب والاحترام للطرف الآخر، والابتعاد عن الإهانة واللين في الكلام، أما قوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآْخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} [التوبة:29] فقد أُنزلت في السنة التاسعة بعد الهجرة، وبعبارة أخرى قبل هذه السنة ما كان يؤذن للنبي بالرد على إيذاءات أهل الكتاب، ولذلك عقد’ عقد الصلح مع القبائل اليهودية بالمدينة، المتمثلة في بني قينقاع، بني النضير، وبني قريظة، ولكن اليهود نقضوا عهودهم وحاكوا مؤامرات ضد الإسلام ـ خلافاً لبنود معاهدة الصلح ـ، فعوقبوا لمؤامراتهم، وحاربهم دفاعاً، ولو لم يكن منهم النقض لما كان من جيش الإسلام يوماً حربٌ ضدهم.
وهناك نقطة أخرى في الآية 29 من سورة التوبة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الله تعالى يأمر المسلمين بمحاربة أهل الكتاب حين لا يخضعون لقوانين الذمّة، التي منها: دفع الجزية، والابتعاد عن إقامة أيّة حرب على المسلمين، وأمور أخرى قد ذُكرت في الكتب الفقهية([22]).
فبما يتعلق بعبارة {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} ليس المقصود منها جواز إهانة أهل الكتاب عند أخذ الجزية، بل أن يدفع هؤلاء (أهل الكتاب) جزيتهم بتواضع كامل([23]).
والجزية ـ حسب ما يستنتج من عقد الصلح الذي جرى بين النبي ونصارى نجران في السنة العاشرة بعد الهجرة ـ عبارة عن ضريبة يدفعها أهل الكتاب في البلدان الإسلامية مقابل ضمانات تقدمها الحكومة الإسلامية لتوفير الأمن لهم([24]).
قام نبينا في السنة العاشرة بعد الهجرة بعقد الصلح مع أهل الكتاب في وقت كانت الحكومة الإسلامية في ذروة قوتها، وبمقدرتها أن تتصرف بأهل الكتاب كيفما تريد.
والمعروف أن نصارى نجران؛ لاختبار حقانيتهم، اقترحوا المباهلة، ومع أن هذا الاقتراح كان من عندهم فقد وقع قبول نبينا عليه لتبيين الحق من الباطل، وهؤلاء أنفسهم انصرفوا في النهاية عن المباهلة، غير أن النبي لم يفرض قبول الإسلام عليهم.
إنما يأمر القرآن المسلمين بالتعامل مع أهل الكتاب، وذوي الأديان الأخرى، الذين لا يحاربون الإسلام، بالحسن وبرعاية القسط: {لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8].
خلاصة واستنتاج
إن الإسلام؛ باعتباره أكمل الأديان، يدعو الناس ـ مهما كان دينهم أو جنسيتهم ـ إلى السلام، ويوصيهم بالتصرف على أساس الإحسان.
وعلى الرغم من وجود بعض الحالات الاستثنائية فإن الحكم الكلي يقتضي أن يتعامل المسلمون فيما بينهم، وفي علاقتهم مع أهل الكتاب، بحسن الخلق، وأن يتعايشوا تعايشاً سلمياً.
ويؤكّد الإسلام على أن أموراً، كاللغة، والعرق، والقبيلة، لن تكون سبباً لتفضيل شخص على آخر. كما يأمر المسلمين بحسن الخلق في التعامل مع أهل الكتاب مما يؤدي إلى حبهم ورغبتهم في الإسلام، فما نشاهده في التاريخ الإسلامي، وفي حياة الرسول، خير دليل على تأثير حسن الخلق في اعتناق الأفراد الإسلام.
ويدعو الإسلام الناس بأجمعهم إلى إيجاد السلام فيما بينهم، وبعد ذلك يطالب بحوار الأديان، ولا شك أن إقامة الحوار وإحلال السلام لا يتناقض أبداً مع أصولٍ، كمحاربة المعتدي، والدفاع عن النفس.
الهوامش
(*) أستاذ مساعد بجامعة طهران (فرع قم)، من إيران.
([2]) اليزدي، العروة الوثقى 29:1، المسألة 67.
([3]) انظر: محمد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، 456، مادة ع ر ض.
([4]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 29: 9ـ10.
([5]) الخراساني، كفاية الأصول 1: 131؛ الفياض، محاضرات في أصول الفقه 1: 294؛ الكاظمي، فوائد الأصول 1: 126.
([6]) عدد من الكتّاب: 544.
([7]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 4: 93.
([8]) الحسيني العاملي، 11: 19.
([9]) نهج البلاغة: الرسالة 47.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) الحسيني: 144.
([12]) فيض الكاشاني 2: 152.
([13]) ابن هشام، السيرة النبوية 4: 49.
([14]) ابن هشام، السيرة النبوية 60:4.
([15]) الشيخ الصدوق: 193.
([16]) الواقدي، المغازي: 628.
([17]) الواقدي، المغازي: 629؛ ابن هشام، السيرة النبوية 4: 94.
([18]) الواقدي، المغازي: 629.
([19]) الإمام الخميني 1: 485.
([20]) الخوئي، البيان البيان في تفسير القرآن: 287.
([21]) الطبرسي، مجمع البيان 8: 287.
([22]) الشهيد الثاني، 1: 315.
([23]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 9: 252.
([24]) السبحاني 2: 438.
([1]) الطبرسي، مجمع البيان، 364:2.