جولةٌ في بعض المنطلقات العقلانيّة والقرآنيّة لقاعدة
(ما من واقعةٍ إلاّ ولها حكمٌ)
ـ الحلقة الثالثة ـ
5ـ مرجعيّة البيانيّة القرآنيّة
الدليل الخامس لإثبات الشموليّة التشريعيّة هو الاعتماد على نصوص البيانيّة الكلّية للقرآن الكريم، حيث تُثبت هذه النصوص أنّ في القرآن بيانات ترجع لكلّ شيءٍ، وهذا ما يُثبت شموليّة القرآن الكريم وجامعيّته لكلّ ما يتصل بشؤون الإنسان والمجتمع وغير ذلك.
وهذه الآيات القرآنيّة هي:
1ـ قوله تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء﴾ (الأنعام: 38).
2ـ قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89).
3ـ قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً﴾ (الأنعام: 114).
4ـ قوله تبارك اسمه: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً﴾ (الأعراف: 52).
5ـ قوله عزَّ من قائلٍ: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1).
6ـ قوله جلَّ جلاله: ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف: 111).
هذه الآيات القرآنية الكريمة تنطق بإثبات عدم سقوط شيءٍ من الكتاب الكريم، وأنّه استوعب كلَّ شيءٍ، وبيّن كلَّ شيءٍ، وكان ما فيه مفصَّلاً تفصيلاً، وأنّ تفصيله تعلَّق بكلِّ شيءٍ. فبعد هذه النصوص هل يمكن الحديث عن نفي الشموليّة القرآنية، أو أنّ الدين ليس بمستوعبٍ لكلّ وقائع الحياة؟! (انظر ـ على سبيل المثال ـ: عبد الله نصري، الدين بين الحدود والتوقُّع: 65 ـ 70؛ ومصطفى كريمي، الدين: حدوده ومَدَياته: 282 ـ 292).
قراءةٌ نقديّة في الاستناد لمفهوم الكلِّية القرآنيّة
وهذا الدليل يمكن عدُّه ـ إلى جانب النصوص الحديثيّة ـ أقوى الأدلّة على مبدأ الشمول والكلِّية. ولا بُدَّ لنا هنا من بعض التعليقات:
أـ بين الكتاب التشريعي والكتاب التكويني
التعليق الأوّل: إنّ الآية الأولى ـ وفق ترتيبنا ـ لا ربط لها بموضوع بحثنا هنا، كما ذكرنا ذلك في مناسبةٍ أخرى (انظر: حيدر حبّ الله، حجِّية السنّة في الفكر الإسلامي: 235 ـ 236)؛ وذلك أنّ ملاحظة الآية بتمامها، والتي جاء هذا المقطع في سياقها، يعطي معنىً آخر للكتاب الوارد فيها، فقد قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام: 38). وهذا السياق المرتبط بالشؤون التكوينية يثير احتمالاً آخر في المراد من الكتاب؛ لأنّ كلمة (الكتاب) قد استعملت في القرآن بمعانٍ مختلفة، منها:
1ـ التوراة والإنجيل، ولهذا سُمِّي اليهود والنصارى بـ (أهل الكتاب).
2ـ القرآن الكريم، قال سبحانه: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ (المائدة: 48).
بل يمكن أن يكون المعنى الأوّل والثاني راجعين إلى معنىً واحد، وهو الدين أو الشريعة أو الوحي الإلزاميّ النازل من السماء على النبيّ، فيكون القرآن أو التوراة مجرَّد تطبيقات لهذا العنوان.
3ـ اللوح المحفوظ أو أيّ شيء يشبهه في أنّه خلقٌ تكويني، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ (الأنعام: 59).
بل ربما كانت هذه التعابير كنائيّةً عن ثبات العلم الإلهي المتعلّق بوقائع العالم وحتميّته.
4ـ الفرض والإلزام والتنجيز القانوني، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ (النساء: 103).
5ـ ما يرجع للتوافقات القانونيّة بين طرفين، مثل: المكاتبة مع العبد، قال تعالى: ﴿…وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آَتَاكُمْ…﴾ (النور: 33).
6ـ صحائف الأعمال يوم القيامة، مثل: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ (الإسراء: 71)، ففيها تُثبت وتحتم وتنجّز أعمال الإنسان.
وغير ذلك من المعاني والاستخدامات.
وبعضُ هذه المعاني يمكن إرجاعه إلى بعضٍ. والجامع في كلمة الكتاب في اللغة العربيّة هو التنجيز والحَتْم والثبات، ولهذا سمُّي الكتاب كتاباً؛ لأنّ المكتوب فيه ناجز وحتمي بشكلٍ أكبر في المعاملات التجاريّة وغيرها. وقد شرحنا في بعض محاضراتنا التفسيريّة مفردة الكتاب، ووجوه تصريفها في القرآن الكريم، وجذورها اللغويّة. وعليه، فلو لاحظنا التردُّد في الاحتمالات يكون الأقرب في الآية التي نحن فيها هو المعنى الثالث المتقدِّم (اللوح المحفوظ)، ولا أقلّ من عدم إمكان الجزم بظهورها في أنّ المراد من الكتاب هو القرآن الكريم.
ب ـ مفهوم (التفصيل) في توصيف القرآن الكريم
التعليق الثاني: إنّ ما ينصرف اليوم إلى ذهننا من كلمة «التفصيل» هو تناول جزئيات الأمور، واستيعاب الامتدادات والثنايا، في مقابل الإجمال، الذي بات يعني التناول العامّ لموضوعٍ ما. وهذا المعنى يوحي في آيات تفصيل الكتاب بشموليّته واستيعابه بما يخدم نظريّة الشموليّة هنا.
إلاّ أنّ الرجوع إلى اللغة والتفاسير يوضِّح للإنسان أنّ المراد بالتفصيل هو التبيين، فالمفصَّل هو المبيَّن، في مقابل المُجْمَل الذي يعني غير المبيَّن. فوصفُ القرآن بأنّه فُصّلت آياته أو فيه تفصيل يعني أنّه كتاب واضح ومبين وتبيان ونور. ولهذا فسَّروا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ (فصلت: 44)، بمعنى أنّه بيّنت بلسانٍ عربي واضح نفهمه (انظر ـ على سبيل المثال ـ: الطبرسي، مجمع البيان 9: 29؛ والطبري، جامع البيان 24: 157). فليس المراد من تفصيل القرآن استيعابه وشموله، وإنّما بيانه ووضوحه ونوريّته وما شابه ذلك. ولعلّ ما بتنا نعبّر عنه بالتفصيل اليوم إنّما سمَّيناه بذلك لأنّه مصداقٌ للتبيين، وأسلوبٌ من أساليبه.
هذا كلُّه بقطع النظر عن قيد «كلّ شيء» الوارد هنا في الآية.
ج ـ مفهوم (الكلِّية) ومناسبات الحكم والموضوع
التعليق الثالث: إنّ الأخذ بحرفيّة «كلّ شيء» الوارد في الآية الثانية والسادسة هنا يستلزم اشتمال القرآن على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ على الإطلاق من كلّ جزئيّات العلوم والمعارف، بل وكلّ الأحداث التي وقعت وتقع وستقع إلى ما بعد يوم القيامة. والآية الكريمة لا تفيد فقط اشتمال القرآن على هذا، بل بيانه له. والالتزامُ بمثل هذا اللازم غير معقول إطلاقاً، ومن ثم فلا بُدَّ من فهم «كلّ شيء» بما يخرج هذا العنوان عن الشموليّة المطلقة. وحيث إنّ المراد بكلّ شيء بعد إلغاء الكليّة المطلقة غيرُ واضحٍ لنا فنأخذ بكلِّ ما يثبت كونه قَدْراً متيقَّناً.
من هنا، نجد أنّ السياق ومناسبات الحكم والموضوع وطبيعة ما يظهر عقلائياً من القرآن و…، ذلك كلّه يفرض أنّ الكلّية هنا بلحاظ الهداية والإرشاد وتقريب الإنسان نحو الله سبحانه وما فيه صلاحه وكماله من هذه الجوانب، تماماً كما لو قال شخصٌ يضع كتاباً في الكيمياء: إنّ هذا الكتاب فيه تبيان كلّ شيء، فإنّ المناسبات تستدعي إرادته الشموليّة بملاحظة الكيمياء، لا مطلق العلوم والمعارف البشريّة.
بعد هذا كلِّه ينبغي أن يثبت لنا أنّ «الشيء» هنا، المراد تعلّق الكلِّية «كلّ» به، ما هو؟ وذلك من دليلٍ آخر خارج الآية نفسها، ولو كان حافّاً بها. فلو أثبتنا أنّ الشأن الذي تصدّى له القرآن الكريم هو البرنامج الحياتي والأخروي للإنسان، بتمام الأبعاد الوجوديّة لهذا الكائن البشري، فإنّ الآيتين هنا ستثبتان أنّ القرآن استوعب كلّ ما يتّصل بهذا الجانب. أما لو أنّنا أثبتنا أنّ الدليل يدلّ على تصدّي القرآن لتوضيح الجانب الروحي والخُلُقي للإنسان ـ مثلاً ـ فإنّ الشموليّة لن تفيد في بعض الجوانب السياسيّة، وهكذا. وهذا ما يُنتج عدم قدرة هذه الآيات هنا على البتّ في هذا الموضوع، فلا يُستدلّ بها لوحدها، وإنّما تحتاج لمُعينات خارجيّة أو حافّة.
وما قلناه برمّته مبنيٌّ على غير النظريّة الصوفية العرفانيّة في فهم القرآن الكريم ونهج تأويله، وأنّه تعبيرٌ آخر عن العلم الإلهي المتنزِّل في النشآت، فباطنه نشأةٌ وجودية له، وليس باطناً دلاليّاً. لكنّ إثباتَ ذلك كلِّه بالدليل مشكلٌ.
د ـ نقد الفهم المنطقي لمفهوم (الكلِّية) في اللغة العربيّة
التعليق الرابع: سلَّمْنا أنّ القرآن الكريم يتصدّى لبيان كلّ شأنٍ إنسانيّ يرتبط بالحياة الإنسانيّة وبنائها ونظامها، لكنْ مع ذلك يمكن التوقُّف عند إفادة «كلّ» للكلِّية المطلقة، بحيث لا وجود لمساحةٍ محدودة ترك القرآن فيها الحديث والتصدّي.
والموجِبُ لإثارة هذا التساؤل هو استخدامات كلمة «كلّ» في الأعمّ الأغلب عند العرب، بل وفي القرآن الكريم، مثل:
1ـ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ (الأنعام: 44). فهلّ حقّاً فتح عليهم أبواب كلِّ شيءٍ على الإطلاق؟!
2ـ قوله تعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 154).
3ـ قوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الأعراف: 145). فهل حقّاً في توراة موسى كلُّ شيءٍ، بحيث صارت مساويةً تماماً للقرآن الكريم في مضمونها؟!
4ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً﴾ (الكهف: 84). فهل حقّاً كان لذي القرنين سببٌ لكلّ شيءٍ على الإطلاق، بحيث كان يمكنه الذهاب في الفضاء مثلاً، أو صناعة القنبلة الذريّة؟!
5ـ قوله تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل: 16).
6ـ قوله تعالى: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ (النمل: 23). فهل حقّاً أنّ ملكة سبأ كان عندها من كلّ شيءٍ، أو هو تعبير كنائي أو بليغ عن الكثرة والوفرة والعظمة؟
7ـ قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون﴾ (القصص: 57). فهل مكّة في زمن النبيّ وقبله كانت تجبى إليها ثمرات العالم كلِّه، ثمرات أفريقيا وشرق آسيا وشمال أوروبا والقارة الأمريكيّة؟!
8ـ قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 68 ـ 69). إنّ هذا كلَّه يدلّنا على أنّ استخدام كلمة (كلّ) في اللغة العربيّة ليس كما أراد الأصوليّون والفلاسفة في السور المنطقي للقضيّة المنطقية أن يفسِّروه، وهو الشموليّة المطلقة والموجبة الكلِّية، فهذا بيانٌ منطقيّ دخل اللغة العربيّة في القرن الثاني الهجري، وأمّا اللغة العربيّة فكثيراً ما تستخدم مثل هذه التعابير وتريد الكثرة والوفرة والمبالغة فيهما، بل هذا هو الأصل في الاستخدام عندما يكون المورد واسع المصاديق والأفراد وغير محصور، ولو أراد المتكلِّم الشموليّة المطلقة للزمه مزيدُ بيانٍ.
هـ ـ مصادرة القفز من البيانيّة الشموليّة للشريعة الشاملة
التعليق الخامس: وهو في نظري من أهمّ التعليقات عندي هنا؛ وذلك أنّ غاية ما تُثبت الآيات المستدلّ بها هنا أنّ القرآن فيه كلّ شيءٍ، لكنّها لا تثبت أنّ هناك شيئاً اسمه شريعة شاملة حتّى يتكلّم عنها القرآن. وهنا نقطة الضعف الاستدلالي بهذه الآيات.
ولتوضيح مرادي أقول: نحن افترضنا أنّ الشريعة والدين شاملين لكلّ الحياة، ثم لما قال القرآن بأنّ فيه كلّ شيء فهذا يعني أنّ فيه أحكاماً دينيّة لكلّ الحياة. مع أنّ هذا مصادرةٌ؛ وذلك أنّه من أين عرفنا أنّ الدين شاملٌ لكلّ الحياة؟ فلعلّ الدين مختصٌّ بمساحة تساوي الثمانين في المائة من الحياة مثلاً، والقرآن جاء وبيَّن كلّ شيءٍ، ومعنى أنّه بيَّن كلّ شيء هو أنّه بيّن هذه الثمانين في المائة، ثم بيّن العشرين لكنْ لا بوصفها جزءاً من الدين، بل بوصفها قِيَماً أو أحكاماً عقليّة إنسانيّة (ليست مجعولات دينيّة شرعيّة)، قام بالإخبار عنها. فالانطلاق ـ وأرجو التأمُّل ـ من شموليّة البيان القرآني لشموليّة الشريعة مغلوطٌ، بل لا بُدَّ أوّلاً من إثبات شموليّة الشريعة، حتّى تكون شموليّة البيان القرآني مغطِّيةً للشريعة الشاملة من قَبْل، وإلاّ كان القرآن مبيِّناً للشريعة غير الشاملة، وأمّا سائر الأمور فهو يبيِّنها لا بما هي شرعٌ، بل بما هي معطيات حقّة غير دينيّة، تماماً كحديثه عن أيّ قضيّة تكوينيّة، فهل كون النحل يأكل من الأزهار مسألةً دينيّة؟ مع أنّ القرآن قد ذكرها... إلاّ بناءً على قول:
أـ مَنْ يرى أنّ كلّ العلوم دينيّةً، كما في ما يُنسب لبعض المعاصرين، مثل: أستاذنا الشيخ عبد الله جوادي الآملي.
ب ـ أو مَنْ يرى أنّ كلّ ما بُيِّن في القرآن فهو دينٌ، فلو كان أمراً سلوكيّاً (وبُيِّن حتّى ولو من دون ظهور البيان في نسبته للدين) صار شريعةً مجعولة مدخلة في العهدة والذمّة بيننا وبين الله.
لكنّ كلا هذين التوجُّهين غير صحيح؛ فليست كلُّ العلوم دينيّةً، حتّى لو كانت تبحث عن خلق الله الراجع للفعل الإلهي، فهذا لا يصيِّرها دينيّةً، والبحث في هويّة العلم الديني موضوعٌ طويل جدّاً، نَكِلُه لمباحث فلسفة الدين والكلام الجديد.
وليس كلُّ ما ذكره القرآن فهو دين أو شرع، بل قد يذكر ما هو مجعول شرعي أو عقيدة دينيّة، وقد يذكر أموراً واقعيّةً حقيقيّة (في الفعل أو التكوين) لخدمة المجعول الشرعي أو العقيدة الدينيّة، كتوصيفه السماوات والأرض. فهذا التوصيف حقٌّ، لكنّه ليس بدين. نعم، تصديق القرآن في توصيفاته واجبٌ شرعيّ. لكنّ هذا لا يعني أنّ نفس توصيفاته هي دينٌ (أترك تفصيل هذه النقطة لمباحث فلسفة الدين والكلام الجديد، وكذلك مباحث اللغة الدينيّة عموماً، وأكتفي بهذا القَدْر). وهذا كلُّه يعني أنّ عليَّ مراجعة النصّ الديني والقرآني، فما ظهر أنّه بُيّن بوصفه تكليفاً شرعيّاً أو حقيقةً عقديّة أخذتُ به، وما لم يظهر لي ذلك لا أستطيع أن أقول ـ بنحو القاعدة المسبقة المسقطة من الأعلى ـ بأنّ القرآن قد قدَّمه حقيقةً دينيّة، حتّى لو لم أَرَه بنفسي، بل يمكن أن يكون قد قدَّمه بوصفه حقيقةً واقعيّة، أعمّ من الدينيّة وغيرها. فبحثنا في الشريعة الشاملة التي تستبطن مفهوم جعل قانوني شرعي إلهيّ لكلّ الوقائع، لا في أصل الحسن الذاتي لهذا الفعل أو غيره في كلّ واقعةٍ، فهذا لا يلازم الجعل التشريعي، كما قلنا سابقاً في إطار مناقشة مداخلة المحقّق النراقي، فراجِعْ. وهذا يفيد أنّ القرآن ربما تحدَّث عن أحكام العقل والتجربة الإنسانيّة، وأمرنا باتّباع عقولنا، وبيّن لنا الذي تحكم به عقولنا، دون أن يقول بأنّ حكم عقلنا هو مجعولٌ شرعيّ ديني له، بل المجعول الشرعي الوحيد هو وجوب اتّباع أحكام عقولنا القائمة على التجربة الإنسانيّة والقِيَم الفطريّة. فسلوك الإنسان يوجَّه دينيّاً من خلال النصّ والعقل معاً.
والذي نفهمه من جملة المقاربات التي تقدَّمت أنّ القرآن الكريم قد اشتمل على مجمل القضايا الدينية المرتبطة بهداية البشر إلى الله تعالى، وأنّ ذلك لا يمنع من وجود بعض الأمور التي ترك القرآن الكريم أمر بيانها إلى مصدرٍ آخر. كما لا يوجد ما يمنع من أن تكون المساحة التي يغطّيها البيان القرآني غير شاملة لكلّ تفاصيل حياة الإنسان.
نتيجة البحث
أكتفي بهذا القَدْر من الأدلّة. وغيرُها يظهر حاله ممّا ذكرناه. وبهذا يظهر أنّه لم يتوفَّر لنا دليلٌ عقلي أو عقلاني أو قرآني حاسم يكشف عن مبدأ شموليّة الشريعة الإسلاميّة لكلّ وقائع الحياة. وهذا ما يؤكِّد أنّ المستند العمدة هنا هو ثنائي الحديث الشريف، المؤيَّد بالإجماع أو الشهرة، والذي يحتاج لدراسةٍ أخرى مستقلّة، نتركها لمناسبةٍ ثانية.