ـ القسم الثاني ـ
د. أبو القاسم فنائي(*)
«[العاقل] هو الذي يضع الشيءَ مواضعَه»([1]). (الإمام عليّ×).
وفي ما يلي ندخل في تفاصيل نقد الاستدلال المتقدّم.
يمكن نقد المقدّمة الأولى من هذا الدليل (أي نقصان العقل البشري) على النحو التالي.
وإن أوّل مسألة ينبغي الالتفات إليها هي أن الذي يريد أن يثبت نقصان العقل قد أذعن مقدّماً إلى أنّه بالإمكان الاعتماد على هذا العقل الناقص (على الرغم من نقصانه)، وأن حكم هذا العقل في ما يتعلَّق بمعرفة التكليف وجيهٌ ومعتبر. أَوَليس هذا العقل الناقص هو الذي يتمّ توظيفه في الوصول إلى إثبات ضرورة الوحي وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإثبات «الوجوب» العقلي في اتباع الشريعة؟ أَوَليس هذا الوجوب هو وجوبٌ أخلاقي؟
ما هو الدليل الذي يثبت أن العقل لم يخطئ في هذا الاستدلال، وفي ما يتعلق بهذا المورد قد أحاط علماً بجميع الحقائق الحاضرة والغائبة، وجميع النتائج الواضحة والكامنة، وأنه لم يكن في هذا المورد الخاصّ أسير الأهواء والرغبات؟ أَوَليس اتباع النقل في معرفة التكاليف أحد الأفعال الإرادية والاختيارية؟ هل للعقل في صدور هذا التكليف في ما يتعلَّق بجميع النتائج والتبعات الدنيوية والأخروية والغيبية وغير الغيبية لاتباع النقل إشراف وإحاطة علمية وقطعية ويقينية؟ ما هو الدليل الذي يثبت أن «النزعة النقلية»، بمعنى إلغاء العقل في مقابل النقل، واتباع المنقولات المخالفة للعقل، تضمن لنا كمال السعادة الدنيوية والأخروية على نحوٍ أفضل؟ ألا يعتبر تعطيل العقل في حدود الأخلاق، وإحلال النقل محلّ الأخلاق، أهمّ أسباب انحطاط المسلمين وما حلّ بهم من المصائب؟ ألا يسعى هؤلاء الذين يدَّعون نقصان العقل ـ من خلال التمسُّك بهذا الاستدلال العقلي ـ إلى أن يثبتوا في الحدّ الأدنى «واجباً» عقلياً ووظيفة أخلاقية تفوق الدين، ألا وهو وجوب اتّباع الشريعة والوحي والنقل؟ وعليه فالسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما هو الفرق بين هذا الوجوب العقلي وفوق الديني وهذه الوظيفة الأخلاقية وبين سائر الواجبات والمحظورات العقلية وسائر الوظائف الأخلاقية وما وراء الدينية، التي تكون طبقاً لادّعاء أصحاب هذا الاستدلال فاقدةً للاعتبار؟
وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن نستنتج أن هذا الاستدلال يشتمل على مفارقة واضحة، وأنه يناقض نفسه؛ إذ كيف يمكن للعقل الناقص والخاضع للأهواء والرغبات أن يكون معصوماً من الخطأ في ما يتعلَّق بإثبات حقّ الطاعة لله ووجوب اتباع الشريعة، ولا يكون معصوماً في ما يتعلَّق بالتعرُّف على حقوق الإنسان والأخلاق الاجتماعية القائمة على هذه الحقوق، والقول بإمكان وقوعه في الخطأ، وأن مجرد هذا الاحتمال يسقطه عن الاعتبار والحجّية، فلا يحقّ للناس الاعتماد عليه في تحديد حقوقهم وواجباتهم؟! كيف يمكن للعقل المستقلّ عن الشرع أن يعجز عن فهم طبيعة الإنسان وحقوقه، ولكنْ باستطاعته أن يفهم طبيعة الله وحقّ الله؟ ومضافاً إلى ذلك ألم يختلف الناس في ضرورة اتّباع الوحي والنقل؟
وثانياً: إن الرجوع إلى النقل لا يقضي على تأثير الأهواء والرغبات على العقل، ولا يزيل نقصان العقل؛ لأن وصولنا إلى الشريعة لا يكون بلا واسطةٍ، وإنما الوصول إلى الشريعة يتمّ دائماً عبر توسيط هذا العقل المشوب والناقص والخاطئ. وربما أخطأ هذا العقل في فهم ومعرفة الشريعة من خلال قراءة النصّ، وقد يقع تحت تأثير الأهواء والرغبات النفسية أيضاً.
وثالثاً: لو أراد شخصٌ أن يستنتج من نقصان العقل ووقوعه في قبضة الأهواء إلغاءه في ما يتعلق بأخلاق البشر، واللجوء إلى الشرع والنقل بَدَلاً منه، لا يمتلك أيّ دليلٍ مقنع على السؤال القائل: «لماذا خلق الله العقل أصلاً؟». أفلا يكون خلق هذا العقل ـ الذي لا ينفع الإنسان في تحديد وظائفه وحقوقه، ولا يستطيع من خلاله الحكم بحُسْن الأشياء وقُبْحها، وصحتها وبطلانها، واتّخاذ القرارات القائمة على تلك الأحكام ـ عَبَثاً ولَغْواً؟ ألم يكن من الأفضل لو أن الله خلق الإنسان فاقداً للعقل؟ ألن يكون الإنسان غير العاقل أكثر إطاعةً وانصياعاً للأوامر الإلهية، وأكثر إذعاناً وامتثالاً لأوامر أولئك الذين يدَّعون تمثيل الله، وأسلس خضوعاً وانقياداً للشريعة النقلية؟
إن الإجابة التي تقدَّم عن هذا السؤال عادةً هي أن خلق العقل ليس لَغْواً، ولا عَبَثاً؛ إذ بإمكان العقل أن ينشط في مساحة أصول العقائد، وإن الشرع يرى حكم العقل في هذه المساحة حجّةً ومعتبراً، وهذا المقدار يكفي في إخراج خلق العقل عن اللغو والعبث.
ولكنّ هذه الإجابة غير مقنعة، للأسف الشديد؛ إذ:
أوّلاً: إن القول بنقصان العقل ووقوعه في قبضة الأهواء والرغبات، وتأثُّره بالأمور المانعة من معرفة الحقيقة، لا يقتصر على الأحكام العملية، وإنما يجري حتّى على مساحة أصول العقائد أيضاً. ومن هذه الناحية لا يوجد أدنى اختلاف بين العقل النظري والعقل العملي، أو بين أصول العقائد والفروع العملية، وخاصة إذا التفتنا إلى أن نشاط العقل في مساحة أصول العقائد هو الآخر رهنٌ بتشخيص القِيَم والمعايير التي تسود التفكير والتحقيق (أساليب التفكير والتحقيق)، وإن الكشف عن هذه القِيَم والمعايير والحكم بشأنها يتبعان أسلوباً ومنهجاً واحداً. فنحن البشر في ما يتعلَّق بالمساحة الأخلاقية (سواء أخلاق التفكير والتحقيق أو أخلاق السلوك) لا نمتلك غير الظنّ، وفي كلا الموردين نعاني من نقصان العقل، ونقع تحت تأثير الأهواء والرغبات النفسية، ولا نحيط علماً بجميع جوانب الموضوع، وفي كلا الموردين يكون هناك اختلافٌ في الآراء بين الناس. فإذا كان الدليل إلى حاجة الإنسان إلى الوحي يكمن في نقصان عقله فإن هذه المشكلة قائمةٌ حتّى في مساحة أخلاق التفكير والتحقيق أيضاً، ولا تختصّ بأخلاق السلوك فقط. وعليه إذا قبلنا بهذا الدليل تعيَّن علينا إلغاء وتعطيل الإلهيات العقلية والطبيعية أيضاً، وأن لا نعتمد على العقل المستقلّ في مجال العقل النظري ومعرفة الأمور الاعتقادية.
وثانياً: إن للوحي الكثير ممّا يقوله في أصول العقيدة أيضاً، إذا لم نقُلْ: إن التعاليم السماوية في هذا المجال أكثر وأهمّ منها في الفروع والأحكام العملية، وإن الأمور الغيبية الموجودة في أصول الدين أكثر منها في فروع الدين. والسؤال المطروح هنا: «لماذا لا يتوقّف القول بالتعاليم السماوية في مجال العقائد على إلغاء العقل ونفي الحجّية عنه؟». وإن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تثبت أوّلاً: أن العقل حتّى في العقائد لا يستغني عن الوحي أيضاً؛ وثانياً: أن كلاًّ من العقل والوحي حجّةٌ في هذا المجال. وفي الحقيقة فإن الفصل والتفكيك بين العقل والوحي، وتقسيم الوظائف بينهما على النحو المتقدِّم، والقول باختصاص حجّية العقل بالأمور العقائدية، واختصاص حجّية الوحي بالأمور الفرعية والعملية، ليس صحيحاً.
ويبدو أن الفصل بين العقل والنقل، وتقسيم مناطق نفوذ كلٍّ واحد منهما على النحو المتقدّم، إنما هو ناشئٌ عن افتراضٍ لا يتمّ التصريح به عادةً. وهذا الافتراض يقول: (للحيلولة دون وقوع العقل في الخطأ يجب تقييد القبول بحكمه بـ «القطع» و«اليقين». وإن هذا القطع واليقين يمكن تحصيله في الأمور العقائدية، وأما في الفروع العملية فلا يمكن تحصيله في أغلب الموارد، ولذلك لا مندوحة في هذا المجال من الرجوع إلى الوحي).
وبعبارةٍ أخرى: يقول السائل: ما الذي يجب فعله من أجل الحيلولة دون وقوع العقل في الخطأ، والمنع من تأثير الأهواء وسائر الأمور الأخرى، التي تحول دون إدراك العقل للحقيقة؟
إن الإجابة التي يقدِّمها أكثر المسلمين، من الشيعة والسنّة، والعلماء وغيرهم، عن هذا السؤال ما يلي :
1ـ يجب اشتراط حصول «القطع» و«اليقين» لإثبات الاعتبار والحجّية لحكم العقل.
2ـ في ما يتعلّق بالموارد التي لا نحثّ فيها على القطع واليقين يجب علينا الرجوع إلى الوحي من طريق النقل.
وبعبارةٍ أخرى: إن الإجابة التي يقدِّمها هؤلاء عن هذا السؤال كالتالي:
1ـ إن الظنّ العقلي (الظنّ المستند إلى الشهود والاستدلال العقلاني) ليس حجّةً.
2ـ إن الظنّ النقلي (الظنّ المستند إلى ظاهر النصوص الدينية) حجّةٌ.
3ـ وعليه، عند وقوع التعارض بين الظنّ العقلي والظنّ النقلي يكون التقديم دائماً للثاني (وإن الظنّ النقلي لا يسقط عن الاعتبار إلاّ عند تعارضه مع القطع العقلي أو الظنّ النقلي الأقوى منه).
4ـ وعليه فإن علم الفقه المستند إلى الظنون النقلية مقدَّم على علم الأخلاق المستند إلى الظنون العقلية، بل الأوّل هو البديل عن الثاني([2]).
أرى أن هذا الافتراضات والأدلّة الكامنة خلفها هي التي أدَّتْ إلى إلغاء دور العقل المستقلّ عن الشرع، وزوال العقلانية، وإحلال الفقه محلّ الأخلاق في الثقافة الإسلامية؛ وأنها هي السبب الرئيس في بؤس المسلمين، والمنشأ الأساسي في انحطاط الحضارة الإسلامية، والبذرة الأولى لتخلُّف المجتمعات الإسلامية عن رَكْب العلم والحضارة البشرية. ولذلك فإنها تحتاج إلى دراسةٍ عميقة وجادّة([3]). فإنْ كان هناك مَنْ يسعى إلى إحياء الحضارة الإسلامية، والقيام بحركةٍ تفضي إلى إنتاج العلم، فإن الطريق إلى ذلك يتمّ عبر تحرير العقل من قيود النقل، والدعوة إلى توسيع التحقيق العقلاني الحُرّ، وليس عبر فرض القيود على حرّية التعبير، وتقييم نتائج التحقيق العقلاني بمقياس المنقولات. وإن أقلّ ما يقال في حقّ الافتراضات المذكورة آنفاً: إنها لا تنسجم من الأساس مع مقتضيات العقلانية. وإن مقتضى العقلانية في هذه الموارد عبارة عن:
1ـ إن بعض الظنون العقليّة (والتجريبيّة) معتبرةٌ وحجّة.
2ـ إن بعض الظنون النقليّة معتبرٌ وحجّة أيضاً.
3ـ إذن، عند حصول التعارض بين الظنون يكون المقدَّم هو الظنّ الأقوى، دون فرق بين أن يكون كلاهما عقلي (أو تجريبي)، أو نقلي، أو أحدهما عقلي (أو تجريبي) والآخر نقلي([4]).
وهناك الكثير من الأدلة على اعتبار بعض الظنون العقلية؛ فأوّلاً: إن القطع واليقين المستند إلى الدليل مختصٌّ بمجال المنطق والرياضيات، وأما سائر مجالات المعارف الأخرى فليست في متناول العقل البشري([5]). وعليه لو حصرنا حجّية واعتبار العقل بحصول القطع واليقين فإننا سنعمل في الحقيقة على تعطيله وإلغاء دَوْره، وإن تعطيل العقل يستلزم هذا القول غير المعقول، وهو أن الله قد خلق العقل لَغْواً وعَبَثاً. هذا وإن الاستدلال مورد البحث لصالح تعطيل العقل وتقديم النقل عليه لو كان معتبراً فإنما يفيد الظنّ، دون القطع واليقين.
ثانياً: إن المطالبة بتحصيل القطع واليقين في موارد تعذُّرهما لا تنسجم مع العقلانية؛ إذ لا تختلف هذه المطالبة عن المطالبة بصنع المستحيل! إن الطرق والمنافذ المختلفة لكسب المعرفة وتبرير الاعتقاد ما دام احتمال صوابها يغلب على احتمال الخطأ فيها، تُعَدّ موثوقة ومعتبرة، وإن تحصيل الظنّ بصدق أمرٍ ما يعني أنّ احتمال صدقه يفوق احتمال كذبه. فالعقل لا يأمرنا بالإعراض عن الظنّ والاحتمال بشكلٍ مطلق، وإنما الذي يريده العقل منّا هو:
1ـ أن نقيس درجة تعويلنا وتمسّكنا بالأمر أو الحكم (أ) إلى درجة ظنّنا المستدلّ به، وأن لا نلتزم أو نرتّب الآثار على الأمر أو الحكم بما يفوق أو يقلّ عن الحدّ المناسب، وعندما يكون لدينا دليلٌ ظنّي لصالح ما ندّعيه علينا أن لا ندّعي القطع واليقين، وأن لا نتعامل مع ظنوننا معاملة القطع واليقين.
2ـ عند قيام التعارض بين الأمر أو الحكم (أ) وبين الأمر أو الحكم (ب)، الذي يحظى بدعامةٍ ظنّية أقوى، أو إذا عثرنا على دليلٍ جديد يخالف الأمر أو الحكم (أ)، وكان أقوى من الدليل المؤيِّد لهذا الأمر أو الحكم، وجب علينا إما التخلّي عن الأمر أو الحكم (أ)؛ أو أن نتصرّف بشكلٍ موجّه في مضمون ما نعتقده؛ حتّى يتمّ حلّ هذا التعارض لصالح المعتقد والدليل الأقوى.
ثالثاً: إن حجّية الظنون النقلية إنما تثبت من خلال الظنّ العقلي أيضاً، دون القطع العقلي؛ إذ لا ينتفي احتمال الخطأ العقلي في مقام الاستدلال على حجّية الظنون النقلية. وفي الوقت نفسه لا يعقل التفريق بين الظنون العقلية (والتجريبية) والظنون النقلية؛ إذ إن المهمّ لدى العقل هو «احتمال» الصدق، و«الاقتراب» من الحقيقة. وهذا الاحتمال عندما يتعذر «الوصول» إلى الحقيقة تكون له قيمته، ويكون معتبراً، سواء حصل من طريق الأدلة العقلية (والتجريبية) أو من طريق الأدلة النقلية.
إن أهمّ دليلٍ على حجية الظنون النقلية هو منهج أو أسلوب العقلاء، أو ما يُعبَّر عنه بـ (السيرة العقلائية). إلاّ أن هؤلاء العقلاء الذين يعملون بالظنون النقلية في ظلّ ظروف معينة يعملون أيضاً بالظنون العقلية والتجريبية في ظلّ ظروف مشابهة. وهم أنفسهم يعملون على طبق الظنّ الأقوى عند حصول التعارض بين الظنون المختلفة. كما أنهم لا يعملون بذلك الخبر وذلك الظاهر عند عدم انسجام مضمون خبر الواحد وظاهر الكلام مع المعتقدات الظنية العقلية (أو التجريبية) الأقوى. وعلى مَنْ يشكّ في ذلك أن يتحرّى حقيقة الأمر بنفسه.
إن الادّعاء القائل: «إن ظاهر الكلام وخبر الواحد الصادر عن الثقة حجّةٌ، إلاّ في حالة القطع بالخلاف» لا يقبل إلاّ في بعض الحوزات العلمية. أما العقل السليم والعرفي لعامّة البشر فلا يُصْدِر مثل هذا الحكم. فلا وجود لمثل هذه السيرة بين العقلاء خارج الحوزة العلمية. وعلى هذا الأساس نجد أن العلماء الأعلام قد أخطأوا في تشخيص حكم العقل وسيرة العقلاء بهذا الشأن. ولذلك لا يمكن أن نعثر للعقلانية الفقهية السائدة على دليلٍ خارج الحوزات العلمية، وفي سائر المساحات المعرفية. فمن وجهة نظر العقلاء لا تكون حجّية الظهور وحجّية خبر الواحد «مطلقة»، وإنما هي مشروطة بشرائط خاصّة، ومن أكثر هذه الشروط تأثيراً أن لا يكون مضمون الخبر أو ظاهر الكلام معارِضاً للظنّ الأقوى منه.
فلْنَعُدْ إلى أصل الاستدلال، ولنفترض أننا آمنّا بنقصان العقل البشري في مجال الأخلاق. والادّعاء هنا أن نقصان العقل لا يكون في حدّ ذاته دليلاً صالحاً للتشكيك الأخلاقي، وإلغاء دَوْر العقل ونفي اعتباره في دائرة الأخلاق.
يجب علينا أن نرى ما هو الطريق الذي يمكن من خلاله التقليل من نقصان العقل، أو كيفية رفع هذا النقصان إذا أمكن ذلك؟ إن نقصان العقل البشري في إدراك القِيَم الأخلاقية ليس ذاتياً، ولا أبدياً، بل هو أمرٌ عارض وزائل. ويمكن رفعه من طرقٍ أخرى غير الرجوع إلى الوحي والنقل أيضاً. وحيث إن طريق التعويض ومعالجة هذا النقص غير منحصرةٍ بالرجوع إلى الوحي والنقل، بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، فلا يمكن لنا أن نثبت أو نؤيِّد من هذا الطريق تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين. فمن الناحية الدينية هناك طرقٌ أخرى غير الوحي يمكن لله أن يوظِّفها، أو قام بتوظيفها، من أجل هداية وإرشاد الناس إلى الهداية الأخلاقية والعملية. فإن الإلهام والشهود والإرشادات الأخلاقية التي يعيش الناس تجربتها في حياتهم اليومية تُعَدّ من أهمّ مصادر المعرفة الأخلاقية، وهي نوعٌ من الوحي. وقد رُوي عن الإمام عليّ× أنه قال: «ما برح لله عزَّتْ آلاؤه، في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عبادٌ ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم»([6]).
وبطبيعة الحال ليس هناك من طريقٍ أو وسيلة يمكن بواسطتها رفع نقصان العقل البشري بشكلٍ كامل، ولكنْ يمكن من خلال «التجربة» و«الممارسة» العمل على التخفيف من هذا النقص والتقليل منه إلى حدٍّ مقبول. وعليه فإن إلغاء دور العقل وإحلال النقل محلّه لن يحلّ المشكلة، بل سيؤدّي إلى ظهور مشاكل أخرى، أقلُّها إبقاء نقصان العقل كما هو إلى الأبد (وهذا ما يسعى إليه البعض للأسف الشديد). إن مران العقل في مقام النظر رهنٌ بحرّية التفكير والبيان وما وراء البيان، كما هو متوقِّف على الاعتراف بحقّ الإنسان في اختيار العقائد والأفكار. كما أن مرانه على المستوى العملي رهنٌ بحرّيته في مقام اتخاذ القرار والعمل. لو كان الأمر كما يدّعي الأصوليون، من تحديد تكليف البشر في جميع المسائل العامة والخاصة، وأنه ما على الناس في معرفة وظائفهم سوى الرجوع إلى النقل، فسوف لا يبقي أيّ مجالٍ لنموّ العقل العملي لدى الناس، وهذا يتنافى مع فلسفة بعثة الأنبياء. وبطبيعة الحال فإن حرّية التفكير والاختيار لا تتنافى مع «وجود» القِيَم والسنن العقلانية التي تهدي التفكير والعمل، وكذلك مع «وجود» الشريعة والوحي (وإنْ كانت تنافي إكراه الناس على اتّباع هذه القِيَم والتقاليد من قِبَل الحكومة والمؤسسات النافذة). وعلى هذا الأساس إذا كان الأمر بأن تكون شريعة النقل جامعةً وشاملة، تستوعب جميع أعمال وسلوكيات الإنسان الفردية والاجتماعية من المهد إلى اللحد، بمعنى إذا كان الأمر بأن «يحلّ الفقه محلّ الأخلاق» و«النقل محلّ العقل»، وإذا كان الأمر بأن تحلّ «شريعة النقل» محلّ «شريعة العقل» و«شريعة العُرْف»، وإذا كان الأمر بأن يقوم الفقه على إغناء الناس عن سائر العلوم الأخلاقية، لن يبقى هناك مجالٌ لاتخاذ القرارات العقلانية، وتَبَعاً لذلك لن يكون هناك أرضيةٌ لتطوير الإنسان على المستوى العقلي.
ومضافاً إلى ذلك، لنفترض أن العقل البشري ناقصٌ فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تمّ رفع هذا النقصان من خلال جعل الأحكام الشرعية؟ وهل يمكن رفع هذا النقص أساساً؟ نحن نرى أن نقصان العقل إنما يتمّ التعويض عنه ـ وذلك إلى حدٍّ ما ـ من خلال الرجوع إلى ذات العقل، وليس من خلال إلغائه وتعطيله في مقابل النقل. وإن من بين الأدلة التي يمكن إقامتها على هذا الادّعاء ما يلي:
1ـ لكي «نعمل» بتعاليم الوحي لا بُدَّ من «معرفتها».
2ـ لا بُدَّ لـ «معرفة» الوحي من «فهمه».
3ـ لا بُدَّ لـ «فهم» الوحي من «تفسيره»([7]).
4ـ لا بُدَّ لـ «تفسير» الوحي من توظيف «المعلومات» السابقة.
5ـ لتوظيف المعلومات السابقة يجب قبل كلّ شيءٍ فصل المعلومات «ذات الصلة» عن المعلومات «غير ذات الصلة»، ومن ثم العمل على فصل المعلومات ذات الصلة «المعتبرة» عن المعلومات ذات الصلة «غير المعتبرة».
6ـ لكي نتمكّن من فصل المعلومات ذات الصلة عن المعلومات غير ذات الصلة، والمعلومات المعتبرة عن المعلومات غير المعتبرة، تجب الاستعانة بالمعايير والقوانين «العقلانية»، أي علينا أن نستعين بـ «العقل» و«شريعة العقل» و«الشهود العقلي».
وعلى هذا الأساس فإن وصول الناس إلى الوحي وحكم الشرع لا يكون مباشرةً ومن دون واسطة، بل إنهم يتوصّلون إلى الوحي وحكم الشرع من خلال هذا العقل الخاطئ، ولا يمكن حذف هذه الواسطة. إن الدين إنما يخاطب العقل، وإننا إنما نحصل على رسالة الدين، وندرك هذه الرسالة، من خلال الاستعانة بالعقل، وإن محدوديات هذا العقل حاضرةٌ في فهم الدين وتفسير النصوص الدينية أيضاً. وإن احتمال الخطأ في المعرفة الدينية ومعرفة الشريعة (علم الفقه) ليس بأقلّ من احتمال الخطأ في المعرفة الأخلاقية ومعرفة القِيَم الأخلاقية (علم الأخلاق)([8]). إذا لم يكن لدى العقل طريقٌ إلى المعلومات اللازمة لتشخيص القِيَم والقواعد الأخلاقية بشكلٍ كامل وقطعي سيواجه هذه المشكلة في تشخيص التعاليم الإلهية والأحكام الدينية أيضاً، هذا إذا لم نقُلْ: إن المشكلة في هذا المورد ستكون أشدّ وأعمق.
هذا، مضافاً إلى أن الأنا والمصلحة وخداع الذات وخداع الآخر قد تحضر في مقام فهم وإدراك أحكام الشرع أيضاً، فتحول دون الفهم الصحيح لهذه الأحكام، بمعنى أن العوامل التي تحول دون إدراك القِيَم الأخلاقية بشكلٍ صحيح إذا لم نقُلْ: إنها تحول بالأولوية دون إدراك الأحكام الشرعية فإنها في الحدّ الأدنى تحول دون ذلك بنفس الحجم والمستوى أيضاً؛ فإن المعرفة الدينية والفقهية للناس ـ كما هو الحال بالنسبة إلى معرفتهم الأخلاقية ـ عرضةٌ للتأثُّر بمختلف العوامل والمؤثِّرات، وليست بمنجىً من الأهواء والرغبات والميول والنزعات النفسية والمطامع الدنيوية. ولذلك كان علم الفقه ـ مثل الكثير من العلوم البشرية ـ علماً «ظنّياً». وإن فتاوى الفقهاء ـ في أفضل حالاتها ـ نتاج هذه الظنون.
وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الدليل، بَدَلاً من أن يبين تبعية الأخلاق للدين على المستوى المعرفي والمنطقي، وضرورة إحلال الفقه محلّ الأخلاق، يثبت تبعية الدين وأخلاق السلوك على المستوى المنطقي والمعرفي لأخلاق التحقيق والتفكير. إن أخلاق البحث والتحقيق والتفكير مجموعةٌ من القواعد والقِيَم المعرفية التي يؤدّي التمسُّك بها في مقام التفكير والتحقيق إلى اقتراب العقل البشري من الحقيقة، ويقلِّل من احتمال وقوعه في الخطأ، ويحول قدر الإمكان دون تدخُّل الهوى والحرص والطمع والحبّ والبغض في حكم العقل([9]). إن التفكير الديني والتفكير الأخلاقي بحاجةٍ إلى أخلاق البحث والتفكير بنفس المقدار، إذا لم نقُلْ: إن حاجة التحقيق والتفكير الديني إلى الأخلاق أكثر وأشدّ.
وعليه إنما يمكن التقليل من الخطأ في تشخيص القِيَم والوظائف الأخلاقية من خلال اتّباع قِيَم وضوابط أخلاق البحث والتفكير، وتسليح الذهن بالفضائل المعرفية، وتطهيره من الرذائل المعرفية. وإن مجرد الرجوع إلى الوحي والنصوص الدينية في هذا الشأن لا يحلّ المشكلة، ولا يقلِّل من خطأ القوى الإدراكية. وهذا الحكم يصدق أيضاً في مورد إدراك وتشخيص الأحكام الشرعية أيضاً([10]).
لقد عمد فلاسفة الأخلاق؛ من أجل رفع الموانع والعقبات الماثلة في طريق تحصيل المعرفة الأخلاقية، والحيلولة دون تأثير عوامل من قبيل: التكبُّر والأنا والمصالح والتقليد وما إلى ذلك، أو الحدّ من تأثيرها في العقل العملي، إلى تقديم مختلف الأساليب. وإن آلية فلسفة الأخلاق أساساً تكمن في أنها تساعدنا في تشخيص الحكم الأخلاقي. ومن هذه الناحية لا فرق بين علم الأخلاق وسائر العلوم الأخرى، فكما أن نقصان العقل واحتمال خطأ الفرد في مجال الفلسفة والعلوم التجريبية لا يشكِّل دليلاً صالحاً للتشكيك الفلسفي والعلمي، وإحلال الدين واللاهوت محلّ الفلسفة والعلوم التجريبية، كذلك الأمر في مورد علم الأخلاق وإحلال الفقه محلّه([11]).
إن لكلّ علمٍ منطقه الخاصّ، وإن منطق الأخلاق هو فلسفة الأخلاق([12]). وكما أن التعاليم الدينية في باب الفلسفة والعلوم التجريبية لا تجعل الإنسان مستغنياً عن الفلسفة والعلوم التجريبية فإن التعاليم الدينية في باب الشريعة والأخلاق الاجتماعية لا تجعل الإنسان في غنىً عن علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق أيضاً. وكما يلهم الله الإنسان الحقائق الفلسفية والعلمية من طريق العقل والتجربة فإنّ بإمكانه أن يلهمه ويعلمه القِيَم الأخلاقية من طريق علم الأخلاق وفلسفة الأخلاق أيضاً.
ومضافاً إلى ذلك فإن الاستفادة من التعاليم الدينية في باب الشريعة والأخلاق تتوقّف على التنظير؛ وذلك أوّلاً: لأن هذه التعاليم بحاجةٍ إلى تفسيرٍ وشرح، وثانياً: لأنها تتعارض في بعض الموارد فيما بينها، وفي بعض الموارد تعارض العقل والوجدان والتجارب البشرية. وعليه فإن المؤمنين سوف يحتاجون في تفسير هذه التعاليم، ورفع التعارض فيما بينها من جهةٍ، وفيما بينها وبين سائر المصادر المعرفية الأخرى، إلى مقدّمات متنوّعة، سواء أكانت دينية أو غيرها، وإلى نظريات أخلاقية وما وراءها، وإلى غير ذلك من الأمور والمقدّمات. وعليه لا يمكن للوحي والنقل أن يحلّ محلّ العقل والوجدان في دائرة الأخلاق، ولا يمكن له أن يسدّ الفراغ الحاصل في ظلّ غيابهما. وعليه لا يمكن تعطيل دَوْر العقل في دائرة الأخلاق من خلال التمسُّك بهذا الدليل، والعمل على إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق. ولو أن العقل عجز عن معرفة القِيَم الأخلاقية، ولم يتمكن من اتخاذ القرارات على أساس المعايير الأخلاقية، لن يكون حتّى بمقدور الوحي أن يحلّ مشكلته. ولو كان عقل الإنسان ناقصاً وواقعاً تحت تأثير الأهواء والرغبات (وهو كذلك) فإن هذا النقص والتأثر سيلازمه حتّى في فهم الوحي أيضاً، وسيحول دون الفهم الصحيح والقطعي واليقيني للوحي أيضاً.
إن النصوص الدينية بحاجةٍ إلى شرحٍ وتفسير وتبرير، وإذا لم يتمّ درج هذه التعاليم والنصوص الدينية في دائرة السلوك ضمن نظرية أخلاقية متكاملة ومقنعة لن يكون بالإمكان توظيفها والاستفادة منها والتعويل عليها، هذا إذا لم نقُلْ: إنها لن تكون مفهومة أصلاً. وحيث إن شرح وتفسير التعاليم الواردة في هذه النصوص رهنٌ بالرجوع إلى العقل والوجدان والاستناد إلى الأحكام العقلية والوجدانية في مجال الأخلاق فإن التعاليم الشرعية الموجودة في هذه النصوص لن تلبّي حاجة الإنسان إلى العقل والوجدان في دائرة الأخلاق أبداً.
رابعاً: إن هذا الادّعاء لا ينسجم مع مضامين النصوص الدينية. فإن هذه النصوص الدينية تقول: إن إرشادات الله الأخلاقية تُلْهَم للإنسان من طريق الوجدان أو الفطرة الأخلاقية. ومن ذلك: قوله تعالى:
ـ ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 7 ـ 8).
ـ ﴿بَلْ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ (القيامة: 14 ـ 15).
ـ ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوَّامَةِ﴾ (القيامة: 2).
ـ ورُوي عن الإمام عليّ× أنه قال: «كفاك أدباً لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك»([13]).
خامساً: إن الرجوع إلى الدين والنصوص الدينية من أجل معرفة القِيَم والقواعد المنظمة لسلوك الناس لم ينجح في حلّ الخلافات بين الناس على المستوى الأخلاقي، بل فاقمت من هذه الخلافات بمعنىً من المعاني؛ فإن علم الفقه ـ مثل سائر العلوم الأخرى ـ كان ولا يزال وسيبقى حلبةً لنزاع وجدل لا يُحْسَم. ومن جهةٍ أخرى فإن إمكان معرفة القِيَم الأخلاقية من طريق العقل والوجدان لا يتنافى مع اختلاف الناس في هذا المجال؛ لأن الناس لا يستفيدون من عقلهم في جميع الموارد، وليست لديهم الجرأة على التفكير، وهم أكثر ما يفرّون إنما يفرّون من «الحرّية» و«الوعي». وبالإضافة إلى ذلك فإن جميع الناس لا يعرفون الأساليب الضرورية للحدّ من الأهواء والرغبات النفسية والمطامع الشخصية عند تشخيص الحكم الأخلاقي، أو إنهم لا يوظِّفون هذه الأساليب. وعلى أيّ حالٍ فإنهم يتجنّبون نقد التقاليد الأخلاقية التي ورثوها من أسلافهم.
إن اختلاف الآراء الأخلاقية لا تخلو؛ فهي إما قابلة للحسم؛ أو غير قابلة للحسم. وإن الخلافات من النوع الأوّل تنشأ من حقيقة أن الناس في المواقف الأخلاقية التي يتخذونها يركنون التفكير والنظر العقلاني جانباً، ولا يعملون على توظيف عقلهم بالشكل المطلوب أو الصحيح. ويبدو أن اختلاف الآراء الأخلاقية ـ الأعمّ من تلك التي تقبل الحلّ والتي لا تقبل الحلّ ـ إنما تنشأ من المناشئ المختلفة التالية:
1ـ الاختلاف في تشخيص ومعرفة الحقائق ذات الصلة.
2ـ الاختلاف في القواعد الأخلاقية ذات الصلة، وفي فصل العوامل الأخلاقية ذات الصلة عن العوامل الأخلاقية غير ذات الصلة.
3ـ الميول والرغبات النفسية غير الأخلاقية، من قبيل: حبّ الأنا والذات.
إن الاختلافات من النوع الأول في الحقيقة ليست اختلافات «خالصة»، بل هي أوّلاً وبالذات اختلافات علمية أو فلسفية وكلامية، من قبيل: الاختلاف في الحكم الأخلاقي لإسقاط الجنين؛ بسبب الاختلاف في «الهوية» و«المنزلة الأخلاقية»([14]) للجنين، وتَبَعاً لذلك الاختلاف في أن إسقاط الجنين هل هو مصداقٌ لقتل النفس المحترمة أم لا؟ في الموارد من هذا القبيل يكون الاختلاف الأخلاقي اختلافاً بنائياً، ينشأ عن اختلافٍ أعمق في باب الفرضيات العلمية أو الفلسفية والكلامية، ممّا يُعَدّ مؤثِّراً في تحديد الهوية والمنزلة الأخلاقية لموضوع البحث. وإن هذا الاختلاف لا يقبل الحلّ من خلال الرجوع إلى النصوص الدينية؛ لأن هذا الاختلاف أوّلاً وبالذات اختلافٌ موضوعي، وليس اختلافاً حكمياً.
وأما الاختلافات من النوع الثاني فهي اختلافاتٌ أخلاقية «خالصة»، وتعود إلى الاختلاف في مجال النظرية الأخلاقية، أو الاختلاف في أسلوب تبرير الأحكام الأخلاقية. وهذا النوع من الاختلاف لا يقبل الحلّ من خلال الرجوع إلى الدين أيضاً.
إن الاختلافات الناشئة من المنشأ الثالث ليست اختلافات أخلاقية، ولا هي من الاختلاف العلمي أو الفلسفي والكلامي. وإن هذه الاختلافات أوّلاً وبالذات لا تندرج في دائرة الحقائق ذات الصلة، ولا في دائرة الحكم الأخلاقي المترتّب على تلك الحقائق. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الاختلافات تنشأ من الأهواء والميول والرغبات والنزعات النفسية التي تتجلّى على شكل اختلاف أخلاقي. وفي هذه الفرضية لا يكون موقف أحد الطرفين أو كلَيْهما موقفاً أخلاقياً بالمعنى الخاصّ للكلمة، بمعنى أنهما لا ينشآن من الناحية الأخلاقية. وإن هذا النوع من الاختلاف غير قابل للحلّ من خلال الرجوع إلى النصوص الدينية أيضاً.
وعلى أيّ حالٍ فإن هذه الاختلافات، سواء كانت قابلة للحسم أم لا، لا يمكن حلّها من خلال الرجوع إلى الوحي والنصوص الدينية. ولذلك نجد الذين يحصلون على قِيَمهم الأخلاقية من النصوص الدينية يختلفون في الحدّ الأدنى حول هذا المقدار من المسائل والموضوعات والأحكام الأخلاقية([15]). وعلى أيّ حال يمكن العثور بسهولةٍ على مثل هذه الاختلافات في دائرة الفقه أيضاً.
سادساً: يمكن لنا أن نناقش في هذا الادّعاء أيضاً، والقول بأن المرء؛ نتيجة لعدم إحاطته الكاملة بالمصالح والمفاسد والنتائج الإيجابية والسلبية المترتّبة على أعماله، يعجز عن إدراك الحكم الأخلاقي لتلك الأعمال.
ويمكن شرح بعض أهمّ تلك المناقشات على النحو التالي:
1ـ إن الحكم الأخلاقي للأعمال ليس تابعاً لنتائجها على الدوام، وبشكلٍ تامّ. وبطبيعة الحال فإن لفلاسفة الأخلاق بشأن السؤال عن العوامل والخصائص التي يترتَّب عليها الحكم الأخلاقي للأعمال إجاباتٍ متفاوتةً. ولكنْ أوّلاً: إن «الاستنتاجية»([16]) إنما هي واحدةٌ من تلك الإجابات والآراء؛ وثانياً: إن «الأنوية»([17])، التي هي نوعٌ خاص من «الاستنتاجية»، لا تحظى بشعبيةٍ كبيرة بالمقارنة إلى سائر أنواع الاستنتاجية. وإن الكثير من فلاسفة الأخلاق لا ينظرون إليها بوصفها نظريةً أخلاقية، وإنْ كانت الأنوية بوصفها تفسيراً خاصّاً للعقلانية العملية تتمتَّع بمقبوليةٍ أكبر إلى حدٍّ ما. وعلى أيّ حال فإن النتائج التي يشتمل عليها الفعل بالنسبة إلى شخص الفاعل إنما تحصل على أهمّيتها من زاوية الأخلاق الفردية والأخروية، وليس من زاوية الأخلاق الاجتماعية والدنيوية، بمعنى أن أهمّية هذه النتائج من ناحية الأخلاق الاجتماعية تكون في الحدّ الأقصى بمقدار أهمّية نتائج الفعل بالنسبة إلى الآخرين في هذه الحياة الدنيوية([18]).
2ـ لنفترض أن الحكم الأخلاقي لعملٍ ما تابعٌ بشكلٍ كامل للنتائج التي يشتمل عليها ذلك العمل لشخص الفاعل. ففي هذه الحالة يمكن الادّعاء بأن الإدراك الإجمالي والظنّي للفرد لنتائج عملٍ ما كافٍ لمعرفة الحكم الأخلاقي لذلك العمل، وإن إدراك هذا الحكم لا يتوقّف على الوعي والمعرفة التفصيلية اليقينية لتلك النتائج، بمعنى أن بعض نتائج العمل من الأهمّية بحيث يكون احتمال وجود النتائج المضادّة التي يمكنها التغلُّب على تلك النتائج، وتبدُّل الحكم الأخلاقي للعمل، ضئيلاً جداً.
بالإضافة إلى ذلك فإن الحكم الأخلاقي ينقسم إلى: الحكم الأوّلي «في بادئ النظر»؛ والحكم النهائي. من الممكن أن لا يدرك الفرد الحكم النهائي للعمل؛ نتيجة لعدم إدراكه التفصيلي لنتائج ذلك العمل، إلاّ أن عدم الإدراك التفصيلي لنتائج العمل لا تحول دون الإدراك البَدْوي لذلك العمل التابع للنتائج المعلومة، والتي يمكن توقُّعها. وإن مسؤولية الإنسان الأخلاقية تقتضي منه ـ عند عدم التوصُّل إلى الحكم النهائي ـ، أن يعمل على طبق الحكم البَدْوي الذي يتوصّل إليه في بادئ الرأي والنظر.
3ـ إن عدم المعرفة التفصيلية بنتائج الأعمال إنما تمنع من حصول «القطع» و«اليقين» بالحكم الأخلاقي لتلك الأعمال. ولكنْ كما تقدَّم أن قلنا: إن القطع واليقين المستدلّ إنما يمكن الحصول عليه في مجال المنطق والرياضيات فقط. وعليه فإن الإصرار على المطالبة بتحصيل مثل هذا القطع واليقين في سائر المجالات المعرفية يعتبر مخالفاً للعقلانية؛ لأن الحصول على مثل هذا المستوى من العلم والإدراك خارجٌ عن قدرة الإنسان وطاقته؛ فإن هذه الدرجة من العلم لا يمكن الحصول عليها حتّى من خلال الرجوع إلى الوحي والنصوص الدينية أيضاً، ولذلك فإننا لا نمتلك حتّى الظن بالكثرة الكاثرة من الأحكام الشرعية، فضلاً عن القطع واليقين.
4ـ إن الأغلبية الغالبة من الفتاوى الفقهية إنما تستند إلى «الأحكام الظاهرية»، وكما ثبت في علم أصول الفقه فإن العمل بالحكم الظاهري إنما هو مجرَّد معذِّر ويرفع العقاب الأخروي، دون أن يغيِّر في الآثار الوضعية للعمل من النتائج والمصالح والمفاسد الدنيوية والأخروية المترتِّبة على ذلك العمل. وعليه فإن كمال عقل الشارع وإحاطته العلمية بالنتائج الغيبية والأخروية للعمل لا ربط له من الناحية المنطقية بما نحن فيه، ولن يحلّ أيّ مشكلةٍ؛ لأننا في نهاية المطاف نضطر إلى العمل بظنّنا، وإن الظنّ النقلي بالحكم الشرعي لا يحلّ مشكلتنا؛ لأننا من خلال العمل بهذا الظنّ لا نستطيع إحراز المصالح الغيبية مورد الادّعاء، وتجنُّب المفاسد الغيبية مورد الادّعاء. ولكن حيث إن تحصيل القطع واليقين في هذه المساحة مستحيلٌ تكون المطالبة بتحصيله مخالفةً للعقلانية. وعلى هذا الأساس فإننا في هذه المساحة مكلَّفون من الناحية العقلانية بالعمل على طبق ظنوننا. وأما إذا كان القرار على القول بأن الظن بالحكم الشرعي هو المعتبر فإننا نقول: إن العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء لا يرى أيّ فرقٍ بين هذا الظنّ وبين الظنّ العقلي بنتائج العمل، الذي هو بحَسَب فرض المستدلّ مبنى لتشريع الحكم الشرعي. وعليه فإن الظنّ العقلي بنتائج العمل يتمتَّع بالاعتبار المعرفي الكافي أيضاً. وعند التعارض بين هذا الظنّ والظنّ النقلي بالحكم الشرعي يجب تقديم الظنّ الأقوى.
وبعبارةٍ أخرى: إن العمل بمقتضى الظنّ النقلي بالأحكام الشرعية ـ طبقاً للاستدلال المتقدِّم ـ ليس له ما يبرِّره سوى أنه على مستوى «الاحتمال» يعزِّز إحراز المصالح وتجنُّب المفاسد. ولكن على هذا الأساس لا يكون هناك فرقٌ فارق بين الظنّ النقلي بالأحكام الشرعية وبين الظنّ العقلي بالمصالح والمفاسد أبداً. وإن دعوى أن الظنّ النقلي لا يسقط عن الاعتبار إلاّ عند التعارض مع الدليل العقلي القطعي مجرّد ادّعاء لا يستند إلى دليلٍ؛ فإن الظنّ العقلي بالمصالح والمفاسد إذا تعارض مع الظنّ النقلي بالحكم الشرعي المعارض لتلك المصالح والمفاسد لن يسقط عن الاعتبار، وإنما نجد عُرْف العقلاء يعملون عند حصول التعارض على طبق الظنّ الأقوى، سواء أكان ذلك الظنّ الأقوى عقلياً أم نقلياً، وسواء أكان متعلق الظنّ حكماً شرعياً أم المصالح والمفاسد المترتّبة على الفعل([19]).
وعليه فإن الأحكام الأخلاقية الظنّية التي يتمّ اكتشافها من طريق العقل والوجدان والتجربة تكون معتبرةً، ولا يتوقّف اعتبارها على حصول القطع واليقين. وإن مجرّد احتمال وجود النتائج التي يمكن أن تغيِّر الحكم الأخلاقي للعمل لا يمنع من اعتبار وحجّية المتبنّيات الأخلاقية الظنّية العقلية. وإن الاعتبار والحجّية المعرفية لهذه المعتقدات ليست بأقلّ من الاعتبار والحجّية المعرفية للمعتقدات الفقهية المستندة إلى النقل أبداً.
وخلاصة القول: إن طريق الحلّ التقليدي لرفع التعارض بين العقل والوحي من الناحية العقلانية لا يستند إلى دليلٍ؛ فإن طريق الحلّ هذا ـ كما رأينا ـ يقول: «إن ظاهر النصوص الدينية حجّة إلاّ إذا حكم العقل على خلافه بشكلٍ قطعي ويقيني». ويدّعي أنصار هذه الرؤية أنهم يستندون في ذلك إلى حكم العقل والسيرة العقلائية. ولكنّ عرف العقلاء من وجهة نظري لا يحكم بهذا الأمر في باب حجّية الظواهر. وإنما بمقتضى العقلانية، التي يمكن اكتشافها من طريق الاتفاق النسبي بين العقلاء، هو أنه عند التعارض بين دليلين أو شاهدين وقرينتين يجب العمل على طبق الدليل والشاهد والقرينة الأقوى، سواء أكان الدليل والشاهد والقرينة الأقوى قطعياً أو ظنّياً، وسواء أكان عقلياً أم نقلياً. فمن الناحية العقلية وعرف العقلاء ليس هناك ظنٌّ يكون حجّة ومعتبراً في مقابل ظنٍّ أقوى منه.
وعلى هذا الأساس فإن العقلانية تحكم بأن نعمل في مقام تشخيص الحقوق والوظائف الأخلاقية والشرعية على الظنون التي يرى العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء أنها معتبرة. وإن هذه الظنون لا تنحصر بالظنّ المستند إلى خبر الواحد وظاهر الكلام فقط، وإنما يشمل حتّى الظن المستند إلى الشهود العقلاني والحسّي (التجربي) أيضاً. وإن مساحة الأخلاق والفقه هي مساحة جمع الظنون وتفريقها.
إن أنصار الرؤية التقليدية يعتقدون بإبطال المتبنيات الأخلاقية من الناحية الفقهية، بمعنى أنه عند التعارض بين المتبنيات الفقهية والمتبنيات الأخلاقية يجب تقديم الأوّل على الدوام، وإسقاط الثاني عن الاعتبار، إلاّ إذا كان هذا الثاني قطعياً ويقينياً. أما العقلانية فتقول: عند حصول التعارض بين العقل والنقل يجب أن نرى أيّهما يتمتّع بقيمةٍ واعتبار ودعامة معرفية أقوى؟ وإن الطريق الوحيد لتحديد درجة ومقدار هذا الاعتبار هو المقارنة بين المتبنيات المتعارضة والأدلة القائمة لصالحها أو ضررها.
يقوم الافتراض المعرفي للرؤية التقليدية على أن الاستنباطات الفقهية ذات قيمةٍ ومعتبرة ما لم يكن هناك قطعٌ بخلافها، بمعنى أنه عند حصول التعارض بين الفهم الفقهي وبين القِيَم والقواعد الأخلاقية إنما يفقد الفهم الفقهي اعتباره إذا كان لدينا قطعٌ ويقين بالقِيَم أو الواجبات الأخلاقية المعارضة([20])، وفي غير هذه الصورة فإن الفهم الفقهي سيبقى محافظاً على قوّة اعتباره وحجّيته، حتّى إذا كانت القيمة أو الوجوب أو الحظر الأخلاقي المعارِض يتمتَّع بدعامةٍ ظنّية أقوى. وحيث إن القطع واليقين ـ وخاصّة في مجال الأخلاق ـ أمرٌ نادر الوجود والتحقُّق فإن أدنى شكٍّ أو شبهة في أمرٍ يحول دون القطع واليقين، وعليه عند وقوع التعارض بين العقل والنقل أو الأخلاق والفقه يكون التقدُّم من الناحية العملية للنقل والفقه.
إلاّ أن هذه النتيجة غير مقبولةٍ من ناحية العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء؛ وذلك لأن العقلانية تقتضي:
أوّلاً: أن نقيِّم توقعاتنا للمصدر المعرفي ومنهج المعرفة بحدٍّ متوسط النتائج القابلة للتحقّق من ذلك المصدر والمنهج؛ فإنْ كان أكثر المتبنيات العقلية والوجدانية في مجال الأخلاق ظنية سيكون اشتراط اعتبار المتبنيات الأخلاقية بالقطع واليقين مخالفاً للعقلانية، على غرار نقض القائل للعقلانية عندما يقول: إن المتبنيات الفقهية المستندة إلى القرآن والأحاديث إنما تكون معتبرةً إذا كانت قطعية ويقينية.
وثانياً: لو أن النقل والعقل أدَّيا إلى نتائج مختلفة ومتعارضة وجب تقديم تلك النتيجة التي تتمتَّع بدعامةٍ معرفية أقوى. ولا فرق عند العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء بين أن يكون الظنّ عقلياً أو نقلياً، أو أن يكون مستنداً إلى الشهود والتجربة أو إلى خبر الواحد أو ظاهر الكلام. فالمهمّ عنده هو درجة الظنّ والاطمئنان، وأن يكون ذلك الظنّ والاطمئنان منطقياً ومعرفياً، وليس ظنّاً نفسياً ومزاجياً. وإن الظنّ والاطمئنان المنطقي والمعرفي هو الظنّ والاطمئنان الذي يتناسب مع الشواهد والقرائن الموجودة والمتوفرة بين أيدينا([21])، والتي تحصل للناظر الحيادي، الذي يتمتَّع بقوى وحواس إدراكية طبيعية، وأن لا يكون خارجاً عن حدود الاعتدال والحالة الطبيعية؛ بسبب تأثير الأساليب التعليمية والتربوية الخاطئة (كأنْ لا يكون مصاباً بغسيل الدماغ الأصولي). وإن هذا الظنّ والاطمئنان حالةٌ ذهنية عامة، وليست فردية أو خاصّة، بحيث لو تمّ عرض الشواهد والقرائن والأدلة التي يستند إليها الظنّ والاطمئنان على سائر العقلاء لأنتجت بشكلٍ وآخر نفس درجة الظنّ واليقين في أذهانهم.
إن درجة ظنّنا واطمئناننا بالمتبنيات الأخلاقية نوعاً ما أكثر من درجة الظنّ والاطمئنان الحاصل من طريق الظواهر النقلية (القرآن والسنّة)، ولذلك عند حصول التعارض بين العقل والنقل، أو الأخلاق والفقه، يجب أن يتمّ حلّ هذا التعارض نوعاً ما لصالح العقل والأخلاق. وفي الوقت نفسه لا ينبغي جعل درجة الظنّ والاعتبار ملاكاً للحكم قبل إجراء المقارنة؛ لأن المعيار الصحيح للحكم والترجيح في هذا المورد يكمن في درجة الظنّ والاطمئنان الذي سنحصل عليه بعد إجراء المقارنة، ويخرج منها سالماً. ففرقٌ بين أن ننظر إلى طرفي التعارض بشكلٍ مستقلّ، والنظر إلى أحدهما دون أخذ الآخر بنظر الاعتبار، وبين أن نأخذهما معاً بنظر الاعتبار، ومن خلال سائر الأمور المحيطة بهما، والتي يكون لها دَوْرٌ في تحديد النتيجة المترتِّبة عليهما. فإن ذات المقارنة قد تقوّي أو تضعف ظنّنا واطمئناننا بأحد الطرفين. وإن قوّة وضعف المتنافسين إنما يتّضح من خلال أدائهما في حلبة الصراع، وأما تقييم النتائج قبل احتدام المنافسة فهو مجرَّد حَدْس وتخمين. وإن حكم الإسلام أو إله الإسلام سيكون لصالح الذي يُفرزه هذا التنافس، ويخرج منه منتصراً.
إن النتيجة التي نحصل عليها من هذا البحث هي أنه لا يمكن العثور على دليل «مسبق» يقول: (عند وقوع التعارض بين الأحكام الفقهية المستندة إلى النقل والأحكام الأخلاقية المستندة إلى العقل والوجدان يجب أن تكون الأحكام الفقهية هي المقدّمة دائماً، وبشكلٍ مسبق، إلاّ إذا كان الحكم الأخلاقي مورد البحث قطعياً ويقينياً).
في باب منهج المواءمة أو المناغمة بين المتبنيات الفقهية والمتبنيات الأخلاقية هناك في الحدّ الأدنى رؤيتان مختلفتان، وهما:
1ـ إن الرؤية الأولى تنتمي إلى الأصوليين والتقليديين (وحتّى بعض الإصلاحيين في الدولة). وطبقاً لهذه الرؤية تكون المتبنيات الفقهية المستندة إلى النقل هي المقدّمة ـ على المستوى العملي، وفي أكثر موارد حصول التعارض ـ على المتبنيات الأخلاقية المستندة إلى العقل؛ وذلك لأن الأدلة العقلية والتجريبية المتوفِّرة لصالح المتبنيات الأخلاقية في أكثر موارد التعارض ليست قطعية، ولا يقينية؛ كي نتمكَّن بواسطتها من رفع اليد عن حجّية الظهور وحجّية خبر الواحد. يمكن تسمية هذه الرؤية: «الرؤية النقلية الأصولية التقليدية» في مجال المعرفة الدينية.
إن هذه هي الرؤية، التي كنّا حتّى الآن منشغلين بنقدها، ونضيف هنا: إن علم الله الغيبي وكمال عقله وحكمته لا تؤدّي إلى حدوث فرقٍ في هذا المجال، بمعنى أننا من هذا الطريق لا نستطيع أن نوجد فرقاً معرفياً بين الظنّ العقلي والظنّ النقلي، وأن نمنع من العمل على طبق الظنون العقلية. نعم، يجب علينا دائماً أن نرجع إلى الله، وأن نتعرّف إلى حكمه، وأن نعمل على طبق ذلك الحكم. ولكنّ المشكلة التي نواجهها هنا هي مشكلةٌ معرفية، وليست مشكلةً في مجال الالتزام الديني والأخلاقي. وإن هذه المشكلة لا يمكن حلُّها من خلال التمسُّك بعلم الله الغيبي، وترجيح النقل على العقل؛ لأن العقل والنقل طريقان مختلفان للكشف عن الحقيقة وتحديد الوظيفة العملية. وإن القيمة والاعتبار المنطقي والمعرفي لهذين الطريقين رهنٌ بدرجة الظنّ الحاصل منهما. وليس باستطاعة الله أن يمضي ظنّاً دون أن يمضي الظنّ الآخر الأقوى منه؛ لأن مثل هذا الأمر يعني ترجيح المرجوح على الراجح، وإن القُبْح الأخلاقي لهذا الأمر أكثر من قُبْح الترجيح بلا مرجِّح. كما أن الله لا يَسَعه أن يمضي ظنّاً ولا يمضي ظنّاً آخر مساوٍ له في الدرجة؛ لما في ذلك من الترجيح بلا مرجِّح.
إن القِيَم والمعايير الأخلاقية تنتزع من الشاهد المثالي، أو من خلال الرجوع إليه. ومن الزاوية الدينية يعتبر الله هو ذلك الشاهد المثالي. وعليه فإن بحثنا يدور حول أسلوب ومنهج معرفة وإدراك حكم الله. ولكنْ إذا كان البناء على معرفة حكم الله من طريق الأدلة الظنّية فأيُّ فرقٍ بين الظنّ العقلي والظنّ النقلي؟
لا يمكن الادّعاء «أن الله عالم بالغيب، ولذلك فهو يعلم أن الظنون المستندة إلى النقل توصلنا إلى الواقع أكثر من الظنون المستندة إلى العقل، ومن هنا فإن الله قد أمضى السيرة العقلائية في العمل بالظنون المستندة إلى النقل، ولم يُمْضِ سيرتهم القائمة على العمل بالظنّ المستند إلى العقل، بل نهى المؤمنين عن العمل على طبق هذا الظنّ». إن مثل هذا الادّعاء يستلزم التناقض ومخالفة الوجدان؛ لأن الالتزام بمثل هذا الادّعاء يعني الالتزام بفرضية أن «الظنون العقلية أضعف دائماً من الظنون النقلية»، في حين أن الأمر ليس كذلك بالوجدان. هذا إذا تجاوزنا القول بأنه لا يمكن لنا أن نكون انتقائيين في ما يتعلَّق بالسيرة العقلائية؛ فإن ملاك وفلسفة العمل بالظن عند العقلاء أمرٌ عامّ، ولا يختصّ بالظنون النقلية فقط.
ومضافاً إلى ذلك فإن هذا الأمر يستلزم نسبة اللَّغْو إلى الله الحكيم؛ لأن هذا الكلام يعني أن الله من جهةٍ قد خلق العقل، وأصدر من جهةٍ أخرى الحكم بتعطيله وإلغائه. ومضافاً إلى ذلك فإن الأدلة النقلية التي تنهى عن العمل بالظنّ العقلي هي ظنيةٌ في حدّ ذاتها، فكيف يمكن الحكم من خلال الدليل الظنّي على عدم اعتبار الظنّ العقلي الأقوى منه؟!
لا يوجد أيّ دليل مقنع لصالح الادّعاء القائل: «إن الأصل يقوم على عدم حجّية واعتبار الظنون»، و«إن حجية واعتبار الظنون رهنٌ بإمضائها من قبل الشارع»، فإننا إذا لم نتمكَّن من الوصول إلى القطع الحاصل من الطرق الموثوقة مكلَّفون بالعمل على طبق الظنون الحاصلة من الطرق المعتمدة. وكما قلنا فإن نهي الشارع عن العمل بالظنون العقلية الأقوى من الظنون النقلية ترجيحٌ للمرجوح على الراجح، كما أن نهيه عن العمل بالظنون العقلية المساوية والمتكافئة مع الظنون النقلية ترجيح بلا مرجِّح([22]).
لو كان باب العلم اليقيني بالأحكام الأخلاقية والشرعية مغلقاً (ومنغلقاً)، ولو أن الشارع لم يأتِ بطريقٍ جديد لإبلاغ أحكامه، ولا يمكنه أن يأتي بمثل هذا الطريق، ولو أنه قد أمضى سيرة العقلاء في العمل بالظنون، وجب علينا أن ننظر في كيفية عمل العقلاء في مقام العمل بمختلف الظنون. من وجهة نظرنا إن العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء في مقام العمل بالظنون لا يفرِّق بين الظنون العقلية والظنون النقلية، وفي ظلّ ظروفٍ خاصّة يعمل على طبق كلا هذين النوعين من الظنون، وعند التعارض يعمل على طبق الظنّ الأقوى، وليس على طبق الظنّ النقلي إلى حين حصول القطع بالخلاف. تقوم سيرة العقلاء على العمل بالظنّ إذا كان واصلاً إلينا من طريقٍ معتمد، إلاّ إذا كان هناك ظنٌّ أقوى بالخلاف. يرى العقلاء أن تقديم الظنون النقلية على الظنون العقلية الأقوى منها، وكذلك التفريق بين الظنون النقلية والظنون العقلية في مقام العمل، قبيحٌ، ولا يمكن نسبة مثل هذا الأمر القبيح والشنيع إلى الله الحكيم([23]).
2ـ أما الرؤية الثانية المطروحة لحلّ التعارض بين الفقه والأخلاق، أو العقل والنقل، فهي تمثِّل الرؤية التي نؤمن بها. تقول هذه الرؤية: عند حصول التعارض بين الأحكام الفقهية النقلية والأحكام الأخلاقية العقلية يجب تقديم الحكم الذي يتمتَّع بدعامةٍ معرفية أقوى. ولا فرق في هذا الشأن بين الظنون المستندة إلى الأدلة النقلية والظنون المستندة إلى الأدلة العقلية (والحسّية). ومن وجهة نظر العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء يتقدَّم الظن العقلي بعدم الحكم الشرعي على الظنّ النقلي الأضعف بوجود ذلك الحكم الشرعي([24]).
وفي معرض حلّ التعارض القائم بين حكمين أو قضيتين (أو طائفتين من الأحكام والقضايا) لا يمكن أن نحدِّد مسبقاً ضمن قاعدة كلّية وعامّة أيّ الطرفين هو المقدَّم. إنما القاعدة العامة الوحيدة الموجودة في هذا الشأن هي القاعدة القائلة: «عند حصول التعارض بين حكمين أو قضيتين كان حقّ التقدُّم للحكم أو القضية التي تتمتَّع باعتبارٍ معرفي أقوى». وإن هذه القاعدة غير ناظرةٍ إلى مجرّد التعارض بين الأحكام والقضايا الفقهية والأحكام والقضايا الأخلاقية فقط، وإنما تجري حتى في مورد التعارض بين سائر الأحكام والقضايا والمتبنيات أيضاً. إن الاعتبار المعرفي للقضايا رهنٌ بالمعايير والعوامل المتعدّدة، والتي ربما كان الجامع بينها هو «الأقربية إلى الواقع». فكلّ قضيةٍ تكون أقرب إلى الواقع، وكان احتمال صدقها أكبر، كانت هي الأوجه. وأما ما هو معيار الأقربية إلى الواقع؟ فهذا بحثٌ مستقلّ. يمكن أخذ الظنّ الأقوى والأكبر هنا بوصفه قاعدةً عامة، ولكن ليس على نحوٍ مطلق، وإنما من خلال إحراز الشروط التالية:
1ـ أن يحصل الظنّ بعد المقارنة والمقاربة.
2ـ أن يكون الظنّ بنحوٍ ما عاماً، وليس شخصياً أو خاصاً، بمعنى أن يكون بمتناول عموم الناس الطبيعيين الذين يعيشون ضمن مناخٍ واحد.
3ـ أن يتمّ حصوله من الطرق المتعارفة.
4ـ أن يكون هذا الظنّ مستدلاًّ وليس معللاً، بمعنى أن يستند إلى الدليل (العلة المعرفية)، وليس مستنداً إلى العلّة (غير المعرفية).
5ـ أن يكون الظنّ متناسباً مع قوّة الدليل.
وجميع هذه الشروط من مقتضيات العقلانية.
وأما النتائج التي توصَّلنا لها حتّى الآن فهي:
1ـ إن نقصان عقل الإنسان وكمال العقل الإلهي لا يستلزم ترجيح الظنون النقلية على الظنون العقلية، بمعنى أن هذا النقص وذلك الكمال يعتبر من الناحية المعرفية من العوامل غير ذات الصلة، ولا مدخلية لها في حجّية الظنون وعدم حجّيتها، ولا يجب أن يكون لها مثل هذه المدخلية.
2ـ إن نقصان العقل البشري لا يتمّ تداركه من طريق الرجوع إلى الوحي، وتقديم النقل على العقل.
وعليه، فإن المقدّمة الأولى والثانية من الاستدلال الذي ذكرناه في الفقرة رقم (1) لصالح إحلال الفقه محلّ الأخلاق صادقتان، ولكنها غير ذات صلة بموضوع بحثنا. فنحن نؤمن بأن عقل البشر ناقص، وأن عقل الله كامل. وكما تقدَّم فإن هذا النقصان والكمال لا يبرِّر دعوى تقدُّم النقل على العقل، ولا يثبت عدم حجّية الظنون العقلية، وما يستتبع ذلك من دعوى إحلال الفقه محل الأخلاق.
ومن المستحسن هنا أن نتحدَّث قليلاً حول المقدمة الثالثة من هذا الدليل. تقول المقدّمة الثالثة: «إن الأحكام الشرعية وضعت لتدارك نقصان العقل البشري في ما يتعلق بتحديد الحقوق والتكاليف». ويبدو لنا أن هذا الادّعاء يمكن مناقشته من عدّة جهات:
فأوّلاً: إن نقصان العقل البشري لا يتمّ تداركه بهذه الطريقة.
وثانياً: إن الكثير من الأحكام الشرعية (ربما تبلغ 99%) عبارةٌ عن إمضاء الشارع للعرف السائد في صدر الإسلام وما قبل الإسلام. وفي الحقيقة فإن هذه الأحكام الشرعية قد انبثقت عن العقول الناقصة لأولئك الذين كانوا يعيشون في صدر الإسلام أو قبل ظهور الإسلام، لا عن عقل الله أو عقل النبيّ. وعليه، فإن تقديم هذه الأحكام على القوانين السائدة في العصر الحديث يتضمّن دعوى غريبة وغير معقولة، تتمثَّل في القول بأن عقول الأعراب البدويين أكمل من عقل الإنسان المعاصر.
وعلى أيّ حال فإن هذه الإشارة تثبت بوضوحٍ أن فلسفة تشريع الأحكام الشرعية لم تكن تهدف إلى تدارك نقصان العقل البشري عن هذا الطريق. نحن نرى أن الوحي والنقل لا يستطيع أن يملأ الفراغ الذي يخلِّفه العقل في حياة البشر، وإن فلسفة إرسال الرسل وبعث الأنبياء تكمن في إثارة العقول وتحريكها وتنشيطها، لا في كبحها وإلغائها وتعطيلها. كما أن الحكمة والفلسفة من تشريع الأحكام الشرعية تشمل الكثير من الأمور المتنوّعة، وإنما يمكن في مورد بعض هذه الأحكام الشرعية أن ندّعي بأن هذه الأحكام تنبثق عن المصالح والمفاسد الغيبية التي لا طريق للعقل البشري الناقص والمتعارف إلى اكتشافها. وفي الوقت نفسه يمكن لنا أن ندّعي أيضاً أن أكثر الأحكام الشرعية ـ وخاصّة الأحكام الشرعية غير العبادية ـ ليست كذلك، وإنما تنشأ من معايير وملاكات أخرى. إن دعوى أن الأحكام الشرعية قد تمّ تشريعها من أجل تدارك نقصان العقل البشري إنما تصدق في الموارد التي لا يكون للعقل البشري حكم بشأنها، ولا يمكن قول الشيء نفسه بالنسبة إلى الموارد التي يكون للعقل بشأنها حكمٌ مغاير لحكم الشرع؛ لأن فهمنا للحكم الشرعي في هذه الموارد سينطوي على مناهضة للعقل. وإن تقديم هذا الحكم الشرعي على حكم العقل لا يعني سوى إلغاء العقل وترجيح المرجوح على الراجح. وإذا كانت ظنّية حكم العقل دليلاً على نقصانه فإن الكثرة الكاثرة من الأحكام الشرعية ظنّية أيضاً، وإن ظنّنا بهذه الأحكام أضعف بكثير من ظنّنا بالأحكام العقلية المعارضة لها.
3 ـ الاستدلال الثاني لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق
يمكن تنسيق هذا الاستدلال على النحو التالي:
1ـ هناك جزءٌ كبير من النصوص الدينية (الأعمّ من الآيات والروايات) تبيّن الأحكام العملية.
2ـ لو كان للناس من طريق غير الوحي والنقل لمعرفة الحقوق والتكاليف الأخلاقية لكان إرسال الرسل وإنزال الكتب لغواً وعبثاً، ولفقد الوحي جدارته في هداية الناس في حياتهم.
3ـ وعليه يكون «علم الفقه» بديلاً عن «علم الأخلاق».
إن هذا الاستدلال يعكس هاجساً من هواجس المتدينين بشأن العلاقة بين الدين والأخلاق. فهم يتصوَّرون أنهم من خلال الاستناد إلى التشكيك الأخلاقي وتعطيل العقل والتجربة في مقابل النقل في دائرة الأخلاق، وإحلال الفقه محل الأخلاق، يقدِّمون خدمة للدين وللشريعة وللوحي. في حين أن هذا من الأخطاء الكبيرة التي يرتكبها الكثير من المؤمنين والمتدينين بسذاجةٍ. إن المضمون الصريح والمكشوف لهذا الاستدلال هو أننا لكي نعطي للوحي مكانةً في حياة الإنسان لا مندوحة لنا من إلغاء العقل والتجربة البشرية أمام النقل، وأن نسلك منهج الشكّ في الأخلاق. ولكنْ من الواضح أن تعطيل العقل والتجربة في مقابل النقل والقول بالشكّ الأخلاقي لا يقلّ سوءاً عن تعطيل الوحي والقول بالتشكيك الفقهي، إذا لم نقُلْ: إنه أسوأ منه.
ومضافاً إلى ذلك لا يتمّ في هذا الاستدلال الفصل بين «مقام الكشف»([25]) و«مقام الحكم»([26]) في الأخلاق. إذ يتمّ الخلط هنا بين حاجة الإنسان إلى الدين في مقام كشف بعض القِيَم الأخلاقية وبين حاجته إلى الدين في مقام الحكم الأخلاقي. في حين يجب علينا أن نفرِّق بين «الدين بوصفه كاشفاً أخلاقياً» وبين «الدين بوصفه حكماً أو واضعاً ومشرِّعاً للأخلاق». لنفترض أننا لا نستطيع كشف بعض القِيَم الأخلاقية إلاّ من طريق الوحي وتعاليم الأنبياء، إلاّ أن اكتشاف القِيَم الأخلاقية من طريق الوحي لا يستلزم مرجعية وحكم الدين في مجال الأخلاق؛ إذ يمكن الجمع بين كاشفية الوحي في دائرة الأخلاق وحكم العقل والوجدان في هذه الدائرة؛ فإن الناس إنما تعرّفوا على قانون الجاذبية والنظرية النسبية للمرّة الأولى من خلال نيوتن وأنشتاين، إلاّ أن معرفتهم بصدق هذه النظريات لا تعود إلى ولاية ومرجعية هذين العالمين، وإنما تقوم على الأدلة والشواهد المتوفِّرة لصالح هاتين النظريتين.
ولكي يلعب الوحي والتعاليم السماوية والدينية دَوْراً في هداية سلوك البشر ليس من الضروري أن يحكم الدين في دائرة الأخلاق. وإنما يكفي أن يكون الدين مجرّد كاشف في هذه الدائرة؛ ليخرجه عن العبث واللغوية. ولربما أمكن الادّعاء بأنه من الناحية التاريخية تنبثق معرفة الناس الأخلاقية عن الوحي وتعاليم الأنبياء، إلاّ أن تعلُّم المتدينين ـ وبتَبَعهم غير المتدينين ـ للقِيَم الأخلاقية من الأنبياء أو النصوص الدينية أمرٌ، وصدق وكذب أو صحّة واعتبار هذه القِيَم تعبُّدية وتابعة لولاية ومرجعية الدين، وكونه دائراً مدار الإرادة التشريعية أو الأمر والنهي المولوي لله الشارع وبيان ذلك من طريق الوحي، أمرٌ آخر.
يمكن اعتبار دَوْر الأنبياء في الأخلاق (ولربما في الدين أيضاً) مصنَّفاً في دائرة «التذكير». كما يمكن تصنيف التعاليم الدينية في هذا الباب في إطار التعاليم الإرشادية. وفي هذه الفرضية إنما يكون للناس الحقّ في اتباع هذه التعاليم إذا كانت تنسجم مع العقل والتجربة والوجدان وفهمهم العقلي والتجريبي والوجداني، إلاّ أن المتديِّنين يعملون على إحلال الشريعة «في مقام الحكم» مقام الأخلاق، وليس «في مقام الكشف»، في حين أننا لو افترضنا أن الطريق إلى «كشف» القِيَم الأخلاقية يكون من خلال الوحي فقط فإن هذا الأمر لن يدلّ بأيّ وجهٍ من الوجوه على أن تبرير هذه القِيَم إنما يكون عبر الوحي والنقل أيضاً، وعليه فإنه لن يدلّ بالأولوية على:
1ـ أن الفقه بديلٌ عن الأخلاق.
2ـ أن المؤمنين من خلال تطبيق الأحكام الفقهية يستغنون عن الأخلاق.
لا شَكَّ في أن الدين يساعدنا في اكتشاف بعض القِيَم الأخلاقية، وأن النصوص الدينية تلعب دور المنبِّه للتأمُّلات والبصائر الأخلاقية، إلاّ أن الحكم بشأن صحة وخطأ أو صدق وكذب القضايا الأخلاقية وحدودها وثغورها هو على الدوام من شؤون العقل والتجربة والوجدان البشري([27]).
مضافاً إلى ذلك فإن المهمّ هو الدور الذي يلعبه «الله» في حياة الإنسان وسلوكه، وليس الدور الذي يلعبه «الوحي» في حياته. وإن العقل والوحي طريقان مختلفان لاضطلاع الله بدوره في حياة الإنسان. وإن الله الشارع (إله الفقه) لا يحلّ محلّ الشاهد المثالي (إله الأخلاق) في مقام هداية الإنسان على المستوى الأخلاقي، كما لا يمكن للوحي والنقل أن يحلاّ محلّ العقل والحكمة في الأخلاق أيضاً، ولذلك لن يكون باستطاعة الفقه أن يغني الإنسان عن الرجوع إلى العقل والأخلاق أيضاً([28]).
كما أن هذا الاستدلال يخلط بين «المعرفة» الأخلاقية وبين «التعليم والتربية والتزكية والتهذيب» أيضاً. ولو فصلنا هاتين المقولتين عن بعضهما فسوف يمكن لنا أن ندّعي أن الدين والوحي يلعب دوراً جوهرياً في تعليم وتربية الإنسان أخلاقياً، وليس في معرفة القِيَم الأخلاقية. ومع هذا كله فإن الاضطلاع بهذا الدور الهامّ يتوقف أيضاً على أن تكون لدى المتديِّنين رؤيةٌ صحيحة في باب النسبة القائمة بين الفقه والأخلاق. وفي غير هذه الصورة سوف يتحوّل الدين إلى عقبة أمام الحياة الأخلاقية للمتدينين. وإن تفشي الرذائل الأخلاقية، من قبيل: الغشّ والرياء والكذب وإخلاف الوعد وخيانة الأمانة وما إلى ذلك من الأمور التي نشاهدها في المجتمع المتديِّن، خيرُ دليلٍ على هذا الادّعاء.
لقد تعرّضنا في الفصل الخامس من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق) إلى خدمات الدين في مجال الأخلاق بالتفصيل. وإن أنواع الخدمات التي ذكرناها هناك للدين والوحي في مجال الأخلاق تثبت بوضوحٍ أنه لكي يلعب الوحي دوراً مناسباً في البعد الأخلاقي من حياة الإنسان ليس من الضروري أن يعمد إلى إلغاء وتعطيل عقله، والقول بالتشكيك والنسبية الأخلاقية، وأن يحلّ الفقه محلّ الأخلاق، والادّعاء بأن الأخلاق الإسلامية تختلف عن الأخلاق الغربية، بمعنى أن الخدمات التي يقدِّمها الدين في مجال الأخلاق لا تحتوي على أيّ دلالةٍ على كون الأخلاق مقولةً دينية، وليست مقولةً علمانية تتخطّى الحدود الدينية، كما أن علمانية الفيزياء والطبّ والفلك لا تستوجب إلغاء النصوص الدينية المشتملة على التعاليم الفيزيائية والطبية والفلكية.
ومن ناحيةٍ أخرى يمكن لنا أن ندّعي أن قسم المعاملات من الفقه، والذي يعكس جانباً من الأخلاق الاجتماعية، ويراه التقليديون والأصوليون بديلاً للأخلاق الاجتماعية الحديثة، إنما هو بشكلٍ عام عبارةٌ عن إمضاء لقِيَم الأخلاق الاجتماعية التي كانت سائدةً في مجتمع صدر الإسلام وما قبل الإسلام([29]). وإن هذا الإمضاء إنما يستمرّ ما دامت تلك القِيَم باقيةً، دون أن تفقد قيمتها. وعليه لو تحوَّلت تلك القِيَم؛ بفعل المتغيّرات التاريخية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية، إلى ضدّها أو فقدت قيمتها لن يكون هناك شيءٌ كي يمضيه الشارع، بمعنى أن إمضاء الشارع في مثل هذا الفرض سيكون سالبةً بانتفاء الموضوع.
إن هذا الادّعاء لا يؤدّي إلى النسبية في مجال القِيَم ومعايير الأخلاق الاجتماعية، وإنما يعني أن القِيَم والمعايير الأخلاقية تنقسم إلى: أصلية؛ وفرعية. وإن القِيَم الأصلية مطلقة، وتتخطّى التاريخ؛ أما القِيَم الفرعية فهي حصيلة تطبيق القِيَم والمعايير الأصلية على الأوضاع والأحوال والظروف الخاصة، ولذلك تكون رَهْناً بالزمان والمكان. إن هذه القِيَم والمعايير تتغيّر بتغيّر الأوضاع والظروف، وتخلي مكانها للقِيَم والمعايير الجديدة. يمكن لله الشارع أن يمضي القِيَم والمعايير من النوع الأول بشكلٍ دائم وأبدي، وأما القِيَم والمعايير من النوع الثاني فإنما يتمكَّن من إمضائها بشكلٍ مؤقت ومشروط. وعليه فإن إمضاء الله الشارع لا يمكنه أن يحوِّل المعايير والقِيَم المؤقتة والمشروطة إلى قِيَم ومعايير دائمة ومطلقة؛ لأن هذه القِيَم والمعايير في خارج ظرفها التاريخي لا تخلو؛ إما أن تكون ذات قيمة؛ أو فاقدة للقيمة.
وعليه، إذا أردنا أن نعلم ما إذا كان الحكم الشرعي الذي تمّ إمضاؤه قد أُمضي بشكلٍ مؤقَّت أو دائم لا نستطيع الاستناد إلى ظهور الكلام وعمومه وإطلاقه الزماني أو أدلة خلود الأحكام الشرعية. وإنما علينا أن نرى عُرْف العقلاء في العالم، وهل ينظرون إلى الحكم الممضى ـ بقطع النظر عن إمضائه ـ بوصفه حكماً مطلقاً يتخطّى التاريخ أو بوصفه حكماً مؤقَّتاً ومؤطّراً بالتاريخ؟ لا يمكن لله الشارع أن يمضي الحكم المؤقّت والمؤطّر بزمانه على نحوٍ مطلق وأبدي؛ إذ لا وجود لهذا الحكم خارج نطاقه التاريخي. وبعبارةٍ أخرى: في مثل هذا المورد ليس هناك أمرٌ خافٍ ومجهول ليمكن الادّعاء بأن الله الشارع يعلمه بعلمه الغيبي، وأننا نحن البشر لا نعلمه؛ بسبب نقصان عقلنا.
وعليه ففي مورد الأحكام الممضاة يكون استمرار وبقاء إمضاء الشارع تابعاً لاستمرار وبقاء ذلك الحكم، «بغضّ النظر عن إمضاء الشارع»، وليس العكس. ولتسرية الأحكام الشرعية الإمضائية على المجتمعات الراهنة، التي تختلف عن مجتمع صدر الإسلام اختلافاً جذرياً، علينا أن نصرف النظر عن إمضاء الشارع، لنرى ما إذا كان ذلك الحكم يبقى على قوّته لو لم يكن إمضاء الشارع موجوداً أم لا؟ وهل كان سيستمرّ أم لا؟ وبعبارةٍ أخرى: علينا أن نرى ما إذا كانت المجتمعات غير الدينية الراهنة تعمل بذلك الحكم أم أنها قد استبدلَتْه بحكمٍ آخر؟ وكذلك علينا أن نرى لو أن ذلك الحكم قد فقد دعامته الفقهية والدينية في المجتمعات الإسلامية هل سيواصل الناس العمل به أم لا؟
وبعبارةٍ أخرى: إن على الفقهاء في مقام استنباط الحكم الإمضائي أن يفترضوا أنفسهم في «الحالة الأولى»([30])، وأن يتصوّروا المجتمع في أذهانهم وكأنّ الأحكام الفقهية غير سائدة بينهم، ليرَوْا أنّه لو تُرك الناس في هذا المجتمع وشأنهم، واتّخذوا قراراتهم انطلاقاً من عقولهم وطبيعتهم العقلائية، هل كانوا يواصلون علاقاتهم على أساس ذلك الحكم أم لا؟ دون إحراز هذا الشرط لا يحقّ لفقيهٍ أن يسري الأحكام الممضاة في صدر الإسلام إلى الأزمنة المتأخِّرة، لأن مثل هذا الأمر يُعَدّ نوعاً من البِدْعة في الدين.
فعلى سبيل المثال: لا يحقّ لأيّ فقيهٍ في الوقت الراهن أن يقول بأن الرِّقّ مشروعٌ في الإسلام، وإن إباحة الاسترقاق والعبودية وشراء الإنسان وبيعه من الأحكام الإسلامية الأبدية. كما لا يحقّ لأيّ فقيهٍ أن يستند إلى الآيات والروايات التي تعبِّر عن التفريق بين الرجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، والشيعي والسنّي، والفقيه وغير الفقيه، ليدّعي أن «هذه النصوص والأحكام خالدة وأبدية، ولو أنكر شخصٌ خلود هذه الأحكام يُعَدّ مرتداً ومبتدعاً»؛ لأن هذه الأحكام لو كانت (في اللوح المحفوظ) مقيّدةً بحَسَب الواقع فإن الذي يدّعي خلود وأبدية هذه الأحكام سيكون هو المرتدّ والمبتدع([31]).
نضيف هنا أنه لا يوجد أصلٌ أوّلي يحدِّد وظيفتنا عند الشكّ في استمرار حكمٍ إمضائي يقتضي منّا البناء على استمرارية ودوام ذلك الحكم، إلاّ إذا كان لدينا قطع ويقين بتوقيته وعدم استمراره([32]). فعندما يكون لدينا علمٌ سابق بأن بعض الأحكام الشرعية مؤقّتة سوف نحتاج في إثبات ادّعائنا القائم على توقيت أو دوام كلّ حكم من الأحكام الشرعية إلى دليلٍ خاصّ؛ لأن إطلاق الأحكام المؤقّتة يشتمل على ذات المحذور ومخالفة الاحتياط المترتّب على تقييد الأحكام المطلقة، فإن نسبة الاحتياط إلى كلا طرفي القضية واحدٌ، ولو نسب شخصٌ أحد الطرفين إلى الشارع دون دليلٍ وجيه سيكون مبتدعاً في الدين. وكما رأينا إذا كان لدينا في موردٍ ظنٌّ عقلي وتجريبي أقوى على تاريخية وتوقيت حكمٍ ما فإن أدلّته النقلية الدالّة على إطلاقه إما أنها ستفقد ظهورها؛ أو ستسقط عن الاعتبار. إنه لمن السذاجة أن نرى الاحتياط عند الشكّ في إطلاق أو تقييد الحكم في القول بإطلاقه. مضافاً إلى ذلك لا نستطيع تحديد ما هو الحكم المطلق؟ وما هو الحكم المؤقّت؟ قبل العمل على ترجمة النصوص الدينية ثقافياً.
يتصوَّر الكثير من المتدينين أن «ثبات» الحكم الشرعي يعتبر مزيّةً له، ولذلك تراهم يؤكِّدون في كلماتهم وكتاباتهم ـ بشأن القوانين الشرعية وتقدُّمها على القوانين البشرية ـ على أن القوانين البشرية في تغيُّرٍ مستمر، بينما القوانين الشرعية ثابتةٌ لا تتغيّر([33]). وحجّتُهم في ذلك أن الإنسان لا يستطيع وضع قوانين ثابتة وأبدية، بينما يمكن لله فعل ذلك.
ولكنْ أوّلاً: إن أصل هذا الادّعاء موضع شكٍّ وترديد. فهل هناك من إحصاء حيادي يثبت أن القوانين البشرية في حالة تغيُّر وتبدُّل مستمر؟ وثانياً: إن هؤلاء الأفراد لا يدركون هذه الحقيقة الهامة، وهي أن ثبات وتغيُّر القوانين والتشريعات إنما ينشأ عن «طبيعة» القوانين نفسها، وليس عن «إرادة» أو «علم» المقنِّن والمشرِّع. فهناك من القوانين ما يتخطّى التاريخ وتكون له قابلية الثبات والبقاء، وتعطي نتائجها المطلوبة والمنشودة مهما تغيّر الزمن، بغضّ النظر عن هوية المقنِّن وما يتمتع به من الخصائص. ولكنّ سائر القوانين الأخرى ليست كذلك، فهي إنما تؤتي نتائجها المطلوبة منها في فترةٍ زمانية ومكانية وضمن شروط محدَّدة. ولكي يصل الفرد والمجتمع الإنساني إلى الكمال المطلوب فإنه بحاجةٍ إلى قوانين ثابتة، إلاّ أن هذا الأمر لا يقتضي ثبات «جميع» القوانين، وإنما الأمر على العكس من ذلك تماماً؛ إذ يمكن لنا أن ندّعي أن الكمال المنشود للفرد والمجتمع الإنساني رهنٌ بتوليفةٍ من القوانين والتشريعات الثابتة والمتغيِّرة. وإن الدين الخالد هو الدين الذي يراعي هذه الحقيقة، ويأخذها بنظر الاعتبار في تشريعاته([34]).
4 ـ الاستدلال الثالث لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق
أما الدليل الثالث لصالح التشكيك الأخلاقي أوّلاً، وإلغاء العقل في مقابل النقل في دائرة الأخلاق ثانياً، وإحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق، فيمكن بيانه على الشكل التالي:
1ـ إن الله أعقل العقلاء (رئيس العقلاء).
2ـ إن من مسؤولية الله أن يناغم أحكامه مع القِيَم الأخلاقية.
3ـ إن الأدلة المتقدّمة على كمال عقل الله في التشريع تدلّ على ضمان التناغم والانسجام بين الأحكام الدينية والقِيَم الأخلاقية بشكلٍ مسبق.
4ـ قد يختلف حكم رئيس العقلاء عن حكم سائر العقلاء.
5ـ وعليه فإن مجرّد تنافي الأفهام الفقهية مع حكم العقل في باب الأخلاق لا يؤدّي إلى سقوطها عن الحجّية والاعتبار.
6ـ لذلك عند التعارض بين حكم العقلاء وحكم رئيسهم يجب علينا اتباع حكم رئيس العقلاء([35]).
أرى أن هذا الاستدلال إنما هو صورةٌ أخرى للاستدلال الأوّل؛ لأن القول بأن الله أعقل العقلاء أو رئيسهم إما أن يعني أنه يعلم أشياء لا يعلمها سائر العقلاء، أو أنه خلافاً لسائر العقلاء لا يتعرّض لتأثير الأهواء والوساوس الشيطانية والنفسية.
ولكنْ أوّلاً ـ وكما تقدَّم في الاستدلال الأوّل ـ إن مجرّد أن يعلم الله أموراً لا نعلمها لا يصلح دليلاً جيّداً للادّعاء بأن تلك الأمور تغيِّر الحكم الأخلاقي للموضوع.
وثانياً: يقوم الادّعاء على إمكان القول من الناحية الدينية: إن لله نوعين من الحكم: النوع الأوّل: الحكم الأخلاقي الذي يصدر عن الله بوصفه شاهداً مثالياً (الحكم الإرشادي)؛ والنوع الثاني: الحكم الصادر عن الله بوصفه شارعاً (الحكم المولوي). وعليه إذا كان هناك تعارضٌ فإنما يكون في أحكام رئيس العقلاء، وليس بين حكم رئيس العقلاء وحكم سائر العقلاء. وكما رأينا فإن حكم الشاهد المثالي في مقام الثبوت يتقدَّم على حكم الإله الشارع. وأما في مقام الإثبات فإنه في أغلب الموارد ـ إذا لم نقُلْ: في أجمعها ـ يتمّ الكشف عن هذين النوعين من الحكم عن طريق الأساليب والأدلة الظنّية، وليس الأدلة القطعية واليقينية. وعلى هذا الأساس فإن الطريق الوحيد الذي يمتلكه العقلاء للكشف عن حكم رئيسهم هو الجمع والتفريق بين الظنون. وفي هذه الحالة يحكم العقلاء ورئيسهم بوجوب العمل على الظنّ الأقوى.
وفي ما يتعلَّق بالتأثُّر بالأهواء ـ كما رأينا ـ فإن هذا الأمر لا يختصّ بدائرة الأخلاق ومعرفة حكم الشاهد المثالي فقط، وإنما نواجه هذا الإشكال حتّى في دائرة الفقه ومعرفة حكم رئيس العقلاء وحكم الإله الشارع أيضاً. ولا يمكن حلّ هذه المشكلة من خلال الرجوع إلى الوحي والنقل. وإن الطريق الوحيد للحدّ من تأثير الأهواء والرغبات النفسية على معرفة التكليف هو الرجوع إلى المنطق والمعرفة، مع مراعاة القِيَم والمعايير الأخلاقية في البحث والتفكير.
وعلى هذا الأساس صحيحٌ أن علينا ـ عند التعارض بين حكم العقلاء وحكم رئيس العقلاء ـ اتّباع حكم رئيس العقلاء (الشاهد المثالي)، ولكنّ النزاع يدور حول ماهية حكم رئيس العقلاء، «فما هو حكم رئيس العقلاء؟» و«كيف يمكن التعرُّف عليه؟». يقوم ادّعاء الذين يقولون بإحلال الفقه محلّ الأخلاق على أن حكم رئيس العقلاء هو ما نحصل عليه من طريق الوحي والنقل، في حين أن هذا الادّعاء ليس له ما يبرِّره، بل هو في الحقيقة نوعٌ من المصادرة على المطلوب؛ لأن الإدراكات العقلية والوجدانية عبارةٌ عن إلهامات رئيس العقلاء نفسه، ولذلك فإن التعارض بين العقل والوحي هو تعارضٌ بين أحكام رئيس العقلاء، وليس تعارضاً بين حكم رئيس العقلاء وحكم سائر العقلاء. وبعبارةٍ أخرى: يتمّ الحصول على حكم رئيس العقلاء من طريقين، وكلا هذين الطريقين ظنّي، وإن احتمال الخطأ والتأثُّر بالأهواء واردٌ فيهما على السواء.
5 ـ الاستدلال الرابع لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق
يقوم الاستدلال الرابع ـ لصالح إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق ـ على هذه الفرضية ما بعد الحداثية والأصولية الحديثة، القائلة بأن القِيَم الأخلاقية ملطّخة بالثقافة وغير شمولية. وطبقاً لهذه الرؤية لا يمكن للأخلاق الغربية وقِيَم مثل: الحرّية والديمقراطية وحقوق الإنسان ـ التي تعتبر من الأصول الجذرية لهذه الأخلاق ـ أن تسري على المجتمعات الشرقية والإسلامية، التي تتمتَّع بثقافةٍ مختلفة.
يقوم هذا الاستدلال على النسبية الثقافية في مجال العقلانية والأخلاق. وأوّل التبعات المترتّبة على هذا الاستدلال هو أن القائل به لا يستطيع أن يدّعي بأن القِيَم التي يؤمن بها أو الدين الذي يعتنقه شموليّ، بمعنى أن الأخلاق العلمانية ليست وحدها التي تتأثّر من هذا الأمر، وتسقط حجّيتها واعتبارها وقابليتها على التعميم، بل إن الأخلاق الدينية (الفقه) مشمولةٌ لهذا الحكم أيضاً، وتفقد عموميتها وشموليتها، وتتحوّل إلى مسألة نسبية. فإذا كانت القِيَم والمعايير الأخلاقية نسبيةً ستكون المعايير الفقهية نسبيةً بالأولوية. وبعد ذلك لا يبقى هناك من طريق لإثبات الاختلاف بين المجتمعات الشرقية والغربية، أو المجتمعات الدينية والمجتمعات العلمانية، من الناحية الأخلاقية. ولن يبقى هناك طريقٌ لنقد المجتمعات الغربية أخلاقياً. ولا يبقى هناك معيارٌ للنقد والتقييم العقلاني لهذين النظامين الأخلاقيين، وإيجاد الحلول العقلانية للنزاع بينهما([36]).
3 ـ تبعية الدين المنطقية والمعرفية للأخلاق
وصلنا حتّى الآن إلى إثبات أن الأخلاق غير تابعة للدين على المستوى المنطقي والمعرفي. وهنا ندخل في البحث عن السؤال القائل: «هل الدين تابعٌ من هذه الناحية للأخلاق أم لا؟».
يمكن بيان تبعية الدين المنطقية والمعرفية للأخلاق على مستويين مختلفين.
في المستوى الأوّل: يُدَّعى أن معرفة الدين وفهم المعتقدات الدينية بالمعنى العام للكلمة يقوم على الالتزام ببعض الأصول والقواعد الأخلاقية.
وفي المستوى الثاني: يُدّعى أن معرفة الدين بالمعنى الخاصّ للكلمة ـ بمعنى معرفة الشريعة وفهم الفتاوى الفقهية ـ تقوم على الالتزام بالقِيَم والمعايير الأخلاقية. وهنا نضطر إلى الفصل بين أخلاق البحث والتفكير وبين أخلاق السلوك، وأن نستعرض دور وتأثير كلّ واحدٍ منهما في المعرفة الدينية بشكلٍ مستقلّ([37]).
أـ دور أخلاق البحث والتفكير في المعرفة الدينية
تعتبر المعرفة الدينية نوعاً من النشاط العقلاني. وإن اعتبارها وقيمتها المعرفية رهنٌ بمراعاتنا للضوابط المنطقية والمعرفية أو المعايير العقلانية النظرية. وقد بحثنا في المواضع السابقة من هذا الفصل بعض هذه المعايير، وسنواصل البحث بهذا الشأن في الفصول اللاحقة أيضاً. والمهمّ هنا على ما يبدو هو التأكيد على الأمور التالية:
1ـ إن النقد الأهمّ الذي يمكن توجيهه من الناحية المعرفية إلى الفقه التقليدي والاجتهاد المصطلح هو أنهما يقومان على فرضياتٍ خاطئة في العقلانية أو سيرة العقلاء. وإن أحد أهمّ هذه الفرضيات ـ على ما تقدَّم ـ عبارةٌ عن «عدم حجّية الظنون العقلية والتجريبية» في مجال الفقه والأخلاق، الأمر الذي يؤدّي إلى تعطيل دور العقل المستقلّ عن النقل في هذين المجالين، ويؤدّي تَبَعاً لذلك إلى إحلال «الفقه النقلي» محلّ «الأخلاق العقلية». وبطبيعة الحال فإن هذا النقد، قبل أن يكون متّجهاً إلى الفقه، إنما يتّجه إلى المباني الفقهية، بمعنى أخلاق التفكير والبحث الفقهي. يقوم الادّعاء على أن أخلاق البحث والتفكير الفقهي الراهن بعيدٌ كلّ البُعْد عن أخلاق التفكير والبحث الفقهي المثالي؛ فإن أخلاق التفكير والبحث الفقهي الراهن عبارةٌ عن «مجموعة القِيَم والمعايير العقلانية أو العقلائية التي تعمل حالياً على توجيه البحث والتفكير في مجال الفقه». ونطلق على هذه الأخلاق تسمية «العقلانية الفقهية». ويمكن التعرُّف على هذه الأخلاق أو العقلانية من خلال الرجوع إلى تاريخ الفقه. وأما أخلاق التفكير والبحث الفقهي المثالي فهو عبارةٌ عن «مجموعة القِيَم والمعايير العقلانية أو العقلائية التي يجدر أو يجب أن تعمل على توجيه وهداية التفكير والبحث في مجال الفقه، وتكون القيمة والاعتبار المعرفي للفتاوى الفقهية رهناً بمراعاتها». إن هذه القِيَم والمعايير عقلانية وعقلائية، وليست شرعية أو تعبُّدية. ومن أجل اكتشافها والتعرف عليها لا بُدَّ من الرجوع إلى العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء، لا إلى الشرع والنصوص المقدّسة. إن معايير وقِيَم أخلاق التفكير والبحث تحصل على اعتبارها وحجّيتها من الشهود العقلاني أو توافق العقلاء، وليس من إرادة وحكم الشارع. إن هذه المعايير والقِيَم تفوق الفقه وتفوق الدين، ومن دون افتراضها في مقام معرفة الدين والشريعة لن يكون هناك إمكانٌ للمضيّ قُدُماً.
إن على الفقهاء والمجتهدين قبل كلّ شيء أن يعملوا على تصحيح وتنقيح قواعدهم المعرفية. ولا بُدَّ لهم في ذلك من الرجوع إلى عُرْف العقلاء أو علماء المعرفة وتقليدهم؛ أو أن يغدوا أنفسهم من المتخصِّصين والمجتهدين في هذا المجال. إن الموضوع الذي يحتاج اليوم ـ في الدرجة الأولى ـ إلى الاجتهاد وإعادة النظر بشكلٍ جَذْريّ هو العقلانية الفقهية أو المعرفية، أو أخلاق التفكير والبحث الفقهي (أخلاق الاجتهاد). إذا أريد للفقه أن يكون «ناجعاً» فيجب أن يغدو «عصرياً»، وإذا أريد له أن يكون عصرياً وجب إعادة النظر في أسسه وقواعده بشكلٍ جوهري. وفي هذا الشأن تحظى القواعد الأخلاقية والمعرفية للفقه بأهمّية زائدة على سائر القواعد والمباني الأخرى.
يمكن القول بكلّ جرأةٍ: إن الفقهاء والمجتهدين في ما يتعلَّق بأخلاق الاجتهاد إنما يقلِّدون السَّلَف، ولذلك لا يمكن العثور على مثيلٍ للعقلانية السائدة في الحوزات العلمية من خارجها أبداً. إن أهمّ الفوارق بين العقلانية الحوزوية والعقلانية العرفية (العلمانية وما فوق الدينية) تكمن في الاعتبار والحجّية المعرفية بالنسبة إلى الظنون العقلية والتجريبية؛ فإن العقلانية الحوزوية تحصر الظنون العقلية في الظنّ الحاصل من «القياس الفقهي» (التمثيل المنطقي)، و«الاستحسان»، ولا تعرف مصداقاً آخر للظنّ العقلي؛ ففي هذه العقلانية تعتبر الظنون العقلية والتجريبية من باب التعبُّد مصداقاً لـ «الجهل» و«الشكّ»، في حين أنه في العقلانية العُرْفية تنقسم الظنون العقلية والتجريبية إلى أقسام متعدّدة، وإن بعض أقسام الظنون العقلية والتجريبية معتبرةٌ، وتدخل في مصاديق «العلم». وإن العقلانية العُرْفية تصنّف الظنون العقلية والتجريبية والمتبنيات المستندة إلى هذه الظنون ضمن المتبنّيات المعتبرة والمقبولة.
تنقسم الظنون من وجهة نظر علماء المعرفة المعاصرين إلى: ظنون موثوقة ومعتبرة؛ وظنون غير موثوقة وغير معتبرة، أو إلى: ظنون عقلائية؛ وظنون غير عقلائية. وإن نسبة هذه الأقسام إلى الظنون العقلية والظنون النقلية نسبة العموم والخصوص من وجهٍ، بمعنى أن هذين التقسيمين لا ينطبقان على بعضهما تمام الانطباق، في حين أنه في العقلانية الحوزوية أو الفقهية تكون الظنون المعتبرة والمقبولة عبارةً عن مجموعة خاصّة من الظنون النقلية فقط، وإن هذه العقلانية تقول: إن الظنون العقلية والتجريبية غيرُ قابلةٍ للاعتماد أبداً، وإن العمل على طبق هذه الظنون اتّباع للهوى، ولذلك فهي من الحرام. نعم، يمكن القول: عندما يمكن الحصول على القطع واليقين بيُسْرٍ لا يكتفى بالظنّ، وعند إمكان ولزوم تحصيل الظنّ الأقوى لا يُعتنى بالظنّ الأضعف؛ لأن مثل هذا الأمر إنما يدخل في نطاق اتّباع الهوى، فيما لو وجب علينا اتّباع حكم العقل، ولكنْ لا فرق من هذه الناحية بين الظن العقلي والظن النقلي. إن العقلانية العُرْفية تطلب منا عند عدم التمكُّن من القطع واليقين أن نعمل بالظنون الموثوقة، والتي يمكن الاعتماد عليها. وإن العمل على طبق الظنون الموثوقة، والتي يمكن الاعتماد عليها، لا صلة له باتّباع الهوى، بل العكس هو الصحيح، بمعنى أن عدم العمل بهذه الظنون هو الذي ينطلق من اتّباع الهوى؛ لما في ذلك من مخالفةٍ صريحة لحكم العقل.
ومضافاً إلى ذلك، فإن «التجربة الفقهية»، التي هي نوعٌ خاص من التجربة الدينية، تُعَدّ واحدةً من أركان البحث والتفكير الفقهي. إن المؤمنين مكلّفون باتّباع النبيّ، وإن اتّباع النبيّ في مجال الفقه لا يكون ممكناً إلاّ من خلال بسط التجربة الفقهية للنبيّ الأكرم. ولكنْ لا شَكَّ في تأثير الأخلاق على تحقُّق التجربة الدينية، وكذلك على محتواها ومضمونها أيضاً. كما أن التجربة الدينية للنبيّ متأثِّرةٌ بأخلاقه أيضاً. ولذلك يجب على المؤمنين في مقام فهم وتفسير التجربة النبوية أن يقيِّموا النصوص التي تتحدَّث عن تجربته بالقِيَم الأخلاقية.
ب ـ دور أخلاق السلوك في معرفة الدين
نناقش هنا دور علم الأخلاق في معرفة الشريعة، وندافع عن المكانة والمنزلة الخاصّة لهذا العلم في استنباط الأحكام الشرعية. لقد أثبتنا، في الفصل الرابع من كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق)، في الفقرة (4 / 3)، أن الأخلاق من الناحية الوجودية متقدّمة على الشريعة، بمعنى أن إرادة الله الشارع التي هي مصدر الأحكام الشرعية تابعةٌ للقِيَم والمعايير (الضرورات والمحظورات) الأخلاقية، ولا يمكن العثور في الشريعة وفي اللوح المحفوظ وفي عالم الثبوت على حكمٍ غير منسجم مع القِيَم الأخلاقية، وإنْ كان بالإمكان العثور على مثل هذه الأحكام في النصوص الدينية. وإذا كان النصّ الديني مورد البحث معتبراً من الناحية السندية وجب التعاطي مع متنه بوصفه حكماً مفروضاً على الدين من الخارج، ولا يمكن اعتباره من ذاتيات الدين المطلق وما فوق التاريخي.
إن الالتزام بمثل هذه الفرضية في مجال الميتافيزيقا أو المعرفة الوجودية للفقه يضطرنا إلى الالتزام بأصلٍ هامّ في المعرفة الفقهية أيضاً، وهذا الأصل عبارةٌ عن «أن الاستنباط والفهم والفتوى الفقهية قابلةٌ للإبطال من الناحية الأخلاقية»، أي إن الفتاوى الفقهية إنما تكون مقبولةً ومعتبرة بشرط انسجامها مع القِيَم الأخلاقية. وعليه فإن وظيفة الفقهاء العقلانية والمعرفية تقتضي منهم قبل إصدار الفتوى أن يختبروا فهمهم للنصوص الدينية على أساس القِيَم الأخلاقية، وأن يجعلوا الفتوى متماهيةً ومنسجمة مع تلك القِيَم.
وكما قرأنا في كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) فإن الله قادرٌ على أن يصدر حكماً منافياً للقِيَم الأخلاقية، إلاّ أن أوصافه وفضائله الأخلاقية تمنع صدور هذا الحكم من قبله. ومع ذلك فإن امتناع صدور الحكم غير الأخلاقي أو المنافي للأخلاق من قِبَل الله شيءٌ، وامتناع صدور الفتوى غير الأخلاقية أو المنافية للأخلاق من قِبَل الفقهاء شيءٌ آخر تماماً، بمعنى أن الأول لا يستوجب في حدّ ذاته امتناع واستحالة الثاني؛ إذ يمكن للفقيه أن يخطئ في فهم حكم الله. ومن الأخطاء المحتملة والشائعة أنه قد يستنبط حكماً منافياً للقِيَم الأخلاقية من النصوص الدينية، وينسب استنباطه إلى الله. ولهذا السبب تماماً؛ وللحيلولة دون الوقوع في هذا الخطأ، يجب على الفقهاء أن يقيِّموا فهمهم واستنباطهم من النصوص الدينية بميزان الأخلاق.
إذا لم يكن باستطاعة الله ـ أي إذا لم تسمح له صفاتُه الأخلاقية ـ أن يبيح على المستوى الأخلاقي أمراً محظوراً أو واجباً على المستوى الأخلاقي فلن يكون باستطاعة أيّ فقيهٍ أن ينسب مثل هذا الحكم إلى الله([38]). وحيث إن باب العلم القطعي واليقيني في علم الأخلاق ـ كما هو الحال في علم الفقه، وأكثر العلوم البشرية الأخرى ـ مسدوداً ومنسدّاً، ولا يمكن الحصول في هذا المجال على غير العلم الظنّي، سيكون الظنّ بالقِيَم والمعايير الأخلاقية من وجهة نظر العقل العُرْفي وعُرْف العقلاء معتبراً، ويكون ملزماً على المستوى العقلي والأخلاقي. وعند التعارض بين المعايير الأخلاقية العقلية الظنية وبين المعايير الفقهية النقلية الظنية يجب تقديم المعيار الذي يراه العُرْف العقلاني هو الأقوى من الناحية المعرفية.
وحيث إن الظن الذي يمتلكه عُرْف العقلاء تجاه حقوق الإنسان أقوى بكثيرٍ من الظن الذي يمتلكه الفقهاء تجاه الفتاوى الفقهية المنافية لحقوق الإنسان تسقط هذه الفتاوى عن الحجّية والاعتبار. وليس المقلِّدون غير ملزمين بالعمل على طبق هذه الفتاوى فحَسْب، بل لا يحقّ لهم ذلك أساساً. ولو عملوا بهذه الفتاوى فإنهم سيكونون مسؤولين، ويستحقّون المؤاخذة؛ لأن الفتوى المنافية للقِيَم الأخلاقية لا تسقط المسؤولية الأخلاقية عن كاهل الإنسان، ولا يحقّ لأحدٍ أن يستند إلى الفتاوى الفقهية في تجاهل وهضم حقوق الآخرين ما وراء الفقهية والدينية. وهذا الأصل في الحقيقة يمثِّل أحد الأصول الأساسية في «أخلاق التقليد»([39]).
ومن المناسب هنا أن نشير إلى بعض الشبهات الموجودة في أذهان بعض المتديِّنين، مع بيان الجواب المقنع لها، على النحو التالي:
الشبهة الأولى: إن للإنسان حقوقاً، ولله حقٌّ أيضاً. وعند التعارض بين حقّ الإنسان وحقّ الله لا شَكَّ في أن التقدُّم سيكون لحقّ الله. وإن التعارض بين الفتاوى الفقهية وحقوق الإنسان يعود في الحقيقة إلى التعارض بين حقوق الله وحقوق الإنسان، وليس تعارضاً بين الفتاوى الفقهية وحقوق الإنسان.
إلاّ أن هذا الكلام ليس سوى مغالطة؛ لأن الذي يؤمن بأن الله عادلٌ عليه أن يؤمن بأن الله لا يهضم حقوق الإنسان. وعليه عندما تصل حقوق الإنسان إلى مرحلة الموضوعية والفعلية تكون حقوق الله سالبةً بانتفاء الموضوع، بمعنى أن الله العادل ليس له حكمٌ يستلزم سلب الحقّ من أحدٍ؛ لأن مثل هذا الحكم سيكون ظالماً. (ونزاعنا يدور حول وجود وعدم حكم الله). وبذلك عندما يكون هناك حقٌّ من حقوق الإنسان فإن الله لن يصدر حكماً مخالفاً لذلك الحقّ، فيُدَّعى بأن حقّ الطاعة لله في هذا المورد يتعارض مع حقوق الإنسان. وبعبارةٍ أخرى: إذا كانت حدود واعتبار حقوق الإنسان تابعةً للإرادة التشريعية للإله الشارع لن يكون هناك معنىً لاتّصاف الله بالعدالة.
إن بيان فكرة حقوق الإنسان إنما يأتي لدفع توهُّمٍ شائع بين المتديِّنين، وهو أن حقَّ الله مطلقٌ، وأن بإمكان الله استناداً إلى هذا الحقّ أن يتجاهل القِيَم الأخلاقية، وأن يصدر حكماً مخالفاً لها، أو أن يبيح لبعض عباده ـ استناداً إلى حكمه ـ تجاهل حقوق الآخرين وانتهاكها. إن حقّ الله مقيَّدٌ بقيدٍ لُبِّي، وعلى الرغم من علمنا استناداً إلى بعض الأدلة الدالّة على استغناء الله وكماله الأخلاقي أن هذا القيد حاصلٌ دائماً، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 23)، فإن عدم إمكان سؤال الله لا يعني أن بإمكانه أن ينتهك القِيَم الأخلاقية، وإنما يعني أن ما يقوم به منسجمٌ على الدوام مع القِيَم الأخلاقية.
وبعبارةٍ أخرى: إن العقل الذي يدرك حقَّ الطاعة لله هو ذاته العقل الذي يدرك حدود وثغور هذا الحقّ أيضاً. وإذا كان البناء على تقييد حقوق الإنسان بحقّ الله فعندها ستكون حقوق الإنسان لَغْواً وفاقدةً للمعنى. إن حقوق الإنسان هي حكم الله بوصفه شاهداً مثالياً (إله الأخلاق)، وإن حكم إله الأخلاق يحدِّد الإطار الذي يحقّ فيه للإله الشارع (إله الفقه) أن يصدر حكمه، وإن الإله الشارع يراعي هذا الإطار بإرادته ومقتضى صفاته الأخلاقية، ولا ينتهكه. إذا كان الظلم قبيحاً على المستوى الأخلاقي فإن سلب أو إلغاء حقوق الإنسان مصداقٌ واضح وبارز للظلم، وإن ساحة الله المقدّسة منزَّهةٌ عن مثل هذا الظلم. نعم، يمكن لله بطبيعة الحال أن لا يخلق الإنسان ابتداءً، أما أن يخلقه ثم يسلبه حقوقه الطبيعية أو يتجاهلها أو يحدّ منها([40]) فسيكون ذلك لَغْواً وعَبَثاً. إن إرادة الله التشريعية تابعةٌ لإرادته التكوينية، وليس العكس. وإن خلق الإنسان هو عين الاعتراف بحقوقه الطبيعية من قبل الله.
هذا، مضافاً إلى أننا حتّى إذا قلنا بأن حقَّ الله في هذا المورد ثابتٌ، وهو يتعارض مع حقوق الإنسان، يمكن لنا مع ذلك أن ندّعي ـ كما يُستَنْبَط من بعض النصوص الدينية ـ أن الله يرى تقدُّم حقّ الناس على حقِّه؛ لأن الله يمكنه يوم القيامة أن يتجاوز حقوقه، ولكنّه لا يستطيع التغاضي عن حقوق الناس؛ لأن ذلك رهنٌ برضا أصحاب الحقوق، وإن تجاوز الله عن حقوق الناس دون إذنهم يُعتَبَر ظلماً لهم. وهذا يعني أن الله يريد من عباده مزيداً من الاهتمام بحقوق الناس، وأن يكون اهتمامهم بها أكثر من اهتمامهم بحقوق الله. وعليه كيف يمكن أن ننسب إلى الله انتهاكاً لحقوق الإنسان، أو أن يبيح لبعض عباده أن ينتهكوا حقوق الآخرين؛ استناداً إلى حقِّه، في حين إذا كان حقّ الناس تابعاً لإرادة الله فإن تغاضي الله عن هذا الحقّ لن يكون ظلماً؟!
وبعبارةٍ أخرى: إن حق الله لا يكون في مرتبة حقّ الناس أبداً. وعليه لا يمكن تصوُّر حصول التعارض بينهما. وإذا كان هناك تعارضٌ فهو بين رؤيتين بشأن كيفية توزيع حقّ الناس بين الأفراد. وفي الحقيقة فإن الأصوليين الدينيين الجدد والتقليديين يسعَوْن؛ من خلال الاستناد إلى حقّ الله، لتبرير التوزيع غير العادل لحقّ الناس (حقوق الإنسان) بين الأفراد.
ومضافاً إلى ذلك، وبالالتفات إلى ما تقدَّم في الفصل السادس والسابع من كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) في ما يتعلَّق بالشاهد المثالي، يمكن لنا أن ندّعي أن التعارض بين حقوق الإنسان والفتاوى الفقهية حتّى إذا أدّى إلى التعارض بين الحقوق سيكون في الحقيقة تعارضاً بين حقّ الطاعة لله بوصفه شاهداً مثالياً (الإله الحكيم والعادل والرحيم) وحقّ الطاعة لله الشارع والمالك؛ لأن حقوق الإنسان تستند إلى إرادة واعتبار أو علم الشاهد المثالي. ويمكن الادّعاء بوضوحٍ أن وجوب إطاعة الشاهد المثالي مقدَّمٌ على وجوب إطاعة الله الشارع؛ لأن حقّ إطاعة الله الشارع متوقِّفٌ على افتراض القِيَم الأخلاقية في مرتبةٍ سابقة، وعلى تناغم وانسجام أوامر الإله الشارع مع تعاليم إله الأخلاق. وإن الضمانة العقلانية الوحيدة لحقّ الطاعة أو وجوب إطاعة الله الشارع هي الصفات الأخلاقية لله (وهي: الحكمة والعدالة والرحمة).
وبعبارةٍ أخرى: إن التعارض بين الفتاوى الفقهية وحقوق الإنسان هو غير التعارض بين حقّ الله وحقوق الإنسان؛ إذ يجب أوّلاً إثبات أن الفتاوى الفقهية المعارضة لحقوق الإنسان معتبرة؛ كي يمكن لنا أن نستنتج أن اتّباع تلك الفتوى من حق الله، وأن تجاهلها ظلمٌ لله. ولو أن الفتوى الفقهية مورد البحث سقطَتْ عن الاعتبار؛ بسبب تعارضها مع حقوق الإنسان، فإن اتّباع هذه الفتوى لن يكون مصداقاً لاحترام حقّ الله؛ كي يستلزم تجاهلها تضييعاً لحق الله. وعليه فإن هذه الشبهة تُعَدّ نوعاً من المصادرة على الموضوع؛ لأن بحثنا يدور حول ما إذا كانت الفتوى الفقهية المعارضة لحقوق الإنسان معتبرة أم أنها تسقط عن الاعتبار بفعل هذا التعارض؟ إذا كانت هذه الفتوى معتبرةً فإننا سنواجه مورداً من موارد تعارض حقّ الله وحقوق الإنسان؛ وأما إذا لم تكن معتبرةً فإن حقّ الله في هذا المورد لن يكون فعلياً؛ لانتفاء موضوعه. فلكي نكون هنا في مواجهة التعارض بين حقّ الله وحقوق الإنسان يجب أن نفترض اعتبار الفتوى الفقهية. فإذا أراد شخصٌ أن يثبت اعتبار هذه الفتوى من خلال تطبيق حقّ الله على هذا المورد يكون قد ارتكب مصادرةً على المطلوب.
الشبهة الثانية: إن حقوق الإنسان حقوقٌ فردية. وإن فعلية هذه الحقوق مقيَّدة بانسجامها مع حقّ أو مصلحة المجتمع والنظام. وعند حصول التعارض بين الحقوق الفردية وحقّ أو مصلحة المجتمع والنظام تكون الحقوق الفردية ساقطةً عن الاعتبار([41]). وهناك مَنْ سعى ـ بالاستناد إلى تقديم مصلحة المجتمع والنظام على حقّ الفرد ـ إلى تبرير الفتاوى الفقهية غير المنسجمة مع حقوق الإنسان. وأحياناً يُدَّعى أن المجتمع بمنزلة السفينة، وأن جميع أفراد المجتمع ركّابها، ونحن لا نستطيع أن نبيح لأحدٍ تحت ذريعة حقوق الإنسان أن يثقب هذه السفينة.
إن هذا الادّعاء من وجهة نظرنا يقوم على فهمٍ خاطئ لحقوق الإنسان؛ فأوّلاً: إن المجتمع والنظام ليس له من وجودٍ حقيقي، وإنما هو عبارةٌ عن مجموعة من الأفراد، ولذلك لا يوجد لدينا حقٌّ باسم حقّ المجتمع والنظام. وعليه لا بُدَّ أن يكون المراد من حقّ المجتمع والنظام هو «حقّ الأكثرية». بَيْدَ أن المجتمع العادل والأخلاقي لا يعتبر حقوق الأكثرية أهمّ من حقوق الأقلّية، بمعنى أن جميع الأفراد يتمتعون بحقوق متساوية، وليس للأكثرية من حق خاص. بمعنى أنه لا يوجد حقٌّ باسم حقّ الأكثرية كي يتمّ من خلاله انتهاك حقوق الأقلية. أجل، يحقّ للأكثرية أن تطالب بإدارة وتنظيم الأمور الاجتماعية على أساس مصلحتها، أو حتّى على أساس مذاقها، إلاّ أن هذا الحقّ إنما يكون مباحاً في إطار الانسجام مع حقوق الإنسان، بمعنى أن حقوق الأقليات ليست تابعةً لإرادة الأكثرية، ولذلك لا يمكن نقض حقوق الأقلّية بذريعة رأي أو رغبة الأكثرية. وبعبارةٍ أخرى: عند التعارض بين الحقّ والمصلحة يكون التقدُّم للحقّ دائماً، وإن الحقّ هو الذي يرسم الحدود المسموح بها من المصلحة.
وثانياً: إن حقوق الإنسان لا تقوم على المصلحة، ولا تنبثق عن حقوق الأفراد، حتّى يقال: عند حصول التعارض بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع والنظام يكون التقدُّم لمصلحة المجتمع؛ بحكم كونه هو الأكبر. إن حقوق الإنسان هي من الحقوق. وعند التعارض بين الحقوق والمصالح يكون التقدُّم للحقوق دائماً. وأساساً فإن أحد الأدلة على عدم كفاية الاجتهاد المصطلح في الحوزات العلمية هو أنه في أفضل حالاته يدور حول فَلَك المصالح، في حين أن الأخلاق تدور حول فَلَك الحقوق. وإن الشيء الوحيد الذي يمكنه تحديد المصالح وتقييدها هو الحقوق.
ومضافاً إلى ذلك فإن هذا الادّعاء لا ينسجم مع فلسفة حقوق الإنسان؛ لأن التأكيد على حقوق الإنسان إنما يأتي في سياق نفي تقدُّم المجتمع والنظام على الفرد، والحيلولة دون إساءة استغلال هذا الأمر من قِبَل الحكّام والسلطات؛ فإن الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية والشمولية تعمل على سلب حقوق الأفراد تحت ذريعة الحفاظ على مصالح النظام والمجتمع، في حين أنه طبقاً لحقوق الإنسان لا يحقّ لأحدٍ أن يسلب حقّ فردٍ أو أقلّية تحت ذريعة الحفاظ على المصلحة العامة.
نعم، عندما يكون التعارض بين الحقوق يكون المقدَّم هو الحقّ الأهمّ. بَيْدَ أن هذا الادّعاء لا مصداق له في مورد الحقوق الأساسية؛ لأن الحقوق الأساسية أهمّ من سائر الحقوق الأخرى، وإن جميع الناس يتكافأون في هذه الحقوق. وإن حقوق الإنسان في الحقيقة هي حقوقه الأساسية. فلو توقَّفت حياة الجماعة على قتل فردٍ بريء، أو توقَّف إنقاذ حياة الناس على تعذيب شخصٍ بريء، كان قتل ذلك الفرد وتعذيبه غيرَ جائزٍ من الناحية الأخلاقية([42]).
عند تعارض الحقوق لا تشكِّل الأكثرية والأقلّية معياراً للتقديم والتأخير، وإنما الملاك يكمن في أهمّية الحقّ. فلو توقَّف إنقاذ حياة شخصٍ على تجاهل حقّ الآخر في ملكيته، أو التصرُّف في هذه الملكية دون إذنه، كأنْ يتوقَّف إنقاذ شخص من الغرق على اجتياز أرض شخصٍ آخر من دون إذنه، كان ذلك جائزاً من الناحية الأخلاقية. وأما إذا توقَّف إنقاذُ شخصٍ على إزهاق روح شخصٍ آخر بريء لم يكن ذلك جائزاً من الناحية الأخلاقية؛ إذ إن أرواح الناس تتمتَّع بقيمةٍ واحدة ومتساوية من الزاوية الأخلاقية، ولا فرق بين حقّ زيد في الحياة وحقّ عمرو فيها([43]).
إن الذين يعملون على تبرير الفتاوى الفقهية غير المنسجمة مع حقوق الإنسان، من خلال الاستناد إلى حقّ المجتمع والنظام، أو حقّ الأغلبية، لا يلتفتون إلى حقيقة أنهم في المقلب الآخر لا يرتضون تعميم هذا المعيار على المجتمعات غير الإسلامية. فلو أن حكومةً في مجتمعٍ غربي ـ على سبيل المثال ـ استندَتْ إلى حقّ المجتمع والنظام أو حقّ الأكثرية، وعمدت إلى تحديد حرّية بعض المسلمين في ممارسة فرائضهم العبادية، وحظروا عليهم ممارسة بعض تقاليدهم وأعرافهم الدينية، لاعترضوا على ذلك، وبرَّروا اعتراضهم في إطار الحقوق الطبيعية للإنسان. تُعَدّ النزعة الفردانية أو أصالة الفرد وتقديمه على الجمع أحد الفرضيات الفلسفية لحقوق الإنسان. وإن هذه الحقوق في الحقيقة تعين الحدود والأطر لإرادة ومطالب الأكثرية والدولة المنبثقة عن آراء أغلبية المواطنين([44]).
لا يحقّ لأحدٍ من الناحية الأخلاقية أن يضيِّع حقوق الآخرين، سواء أكان الآخرون يمثِّلون الأكثرية أو الأقلية في المجتمع. كما لا يحقّ للفرد أن يضرّ بالآخرين، وإن الإضرار بالغير ممنوعٌ من الناحية الأخلاقية. إلاّ أن الإضرار بالآخرين يختلف عن إزعاجهم؛ فليس هناك من كلامٍ أو فعل لا يزعج فرداً أو جماعة. ولو كان الانزعاج يمثِّل مبرِّراً لتعيين حدود حقوق الأفراد لأصبحت حقوق الإنسان لاغيةً وغير ذات مصداقية. إن عدم إزعاج الآخرين يعتبر مستحبّاً من الناحية الأخلاقية، بَيْدَ أن التغاضي عن الحقّ؛ من أجل عدم إزعاج الآخر، ليس واجباً من هذه الناحية([45]).
إن للفرد والأقلّية على المجتمع والنظام والأكثرية ذاتَ الحقوق التي للمجتمع والنظام والأكثرية على الفرد والأقلّية. وإن المجتمع والنظام والأكثرية لا يغضّون الطرف عن حقوقهم؛ مخافة إزعاج الفرد والأقلّية، أو إنهم غير ملزمين بذلك على المستوى الأخلاقي. ليس للفرد ولا للمجتمع ولا للنظام ولا للأقلية ولا للأكثرية حقّ باسم حقّ عدم الانزعاج من سلوك أو كلام الآخرين؛ كي نقول: إن مراعاة مثل هذا الحقّ يُعَدّ واحداً من التكاليف الأخلاقية على الآخرين([46]). إن سلب حقوق الأفراد أو الأقلّيات تحت ذريعة عدم استياء المجتمع والنظام أو الأكثرية يمثِّل في حقيقة الأمر ظلماً من قِبَل المجتمع والنظام أو الأكثرية بحقّ الفرد أو الأقلّية. وبطبيعة الحال فإن انتهاك المقدّسات قبيحٌ من الناحية الأخلاقية، إلاّ أن موضوع هذا الحكم الأخلاقي لا يقتصر على مقدّسات الأكثرية فحَسْب، بل كذلك لا يحقّ للأكثرية أن تنتهك مقدّسات الأقلّية. إلاّ أن نقد العقائد والمتبنيات والممارسات المذهبية والدينية وغير الدينية هو غير الإساءة للمقدّسات، ويحقّ للجميع أن ينتقدوا عقائد الآخرين وتصرُّفاتهم، هذا إذا لم نقُلْ: إن ذلك قد يبلغ حدّ الوجوب أحياناً.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن المجتمع العادل هو الذي تتساوى فيه حقوق المتديِّنين وغير المتديِّنين. وليس هناك حقٌّ اسمه عدم إزعاج المتديِّنين؛ كي يمكن القول على أساسه: إن غير المتديِّنين لا يحقّ لهم قول ما من شأنه إزعاج المتديِّنين. وإذا كان مثل هذا الحق موجوداً فهو ثابتٌ لجميع الأفراد ـ المتديِّنين وغير المتديِّنين ـ بدرجة واحدة. نعم، لا يحقّ لأحدٍ أن ينتهك أو يدنِّس مقدَّسات الآخرين وعقائدهم وآراءهم، إلاّ أن هذا التكليف ـ كما سبق ـ لا يختصّ بغير المتديِّنين، بل يشمل حتى المتديِّنين أيضاً، بمعنى أن المتديِّنين لا يحقّ لهم أن يدنِّسوا أو ينتهكوا آراء ومعتقدات ومقدّسات غير المتديِّنين أيضاً. وأما النقد المحترم لآراء الآخرين فهو حقٌّ مكفول لكلا الجانبين، حتّى وإنْ أدّى ذلك إلى استياء وانزعاج أصحاب العقيدة التي تتعرَّض للنقد.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن تشبيه المجتمع بالسفينة؟ لنفترض أننا نسلِّم بهذا التشبيه، في هذه الصورة يمكن القول: إذا كان تمتُّع المواطنين بحقوقهم الطبيعية بمنزلة خرق السفينة فإن سلب وتضييع هذه الحقوق ـ وخاصّة من خلال التمسُّك بالدين وتوظيف الأساليب الاستبدادية ـ سيكون بمنزلة إغراق تلك السفينة، أي إنه إذا عمد فردٌ إلى الحيلولة دون شيءٍ يعتبره فاسداً، من خلال اللجوء إلى الاستبداد، سيكون كمَنْ يدفع الفاسد بالأفسد، وسيكون كمَنْ يفجِّر السفينة بجميع ركّابها؛ كي يحول دون قيام أحدهم بثقبها.
الشبهة الثالثة: يُقال أحياناً: إن حقوق الإنسان والديمقراطية تؤدّي إلى إباحة الزواج بين المثليين وشرب الخمور وما إلى ذلك. وهذا يمثِّل أحد الأسباب الرئيسة لمعارضة بعض المتديِّنين السطحيين لحقوق الإنسان والديمقراطية. وإن طريق الحلّ الذي يقترحه المتديِّنون لهذه المشكلة يكمن في الفصل بين الحداثوية وأخلاق الحداثة، أو فصل الديمقراطية عن الليبرالية، وإحداث تقابل بين الديمقراطية الدينية والليبرالية الديمقراطية، وتقييد حقوق الإنسان بتناغمها مع الأحكام الفقهية.
ولكنْ لو فرضنا وجود مثل هذه الملازمة حقّاً، وقلنا بأن الأخلاق العلمانية تشتمل على مثل هذه التَّبِعات، ففي هذه الصورة يمكن القول: أوّلاً: إنه قبل المقارنة بين نظامين أخلاقيين علينا أن نصدر حكماً واضحاً بشأن قيمة وأهمّية الأمور التي تشتمل على أحكامٍ أخلاقية مختلفة في ذينك النظامين. لا شَكَّ في أن الأخلاق لا تُخْتَزَل في حرمة الممارسات الجنسية المحظورة وشرب الخمور وعدم الحجاب، بل هناك الكثير من الأمور التي هي من الناحية الأخلاقية أشدُّ قُبْحاً وفظاعة من هذه الأمور، وكما يقول الخيام، ما معناه: إذا كنتَ لا تشرب الخمر فلا تطعَنْ في السكارى، وأنت تؤسِّس للمكر والخديعة. لا تغترّ بعدم شرب الخمر وأنت تخضم أنواع المحرّمات، التي لا يُعَدّ الخمر شيئاً بإزائها. فإن الظلم مثلاً والعنصرية والاستبداد وتضييع حقوق الآخرين والقمع وتشويه الحقائق ومحاكم التفتيش والرياء والنفاق والتظاهر بالزهد وتوظيف الدين وما إلى ذلك يعتبر من الناحية الأخلاقية أسوأ بكثيرٍ من الشذوذ الجنسي ومعاقرة الخمور. وإن السُّكْر الحاصل بسبب السلطة أشدّ خطراً من السُّكْر الحاصل بسبب شرب الخمر. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الاتّجار بالدين (الارتزاق من خلال الدين). وإن رفع سقف السلطة والارتزاق على أعمدة الشريعة أسوأ وأقبح بالآف المرّات من بيع الجَسَد (الارتزاق من خلال الفحشاء). وإن الالتزام الأخلاقي يقتضي من الشخص أن يبدي من الحساسية والانفعال تجاه الأفعال المنافية للأخلاق بما يتناسب مع حجم وأهمّية الأحكام الأخلاقية المترتِّبة على تلك الأمور.
إن الذي يظهر حساسية مفرطة تجاه الشذوذ الجنسي وشرب الخمر، ويرتدي لامة الحرب والكَفَن؛ من أجل القضاء على ظاهرة التصفيق وسوء الحجاب، ولا يبدي ذات الحساسية تجاه الاستبداد والظلم السياسي وهضم حقوق الناس، لن تكون مشاعرُه وأحاسيسه أخلاقيةً. وهكذا الذي يؤكِّد على العدالة الاقتصادية والتوزيع العادل للثروات، ولكنه لا يبدي ذات الحساسية تجاه العدالة السياسية والتقسيم العادل للسلطة (الديمقراطية)، لا يمكنه أن يدّعي بأن القلق الذي يساوره قلقٌ أخلاقي، أو أنه منبثقٌ عن الهواجس الأخلاقية، بل يجب النظر إلى صدق هؤلاء الأشخاص في ما يدَّعون بعين الشكّ والريبة. وفي الحقيقة فإن المبالغة في التأكيد على القِيَم الأخلاقية الثانوية، أو التأكيد على مصاديق خاصّة من القِيَم الأخلاقية العامة، يعتبر في حدّ ذاته نوعاً من الشذوذ الأخلاقي؛ لأن مثل هذا التأكيد يؤدّي بالفرد والمجتمع إلى الغفلة وعدم الاهتمام بنقض القِيَم الأخلاقية الأهمّ. ولو كان الفرد صادقاً في هواجسه من أجل الحفاظ على القِيَم فإنه يجب أن لا يساوي بين الأهمّية التي يوليها للقِيَم ونقضها، وإنما يجب أن تكون هواجسه متناسبة مع حجم تلك القِيَم. وعند التعارض والتزاحم بين ملاكات القِيَم عليه التضحية بالقِيَم الدنيا من أجل القِيَم العليا، وأن يجعل الأولوية للدفاع عن القِيَم الأهمّ، وأن لا يرتكب العشرات من المنكرات والفواحش من أجل القضاء على منكرٍ واحد. فما هي قيمة إغلاق حانة الخمر إذا كان ذلك يؤدّي إلى فتح أبواب الزيف والنفاق والرياء؟!
وثانياً: يمكن القول: إن ميول الأفراد ورغباتهم الجنسية والغذائية من زاوية الأخلاق الاجتماعية تدخل في نطاق حياتهم الخاصّة، بمعنى أن الآخرين لا يحقّ لهم فرض متبنّياتهم وأذواقهم أو دينهم على هؤلاء الأفراد، وإنْ كان التحرُّر من ضغوط الآخرين في مجال الحياة الخاصة لا يعني التحرُّر من قيود الأخلاق الفردية. بَيْدَ أن الحيلولة دون الانحرافات الأخلاقية، من خلال ممارسة الاستبداد الديني، إنما هو دفعٌ للفاسد بالأفسد، وارتكابٌ لمنكرٍ أكبر من أجل منع منكرٍ أصغر؛ لأن الإصلاح الأخلاقي لا يتمّ عبر الضغط والإكراه، بل إن مثل هذا الأمر هو عين الإفساد؛ حيث يقضي على القِيَم الأخلاقية والدينية الأسمى والأكبر([47]).
وبعبارةٍ أخرى: إننا هنا نواجه مورداً من موارد التعارض بين الأخلاق الفردية والأخلاق الاجتماعية. وعند التعارض بين هذين النوعين من الأخلاق يكون التقدُّم للأخلاق الاجتماعية؛ لأن هذا هو مقتضى العدالة، بمعنى الإنصاف. فلو أن الذين يتبعون نظام الأخلاق الفردية، الذي يحظر ممارسة الشذوذ الجنسي وشرب الخمر، كانوا يعيشون في مجتمعٍ تتألَّف غالبيته من الشاذّين جنسياً والذين يشربون الخمر كان لهم كامل الحقّ في اجتناب هذه الموبقات. ولو حاولت الأكثرية في ذلك المجتمع حملهم على ممارسة تلك الموبقات لاعتبر ذلك مصداقاً بارزاً للظلم، ولا يُقال بوجود مثل هذا الحقّ الذي يبيح للأكثرية حمل الأقلّية على ممارسة واتّباع أخلاقهم الفردية.
4 ـ كلمةٌ أخيرة
تناولنا في هذا الفصل الارتباط المنطقي والمعرفي بين الدين والأخلاق. وتعرَّضنا بشكلٍ محدَّد بالنقد والتقييم لنظريتي «تبعية علم الأخلاق لعلم الكلام»، و«إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق».
وكما رأينا، فإن حكم العقل طبقاً للرؤية السائدة بين علماء الشيعة إنما يكون معتبراً إذا كان قطعياً ويقينياً. ولكنْ حيث إن حصول القطع واليقين أمرٌ نادر التحقُّق لا يمكن الوصول إلى حكم الشرع من خلال حكم العقل، ولذلك لا يمكن إبطال الفتاوى الفقهية بالاستناد إلى القِيَم الأخلاقية. ومن جهةٍ أخرى، حيث إن حجّية الوحي من وجهة نظر هؤلاء العلماء غير متوقّفةٍ على القطع واليقين، وإن بعض الظنون النقلية معتبرةٌ أيضاً، يمكن الوصول إلى حكم العقل من خلال حكم الشرع، ويمكن لنا إبطال المتبنيات الأخلاقية من طريق الفتاوى الفقهية. وقد أدّى التركيب بين هاتين الدعويين إلى إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق، وإلغاء دور العقل المستقلّ عن الشرع في مجال تشخيص الحقوق والوظائف وتنظيم العلاقات الاجتماعية.
كما تعاني سائر الفرق الإسلامية، بشكلٍ وبآخر، من هذا النوع من النزعة النقلية الجزمية أو ما كان على شاكلتها، رغم اختلاف الأدلّة على تقديم النقل على العقل بين هذه الفرق المختلفة؛ فإن دليل تقديم النقل على العقل عند الأشاعرة التقليديين ـ مثلاً ـ يقوم على أن أحكام الشرع لا تتبع المعيار والملاك العقلاني؛ في حين أن دليل تقديم النقل على العقل عند أكثر علماء الشيعة هو القول بأن الظنون العقلية (والتجريبية) ساقطةٌ عن الاعتبار في مواجهة الظنون النقلية([48]).
وقد عمدنا إلى نقد القول بتقديم «النقل» على «العقل»، وإحلال «علم الفقه» محلّ «علم الأخلاق» بالتفصيل. وكان من بين النتائج التي توصَّلنا إليها عدم وجود دليلٍ يشترط حصول القطع واليقين على اعتبار وحجّية حكم العقل، ويدلّ على التقديم المنطقي والمعرفي للمتبنّيات الفقهية (المستندة إلى الوحي والنقل) على المتبنّيات الأخلاقية (المستندة إلى العقل والوجدان). وعند التعارض بين المتبنّيات الحاصلة من خلال القنوات المعرفية المختلفة يحكم العقل بضرورة مقارنة هذه المتبنّيات فيما بينها، والالتزام بالمتبنّى الذي يقوم الدليل الأقوى لصالحه. وإن الأدلة المتوفّرة بين أيدينا لصالح المتبنّيات الأخلاقية غالباً ما تكون هي الأقوى من الأدلة المتوفّرة لصالح المتبنّيات الفقهية المعارضة لها.
كما أن التقوى والعدالة المعرفية تقتضي ذلك أيضاً. وليس هناك فرقٌ بين الدليل العقلي والدليل النقلي من هذه الناحية. كما أن نسبة الاحتياط والتسليم لحكم الله في كلا طرفي القضية متكافئٌ.
إن النزعةَ النقلية القاطعة، التي تقوم على التفريق بين النقل والعقل، وتكتفي في مورد الأدلة النقلية بالوَهْم (الظنّ الذي لا يرقى إلى الخمسين بالمئة)، وتشترط في الوقت نفسه لإثبات الحجّية للأدلة العقلية أن تبلغ درجة القطع واليقين، غيرُ مبرِّرة، ولا يمكن الدفاع عنها، بنفس المقدار الذي يكون في حالة النزعة العقلية التي لا ترى أيّ قيمةٍ واعتبار للتقاليد الدينية وغير الدينية. إن المسؤولية المعرفية تقتضي من الفرد أن يمنح قيمةً متساوية لكلٍّ من العقل والنقل في مقام معرفة الحقوق والتكاليف الأخلاقية والدينية. وعند حصول التعارض بين العقل والنقل يتمّ الانصياع للأمر الذي يحظى بدعامةٍ معرفية أقوى.
يذهب الدكتور عبد الكريم سروش إلى القول بأن «تدخُّل العقل في فهم الدين يساهم في بناء النظريات العلمية والفلسفية والكلامية والعرفانية التي تساعد على فهم الدين. ولا بُدَّ من اغتنام هذا العنصر المساعد، والاستمرار في توظيفه؛ لأنه يمثِّل مفتاح السرّ الذي يفتح الطريق أمام التحوُّل والتقدُّم في المعرفة الدينية»([49]).
إلاّ أن بحوث هذا الفصل تثبت أن تدخُّل العقل في فهم الدين أعمق وأكثر تجذُّراً من ذلك؛ فإن هذا التدخُّل يحصل أوّلاً من طريق المعايير العقلانية وأخلاق التفكير والتحقيق (شريعة العقل). ولو تمّ الاعتراف بهذا التدخُّل فإنه سيفتح الطريق أمام تدخُّل العلم والفلسفة والكلام والعرفان. وإن الذين يقفون بوجه تدخُّل العلم ـ الأعمّ من العلوم الطبيعية والإنسانية ـ والفلسفة والكلام والعرفان في فهم الدين والشريعة ليس لهم مستندٌ غير العقلانية وأخلاق التفكير والبحث التقليدي. وإن العقلانية والأخلاق هما اللذان يحظران مثل هذا التدخُّل، ويعتبرانه محرّماً وغير مشروع. وعليه فإن أوّل شيءٍ يتعين علينا القيام به في إطار إحياء الفكر الديني يجب أن يكون إصلاح هذا النوع من العقلانية والأخلاق. وإن حلّ المشاكل الماثلة أمام المجتمع الديني في المرحلة الحديثة رهنٌ بإعادة النظر في «أخلاق الاجتهاد» و«أخلاق التقليد» في ضوء التقدُّم الحاصل في مجال فلسفة الأخلاق وعلم المعرفة والهرمنيوطيقا.
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم 235.
([2]) ولذلك يذهب بعض علماء الأصول إلى اختزال حكم العقل في (وجوب حفظ النظام) و(حرمة الإخلال بالنظام)؛ إذ يرى أن الأحكام العقلية لا تكون قطعيةً ولا يقينية إلاّ في هذين الموردين. انظر: الشيخ المظفر، أصول الفقه، ج2، قم انتشارات إسماعيليان. ولا يخفى أن مراد هذا البعض من «النظام» عبارة عن «النظم الاجتماعي». وعليه يكون مراده من (وجوب حفظ النظام) ليس هو وجوب حفظ نظام حكومي خاصّ، وإنما المراد هو وجوب حفظ النظم. كما أن مراده من (حرمة الإخلال بالنظام) هو حرمة الإخلال بالنظم الاجتماعي.
([3]) يشكو الدكتور سروش في بعض كتاباته من إحلال «الإدارة الفقهية» محلّ «الإدارة العلمية». ومراده التأكيد على أننا في «الإدارة نحتاج إلى شيءٍ أكثر من الفقه، ألا وهو العلم التجريبي». انظر: سروش، سقف معيشت بر ستون شريعت، وذلك في: مدارا ومديريت: 55. وهذا كلامٌ صحيح. ولكنّ تعبيره يوحي بأن التركيب والمزج المناسب بين علم الفقه والعلوم التجرييبة هو كلّ ما نحتاجه في الإدارة الناجحة للمجتمعات الإسلامية في العالم المعاصر. وهذا لا يبدو صحيحاً من وجهة نظرنا؛ لأن علم الفقه ليس عاجزاً عن مَلْء فراغ العلوم التجريبية فحَسْب، بل هو كذلك عاجزٌ عن أن يسدّ الفراغ الحاصل نتيجة غياب علم الأخلاق وعلم الحقوق أيضاً. وأساساً فإن إجحاف أتباع الإدارة الفقهية بحقّ العلوم التجريبية ينشأ من موضعٍ آخر؛ فإن هؤلاء إنما لا يعيرون أهمّية للعلوم التجريبية ـ الأعمّ من الطبيعية والإنسانية ـ في إدارة المجتمع؛ لأنهم يحلّون «فقه الإدارة» محلّ «أخلاق الإدراة»، أو أنهم يحلّون «الإدارة الفقهية» محلّ «الإدارة الأخلاقية». إن قِيَم الأخلاق الإدارية هي التي تلزم المدراء في العالم المعاصر بتوظيف العلوم التجريبية، وإن الذين يحلّون «الفقه» محلّ «الأخلاق» في جميع المجالات لا يرَوْن قيمة للضرورات والمحظورات والقِيَم الأخلاقية في مجال الإدارة، بما في ذلك ضرورة الاستفادة من معطيات العلوم التجريبية في مسألة الإدارة، ولا يلزمون أنفسهم بضرورة اتّباع تلك القِيَم. هذا إذا لم نقُلْ: إنهم لا يعلمون بوجود هذه القِيَم والضرورات والمحظورات أساساً.
وبعبارةٍ أدقّ: إن الإدارة تقوم على مزيجٍ من «العلم» و«القيم» أو «الوجود» و«الوجوب»، ولذلك تكون الإدارة الفقهية البحتة، والإدارة العلمية البحتة، والإدارة الأخلاقية البحتة، مفاهيم خالية من المصاديق. إن أولئك الذين لا يقيمون وزناً للعلوم التجريبية في إدارتهم في الحقيقة لا يحلّون «الإدارة الفقهية» محلّ «الإدارة العلمية»، وإنما يعمدون إلى تركيب ومزج الضرورات والمحظورات الفقهية بما لديهم من المعلومات العامية والخام والمنسوخة وغير الناضجة في مجال العلوم التجريبية، وبذلك فإنهم يحلّون «الإدارة الجاهلة» محلّ «الإدارة العلمية». وإلى جوار العلوم التجريبية هناك تأثيرٌ حيوي لـ «أخلاق الإدارة» في طريقة الإدارة، وإن الأخلاق هي التي تقول للمدراء: كيف، وأين، ومتى، يمكنهم توظيف معطيات العلوم التجريبية؟ وما إذا كانوا مكلَّفين بالاضطلاع بهذا الدور أم لا؟
يفهم من كلام الدكتور سروش أن حلّ مشاكل المجتمعات الإسلامية في العالم المعاصر يكمن في اتباع العلوم التجريبية، أو بعبارةٍ أدقّ: إن حلّ هذه المشاكل يكمن في مزج الفقه بالعلوم التجريبية، حيث قال بهذا الشأن: «…لم يكن الأسلوب العلمي في حلّ المسائل والإدارة العلمية للمجتمع معروفاً حتّى هذه الأيام القليلة الماضية؛ فالإدارة التي كانت معروفة ومألوفة حتّى الآن هي الإدارة الفقهية، لا غير. ولكنْ هل يمكن لنا اليوم أن ننكر الضجيج الصناعي والتجاري الصاخب؟ وهل يمكن إخماد غبار العلاقات المتوتِّرة التي تحكم السياسة العالمية؟ وهل يمكن السيطرة على مارد المشاكل البشرية المعاصرة بمجرد توظيف علم الفقه؟ إن الذي يدخل في حدود صلاحية الفقه هو رسم الحدود النهائية لدائرة نشاط الإنسان، فلا يتخطّوها، وأما في غير ذلك فلا بُدَّ من ترك الأمور إلى العلم. انظر: المصدر نفسه: 54. والتأكيدات المضافة من عندنا. كما قال الدكتور سروش في موضعٍ آخر: «فهل جميع مشاكل العالم والحياة هي مشاكل حقوقية حتّى نتوقع حلَّها من الفقه؟… فالفقه على الرغم من إصداره الأحكام، وهو من هذه الناحية على مستوى الكمال، ولكنّه لا يقدِّم منهجاً…». انظر: المصدر نفسه: 54. والتأكيدات المضافة من عندنا. وعلى الرغم من أن بعض علماء الدين قال: «إن الفقه غنيٌّ بالأحكام، كما هو غنيٌّ بالمناهج. ويمكن لنا أن نستوعب الغنى في جانب الأحكام…، إلاّ أن الأحكام هي غير المناهج». انظر: سروش، خدمات وحسنات دين، وذلك في: مدارا ومديريت: 257. والتأكيدات المضافة من عندنا.
يُفهم من هذه التعبيرات وكأنه يرى إمكان إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق (الاجتماعية) وعلم الحقوق. في حين أننا نرى أوّلاً: أن الأحكام الفقهية كما لا تحلّ محلّ المناهج العلمية، فإنها كذلك لا تحلّ محلّ القِيَم الأخلاقية والأحكام الحقوقية أيضاً. وثانياً: إن أخلاق الإدارة مقدَّمة على فقه الإدارة. وينبغي لنا أن نطلب حلّ المشاكل الراهنة للمجتمعات الإسلامية في العالم المعاصر من خلال التركيب بين الفقه والحقوق والأخلاق والعلوم التجريبية. ولا يمكن لأيّ واحد من هذه العلوم أن يحلّ محلّ الآخر. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الفقه لم يبلغ حدّ الكمال، حتّى من ناحية الأحكام؛ إذ ليس هناك دليلٌ يثبت هذا الادّعاء القائل بأن لله حكم في كلّ واقعةٍ وحادثة ومسألة. نعم، نعلم إجمالاً أن للشارع أحكاماً «ملزمة» يجب العمل بها بمقتضى الإيمان، وإن علم الفقه يتكفَّل بمعرفة هذه الأحكام. وأما الادّعاء بأن هذه الأحكام شاملة، وأن علم الفقه تَبَعاً لذلك علمٌ «كامل» و»جامع»، وأنه لذلك يغني المسلمين عن علم الأخلاق الاجتماعية وعلم الحقوق، فهو مجرّد ادّعاءٍ لم يثبت بدليلٍ.
نعم، إذا اعتبرنا الأصول العملية، من قبيل: أصالتي البراءة والإباحة وما تقتضيه هذه الأصول بوصفها من الأحكام الشرعية أيضاً، فعندها يكون الفقه كاملاً. ولكنْ أوّلاً: هذا النوع من الكمال سوف لا يختصّ بعلم الفقه فقط؛ حيث إن الأنظمة الحقوقية العلمانية الأخرى سوف تتمتَّع بمثل هذا الكمال أيضاً؛ لأن الأصول العملية هي أصولٌ عقلائية معترف بها في جميع الأنظمة الحقوقية، وثانياً: إن البراءة والإباحة في مجال الفقه إنما ترفع «الآثار التكليفية» لمخالفة الحكم الإلزامي «الشرعي» عن كاهل المكلَّف في ظرف الشكّ بالحكم الشرعي. ومقتضى هذه الأصول عندما يتمّ توظيفها في مجال الفقه هو أن المؤمن في ذلك المورد لا يكون مكلَّفاً، ولا تكون لديه وظيفةٌ «شرعية»، ولا يكون مؤاخذاً ولا مسؤولاً «شرعاً». وهذا لا يعني عدم وجود أيّ تكليف أو وظيفة في ذلك المورد أبداً. إن تطبيق هذه الأصول في مجال الفقه لا يرفع الوظائف «العُرْفية» و»الأخلاقية» عن كاهل المؤمنين. ويمكن الجمع بين عدم وجود الحكم «الشرعي» الإلزامي في موردٍ وبين وجود الحكم الإلزامي «العقلي» أو «العُرْفي» في ذلك المورد. وعلى هذا الأساس فإن علم الفقه لا يحلّ محلّ علم الحقوق، ولا يحلّ محل علم الأخلاق. بمعنى أن البراءة والإباحة الفقهية لا ترفع الواجبات والمحرّمات الأخلاقية والحقوقية عن كاهل المؤمنين، ولا يحقّ لأيّ فقيهٍ ـ بل لا يمكنه ـ أن يبيح الواجبات والمحرّمات الحقوقية والأخلاقية؛ وذلك لأن سكوت الشارع أو عدم وجود دليلٍ معتبر على وجود الحكم الشرعي الإلزامي في موردٍ إنما يعني مجرّد إباحة ذلك العمل من الناحية الشرعية، وهذا لا يحمل أيّ دلالةٍ على إباحة ذلك العمل من الناحية العرفية والأخلاقية. وإن الإباحة الشرعية تعني أيضاً سكوت الشارع، وعدم تشريع الحكم الإلزامي من قبله. قد يمكن لأمرٍ أن يكون مباحاً من الناحية الشرعية، إلاّ أنه يكون واجباً أو محرماً من الناحية العُرْفية أو الأخلاقية، كما أن إباحة أمر من الناحية العُرْفية والأخلاقية لا يستلزم إباحته من الناحية الشرعية والفقهية. في ما يتعلق بكمال الفقه انظر: سعيدي، تأمّلاتي پيرامون فقه وكمال آن، كيهان فرهنگي، العدد 1.
لا يخفى أن الدكتور سروش يعمد في موضعٍ آخر إلى نقد هذا الرأي القائل بأن «الفقه يكفي لتنظيم أمور الدنيا»، قائلاً: إن الحكم غير المنهج. وإن المشاكل الاجتماعية لا تنحصر بالمشاكل الحقوقية فقط. ومن ثم أشار إلى الرأي الذي يحلّ الفقه محلّ الأخلاق بوصفه خطأً آخر، وقال: «إن المسألة الجديرة بالاهتمام هي أن بعض الأطبّاء في قطرنا يجهلون دقائق الأخلاق الطبية. يعقدون مؤتمراً يناقش الفقه الطبي، متصوِّرين أنهم من خلال حلّ المسائل الفقهية يستطيعون التغلُّب على المشاكل الأخلاقية أيضاً، وكأنّ الفقه حلاّل المشاكل الأخلاقية. وهذا خطأٌ آخر». انظر: سروش، خدمات وحسنات دين، وذلك في: مدارا ومديريت: 256. وهنا يبدو من الدكتور سروش أنه يلتزم بأن «الفقه الطبّي» لا يحلّ محلّ «الأخلاق الطبية». ولكن يبدو أنه لا يزال معتقداً بإمكان أن يحلّ «الفقه الطبّي» محلّ «الحقوق الطبية». وعلى أيّ حال فإن القول باختلاف الأخلاق الطبية عن الفقه الطبي، وعدم إمكان إحلال الثاني محلّ الأول، يعني أن الفقه ناقصٌ، حتّى من ناحية الأحكام. ولذلك فإنه لا يلبي حاجة المجتمع الإسلامي إلى الأحكام المعيارية بشكلٍ كامل. في حين أنه يصرِّح في الصفحة التالية بإمكانية القول بكمال الفقه من ناحية الأحكام.
وكما أسلفنا، يمكن ويحقّ للشارع أن يوجب أو يحرّم الفعل المباح عُرْفاً وأخلاقاً، وإنْ كان لا يستطيع إباحة ما كان واجباً أو محرّماً من الناحية «الأخلاقية». كما يمكن للشارع أن يبيح ما كان واجباً أو محرماً من الناحية «العُرْفية». (وهذه الادّعاءات بأجمعها من نتائج القول بالتقدُّم الوجودي والميتافيزيقي للأخلاق على الدين). ولكنْ أوّلاً: هذا الامر يحتاج أوّلاً إلى دليلٍ خاصّ، ولا يمكن إثبات مثل هذا الترخيص من خلال أصل البراءة والإباحة، وهذا يعني أن علم الفقه لا يغني المسلمين عن علم الحقوق، ولا عن علم الأخلاق، ولا يمكنه أن يسدّ الفراغ الحاصل؛ بسبب غيابهما. وثانياً: إن الدليل الدالّ على الحكم الشرعي المخالف للعُرْف يجب أن يدلّ على حكمٍ تأسيسي، لا على إمضاء العُرْف السابق. فمن خلال إمضاء الشارع للعُرْف السابق لا يمكن مخالفة الأحكام العُرْفية المتأخرة عن زمن الشارع؛ إذ مع تغيُّر العُرْف يصبح إمضاء الشارع من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع.
([4]) إن الظنّ ـ سواء حصل من طريق العقل أو من طريق النقل ـ لا يسقط عن الحجّية إلاّ عند التعارض مع ظنٍّ أقوى منه. وإن مفاد قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم: 28) لا يعني أن الظنّ ساقطٌ عن الحجّية مطلقاً، وإنما هذه الآية تسقط الحجّية عن الظنّ فيما لو كان الحقُّ واضحاً ولاحباً، وهذا عين العقلانية. فالعقلانية تقول أيضاً: عندما يكون «الوصول إلى الحقيقة» سهلاً ويسيراً لا يحلّ محلّه «التقرُّب من الحقيقة». وأما إذا قلنا بأن هذه الآية تنفي حجية الظن مطلقاً وجب الالتزام بها في نفي الحجّية عن الظنون النقلية أيضاً؛ لأن لسان الآية يأبى التخصيص، وإن عدم حجّية النقل الظني سوف يشمل هذه الآية نفسها أيضاً. ولا يخفى أن العلماء يقسمون الظنون إلى: «ظنون معتبرة»؛ و«ظنون غير معتبرة». ومن وجهة نظر الغالبية العظمى من العلماء الشيعة، وبعض علماء السنّة، لا تثبت الحجّية إلاّ للظنون المستندة إلى «ظاهر الكلام» و«خبر الواحد»، وأما سائر الظنون فهي ساقطةٌ عن الاعتبار، ولا يجوز الاعتماد عليها في مقام استنباط الحكم الشرعي. وإن الظنّ العقلي من وجهة نظر هؤلاء العلماء عبارةٌ عن الظنّ الحاصل من القياس الفقهي (التمثيل المنطقي)، والاستحسان، والمصالح المرسلة. إن هؤلاء العلماء غير مطلعين على الشهود العقلاني وسائر الأساليب العقلية المنتجة للظنّ، والتي تُعَدّ معتبرةً من وجهة نظر العقلاء وفي علم المعرفة الحديث.
([5]) مرادُنا من القطع واليقين هنا هو القطع واليقين المستدلّ، و«المستند» إلى الدليل، و«المتناسب» مع الأدلة والشواهد والقرائن، دون القطع واليقين المعلل والمستند إلى العلة، أو الذي لا يقوم على أساس وقاعدة، أو غير المتناسب مع الأدلة والشواهد والقرائن؛ لأن القطع واليقين المستند إلى الدليل والمتناسب مع الدليل المعتبر من الناحية المعرفية هو وحده الموثوق والمعتبر. وإن مثل هذا القطع واليقين لا يمكن الحصول عليه إلاّ في مجال المنطق والرياضيات؛ إذ إن القرائن والشواهد والأدلة المتوفِّرة في هذا المجال هي وحدها التي تتناسب مع القطع واليقين بالنسبة إلى المدّعى.
([6]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة رقم 222. وقد ورد في كلام بعض أصحاب الشأن: «اقرأ القرآن وكأنّه قد أُوحي إليك». إلاّ أنني لا أستطيع الجزم بما إذا كان هذا الكلام مضمون رواية أم لا.
([7]) إن توقُّف الاستدلال على هذه المقدّمة إنما يكون ضرورياً على قول مَنْ يقول بأن «التفسير» غير «الفهم». وبطبيعة الحال هناك قولٌ آخر يرى الفهم والتفسير أمراً واحداً. وفي هذا الاستدلال هناك شيءٌ من التسامح في التعبير بـ «معرفة الوحي»؛ لأن الوحي من سنخ النصّ (شيء دالّ)، ويقع متعلقاً للفهم، في حين أن المعرفة تتعلَّق بالأشياء التي هي ليست من سنخ النصّ (أشياء غير دالّة). ومراد المؤلِّف هو أن العمل على طبق إرادة الله (مدلول الوحي) يتوقَّف على معرفة هذه الإرادة، ولكي نعرف هذه الإرادة يجب أن نفهم الوحي. أشكر الأستاذ العزيز السيد مصطفى ملكيان على تذكيره إيّاي بهاتين المسألتين.
([8]) قد يدَّعي شخصٌ أن احتمال الخطأ في المعرفة الدينية أقلّ من احتمال الخطأ في المعرفة الأخلاقية؛ لأن المعرفة الدينية من سنخ فهم النصوص والأمور الدالّة، في حين أن المعرفة الأخلاقية من سنخ التعرُّف على الأمور غير الدالّة، وإن احتمال الخطأ في «الفهم» أقلّ من احتمال الخطأ في «المعرفة». إلاّ أن هذا التقرير لا يؤدّي إلى شيءٍ؛ لأن صاحبه لا يستطيع أن يبين لنا الفرق الفارق بين الفهم والمعرفة، والذي يسوّغ ويصحّح مثل هذا الادّعاء. هذا وقد تقدَّم أن فهم النصّ يقوم دائماً على المعرفة، وأن الفهم بلا معرفةٍ مفهومٌ بلا مصداقٍ. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على طرح هذا الإشكال، والإجابة عنه.
([9]) إن المعايير والضوابط المنطقية تشكِّل جزءاً صغيراً من قواعد وقِيَم أخلاق التفكير. في ما يتعلَّق بأخلاق البحث والتفكير انظر: الدين في ميزان الأخلاق، الفصل الثاني، الفقرة 2 / 3 / 2.
([10]) قال الله تعالى في القرآن الكريم:
ـ ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً﴾ (الإسراء: 82).
ـ ﴿لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ (الواقعة: 79).
ومن الجدير ذكره أن للفضائل والرذائل الأخلاقية دَوْراً معرفياً أيضاً.
([11]) إنه لمن المثير للعجب أن الذين يتمسّكون بهذا النوع من الاستدلال لتعطيل العقل في دائرة الأخلاق، ويحلّون النقل محلّه، لا يقومون بالشيء ذاته في دائرة الفلسفة والعلوم التجريبية، في حين أنه من الناحية المعرفية لا يوجد أيّ فرقٍ بين هذين الموردين.
([12]) إن المراد من فلسفة الأخلاق هنا هو المعنى الخاصّ للكلمة، بمعنى خصوص «ما فوق الأخلاق» (metaethics). وإن مفردة (ethics) بالمعنى العام للكلمة في فلسفة الغرب تمثِّل عنواناً لكل «الأخلاق المعرفية»، الشاملة لعلم الأخلاق أيضاً.
([13]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، قصار الحكم، الحكمة رقم 412.
([15]) من الجدير هنا التذكير بأننا لا نخالف الرجوع إلى الوحي والنقل في دائرة الأخلاق، ونرى ذلك عين العقلانية. وإنما الكلام في «طريقة» هذا الرجوع و«كيفية» الاستفادة من الوحي والنقل في هذا المجال. ويقوم الادّعاء على أن الأحكام الفردية والاجتماعية للشريعة إنما يمكن الدفاع عنها إذا لم تنقض القواعد والقِيَم الأخلاقية. فلا الشريعة يمكنها أن تملأ الفراغ الذي تخلِّفه الأخلاق في حياة الناس الفردية والاجتماعية، ولا الوحي والنقل يمكنه أنه يغني الناس عن الرجوع إلى عقلهم العملي.
([18]) إن السؤال القائل: «ما هي العناصر التي يكون الحكم الأخلاقي تابعاً لها»؟ مشابهٌ تماماً للسؤال عن الأوصاف والخصائص التي تعمل على صياغة ما هو «حسن» أو «قبيح» أو «صحيح» أو «خاطئ» على المستوى الأخلاقي. إن هذا السؤال في الحقيقة هو من أهمّ المواضيع ـ وربما هو الموضوع الوحيد ـ التي تدرس في «الأخلاق المعيارية» (normative ethics)، التي هي فرع أو جزء من فلسفة الأخلاق، وإن نظريات الأخلاق المعيارية إنما هي في الحقيقة إجاباتٌ مختلفة عن هذا السؤال. وإن النظرية الصحيحة في هذا الشأن هي النظرية التي تكون أكثر انسجاماً مع الشهود الأخلاقي وما وراء الشهود الأخلاقي، والأقرب أيضاً من المعتقدات المبنائية ذات الصلة. ومن وجهة نظري إن هذه النظرية مزيجٌ من نفعية ومسؤولية (كانْت) ومسؤولية (راسي). وقد ذكرت الشرح التفصيلي لهذه النظرية في كتاب (أخلاق التفكير الأخلاقي). وللمزيد من البحث التفصيلي بشأن الأوصاف والخصائص التي تلعب دوراً في حكم العمل الأخلاقي انظر إلى كتاب:
– Kagan, S. (1997) Normative Ethics (Oxford: Westview).
([19]) هذا إذا كان منشأ استنباط القِيَم الأخلاقية والأحكام الشرعية هو المصالح والمفاسد الغيبية والأخروية، في حين هناك تشكيكٌ جادّ في هاتين الدعويين. فقد تقدَّم الحديث بشأن الاستقلال النسبي للقِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية لنتائج العمل، وخاصّة بالنسبة إلى شخص الفاعل. وأما بشأن تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد الغيبية بشكلٍ مطلق فسوف نتناوله.
([20]) لا يخفى أن الأمثلة التي تذكر للقِيَم القطعية واليقينية الأخلاقية ليست يقينية وقطعية بالمعنى الدقيق للكلمة. فعلى سبيل المثال: لو أن «التكليف بما لا يطاق» و«كفران نعمة المنعم» كان مشتملاً على مصلحة غيبية وأخروية أقوى من مفسدتها، ومن القبح الناشئ من تلك المفسدة، لا تقوم على دليلٍ أبداً. وعليه فإن قبح التكليف بما لا يطاق ووجوب شكر المنعم، وإنْ كان بديهياً، ولكنّه ليس يقينياً.
([21]) يتمّ تعريف العقلانية النظرية بـ «التناسب بين الدليل والمدّعى».
([22]) يأتي الحديث عن «الظن النقلي» هنا من باب المجاراة، وإلاّ فإن العالمين بتاريخ الحديث وكيفية جمعه، ومقدار ما تعرّضت له كتب الحديث من التحريف المتعمّد وغير المتعمّد، يدركون أنه في الكثير من الموارد لا نحصل حتّى من الأحاديث المعتبرة سنداً على ظنٍّ معتبر، فضلاً عن سائر الأحاديث الأخرى. وإن التبرير المعرفي الوحيد الذي يمكن ذكره للاهتمام بمثل هذه الأحاديث هو العلم الإجمالي بصدور بعضها عن النبيّ أو الإمام المعصوم. إلاّ أن هذا العلم الإجمالي لا يقتضي أن نعمل حتّى بالأحاديث التي يخالف مضمونها حكم العقل والعُرْف أيضاً؛ إذ لا يمكن العثور على عاقلٍ يرتضي العمل بمثل هذه الأحاديث انطلاقاً من حكم عقله أو من أجل سيرة العقلاء وبنائهم. وفي فهم ومعرفة سيرة العقلاء في مقام العمل بخبر الواحد لا يمكن لنا العمل بشكلٍ انتزاعي، بل لا بُدَّ من عرض مجموع الأخبار والأحاديث الموجودة، مع تاريخ الحديث ومسار تكوينه وتدوينه وجمعه في الكتب الروائية، على العقلاء؛ لنرى ما إذا كانوا يعملون بمثل هذه الأخبار والأحاديث أم لا؟ وإذا كانوا يعملون بها فكيف يعملون بها؟ وما هي حدود العمل بها؟ لا يمكن العثور على أيّ عاقلٍ يتعارض عنده مضمون رواية أو ظاهر آية مع حكمٍ عقلي يتمتَّع بدعامةٍ أقوى، ودليلٍ أكثر إحكاماً، ومع ذلك يرى الاعتبار والحجّية لمضمون تلك الرواية أو ظاهر تلك الآية. إن سيرة العقلاء في العمل بخبر الواحد وظاهر الكلام ليس مطلقاً، ولا انتزاعياً، وإن العقلاء في معرض العمل بخبر الواحد وظاهر الكلام يأخذون المضمون والظهور بنظر الاعتبار أيضاً، فإذا كان مضمون الخبر أو ظاهر الآية غير منسجم مع الظنّ العقلي الأقوى منه أو المساوي له لا يقبلون العمل بذلك المضمون والظهور. وعلى هذا الأساس في ما يتعلَّق بالعمل بسيرة العقلاء لا يمكن فصل هذه السيرة عن قيود وشرائط الفلسفة وأُطُرها الخاصة. فليس لدى العقلاء سيرةٌ تقضي بدراسة سند رواية بشكلٍ مستقلّ وبمعزل عن الاهتمام بمضمونها، كما أنها لم تقُمْ على العمل بذلك المضمون بعد إحراز اعتبار السند، حتّى إذا كان ذلك المضمون معارضاً للظنون العقلية والتجريبية.
([23]) لا يمكن اعتبار حجّية الظنون العقلية بمعنى حجّية مطلق الظن. وإن مرادنا أن الظنون الخاصة التي تعتبر حجّة من الناحية العقلية والشرعية لا تنحصر بالظنون الحاصلة من أخبار الآحاد وظواهر الكلام فقط، وإنما تشمل بعض الظنون الأخرى، أي الظنون العقلية والتجربية والشهودية أيضاً. وإن علم المعرفة الحديث يبرِّر مثل هذه الظنون؛ حيث ترى المعرفة الحديثة أن الظنّ الحاصل من التجربة والشهود الحسّي والعقلاني يكون في بعض الظروف الخاصة معتبراً، وأن هذا الظنّ ليس من قبيل: الظنّ الحاصل من القياس والاستحسان، وإنما هو أعمّ منه. ومضافاً إلى ذلك فإن المعرفة الحديثة ترى الظنّ الحاصل من القياس والاستحسان في بعض الظروف الخاصة معتبراً أيضاً. فإن الظنّ المعتبر من الناحية المعرفية هو الظنّ المستند إلى الدليل المناسب، أما الظنّ المستند إلى العلة، وكذلك الظنّ المستند إلى الدليل الفاقد للاعتبار والقيمة، فيعتبر مفتقراً إلى القيمة والاعتبار. يضاف إلى ذلك أن شروط اعتبار الظنون النقلية في علم المعرفة الحديث تختلف عن شروط اعتبارها في علم أصول الفقه. وإن هذه الشروط تخضع للبحث والتحقيق تحت عنوان العلم من طريق الشهادة والبيّنة (knowledge by testimony).
([24]) يمكن لنا أن ندّعي أن المتبنّيات الأخلاقية على المستوى المرحلي تستند إلى القواعد والأسس، بمعنى أنها تتمتّع بدرجةٍ من التبرير الابتدائي الحاصل من الشهود والتجربة الأخلاقية والعقلانية. إلا أن هذا التبرير يعتبر تبريراً مرحلياً وآنياً، بمعنى أنه يقبل التعزيز والتضعيف، وإن أساسية المتبنّى بهذا المعنى لا ينفي القابلية على إعادة النظر في ذلك. وعلى هذا الأساس فإننا في سياق العمل على المواءمة بين المتبنيات الأخلاقية والمتبنيات الفقهية قد تقتضي المسؤولية العقلانية والمعرفية منا أن نحلّ التعارض من خلال التصرُّف في المتبنّى الأخلاقي لصالح المتبنّى الفقهي أحياناً. وهذا الأمر بطبيعة الحال مشروطٌ بأن تكون الأدلة المتوفِّرة لصالح ذلك المتبنّى الفقهي أقوى من الأدلة المتوفِّرة لصالح المتبنّى الأخلاقي، بمعنى أننا في هذه الحالة فقط نكون ملزمين من الناحية العقلانية بحلّ التعارض لصالح المتبنّى الفقهي، رغم أننا نرى هذا مجرّد افتراض لا مصداق له على أرض الواقع. إن هذه النظرية تعتبر نوعاً من الأصولية المعرفية المعتدلة التي لا تختلف كثيراً عن التناغمية المعرفية المعتدلة.
([26]) context ofjustification.
([27]) إنه لممّا يستحق التدبّر والتأمّل أن الله يقول في القرآن بشأن الكثير من الأنبياء: إنه قد أعطاهم الحكمة، بالإضافة إلى الكتاب. في حين أنه لو كانت النصوص الدينية تغني الإنسان عن الأخلاق كان تعليم الأنبياء الحكمة من اللَّغْو والعَبَث، وإذا كان الرجوع إلى العقل في مقام تشخيص الوظيفة يؤدّي إلى لَغْوية النصوص الدينية لكان تعليم الأنبياء الحكمة مشتملاً على هذه الخصوصية أيضاً. هذا، وإن القرآن الكريم قد صرّح بأن رسالة نبيّ الإسلام لا تنحصر بتعليم الكتاب، وإنما تشمل تعليم الحكمة أيضاً. والحكمة على قسمين: نظرية؛ وعملية. والحكمة العملية تدلّ على معنيين مختلفين، وفي الوقت نفسه مرتبطين ببعضهما. والحكمة بالمعنى الأوّل فضيلةٌ يتمكّن الفرد من خلالها من إدراك الحسن والقبح والصواب والخطأ وما ينبغي وما لا ينبغي من الأعمال. وأما بالمعنى الثاني فهي عبارةٌ عن القِيَم والمعايير التي تُعَدّ نتيجتها وثمرتها فضيلةً، قال الله في القرآن الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2). ولكنْ لو كان البناء على اشتمال الكتاب على حكم جميع الأشياء لكان الأنبياء والمؤمنون في غنىً عن الحكمة.
([28]) انظر في هذا الشأن إلى كتابنا (الدين في ميزان الأخلاق).
([29]) تنقسم الأبواب الفقهية إلى قسمين، وهما: العبادات؛ والمعاملات. والمراد من المعاملات هنا هي الأحكام غير العبادية، التي تتكفَّل نوعاً ما بتنظيم العلاقات الاجتماعية، وليس خصوص المعاملات التجارية فقط.
([31]) إن القول بتوقيت بعض أحكام الدين ـ مثل القول بخلود بعض الأحكام الدينية الأخرى ـ يُعَدّ من بديهيات وضروريات ومقوّمات خلود الدين. وعليه فإن الذين ينكرون وجود الأحكام المؤقَّتة في الدين إنما ينكرون في الحقيقة ضرورياً من ضروريات الدين. ونحن كما نعلم إجمالاً بإطلاق بعض الأحكام الشرعية، نعلم إجمالاً ببعض الأحكام الشرعية الأخرى المؤقّتة والمقيّدة أيضاً، ولذلك فإن نسبة أصل الاحتياط تجاه كلا طرفي القضية متكافئٌ، ولا يوجد أيّ أصلٍ أوّلي يقتضي حمل الحكم على الدوام والخلود عند الشكّ في خلوده أو توقيته.
([32]) انظر في هذا الشأن: كَدِيوَر: 428 ـ 429؛ أز إسلام تاريخي به إسلام معنوي، سنّت وسكولاريسم: 405 ـ 431، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.
([33]) على سبيل المثال: يقول الشيخ المنتظري في هذا الشأن: «إن الإنسان لم يخلق عَبَثاً؛ لتنـزُّه ساحة الله الحكيم عن ذلك. بل إن الهدف من خلق الإنسان يكمن في حصوله على الفضائل والكمالات واكتساب الدرجات وبلوغ المراتب المعنوية. وإن الوصول إلى هذه الأهداف يفتقر إلى برنامجٍ كامل وأحكام شاملة وقوانين جامعة، تنظِّم حياته وتضمن حقوقه وحرّيته ورخاءه، وتمنحه الطمأنينة والاستقرار، وترشده إلى طريق التكامل والصراط المستقيم، وتعلِّمه أساليب الحصول على الكمالات والوصول إلى السعادة الأبدية. ومثل هذا البرنامج لا يمكن أن تصوغه العقول البشرية الناقصة؛ وذلك أوّلاً: لأن العلوم البشرية ناقصة ومحدودة، ولا يمكن للإنسان أن يلبّي احتياجاته المادية والمعنوية المتنوّعة كما يستطيع صانعه وخالقه تلبيتها، كما أنه لا يعرف سبل الوصول إلى الغاية كما يعرفها خالقه. ولذلك نجد الإنسان في كلّ يوم يأتي بقانونٍ جديد يلغي به القانون الذي صاغه بالأمس. إن المشرِّعين من بني البشر لا يدركون جميع الفضائل والكمالات والاحتياجات المعنوية والحقيقية للإنسان وطرق الحصول على السعادة في الدنيا والآخرة، وغالباً ما يحصرون سعادة الإنسان في تلبية أموره المادية والدنيوية، في حين هناك ارتباطٌ وثيق بين حاجة الإنسان المادية وحياته الدنيوية، وحاجته المعنوية وحياته الأخروية. وثانياً: إن إدراك جهات الخير والشرّ عند البشر غالباً ما تقترن بالأهواء والأطماع والأنانية، وعليه لا يَسَع الإنسان أن يرى مصالح الإنسانية بأجمعها، وفي جميع الأزمنة، دون الإغضاء عن مصالحه الشخصية أو مصالح الحلقة الضيِّقة المحيطة به، ليضع القوانين الجامعة والشاملة على هذا الأساس. فعلى هذا الأساس يجب على الله أن يبعث الرسل لهداية الإنسان، ولا ينبغي بالله الحكيم واللطيف والمحيط الكامل بحاجة مخلوقاته ويعلم الطريق إلى سعادتهم، مع ما له من الرحمة بالإنسان، حتّى كرّمه على جميع مخلوقاته، أن يتركه وشأنه، وأن يترك المجتمع البشري دون مرشدٍ ولا هادٍ من شاكلتهم، يصلحون من جميع الجهات لحمل أعباء رسالة الهداية، ويتمكَّنون من أخذ الحقائق عن الله وإبلاغها إلى البشر، وأن يكونوا وسطاء بين الخالق ومخلوقاته. ومن هنا يأتي احترامنا لجميع الأنبياء، البالغ عددهم أربعمئة وألف نبيّ، سيَّما أولي العزم منهم، وهم: النبي نوح، والنبي إبراهيم، والنبي موسى، والنبي عيسى^، وخاتم الرسل سيّدنا محمد|. ونعتقد بعصمتهم من الذنوب والأخطاء. ولما كان النبيّ محمد| خاتم الأنبياء، ومكمّل الأديان السابقة، ومؤيِّد ما كان حقّاً منها من جهةٍ، وكانت تشريعاته وقوانينه أفضل القوانين والتشريعات وأكملها، فإننا نأخذ التشريعات والقوانين النهائية من دينه». عن رسالة للشيخ المنتظري على شبكة الإنترنت، وإضافة التأكيدات من قبلنا.
إن هذا النوع من الاستدلال إنما يثبت مجرّد «وجوب» الرجوع إلى الشاهد المثالي، ولا تبيّن «كيفية» الرجوع إليه. في حين أن نزاع أتباع الأخلاق الدينية والأخلاق العلمانية ليس في الرجوع إلى الشاهد المثالي وعدم الرجوع له، وإنما يدور النـزاع بينهما حول كيفية هذا الرجوع و«أسلوب» كشف أحكام الشاهد المثالي. إن هذا الدليل لا يقتضى منا إحلال إله الفقه محلّ إله الأخلاق أبداً. وبهذا الدليل لا نستطيع إثبات الدعوى القائلة بأن الظنون المستندة إلى الوحي والنقل تبقى على اعتبارها وحجيتها حتّى عند تعارضها مع الظنون العقلية الأقوى منها. فالواجب على الله ـ لقاعدة اللطف ـ هو هداية الناس. وأما أن تكون هذه الهداية من طريق الوحي والنقل والتعبُّد، وليس من طريق العقل والتفكير والتجربة، ولا من خلال التلفيق بين العقل والتجربة والوحي، فهذا ما لا يمكن إثباته بهذا الدليل. وعليه لو اضطرّ الفرد لإدراك الإرشاد والهداية الإلهية إلى العمل بظنونه ففي هذه الحالة لن يكون هناك فرقٌ بين الظنون العقلية والتجريبية وبين الظنون النقلية أبداً.
هذا، مضافاً إلى أننا نتساءل ونقول أيضاً: أفلا تكون الفتاوى الفقهية نفسها عُرْضةً للتغيير والتحوّل؟ وهل عدم إمكان التغاضي عن المصالح الشخصية خاصٌّ بمقام «الوضع» و«جعل» الحكم فقط؟ وهل يمكن للفرد أن يتغاضى ببساطةٍ عن مصالحه ومصالح الحلقة الضيِّقة المحيطة به في مقام فهم الحكم الشرعي، عندما ينظر إلى مصلحة الإنسانية بأسرها؟ إن لازم هذا الاستدلال أن يكون رواة الحديث والفقهاء ومقلِّدوهم من المعصومين أيضاً، على شاكلة الأنبياء والأئمة أيضاً؛ كي يصل الحكم الواقعي إلى الناس كما هو في اللوح المحفوظ، وأن لا يحصل أيّ خطأ في فهم الحكم الشرعي. من وجهة نظرنا إن هذا الكلام يقوم على فهمٍ خاطئ للعقلانية، كما يقوم على فرضياتٍ خاطئة بشأن مناهج وشروط نجاة الناس وفلاحهم. إن سعادة الإنسان رهنٌ بصدقه وجدّيته في مقام الكشف عن التكليف والعمل به، وليست رَهْناً بنتائج العمل.
([34]) يعمد الدكتور سروش إلى تقسيم القِيَم إلى: قِيَم خادمة؛ وقِيَم مخدومة. ويرى أن القِيَم الخادمة هي القِيَم التي تكون من أجل الحياة، وأما القِيَم المخدومة فهي القِيَم التي تكون الحياة من أجلها. ويمكن القول: إن هذا التقسيم هو تعبيرٌ آخر عن هذا الادّعاء تقريباً. انظر في هذا الشأن: سروش، «خاتميت پيامبر ـ 1»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 161 ـ 179.
([35]) يستفاد هذا الدليل من كلمات الشهيد السيد محمد باقر الصدر في بحث قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. انظر: الصدر، بحوث في علم الأصول، قم، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي.
([36]) للوقوف على النقد التفصيلي لادّعاء النسبية الثقافية في مجال حقوق الإنسان انظر: المقال التوضيحي والممتع «حقوق بشر ومسئله نسبيت گرائي فرهنگي» (حقوق الإنسان ومسألة النسبية الثقافية)، بقلم: د. آرش نراقي، على الرابط التالي:
http: //www. uweb. ucsb. edu/~anaraghi/articles_f. htm
وذلك في: أخلاق حقوق بشر، طهران، نشر نگاه معاصر، 1388هـ.ش.
([37]) في ما يتعلّق بكيفية ارتباط المعرفة الدينية بالمعنى العام للكلمة بسائر الفروع المعرفية انظر: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.
وفي ما يتعلق بالطرق المتنوّعة للجمع بين العقل والوحي انظر: ملكيان، «داده هاي وحياني ويافته هاي إنساني»، وذلك في: راهي به رهائي: جستارهائي در عقلانيت ومعنويت: 35 ـ 52، طهران، نشر نگاه معاصر.
([38]) المراد أن الله لا يستطيع أن يرفع عن كاهل الإنسان مسؤولية ألقَتْها الأخلاق على كاهله، لا أن الله معنيٌّ بأن يصدر حكماً شرعياً متناظراً مع الحكم الأخلاقي. والمسألة هنا أن سكوت الله الشارع في هذه الموارد يعني مجرّد عدم وجود حكمٍ إلزامي شرعي في هذه الموارد، وليس بمعنى عدم وجود الحكم الأخلاقي الملزم. إن أصل البراءة أو قاعدة قبح العقاب بلا بيان إنما تقول: «إن المكلف غير مسؤول تجاه الحكم الإلزامي المجهول له، ولن يكون مؤاخذاً بسببه». وهذا الأصل لا يقول: «إن المكلف غير مسؤول عن الحكم الأخلاقي المعلوم له أيضاً، إلاّ إذا دل الدليل النقلي على وجود حكم إلزامي شرعي في ذلك المورد». وحيث إن وجود الحكم الإلزامي الأخلاقي غير مرتبطٍ بإرادة الله الشارع فإن رفع مثل هذا الحكم لا يمكن أن يكون دائراً مدار إرادته أيضاً. وعليه لا يمكن لنا أن نستنتج من سكوت الله الشارع في هذه الموارد ضرورة أن يكون ذلك العمل مباحاً ومجازاً على المستوى الأخلاقي أيضاً. وإنما النتيجة الوحيدة المعقولة والمقبولة، التي يمكن أن نستنبطها من سكوت الشارع، هي عدم وجود حكمٍ شرعي إلزامي في هذا المورد، أو إذا كان موجوداً لا يكون المكلَّف مسؤولاً تجاهه. إلا أن عدم وجود الحكم الإلزامي الشرعي لا يستلزم عدم وجود الحكم الإلزامي العقلي، وإن أصل البراءة لا يرفع مسؤولية المكلَّف تجاه الحكم الإلزامي العقلي إذا كان موجوداً.
([39]) إن أخلاق التقليد موضوع فصل من فصول كتابٍ آخر لنا، تحت عنوان: (أخلاق دينداري).
([40]) كما ذكرنا فإن حقوق الإنسان تعبِّر عن حقوقه الطبيعية، بمعنى أن هذه الحقوق هي من قبيل: الصفات الطبيعية للأشياء المادية. إن بإمكان الله أن لا يخلق الهيدروجين أو الذهب، ولكنْ لا يمكنه أن يخلق الهيدروجين ويسلب عنه ميله التركيبي بالأوكسيجين، أو أن يخلق الذهب ويسلب عنه عدم ميله التركيبي بالأوكسيجين؛ إذ في هذه الصورة لن يكون الذهب ذهباً، ولا الهيدروجين هو الهيدروجين. أشكر الأستاذ مصطفى ملكيان على طرحه لهذا الاستدلال.
([41]) انظر في هذا الشأن: المنتظري، «در باب تزاحم»، كيان: 45، 150 ـ 151؛ موحّدي ساوجي، «فقه گويا وراهگشا»، كيان: 49، 24 ـ 33.
([42]) بطبيعة الحال فإنه على أساس النتائج العامة والفوائد الخاصة لا يكون هذا الكلام صحيحاً؛ فإن عدم تناغم النـزعة الاستنتاجية والنـزعة المصلحية مع هذا الشهود الأخلاقي من الأمور التي يستثمرها الوظيفيون في نقد الاستنتاجيين. مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على التذكير بهذه المسألة.
([43]) وهذا الادّعاء موافقٌ لمضمون الآية الشريفة: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً…﴾ (المائدة: 32). ولا يُستثنى من هذا الحكم الأخلاقي غير حالة الدفاع عن النفس. فلو هاجم شخصٌ شخصاً بريئاً، وتوقّف دفع المجرم على قتله، جاز قتله من الناحية الأخلاقية. وأما إذا أمكن دفعه بغير القتل كان قتله ممنوعاً من الناحية الأخلاقية. وكما سنرى في الفصول القادمة فإن أصل المقابلة بالمثل يتناغم مع أصل العدالة بوصفها أسّ القِيَم الأخلاقية الاجتماعية في حدِّها الأدنى. وعلى هذا الأساس على الشخص أن لا يتجاوز حدود العدالة، حتّى إذا كان في مقام الدفاع عن النفس. وإن العدوان لا يصلح مسوِّغاً للظلم من الناحية الأخلاقية. قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).
([44]) سوف نشرح جوهر الأخلاق الديمقراطية في كتاب (أخلاق دينداري). وسوف نرى هناك أن الديمقراطية لا تعني مجرّد حكم الأغلبية، أو حكم الشعب من قبل الشعب، وأن مجرّد رأي الأكثرية وإنْ كان يمثِّل الشرط الضروري للديمقراطية، إلاّ أنه لا يحقِّق الديمقراطية.
([45]) ربما كان التعبير الأصحّ أن نقول: إن إزعاج الآخرين من حيث هو هو وفي حدّ ذاته خاطئٌ أو غير صحيح من الناحية الأخلاقية، بل هو غيرُ صحيحٍ إذا لم يكن ضرورياً أو منافياً للعدالة؛ وأما إذا كان ضرورياً وعادلاً فهو صحيحٌ. مع الشكر للأستاذ مصطفى ملكيان على تذكيره بهذه المسألة.
([46]) بغضّ النظر عن عدم وجود حقٍّ للفرد والمجتمع أو النظام أو الأقلية أو الأكثرية في الانزعاج، فحتّى لو كان لهم مثل هذا الحقّ فإن هذا الحقّ لا يستتبع تكليفاً على المجتمع أو الفرد أو الأكثرية أو الأقلية؛ لأن الحقّ لا يستلزم التكليف دائماً. فهل يمكن لأحدنا أن يقول للآخر مثلاً: «إن من حقّي أن أكون محبوباً فيجب عليك أن تحبّني»، أو أن يقول لفتاةٍ: «إن من حقّي أن أتزوّج فيجب عليك أن تقبلي بي زوجاً لك». وأساساً إن استلزام الحقّ للتكليف يتوقَّف على شروطٍ، ولا يمكنه أن يكون حكماً مطلقاً. وفي فلسفة الحقوق الحديثة هناك في الحدّ الأدنى أربعة أنواع من الحقوق، وليس من بينها ما يستلزم التكليف سوى نوعٍ واحد منها فقط. (لمزيد من التوضيح انظر:
– Wenar, L. (2007(, «Rights», The Stanford Encyclopedia of Philosophy, http: // plato. stanford. edu/entries/rights/#1.
مع الشكر الجزيل للأستاذ مصطفى ملكيان على توضيح هذه المسألة.
([47]) انظر في هذا الشأن: سروش، «آزادي چون روشن»، وذلك في: أخلاق خدايان: 69 ـ 91؛ سروش، «أخلاق خدايان»، وذلك في: أخلاق خدايان: 11 ـ 39.
([48]) على الرغم من أن الأصوليين ـ وهم جماعةٌ خاصة من علماء الشيعة ـ يذهبون إلى القول بأن للأحكام الشرعية ملاكات ومعايير عقلية، ولكنهم يدّعون أيضاً بأن هذه الملاكات والمعايير عبارةٌ عن مصالح ومفاسد غيبية ليست بمتناول العقل العُرْفي للبشر، ولذلك لا يمكن لنا أن نكتشف حكم الشرع من طريق الحكم العقلي الأخلاقي.
([49]) سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»: 315، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.