يعتبر وجوب التوجّه إلى القبلة في الصلاة مع الإمكان، من ضروريات الدين، حتى سمي المسلمون: أهل القبلة. وكانت القبلة إحدى الأمور الرئيسية التي تجمع بين المسلمين، وهي الإيمان بالله ورسوله وبالقرآن والصلاة والزكاة والحج والصوم والقبلة… ونحوها.
فما معنى القبلة.
ليست القبلة هي الكعبة المشرفة تماماً، بل هي: جهة الكعبة، مأخوذاً من الاستقبال، يقال، وقف قبالته وقبلته، يعني أمامه وباتجاهه. فالقبلة هي الكعبة الشريفة من هذه الزاوية فقط، وهو الاتجاه إليها في الصلاة وبعض الأمور الأخرى.
على أنهم توسعوا في معنى القبلة، فقالوا: إنها الكعبة لمن كان داخل المسجد الحرام، والمسجد الحرام لمن كان داخل مكة أو داخل الحرم المكي، والحرم المكي لمن كان خارجه، وهو كل الأرض.
وقالوا: إن القبلة هي جهة الكعبة وإن لم يستقبلها المصلي تماماً… وهذا صحيح كما سيأتي. ومع هذه التوسعات، يبتعد معنى القبلة عن الكعبة أكثر، وإن كانت هي أخص مصاديقه.
وعلى أي حال فالاحتمالات في القبلة كما يلي:
الاحتمال الأول: إن القبلة هي الكعبة الشريفة.
وهذا ضروري في الدين، لا يحتاج إلى استدلال، وإن كانت السنة الشريفة ناطقة به. وأما الكتاب الكريم فهو غير واضح به. ولكن يمكن أن يستشعر من بعض آياته.
كقول تعالى: {جعل الله البيت الحرام قياماً للناس} (سورة المائدة/ 97). على أن نفهم من القيام: القيام للصلاة أو ما يعمه ونفهم من البيت الحرام الكعبة كما هو الصحيح. كقوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} (سورة الأنفال/ 35). على أن نفهم على أن هؤلاء المنافقين المشار إليهم في الآية إنما يتبعون السيرة الإسلامية المعتادة بالتوجّه إلى البيت وهو الكعبة، في الصلاة.
الاحتمال الثاني: القبلة هي المسجد الحرام.
وبه نطق الكتاب الكريم. قال تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} (سورة البقرة/ 144). ويقول سبحانه: {ومن حيث خرجت فولّ شطر المسجد الحرام} (سورة البقرة/ 149-150).
وبه نطقت بعض السنة كرواية بشر بن جعفر الجعفي، عن جعفر بن محمد ـ عليهما السَّلام ـ قال: سمعته يقول: البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للناس جميعاً(1).
ومثلها بعض الأخبار الأخرى، وكلها غير نقية سنداً، على أننا يمكن أن نفهم من المسجد الحرام في الآية الشريفة، الكعبة. ولكنه لا يخلو من بُعد.
فقد يقال: إن الكعبة قبلة بالضرورة والمسجد الحرام قبلة بنص القرآن الكريم. وأما الحرم فالدليل كونه قبلة ضعيف.
الاحتمال الثالث: أن القبلة هي الجهة التي تكون بها الكعبة.
روى محمد بن الحسين بسنده عن زرارة عن أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ أنه قال: لا صلاة إلاَّ إلى القبلة. قال: قلت: وأين حد القبلة. قال: ما بين المشرق والمغرب قبلة كله(2).
وحسنة أبي هاشم الجعفري، قال: سألت الرضا ـ عليه السَّلام ـ عن المصلوب (إلى أن قال): وإن كان قفاه إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر. فإن بين المشرق والمغرب قبلة.
وإن كان منكبه الأيمن إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن(3).
إلاَّ أن في هذه الأخيرة بعض النقاش، لأنه يقول: (وإن كان قفاه إلى القبلة) (وإن كان منكبه الأيمن إلى القبلة) إذن فهو يسلّم بالقبلة التي يراها المتشرعة، فيبقى قوله (فإن بين المشرق والمغرب قبلة) محمولاً حال على الضرورة.
وأما الرواية الأولى، فلا يبعد أن تكون تامة سنداً ودلالة. ولكن يبقى النظر في نسبتها إلى الأدلة الأخرى.
الاحتمال الرابع: إن كل الجهات قِبلة.
آخذاً بقوله تعالى: (فأينما تولوا فثم وجه الله). وهذا صحيح.
ألاَّ أنه من المؤكد فقهيّاً، إنه ليس مع العلم والاختيار. وإنما هي قبلة المتحير الذي لا سبيل له إلى معرفة القبلة. ودلّت عليه بعض الأخبار الصحيحة.
منها صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر ـ عليه السَّلام ـ أنه قال: يجزي المتحير أبداً أينما توجّه. إذا لم يعلم أين وجه القبلة(4).
وقوله (أينما) بمنزلة الفاعل ليجزي. وكل الجملة جواب الشرط متقدم لقوله إذ لم يعلم.
وصحيحة زرارة قال: سألت أبا جعفر ـ عليه السَّلام ـ عن قبلة المتحير، قال: يصلي حيث يشاء(5).
وتمحيص المهم من هذه الاحتمالات يتم خلال العناوين الآتية:
القبلة هي الحيّز:
فالقبلة هي حيّز الكعبة، وليس بناؤها القائم، فلو انهدم البناء، لا سمح الله تعالى، لم تنعدم القبلة. وهذا واضح بضرورة الفقه.
ارتفاع القبلة:
للكعبة المشرفة طول وعرض وعمق. أما طولها وعرضها الموازيين للأرض، فلا يجوز الزيادة عليهما من كل جهة مع الصلاة قريباً من الكعبة نسبياً.
وأما عمقها أو ارتفاعها، فلا حدّ له. ومن هنا نقلوا الإجماع والتسالم على أن الكعبة قبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء.
ولا بدّ أن يقصد من تخوم الأرض: الطبقة الأرضية القابلة للسكنى من وجه الأرض… إلى نهاية هذه الطبقة. أما الطبقة الحارة الداخلية، فلا معنى لسكناها، ومن ثم لا معنى لجعل القبلة فيها. ولكن لا يبعد صحة الصلاة هناك مع إمكان النزول إليها بجهاز مثلاً. وعندئذ تكون الكعبة قد وصلت إلى هناك.
ولا بدّ أن يقصد عنان السماء مقدار الجو الطبيعي حول الأرض. بمقدار ما يمكن أن تصعد إليه البيوت والطائرات أيضاً، وكذلك الصلاة فوق الجبال العالية أو في المناطيد أو غيرها.
وأما إذا خرجنا من الجو، كالصلاة في القمر الصناعي الدائر حول الأرض، فمن الصعب أن نقول بارتفاع الكعبة إلى ذلك الحد، لأن العرف لا يهضمه ولا يفهمه. بل لابدّ له من التوجّه إلى بناء الكعبة مع الإمكان.
والدليل على هذا الذي قلناه، هو الإجماع والتسالم بين الفقهاء والمتشرعة أيضاً وعليه السيرة القطعية من زمان الأئمة بدون نكير.
وأما إذا تجاوزنا ذلك، لم نجد في السنة ما يسعفنا فقد وردت روايتان ضعيفتان خاصتان بجانب الارتفاع دون الإشارة إلى جانب الانخفاض (أعني تخوم الأرض)… الأمر الذي يجعل كلا الجانبين بلا دليل.
إحداهما ما عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ـ عليه السَّلام ـ قال: سأله رجل قال: صليت فوق أبي قبيس العصر فهل يجزي ذلك والكعبة تحتي. قال: نعم إنها قبلة من موضعها إلى السماء(6).
نعم، يمكن التمسك بالأدلة الدالة على اعتبار الجهة دون شخص الكعبة، وسنذكر مختصراً لها فيما بعد… على اعتبار أنه كما يمكن التوسّع في الجهة عرضاً كذلك يمكن التوسّع في الجهة طولاً، إلاَّ أن هذا لا يخلو من نقاش.
وأما سيدنا الأستاذ فهو يرى أن الاستقبال يتم بخط مائل وأوضح ما يرد عليه من الإشكالات بعد كونه خلاف الإجماع والسيرة: إن الخط المائل قد لا يُسعف في صدق الاستقبال، كما لو كان المكان قريباً من الكعبة نسبياً وعالياً جداً، بحيث يكون الخط المائل الوهمي شديد الانحدار. فعندئذ لا تكون المقابلة العرفية صادقة قطعاً. حتى لو قلنا بصدق التوسّع في الجهة من جانب الارتفاع مع العلم بصحة الصلاة قطعاً.
وأما لو اعتبرنا ارتفاع الكعبة نفسها، كانت المقابلة متحققة، يعني للجزء المعنوي المرتفع من الكعبة.
القبلة هي الجهة:
وهذا الحكم في الجهة، أعني عدم وجوب مقابلة شخص القبلة، بل مقابلة الجهة التي تكون فيها… هذا الحكم يكاد أن يكون من القطعيات فقهياً ومتشرعياً، وإن خالف فيه بعض الفقهاء ولو من باب الاحتياط.
ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه:
الوجه الأول: السيرة القطعية الخالية عن النكير، بل ما يسندها موجود، كما يأتي في الوجوه الآتية، وخاصة الوجه الأخير منها.
وتتلخص السيرة بعدم التدقيق بالتوجّه إلى القبلة في البلدان المختلفة التي كانت تحت حكم الإسلام في عصر الأئمة المعصومين ـ عليهم السَّلام ـ.
ولم نجد منهم ـ عليهم السَّلام ـ أمراً بالتدقيق، كما لم نجد أمراً بالنهي عن التسامح، ولا في دليل ضعيف واحد. بل وجدنا أدلة تدعم التسامح كما سوف يأتي في الوجه الخامس من جعل الشمس على الحاجب الأيمن والجدي بين المنكبين وغيرها.
وقد كان الأئمة ـ عليهم السَّلام ـ يناقشون أصحابهم في شكل صلاتهم من حيث السرعة وقلة الخشوع ونحوها. ويوجهونهم نحو صلاة متكاملة. ولكنهم لم يناقشوا ولا مرة واحدة عن شكل التوجّه إلى القبلة. إذ لو كانوا قد ناقشوا لوردنا من ذلك، ولو خبر ضعيف لم يرد.
الوجه الثاني: الفهم العرفي الواضح في صدق التوجّه إلى الشيء من بُعد، وإن لم يحصل التوجّه الحقيقي نحوه، فلو أخرجنا خطأ مستقيماً من الفرد إلى الشيء الآخر لم يلتصق به، ولكنه يصدق عرفاً التوجّه إليه.
فالتوجّه إلى القطب الشمالي عرفاً ليس إلاَّ الوجّه إلى جهة الشمال، والتوجّه إلى قبرص من العراق ليس إلاَّ التوجّه إلى الغرب وهكذا.
وهذا يعني، إن التوجّه صادق حتى لو كان الخط المرهوم المشار إليه بعيداً عن الشيء الآخر.
نعم، للعرف أن يدقق أكثر من ذلك، فيختار من جهة الشمال وسطها التقريبي، فيعتقد أنه متوجّه إلى القطب بدقة. فهذه الدقة هي أقصى ما يستطيعه العرف وهو أمر في أي توجّه بعيد.
وكلما قلّت المسافة قلّ التسامح العرفي.
الوجه الثالث: إن اتساع الدائرة الهندسية تقتضي ذلك.فلو جعلنا الشيء ـ كالكعبة ـ في مركز دائرة كبيرة، تشمل الأرض كلها، كان الوجه إلى مركزها أوسع كلما ابتعدنا، يكفي أن نفهم هندسياً بوضوح أن الدرجة الهندسية تتسع بسعة محيط الدائرة، أو بطول قطرها ـ وهما تعبيران عن شيء متشابه بهذا الصدد ـ.
فلو كان قطر الدائرة متراً كانت الدرجة سنتمتراً مثلاً. وأما لو كان قطرها كيلو متراً لكانت الدرجة متراً كاملاً. فكيف لو كانت الدائرة أوسع من ذلك بكثير.
فلو كان مصليين متباعدين مئة كيلو متر مثلاً، لشكل توجههما نحو الكعبة مثلثاً حاد الزاوية، لو كان توجههما دقيقاً نسبياً.
وقد يستشكل: أن هذا الاستدلال ينتج ضد المطلوب، لأنه ينتج وجوب الدقة في الاستقبال إلى مركز الدائرة، وليس التسامح.
وجواب ذلك: أن هذا الإشكال بالدقة وإن كان صحيحاً إلاَّ أننا يمكن أن نفهم من الأدلة الشرعية أن المركز واسع إلى حد الكفاية. وليس المركز كنقطة هندسية صغيرة. ومع اتساع المركز يتسع التوجّه بطبيعة الحال.
على أنه يمكن أن يقال أيضاً: إن اتساع الدرجة بالبعد يعطي فكرة عن اتساع جهة التوجّه بالفهم العرفي.
غير أن هذا الجواب يرجع بنا إلى الحاجة إلى ضم الوجه الثاني، كما أن الفكرة الأسبق منه، ترجع بنا إلى الحاجة الوجه الخامس الآتي. فلا يكون وجهاً مستقلاً.
الوجه الرابع: الروايات الدالة على ما بين المشرق والمغرب كله قبلة، وقد سمعنا نموذجاً منه. إلاَّ أنه يتوقف على تماميتها سنداً ودلالة وهو غير بعيد.
وهي تعين القبلة في وجه واسع جداً، قلما يفتي به الفقهاء، فتكون المقادير الكبيرة من الانحراف عن القبلة، مما يكون محلاً لأغراض الفقهاء عن هذا الدليل، فلا يكون حجة، بهذا المقدار.
ولو تمت أمكن الفهم الموسع منها. فمن كانت قبلته إلى الجنوب التقريبي كفى توجّهه إلى ما بين المشرق والمغرب. ومن كانت قبلته إلى الشرق كفى توجهه إلى ما بين الشمال والجنوب وهكذا.
الوجه الخامس: التمسك بالأدلة الآتية المروية عن المعصومين سلام الله عليهم، في تعيين سمت القبلة للجاهل بها كالاعتماد على الجدي أو على الشمس أو نحو ذلك. مما يعطي دلالة واضحة على التسامح بالمقدار العرفي في التوجّه إلى القبلة. غير أن بعض أسانيد تلك الأدلة قابلة للمناقشة كما سيأتي.
وبعد أن عرفنا الاكتفاء من القبلة بالتوجّه إلى الجهة لا إلى شخص الكعبة، كما عرفنا أنه لا يمكن أن يكون ما بين المشرق والمغرب كله قبلة، فماذا يبقى في اليد من ذلك. أو قلّ ما تكون نتيجة هذه الأدلة الخمسة.
وينبغي الالتفات أولاً أننا ينبغي أن نحسب حساب الاتجاه الدقيق نسبياً للكعبة، ثم ننظر أن الوجوه السابقة كم تقتضي من التسامح فيها.
والوجوه التي قيلت في ذلك متعددة.
الوجه الأول: وهو المشهور على ألسِنة الفقهاء، وخاصة المتأخرين منهم. إن الفرد يستطيع أن يتيامن أو يتياسر بمقدار شبر عن القبلة الدقيقة في محل سجوده.
وهذا لا شك داخل تحت الأدلة السابقة ومشمول لحجية استقبال القبلة، وإنما يبقى السؤال عما هو الأكثر منه.
الوجه الثاني: أنه لا يضر الانحراف بمقدار ثلاثين درجة.
قال عنه في المستمسك، وقد ذكر بعض مشايخنا… أن قوس الاستقبال من دائرة الأفق نسبته إليها نسبة قوس الجبهة إلى مجموع دائرة الرأس. ولما كان الغالب أن قوس الجبهة خمس من دائرة الرأس تقريباً، فقوس الاستقبال من دائرة الأفق خمس تقريباً الذي يبلغ اثنين وسبعين درجة. وعليه فلا يضر الانحراف ثلاثين درجة تقريباً.
وعلّق عليه في المستمسك: ما ذكره مما لا يشهد به عرف ولا لغة، ولا تساعده كلماتهم. فاستظهاره من الأدلة غير ظاهر الوجه.
أقول وهذه مناقشة للأصل الموضوعي، وهو أن نسبة دائرة الأفق كنسبة دائرة الرأس. وهناك أمور أخرى قابلة للمناقشة. فلو حصلنا على خمس دائرة الأفق (72) درجة، فكيف حصلنا على الثلاثين درجة، وهي ليست خمس ذلك الرقم ولا نصفه، وليس له إليه نسبة ذات نتيجة محددة فقهيّاً.
وعلى أنه لو أراد إمكان الانحراف عن القبلة من كلا الجهتين ثلاثين درجة، فيكون مجموع القبلة ستين درجة، فهذا كثير جداً ومخالف للاحتياط جداً. نعم لو كان مراده هو أن مجموع التسامح من كلا الجهتين ثلاثين لكان قريباً من الفهم العرفي، ومن الممكن الموافقة عليه. إلاَّ أن ظاهر كلامه هو الأول.
الوجه الثالث: ما نقل عن المقداد السيوري قده. أنه قال أن القبلة: أنها خط مستقيم يخرج من المشرق والمغرب الاعتداليين ويمر بسطح الكعبة. فالمصلي يفرض من نظره خطاً يخرج إلى ذلك الخط. فإن وقع على زاوية قائمة فذلك هو الاستقبال.
وأن كان على زاوية حادة أو منفرجة فهو إلى ما بين المشرق والمغرب.
وهذا الكلام قائم على افتراض أن نقطة المشرق والمغرب الاعتداليين محددة في الواقع تماماً ودقيقة. وهذا قد يكون له نوع من الصحة لأنه هو الوسط ما بين المدارين. إلاَّ أنه عندئذ يمر الخط المفتوح بخط الاستواء لا بسطح الكعبة المشرفة، لأن وسط المدارين هو خط الاستواء نفسه.
وعلى أي حال، فالافتراض الآخر، وهو تعامد خط القبلة على الخط الأول بزاوية قائمة. إنما يصح فيمن كانت قبلته إلى الشمال أو الجنوب تماماً. ولا يصح في غير بلاد الله على الإطلاق كما هو واضح.
الوجه الرابع: إن المفترض أن المصلي في مركز دائرة، وهو متجه إلى الكعبة تماماً. وكلما اتسعت الدرجة في البعد كان ذلك استقبالاً معتبراً مشروعاً.
قال في المستمسك في شرحه، والظاهر أنه مختاره: ومعيار الاستقبال على النحو المذكور أن ينظر المصلي إلى قوس من دائرة الأفق يكون بحسب نظره ـ بعد التأمل والتدقيق ـ مستقبلاً لجميع أجزائه. ثم يفرض خطين يخرجان من جانبيه إلى طرفي القوس. فكل ما يكون في هذا الانفراج فهو مستقبل ـ بالفتح ـ ولما كان هذا الانفراج يضيق من جانب المصلي ويتسع من جانب القوس فكلما يكون المستقبل ـ بالفتح ـ من جانب المصلي أقرب تكون المحاذات أضيق، وكلما كان أبعد كانت المحاذات أوسع.
وهذا الوجه وإن كان ينتج اتساع الجهة باتساع الدائرة… إلاَّ أنه لا ينتج اتساع جهة الاستقبال. فلو فرضنا أن المصلي انحرف في صلاته ولو قليلاً عن جهة (التأمل والتدقيق) على حد تعبيره. لضاع هذا الوجه كله، وأصبحت جهة محاذاته شيئاً آخر غير الكعبة. مع أنه لا تأمل في صحة صلاته عندئذ.
الوجه الخامس: إنه لا تحديد لجهة القبلة بالضبط، بل هو موكول إلى العرف وسيرة المتشرعة كما عرفنا مما سبق.. كذلك لا تحديد لمقدار الانحراف. بل إن مقدار الانحراف عن الكعبة الدقيقة لو صحّ التعبير، إنما هو بمقدار ما يوافق عليه العرف والمتشرعة. وهو أمر تقريبي وليس دقيقاً طبعاً.
والمهم أن يوافق العرف والمتشرعة، أن هذا الفرد متوجه إلى القبلة إجمالاً. وهذا يكفي. وهذا لا يحتاج إلى سؤال أحد، بل يكفي أن يجده الإنسان في وجدانه بصفته أحد أفراد العرف وأحد أفراد المتشرعة.
ولعل التحديد بالانحراف بمقدار شبر من كلا الجانبين. تعبير آخر عن ذلك. وإن كان احتمال إمكان الزيادة قائم فعلاً، إلاَّ أنها كلما زادت كانت أكبر في مخالفة الاحتياط. مع التعمد طبعاً لا مع الجهل والنسيان. فإن ذلك له حكمه. وهذا الوجه الخامس هو الصحيح.
وهذا الوجه ينتج أيضاً اتساع جهة المحاذات بالبعد، لكن بمقدار ما يوافق العرف والمتشرعة على صدق الاستقبال.
كما أن هذا الوجه صادق على كل مناطق العالم، كما هو واضح لمن يفكر. لا يستثني منه إلاَّ المنطقة المقابلة للكعبة تماماً أو عرفاً من الجانب الآخر للكرة الأرضية، والتي نتحدث عنها في عنوان مستقل.
القبلة في الجهة المقابلة:
قالوا: إن المصلي لو كان في الجهة المقابلة في الكرة الأرضية للكعبة المشرفة تقريباً. فإن كان يعلم أن أحد الخطين أو الخطوط أقصر، وجب عليه التوجّه به والصلاة على طبقه.
وأما إذا علم أنه بالجهة المقابلة تماماً، بحيث تكون الخطوط من حوله والتي تصل إلى الكعبة بطول واحد، كان مخيراً في أن يصلي إلى أي جهة شاء، فإنه يكون على أي حال مستقبلاً للقبلة.
وهذا الكلام كله صحيح تماماً، مع مراعات الفهم العرفي. يعني ـ مثلاً ـ، لو كان المصلي في الجهة المقابلة للكعبة بالفهم العرفي، وكانت الخطوط كلها بطول واحد بالفهم العرفي لا بقياس الأمتار. أمكن له أن يتوجه إلى أي جهة شاء.
القبلة في الكعبة المشرفة:
ونعني به الصلاة داخل الكعبة أو فوق سطحها. والفكرة نظرياً فيهما واحدة. وهي أن يضع المصلي قسماً من حيّز الكعبة أمامه ويصلي. أما إذا خالف ذلك بمعنى أنه سجد في نهاية حيّز الكعبة، فسوف يستقبل الفضاء الخارجي ولن يكون مستقبلاً للكعبة، أو لأي جزء من أجزائها.
وكلا هذين مشتركان أيضاً في فكرة أخرى، وهي الاكتفاء بقسم من حيّز الكعبة، ولا ضرورة إلى التوجّه إلى جميعها. ولو التفتنا فإن المصلين جميعاً كأفراد يستحيل أن يتوجهوا إلى كل الكعبة بل إلى جزء من حيّزها طبعاً. فكفاية ذلك ينبغي أن يكون مسلماً فقيهاً، مع التسليم واليقين بصحة الصلاة في الكعبة المشرفة.
ولكن يبقى هناك فرقان بين الصلاة في الداخل والصلاة على السطح:
الفرق الأول: إن الصلاة في الداخل يكون لا محالة متوجهة إلى جدار من جدران الكعبة، وهي تمثل بعض حيّزها طبعاً. في حين أن سطحها بلا جدران فقد يفكر المصلي أن يسجد في نهاية السطح بحيث يستقبل الفضاء كما قلنا، فتفسد الصلاة. ولكن هذا الاحتمال غير وارد في داخل الكعبة إلاَّ من جهة الباب.
الفرق الثاني: أنه من المسلم فقهيّاً أن المصلي يصلي قائماً في داخل الكعبة. وأما من يصلي على السطح، فالصحيح أنه يصلي قائماً كذلك. ولكن هناك قول بأنه يصلي مستلقياً ووجه إلى السماء، بالإيماء للركوع والسجود.
وقد وردت في ذلك رواية عن عبد السلام بن صالح من الرضا ـ عليه السَّلام ـ في الذي تدركه الصلاة، وهو فوق الكعبة. قال: إن قام لم يكن له قبلة. ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه إلى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور. ويقرأ. فإذا أراد أن يركع غمض عينيه، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه، والسجود على نحو ذلك(7).
ولو كانت معتبرة سنداً لوجب الأخذ بها، بغض النظر عن المناقشات في مضمونها، فإنها تكون أخص من أدلة الأجزاء والشرائط. وأما مواجهة البيت المعمور، فنوكل علمه إلى أهله. ولكنها غير معتبرة سنداً.
وقوله: إن قام لم يكن له قبلة، مبني على أنه يسجد مواجهاً للفضاء أو عدم الاكتفاء بجزء من حيّز الكعبة(8). غير أننا قلنا أن الاكتفاء بجزء من الحيّز قطعي وشامل لكل المصلين.
علامات القبلة:
والمهم فيها فقهياً تحصيل الاطمئنان بالتوجّه إلى الجهة العرفية للقبلة. وإلاَّ فإن الأدلة الدالة على ذلك في السنة الشريفة غير معتبرة. إلاَّ أن الاطمئنان حجة معتبرة.
والعلامات عديدة:
العلامة الأولى: الجدي.
الجدي هو النجم الثابت فوق القطب الشمالي الجغرافي. وقد وردت في استعماله كعلامة على القبلة عدة روايات.
منها: ما عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمد ـ عليه السَّلام ـ عن آبائه ـ عليهم السَّلام ـ قال: قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وآله ـ: وبالنجم هو يهتدون. قال: الجدي. لأنه نجم لا يزول وعليه بناء القبلة ، وبه
يهتدي أهل البر والبحر(9).
وعن محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهما السَّلام ـ: قال سألته عن القبلة، فقال: ضع الجدي في قفاك وصله(10).
وروى محمد بن علي بن الحسين قال: قال رجل للصادق ـ عليه السَّلام ـ: أني أكون في السفر ولا أهتدي إلى القبلة في الليل. فقال: أتعرف الكوكب الذي يقال له جدي. قلت: نعم. قال: أجعله على يمينك. وإذا كنت في طريق الحج، فاجعله بين كتفيك(11).
ولو تمت هذه الأخبار سنداً لأعطتنا سعة في الفهم:
أولاً: إنه لا خصوصية للجدي، وإنما يستعمل (لأنه نجم لا يزول) إذن، فكل شيء ثابت من نجم أو غيره يمكن استعماله في التوجّه إلى القبلة.
ثانياً: إن استعمال الجدي ـ أو غيره ـ ليس على شكل واحد. بل بالمقدار الذي تعلم بوجود القبلة إجمالاً. فيكون استعماله تحديداً أكثر نسبياً، فمرة في القفا ومرة يميناً وهكذا.
ثالثاً: إن العلامة وكذلك ما يأتي من غيرها تدل ـ كما قلنا فيما سبق ـ على الاكتفاء بالجهة وجواز ترك الدقة في التوجّه إلى القبلة.
رابعاً: إنه في المورد الذي لا نعلم جهة القبلة أصلاً لا يمكن استعمال هذه العلامات. كما لو كان الفرد لا يعلم أنه في أي منطقة من مناطق الأرض هو الآن. وإن كان هذا الفرض بعيداً جداً.
وقد يخطر في البال: إن الجدي يعني الشمال، كما أن الشرق والغرب يعينان جهتيهما. فقد يمكن استعمال الجهات لمعرفة القبلة.
وجوابه: إن هذا متوقف على المعرفة الإجمالية للقبلة، وإنها إلى جهة الجنوب مثلاً. فلو كانت القبلة ضائعة على الفرد تماماً… لم تفد حتى معرفة الجهات.
ولكن حيث أن هذه الأخبار غير تامة سنداً، فالمهم هو تحصيل الاطمئنان بالتوجّه العرفي والمتشرعي للقبلة. وإن كان يمكن أن يقال: إنها أعني الأخبار أقرب إلى الاعتبار لأنها متعددة أولاً، ومعمول عليها من قبل المشهور ثانياً.
إلاَّ، أن هذا ليس له أثر عملي، لأن استعمال هذه العلامات ستكون حجة في القبلة للاطمئنان، ولو بدون هذه الأخبار. وافتراض حجيتها بما دون الاطمئنان ليس عملياً، لأن هذه العلامات منتجة للاطمئنان لا محالة.
وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أن العلم بجهة القبلة إجمالاً ضروري في استعمال هذه العلامات. فالفرد قد يعلم أن القبلة في الجنوب أو في الشمال أو في الشرق أو في الغرب. ولا حاجة إلى أوضح من هذا العلم، كالعلم بأنها في الجنوب الغربي مثلاً. وإن كان لو علم الفرد ذلك، لكانت الدقة في الاستقبال أكثر، مع استعماله للعلامة.
فهنا ـ على أي حال أربع صورـ:
الصورة الأولى: أن يعلم أن القبلة في الجنوب إجمالاً. فيضع الجدي وراء ظهره أو بين كتفيه كما جاء في الخبر.
الصورة الثانية: أن يعلم أنها في الشمال إجمالاً، فيضع هذا النجم أمامه.
الصورة الثالثة: أن يعلم أنها في الشرق فيجعله على يساره.
الصورة الرابعة: أن يعلم أنها في الغرب، فيجعله على يمينه.
وأما التدقيق أكثر من ذلك، فكما يلي:
أولاً: إن هذه الأخبار كالصريحة بعدم الحاجة إليه. إذ لو كان التدقيق لازماً لقيل بوجوب جعل الجدي من الجهة اليمنى من ظهره مثلاً. وهكذا.
ثانياً: إنه لا دليل أساساً، كما عرفنا على وجوب التوجّه أكثر من هذا المقدار.
ثالثاً: أن هذا الذي يستعمل هذه العلامات، له درجة من الجهل بالقبلة، فإذا استعملها بقي جاهلاً بالتدقيق طبعاً. فيكون معذوراً. وسيأتي أن قبلة الجاهل ما بين الشرق والغرب. فتصح صلاته على أب حال.
العلامة الثانية: استعمال الشرق والغرب أو أحدهما، نهاراً. كما كان استعمال الجدي ليلاً.
ومع رؤية الشمس لا يحتاج الالتفات إلى تعيين الشرق والغرب إلى تفكير زائد. إلاَّ إذا كانت في وسط النهار، فيحتاج إلى شيء من الانتظار ليعرف أنها تتجه إلى أي جهة لتكون هي جهة الغرب.
ومع معرفة الشرق أو الغرب. يمكن فرض تعيين القبلة، كما في الصور الأربعة التالية.
الصورة الأولى: أن يعلم أن القبلة في الجنوب إجمالاً. فيضع الشرق على يساره أو الغرب على يمينه.
الصورة الثانية: أن يعلم أنها في الشمال إجمالاً، فيضع الشرق على يمينه أو الغرب على يساره.
الصورة الثالثة: أن يعلم أنها في الشرق فيتوجّه إليه، أو بتعبير آخر يجعل الغرب خلفه.
الصورة الرابعة: أنها في الغرب إجمالاً، فيتوجّه إليه ويجعل الشرق خلفه.
العلامة الثالثة: استعمال الشمس، وهي في وسط السماء. والمهم أن تكون عند الزوال، ولا يهم أن يكون قبل ذلك أو بعده بربع ساعة أو نحوها. فإنه مما لا يضر بالتعيين عرفاً.
وهذه العلامة فيها نقطة قوة ونقطة ضعف عن سوابقها.
نقطة القوة: إنها أدق تعييناً، كما سنرى، إذ لم يصدف في تلك العلامات أنها عينت القبلة في مثل الجنوبي الغربي مثلاً. ولكن هذه العلامة قادرة على ذلك، كما سنرى.
ونقطة الضعف: إنها لا تشمل كل العالم، ولا تشمل كل الجهات. بل تختص بما إذا علم الفرد أن القبلة في الشمال أو علم أنها في الجنوب. وأما لو احتمل وجودها في الشرق أو في الغرب فلا تصلح دلالتها على ذلك.
وعلى أي حال فهذه العلامة لها ست صور:
الصورة الأولى: إذا علم الفرد نفسه في الشمال الشرقي من مكة المكرمة، بمعنى واسع، كالعراق مثلاً، فإنه يجعل الشمس فوق حاجبه الأيمن.
الصورة الثانية: إذا علم أنه في الشمال الغربي من مكة المكرمة، كقبرص، فإنه يجعل الشمس فوق حاجبه الأيسر.
الصورة الثالثة: إذا علم أنه في شمال مكة المكرمة تماماً، أعني بالفهم العرفي، فإنه يجعل الشمس فوق أنفه بين حاجبيه.
فهذه ثلاث صور مذكورة في كلمات بعض الفقهاء. والصور الثلاثة الأخرى عكسها:
الصورة الرابعة: ما إذا علم الفرد نفسه في الجنوب الغربي من مكة المكرمة كالسودان، فإنه يجعل الشمس من الجهة اليسرى من ظهره.
الصورة الخامسة: إذ علم أنه في الجنوب الشرقي كحضرموت فإنه يجعل الشمس من الجهة اليمنى من ظهره.
الصورة السادسة: إذا علم أنها في الشمال تماماً، وأنه في جنوب مكة تماماً كصنعاء، فإنه يجعل الشمس وسط ظهره.
إلاَّ أن هذا يتوقف على محل وجود الشمس على مدار السنة. فإن كانت صاعدة إلى مدار السرطان، كانت الصور الثلاثة الأخيرة لاغية ولا معنى لها. لأن الشمس عندئذ تكون قرب مكة نسبياً، فلابدّ في كل المناطق السابقة من استقبالها أعني الشمس بالوجه بأحد الصور الثلاثة الأولى.
وإن كانت الشمس نازلة إلى مدار الجدي، كانت الصور كلها صادقة. إلاَّ اللذين هم على جنوب هذا المدار، فتكون الصورة الأولى فقط صحيحة عليهم.
نعم، في البلدان التي بين المدارين، في الأيام التي تتعامد عليهم الشمس، في أي يوم من أيام السنة، فمن الصعب تطبيق هذه العلامة بصورها الستة. ولكن يهون الخطب أنه يمكن تطبيقها، بعد خروج هذا اليوم بحوالي أسبوع، ثم العمل على نتيجة ذلك.
ولكن ينتج من ذلك أن الفرد لو علم نفسه في تلك المناطق، وشك في تعامد الشمس، لم تكن هذه الحجة علامة فيه، لأن يكون من قبيل الشبهة المصداقية لهذا الشرط.
العلامة الرابعة: للقبلة:
الاعتماد على وجود الشمس فوق مكة المكرمة عندما ينعدم الظل فيها. فإنها تقع جنوب مدار السرطان بعدة كيلو مترات، فتمر الشمس عليها في طريقها إلى المدار وعند نزولها عنه. فينعدم الظل فيها مرتين في السنة، لكن المرتين متقاربتان نسبياً.
فإذا علم المكلف من بعض المصادر الموثوقة ذلك اليوم المعين، أياً من اليومين كان، أمكن له أن يتوجّه إلى قرص الشمس نفسه ويصلي فإنه متوجه إلى القبلة.
وهنا ينبغي أن نلاحظ أن مكة المكرمة يجب أن تكون عند نصف النهار. وأما المناطق الأخرى فيمكن أن تكون في أوقات مختلفة وإن لم تكن في أوقات الصلاة بالتعيين، ولو كانت الشمس عندهم في الأفق أو تحت بقليل شرقاً أو غرباً. نعم في المناطق التي يسودها الليل لا يمكن تطبيق هذه العلامة.
ويمكن أن نلتفت أنا إذا أردنا الدقة لزمنا أن نتوخى الزوال من يوم التعامد. وأما إذا أردنا التوجّه العرفي أمكنت نفس العلامة قبل ذلك بيوم أو يومين وكذلك بعده. فهذه العلامات الأربعة، تستغل فيها الظواهر الطبيعية للاستدلال على القبلة.
وإذا مشينا على غرارها أمكن استغلال بعض الظواهر الأخرى كالفجر الذي لا يكون إلاَّ في الشرق وهلال أول الشهر وكذلك نجمة الغرب اللذين لا يكونان إلاَّ في الغرب ونجم سهيل والعيوق والثريّا وغيرها إن عرفناها.
وهناك علامات ليست من الظواهر الطبيعية، منها ما يعود إلى اقتناع الناس في بلد معين بالقبلة كتوجيه القبور أو المساجد أو جماعة المصلين ونحوها.
وهناك دلالات ترجع إلى الحجية الشرعية، كأخبار ذي اليد والبينة والواحد الثقة. وكل ذلك موكول بحثه إلى الفقه نفسه.
يبقى هناك دلالتان تعينان الجهة ولا يمكن أن تعينا الاتجاه الحقيقي للكعبة. ولكن الجهة، كما عرفنا، كافية على أي حال.
أحدهما: استعمال البوصلة الاعتيادية والتوجّه باتجاه المؤشر الشمالي أو الجنوبي، حسب القناعة بوجود القبلة شمالاً أو جنوباً.
وكذلك فيما إذا كانت شرقاً أو غرباً. فإنه يمكن أن يتجه بخط متعامد مع مؤشر البوصلة بزاوية قائمة تقريباً.
ثانيهما: استعمال الخريطة في الأطلس الاعتيادي. فإن صدقها مطمأن به. كل ما في الأمر أنه يحتاج الفرد إلى بوصلة لكي يعين بها الجنوب الصحيح، فيجعل جنوب الخريطة إلى جنوب البلد. ثم يمد خيطاً وهمياً أو حقيقياً أو مسطرة أو نحوها من البلد باتجاه مكة المكرمة. فلذلك يكون القبلة.
والإشكال فيه أنه ليس دقيقاً بل تقريبياً، لأن خطوط الطول المنحنية لا تشكل زاوية مشابهة للخطوط العمودية. إلاَّ أن هذا التقريب وعدم الدقة مسموح بها في معرفة القبلة كما عرفنا.
القبلة في الفضاء:
الفضاء متدرج في البعد عن الأرض.
أما في الجو القريب من الأرض، فيكون التوجّه إلى الكعبة نفسها بعنوان وجودها المعنوي أو الوهمي الممتد إلى عنان السماء وقد قلنا بصحة ذلك فيما سبق.
وأما خارج الجو بقليل، كالأقمار الصناعية الدائرة حول الأرض، فإن أمكن تعيين القبلة بالشكل الاعتيادي فيتعين وجوبه. وأما السؤال عن حركة الأقمار الصناعية فكيف التركيز على القبلة، فهذا تابع لمسألة عامة ترجع إلى الصلاة في أي واسطة نقل كالسفينة والسيارة والطائرة وغيرها. وهو أمر مبحوث في الفقه وليس هنا محله. غير أنهم قالوا: أنه يدور إلى القبلة مهما دارت راحلته أو واسطة نقله.
فإن لم يمكن التوجّه إلى الكعبة، وكذلك في أي منطقة بعيدة لا يمكن فيها ذلك. فالقبلة هي الكرة الأرضية نفسها. لوجود الكعبة فيها بوجودها المادي أو امتدادها المعنوي. والتوجّه إلى الأرض توجّه إلى الكعبة في الجملة بلا إشكال. وخاصة مع اتساع الجهة مع هذا المقدار من البعد(12).
وكذلك لو كان الفرد يبعد بحيث يرى الأرض نجمة في السماء، كما لو كان يصلي على القمر أو أحد الكواكب الشمسية. فإنه يتوجه إلى الأرض بلا إشكال.
وإنما الإشكال فيما إذا غابت الأرض. كما يغيب القمر أحياناً هنا، أو كان الفرد في بُعد سحيق بحيث لا يرى الأرض أصلاً.
فعندئذ يكون مشمولاً لقوله تعالى: (فأينما توّلّوا فثم وجه الله). وأينما توجّه كان ذلك مجزياً.
نعم في الصورة الأخيرة، وهو ما إذا لم يكن يرى الأرض ولكنه كان يرى الشمس. فالأحوط التوجّه إلى الشمس. لأنه ـ من الناحية الفقهية ـ: إن التوجّه إليها توجّه إلى الأرض والتوجّه إليها إلى الكعبة. وبتعبير آخر:
يتعرف الفرد على محل وجود الكعبة، بتعرّفه على محل وجود الشمس. وهذا غاية ما يستطيعه هناك. ويصدق التوجّه بلا إشكال مع اتساع الجهة.
ولو كان في مجرة أخرى أمكن القول بأن الأحوط أن يتوجّه في صلاته إلى مجرتنا بصفتها تحتوي على الكعبة المشرفة. فيكون التوجّه إليها توجّها إليها بالاتساع.
نعم، لو تعذر كل ذلك، كان مشمولاً للآية الكريمة التي سمعناها، والتي فهموا منا إمكان التوجّه إلى أي جهة مع تعذّر القبلة.
قبلة المتحير:
إذا لم يعرف الفرد القبلة ولم يكن له ظن بجهة معينة، ولو جهة واسعة. فهنا وجهان لتكليفه.
الوجه الأول: وهو المشهور أنه يصلي إلى أربع جهات، يكرر صلاته أربع مرات، مع سعة الوقت فإن لم يسع اكتفى بصلاة واحدة حيث شاء.
وجوابه من عدة جهات:
الجهة الأولى: إن القاعدة الأولية تقتض الاكتفاء بثلاث صلوات، لا أربع، لتسالمهم بأن صلاة الجاهل مجزية إذا كانت بين اليسار واليمين عن القبلة الواقعية. بل ذهب بعضهم أنها مجزية ما لم يستدير.
ومن الواضح أنه إذا صلّى إلى ثلاث جهات. فقد صلّى بعضها إلى القبلة أو ما لا يبتعد عنها إلى اليمين أو الشمال قطعاً. إذ من اليمين إلى الشمال 180 درجة، في حين تكون الصلاة إلى ثلاث جهات، تقع واحدة منها في بُعد 120 درجة، أو أقل: بل بالتأكيد أقل لأن غاية البُعد المتصور، هو أن تقع الكعبة في الواقع ما بين جهتين من صلاته. ومعناه أن إحداها تبتعد عن القبلة 60 درجة فقط. فلماذا ـ بعد كل ذلك ـ يجب أن يصلي
إلى أربع جهات. ما لم يدل دليل تعبدي على ذلك. وهو غير متوفر على ما سنسمع. بل الدليل بخلافه على ما سنرى.
الجهة الثانية: إن الإجماع على ذلك غير متوفر، وإنما هي مجرد شهرة. ولو كان متحققاً فهو ليس إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم ـ عليه السَّلام ـ لأن اعتماد الفقهاء كلياً على الروايات. ولا أقل من احتماله.
فيسقط الإجمال عن الحجية.
الجهة الثالثة: إن الروايات الواردة في ذلك غير تامة سنداً. منها: مرسلة محمد بن على بن الحسين قال: روى فيمن لا يهتدي إلى القبلة في مفازة أنه يصلى أربعة جوانب(13). وعن محمد بن يعقوب: وروى أيضاً أنه
يصلي إلى أربع جهات(14).
فهذه روايات مراسيل وبإزائها الروايات الصحيحة التي ستسمعها في الوجه الثاني.
الوجه الثاني: أنه يصلي حيث يشاء. ورد في ذلك خبران صحيحان أحدهما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر أنه قال: يجزي المتحير أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القبلة(15).
ثانيهما عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قبلة المتحير. فقال: يصلي حيث شاء(16).
وقوله: حيث شاء يعني في الاتجاه لا مجرد المكان كما هو واضح، لأنه هو الوجه العرفي في تطبيق الجواب على السؤال الذي كان عن اتجاه المصلي إلى القبلة.
وعليه فالصحيح هو هذا الوجه الثاني. وإن كان الوجه الأول أوفق بالاحتياط، ولكنه ـ على أي حال ـ احتياط استحبابي.
هذا ولكن ينبغي أن يصدق عليه أنه متحير في القبلة حقيقة، وليس له ظن أو طريق إلى تحصيل الظن بأي جهة كانت، وإلاَّ لزم العمل بالظن.
الهوامش:
(1) الوسائل ج3. أبواب القبلة. باب: 3. حديث: 2.
(2) المصدر: باب: 2. حديث: 9. وأنظر: باب: 9. حديث: 2.
(3) المصدر: أبواب صلاة الجنازة. باب: 35. حديث: 1.
(4) المصدر: أبواب القبلة. باب: 8. حديث: 2.
(5) المصدر: حديث: 3.
(6) الوسائل ج2. أبواب القبلة. باب: 18. حديث: 1.
(7) الوسائل ج2. أبواب القبلة. باب: 19. حديث: 3.
(8) قد يستثني من ذلك جانب الشاذروان من الكعبة المشرفة. فإنه لا يبعد أن يكون قبلة أيضاً فتصح صلاته. نعم لا يبعد الاحتياط الاستحبابي بتركه.
(9) المصدر: باب: 5. حديث: 3.
(10) المصدر: حديث: 1.
(11) المصدر: حديث: 2.
(12) وقد يقال: إنه يمكن التوجّه إلى الوجود الوهمي للكعبة الممتد في الفضاء. ويكون ذلك مجزياً. إلاَّ أنه ليس بصحيح. أولاً: لأن الجعل الشرعي لهذا الامتداد، لم يثبت أنه بهذا المقدار غير العرفي. ثانياً: أن التعرف
على ذلك من هناك بغض النظر عن التوجّه إلى الأرض، في عداد المستحيل.
(13) الوسائل ج3. أبواب القبلة. باب:8. حديث: 1.
(14) المصدر: حديث: 4.
(15) المصدر: حديث: 2.
(16) المصدر: حديث: 3.