أو سؤال العدالة في استبداد الرجل بالطلاق
السيد محسن الموسوي الجرجاني(*)
الطلاق
الطلاق في اللغة هو إخلاء سبيل المقيّد وإطلاق سراحه. ويقول الراغب في مفرداته: «أصل الطلاق التخلية من الوثاق. يقال: أطلقت البعير من عقاله وطلّقته»([1]). ويقول الفيومي: «قال الفارابي نعجة طالق بغيرها إذا كانت مخلاّة ترعى وحدها، فالتركيب يدلّ على الحلّ والانحلال. يقال: أطلقت الأسير إذا حللت أساره وخلّيت عنه، فانطلق أي ذهب في سبيله. ومن هنا قيل: أطلقت القول إذا أرسلته من غير قيد ولا شرط، وأطلقت البينة إذا شهدت من غير تقييد بتأريخ، وأطلقت الناقة من عقالها وناقة طلق بضمتين بلا قيد، وناقة طالق أيضاً مرسلة ترعى حيث شاءت»([2]). وأما الزمخشري فيقول: «أطلقت الأسير، وهو طليق، وهو من الطلقاء، وأطلقت الناقة من عقالها فطلقت، وهي طالق وطلق، وناقة طالق ترعى حيث شاءت لا تمنع»([3]). كما أورد سائر اللغويين هذه المعاني عن الطلاق بصورةٍ أو بأخرى. ومن هنا يمكن القول من دون شكٍّ بأن الطلاق في اللغة يعني الإطلاق وإخلاء السبيل والتسريح والتحرير من أيّ قيود.
وأما المعنى الفقهي فهو أيضاً يماثل هذه المعاني الواردة، وإنْ ذهب به بعض الفقهاء إلى مقاصد خاصّة ضمن شروط وقيود خاصة. وغنيٌّ عن التأكيد أن الطلاق المصطلح بين هؤلاء يحمل معنىً افتراضياً واعتبارياً، حيث يستند عقد النكاح بين المرأة والرجل على التزامات يتّفق عليها الطرفان، مما يفرض عليهما قيوداً تذعن وتقرّ بها الشريعة المقدسة؛ حيث تضع هذا العقد في إطارٍ تقنيني خاصّ، وتحترمه ما دام في هذا الإطار، وليس على الإطلاق. إذن فلفظا «النكاح» و«التزويج»، وكلٌّ له معناه الخاص، غالباً ما يعني في الشريعة والمصطلح الفقهي الـ «اتفاق»، حيث يتناسب بشكلٍ تامّ مع معناه اللغوي. وهذا هو شأن لفظ «الطلاق» وما تفرّع منه أيضاً في القرآن الكريم، حيث قال جلَّ وعلا في سورة البقرة: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 229)، ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 227)، ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىَ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا﴾ (البقرة: 230)، ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ (البقرة: 231)، ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ (البقرة: 232)، و﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ﴾ (البقرة: 236)، ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ﴾ (البقرة: 237)، ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ (البقرة: 228)، ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 241).
هذه بعض الآيات التي وردت في سورة البقرة. والظاهر منها وممّا جاء من هذا اللفظ في السور الأخرى أنه يدلّ على نفس المعنى اللغوي المذكور آنفاً. وكما أشرنا مسبقاً فإن هناك نوعاً من استخدام العناية والمجاز في هذا الجانب؛ فإنْ قال أحدهم بأن المجاز في هكذا مقاصد هو المجاز العقلي، كما نُسب إلى السكاكي، فيجب عليه القبول بأن الطلاق وما اشتقّ منه لغوياً إنما هو حقيقي، واستخدم بمعناه اللغوي، وإنْ وجد فيه شيء من التصرّف العقلي بالمستعمل فيه؛ وإنْ أبينا ذلك فعلينا إذن القبول بأن هذا اللفظ قد استعمل مجازاً في جميع مقاصده، حَسْب قول الزمخشري في أساس البلاغة، وإنْ كان كلامه يقصد الاستخدام والاستعمال القرآني والشرعي، وإلاّ فالطلاق عند الفقهاء ومن دون شكٍّ قد استعمل في الانفصال الخاصّ الحاصل بين الرجل والمرأة، وقد أصبح هذا اللفظ حقيقة مصطلحة عندهم؛ للدلالة على وقوع هذا التصرف، وإنْ كان على عدّة إقسام لسنا بصدد التعرّض لها حالياً.
هل الطلاق جائزٌ؟
كما قلنا فإن الرجل والمرأة الأجنبيين يحلاّن على بعضهما بعقد الزواج والشروط الخاصة، حيث يستطيع كلٌّ منهما التمتُّع من الآخر. وبعبارةٍ أخرى: يصبح الرجل والمرأة محرمين بعقد النكاح، بعدما كانا قبل ذلك أجنبيين. وهذه المحرمية والزوجية تنتج آثاراً لاحاجة لبيانها؛ لوضوحها للعامة، وإنما الذي يحتاج للتأكيد هو أن هذا الترابط الذي يعبِّر عنه الشرع بالعقد ليس اتفاقاً مطلقاً أزلياً لا يمكن فسخه، بل على العكس من ذلك، يمكن فضّ هذه العقدة التي اتّفق على ربطها الزوجين؛ ليذهب بعد ذلك كلٌّ في حال سبيله السابق. وهذا يعني أن ما حلَّله الشرع من الاستمتاع أضحى حراماً بعد ذلك، ليعود الزوجان السابقان أجنبيين وحرامين على بعضهما البعض. وهذا ما أقرّته الشريعة المقدّسة، وصرَّح به الذكر الكريم، وفاضت به الروايات عن النبيّ وأهل بيته^، مما يجعل جواز الطلاق من ضروريات الشريعة وبديهياته، فلا يمكن التشيكك والترديد في جواز وقوعه.
مَنْ يمتلك الحقّ في الطلاق؟
لقد برهنّا في ما تقدَّم على جواز الطلاق في الشريعة، لنتناول جانباً آخر من هذه القضية، وهو الإجابة عن هذا السؤال الملحّ: مَنْ يمتلك الحقّ في فكّ عقدة الزواج وإنهاء الحياة الزوجية؟ هل هو الرجل وحده صاحب الحقّ والقرار في ذلك؟ هل يحقّ للرجل؛ لمجرد الشعور بعدم الرغبة في استمرار الحياة الزوجية، أن يتقدَّم للطلاق، رغم رغبة الزوجة في استمرارها؟ هل تحتكر المرأة حقّ الطلاق، دون الرجل؟ هل يمكن لكلَيْهما الطلاق والتخلُّص من قيود الحياة الزوجية، أو أن الطلاق وإنهاء الحياة الزوجية حقٌّ يمتلكه الجانبان، ويتحقق باتفاقهما على ذلك، وتنفيذ صيغة الطلاق بحضور شاهدين عدلين، وقول الرجل للمرأة: «أنت طالقٌ»، أو بتوكيلٍ بحضور الشاهدين العدلين ؟
يبدو الرأي الأخير عادلاً من جهة؛ ومطابقاً للأسس والقواعد من جهةٍ أخرى. فأما الجهة الأولى، وهي العدالة، فلا تبدو بحاجةٍ إلى التفصيل. فمن الواضح أنه وبإطلاق يد الرجل بالطلاق قد فتحنا أمامه سبيلاً متّسعاً لممارسة الظلم والاستبداد والتعسف، بل يمكن القول: إن حكم القانون بهذا الرأي يمثّل ظلماً بنفسه، حيث منحنا بموجبه حقّاً للرجل، ومنعناه عن المرأة، دون مبرِّر وحكمة. كما أن منح المرأة لهذا الحقّ، وهو حقّ يرتبط بمصيرها، يمثّل ظلماً بحقّ الرجل. فمنح هذا الحقّ لأيٍّ منهما ربما يتسبّب في إلحاق الظلم والأذى بالطرف الآخر. والأمثلة على ذلك كثيرةٌ. فربما يترك الرجل زوجته بعد أن تمتّع بها ويذهب للزواج بأخرى شابّة، فالظلم لا يقع على المرأة الأولى فحَسْب، بل يتعدّى إلى حرمانها من أبنائها مثلاً. وربما يهجر الرجل امرأته المريضة؛ فراراً من العناية بها، ومن دون وليّ ولا نصير. والكثير مما شابه هذه الحالات، حيث لا يترك شكّاً بأن هذا الرأي يشكّل نوعاً من الظلم تجاه المرأة، كما هو الحال على العكس من ذلك، فمن الممكن بجعل خيار الطلاق بيد المرأة أن تقوم ومتى شاءت، ومن دون موافقة الرجل، بالتخلص من قيود العقد الشرعي والتزامات الحياة الزوجية، مما يصوّر نوعاً من الظلم تجاه الرجل. ومن هذا المنطلق من الأحرى أن يتمّ الطلاق والتخلّص من قيود الحياة الزوجية بموافقةٍ من الطرفين، أو مناطاً برأي حاكم الشرع وما شاكله؛ لأنه وفق هذه الحالة، أي الطلاق بالموافقة، يراعى جانب الحقّ للزوجين؛ فالمرأة في هذه الحالة هي التي اختارت العيش بمفردها في المجتمع، وكذلك الشيخ الطاعن بالسنّ والسقيم هو الذي اختار وبمحض إرادته العيش دون وليّ. كما أن ترك أمر الطلاق بيد الحاكم الشرعي يحقّق العدالة للجانبين؛ لأن مصيرهما قد وقع بين يدي حاكمٍ عادل يحقّق العدالة بينهما من دون ظلم ومساومة. أجل، يمكن القول: إن هذا القانون يستلزم نوعاً من الظلم، ولكنه خيارٌ صعب بين الأمرّين، ولا بُدَّ منه؛ وذلك لأن المفاسد الناتجة عن عدم جواز الطلاق ستكون أكثر وأوسع ممّا يحدث في حالة الطلاق. فإذا لم يكن بُدٌّ من الطلاق، وهذا ما دفع الشريعة الإسلامية إلى تبنّيه، فيجب الرضوح لتاليه الفاسد، ولكن بقدر ما تمليه الضرورة؛ وفقاً لقاعدة: «الضرورات تقدَّر بقدرها»، ويعني اتّباعها القبول بمبدأ نظرية «الطلاق التوافقي»، وهي ذاتها مبنية على أساس قاعدة التزاحم وتقديم الأهمّ على المهمّ. إذن يمكن القول، من دون ريب أو شكّ: إن قانون «الطلاق التوافقي» هو أكثر القوانين عدالةً يمكن تشريعه في هذا الجانب.
وأما عن قولنا بأن «الطلاق التوافقي» يطابق القواعد فنقول:
أوّلاً: إن عقد الزواج يدرج من ضمن العقود والمعاملات. ومن نافل القول: إن هذا العقد يتمّ بملء الإرادة والاختيار من كلا الجانبين، كما هو الحال في البيع. ولأن هذا العقد شأنه شأن «عقد البيع» يعتبر لازماً، وليس جائزاً، فلا يجوز لطرف خرقه دون موافقة الآخر. فالعقود والاتفاقات الاجتماعية على قسمين: العقود الجائزة؛ والعقود اللازمة. ويمكن خرق العقد الجائز من أحد الجانبين؛ نَدَماً أو غير ذلك، بينما لا يمكن العمل وفق هذه الصيغة في العقد اللازم، حيث ينحصر فضّ العقد باتفاقهما على ذلك. فمثلاً: عقد «البيع» عقدٌ لازم، لا يمكن فسخه، لا من جانب البائع، ولا من جانب المشتري، إلا في حال وجود خيار في ذلك. وينحصر الفسخ في اتفاقهما على هذا الأمر، والذي يطلق عليه (الإقالة).
فإذا ثبتت هذه القاعدة للعقود اللازمة تصطدم حينها نظرية الطلاق الاستبدادي بهذه القاعدة، حتّى وإنْ لم يكن الطلاق فسخاً. ولا يستبعد أن نقول: إن الإقالة لا تعتبر فسخاً للبيع، كما هو حاصل في العقد الجائز أو بخيار الفسخ، بل هو شكل من معاملة جديدة، خلافاً لنظرية «الطلاق التوافقي». ومثل سائر العقود التي يمكن فسخها برضا الطرفين يجب أن يفسخ عقد النكاح في حال رغبة الزوجين في وضع نهاية له، اللهمّ إلاّ إذا منعت الشريعة المقدّسة الطلاق، والمفروض أنها لم تمنعه إطلاقاً. كما أن الحديث هنا ليس حول جوازه من عدمه، بل هو حول مَنْ يمتلك الحقّ فيه. وبالتالي يجب القبول، وفقاً للقاعدة، بأن خيار الطلاق يكون بيد المرأة والرجل متفقين على ذلك، دون ترجيح هذا على تلك، وهذا يعني بأن الرجل أو وكيله يجري صيغة الطلاق في حال موافقة الزوجة على ذلك.
ثانياً: لا يختلف أحدٌ على أن المبدأ الأوّل في المعاملات هو مبدأ أو أصل الفساد. فمثلاً: نقل الثمن والمثمن في باب البيع لا يتحقّق إلاّ بإحراز سببه، فلا يمكن الحكم بتحقّق النقل عند الشكّ في تحقّق سببه، وكذلك هو الأمر بالنسبة للاستصحاب. وللطلاق نفس الحكم، أي في حال الشكّ بتحقّق سبب انحلال العقد وفسخه سيحكم بعدم تحقّقه. أما موضع الشك هنا فهو في التحقّق من أن صيغة الطلاق هل قضَتْ بطلاق الزوج من الزوجة أم لا؟ ومن الواضح بمقتضى الاستصحاب في الحكم والموضوع بأن العقد لا زال قائماً، فضلاً عن بقاء الحلّية بينهما. إذن لا يمكن الحكم بصحة الطلاق ما دامت الموافقة عليه غير محرَزة من الجانبين، بل تقتضي القاعدة عدم زوال الزوجية السابقة إلاّ بوجود دليلٍ حاسم، يمكن من خلاله غضّ النظر عن مثل هذه المبادئ. ففي حال وجود دليلٍ اجتهادي لا يمكن العمل بمبدأ عملي، وهذا ما يذهب بنا نحو البحث في الآيات والروايات، حتّى إذا وجدنا فيهما ما يدلّ على غير ما توصّلنا إليه حتّى الآن نتمسّك به لنترك ما عداه. فقد قال عزَّ من قائل: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وهو مبدأ أساسي لا يختلف عليه المسلمون قاطبة، والشيعة خاصة، حيث تعتقد بأن ما ورد عن الأئمة فهو عن النبيّ|، فإذا وجدنا روايةً منهم تتعارض مع القاعدة تمسكنا بها سمعاً وطاعة، وتركنا القاعدة جانباً. وهذا يعني بأن علينا البحث في روايات الأئمة؛ لأن الروايات المباشرة عن النبيّ ليست متاحة، وحلقة الوصل بيننا وبين مصدر الوحي ذاك لا يتمّ إلاّ عبر الأئمة^؛ إما عن نقلهم لرواياته؛ أو مما صدر منهم من حديثٍ؛ لأنهم يتحدّثون عن النبي وشريعته الطاهرة. مع هذا نجد من الضروري، وقبل الدخول في هذا المخاض، أن نبحث في القرآن الكريم عمّا أتى به في موضوعنا هذا:
القرآن وآيات الطلاق
كما ذكرنا سالفاً فإن في الذكر الحكيم العديد من الآيات التي تتناول موضوع الطلاق. والمثير هو أن الآيات لم تتحدّث قطّ عن حقّ الرجل بالطلاق دون رضا الزوجة، وإنْ نسبت بعضها الطلاق إلى الرجل، كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا﴾ (البقرة: 230)، أو ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ (البقرة: 231)، وما شابه ذلك. ولكنْ من البيِّن أن مجرد إسناد الطلاق للرجل لا يشكّل سبباً لقيامه بذلك شاءَتْ المرأة أو أبَتْ. وبعبارةٍ أوضح: مهما أنجز الطلاق بيد الرجل، وبقبول المرأة كان أو رغماً عنها، فليس في كتاب الله ما يدلّ على صحة طلاق الرجل، ليتمسّك أحدهم بهذا الإطلاق ليبرهن بأن الطلاق بيد الرجل. فالأمر أعمّ من قبول المرأة أو رفضها. فقوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 230) يعني ترتّب هذا الأثر أي الطلاق بعد التحقّق من صحته، وإنْ قال عزَّ وجلَّ: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ (البقرة: 229) فإنما يقصد بأن الرجوع لمرتين إنما يأتي من صحّة الطلاق. والملخَّص في ما قلنا هو أن الباري تعالى، وعبر هذه الآيات، لا يقصد منح الرجل حقّ الطلاق بتحقّق أمر أو عدم تحقّقه، بل قصد في كلٍّ منها غرضاً خاصاً يمكن التحقّق منه بقدرٍ يسير من التأمّل. إذن فمن العدل القول بأننا لم نتمكّن استخراج الرأي السائد في هذا المجال من الآيات، وإنْ نسبت بعضها الطلاق إلى الرجل، ولربما يمكن حصر إجراء صيغة الطلاق وخرق عقد النكاح بالرجل، وهذا كما قلنا لا ينافي اشتراط موافقة الزوجة ورضاها، كما هو موجود في الإقالة، فإنها تتمّ إما من قِبَل البائع أو المشتري، ولكنْ يشترط في صحتها قبول ورغبة الطرفين.
روايات الطلاق
هل توجد روايةٌ تثبت الطلاق للرجل، دون حقّ المرأة في ذلك؟ لقد وضع الشيخ الحُرّ العاملي في أبواب مقدّمات الطلاق باباً تحت عنوان «باب أن الطلاق بيد الرجل، دون المرأة»، وأتى بروايةٍ واحدة لدعم دعواه، عن رجلٍ تزوّج امرأةً اشترطت عليه أن يكون خيار الجماع والطلاق بيدها، فسُئل الإمام الصادق عن ذلك، وقال الإمام مجيباً: «خالف السنّة وولّي الحقّ مَنْ ليس أهله، وقضى أن على الرجل الصداق، وأن بيده الجماع والطلاق. وتلك السنّة»([4]).
وربما يقول أحدهم بأن الإمام منح الرجل حقّ الطلاق، كما حرم المرأة منه، وهذا ما يثبت المشهور والسائد بحقّ الرجل في الطلاق، في حين أن المرأة تفتقد الحقّ في ذلك.
ومما لا شَكَّ فيه هو أن الرواية لا تصلح للاستدلال؛ لأنها أوّلاً: تفتقر إلى السند الصحيح؛ إذ الراوي الأصلي عن الإمام الصادق أتى بعبارة «بعض أصحابنا»، والمروي عنه هو «ابن بُكَيْر»، فتكون بذلك مرسلةً بأدنى نسبة الصحّة.
وثانياً: يستفاد من الرواية أن لو اشترطت المرأة لنفسها التمسّك بعقدة الجماع والطلاق، وقبل الرجل بذلك، فإنه غير ملزَمٍ بالتمسّك بالشرط؛ لمخالفة الشرط السنّة. ولا علاقة لهذا بما نحن بصدده؛ لأن منافاته للسنّة يأتي من وضع عقدة الجماع والطلاق بيد المرأة، أو لأنها تمتعت في هذا الشرط بالاستقلالية، أو يمكن أن يكون القصد من السنّة أن إجراء صيغة الطلاق بيد الرجل، وهذا في حدّ ذاته لا يتنافى مع اشتراط موافقة المرأة ورضاها. وليس مستبعداً أن تكون عبارة «وتلك السنّة» في آخر الرواية تشير إلى هذا المعنى.
وهناك روايةٌ أخرى نتطرّق إليها هنا، يقول فيها الرواي، سائلاً الإمام الصادق: «ما تقول في رجلٍ جعل أمر امرأته بيدها؟ قال: فقال لي: ولي الأمر مَنْ ليس أهله، وخالف السنّة، ولم يجز النكاح»([5]).
والبادي من الرواية بأن لا حقّ للمرأة أن تبادر بالطلاق، وتفويض هكذا أمور إليها لا يؤثّر في نصّ العقد، بل يسقط عقد النكاح أيضاً.
وهذه الرواية مرسلةٌ أيضاً من دون سند موثوق، فلا يمكن الاعتماد عليها والاستدلال بها.
كما أننا لم نقصد من وراء ما نسعى إليه هنا أن نضع جميع شؤون الحياة الزوجية بيد المرأة، حتّى يُقال: إن هذا مخالف للسنّة، والرواية تنكر ذلك، بل يدور بحثنا حول رضا المرأة عندما يقوم الرجل بالطلاق. ومن الواضح الجليّ أن هذه الرواية ومثيلاتها لا تمتّ بصلةٍ إلى الموضوع، ولا سيَّما أن الرواية تتحدّث عن اشتراط وضع جميع شؤون الزوجية تحت تصرّف المرأة، وهذا الشرط من دون شَكٍّ يخالف السنّة، كما أن وضع أمر الطلاق بيد الرجل، وإطلاق يده في هذا الشأن، يشكِّل حَسْب رأينا مخالفةً للقواعد.
والرواية السادسة في هذا الباب أيضاً تقترب من مضمون الروايتين السالفتين، وسندها يرجع إلى«إبراهيم بن محرز»، وهو مجهول. والدلالة هي التي أوردناها في الرواية السابقة، ولا نتوقف عند نقلها ونقدها، ولا سيَّما أن من المحتمل أن لا تكون الروايات الثلاث إلاّ رواية واحدة. فضلاً عن وجود روايات عديدة في نفس الباب، تعدّ بعضها صحيحة السند، وتقف في مقابل هذه الروايات، وتفيد إمكانية تفويض الرجل أمره لزوجته في نصّ العقد. فمثلاً: ورد في إحدى هذه الروايات: «إذا خيّرها وجعل أمرها بيدها في غير قبل عدّتها، من غير أن يشهد شاهدين، فليس بشيءٍ؛ وإنْ خيّرها وجعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل عدتها فهي بالخيار ما لم يتفرّقا، فإنْ اختارت نفسها فهي واحدة، وهو أحقّ برجعتها؛ وإنْ اختارت زوجها فليس بطلاقٍ»([6]).
إذن لا يمكن الاستدلال بروايات باب الخيار لما نحن فيه، سواء كانت صحيحة السند أم لا؛ لأنها على قسمين: قسم يدلّ على إمكانية منح الرجل لحق الطلاق للمرأة، ويمكن للمرأة أيضاً أن تدرج هذا الشرط في اتفاقية العقد؛ والقسم الثاني تتعارض كلياً مع ذلك، وهو ما يوجب إيجاد مخرج لحلّ هذا التباين. وليس من المستبعد أن يقال في مقام الحلّ: إن الروايات النافية مطلقة، والروايات المجوّزة مقيدة، وعليه يجب حمل المطلق على المقيد، أو فقُلْ: لا يصحّ شرط الخيار للمرأة مطلقاً، لكنه يصحّ بصورة مقيدة بمجلس العقد.
وإنْ فضّ هذا التباين بهذا الشكل أو بقي على حاله فلا ينفي عدم صلته بموضوعنا أيضاً؛ لأننا نبحث عن موافقة المرأة ورضاها كشرط لصحة الطلاق، وما علاقة هذا بنفي شرط الخيار عن المرأة؟
وذهب البعض إلى دلالة رواية عليّ بن يقطين على هذا المعنى، فقد جاء فيها: «سألتُه عن رجلٍ زوّج أمته رجلاً حُرّاً، فقال: الطلاق بيد الحُرّ»([7]). وهذا يعنى حسب ظنّهم تصريح الإمام بأن الطلاق بيد الرجل. فلا داعي بعد ذلك للخوض في اشتراط موافقة المرأة لصحة الطلاق.
وهذا حَسْب ظنّي أمرٌ غريب جدّاً! أوّلاً: لأن الرواية مخدوشة حَسْب إسنادها؛ بمحمد بن أبي حمزة، وهو بين ثقة ومجهول الحال.
وثانياً: جاء في رواية محمد بن مسلم ما يلي: «فقال: إنْ كان الذي زوّجها منه يبصر ما أنتم عليه ويدين به فله أن ينزعها منه ويأخذ نصف الصداق». وهذه رواية صحيحة السند، وفيها تصريح بحقّ المولى في انتزاع الأمة من زوجها بعد أن زوّجها له، بمعنى قدرته على طلاقها رغم مخالفة الزوج. ويبدو واضحاً أن هذا المضمون يخالف مضمون الرواية السابقة. والتباين بين الروايتين جليّ؛ لأن الأولى وضعت الطلاق بيد الرجل، والثانية صرحت بحقّ المولى في طلاق الأمة من زوجها.
وثالثاً: لو فرضنا جدلاً صحة الرواية السابقة فهي أيضاً لا تتصل بموضوعنا؛ لأن الرواية تصرّح بعدم استطاعة المولى طلاق أمته من زوجها، وما نحن بصدده هو عن موافقة الحُرّة في الطلاق كشرطٍ له.
الطلاق، حرامٌ أم مكروه؟
كما أشرنا سابقاً فإن جواز الطلاق من ضروريات الشريعة الإسلامية المقدسة، وتصرح آيات عدّة من الذكر الحكيم إلى هذا الجواز وصحته. إذن لا نقاش في جواز الطلاق في الشريعة الإسلامية. وأما الروايات التي تدلّ على حرمة الطلاق بحَسَب ظاهرها فقد حملها الفقهاء على الكراهة الشديدة. وننقل بعضاً من هذه الروايات؛ لغرض البحث فيها والحكم عليها:
1ـ رواية صفوان بن مهران: «عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله|: تزوَّجوا وزوِّجوا، ألا فمن حظّ امرئٍ مسلم إنفاق قيمة أيمة، وما من شيءٍ أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ من بيتٍ يعمر في الإسلام بالنكاح، وما من شيءٍ أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ من بيتٍ يخرب في الإسلام بالفرقة، يعني الطلاق»([8]).
ومحل التأمل يقع في الفقرة الأخيرة، حيث يقول: «وما من شيءٍ أبغض إلى الله عزَّ وجلّ من بيتٍ يخرب في الإسلام بالفرقة، يعني الطلاق»، ويضيف الإمام الصادق× في نهاية الرواية: «إن الله عزَّ وجلَّ إنما وكّد في الطلاق وكرّر فيه القول من بغضه الفرقة»([9]).
وجاء في روايةٍ أخرى: «إن الله عزَّ وجلَّ يحبّ البيت الذي فيه العرس، ويبغض البيت الذي فيه طلاق، وما من شيءٍ أبغض إلى الله عزَّ وجلَّ من الطلاق».
ونقل عن النبيّ|: «إن طلاق أمّ أيّوب لَحُوبٌ».
وعن الإمام الصادق×: «ما من شيءٍ ممّا أحلّه الله أبغض إليه من الطلاق».
وجاء في مكارم الأخلاق، عن الإمام×: «تزوّجوا، ولا تطلِّقوا؛ فإن الطلاق يهتزّ منه العرش»([10]).
ولا شَكَّ في دلالة هذه الروايات على حرمة طلاق المرأة. ولكنْ لأن أصل جواز الطلاق صريحٌ لا يمكن إنكاره، فقد حمل الفقهاء هذه الروايات على الكراهة، ولكنْ مع وجود نبرة الروايات الحادّة، والتي تتخطّى الكراهة، عاد الفقهاء وحملوها على الكراهية الشديدة. وهذا الحمل حَسْب ظنّي ليس مقبولاً، والتعبيرات الموجودة في الروايات لا تنسجم مع الكراهة؛ لأن أيّ كراهية لا ترقى إلى هذا المستوى من البغض عند الله، بل لا ترقى بعض المحرّمات أيضاً، فما بالك بالمكروهات؟ وكيف يمكن أن يهتزّ عرش الله من مكروهٍ؟ إذن فدلالة هذه الروايات الصريحة تجعل الطلاق حراماً ومن الذنوب الكبيرة. لكنْ ما يجعل حكم جوازه من البديهيات هو التصريح الواضح الموجود في القرآن والروايات، وعليه يمكن القول: إن المراد لم يكن الحرمة المطلقة، بل القصد منه حَسْب رأينا حرمة طلاق الزوجة من دون رضاها وموافقتها، واعتباره ضمن الذنوب الكبيرة؛ لأن جعل هذا الحقّ للرجل، وكما أوردنا سابقاً، يُعَدّ ظلماً وجَوْراً واضحاً لا يمكن تصديقه، فضلاً عن تاليه الفاسد عند تنفيذه. إذن بعد أن اتّضح عدم احتمال الروايات الحمل على كراهة الطلاق، يبقى أن نحملها على أفضل وجهٍ، وهذا الوجه الوحيد هو أن نقول: إن القصد من الروايات هو حرمة طلاق المرأة من دون أخذ موافقتها ورضاها، وإن ما ورد في الآيات والروايات عن جوازه، ومع افتراض إطلاقه، يسري على موافقة الزوجين على الطلاق والانفصال.
الروايات التي تجيز الطلاق للرجل
لقد عقد الشيخ الحُرّ العاملي في أبواب مقدّمات الطلاق باباً تحت عنوان «باب جواز طلاق الزوجة غير الموافقة»، وذكر عدّة روايات لإثبات دعواه، نتناولها هنا بالبحث والتدقيق:
الرواية الأولى: عن الإمام الباقر×، «أنّه كانت عنده امرأةٌ تعجبه، وكان لها محبّاً، فأصبح يوماً وقد طلَّقها، واغتمّ لذلك، فقال له بعض مواليه: لِمَ طلّقتها؟ فقال: إنّي ذكرتُ عليّاً× فتنقَّصَتْه، فكرهتُ أن ألصق جمرةً من جمر جهنّم بجلدي»([11]).
وحَسْب رأينا من البديهي تعذُّر إثبات حقّ الطلاق للرجل دون رضا وموافقة الزوجة؛ وذلك لعدّة وجوه:
أوّلاً: الرواية ضعيفة، ومرسلة، ولا يعتنى بها؛ لأن الراوي وهو عثمان بن عيسى غير ثقة، ويروي «عن رجلٍ»، والرجل مجهول تماماً.
ثانياً: إذا تركنا سند الرواية جانباً، واعتبرناها صحيحة، فلا يوجد فيها ما يفيد الدعوى القائمة؛ لأنه من الممكن وقوع الطلاق بين الإمام وزوجته بموافقة الزوجة. كما يتّضح ممّا قاله الإمام لتبرير عمله بأن المرأة كانت من النواصب، ولربما مرتدّة، والطلاق وقع بسبب هذا الارتداد، والتعبير بالطلاق في كلام الراوي إنما جاء سهواً أو مجازاً.
ثالثاً: أقصى ما يمكن فهمه من هذه الرواية هو طلاق الإمام لزوجته، ما يدلّ على جواز الطلاق، وهذا أمرٌ مفروغ منه، لكنه مجملٌ بالنسبة إلى الشروط، ولا يمكن إثبات أيّ شرط فيه ولا نفيه.
الرواية الثانية: «عن خطّاب بن مسلمة قال: كانت عندي امرأةٌ تصف هذا الأمر، وكان أبوها كذلك، وكانت سيّئة الخلق، وكنت أكره طلاقها لمعرفتي بإيمانها وإيمان أبيها، فلقيتُ أبا الحسن موسى×، وأنا أريد أن أسأله عن طلاقها ـ إلى أن قال: ـ فابتدأني، فقال: كان أبي زوَّجني ابنة عمٍّ لي، وكانت سيّئة الخلق، وكان أبي ربما أغلق عليَّ وعليها الباب رجاء أن ألقاها، فأتسلَّق الحائط وأهرب منها، فلمّا مات أبي طلَّقْتُها، فقلتُ: الله أكبر، أجابني واللهِ عن حاجتي من غير مسألةٍ»([12]).
وربما يمكن القول بأن هذا الحديث وبشكلٍ واضح يدلّ على حقّ الرجل في طلاق زوجته، دون أن يكسب موافقتها. ولكن تعميمه من قبل الراوي يفتقد إلى الأساس العلمي، ولم يتضح بعدُ لماذا قصّ الإمام الكاظم× قضية طلاق زوجته للرجل.
ولو افترضنا بأن الإمام كان بصدد الإجابة عن قضية الراوي، وكأنما يريد أن يقول له: إنْ ابتليتَ بامرأة مؤمنة سيئة الخلق، ولا ترجو وفاقاً منها، فطلِّقْها، فهذا لا يعني أن يذهب الرجل ويطلقها رغم معارضتها للطلاق؛ بل من الممكن أن يقصد الإمام أنه لو كانت المرأة مؤمنة، ولا يتوافق خلقها مع الزوج، ولم يتبقَّ حلٌّ، فكلٌّ يخلي سبيل الآخر ويذهب إلى سبيله. إذن لا تفيد هذه الرواية إطلاق جواز الطلاق الاستبدادي.
الرواية الثالثة: هي رواية يستشهد بها الشيخ الحُرّ العاملي، وينقلها عن خطّاب بن مسلمة أو سلمة، عن الإمام موسى بن جعفر، قال: «دخلتُ عليه وأنا أريد أن أشكو إليه ما ألقى من امرأتي من سوء خلقها، فابتدأني، فقال: إنّ أبي زوَّجني مرّةً امرأة سيّئة الخلق، فشكوت ذلك إليه، فقال: ما يمنعك من فراقها؟ قد جعل الله ذلك إليك، فقلتُ فيما بيني وبين نفسي: قد فرَّجت عنّي»([13]).
وربما يمكن القول بأن دلالة هذه الرواية على جواز الطلاق الاستبدادي واضحة، ولا سيَّما عند قوله: «ما يمنعك من فراقها؟ قد جعل الله ذلك إليك»([14]).
ولكنْ لا يجد هذا الاستدلال على إثبات الطلاق الاستبدادي أذناً صاغية أيضاً؛ أوّلاً: لضعف سند الرواية، وانعدام الحجية فيه. فالكليني رواها عن أحمد بن مهران، عن محمد بن عليّ، عن عمرو بن عبد العزيز، عن خطّاب بن مسلمة (سلمة). وأحمد بن مهران ليس من الثقات، بل ضعّفه بعضهم. ومحمد بن عليّ الأمر فيه مختلف؛ فقد عدّه بعضهم ثقة؛ واعتبره بعضهم مجهولاً؛ كما ضعّفه آخرون. وكذلك الحال بالنسبة لخطّاب بن سلمة أو مسلمة، فهو مجهول غير معروف. إذن الرواية لا يعتنى بها من قبل أصحاب الفن.
ثانياً: إنها نفس الرواية الثانية؛ لأن المخاطب في الروايتين هو «خطّاب بن سلمة»، والمرويّ عنه هو الإمام موسى بن جعفر×. ومن المستبعد جدّاً أن يذهب خطّاب بن سلمة مرّتين لبثّ شكواه من زوجته إلى الإمام الكاظم، ليقصّ الإمام عليه المرة تلو الأخرى قضية طلاقه. وعليه يجب القبول بأن الروايتين هما رواية واحدة، نقلها خطاب بن سلمة بالمضمون. وبهذا قد تكون جميع الإشكالات الدلالية للروايات السابقة منطبقة على هذه الرواية أيضاً. كما أنه ليس من الجليّ أن تكون عبارة: «قد جعل الله ذلك إليك» هي نفس ما تحدّث به الإمام الكاظم×. ومن المحتمل أن تكون من تأويل الراوي وانطباعه لما نقله الإمام. وكما قلنا في الروايتين السابقتين: إنْ سلمنا جدلاً بصحة إسناد الرواية فدلالتها على جواز الطلاق الاستبدادي تبقى محلّ الغموض والإبهام، حيث من الممكن أن يقصد الإمام من قوله للرجل: «ما يمنعك من فراقها؟» هو نفس ما قاله الإمام الصادق للإمام الكاظم: ما يمنعك من التوافق معها لأمر الطلاق إنْ لم يتم الوئام بينكما؟ أو يقصد من «جعل الله ذلك إليك» أن مبدأ الطلاق مشروعٌ في الإسلام، وقد أجاز الله للرجل إجراء صيغة العقد. لكنْ لا يستفاد من الرواية أيّ من الطلاقين التوافقي أو الاستبدادي؛ لأنه من غير الواضح إنْ كان حديث الإمام للرجل يشير إلى هذا المعنى، وإنْ كان غير ذلك كان من المفروض الإشارة إلى شروط الطلاق، وهي كثيرةٌ، في حين لم يُشِرْ إليها إطلاقاً. وهذا يعني بأن الإمام كان بصدد بيان مبدأ شرعية الطلاق فقط.
الرواية الرابعة: عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن الوشّاء، عن عبدالله بن سنان، عن الوليد بن صبيح، عن أبي عبدالله× قال: سمعتُه يقول: «ثلاث تردُّ عليهم دعوتهم، أحدهم: رجلٌ يدعو على امرأته وهو لها ظالمٌ، فيُقال له: ألم نجعل أمرها بيدك؟!»([15]).
وفقاً لما جاء في الحديث لا يقبل الله دعاء رجلٍ على زوجته وهو ظالمٌ لها؛ لأن أمرها موضوع بين يديه. ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن طلاق المرأة قد وضع بيد الرجل، وهذا لا يترك أدنى شَكٍّ في مشروعية الطلاق الاستبدادي.
وهذا الاستدلال مخدوشٌ أيضاً:
أوّلاً: لضعف الإسناد بمعلّى بن محمد والوشّاء، ما يجعله إسناداً ضعيفاً. فمعلّى بن محمد لم يكن من الثقات، بل ضعفه النجاشي. وأما الوشّاء، الذي نقل عنه معلّى، فيبدو أنه «الحسن بن عليّ بن زياد بن الوشّاء»، وهو ليس من الثقات. وبهذا يكون سند الرواية مخدوشاً لا يعتمد عليه.
ثانياً: لم يتّضح جواز الطلاق الاستبدادي من هذه الرواية. فكلّ ما تتضمّنته الرواية هو أن رجلاً يلعن زوجته وهو ظالمٌ لها فلا يقبل دعاؤه؛ لأنه وفق الرواية قد وضع أمر المرأة بيده. ومن الجليّ أن المضمون مجمل لا يحتمل التأويل لمشروعية الطلاق الاستبدادي؛ إذ من الممكن أن يكون القصد من عبارة: «ألم نجعل أمرها بيدك؟!» كقوله: إنك وليّ المرأة وعليك بمعاملتها بحسن الخلق، فلماذا تظلمها وتدعو عليها؟! فإنْ لم يحصل الوفاق بينكما فعليكما بالاتفاق على الطلاق؛ ولربما يمكن القصد من العبارة كقوله: إن الله جعل السبيل للانفصال، وقد وضع إجراء صيغة الطلاق بيد الرجل، فلماذا لا تسلك هذا الحلّ، بَدَلاً من اقترافك للذنب؟ ومن البديهي أن هذا لا يدلّ على شرعية الطلاق الاستبدادي.
الرواية الخامسة: حدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكّل رضي الله عنه قال: حدَّثنا محمد بن يحيى العطّار، عن محمد بن أحمد بن عليّ الكوفي ومحمد بن الحسين، عن محمد بن حمّاد الحارثي، عن أبي عبد الله× قال: قال رسول الله|: «خمسة لا يستجاب لهم: رجلٌ جعل الله بيده طلاق امرأته، فهي تؤذيه، وعنده ما يعطيها، ولم يُخْلِ سبيلها…»([16]).
ولعلّ هذا الرواية تقدّم أجلى وأصرح العبارات لإثبات الطلاق الاستبدادي؛ لأن التعبير بـ «رجل جعل الله بيده طلاق امرأته» لا يدلّ إلاّ على شرعية طلاق الرجل امرأته، وهذا هو القول المشهور والمعروف بين الفقهاء. فهم يجيزون طلاق الرجل لامرأته متى ما شاء، ولأيّ سببٍ كان. فهذه الرواية في غاية الوضوح للبرهنة على نظرية الطلاق الاستبدادي المتعارفة.
وهذا الاستدلال أيضاً لم يكن محلّ إصغاء؛ لأنه:
أوّلاً: الرواية كأخواتها المذكورات سلفاً مخدوشة السند، وغير مقبولة؛ لأن في مَنْ اشترك في نقلها مَنْ هو غير موثوق، أو مجهول الحال، أو مَنْ ضعّفه بعضهم ووثّقه آخرون أو عدّوه من المجهولين، مما لا يترك مجالاً للشكّ بأن الرواية مخدوشة.
ثانياً: الغموض الموجود في الرواية لا يسمح بإصدار جواز الطلاق الاستبدادي؛ إذ من المحتمل أن يقصد المصطفى| من قوله هذا أنه ما دام الله فتح سبل النجاة للزوجين؛ للتخلُّص من شرور بعضهما البعض واستحالة التوافق الخلقي، فلِمَ لا يتوافق الزوجين ليطلِّق الرجل المرأة؟ والشاهد على أن كلام النبيّ يصبّ في هذه الخانة هو أن الرواية تتحدّث عن امرأةٍ تؤذي زوجها، وعلى الرجل أن يعطيها حقوقها كافّةً، ليخلي بعد ذلك سبيلها. والتأكيد على إخلاء السبيل يشير إلى أن الرسول| إنما يريد أن يقول للرجل: لماذا كلّ هذا الأذى للجانبين، مع وجود سبيل للحلّ؟ أي لماذا لم تتّفقوا على الطلاق؟ بل أكثر من هذا، تفيد عبارة «لم يُخْلِ سبيلها» أن المرأة ترغب بالطلاق، خلافاً للرجل، الذي لم يَرْضَ به رغم كلّ المعاناة والأذى؛ لأن الرواية تشير إلى أن الرجل، ورغم قول النبيّ في إخلاء السبيل، قد أغلق سبيل الانفصال على المرأة، ومنعها من الخلاص رغم رغبتها في ذلك. وكما لا يخفى ـ مثل سابقاتها من الروايات ـ لا يمكن استخلاص جواز الطلاق الاستبدادي من هذه الرواية.
إشكالٌ مهمّ
قد يثير ما قلناه إشكالاً عند بعضهم؛ ليقول ما يلي: لو سلبنا حق الطلاق الاستبدادي من الرجل فلربما وقع في محذورٍ لا يُطاق. فمثلاً: أتت المرأة بالفحشاء والمنكر، ولم تكترث بنصائحه، كما لا ترضى بالطلاق، فهل يمكن أن يقضي الشارع المقدّس بعدم جواز الطلاق الاستبدادي حتّى في حالةٍ كهذه؟ وممّا لا شَكَّ فيه أن الظلم والجور قبيحٌ وحرام، أيّاً كان مصدره، سواء المرأة أو الرجل، وعليه يجب القبول بأن للرجل أن يطلّق زوجته، شاءَتْ ذلك أو أبَتْ.
الجواب: لو كانت الفاحشة التي تأتي بها الزوجة سبباً لإطلاق يد الرجل بالطلاق، والحؤول دون عدم تعرّضه لظلم الزوجة وجورها، فإن احتمال صدور الفاحشة والانحراف من الرجل أقوى وأكثر؛ لعدم خشيته من المرأة. وإذا كان كذلك فمن الأحرى والأَوْلى أن يفوّض أمر الطلاق إلى المرأة. فبعبارةٍ أوسع: الرجل يتمتّع بالقوّة أكثر من المرأة، وله السلطة والغلبة عليها، كما هو ملحوظٌ في المجتمعات البشرية. وعدم خشية الرجل من المرأة ربما يتسبّب بوقوع الكثير من الظلم والجرائم القاسية ضدّها، ولو ترك أمر الطلاق بيد الرجل، وحَسْب إرادته، لامتنع عن الطلاق، أو طلّقها نزوةً من دون عذر، بحثاً عن غيرها. فإنْ كان صدور هذه الأفعال من أحدهما يُعَدّ ظلماً وجوراً بحقّ الآخر، ومنطلقاً لوضع خيار الطلاق بيده، فمن الضروري في مثل هذه الحالات أن تكون المرأة هي صاحبة الحقّ في الطلاق، ويكون الرجل صاحب الحقّ إذا كان الأمر عكس ذلك. ومن الواضح أن إقرار قانون كهذا سيضع كيان الأسرة في مهبّ الريح؛ فتغضب المرأة تارةً وتقوم بعمل أو تتفوّه بكلام نابٍ بذيء، يحتسبه الرجل ظلماً له، فيقوم بطلاقها فوراً. وهكذا الرجل، فكثيراً ما يصدر منه فعلٌ أو كلامٌ تعدّه الزوجة جوراً عليها، ولوكان خيار الطلاق بيدها لقامت به. وهذا يحول دون استقرار شمل الأسرة وقوامها. وأتى رأيُنا بلزوم ترك أمر الطلاق بيد الزوجين، وحَسْب الاتفاق لإجراء صيغة العقد، من هذا المنطلق، ولا شَكَّ بأن تركه بيد أحدهما سيخلف تالياً فاسداً لا يمكن انتسابه إلى الشريعة المقدسة.
وأما السبيل فيما إذا كان أحدهما ظالماً للآخر، ولا يرضى بالطلاق، فهو ما أشار به القرآن الكريم، حيث قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ (النساء: 35). ومن الواضح أن الآية تشير إلى ما نحن بصدده، وفيها من الوضوح ما يكفي لتعزيز رأينا. وكما تشير الآية هناك حَكَمان من الطرفين يبعثان لبحث الخلاف الواقع، والحُكْم العادل والمحترم إما باستمرار الحياة الزوجية أو الانفصال، وهو أفضل حلٍّ تؤيِّده رواياتٌ كثيرة وردت في تفسير هذه الآية، وتفيد ما نسعى إليه. ونورد هنا روايةً من هذه الروايات: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي أيوب، عن سماعة قال: سألتُ أبا عبدالله× عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا﴾: أرأيتَ إنْ استأذن الحكمان، فقالا للرجل والمرأة: أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرجل والمرأة: نعم، فأشهدا بذلك شهوداً عليهما، أيجوز تفريقهما عليهما؟ قال: نعم، لكنْ لا يكون إلاّ على طهرٍ من المرأة، من غير جماعٍ من الزوج، قيل له: أرأيت إنْ قال أحد الحَكَمين: قد فرّقت بينهما، وقال الآخر: لم أفرِّق بينهما، فقال: لا يكون تفريق حتّى يجتمعا جميعاً على التفريق، فإذا اجتمعا على التفريق جاز تفريقهما»([17]).
وكما هو واضحٌ فإن هذه الرواية، وروايات أخرى جمعت في كتاب تفسير البرهان، تضع خيار فضّ الخلاف والنزاع بيد حَكَمين؛ ليقوما وبعد استشارة الزوجة والزوج، وبعد التأكّد من تعذّر الوئام الأخلاقي بينهما؛ جرّاء الظلم المتبادل، بالطلاق والانفصال بين الزوجين.
وكما قلنا فإن هذه الآية والروايات المرتبطة تثبت صحّة ما قلناه، فلو كان الطلاق الاستبدادي جائزاً لما وصل الأمر إلى تدخُّل الحَكَمين.
ومن الممكن أن يُثار هنا إشكالٌ آخر، وهو: لو قضى الحَكَمان بالطلاق فلا جَرَم أن صيغة الطلاق تنفذ بين الزوجين، ويمشي كلٌّ لسبيله، ولكن ماذا لو اختلف الحَكَمين في الحكم على الطلاق من عدمه؟ فما هو الموقف عند ذلك؟ ألا يمكن أن يكون الطلاق الاستبدادي حلاًّ للتخلُّص من جميع الخلافات الزوجية؟
الجواب: لا يمكن أن نلجأ لحكمٍ ظالم دون دليل، وبخلاف للقواعد المتبعة لحلّ مشكلةٍ ما. ولو كان الحلّ بطريقة الطلاق الاستبدادي صحيحاً لما وضع الله تعالى الحلّ عبر الحَكَمين، بل كان يقول: إن للرجل طلاق زوجته عند نشوء الخلاف المتعذر حلّه والتخلّص منها. إذن فلا شَكَّ بتوافق الحَكَمين، إما على الاجتماع وإما على الطلاق، إنْ حَكَما بالعدل، وإنْ لم يتّفقا فهنا ترفع القضية إلى المحاكم، ليحكم القاضي بينهما بالحجّة والحكم الشرعي. وحَسْب ما نرى فإن العديد من الروايات تشير إلى هذا المعنى، وإنْ خلَتْ من ذكر المراحل، ولم تُشِرْ إليها. ونتناول هنا بعضاً من هذه الروايات: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابنا، عن أبان، عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر× يقول: والله لو ملكت من أمر الناس شيئاً لأقمتهم بالسيف والسوط حتّى يطلِّقوا للعدة، كما أمر الله عزَّ وجلَّ»([18]).
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الباقر×: «لو وليت الناس لعلّمتهم كيف ينبغي لهم أن يطلِّقوا، ثم لم أوتَ برجلٍ قد خالف إلاّ أوجعْتُ ظهره»([19]).
وحَسْب ظننا فإن الأحاديث تشير إلى ما قلناه أيضاً، وتقصد ضرورة اللجوء إلى حاكم الشرع للطلاق إنْ تعذرت السبل للحلّ، بعد الخلاف الشديد، وعدم جدوى تدخُّل الحَكَمين، وإصرار الزوجين على الظلم والجور بينهما. وتدخُّل حاكم الشرع يعني أخذ طلاق المرأة من الرجل، وإنهاء هذا الظلم والجور، وهو الحدّ الأدنى فيما تشير إليه الروايتان. ولو فرضنا عدم قبول هذه الروايات فإن الحكم يبقى هو نفسه، ومن الضروري نقل الدعوى إلى حاكم الشرع، وإنهاء الخلاف بحكمه العادل في هذا الشأن. وبهذا يكون من الواضح الذي لا لبس فيه أن الطلاق التوافقي هو الحلّ العادل الذي يوافق القواعد من جهةٍ، ولا مناص منه من جهةٍ أخرى؛ لعدالة حكمه.
هل الطلاق الاستبداديّ عادلٌ؟
سبق القول والبرهان على أن الطلاق الاستبدادي، وهو وضع شأن الطلاق بيد الرجل، لم يكن عادلاً فحَسْب، بل ظالمٌ أيضاً، يتبعه ظلمٌ وجور كبير. ومن الملفت والغريب أن يذهب البعض لتلميع صورة هذا الطلاق، واعتباره عادلاً وصحيحاً.
ونحن هنا نبحث أدلّتهم حول هذا الموضوع:
ورد في كتاب« الفقه على المذاهب الأربعة»، وهو أحد أهمّ الكتب الفقهية لأهل السنّة، ما يلي: «عرفت أن الرجل هو الذي يملك الطلاق، دون المرأة؛ وذلك لأمرين:
أحدهما: أن الشريعة قد كلفت الرجل بالإنفاق على المرأة وأولادها منه حال قيام الزوجية وبعدها إلى أمدٍ معين، وكلّفته أيضاً بأن يبذل لها صداقاً، قد يكون بعضه مؤجّلاً إلى الطلاق، وأن يدفع لها أجرة حضانة ورضاع إنْ كان له منها أولاد في سنّ الحضانة والرضاع. وهذا كلّه يستلزم نفقات يجب أن يحسب حسابها بعد الفراق. فمن العدل أن يكون الطلاق بيد الرجل، لا بيد المرأة؛ لأنه هو الذي يغرم المال، وربما كان عاجزاً عن القيام بالإنفاق على مطلقته وعلى غيرها، فلا يندفع في الطلاق، ويترتب على ذلك عدم تفرّق الأسرة وانحلالها. أما لو كان الطلاق بيد المرأة فإنها لا تبالي بإيقاعه عند سورة الغضب؛ إذ ليس أمامها من التكاليف ما يحول بينها وبين إيقاع الطلاق، بل ربما زيّنت لها سورة الغضب إيقاع الطلاق؛ كي ترغم الرجل على دفع حقوقها؛ لترهقه بذلك؛ انتقاماً منه، وذلك حيفٌ ظاهر تتنزّه عنه الشريعة الإسلامية، التي هي من عند الله العليم الخبير.
ثانيهما: أن المرأة مهما أوتيت من حكمة فإنها سريعة التأثّر بطبيعتها، فليس لها من الجلد والصبر مثل ما للرجل. فلو كان الطلاق بيدها فإنها تستعمله أسوأ استعمال؛ لأنها لا تستطيع ضبط نفسها كما يستطيع الرجل. فمن العدل والمحافظة على استمرار الزوجية وبقائها أن يكون الطلاق بيد الرجل، لا بيد المرأة»([20]).
ونظن أن الكاتب هنا قد وقع في وَهْمٍ غريب؛ لأنه:
أوّلاً: لو صحّ كلّ ما قاله الكاتب فإنه يريد من قوله هذا تبرير امتلاك الرجال لحقّ الطلاق، دون النساء، ولكنّه صمت عن وضعه بيد الاثنين وفقاً لقاعدة باب المعاملات.
ثانياً: إذا كلّفت الشريعة الرجل بالإنفاق على المرأة فإنها كلفت المرأة بالتمكين للرجل بالنكاح، ويسقط وجوب الإنفاق عند نشوز المرأة عن هذا الواجب، مما يدلّ على أن الإنفاق إنما جاء إزاء هذا التمكين والطاعة، أو لم يتّضح سببه على أقلّ تقدير.
ثالثاً: كلّف الرجل بالإنفاق على أولاده؛ لأنهم ذرّيته، ولهذا يبقون تحت ولايته بعد الطلاق، ودفع أجرة الحضانة والرضاع للمرأة إنْ أرادت ذلك هو لأنها قامت برعاية أولاد الآخر.
رابعاً: إن الصداق المدفوع من قِبَل الرجل هو ما أقرّه بنفسه في عقد النكاح، وليس حكماً شرعياً جعله الله عزَّ وجلَّ. فإذا لم يتّفقا عليه أو تمّ التوافق بما دون ذلك فلا تحمل الرجل عبئاً شاقّاً. إذن هذا المال ما ألزمه الرجل على نفسه، وعليه دفعه، سواء أقدم على الطلاق أم لم يقدم. وهذا هو الحال بالنسبة للمرأة إذا قبلت حضانة الطفل ورضاعته، ووهبت صداقها، فلا يحقّ لها المطالبة بالأجر، في كلتا الحالتين.
خامساً: وأما قول الكاتب: «فلو كان الطلاق بيدها فإنها تستعمله أسوأ استعمال…»([21]) فهذا كلامٌ غير دقيق، لا يرتقي للالتفات؛ لأنه أوّلاً: ليس من المفروض أن يمنح الرجل حقّ الطلاق لأنه لا يعطى للمرأة، لأنه وكما ذكرنا هناك حالةٌ ثالثة تجمع بين العقل والقواعد والشريعة الإسلامية المقدّسة، وهو أن الطلاق يجوز وينفذ عند اتفاق الزوجين على الانفصال، فإنْ لم يحصل هذا فهناك حلٌّ آخر، ذكره القرآن، وهو الحلّ بمبدأ الحَكَمين، وإنْ لم يخرج هذا الحلّ بنتيجةٍ، ولم يكن أمام الزوجين سوى الطلاق، فعلى الحَكَمين أن يطلِّقاهما، وأخيراً إنْ لم ينجح هذا الحلّ فيلجأ الزوجان إلى المحاكم؛ لغرض التحكيم. فالسؤال الموجّه لعبد الرحمن الجزيري هو أنه أيّهما أقرب للعدل: وضع الطلاق بيد الرجل، ليطلق متى ما شاء؛ أو جعله أمراً يتفق عليه الزوجان؟ ولا شَكَّ أن الحكم الأوّل حكم جائر، وفي كثير من الأحيان حمل معه الكثير من الظلم والمعاناة للأسرة والمرأة والأولاد. وكيف لهذا الرجل أن لا يقبل بوضع أمر الطلاق بيد المرأة، ويصفه بالحيف، ليبرّئ بذلك حَسْب رأيه ساحة الشريعة الإسلامية من جانبٍ، ويأتي ليضعه بتهوّرٍ بين يدي الرجل من جانبٍ آخر، وينسب هذا الظلم غير المغفور إلى الشارع المقدّس، في حين يعلم بأن الرجال أحرص على الطلاق من النساء، وإنْ كان مصير الطلاق بيدهم دون قيدٍ أو شرط فإحصاءات الطلاق ترتفع بنسبٍ أكبر ممّا لو كان أمر الطلاق بيد المرأة؛ إذ وفق ما قلناه سابقاً، وأظهرت التجارب، تكون المرأة أشدّ حرصاً على المحافظة على التماسك الأسري، وحبُّها للعيش بجانب الزوج والأولاد يفوق حبّ الرجل لذلك. وأما الرجل، ولا سيَّما لو أراد الزواج من الثانية ولم ترضَ بذلك الأولى، فسرعان ما يجد من السهل اللجوء إلى الطلاق؛ لبلوغ غايته، والتخلّص من الأولى، والتمتّع بالثانية. إذن لا يمكن تبرير الطلاق الاستبدادي، الذي يطلق يد الرجل باستقلالٍ واستبداد، بهذه التصوّرات والأوهام. ومن حسن الحظّ بأن هذا الرأي لم يجد نصيراً. فإعطاء المرأة حقّ الطلاق يواجه نفس الإشكال عند تفويضه للرجل. والتبعات الفاسدة لدى أحد الطرفين لا تبرّر هذا الحكم المجعول. وإن السبيل الواحد العادل في هذه القضية هو ما أثبتناه هنا، وأظهرنا بأنه حكم الشريعة كما يبدو، مع أناقة وكياسة المشرّع فيه؛ كي لا يثير حفيظة المجتمع الذكوري في عصر الوحي، وهو بحدّ ذاته يُعَدّ من المعجزات التي أتى بها الحبيب المصطفى|.
شبهاتٌ عدّة
1ـ كلّ الآيات والروايات المتعلّقة بالطلاق نسبت الطلاق إلى الرجل، ولا توجد حالة واحدة نسبت إلى النساء. ألا يشكل هذا قناعة بأن يكون الطلاق بيد الرجل؟!
2ـ لقد وضع الشارع المقدّس، ولا سيَّما الروايات الواردة عن أهل البيت، شروطاً كثيرة للطلاق، منها: وجود شاهدين عدلين، وكون المرأة في طهر غير طهر المواقعة، ومنها: عقل وبلوغ واختيار وإرادة الطالب للطلاق. ومع هذا لم يشترط في جميعها رضا المرأة وموافقتها على الطلاق. ألا يشكّل عدم الاشتراط هذا دلالة على عدم وجود دور للمرأة في الموافقة والرضا في صحة الطلاق ووقوعه؟!
3ـ ألم يشكل الاتفاق والإجماع الموجود على جواز الطلاق الاستبدادي دليلاً على إمساك الرجل بزمام الطلاق، دون كسب موافقة المرأة؟! ألا تعطي سيرة المتشرّعين إشارة واضحة إلى ترك أمر الطلاق بيد الرجل، دون اختيار المرأة؟!
الردّ على الشبهات
الردّ على الشبهة الأولى جاء ضمن ما ذكرناه سابقاً. فمجرد إسناد الطلاق للرجل لا يعني انعدام دور المرأة، وربما يكون القصد منه هو إجراء صيغة الطلاق على لسانه في الظروف الاعتيادية. ولكنْ لم تتناول (الروايات) الشروط الأخرى لصحة الطلاق ونفاذه، ولا يوجد ما يُستفاد منه.
أما الشبهة الثانية فالردّ عليها في غاية الوضوح؛ وذلك لأمرين: الأوّل: كما أسلفنا فإن اتفاق الرجل والمرأة على خرق الزوجية وعقد النكاح أمرٌ يتوافق والقاعدة، وما كان موافقاً للقاعدة والعدل لا يحتاج لبيانٍ زائد؛ والثاني: أجواء مجتمع عصر البعثة النبوية الشريفة الذكوري لم يسمح بإقرار الطلاق التوافقي، حيث صاغ الرسول الكريم| هذه القاعدة بإتقانٍ؛ كي لا يثير احتجاج الرجال وسخطهم أحياناً. وليس من المستبعد نزول آية الحكمية بين الزوجين لبيان هذه الحالة. وهذا ما دعانا لحمل الروايات الدالّة على مبغوضية الطلاق وحرمته على هذا المعنى؛ بل هناك روايات كثيرة أخرى يمكن الإفادة منها لهذا المعنى، ومنها: ما قاله الإمام الصادق: «لا يجوز الطلاق في استكراهٍ»([22]). ومن الواضح من صياغة الرواية الإطلاق بالطلاق، ويشمل الكراهة للمرأة وللرجل، وليس من وجهٍ يدعونا أن نطلق الاستكراه على الرجل، دون المرأة، ونختصّه بها. وبهذا يكون مقتضى الإطلاق في هذه الرواية هو عدم وقوع الطلاق دون موافقة المرأة أو الرجل على ذلك.
ويمكن تلخيص ما جاء في أن الشارع المقدّس قد قام بإتقانٍ وحذاقةٍ بالإشارة إلى اشتراط موافقة المرأة على الطلاق، ولا سيَّما ما جاء في آية الحكمية الشريفة، حيث نظن أن الغاية من نزولها كان نفس المعنى الذي نسعى إليه.
وأما الردّ على الشبهة الثالثة فهو أنه لا يقبل إحراز الإجماع، ولا سيَّما على قضية لم تنَلْ نصيبها من البحث والدراسة كهذه، وإنْ افترضنا وقوع الإجماع وإحرازه فهذا الإجماع يفتقر إلى الحجية؛ إذ لا حجّية للإجماع المدركي ومحتمل المدركية، وهذا مبدأ لا يخفى على طلبة العلوم الفضلاء، فما بالك بالعلماء والأفاضل؟!
وأما ما يقال عن سيرة المتشرّعة، ولعله أفضل دليلٍ يقام على جواز الطلاق الاستبدادي، فإنه مسموعٌ كدليل معتبر إذا كانت السيرة مستمرّة متصلة بفترة حياة المعصوم، ويحرز لنا هذا الاتصال بأن النبي أو الأئمة كان باستطاعتهم ردّ هذا الأمر ولم يردّوه. ومن نافل القول: إنه لا سبيل لنا للتأكد والتثبت من أيٍّ من هذه الأمور. إننا لا نمتلك سبيلاً نسلكه بغية التثبّت من إحراز اتصاله بالسيرة في زمن الإمام المعصوم. كما أنه لا يوجد دليلٌ يثبت أن الأئمة كانوا مطّلعين على هذا الموضوع وكان بمقدورهم ردّه وصمتوا عنه. إذن لا يمكن الانجرار وراء سيرة المتشرّعين في زماننا، والإقرار بمبدأ الطلاق الاستبدادي، واعتباره حكماً إلهياً؛ لمجرد حرّية الرجال في زماننا بهذا الطلاق المستبدّ؛ لأنه وكما ذكرنا لا يمكننا كشف الحكم الإلهي في الوقت الراهن لهذه القضية وإنْ افترضنا قبوله؛ والسرّ في هذا هو أن هناك احتمالاً كبيراً بأن يكون هذا الحكم ناشئاً من فتاوى كثير من العلماء، لكنّ هذه الفتاوى تستخدم لإثبات الحكم الإلهي حين تستند إلى دليلٍ معتبر ومقبول، وهذا الدليل المعتبر هو دليل التثبّت من الحكم الإلهي، وليس من فتوى الفقهاء.
نقطةٌ أخرى
هناك عبارةٌ شهيرة نُسبت إلى النبي الإكرم|، وقد اتخذها ببعض شعبها كلٌّ من فقهاء الشيعة والسنّة على حدّ سواء سنداً لجواز الطلاق الاستبدادي. فينسب إلى النبيّ| أنه قال: «الطلاق بيد مَنْ أخذ بالساق»([23]). ومن الواضح أن هذه الجملة لم تمكّن أحداً من إثبات استبداد الرجل في طلاق زوجته؛ لأنه أوّلاً: ليس من الواضح أن تكون الجملة رواية، فهي لم تأتِ في أيٍّ من كتبنا الروائية. فكيف يمكن إثبات الحكم الإلهي من جملةٍ لم يتّضح أنها من قول النبيّ؟!
ثانياً: كما يأخذ الرجل بالساق فإن المرأة تأخذ بالساق أيضاً. إذن فمن أين لنا التأكّد من أن الآخذ بالساق هو الرجل بالتحديد؟ بل هناك احتمال بأن يقصد النبيّ| من هذه العبارة التأكيد على الطلاق التوافقي، وردّ الطلاق الاستبدادي.
ثالثاً: هناك احتمال بأن يكون القصد من قوله: الطلاق بيد الرجل، إنْ قبلنا الجملة، هو أن إجراء صيغة الطلاق بيد الرجل، ولا شيء غير ذلك.
نقطة الختام
إن هذا المقال، كسابقاته من المقالات الكثيرة التي أصدرتها، لا تخاطب جمهور الناس؛ ليعملوا بفحواها، وإنما كتبت كنظريّةٍ علمية جديدة، تنطبق حَسْب رأيي وبالشكل الكامل على المبادئ والقواعد المتبناة والمقبولة من قِبَل الفقهاء المفكِّرين. كما هي دعوة للتأمّل، ولربما بمرور الوقت تنال حظّها من عناية الفقهاء المتحرّرين وتتبّعهم. ولا شَكَّ بأن جميع الفقهاء يعملون حَسْب واجبهم، ويفتون بالدليل. فليس من الصحيح أن نعتبر كتابة هكذا مقالاتٍ، والتي يبدو منها معارضتها للمشهور، إهانة لفقهائنا؛ لأن مثل هذا الانطباع ضيّق الأفق هو اتّهام واضح، وذنب لا يغتفر، كما هو الحال بالنسبة إلى مَنْ يهين مَنْ كرّس عمره من العلماء في تعلّم الأحكام الإلهية وعلوم أهل البيت وتعليمها للآخرين. ونأمل أن يتأمّل خبراء المسائل الفقهية في هكذا مقالات بحرّية فكرية مسؤولة، وتقديم المقترحات الإصلاحية، والتي لا نتردّد في قبولها إنْ وافقت المنطق. كما أرجو أن لا يظنّوا وجود نيّةٍ مسبقة تنمّ عن أغراض نفسانية في كتابة هكذا مقالات، فإنه من باب الظنّ الذي اعتبره الله إثماً.
وهناك ضرورة ملحّة للإشارة ـ كما جاءت ضمن ما ذكرناه آنفاً ـ إلى أنه لا يحقّ لمَنْ لم يتخصّص بالمسائل الفقهية، والتي توجب إتقان علوم ذات صلةٍ أخرى، إدلاء الرأي بما تضمّنه المقال، كما لا يحقّ لهم العمل بهذا المضمون أو إهانة كبار العلماء ـ معاذ الله ـ على غرار ما جاء فيه. فعلى المقلّد في هكذا مسائل اتّباع مرجعه، كما أنه ليس من العقل أن يُشْكِل غير المختصّ على المختصّ في ما اختصّ فيه، وسيكون من الحرام الشرعي لو امتدّ هذا الإشكال إلى الاتّهام والافتراء، فضلاً عن قبحه من الناحية الأخلاقية. فعلينا جميعاً في كلّ حال أن نتّقي الله في جميع ما يصدر منّا من فعلٍ أو قول أو ظنّ.
الهوامش
(*) باحثٌ، وأستاذ البحث الخارج (الدراسات العليا)، في الحوزة العلميّة في مدينة قم. له دراساتٌ فقهيّة متعدِّدة.
([1]) مفردات الراغب، مادّة «طلاق».
([2]) المصباح المنير، مادّة «طلاق».
([3]) أساس البلاغة، مادّة «طلاق».
([4]) وسائل الشيعة، باب 42 من أبواب مقدّمات النكاح وشرائطه، ح1.
([5]) المصدر السابق، باب 41، ح5.
([6]) المصدر السابق، باب 41 من أبواب مقدّمات الطلاق، ح3.
([7]) المصدر السابق، باب 44، ح1.
([9]) المصدر السابق، باب 1، ح1.
([13])المصدر السابق، باب 3، ح1.
([19]) وسائل الشيعة، باب 6 من أبواب مقدّمات الطلاق، ح1.
([21]) الفقه على المذاهب الأربعة 4: 370.