السيد مهدي علمي الحسيني(*)
المقدّمة ــــــ
تحظى ظاهرة النسخ في مسار الأحكام بأهمّية خاصة في دائرة الدراسات الإسلامية. كما أن السابقة التاريخية للنسخ المفعمة بالمنعطفات، واتجاه الباحثين في علم الأصول والتفسير، وحتّى علم الكلام، يؤكّد الموقع الهام والمتميّز الذي تتمتع به هذه الظاهرة، بحيث ربما أمكن اعتبار النسخ من المباحث المعقدة والمثيرة للبحث في مجال التحقيق القرآني.
إن اختلاف الآراء في بيان مفهوم النسخ، وشرائطه، وعدد الآيات المنسوخة [حيث تختلف الآراء بهذا الشأن بين حصر النسخ في آية واحدة في الحدّ الأدنى، وبين القول بأن عدد الآيات المنسوخة يصل إلى 228 آية في الحدّ الأقصى]، واختلاف الآراء في بيان الأنواع المتصوّرة للنسخ في القرآن، وطرح الشبهات بشأن النسخ، وردّ وإنكار وقوع النسخ في القرآن الكريم، يؤكّد ضرورة الخوض في هذا البحث.
تعود بداية الأبحاث بشأن النسخ في القرآن إلى مصحف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×([1]). وتتواصل الجهود على هذه الوتيرة، حتّى نصل إلى عصر الإمام الصادق×، حيث نشهد تدوين أصول النسخ في رسالة «الناسخ والمنسوخ» من قبل تلميذ الإمام الصادق× أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ المسمعي. وفي المرحلة التالية تواصلت الجهود على يد أصحاب الإمام الرضا×([2]). ومنذ ذلك الحين وحتّى هذه المرحلة كان يظهر في كلّ قرن مجموعة من العلماء ليؤلِّفوا في هذا المجال([3]). ومن الضروري التنبيه إلى أن دور العلماء المؤثِّرين في هذه الحركة العلمية العظيمة لم يقتصر على خصوص الباحثين في الشأن القرآني فقط، بل يعود الكثير من التحقيقات والجهود العلمية إلى الأبحاث الفقهية والأصولية أيضاً.
نسعى في هذا المقال إلى بحث مسألة نسخ القرآن بالقرآن من وجهة نظر المفسِّر والفقيه الفذّ محمد هادي معرفت. من هنا فإن بحث سائر الأقسام المتصوَّرة للنسخ في القرآن، ونقد الآراء في معرفة مفهوم النسخ، وشرائط وأنواع النسخ، وعدد الآيات المنسوخة، يحتاج إلى فرصةٍ أخرى. كما أن التدقيق في خصوص إمكان أو عدم إمكان وقوع أو عدم وقوع النسخ في القرآن يستحقّ بدوره بحثاً مستقلاًّ أيضاً. وفي هذه المقالة المقتضبة سوف لا نشير إلى هذه المسائل، إلاّ عند الضرورة.
البحث اللغوي ــــــ
إن من بين المعاني المتعدِّدة التي ذكرها علماء اللغة لمفهوم النسخ نجد المعاني الثلاثة، وهي: الإزالة؛ والنقل؛ والإبطال، هي القابلة للبحث عندهم، حيث يذهب كلٌّ من: الخليل بن أحمد الفراهيدي(القرن الهجري الثاني) في كتابه «العين»، وأحمد بن فارس(القرن الهجري الرابع) في كتابه «معجم مقاييس اللغة»، وجار الله الزمخشري(القرن الهجري السادس) في كتابه «أساس البلاغة»، والراغب الإصفهاني(القرن الهجري السادس) في كتابه «مفردات ألفاظ القرآن»، وجمال الدين بن منظور الأفريقي(القرن الهجري الثامن) في كتابه «لسان العرب»، إلى تفسير النسخ بالإزالة والنقل. وانفرد الفيروزآبادي(القرن الهجري التاسع) في كتابه «القاموس المحيط» إلى تفسيره بالإبطال، مضافاً إلى تفسيره بالإزالة والنقل أيضاً.
لم يُبْدِ الشيخ معرفت اهتماماً كبيراً بالبحث اللغوي للنسخ، سوى أنه فسّر النسخ بمعنى الفسخ وفصل المتّصل([4]). ويبدو أن مراده من الفسخ هو الإزالة. ويتعزّز هذا الفهم من خلال كلماته اللاحقة؛ إذ إنّه ذكر الفسخ مقروناً بالمحو الكامل. من هنا يبدو أن المعنى الأوّل الذي يتبادر إلى ذهن السامع لكلمة النسخ هو الإزالة، وعليه عند عدم وجود القرينة يحمل النسخ على هذا المعنى.
البحث الاصطلاحي ــــــ
لا شَكَّ في أن هذا المقال لا يتّسع لذكر تقرير تفصيلي كامل لمسار التطور الاصطلاحي للنسخ في إطار الدراسات الإسلامية. وقد سبق للباحثين والمحقِّقين أن فصلوا القول في هذا الشأن([5]).
ولكن من الضروري الإشارة إلى أن التعاريف الأولى كانت تخص في الغالب مفهوم الناسخ أو المنسوخ. وإن من أفضل التعاريف التي تمّ بيانها من قبل المختصين في العلوم القرآنية من المعتقدين بوقوع النسخ في القرآن الكريم هو تعريف الأستاذ معرفت، الأمر الذي يُعبِّر عن دقّته وعمق رؤيته. يقول في هذا التعريف: «هو رفع تشريع سابق ـ كان يقتضي الدوام حَسْب ظاهره ـ بتشريعٍ لاحق، بحيث لا يمكن اجتماعهما معاً، إمّا ذاتاً ـ إذا كان التنافي بينهما بيِّناً ـ أو بدليلٍ خاصّ من إجماعٍ أو نصّ صريح»([6]).
تعود أفضلية هذا التعريف الطويل نسبياً أوّلاً: إلى أنه ينظر إلى ذات النسخ، دون الناسخ أو المنسوخ؛ وثانياً: كونه جامعاً ومانعاً للنسخ المتصوَّر بالنسبة إلى القرآن الكريم؛ وثالثاً ـ وهو الأهمّ ـ: إلى أن ظاهرة النسخ على هذا التعريف لا تحدث أي تغيّر في صُلب واقع العلم الأزلي لله سبحانه وتعالى، وتسدّ الطريق على الذين يثيرون الشبهات التي تعتبر النسخ دليلاً أو مؤشّراً على جهل أو خفاء الأمر عن العلم الإلهي.
كما عمد الأستاذ معرفت إلى تقديم تعريف مختصر للنسخ في كتابه «علوم قرآني»، ويأتي اختصار هذا التعريف من باب المراعاة لمستوى المخاطب بهذا الكتاب، إذ يقول فيه: «إن النسخ المصطلح يعني إزالة الحكم الشرعي السابق بتشريعٍ لاحق».
ثم عمد سماحته ـ من خلال بيان مختصر لشرائط النسخ ـ إلى تكميل تعريفه، وهو ما سوف نشير له في القسم التالي من هذا المقال. والجدير بالذكر بشأن هذا التعريف أنه لم يأخذ قيد التنافي بين الحكمين، وهو القيد الذي كان يحظى بمكانةٍ متميّزة في التعريف الأول. ويبدو أن هذا التعريف لم يكن بصدد إثبات وقوع النسخ في القرآن الكريم. وهذا الفهم يأتي من التوضيحات اللاحقة التي أفادها الأستاذ معرفت لاحقاً بشأن شرائط وحقيقة النسخ([7]).
شرائط النسخ ــــــ
لقد عمد المختصّون في العلوم القرآنية ـ في ضوء التعريف الذي قدَّموه للنسخ ـ إلى بيان تحقُّقه أيضاً. إنّ رأي أكثر المنظِّرين بشأن النسخ في القرآن واحد في هذا الخصوص، وإن الاختلافات القائمة بينهم تعود إلى ذهاب بعضهم إلى تحديد شرائطه باعتبار الناسخ، وذهب بعضهم إلى تحديدها باعتبار المنسوخ، بينما ذهبت جماعة إلى بيانها بما يتناسب وحقيقة النسخ. وإنّ ما يذكره الأستاذ معرفت تحت عنوان شروط النسخ عبارةٌ عن:
1ـ أن يكون التنافي بين الحكمين كلّياً وفي جميع الجوانب (على نحو ذاتي؛ أو بالاستناد إلى دليلٍ معتبر).
2ـ أن لا يكون الحكم السابق محدوداً بأمدٍ معلوم.
3ـ أن يتعلّق النسخ بالتشريعيات (بمعنى أن لا يكون مرتبطاً بمجال الأخبار).
4ـ وحدة الموضوع والتحفُّظ على نفس الموضوع في كلا التشريعين([8]).
وكما نلاحظ فإنّ الأستاذ معرفت قد اكتفى بمجرّد بيان الشرائط الرئيسة والأساسية، وأعرض عن الإشارة إلى الشرائط البديهية التي ذهب الأكثر إلى الاتفاق عليها، كما تجنَّب ذكر الشروط التي تندرج تحت الشروط الأخرى.
تأتي أهمِّية دراسة الآراء بشأن شروط النسخ من أنها ترسم حدودها المفهومية بشكلٍ جيّد. ونجد في تعريف الأستاذ معرفت تأكيده على تشريعية كلا الحكمين، مخرجاً بذلك البداء عن دائرة النسخ، في حين أننا نجد رأي السيد الخوئي([9]) والعلاّمة الطباطبائي([10]) بشأن النسخ من السعة بحيث يشمل البداء أيضاً. لقد ذهب الأستاذ معرفت في بحثه المقارن بين النسخ والبداء ـ ضمن اعتباره كلا الأمرين ناشئاً عن تصوّر خاطئ في ظهور رأي جديد لله تعالى ـ إلى القول بأن ظهور شيء أو أمر للناس بعد أن كان خافياً عليهم في ما يتعلّق بكلٍّ من: النسخ والبداء يمثِّل الخصيصة المشتركة بين هذين المفهومين. ويرى سماحته أن التفاوت بين النسخ والبداء يتحدَّد ضمن الدائرة الاصطلاحية لكلٍّ منهما([11]).
أنواع النسخ في القرآن ــــــ
إن الذي ذكره المختصون في العلوم القرآنية تحت هذا العنوان يشمل الأنواع المحتملة للنسخ في القرآن الكريم. ومن هنا يتمّ بحث ونقد كلا نوعَيْ نسخ الحكم والتلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم، رغم عدم مقبوليتهما عقلاً؛ لأنهما يعنيان في واقع الأمر القول بوقوع التحريف بالنقصان في القرآن الكريم.
كما يرى الأستاذ معرفت أن هذين النوعين من النسخ ـ المرفوضين في مجال التحقيق، والبعيدين عن شأن القرآن الكريم ـ فاقدان للتبرير بالمرّة. وقد أشار سماحته في ردّ نسخ الحكم والتلاوة إلى عدم وجود مصداق لهذا النوع من النسخ في القرآن. واستغرب الحديث المنقول عن عائشة بشأن الرضاع، معتبراً نتيجته التلاعب بالقرآن. كما رفض أن تمحى آية من صدور الناس وكتابات كتّاب الوحي لمجرّد أكل الداجن لصحيفة([12])!
وقد استدلّ معرفت لإثبات بطلان نسخ التلاوة دون الحكم بالأدلة التالية:
1ـ إن القائل بهذا النوع من النسخ إنّما يتمسّك بأخبار الآحاد التي زعم أنها صحيحة الأسناد، مع أن نسخ آية محكمة شيء لا يمكن إثباته بأخبار الآحاد، التي لا تفيد سوى الظن.
2ـ إن القول بمثل هذا الأمر يتنافى مع مصلحة نزول الآية أو الآيات؛ إذ لو كانت المصلحة التي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعي ثابت فلماذا ترفع الآية وحدها، في حين تقتضي المصلحة بقاءها؛ لتكون سنداً للحكم الشرعي المذكور.
3ـ إن القول بذلك يعني الالتزام بوقوع التحريف في القرآن الكريم، وهو ما يرفضه الشيعة رفضاً قاطعاً.
ثم استطرد الأستاذ معرفت بعد ذلك مبيِّناً آراء المحقِّقين الكبار في مدرسة أهل البيت^، وأسف على عدم استناد الأدلة للأسس، واستغرب تجاهل ابن حزم الأندلسي لقيمة العقل وأفضليّته، رغم اشتهاره بالتحقيق ودقّة النظر([13]).
والملفت للانتباه والتأمُّل في أبحاث الأستاذ معرفت أنه في بداية أبحاثه ذهب إلى الاعتقاد بوقوع النسخ في القرآن، وأثبت وقوع النسخ في عشرين آية من بين مجموع الآيات المنسوخة، إلاّ أنه في العقد الأخير من حياته صار إلى إنكار وقوع النسخ الاصطلاحي([14]) في القرآن الكريم.
إن هذا التنوُّع في المواقف والآراء يعكس الحرّية الفكرية والتحقيقية التي يتحلّى بها الأستاذ معرفت، حيث يمتلك شجاعة التخلّي عن رأي دافع عنه لسنوات، ويتبنى موقفاً ورأياً جديداً ومغايراً للرأي السابق تماماً. وفي الحقيقة فإن سماحته قد أدرك في ظلّ التحقيق ودراساته العلمية عدم وجود شاهد على وقوع النسخ في القرآن الكريم، وأن جميع الآيات المنسوخة يمكن حملها على معنى الثابت والمحكم.
من هنا فإننا سوف نقوم في البداية ببيان الرأي الأول للأستاذ معرفت، مع مناقشة مبانيه، لننتقل بعد ذلك إلى التذكير بأدلّته في خصوص إنكار وقوع النسخ في القرآن الكريم.
دراسة الرأي الأول للأستاذ معرفت ــــــ
وقوع النسخ في القرآن الكريم ــــــ
في معرض بحث الآراء ندرك عدم وجود اختلاف بشأن جواز النسخ. كما نجد ذلك في موارد ملموسة في بعض الأحكام الشرعية، من قبيل: تغيير اتجاه القبلة. وأما مورد الاختلاف فهو عبارة عن نسخ حكم من الأحكام الموجودة في القرآن الكريم بآيةٍ أخرى أو بالسنّة أو الإجماع.
يذهب أغلب المختصين في العلوم القرآنية إلى الاعتقاد بإمكان نسخ آية من القرآن الكريم بآيةٍ أخرى. وإن الروايات التي يرى فيها أئمة الشيعة معرفة الناسخ والمنسوخ مفتاحاً لفهم القرآن، وما تمّ التأكيد عليه من قبل أمير المؤمنين في هذا الشأن([15])، وكذلك الروايات التاريخية في وصف مصحف الإمام علي× واشتماله على الناسخ والمنسوخ، هي من بين الأدلة الروائية التي يسوقها القائلون بوقوع النسخ في القرآن الكريم.
وفي دائرة آيات القرآن الكريم، يتمّ الاستناد إلى قوله تعالى:
ـ ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 106).
ـ ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 101).
وفي دائرة العقل تعتبر ضرورة تغيير الأحكام بما يتناسب والتحوّل في الشرائط والمقتضيات من أهمّ الأدلة العقلية التي يسوقها القائلون بوقوع النسخ في القرآن.
إن الأستاذ الفقيد معرفت في كتابه «التمهيد في علوم القرآن» ـ رغم تأليفه على أساس الاعتقاد بوقوع النسخ في القرآن الكريم ـ لم يعقد بحثاً مستقلاًّ بشأن إثبات هذه الرؤية. وإنما اكتفى في المقدّمة بمجرد القول بضرورة ظاهرة النسخ، معلناً أن التشريع المؤثر في مسار التطور إلى المستويات العليا من الرقي والحضارة بحيث يستدعي ضرورة وقوع النسخ وتغيير القوانين والأحكام. كما أنه عمد في الواقع ـ من خلال التذكير ببعض الروايات بشأن تأكيد أهل البيت^ على ضرورة الاهتمام بظاهرة النسخ ـ إلى بيان الأدلة النقلية على وقوع النسخ في القرآن الكريم.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن النسخ المتصوَّر في القرآن الكريم في ضوء الرأي الأول للأستاذ معرفت بشأن النسخ عبارةٌ عن:
1ـ نسخ الحكم، وبقاء التلاوة.
2ـ النسخ المشروط.
نسخ الحكم وبقاء التلاوة ــــــ
يرى الأستاذ معرفت أن نسخ مفاد آية من القرآن يمكن تصوّره على ثلاث صور، وهي:
1ـ أن ينسخ مفاد آية كريمة بسنّةٍ قطعية أو إجماع محقّق، كآية الإمتاع إلى الحَوْل بشأن المتوفّى عنها زوجها؛ فإنها ـ بحَسَب ظاهرها ـ لا تتنافى مع آية العدد والمواريث. غير أن السنة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا وقوع هذا النوع من النسخ.
2ـ أن يُنسخ مفاد آية بآيةٍ أخرى، بحيث تكون الآية الثانية ناظرة إلى مفاد الآية الأولى، ورافعة لحكمها بالتنصيص. وبديهي أن المراد من نزول الآية الثانية في هذه الصورة هو رفع حكم الآية الأولى، كما في آية النجوى.
3ـ أن تنسخ آية بآيةٍ أخرى من غير أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى. ومن البديهي اشتراط التنافي التامّ بين الآيتين في هذه الصورة؛ وذلك لأننا بسبب هذا التنافي وعدم إمكان الجمع بين التشريعين نعتبر الآية الثانية ناسخةً للآية الأولى([16]).
ويبدو أن النسخ من النوع الثالث ـ طبقاً لرؤية معرفت ـ واقعٌ في القرآن الكريم أيضاً، بمعنى أن تكون هناك آيتان قد نزلت كلّ واحدة منهما لإفادة غرضٍ خاص، ولا يوجد بينهما ارتباطٌ خاص من الناحية المفهومية، وحيث لا يمكن الجمع التشريعي بينهما لا بُدَّ من اعتبار إحداهما ـ لتأخُّرها ـ ناسخة للأخرى. في حين أن النسخ طبقاً لتعريفه يعني أن الآية الناسخة إنما تنزل لإزالة الآية المنسوخة بالكامل، وأن تحلّ محلها من حيث التشريع.
وفي ما يتعلّق بالإجابة عن الشبهة القائلة بأن العلّة والسبب في تغيُّر الحكم هو الخطأ أو الجهل الإلهي أشار سماحته إلى ظاهرية التنافي والانقضاء الحقيقي والواقعي والخفي لمدّة التشريع الأول. وهكذا يتمّ افتراض انتفاء شبهة وجود الاختلاف في القرآن. بَيْدَ أننا إذا التزمنا بوقوع النسخ من النوع الثالث في القرآن لا بُدَّ لنا ـ على ما يبدو ـ من القول بوجود الاختلاف في القرآن الكريم. وفي ذلك يقول تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82)، رغم أن الأستاذ معرفت قد اعتبر في رأيه الأوّل هذا النوع من التنافي تنافياً ظاهرياً أيضاً، وقال بترتُّب الحكمة من النسخ عليه([17]).
الآيات المنسوخة ــــــ
لقد واصل الأستاذ معرفت بحثه في إثبات إمكان وقوع النسخ في القرآن بمناقشة عدد من الآيات المنسوخة، التي اعتقد بأنها قد واجهت تبريرات بعيدة عن الواقع من قبل منكري النسخ. وفي ما يلي نكتفي ـ رعايةً للاختصار ـ بذكر آيتين من الآيات العشرين التي ذهب الأستاذ معرفت إلى اعتبار نسخها.
وقوع النسخ في آية النجوى ــــــ
كان المسلمون؛ لاتّصاف النبي الأكرم| بحسن الخلق، يكثرون من زيارته واللقاء به، وكانوا يلحفون عليه بأسئلتهم الكثيرة الخاصة، فيشغلون بذلك وقته الشريف. من هنا فقد نزل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المجادلة: 12)، وأوجبت على المتمكنين مادّياً دفع صدقة مالية قدرها درهم لمَنْ يريد منهم اللقاء الخاصّ بالنبي الأكرم|. وبذلك قلّ عدد الذين كانوا يكثرون من زيارة النبي، ويحتكرون أوقاته لأنفسهم، واقتصر اللقاء على الذين كانوا يلتقون بالنبيّ لأمورٍ جسيمة وخطيرة، وكانوا يفضِّلون لقاء النبي على الدنيا وما فيها. ولم تمْضِ سوى فترة قصيرة حتّى نزل قول الله تعالى: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المجادلة: 13)، فنسخ هذا الوجوب.
وقد ذهب الأستاذ معرفت ـ في ضوء رأيه الأوّل ـ إلى القول بأن نسخ هذه الآية هو من النوع الثاني، بمعنى أن مفاد الآية الثانية ناظرٌ إلى الآية الأولى، ومن ثمّ لم يناقش فيه أحدٌ([18]).
وجدير بالذكر ـ بطبيعة الحال ـ أن السيد الخوئي، وهو من المنكرين لوقوع النسخ في القرآن الكريم، قال بشأن هاتين الآيتين: «على ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ، وأن الحكم المجعول بالآية الأولى قد نسخ وارتفع بالآية الثانية»([19]). وبذلك فقد ذهب سماحته إلى اعتبار الآية الثانية ناظرةً إلى الآية الأولى.
وقوع النسخ في آية الإمتاع ــــــ
كانت عدّة المتوفى عنها زوجها ـ في الجاهلية ـ سنة كاملة، فلا تكتحل، ولا تتمشّط، ولا تتطيَّب، ولا تتزوَّج إلى سنة، وكان ورثة الميّت لا يخرجونها من بيتها، وكانوا يجرون عليها من تركة زوجها طوال تلك السنة، وكان ذلك هو إرثها من مال زوجها المتوفى. وقد نزلت آية الإمتاع: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً ِلأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 240) تأييداً وتقريراً لجانبٍ من هذه العادة. بَيْدَ أنها نسخت بعد فترةٍ بآيتين، وهما: آية المواريث؛ وآية العدد([20]).
وطبقاً لآية العدد فقد تقلَّصت فترة عدّة المتوفى عنها زوجها من سنة كاملة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، بمعنى أن المرأة تمتنع خلال تلك الفترة من الزواج، في حين لم تشتمل آية الإمتاع على منعٍ من الزواج.
وكذلك طبقاً لآية المواريث تمّ تعيين نسبة مئوية محدّدة من أموال المتوفّى بوصفها إرثاً للمرأة، وأن مجرَّد توفير مصارف لها أثناء السنة لا يعفي ورثة الميت من إعطاء المرأة حقَّها من التركة.
وقد استند الأستاذ معرفت في إثبات نسخ آية الإمتاع إلى الحول إلى إجماع علماء الأمة واتفاق المفسِّرين. وقال سماحته بأن مجموع روايات العامة والخاصة بهذا الصدد ربما تبلغ حدّ التواتر… وأن أقوى دليل على تحقُّق هذه الإجماع أن أحداً من فقهاء الأمّة ـ سلفاً وخلفاً ـ لم يأخذ بمفاد الآية الأولى [آية الإمتاع]، ولم يُفْتِ بمضمونها، لا فرضاً، ولا ندباً، الأمر الذي يدلّ دلالة واضحة على اتّفاقهم على أن الآية منسوخة([21]).
أدلة الأستاذ معرفت في إثبات نسخ الآيات ــــــ
لقد عمد الأستاذ معرفت في ما يتعلّق بتحليل نسخ الآيات أو عدم نسخها في خصوص آية النجوى إلى الاكتفاء بمجرّد التقرير، معتبراً نسخ هذه الآية أمراً لا يقبل النقاش. وأما في مورد سائر الآيات فقد أخضعها للبحث الدقيق. وإن أسلوبه في نقد ومناقشة هذه الآيات ـ والذي في ضوئه لم يثبت عنده نسخ سوى عشرين آية على نحو القطع واليقين ـ هو على النحو التالي:
1ـ الاستناد إلى إجماع العلماء: حيث استند سماحته إلى هذا الإجماع في إثبات نسخ آية الإمتاع([22]). وعلى الرغم من أنه في خصوص هذه الآية يعتبر الروايات الواردة من طرق العامة والخاصة بالغة حدّ الإجماع، إلا أنّه في خصوص إجماع العلماء لا يتعرّض إلى بيان كاشفيّته عن قول المعصوم×. وربما كان مراده من هذا الإجماع اتفاق كلمة العلماء على عدم تأثير هذه الآية في الإفتاء، كما أشار إلى ذلك لاحقاً([23]).
2ـ الاستناد إلى اتفاق المفسِّرين: حيث استند سماحته إلى ذلك في معرض إثبات نسخ خمس آيات، ومنها: آية الإمتاع إلى الحول([24])، وعدد المقاتلين([25])، وارتكاب الفاحشة([26])، والتوارث بالإيمان([27])، وما إلى ذلك.
وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: هل يمكن اعتبار اتفاق كلمة المفسِّرين في إثبات النسخ؟ وهل كلُّ ما جاء في كتب التفسير منبثقاً عن التحقيق والتتبُّع؟ ألا تعدّ آفة النقد المفتقر إلى التحليل من المشاكل الجادّة التي تعاني منها مصادرنا التفسيرية؟ وعليه لا يمكن اعتبار مجرّد اتفاق المفسِّرين على رأيٍ دليلاً على صحّته، إلاّ إذا تمّ تأييده بأدلةٍ أخرى ثبت اعتبارها في أساليب ومناهج تحقيق وتحليل النصوص الدينية.
3ـ أخذ شرائط تحقُّق النسخ بنظر الاعتبار: في هذا الشأن يحظى التنافي أو عدم التنافي بين الآيتين بالحظّ الأوفر.
4ـ الاهتمام بتعريف النسخ، واختلافه عن تعريف التخصيص والتقييد: إن عدد الآيات التي تخصِّص الآيات العامة ليس بالقليل. وقد نشأ هذا الاشتباه من فهم بعض المتقدِّمين لمفهوم النسخ. وقد عمد الأستاذ معرفت ـ من خلال هذا الطريق ـ إلى إنكار نسخ الكثير من الآيات.
5ـ الأساليب الأخرى: يمثِّل التحليل المنطقي للكلام، والتفسير الحقيقي للآيات، والاهتمام بالعلوم القرآنية والحديث، والتحليل الأصولي، والتحقيقات الأدبية للكلام، واعتبار وتقييم النقول التاريخية، من بين الأساليب الأخرى المعتمدة في هذا الشأن. إن القائمة التي يذكرها سماحته في نهاية الجزء الثاني من كتاب «التمهيد» يرسم جدولاً بيانياً لدراساته وأبحاثه التحقيقية. وإن سماحته بعد التحقيق بشأن 228 آية يحتمل تحقُّق النسخ فيها لم يثبت عنده تحقُّق النسخ إلاّ في عشرين منها فقط.
مناقشة الرأي الأخير للأستاذ معرفت في مفهوم النسخ ــــــ
إنكار تحقُّق النسخ (بالمعنى المصطلح) في القرآن ــــــ
هناك من العلماء المختصين في العلوم القرآنية مَنْ يرى استحالة النسخ في الأحكام الإلهية مطلقاً. وفي مقام إثبات هذا الادّعاء يرى أن لازم الاعتقاد بالنسخ هو القول بإمكان نسبة الجهل إلى الله، أو نسبة الضعف إليه في التشريع. ومن الواضح أن هذا الادعاء والاستدلال يقوم على الرؤية الأحادية إلى مسألة التشريع الإلهي؛ إذ إن صدور كلّ حكم من قبل الله لا يكون لزاماً بقصد إجرائه وتطبيقه على أرض الواقع فقط، بل قد يكون الغرض من تشريعه هو مجرّد الاختبار أو إتمام الحجّة. وفي مثل هذه الحالة يكون كلٌّ من التكليف ورفع التكليف مشتملاً على حكمة ومصلحة([28])، وليس ناشئاً عن نسبة الجهل إلى الله، أو ضعفه! مضافاً إلى أن النسخ بالخصوص هو حكم قد تمّ تشريعه منذ البداية لفترة معيَّنة، وأنه بعد انقضاء تلك المدّة ينسخ بتشريع آخر.
والذي يبدو أنه لم يكن هناك ـ حتى بداية القرن الهجري الرابع ـ أثر لإنكار وقوع النسخ في القرآن. وفي مطلع هذا القرن عمد محمد بن بحر، أبو مسلم، الإصفهاني(322هـ)، إلى إنكار النسخ المصطلح. ثم عمد ـ الفقيه الشيعي ـ ابن الجنيد(181هـ) إلى اتباعه في هذه النظرية. كما شهد القرن الهجري الثالث عشر ظهوراً للقائلين بإنكار وقوع النسخ في القرآن الكريم. وقد ألّف السيد هبة الله الشهرستاني في العراق، ووليّ الله السرابي في إيران، في الدفاع عن هذا الاعتقاد([29]).
وقد شهد القرن الهجري الرابع عشر تزايداً كبيراً للقائلين بهذا الرأي. وقد كان هذا التحوّل بين علماء أهل السنّة أكثر وضوحاً. وكان السيد الخوئي والسيد مرتضى العسكري ـ وهما من علماء الشيعة ـ من الذاهبين إلى إنكار وقوع النسخ في القرآن الكريم أيضاً.
ومال الأستاذ معرفت بدوره ـ رغم اعتقاده أوّل الأمر بوقوع النسخ الاصطلاحي في القرآن، وقطعه بوقوع النسخ في بعض آيات القرآن ـ مال في العقد الأخير من حياته المباركة إلى الالتحاق بصفوف المنكرين لوقوع النسخ الاصطلاحي.
لسنا هنا بصدد بيان أدلة المنكرين للنسخ بالمعنى الاصطلاحي، وإنما نكتفي بالتذكير بأن الكثير من أدلة المنكرين للنسخ المذكور ـ ولا سيَّما بين أهل السنّة ـ كان منبثقاً عن التعريف الذي قدَّموه للنسخ، أو بسبب الإنكار الذي صدر عنهم بمقتضى الزمان في الدفاع عن القرآن في مواجهة طعون وشبهات المستشرقين على المسلمين.
إن العلماء الشيعة الثلاثة البارزين الذين انخرطوا في سلك المنكرين لوقوع النسخ الاصطلاحي في القرآن لم يتبنَّ أيّ واحد منهم أدلّة سائر المنكرين للنسخ، إنما ذهب هؤلاء العلماء الثلاثة بأجمعهم إلى القول بعدم وجود شاهد على وجود الآيات المنسوخة في القرآن الكريم. وفي هذا البين ذهب الخوئي وحده إلى وقوع النسخ في آية النجوى فقط، رغم أنه ذكر لهذا النسخ الكثير من القيود والشرائط والإيضاحات([30]).
أما السيد مرتضى العسكري فقد أنكر وقوع النسخ في القرآن بالمطلق، ولم يرتضه حتّى في آيةٍ واحدة؛ إذ يذهب العلاّمة العسكري إلى القول بأن نزول حكم مؤقَّت على النبيّ| إنما كان من غير طريق الوحي القرآني، وبعد أن تنقضي فترة ذلك الحكم ونسخه بواسطة وحي غير قرآني آخر كان يتمّ إعلام المسلمين بنسخ ذلك الحكم من خلال القرآن، أو يتمّ في الأساس نسخ الحكم بواسطة الوحي القرآني([31]). وعليه لا توجد في القرآن حتّى آية واحدة منسوخة، وإنْ أمكن العثور على آيات ناسخة في القرآن الكريم.
الأستاذ معرفت وإنكار وقوع النسخ في القرآن الكريم ــــــ
إن المتوفر لدينا عن الأستاذ معرفت في بيان رأيه الأخير بشأن النسخ قليلٌ للغاية؛ فإن الإشارات الموجودة في الطبعات الأخيرة لكتابه «علوم قرآني»، ومقالة له في فصلية «بيّنات»، بالإضافة إلى حوار أجرته هذه المجلة مع سماحته، هي كلّ ما توفَّر لدينا بشأن كلامه في إنكار النسخ.
والدليل الرئيس الذي يقدِّمه سماحته على إنكار النسخ بالمعنى المصطلح في القرآن الكريم هو عدم وجود شاهد على تحقُّق النسخ في القرآن. يرى الشيخ معرفت أن ما ذكر بوصفه شاهداً على تحقُّق النسخ في آيات القرآن يمكن مناقشته وحمله على معنى الثابت والمحكم([32]).
وفي ما يلي نستعرض نموذجين من الآيات التي ذهب الأستاذ معرفت إلى وقوع النسخ فيها طبقاً لرأيه الأول. بَيْدَ أنهما طبقاً لرأيه الأخير لا يتنافيان، ولا ينطبق عليهما مفهوم النسخ.
عدم النسخ في آية النجوى ــــــ
يقول الأستاذ معرفت بشأن آية النجوى، التي ذهب المشهور إلى القول بنسخها: إن هذه الآية تشتمل على حكم حكومي، وليس حكماً شرعياً، وكما نعلم فإن الحكم الحكومي إنما ينزل في شرائط خاصة، وفي مورد شخص خاصّ، وزمن خاص، وعليه لا يرتبط هذا المورد بمقولة النسخ؛ فإن من بين شرائط تحقُّق النسخ أن يكون الحكم شرعياً. إن نزول هذه الآية قد عمل على رسم أرضية ليفهم الصحابة من خلالها أن الحوار الخاص مع النبي الأكرم| يجب أن يقتصر على الأمور الهامة والضرورية. وبعد تحقُّق هذه الغاية، وانخفاض تردُّد الصحابة على النبي، تنتفي الضرورة إلى دفع الصدقة قبل الدخول على النبيّ للتحاور معه في الشؤون الخطيرة والهامة([33]). من هنا فإن المضمون التربوي الذي تنطوي عليه آية النجوى لا يزال سارياً، ولم ينتفِ العمل به أبداً. إن حقيقة هذه الآية هي التوصية بعدم إزعاج أولي الأمر، وهذا الأمر لا يزال قائماً. وعليه كيف يمكن اعتبار هذه الآية منسوخة؟
عدم نسخ آية الإمتاع إلى الحول ــــــ
في ما يتعلّق بآية الإمتاع إلى الحول، التي تقدِّر عدّة المتوفى عنها زوجها بسنة كاملة، ذهب المشهور إلى نسخها بآية العدد التي حدّدت عدّة المرأة إذا توفي عنها زوجها بأربعة أشهر وعشرة أيام، وبآية المواريث التي تحدّد للزوجة سهماً ونسبة مئوية محدّدة من تركة الزوج. بَيْدَ أن الأستاذ معرفت، بعد أن أشار إلى رأي السيد الخوئي القائل بعدم وجود التنافي بين هذه الآيات، مال إلى القول بأن مفاد آية الإمتاع تكليف إرفاقي، وليس إلزامياً. ثم استطرد سماحته قائلاً: «لقد أمعنّا النظر في هذه الآية، وتوصلنا إلى أنها تتعلّق بأولئك الذين يتزوَّجون مجدّداً في سنين متقدّمة، وفي العادة لا تنجب زوجاتهم المتأخِّرات؛ إذ لو كان لهنّ ولدٌ لما تمكّن الورثة من إخراجهنّ من بيوتهنّ. فتأتي هذه الآية، وتنصح بعدم إخراجهنّ، إلاّ إذا أردْنَ الخروج برغبتهنّ»([34]).
وفي قسمٍ من الحوار الذي أجرته مجلة بينات مع الأستاذ معرفت أشار سماحته إلى كلام شفهي عن السيد الخوئي، إذ يقول: «إن القرآن الكريم نفسه ينفي وجود الاختلاف بين الآيات، فكيف يسوغ الاستدلال على وقوع النسخ من خلال إثبات وجود الاختلاف في القرآن؟!».
ويبدو أن هذا الأمر من بين المباني التي دعَتْ الأستاذ معرفت إلى تغيير رأيه بشأن النسخ؛ حيث أخذ يرى إمكان حمل جميع الآيات ـ التي كان يراها منسوخة ـ على وجه حكمها، وأنكر وجود أيّ نوعٍ من أنواع الاختلاف في القرآن الكريم.
مناقشة أدلّة الأستاذ معرفت ــــــ
إن عدم وجود شيء مكتوب على نحو التفصيل من قبل الأستاذ معرفت بشأن رأيه الأخير حول النسخ ترك بعض الغموض والإبهام في هذا الخصوص. ومن ذلك أن سماحته يشير إلى التفاوت بين النسخ الظاهري والنسخ الاصطلاحي، في حين أن التنافي القائم في النسخ الاصطلاحي ظاهري أيضاً؛ وذلك لأن القائلين بالنسخ يؤكّدون في الإجابة عن الشبهات على الصورة الظاهرية لوجود التنافي في النسخ. كما أن الأستاذ معرفت نفسه قد أجاب عن شبهة نقض قول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82) على طبق مبناه الأول، قائلاً: «إن الاختلاف الذي تنفيه الآية الكريمة هو ما إذا كان حقيقياً في ظرف الواقع. أما إذا كان شكلياً وفي ظاهر الآية ـ كما بين الناسخ والمنسوخ ـ فلا تناقضه الآية إطلاقاً»([35]).
لا يبدو أن القائلين بالنسخ يذهبون إلى وجود التنافي الحقيقي بين الناسخ والمنسوخ، وبالتالي فإنهم لا يلتزمون بوجود التنافي في القرآن على نحوٍ يستلزم نفي أصالته. من هنا لا يكون تفكيك الأستاذ معرفت بين النسخ الظاهري والنسخ الاصطلاحي مفهوماً.
الأمر الآخر المطروح في الرأي الأخير للأستاذ معرفت نظرته إلى مفهوم الناسخ والمنسوخ في الروايات، حيث يرى سماحته أن المراد من عنوان الناسخ والمنسوخ المذكور في الروايات هو التخصيص والتقييد. وربما أمكن القول في الرؤية الشمولية: إن موارد من التخصيص والتقييد تندرج في دائرة النسخ.
ولكنْ كيف يتمّ في مثل هذه الحالة توجيه الروايات التي تذكر مفردات الناسخ والمنسوخ في سياق ذكرها للعامّ والخاصّ أو الإطلاق والتقييد؟ فعلى سبيل المثال: ما جاء في الخطبة الأولى من نهج البلاغة: «كِتابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ، مُبَيِّناً حَلالَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرائِضَهُ وَفَضائِلَهُ، وَناسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزائِمَهُ، وَخاصَّهُ وَعامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشابِهَهُ»([36]).
كما أنّ الأئمة الأطهار^ قد عمدوا في بعض الروايات إلى بيان المعنى الاصطلاحي من النسخ([37]). وعليه لم يتَّضح ما هو الجواب الذي يمكن للأستاذ معرفت أن يقدِّمه في هذا الشأن.
وربما كان المراد أن نعلم بأن الآية لم تفقد جدوائيتها، وأنها سارية المفعول على الدوام؛ إذ إننا لو أدرجنا التخصيص والتقييد في دائرة النسخ فإن حكم الآية لا يرتفع بشكلٍ كامل، ويبقى تطبيقه سارياً.
وباختصارٍ: إنّ الأصول الهامّة للأستاذ معرفت في إنكار وقوع النسخ الاصطلاحي في القرآن الكريم عبارة عن:
1ـ إن الاعتقاد بوقوع النسخ في القرآن الكريم يستلزم القول بوجود الاختلاف والتهافت في القرآن الكريم.
2ـ إن الدائرة المفهومية للنسخ في روايات الأئمة الأطهار^ تشمل التخصيص والتقييد أيضاً.
3ـ إن القول بوقوع النسخ في القرآن يؤدّي إلى تعطيل وتجاهل مفاد بعض الآيات.
ومن الجدير بالذكر أن سماحته منذ البداية لم يكن معتقداً بسعة دائرة النسخ في آيات القرآن الكريم، وكان بصدد تحديد الآيات المنسوخة. ثمّ أذعن في ظلّ خمسين سنة من البحث والتمحيص، وصار إلى القول: «لقد أدركتُ بمرور الوقت أن الحقّ هو ما كان يقوله السيد الخوئي من إنكار النسخ»([38]).
وللأسف الشديد فإن الحضور القصير للأستاذ بيننا لم يتَّسع لرفع الإجمال والإبهام عن وجه رأيه الأخير. على أمل أن نعثر في مخطوطات سماحته المتبقّية مادة توفِّر الإجابة الشافية عن هذه الأسئلة.
إبداعات الأستاذ معرفت في مجال النسخ ــــــ
في دراستنا لما ذكره الأستاذ معرفت في بيان مسألة النسخ عثرنا على بعض المصطلحات التي يبدو أنه لم يسبق لأحدٍ أن استعملها قبله. وقد رأينا في ختام هذه الرسالة أن نأتي على ذكرها باختصارٍ، وذلك على النحو التالي:
النسخ المشروط ــــــ
لقد ذكر الأستاذ معرفت ـ مضافاً إلى الأنواع الثلاثة المتصوّرة للنسخ في القرآن الكريم ـ نوعاً آخر من النسخ يمكن تصوُّره في القرآن الكريم أيضاً، وعنوانه: «النسخ المشروط»([39]).
والحقيقة أنّ الشيخ معرفت لا يعتبر النسخ المشروط نسخاً، بل يراه عبارة عن سلسلة من الأحكام المتعدِّدة، يرتبط كلّ واحدٍ منها بشرائطه وظروفه الخاصة([40]). ثم أشار سماحته إلى أن تغيُّر الحكم بسبب تغيُّر الشرائط لا يُعَدّ نسخاً.
والحقيقة أنّ النسخ المشروط يفتقر إلى أحد شروط تحقُّق النسخ، ألا وهو شرط وحدة الموضوع.
وإن ملاحظة المثال الذي ذكره الأستاذ معرفت في هذا الشأن يساعد على بيان المسألة بشكلٍ أوضح([41]).
يذهب الأستاذ معرفت إلى القول بأن جميع آيات الصفح عن المشركين إنما تعود إلى فترة ضعف المسلمين إبّان وجودهم في مكة المكرّمة. أما في فترة وجود المسلمين في المدينة المنوّرة، حيث أصبحوا ذوي سطوة وشوكة، فقد كانت التعاليم بضرورة المواجهة والتعامل بالمثل في صدّ العنف الصادر عن المشركين وأهل الكتاب. فتكون آيات الصفح بذلك منسوخةً. كما يذهب سماحته إلى الاعتقاد بأن كلا الحكمين؛ حيث تمّ تشريعهما على أساس شرائط مختلفة، يمكن تكرارهما عند تحقُّق شرائطهما. ويبدو أن هذا الجهد يأتي في سياق رفع التعطيل عن الآيات الإلهية، واستمرار المفاهيم القرآنية السامية ساريةً في جميع العصور والأجيال. كما تمّ التعبير عن هذا النوع من النسخ من قبل الأستاذ معرفت بـ «النسخ التدريجي» أيضاً([42]).
النسخ التمهيدي ــــــ
قد يقوم الشارع المقدّس أحياناً بإعداد الأرضية لنسخ شيءٍ في إطار القضاء على بعض العادات والتقاليد الخاطئة المتجذِّرة بين الناس، حيث يعمد أوّلاً إلى تشريع حكم متناغم مع ما يراه المجتمع، ثم يتمّ التراجع عنه من خلال بيان مدى قبح ذلك التقليد الخاطئ في المجتمع([43]).
وبعبارةٍ أخرى: عندما لا تكون هناك إمكانية إلى إبطال وإلغاء عادةٍ أو تقليدٍ ما بشكل صريح ومباشر ودون مقدمات، أو إذا كانت تبعات إبطاله باهظة الثمن أو تتجاوز الحدّ المتعارف، لا بُدَّ حينها؛ من أجل تحقيق هذا الهدف المتمثِّل بهداية المجتمع، من التمهيد وإعداد الأرضية؛ ليكون المجتمع مستعدّاً لتقبُّل الأسلوب الأمثل والمطلوب للدين.
وإن ظاهرة الرقّ، وترخيص ضرب الزوجة، من مصاديق هذا النوع من النسخ؛ حيث يرى الأستاذ معرفت أن آية الضرب إنما نزلت كي تثير فضول الناس؛ لكي يسألوا عن معنى هذا الضرب. ومن خلال توجيهات النبي الأكرم يتمّ بناء الأرضية المناسبة لإلغاء عادةٍ قبيحة كانت سائدة في العصر الجاهلي؛ وذلك لأن النبي الأكرم| قد أشار في معرض بيانه لكيفية الضرب إلى أن يكون غير مبرح أو موجع، وأن لا يترك أَثَراً على الجسم، وبذلك لا يكون ضرباً حقيقياً([44])، وبذلك يبطل الضرب الذي كان الزوج يرتكبه بحقّ زوجته في الجاهلية.
وعلى هذا الأساس فإن اختيار مفهوم النسخ لهذا الأسلوب التربوي إنما يعني الإعداد لنسخ عادةٍ قبيحة، لا بمعنى نسخ حكم شرعي.
خلاصةٌ واستنتاج ــــــ
ممّا قدّمناه في هذه العجالة أدركنا أن الأستاذ معرفت في ظلّ دراساته وأبحاثه العلمية بعد سنوات من الاعتقاد بوجود آيات منسوخة في القرآن، وما بذله من الجهود العلمية في إطار إثبات هذا الاعتقاد، توصَّل إلى نتيجة مختلفة، حيث اقتدى بأستاذه المبرّز الخوئي، فأنكر وقوع النسخ بالمعنى المصطلح في القرآن الكريم.
والمهم في البين أن سماحته لم يأخذ بالنتائج التي توصّل إليها العلماء السابقون بوصفها أموراً قطعية لا تقبل النقاش، ولم يقبل بأيّ مسألة منبثقة عن تحقيقات المتقدمين، إلاّ بعد دراستها بنفسه دراسةً دقيقة.
ويبدو أن الأستاذ لم يحْظَ بفرصة تبويب وتبيين مستنداته في إثبات رأيه الأخير، ومن هنا لم يكن بالإمكان توجيه النقد أو البحث الدقيق في هذا الرأي؛ بسبب ندرة مصادره وأدلته.
وقد كان أساس رؤيته قائماً على نفي الاختلاف والتهافت بين آيات القرآن الكريم، وهو ما بيَّنه القرآن أصلاً. وعليه يبدو أن رأي الأستاذ يقوم على تغير تعريف النسخ وشروطه أيضاً؛ إذ إن التنافي بين الآية الناسخة والمنسوخة في رأيه الأول لم يكن واقعياً، إلاّ أنه لم يقدِّم تعريفاً جديداً مشتملاً على شروط مناسبة له.
الهوامش
(*) كاتبٌ وباحث في الحوزة العلميّة في مدينة مشهد.
([1]) انظر: عزت الله مولائي نيا، نسخ در قرآن: 28.
([2]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 274.
([3]) انظر: عزت الله مولائي نيا، نسخ در قرآن: 48 ـ 64.
([4]) انظر: محمد هادي معرفت، علوم قرآني: 225.
([5]) انظر: عزت الله مولائي نيا، نسخ در قرآن: 101 ـ 130.
([6]) محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 270، مطبعة مهر، 1397هـ.
([7]) انظر: محمد هادي معرفت، علوم قرآني: 226 ـ 227.
([8]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 282 ـ 285.
([9]) انظر: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 278.
([10]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية 106 من سورة البقرة.
([11]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 279 ـ 281.
([12]) انظر: المصدر السابق 2: 285 ـ 289.
([13]) انظر: المصدر السابق 2: 289 ـ 293.
([14]) من الجدير بالذكر أن معرفت يذهب إلى الاعتقاد بالنسخ المشروط والنسخ التمهيدي. ومن هنا فإنه لا يعتبر منكراً للنسخ بالمطلق، ولكنّه يذهب ـ مثل أستاذه الخوئي ـ إلى رفض النسخ بالمعنى المشهور والمصطلح (بمعنى نسخ وإبطال الحكم الشرعي السابق بتشريع لاحق) بشكلٍ كامل.
([15]) انظر: الشريف الرضي، نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
([16]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 288 ـ 289.
([17]) انظر: المصدر السابق 2: 296.
([18]) انظر: المصدر السابق 2: 296 ـ 297.
([19]) أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 278.
([20]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 299.
([21]) انظر: المصدر السابق 2: 299 ـ 300.
([22]) انظر: المصدر السابق 2: 305.
([23]) انظر: المصدر السابق 2: 306.
([24]) انظر: المصدر السابق 2: 305.
([25]) انظر: المصدر السابق 2: 303.
([26]) انظر: المصدر السابق 2: 307.
([27]) انظر: المصدر السابق 2: 311.
([28]) انظر: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 280.
([29]) انظر: عزت الله مولائي نيا، نسخ در قرآن: 261 ـ 262.
([30]) انظر: المصدر السابق: 494 ـ 503.
([31]) انظر: مرتضى العسكري، القرآن الكريم وروايات المدرستين، نقلاً عن: مجلة بينات، العدد 27: 56 ـ 66.
([32]) انظر: مجلة بينات، العدد 44: 106، مؤسّسة الإمام الرضا×، قم المقدسة.
([33]) انظر: المصدر السابق: 67.
([35]) محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 291 ـ 292.
([36]) نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
([37]) انظر: عزت الله مولائي نيا، نسخ در قرآن: 97.
([38]) انظر: مجلة بينات، العدد 44: 65.
([39]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 296.
([40]) انظر: محمد هادي معرفت، علوم قرآني: 229.
([41]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 2: 297.
([42]) انظر: محمد هادي معرفت، مجلة بينات، العدد 44: 69.