تقديم:
نحتاج في كل منحى من مناحي حياتنا اليومية، إلى أخلاق خاصة، سواءً كانت اجتماعية، أسرية، أو فردية. كما إنّ كل بعد من أبعاد الإنسان يحتاج إلى أخلاق خاصة به ثقافياً، اجتماعياً، مهنياً، سياسياً…
أمام هذه الحاجة لم نستفد من القرآن الكريم، الدستور الخُلقي الزاخر، بشكل يسدُّ احتياجاتنا. في حين إنّه يشرحها ويفصلها ويبيّنها تارةً، ويشير ويلمّح إليها تارة أخرى. ولنستفيد من البيان والإشارة يجب أن نكون قرآنيين، نعيش القرآن في كل تفاصيل حياتنا… فكيف نكون عباداً للرحمن في كل الحالات، حتى التي قد تُخرِج الإنسان عن طبيعته المعهودة، وتفقده السيطرة على نفسه؟
في هذا الموضوع تحديداً، أشار القرآن الكريم إشارات خفية، سنكتفي باقتفاء نموذجٍ قرآني فريد، قد عرض صفات عباد الرحمن وأخلاقهم السامية، التي تسري وتجري في كل سلوكهم وأقوالهم.
ومحور حديثنا قوله تعالى: {وعباد الرحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً*والّذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً*والّذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً *إنّها ساءت مستقراً ومقاماً} .( سورة الفرقان: الآيات 63-66)
• توضيح بعض مفردات الآيات الكريمة:
يجب توضيح بعض مفردات هذه الآيات، قبل الشروع في توضيح المعاني الخُلقية المستفادة منها:
1ـ هوناً: من هان يهون، لها مصدران: الأول- هان هَوْناً، بمعنى سهل وخفّ ولان. والثاني – هُوْناً وهواناً، بمعنى ذلّ وصَغُرَ وحَقُر {عذاب الهُوْن} .
ولهذه الكلمة ثلاثة معانٍ، قد تجتمع في الآية الشريفة، فاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ليس محالاً؛ لأنّه أمر اعتباري، والمعاني هي:
ـ الهدوء والسكينة والوقار، مقابل السرعة.
ـ التواضع والخشوع والخضوع، مقابل التكبّر والتجبر.
ـ المداراة والرفق والليّن، مقابل الخشونة.
2ـ سلاماً: تحتمل معنيين:
الأول – يقولون قولاً سلاماً (صفة لمفعول به محذوف)؛ أي مقترناً بالحكمة، خالياً من اللغو واللهو واللعب، قولاً حكيماً علمياً صحيحاً ومناسباً لائقاً. و(الجاهلون)قرينة على هذا المعنى.
الثاني – يقولون سلاماً (مفعول به لقالوا)؛ أي يطلبون السلامة والأمن . وقد قال به الزمخشري في تفسيره.
3ـ يبيتون: بات يبيت بيتوتة وبياتاً وبيتاً، بمعنى إقامة الليل. ونقول: بات فلانٌ في المكان؛ أي أقام فيه ليلة، سواء جميعها أو نصفها أو قسماً منها، وسواء نام ، أو لم ينم.
4ـ إنّ عذابها كان غراماً: الغرام هو المصيبة والبلية التي لا يمكن للإنسان الفرار فيها.
5ـ مستقراً : إقامة غير دائمة، يمكث العصاة من أهل الإيمان حيناً بها ولا يخلّدون .
6ـ مقاماً: كل إقامة دائمة، حيث يخلّد فيها الكافرون.
أخلاق عباد الرحمن:
تزخر هذه الآيات الكريمة بالأخلاق النفسية السارية في سلوك عباد الرحمن في جميع تفاصيل حياتهم، ظاهرة في أفعالهم، منها:
1ـ العبودية:
العبودية هي الصفة المقدَّمة على سائر الصفات والأخلاق في الآية، فكلمة "عباد" تحوي جميع أخلاقهم: التقوى، التواضع، الصبر، الحلم، الإخلاص…
إضافة إلى أنّ العبودية منشأ الصفات الخُلقية العالية، فهم عندما يتواضعون في مشيهم، لا يكون ضعفاً ولا تملقاً لأحد، بل نتيجة لعبوديتهم للحق، وطاعتهم له، وتخلقهم بالأخلاق الإلهية العالية .
كما عبَّرت الآية الشريفة: {عباد الرحمن} فأضافت عباد إلى الرحمن؛ لأنّ العبد لا بدّ أن يتصف بالرحمة بشكل أساس وقوي. والعبد فاعلٌ في المجتمع؛ لذلك يمشي هَوْناً، ليّناً، متواضعاً يخدم الناس ويرحمهم.
والعبودية أرسخ وأعمق وأكمل للإيمان؛ لأنّها إذا استقرت في روح الإنسان وقلبه، لا تنحصر في زاوية من زوايا حياته وحسب، بل تنتشر في كل أبعادها وزواياها.
فإذا أصاب المؤمنين بلاء لا يعترضون عليه، أو يتذمرون في قرارة أنفسهم منه، بل ما يثير العجب أنّهم يحبون بلاءاتهم ويتلذَّذون بها. وفي هذا المقام يقول أحد الشعراء –بالفارسية- ما معناه: إن كنت عاشقاً تشتكي من المحبوب، فأنت كاذبٌ تستحق الحرمان، فالعاشق لا يشكو من حبيبه بل يلتذّ بشرب آلامه.
وعباد الرحمن في مقام البلاء؛ يلتذّون، يتحمّلون، يصبرون، وفي مقام النعمة يشكرون، وفي مقام الطاعة والعبادة لا ينتظرون الأجر والثواب ، فلا يسعون خلف الأجر كمقابل على الطاعة؛ لأنّهم يشعرون بنقصهم، ويعرفون حقيقة فقرهم وفاقتهم أمام الغني المطلق: «إلهي من كانت محاسنه مساوئ، فكيف لا تكون مساوئه مساوئ»(1).
2ـ التوحيد:
كيف نستفيد التوحيد من خلال هذه الآية الكريمة؟
إنّ العلاقة بين {عباد الرحمن} وبين {يمشون على الأرض هوناً} وبين {إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} هي تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى، لكن ماذا تعني هذه العبودية؟ وبماذا ترتبط؟
العبودية تعني أن لا يحرّك الإنسانَ شيءٌ في الكون إلاّ الله تعالى؛ فهو محور كلّ شيء، بحيث لا يرى الإنسان شيئاً إلاّ يرى الله فيه وبعده وقبله… فالعبودية بهذا المعنى تستبطن حقيقة التوحيد، إذ تحوّل نظرة المؤمن في الكون إلى نظرة توحيدية صرفة، فالموحّد لا يحرّكه إلاّ الله، ولا يرى شيئاً في الكون مستقلاً عنه تعالى؛ فإذا احتاج طَلَبَ حاجته من الله تعالى، وإذا قُضيت شكره وحمده، فالموحد يرى الله مصدراً لكل شيء في الكون، وينظر إلى كل أسباب قضاء حاجته نظرة حقيقية؛ فيراها وسائط نقل للفيض والرحمة ؛لأنّها كلّها محتاجة إلى الله (تعالى)كما هو محتاجٌ إليه، وطلب المحتاج من المحتاج سفه. كما يرى أنّ جمال الكون مظهر من مظاهر الجمال المطلق، وليس مستقلاً عنه، فكلّ ما في الكون جميل؛ لأنّ الله (تعالى)أفاض عليه من جماله وخلقه… «أنت الذي أشْرَقْتَ الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحّدوك»(2)، حتى توحيد الموحّد هو نعمة من الله تعالى؛ لأنّه وفّقه ليخلص إليه في قلبه: «القلب حرم الله فلا تسكن حرم الله غير الله»(3). وعندما ينظر الموحّد إلى حياته لا يرى الفقير، البائس، المريض، المتكبر.. بل يرى بنور الله، فيرى الله تعالى المغني، المعطي، الشافي، الراحم، الجبّار… وقد ورد عن الأمير(عليه السلام): «اعرفوا الله بالله»(4).
وقد أشار القرآن الكريم إشارات لطيفة إلى رؤية الموحّد ورؤية غيره، مثلاً قوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطيرُ الأوّلين}(5). هذا جواب المنكرين (أساطيرُ)، وهو مبتدأ مرفوع في جملة مستقلة، تعبّر عن نظرتهم المستقلة لكلّ شيء، فهم لا يؤمنون بأنّ الله تعالى أنزل شيئاً، بل الموضوع برمته أساطير الأوّلين، أمّا جواب الموحدين: {وقيل للّذين اتّقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً}(6)،النظرة مختلفة، والجواب مختلف تماماً، وهو{خيراً} منصوب على أنّه مفعول به، مرتبط بما أنزل الله تعالى، فهم يقولون: أنزل ربنا خيراً. يربطون العالم كلّه بخالقه، وهذه هي النظرة التوحيدية.
3ـ تواضع عباد الرحمن:
أول إشارة إلى تواضعهم كلمة {عباد} وتسري هذه الصيغة الجليلة وتظهر في المشي على الأرض {هوناً}، وفي قولهم {سلاماً}، وفي بياتهم {سجداً وقياماً}، وفي نومهم، إذا ناموا؛ ليصطادوا صيداً لا يمكن اصطياده في اليقظة. وفي تقديم وصف {عباد الرحمن} على التواضع في الأفعال، إشارة إلى أنّ هذا التواضع ناشئ من طاعة الله تعالى والعبودية له، وليس من الضعف أو الذلة أو التملّق، أو نتيجة التربية في مجتمع متواضع. صحيح أنّ هذا يسهل اكتساب التواضع، لكن لا يكفي لكي تتحلّى النفس به أمام جميع فئات الناس. فإذا كان تواضع الآخرين من حولنا السبب الحصري والمنشأ الأساس والوحيد للتصرف بتواضع، فهو شائبة دنيوية اجتماعية تشوب هذا التواضع، أمّا تواضع عباد الرحمن، فمنشؤه الوحيد هو العبودية لله تعالى فقط.
وإذا قلنا إنّ معنى {يمشون على الأرض هوناً} هو التواضع والخشوع والخضوع، فيمكن أن نستفيد أمراً مهماً من عدم ذكر متعلَّق التواضع والخشوع والخضوع. بعبارة أخرى، هذا التواضع أمام من؟ أهو أمام الرجل، المرأة، الخادم، الرئيس..؟
لم تذكر الآية الشريفة أنّ عباد الرحمن، يظهرون التواضع أمام أفراد محدّدين مخصوصين، وعليه نستفيد الإطلاق، فلا بدّ أن يكون التواضع أمام كل إنسان…
وهذه الأخلاق خاصة بالمؤمنين، الّذين لا يرون لأنفسهم استقلالاً عن الإرادة الإلهية (عباد الرحمن)، وقد أجاد ابن سينا حين قال: «العارف هشٌّ بشٌّ بسّام، يبجّل الصغير من تواضعه كما يبجّل الكبير، وينبسط من الخامل (غير المعروف بين الناس)مثلما ينبسط من النبيه (المعروف بين الناس)»(7(
فيكف لا يكون طلق الوجه بشوشاً، وهو مسرور بالحق؟ فكلّ شيء يراه، يرى فيه الحق. وكيف لا يساوي بين الناس؟ والجميع عنده مخلوقات الرحمن، حتى ولو اشتغلوا بالباطل.
والآيات الكريمة الداعية إلى مقابلة الجهل بالحكمة، والسيئة بالحسنة، كثيرة كقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم}(8)، وقوله: {لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم}(9)
كما تحمل الآية الكريمة إشارة أخرى إلى التواضع في قوله تعالى: {سجداً وقياماً}، حيث إنّ القيام في الصلاة مقدّم على السجود، لكنّ الآية قدّمت السجود على القيام، ما يثير التفكّر والتدّبر في هذه النكتة الدقيقة؛ فالإنسان خلق من تراب: { لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}(10)، والسجود يذكّر الإنسان بأصله، ويقرّبه منه، حيث يتذكر أنّ أصله من هذا التراب الذي يسجد عليه ويطأه، كما يطأه الناس، فليس له أن يتكبر أو يتجبّر، بل ليس أصله فقط، إنّما مرجعه إلى التراب{منها خلقناكم وفيها نعيدكم..}(11)والإنسان«أوّله نطفة وآخره جيفة» فعَلامَ يتكبر؟!
بالتالي إن السجود يُشعر بالتصاغر والخضوع لله (تعالى)، وأنّه المهيمن على هذه النفس وهذا البدن، أما القيام فهو يشعر بشيء من الاستقلالية، وفي العادة يحني الإنسان قامته أمام الملوك والسلاطين احتراماً لهم، لكنّ ذلك لا يعني أنّ وجوده مرتبط بهم ومرهون بوجودهم. والآية تتحدث عن صفات عباد الرحمن الّذين اكتسبوا تلك الأخلاق بسبب عبوديتهم وتوحيدهم، فناسب تقديم السجود على القيام؛ لإثبات أنّ الخضوع للحق (تعالى)، هو سبب تواضعهم لخلقه.
ويرى العرفاء أنّ السجود يشير إلى آخر مرحلة من مراحل سير الإنسان وتكامله، وهي مرحلة الفناء، الانقطاع عن غير الله تعالى، وقد يحصل في ليالي القدر لبعض المستعدّين، عندما يقرؤون الدعاء، ويناجون ربهم ويبكون… يهوون إلى السجود تلقائياً منقطعين عن كل ما حولهم، ويشعرون بعدها بلذّة هذا الانقطاع. وهذا الشعور يحتاج إلى فناء آخر، حتى لا يلتفت إلى حاله ولذّته، فيشير العرفاء إلى أنّ السجدة الثانية في الصلاة تعبر عن هذا الفناء الثاني.
4ـ الإخلاص:
ما زالت هذه الآية الشريفة تنضح بالثمرات الخُلقية السامية الرفيعة الجليلة، إذ نستشف منها ثمرة أخرى، وهي: الإخلاص من قوله تعالى: {والّذين يبيتون لربّهم سجداً وقياماً}(12)، تحديداً في لام الجر في { لربهم}، حيث تقدم سبب العبادة «التوجه لله تعالى» على العبادة نفسها {سجداً وقياماً}، وهذه إشارة جليلة إلى عبادة عباد الرحمن، فهي وإن كانت صلاة، صياماً… لم تكن لنفسها؛ لأنّهم لا يبحثون عن لذّة العبادة بنفسها، بل عن المحبوب والمقصود الأّول «ربهم». وهذا القصد حاضر في جميع عباداتهم، أفعالهم، أقوالهم… والتقديم يفيد الحصر، فقط لربهم، عبادةٌ خالصة لله (تعالى(
وهذا هو المقصود بالقلب السليم في الآية الشريفة: {إلاّ من أتى الله بقلب سليم}(13)فعن الأئمة (عليهم السلام): «القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه»(14).
كيف ذلك وهناك أمور كثيرة تحتل قلب الإنسان؟ مثل: محبة الأموال، الأولاد، الأزواج، التجارة، المساكن… وهنا يجب أن نفهم مسألة المحبة والتعلق وحقيقتها؛ فإنّ الأصالة فيها لله (تعالى)، أمّا تلك الأمور فمحبتها بالتبعية؛ لأنّها مخلوقاته تعالى وقوانين سنته الكونية. أما تحويل محبتها إلى أصالة، فهو من المشكلات الكبيرة ومن موانع الإخلاص…
5ـ المحبة والرحمة:
المحبة شيء عجيب، وهي في رؤية العرفان سر الخليقة وسببها. ويمكن أن تكون دواءً لأصعب الحالات. هذه المحبة، الحصن الواقعي العاطفي الروحي، تفسّر كيف يتصرف عباد الرحمن في مشيهم هَوْناً، وقولهم سلاماً للجاهلين، إضافة إلى ظاهر هذا التصرف؛ وهو التواضع والصبر والحكمة الناشئة من العبودية والنظرة التوحيدية، وثمرة هذه الحالة هي تحصيل المحبة في النفس وتفعيل الرحمة في الخلق واستشعارها كما قال أمير المؤمنين(عليه السلام): «وأشعر قلبك الرحمة للرعية ولا تكن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم»(15)، وإشعار القلب تعبير عن رصد الأشياء الدقيقة واللطيفة. وقد يثار سؤال عن كيفية الإحساس بالمحبة والشعور بالرحمة مقابل المنافقين والكفار مثلاً، أو العاصين والمنحرفين، فيجب توضيح نكتة مهمة وهي: أنّ للمنافق أو الكافر أو العاصي بعدين:
1- كونه مخلوقاً لله «والخلق كلهم عيالك»، ونحن مكلّفون وموظفون بمحبتهم، وهذا لا يعارض الحب الإلهي؛ لأنّنا إذا أحببنا أحداً أحببنا كل متعلقاته، فكيف نحب الله (تعالى)ولا نحب مخلوقاته؟!
2- كونه منافقاً، فاسقاً، كافراً، وهذا ليس أمراً وجودياً، بل أمر عدمي؛ أي أنّ سببه عدم توافر الإيمان والطاعة والتقوى في ذلك الشخص، والأمر العدمي ليس موجوداً كي نحبه (النفاق – الكفر – الفسق)لكننا نعارض هذا النقص ونسعى لإكماله، وهذه محبة.
ومن المهم أن نستشعر هذه المحبة والرحمة في أنفسنا، ونظهرها لأزواجنا وأولادنا وإخواننا لنحصنهم؛ فلا يستفيد من فقدها المنحرفون ويتسببون بتخريب بيوتنا.
6ـ الصبر:
الصبر خُلُق أساس في وجدان المؤمن، وقد أشارت الآية الكريمة إلى هذه الصفة، بإشارات لطيفة خفية في قوله تعالى: {يمشون على الأرض هوناً}، إنّ التواضع واللّين يستلزمان الرفق بالآخرين وترك إيذائهم، وهذا مقام يعلوه مقام آخر، وهو:{إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}، وهو مقام تحمل الإيذاء والصبر عليه.
ومنشأ الصبر أنّهم يعرفون أنّ الله تعالى يراهم ويعلم حالهم، وهذا الشعور أو هذه المعرفة حاضرة في قلوبهم دائماً: «هوَّن ما نزل بي أنّه بعين الله».
7ـ التقوى وخشية الله:
يقول تعالى: {والّذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنم إنّ عذابها كان غراماً}(16)، هذه الآية تكمّل الصورة وتوضح الحقيقة؛ فمن جهة، هؤلاء قوم خواص، ثلة نادرة، عبدوا الله وأخلصوا ولم يصبهم العجب، لم يأمَنوا وعيده تعالى، لم يطلبوا منه الأجر على سبيل الاستحقاق، بل هم أكثر عباده خشية منه، يدعونه بالرحمة والمغفرة ويتّقون غضبه. ومن جهة ثانية هم لا يقلقون ولا يضّطربون لشيء من الدنيا؛ مساكنهم، طعامهم ، أولادهم… بل يعيشون استغناءً عنها، لكنّ الأمر الوحيد الذي يسبب قلقاً واضطراباً لهم هو الغضب الإلهي، البعد عن الحق المتمثل بسوء العاقبة في الآخرة، بالرغم من كونهم عباداًَ لله تعالى. يُروى عن المرحوم ميرزا جواد التبريزي، أنّه كلّما توضأ بكى بكاءً شديداً حتى يختلط دمعه مع ماء الوضوء، فسُئل: لماذا تبكي الى هذا الحد وأنت رجل طاهر؟ فأجاب: هل قرأت هذه الآية: {وإن منكم إلاّ واردها}(17)فإنّ دخولنا قطعي، لكن هل خروجنا قطعي؟
8ـ إحياء الليل (الخلوة):
توجد علاقة خاصة بين العبادة والليل، وقد أشارت إليها الآية الكريمة بلطف: {سجداً وقياماً} تشير إلى العبادة، {ويبيتون} تشير إلى الليل. وقد أوضح أمير المؤمنين(عليه السلام)هذه العلاقة في خطبة المتّقين: «أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يحزنون به أنفسهم»(18)، وفي سورة المزمل: {إنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطئاً وأقوم قيلا}(19)وفي الحديث القدسي: «الليل لي» … الليل كناية عن الخلوة مع الله تعالى، الوقت الذي لا تقطع فيه الخلوة، حيث كلّ الناس في سُبات، إلاّ من أحيى قلبه حب الله تعالى… {وهو الذي جعل الليل والنّهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شُكوراً}(20).
وأهمية وجود هذه الخلوة في حياة الإنسان، تكمن في حياته اليومية وعلاقاته العامة؛ فالإنسان يحتاج إلى الخلوة؛ ليناجي ربه ويرتبط به، فيكسب طاقة عظيمة، وقوة كبيرة في ذهنه وجلاءً كبيراً في قلبه؛ فيرضي ربه ويرتبط مع المجتمع والأسرة ويتحمل المصاعب والمشاكل…
فالدخول في ضغوطات المجتمع والناس والأسرة دون التحصن بالخلوة، يستلزم الغفلة والبعد عن الصواب في التعامل، وفقدان التركيز وانعدام الطاقة، بل إنّ أهمية هذه الخلوة لا تقف عند هذا الحدّ، مثلاً صلاة الليل إحدى العبادات الليلية، التي تستلزم الدعاء لأربعين مؤمناً، الدعاء بالمغفرة والرضا الإلهي… وهذا يعالج أمراضاً نفسية كبيرة وخطيرة مباشرة، مثل: الحسد الذي يأكل الأعمال الصالحة كما تأكل النار الحطب، ويعالج الحقد والكراهية والضغينة بين المؤمنين؛ لأنّهم يتشاركون في النجاح والفلاح والمغفرة…
آفات وأمراض مهلكة:
يقتضي الحديث عن أخلاق عباد الرحمن وأهمية توافرها، المرور على مزالق طريقهم، وأشواك مسيرهم، التي تهدم عمل الإنسان في لحظة واحدة، إذا لم ينبّه نفسه عن الوقوع فيها، أهمّها وأخطرها:
التكبّر:
التكبّر والإحساس بالكبر من الأمور التي تصرع الإنسان وترديه وتكسره وتطحنه. ومن المهم لكلّ صاحب منصب ومنزلة -مهما دنت أو ارتفعت- أن يعرف هذه المسألة وعاقبتها؛ لأنّ الله تعالى يمهل عباده فترة طويلة مهما ارتكبوا من الذنوب؛ كترك الصلاة والصيام، إلاّ التكبّر، فإنّ الله تعالى يعجِّل عقوبة المتكبر، وقد تكون عقوبته في يومه. وكلّ معصية أمام الكبر لا تساوي شيئاً؛ لأنّ كلّ معصية ترتبط بالمخلوقين، إلاَّ الكبرياء فهو رداء الله، وهو مفتاح المعاصي الكبيرة؛ كالشرك بالله والتجرؤ على حدوده وحرمته.
والروايات عن أهل العصمة (عليهم السلام)في هذا الأمر كثيرة، منها: «العزّ رداء الله والكبر إزاره فمن تناول شيئاً منه أكبّه الله في جهنم»(21)، «الكبر رداء الله والمتكبر ينازع الله رداءه»(22)، « من صارع الله صرعه»(23)، «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(24).
وبعض الروايات حدّدت معنى الكبر، منها:
عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «إنّ أعظم الكبر غمص الخلق وسفة الحق، قلت: وما غمص الخلق وسفه الحق؟ قال: أن يجهل الحق ويطعن على أهله، ومن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل في ردائه»(25).
وبعضها تحدّث عن عاقبة المتكبرين: عن الصادق(عليه السلام): «إنّ المتكبرين يُجعلون في صور الذر، يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب»(26).
بعد عرض الروايات التي بيّنت خطر هذه الآفة وكبير أثرها، وغيرها من الروايات التي لا محل لعرضها (الكافي،ج2، باب التكبر)، نفهم مما ورد عن بعض العلماء الفضلاء، الّذين اهتموا بنزع هذه الصفة من أنفسهم، وتنقية وجودهم من هذه العلائق السّامة، فقد ذكر لي ابن آية الله الزنجاني قصة عندما رافق الإمام الخميني(قده)إلى باريس، حيث جاء وفدٌ والتقى الإمام، وعند ذهابه دخل وفد آخر من الإعلاميين على أن يلتقي الإمام(قده)بعد خمس دقائق، فخرج الإمام للاستراحة؛ ليأتي بعد خمس دقائق. فذهب ابن السيد الزنجاني ليستدعيه فوجده ينظف الحمام، فيقول: «حينها رأيت منظراً أثار دهشتي، إنّ الإمام الذي ينتظره شعب العالم ليتكلم فيطيعوه، فتح باب الحمام وجمع أطراف ثيابه وأخذ في تنظيف الحمام».
وهناك قصة عن السيد السبزواري، بعد أن جاء من النجف، ذهب إلى كرمان وعمل في مدرسة المعصومة في التنظيفات، ولم يعرف قدره أحد، إلى أن سأل أحد الأساتذة طلابه سؤالاً فلسفياً، وكلّفهم بالبحث والمطالعة؛ لتحصيل الجواب، فلم يستطع الطلاب الحصول عليه وبينما هم يتحدّثون في غرفة العامل (المحقق السبزواري)، إذ به يسمعهم ويجيبهم عن سؤال الأستاذ، الذي علم أنّ الجواب ليس جواب الطلاب، بل جواب فيلسوف كبير، فسألهم عنه، وذهب إليه إثر ذلك وعلم حاله.
هؤلاء العلماء العظماء تعاملوا مع أنفسهم ببساطة وسماحة، وجاهدوا الكبر في أنفسهم، بل كانوا مستغنين عن ذلك بغنى أنفسهم وعزّتها، حيث بيّنت بعض الروايات أسباب هذا الداء العضال، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «ما من أحد يتيه [يتكبر] إلاّ من ذلة يجدها في نفسه»(27)، وعنه(عليه السلام): « ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلاّ لذلة وجدها في نفسه»(28).
العُجب والحسد:
بالإضافة إلى الخطر السابق هناك عُجُب الإنسان بعبادته، وعُجبه بمكارم أخلاقه، وأيضاً خطر بالحسد تجاه المؤمنين. وقد أشرنا في الحديث عن صفات عباد الرحمن، إلى أنّ خشية الله (تعالى)دائماً -حتى في أفضل حالات العبادة- هي علاج للعُجب، إذا استشعر العبد هيبة محضر الله (تعالى). كما أنّ الدعاء لأربعين مؤمناً في صلاة الليل والسعي في قضاء حوائجهم، دواءٌ نافع لمعالجة الحسد واجتثاث جذوره من نفس الإنسان في مسيره نحو التكامل والرقي الخُلقي، استناداً إلى لطائف القرآن الكريم التي تعزّز الفضائل وتنبّه على خطر الرذائل.
الهوامش:
_________________________________________
* مدير عام معهد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومعهد السيدة الزهراء (عليها السلام)العالي للشريعة والدراسات الإسلامية.
((1 ابن طاووس، علي بن موسى بن جعفر بن محمد: إقبال الأعمال. ط1(مصححة)، تقديم وتعليق حسين الأعلمي، منشورات الأعلمي للمطبوعات، بيروت، (1417هـ- 1996م). ص660.
(2) م.ن)، ص661.
3)المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار. ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت، (1403هـ- 1983م). ج67، ص25.
(4) م.ن)، ج3، ص270.
(5)سورة النحل، الآية 24.
(6)سورة النحل، الآية 30.
((7 ابن سينا: الإشارات والتنبيهات. (د.ط)، دار التعارف، مصر، (د.ت). ج3، القسمان الثالث والرابع، ص843.
(8)سورة الممتحنة، الآية 8.
(9)سورة فصلت، الآية 34.
(10).سورة المؤمنون، الآية 12.
(11)سورة طه، الآية 55.
(12)سورة الفرقان، الآية 64.
(13)سورة الشعراء، الآية 89.
(14)المجلسي، (م.س)، ج67، ص239.
(15)الإمام علي(عليه السلام): نهج البلاغة. (د.ط)، تحقيق محمد عبده، دار المعرفة، بيروت، (د.ت). ج3، (عهد الإمام للأشتر)، ص84.
(16)سورة الفرقان، الآية 65.
(17)سورة مريم، الآية71.
(18)الإمام علي (عليه السلام)، (م.س)،ج2، ص161.
(19)سورة المزمل، الآية6.
(20)سورة الفرقان، الآية 62.
(21)المجلسي، (م.س)، ج70، ص213.
(22) م.ن)، ج70، 214.
(23) م.ن)، ج2، ص143.
(24) م.ن)، ج1، ص152.
(25) م.ن)، ج2، ص142.
(26) م.ن)، ج7، ص201.
(27) م.ن)، ج70، ص225.
(28) م.ن)، (ج.ن)، (ص.ن( .