كربلاء نموذجا
إيمان شمس الدين
تكمن أهمية التفكير في كونه الموجه لسلوك الإنسان وقبل ذلك موجها لعقله، فالذهن هو المنطقة الحية التي تضج بالصور والأفكار، وهي منطقة صراع دائم بين الأنا والذات، صراع يؤدي إلى خلق أفكار كثيرة قد تتناقض تارة وتتلاقى تارة أخرى، وقد تؤدي في بعضها إلى سلوك خارجي اجتماعي إما سلبي أو إيجابي، ويكفينا معرفة أن خطورة التفكير تكمن في كونه يقود العقل، والذي بدوره يقود سلوك الإنسان، فالأفكار تعتبر إماما للعقل، والعقل بدوره يعتبر إماما للقلب، والأخير بدوره إماما للجوارح والسلوك الإنساني.
لذلك تعتبر هذه التشابكات اللحظية في منطقة الذهن بين الأنا والذات وما تنتج عنها من أفكار ذات أهمية عالية، لأن هذه الأفكار ينتج عنها صراع بين الأنا والذات في منطقة الذهن الحية، و تعتبر منطقة حيوية خطرة في نشاطها وتحتاج إلى ضبط وتشريعات ضابطة، لانعكاس هذا الضبط تلقائيا على الفرد داخليا وخارجيا.
فالفكر هو حركة الذهن بين المجهول والمعلوم، فترد علي الذهن تساؤلات يجهلها ومن ثم يدفعه جهله ليبدأ في مسار البحث بين المعلومات للإجابة على التساؤلات، ليصل بعد حركة تفكير ذهنية داخلية وبحثية خارجية لإجابات تتحول خلالها مجهولاته إلى معلومات. وهذه الحركة الطبيعية تكمن أهميتها في نوعية المعارف التي يستخلصها أثناء عملية البحث، لانعكاس هذه المعارف على سلوكه وقراراته وخياراته، لذلك يجب أن تكون هناك عناية كبيرة جدا لمناهج التفكير والآليات الأكثر انضباطا للذهن في رحلته التي يسلكها من المجهول إلى المعلوم.
يعتبر ديكارت أن العقل هو شيء متميز عن الجسد، فالعقل ذو طبيعة روحية خالصة، وجوهر هذا العقل هو الفكر، وأنه يمكن للإنسان أن يشك في كل شيء، ولكنه لا يمكن أن يشك بأنه يفكر، وهو بذلك يريد التأكيد على الخاصية العقلية (الروحية) الموجودة في الإنسان[1].
“فسيل المعارف التي ستتراكم مع نمو الإنسان ذهنيا وعقليا لا يكفي بمجرده لصياغة شخصية ناضجة، شخصية تعرف نفسها بما فيها من نقاط ضعف ونقاط قوة، وتعرف محيطها المادي والاجتماعي وأصول تفاعلها معهما، وتترقى في معرفة المحيط للتجاوز المنظور منه إلى غير المنظور، إلى عالم الملكوت، وإلى الخالق المبدع ونوع العلاقة التي يجب أن تقوم معه.. فمتى سيعرف الإنسان ذلك، وكيف سيعرفه، وما هي الطرق الموصلة إلى هذه المراحل من المعرفة وهذه الدرجة من النضج؟”[2]
ويعتبر الإدراك المفهوم الأشمل للعمليات العقلية بما فيها التفكير، فهو المظلة لكل العمليات العقلية، إلا أن الوعي يمثل إدراك الإنسان بأنه يقوم بهذه العمليات العقلية[3] بما فيها التفكير، فالوعي يعتبر المستوى الأعمق من الإدراك، فإدراكك بأهمية التفكير لا يكفي وحده في تشكيل البنية والمنهجية الصحيحة له، بل وعيك بماهية التفكير ونوعيته مؤسسا لفهم أْعمق في تشكيل البنية والمنهجية السليمة في التفكير والتي تعتبر من أهم العمليات العقلية بل وأحد أهم قادة العقل.
“والعقل غير الرشد، فالإنسان إما أن يكون عاقلا أو مجنونا، والعاقل إما أن يكون رشيدا أو غير رشيد، والرشد عبارة عن نوع من أنواع الكمال الروحي والمعنوي، بمعنى أن يكون للإنسان قدرة الإدارة والمحافظة على إمكاناته وطاقاته المادية والمعنوية، وحسن الانتافاع بها… ولا ينحصر الرشد بالفرد، ففي المجتمعات والشعوب توجد إمكانات وطاقات، طبيعية وعلمية وأمثالها، قد أودعت بأيدي الشعوب. وهذا الرشد يعني قدرة الشعب والمجتمع على الإدارة، وحسن الانتفاع من هذه القدرات المادية والإنسانية، ويقال لمثل هذا الشعب أنه رشيد[4].
“وهناك فارق بين الإنسان والحيوان في مسألة الرشد، بأن رشد الحيوان رشد غريزي طبيعي، وأما الرشد الإنساني فهو رشد مكتسب.. فالحيوان يمتلك المعرفة الغريزية بثرواته وإمكاناته وكذلك يمتلك القدرة والقابلية على الحفا’ عليها، والاستفادة السليمة منها بصورة غريزية..وأما الإنسان، خليفة الله، فإن نشاطاته في هذا المجال إرادية، فعليه القيام باختياره بالفعاليات والممارسات التي يقوم بها الحيوان غريزيا، وبتوجيه من قانون الخلقة والطبيعة.عليه اختيار المهمة والقيام بها، وهو مسؤول عن كل أعماله، فلابد من أن ينشط بنفسه لتحصيلها، ولأن الرشد لكل إنسان أمر مكتسب، فعليه أن يتعلم أنواع الرشد بنفسه[5].
والرشد كي يحدث إدراكا ووعيا في الواقع ويحقق في السلوك لابد له من مرشد آخر غير العقل، كون العقل محدود القدرات وقد يتعرض للوهم والخطأ، والمرشد في المدرسة الإسلامية يمثل القيادة الربانية والزعامة الدينية التي تستطيع أن تنضج رشد الإنسان وتدفعه للسير قدما في رحتله التكاملية نحو الله تعالى. وعادة ما يقابل القيادات الربانية قيادات أخرى تعمل على العبث في رشد الإنسان ومجاله الإدراكي، بطريقة تسلبه حقه في التفكير، وحقه في الاختيار، من خلال التلاعب في وعيه ولا وعيه باستخدام أساليب كثيرة، إلا أن ذلك لا يعني أن الإنسان في هذه الحالة مجبرا على خيارات لا خيار ولا إرادة له فيها، بل يعني أنه مقصر في تحصين مجاله الإدراكي بالرشد الذي يجب عليه من خلاله أن يحدد ما يجب أن يقوم به، وكيف يقوم به على أكمل وجه، خاصة مع وجود القيادة الربانية التي تعينه على ذلك في حال تعثر في الطريق أو ضل عنه.
لذلك نجد عبر التاريخ أن العقل الراشد المدرك الواعي يمتلكه القلة من الناس، وهم الذين استطاعوا السير قدما خلف القيادة الربانية وعدم تكذيبها أو محاربتها، كون تحصيل هذه المستوى من الإدراك والرشد والوعي يتطلب بذل جهد وكدح ومحاربة الشهوات والغرائز والتجديف عكس تيار المجتمع وتنميطاته وصندوقه الذي يحاول أن ينمط كل أفراد المجتمع فيه، ويتطلب هذا التجديف العكسي قدرة وشجاعة وصبر كي يستطيع واقعا أن يحدث إنزياحا معرفيا لنفسه يجعله قادرا على رؤية الواقع كما هو، أو أقرب ما يكون لما عليه الواقع. وكان عبر التاريخ الأكثرية من الناس تقع فريسة تغييب وعيها وانجرافها مع التيار الأقوى من حيث العدد والنفوذ، وليس الأقوى من حيث امتلاك الحق والحقيقة.
الكوفة بين زعامتين:
في الكوفة كان هناك زعامات، الزعامة الدينية والزعامة القبلية، ويذكر التاريخ لما انقلاب كثير من الشخصيات التي كانت مقربة جدا من الزعامة الدينية بل بعضها محسوب من أتباعها وأفرادها، انقلابهم على الحسين ع، إلا أن المتتبع للأسباب الحقيقية لهذا الانقلاب لا يجده وليد اللحظة، فالله لا يضيع إيمان الناس لأنه بهم رؤوف رحيم، إلا إذا استهتر الناس بإيمانهم و استهزءوا بالله، فقد انقلبت هذه الشخصيات لخلل في منهجها وأهدافها، هي كانت مع الزعامة الدينية ولكنها أيضا كانت في ذات الوقت تحابي الزعامة القبلية لوجود مصالح ومشتركات ورواسب قبلية لم يتم نسيانها، هذا إضافة لعمل شبكة مصالح اقتصادية مع تلك الزعامات القبلية، وحينما مات معاوية، التقت الزعامتان على أمر واحد وهو ضرورة التخلص من رواسب هذا الحكم بعد أن تبدّى للزعامة القبلية أن الدولة الزموية إلى أفول بعد موت معاوية، لكن الاهداف مختلفة لكلا الطرفين، واختلاف الأهداف انكشف حينما تمكن ابن زياد من رقاب أهل الكوفة بالقوة، هنا رجحت الزعامة القبلية مصلحتها و حافظت على استمرار نفوذها، وكل من تشابك معها بمصالح أو عصبيات انجر في شباكها، بينما الزعامة الدينية وأتباعها بقيت على موقفها الرافض للبيعة لأن هدفها التخلص من العبودية لغير الله دون أن تملك أدنى مصلحة غير رضاه تعالى.
يصف الدكتور علي الوردي أهل الكوفة في ذلك الوقت، ويقول: ” إن التركيب الاجتماعي لأهل الكوفة قائم على الزعامة الدينية التي تتمثل في علي عليه السلام وأصحابه من جهة، والزعامة القبلية التي تتمثل في رؤساء القبائل من الجهة الأخرى، فهم عندما بلغهم موت معاوية في أواخر عام ٦٠ هجرية ظنوا أن الدولة الأموية قد انهارت وأن الدنيا أصبحت مع الحسين عليه السلام، وهنا اتفق رأي الزعامة الدينية ورأي الزعامة القبلية على استدعاء الحسين عليه السلام، تلك تريد الحسين ع إماما، وهذه تريد رئيسا يقودهم إلى النصر، ولما وصل سفير الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة استقبله أهلها بحماس بالغ وبايعه الأكثرون منهم، ولكن هذا الحماس لم يدم طويلا، فقد وصل إلى الكوفة الوالي الداهية عبيد الله بن زياد، وأخذ يستخدم وسائل الترغيب والترهيب بطريقة بارعة، حتى استطاع بعد فترة وجيزة أن يسيطر على الكوفة، ومن ثم بقى مسلم وحيدا واستشهد، ومن ثم استشهد الحسين عليه السلام في كربلاء[6].
لذلك من تشابك بمصالح ذاتية مع الفاسدين جرّه هذا التشابك إليهم، ومن نأى نفسه عن الهوى فإن جنة الحسين ع هي له المأوى.
بالطبع مارست السلطة عدة ممارسات كي تتمكن من إفشال أي مسارات اصلاحية:
– ١.الإغراء المالي وشراء ولاءات القبائل، خاصة المركزية منها .
– ٢.اعتقال شيوخ قبائل، وترهيب هذه القبائل بالقتل والاعتقال.
– ٣.اعتقال كل من يصر على الاستمرار في خياره الاصلاحي مع الزعامة الدينية.
– ٤.القيام بإعدامات علنية بطريقة بشعة، لإشاعة الخوف وتغيير مسار قرارات الناس بالترهيب.
هذه الممارسات هي على مر التاريخ ممارسات الأنظمة الحاكمة، ولكن من امتلك رشدا حقيقيا بمشروع الله ورسالته على الأرض، أدرك بهذه المعرفة مسارات إرادته واختياره وآثارها الواقعية، بالتالي كان خياره الحسين ع وهو ممثل الزعامة الدينية، فكان المجتمع بين مثالين: مثال أعلى وهو الله ويمثله زعامة الإمام الحسين ع الدينية، فشكلت مرجعية معرفية لأتباعها وجذبتهم إليها، ومثال منخفض يمثله الزعامات القبلية التي شكلت مرجعية معرفية لمن اتبعها فجذبت إليها من يماثلها، لأن التماثل يفيد الإنضمام.
هذه الممارسات السلطوية هي ممارسات واقعية وظواهر تشكل أسبابا في كشف مدى صدق الإنسان في خياراته الظاهرية، وأيضا تكشف عن وعيه وصدق اختياره وانتمائه لأي جهة، ومدى رشده لوظيفته والطريق الأفضل للقيام بها، لأن هذه الممارسات هي عبارة عن تمحيص يمحص به الإنسان ليكشف عن إدراكه وعمق وعيه لاختيار معسكر الله، فالله يريد من الإنسان أن يعرف ويدرك ثم يختار، لأثر هذه المعرفة في الوعي وفي إدراك الاختيار ومآلاته وآثاره على الإنسان والمجتمع، لذلك يكشف بهذه البلاءات صدق إيمان الإنسان، ويغربل الشوائب فلا ينضم لمعسكر الله إلا من أخلص وصدق.
وهنا تكمن أهميه المعرفة وقول أمير المؤمنين : أول الدين معرفته، لأثر المعرفة في الإدراك والوعي وفي قرارات إرادة الإنسان واختياره، وفهم أثر كل اختيار على داخل الفرد وعلى محيطه.
قد تتفق الزعامتان على أمر ولكن الهدف مختلف، لذلك يصبح الاتفاق في مهب الريح عندما تختلف الأهداف مهما كان الأمر الظاهري المتفق عليه.
وهذه الزعامات لا تمثل لحظة زمنية وجهة مكانية ومجموعة من الأفراد، بل هي تقدم لنا نموذجان يمثلان شكل القيادات وآلياتها وأهدافها، فالزعامة الدينية التي مثلها الحسين عليه السلام، قدم من خلالها نموذجا لما يجب أن تكون عليه حال الزعامات الدينية عبر التاريخ، وكيف يكون دورها في قيادة الأمة نحو رشدها الحقيقي في تحقيق العدالة، وكل ما قابل الزعامة الدينية التي يتحقق فيها معايير الحسين ع كقيادة ربانية، فهو يمثل القيادة الأخرى سواء كانت على شكل زعامة قبلية، أو حزبية، أو أي شكل من أشكال الزعامات التي تتصف بالخطوط العامة التي كانت عليها الزعامة القبلية في الكوفة.
أهم معالم القيادة الربانية ( الزعامة الدينية):
١.الرشد:
ونعني به هنا القدرة على الإدارة والقيادة وهداية الناس، لأن البشرية عبر التاريخ تحتاج إلى فئة معينة تتصف بصفات خاصة ومميزة، وتمتلك القدرة على تعبئة القوى الإنسانية وإثارة الدافع عندها للعمل، والقدرة على تنظيو هذا العمل وتوجيهه في الاتجاه الذي تحتاجه الأمة، والقدرة على تشخيص الحاجات الإنسانية وقراءة الزمان والمكان. فهي تسعى للنهوض برشد الأمة إلى مستوى رشدها، لأن الأصل هو إقامة العدل، وهذا المطلب يحتاج كمرحلة قبلية إلى تهيأة القابليات والنهوض بوعيها لقبول العدل وإدراك الإشكاليات الواقعية التي يسبهها الظلم وسلب الحقوق.
٢، القدرة على التأثير وترجيح المصالح العليا للأمة فيما يرضي الله:
امتلاك القيادة الربانية لقدرة على التأثير أي فاعلة بقوة وإن لم تتوفر القابليات لهذا الفعل، لكنها رغم عدم توفر القابليات، تمتلك قدرة كبيرة في التأثير القائم على أساس الدليل والبرهان وتحريك الحواس والعواطف، فمن من جهة قوية الحجة تخاطب العقل بقوة، وتمتلك ذكاء عاطفي يمكنها من الولوج إلى القلوب وقيادة هذه العقول والقلوب لهداها ورشدها، وهذا ما لاحظناه في قيادة الإمام الحسين ع الذي استطاع بقوة حجته وبلاغته وعاطفته أن يؤثر على الكثيرين من جيش بن سعد من خلال حجة بيانه في خطاباته التي ألقاها، وعمق عاطفته التي اخترقت القلوب. لأن الأصل في القيادة الربانية هو الهداية إلى طريق الله، وقيادة النفوس برفق وحب إلى كمالاتها اللائقة بها.وترجيح مصالح الأمة العليا وما يحقق هدايتها على كل مصلحة ذاتية، بل لا وجود للذات في القيادة الربانية، والأولوية الأولى هي لهداية الأمة وتحقيق رشدها والأخذ بيدها إلى الله تعالى لتحقيق العدل، ويكون ذلك بقوة المنطق والعقل.
٣.التواجد في الميدان:
فالحسين ع لم يجلس في المدينة ويدفع بأصحابه وأهل بيته لمواجهة يزيد، ويكتفي بالاختفاء وإرسال الإرشادات وتوجيههم من بعيد، بل اعتبر نفسه المعني الأول بالمواجهة، صحيح كان هو المستهدف لأنه هو القائد والإمام، ولكنه لم يتخذ من ذلك ذريعة تحجبه عن قيادة المواجهة بنفسه، بل قدم نموذجا في القيادة فريدا، فقد واجه فرعون بنفسه وأهل بيته وخيرة أصحابه، كما فعل موسى عليه السلام وإبراهيم عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وكما كان يفعل الإمام علي عليه السلام في كل حروبه رغم أنه كان مستهدفا بذاته من قبل أعدائه، وهذا يدلل على حس عالي من المسؤولية اتجاه المشروع الإلهي، والحرص على هداية النفوس ورفع الحجب عنها لإيصالها إلى الله، ولا يكون ذلك إلا باتصال القيادة بنفسها في ميدان الجمهور والاطلاع على ما يعانيه وعلى حاجياته، والاتصال المباشر بآلامه وما يحتاجه، والاحتكاك بواقع الميدان وملابساته وإزالة العوائق التي تتطلب قيادة حكيمة رشيدة، وبذلك تضمن هذه القيادة أن تكون هذه المواجهة سليمة من كل الشوائب لأن صلاح الأهداف لابد أن يكون بأدوات صالحة، وهذا ما تحرص عليه القيادة الربانية لذلك تتواجد في الميدان لضمان سلامة مسيرة الإصلاح في حدود الرسالة الإلهية.هذا فضلا عن أن تواجد القيادة في ميدان المواجهات بكافة أشكالها السياسية والعسكرية والثقافية يشكل دافعا كبيرا للجمهور، ويعطي مصداقية عالية لرسالة القيادة وأهدافها.
أهم معالم الزعامات المقابلة للقيادة الربانية:
١. حب السلطة:
وهذا يظهر في استخدام كل الوسائل الغير مشروعة للبقاء في السطلة أو الوصول إليها لأنها الهدف، من شراء الذمم، وهدر أموال الشعب، والتعسف في القتل وسلب الحقوق، واستخدام النفوذ والقوة في البطش وفرض السلطة على الناس بمنطق القوة لا بقوة المنطق والدليل.
٢. ترجيح المصالح الذاتية: فكل ما يمكنه دعم مصلحته الذاتية يحققه حتى لو كان ذلك بسلوك سبل غير شرعية ولا عقلانية، وحتى لو أدى ذلك لهدر كرامات الناس، وسلب حقوقهم، وهدر ثرواتهم.ووسيلته تكون منطق القوة والترهيب.
٣. عدم التواجد في الميدان: فهو يكتفي بالجلوس في مكان محصن، ويدفع بالناس كالعبيد إلى الميادين دون أدنى اكتراث بحيواتهم، لأن همه هو السلطة والبقاء بها وليس العدل ودفع الظلم.
حاضرنا و كربلاء النموذج:
فقد نتفق مع السلطة على أن هناك تهديدا وجوديا للدولة، ونلتقي على هذا الأمر، لكن هدفنا هو الحفاظ على استقلال الدولة و أمن شعبها وتحقيق المصالح الخاصة بالدولة والشعب وخاصة العدالة، أما هدف السلطة هو الحفاظ على نفوذها وسلطتها وهيمنتها على النفوذ والثروات ورقاب الناس، ، وما أن تستشعر السلطة أنها حققت أمنها الخاص استراتيجيا بما يمكنها من الاستمرار، فإنها تنقلب على أي اتفاق قد يسبب لها حرجا أو مانعا أمام نفوذها. وستجر السلطة إلى شباكها الانقلابية كل من تشابك معها في المصالح والأهداف أو ارتبط معها بتعهدات، وبذلك تصبح أي محاولة إصلاح في مهب الريح، فالسلطة عادة لا يهمها الاصلاح بقدر ما يهدمها تحقيق النفوذ والسيطرة، فهي يمكنها أن ترفع شعار الإصلاح لأجل امتصاص غضب الشعوب، أو للوصول إلى مصالح ذاتية بها، أو للتخلص من خصوم سياسيين وسرعان ما تنكس راية الاصلاح التي رفعتها، لذلك من يمتلك الرشد وزعامة ربانية راشدة يستطيع تشخيص الواقع ومعرفة ما يستلزم عليه فعله دون أن ينكث بيعة الحسين ع. فاختلاف الرؤى الكونية سيؤدي لاختلاف الأيديولوجيات وبالتالي السلوك ، واختلاف الأهداف حتما سيؤدي لاختلاف المنهجيات والنتائج.
وما يحدث اليوم يثبت بشكل جلي أن هناك من رفع شعار الحسين ع ولكنه انسحب مع أعدائه، خاصة الذين أغرتهم المواقع في السلطة، والأموال، وهكذا سقط من خذل الحسين ع في الكوفة ممن كان من أتباع مدرسة أهل البيت ع، طبعا هناك أيضا من الاتباع من لم يحث الخطى لامتلاك الرشد و الوعي الذي يمكنه من عدم التعثر في الطريق أثناء الفتن المظلمة، لكن من كان من اتباع هذه المدرسة في مواقع متقدمة قبليا و له تشابكات مصالح مع القبائل والسلطة، فهو حتما سيتعثر وينقلب ويخذل الحسين ع، الذي يجسد مدرسة الحق في مواجهة الظلمة والطواغيت والمتلبسين بلباس الدين ونخب السلطة وفقهائها. فالشعار وحده لا يكفي كدليل على الانتماء لخط القيادات الربانية، لأن كثيرين من أهل الكوفة رفعوا شعارات وبكوا على الحسن عليه السلام، ولكن قلة قليلة من نصرته في ميدان كربلاء، وهذه القلة هي القلة الراشدة الواعية المدركة لرسالة الإمام الحسين ع، وموقعيته في المشروع الإلهي، وهذا هو المطلوب.
هذا فضلا عن أن الانتماء لمدرسة الحسين عليه السلام وتحت زعامته لا يكون إلا عن معرفة وإدراك ووعي، أي قائما بالفكر والعقل، لا بالشعار والعاطفة، لأن الفكر والمعرفة هما منبع العواطف، فمن زادت معارفه زادت عواطفه كما ينقل في الأثر. فالفكر أساس في تشكيل البنى المعرفية للإنسان وتوجيه سلوكه وتحقيق إيمانه واعتقاده، لذلك يثبت في التصدعات الكبيرة أولئك الذين ترسخت أفكارهم في قلوبهم وأصبحت إيمانا، تهتز منه الجبال ولا يهتز صاحبه.
هذا لا يعني الابتعاد، بل يعني أن أي تصدي في الدولة يجب أن يكون جسرا لإحقاق الحق و دفع الباطل ورفع الظلم وتحقيق العدالة، لا أن تصبح السلطة غاية وليست وسيلة ويتحول الإنسان لأداة في تلك السلطة لتمكين الطغاة والظلمة.
وما قام به الحسين ع من رفض مطلق لمبايعة سلطة بمواصفات سلطة يزيد حتى لو بذل في هذا السبيل نفسه وأقرب الناس إليه، يدلل على حجم تضحية كتضحية الإمام، وعلى عظيم جرم كهذا النوع في التعاون وبيعة لسلطة بمواصفات سلطة يزيد، وتداعيات هذا التعاون والبيعة على مبدأ التوحيد وتحقيق العدالة وانتشار الظلم والباطل وتبديل معالم دين الله باسم الدين. كما أنه يرسم معالم المنهج المطلوب من الإنسان في التعاطي مع الأنظمة التي تشبه في حقيقتها أنظمة بني أمية وغيرهم من الطغاة الذين ساروا على دربهم. ويوضح حجم التضحيات التي يجب أن يقدمها الإنسان على مقصلة الحرية والتوحيد. فالمسألة ليست مجرد شعارات، بل فكر وإدراك ووعي وتضحيات قد تصل لبذل النفس في هذا السبيل، وهذا يشمل المناضلين بأنفسهم وبأقلامهم من النخب والمثقفين، والمناضلين في كل حركة إصلاحية حقيقية تريد أن تواجه الانحراف سواء في الساحات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية، كونها كلها ساحات تتطلب وعي وإدراك وفهم ومعارف وتضحيات، فقد يبذل الإنسان حياته لأجل أن ينهض بوعي الأمة، وقد يبذل من سمعته ووجوده ليعيد رشد الأمة، ويكشف من يريد تزييف وعيها. هذا فضلا عن وظيفة القيادات الدينية في هذا الصدد، وأي شكل يجب أن تكون عليه هذه القيادات وفقا لنموذج الحسين عليه السلام في كربلاء كقيادة ربانية قدمت نموذجا في هذا الصدد.
فالاصلاح الذي نشده الإمام الحسين عليه السلام قدم لأجله نفسه وأهله وكل ما يملك، لأنه أراد أن يحق الحق ويقيم العدالة ويعيد الحقوق إلى أهلها، وهي من أسمى الغايات التي آرسل الله لأجلها الرسل، وناضل لأجلها الأنبياء ومازال إلى يومنا هذا النضال مستمر والصراع مستمر بين معسكر العدل ومعسكر الظلم، لذلك هذه المناسبة العظيمة تجدد لنا وعينا وإدراكنا وتعيد لنا رسم أولوياتنا، وتبصرنا بالخيارات الأقرب للعدالة، والأكثر تحقيقا لهدف عظيم كالاصلاح.وترشدنا إلى القيادات التي مثلت نموذج الإمام الحسين عليه في القيادة، وسعت إلى آن تربط الناس به عليه السلام قولا وسلوكا ومنهجا.
__________________
[1] آلية عمل العقل عند الإنسان/ فهرسة مكتبة الكويت الوطنية/ د. صلاح الفضلي/ ط ١ ص ٢٢
[2] عبادة التفكير/ الشيخ محسن عطوي/إصدار المركز الثقافي مجمع الإمامين الحسنين/ ص ١٥/ بتصرف
[3] مصدر سابق ص ٤٤
[4] الرشد الإسلامي، الشيخ مرتضى مطهري، دار الشهيد ص ١٠،٩
[5] مصدر سابق ص٤٧،٤٦ بتصرف.
[6] علي الوردي، لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث، ج٤، دار الراشد ط ٢، بيروت ٢٠٠٥