قراءة تحليلية في مفاهيم العصمة والحضارة على ضوء كلمات الشهيد الصدر
الشيخ حسن الخرس
يأتي مفهوم الحضارة في الأنظمة الاجتماعية كهوية تشكّل ملامح أيّ اجتماع بشري، فالحضارة ليست مجرّد تطوّر وتحسّن في الناتج المادي للمجتمعات البشريّة بل تساهم أيضاً القناعات الأيديولوجية في رسم صور الحضارة، فمن الطبيعي حينئذ أن يسارع المفكرون إلى تناول هذا الموضوع ومحاولة التنظير فيه وفقاً لرؤاهم، ومن بين أولئك الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه)؛ فقد تناول الحضارة في سياق إسلامي خاص ينافس الخيارات الرأسماليّة الديموقراطية والاشتراكية والشيوعية.
مفهوم الحضارة الإسلامية، توليفة دنيوية غيبية
بداية ما ينطلق منه الشهيد الصدر في التأسيس لتصوّره الحضاري هو تذكيره أولاً بمسألة اختيار الإنسان في أفعاله وتصرفاته([1])، ثم يذهب ثانياً إلى مسألة حركة التاريخ واصفاً إياها بأنها حركة غائية تتحرك إلى الأمام وليست مشدودة إلى سببها فقط بل مشدودة إلى غايتها كذلك([2])، ويرى أنّ ما يحرّك هذا التاريخ هو الإنسان بوجوده الذهني متعاوناً بينه وبين أفراد مجتمعه، لكن ما يعيق هذه الحركة هو ما يصدر من أفعال البشر المتضاربة فيما بينها وفقاً للمصالح الخاصة المادية والمعنوية؛ فإنّ هذا الاشتباك يسلب حقوق الضعفاء الذين لا يتمكنون من مواجهة الأقوياء ومن يمتلكون العدة والعتاد في سبيل قهر الضعيف ونهبه. هذه المشكلة أولدت مقاربات فلسفية يترقب منها وضع صيغة حل لها فمنها ما يقدمه المنهجان الرأسمالي والاشتراكي، لكن الصدر يرفضهما فيورد عليهما بأنّ الرأسمالية بدل أن تقنّن غريزة حب الذات ذهبت إلى قبولها وتعزيزها بالمنهج الفردي في كل حقول الحضارة، وأنّ الاشتراكية داست على هذه الغريزة بالكامل وألغت الذات في مقابل تعزيز الهوية العامة والانتصار للإنسان الكبير حصراً أي مصلحة الجماعة.
ويورد أيضاً على كلّ تنظير بشري لأشكال الأنظمة الحضارية أنّ مآلها تسرّب الدوافع البشرية الخاصة سواء في المرحلة النظرية أم في المرحلة العملية وعند الممارسة، فيجب حينذاك مجيء حل منفصل عن الإنسان يستطيع أن يقدّر الموازين الخاصة والعامة لمصالح البشرية على المدى القريب والبعيد.
هذا الحل هو الدين الإلهي؛ حيث أنّ هذا الحل النموذجي يمتاز عن غيره بأنه يؤسس لحضارة ملتزمة بالغيب والأحكام الشرعية تترافق معه رعاية المصالح والمفاسد لكن بنحو تمتزج تلك المصالح مع الغيب حيث إنه:
أولاً: يوسّع الدين مفهوم الحياة إلى حياة وسيعة لا يفرّق فيها بين الدنيا والآخرة سوى كون الدنيا فانية والآخرة باقية فيأخذ الإنسان في نظره بأنّ يكون حساب مصلحته في أنّ الحياة لها امتداد أبدي.
وثانياً: يستثمر في الإنسان أخلاقه فيمتنّها ويكرّس القيم في حركته، وهذا الخيار يساعد على فضّ النزاع بين ثنائي الفرد والجماعة([3]).
والسؤال هنا هل يفترض بالدين أن يصمم نموذجاً حضاريّاً يؤسس كلّ المفردات المكوّنة للحضارة البشرية أم لا؟
يمكن تقديم جوابين:
الجواب الأول: لا يقصد عند تقييد مفهوم الحضارة بقيد ما أنّ هذا القيد يقطع كل الصِلات عن الحضارات الأخرى، بل إنّ لمفهوم الحضارة معنى وواقعاً مشتركاً بين جميع الحضارات، لكنّ أيّ قيد مفروض يعطي صبغة وخصوصيّة للحضارة المقصودة، فهكذا الحضارة الدينية حينما يقال أنّ الإسلام يريد إقامة حضارة على معاييره فلا يقصد أنّه أرسى كل المفردات من عنده وإنما هو يساهم في شكل ومضمون الحضارة ويعدّل فيها بما يتناسب مع مفاهيمه وقواعده، في هذه النقطة للشهيد الصدر كلام يتسق مع هذا الجواب، يقول: «وأما المذهب الإسلامي فهو لا يزعم لنفسه الطابع العلمي كالمذهب الماركسي كما أنه ليس مجرّداً عن أساس اعتقادي معين ونظرة رئيسية إلى الحياة والكون، كالرأسمالية. ونحن حين نقول عن الاقتصاد الإسلامي أنه ليس علماً نعني أنّ الإسلام دين يتكفل الدعوة إلى تنظيم الحياة الاقتصادية كما يعالج سائر نواحي الحياة وليس علماً اقتصاديّاً على طراز علم الاقتصاد السياسي، وبمعنى آخر: هو ثورة لقلب الواقع الفاسد وتحويله إلى واقع سليم وليس تفسيراً موضوعيّاً للواقع»([4]).
الجواب الثاني: وهو يرتبط بشكل خاص بالشهيد الصدر، فمن وحي نظريته «منطقة الفراغ التشريع» التي يملؤها المقنن البشري ـ الدولة ـ يمكن أن يقال أنّ مساهمة الفقه الإسلامي في رسم الحضارة ليست في كلّ شيء بالتفصيل؛ فالإسلام أوجد منطقة حرة بيد المشرّع القانوني يضع فيها ما يناسب الواقع على ضوء المذاق الديني العام([5])، ولا نظن أنّ منطقة الفراغ عند الصدر مختصة بالأحكام الفقهية القانونية فربما تمتد إلى أكثر من ذلك بحدّ ما([6]).
ومن ذلك يتبين أنه لا يصح الإشكال على النموذج الإسلامي بأنه يقع في مفارقة حين يأخذ أنظمة طوّرتها الحضارة الغربية مثلاً كمفهوم الدولة ومؤسساتها الحديثة فيصبح نظاماً هجيناً، فيجاب: أنّ هذه المفردات وإن ولدت ونمت في حضارة أخرى إلا أنها مع ذلك ليست حقّاً حصريّاً لها وإنما هي حقّ عام لكل الحضارات، نعم المفروض ألا يأخذ النموذج الإسلامي شيئاً فيه مخالفة لبنيته الفكرية كالبنك الربوي فيجب أن يعدّل عليه ويصححه.
هذا، ومن الجانب الآخر وعلى الرغم من أنّ الدين يساهم في صناعة الحضارة ولا يؤسس كل مفرداتها إلا أنّه مع ذلك يصنع المجتمع والإنسان على منهجه الخاص وفقاً لأدواته الخاصة في رأي الشهيد الصدر، وبالتالي ـ فيما نتصوره من سياق وأجواء أطروحته التحليلية لعناصر المجتمع ـ أن الحضارة وقيمها ونمطها سيكون متمايزاً عن الحضارات الأخرى فينشأ أسوب حياة فردية وجمعية مختلفة عن نمط الإنسان الأوروبي وقيم أخلاقية قد لا تتفق بالضرورة مع الحضارات الأخرى، ومن هنا قد تمتد مساهمة الدين إلى صناعة أو كشف مفردات الحسن والقبيح الأخلاقيين، فما قد يتصوره الإنسان حسناً أو قبيحاً بدون مراجعة القيم الدينية وخطوطها العامة قد يكون في حقيقة الأمر واقعاً في فخّ القيم الحضارية الأخرى غير الدينية؛ فمن جهة يلزم تواضع الإنسان فيما يتصوره من الحسن والقبيح ومن جهة أخرى يجب عليه أن يتنبّه إلى أنه لا يتحدث ـ عن غفلة ـ بلسان القيم الحضارية الأخرى.
هذا الأمر يمكن تلمّسه في أطروحة الشهيد الصدر في مثل مفاهيم الدين القيّم والحركة الغائية إلى الله والمثل الأعلى وجدل الإنسان الداخلي، يقول الشهيد الصدر: «هذا الكائن الذي هو في مركز القوة إذا لم يكن قد حلّ تناقضه الخاص، جدله الإنساني من الداخل فسوف يفرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي، ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني وفي شكلها التشريعي وفي لونها الحضاري فهي بالآخرة صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف. قد يكون هذا القوي فرداً فرعوناً، قد يكون عصابة، قد يكون طبقة، قد يكون شعباً، قد يكون أمة، كلّ هذه ألوان من التناقض كلها تحتوي روحاً واحدة وهي روح الصراع، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحل تناقضه الداخلي وجدله الإنساني، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال الضعيف. هذه أشكال متعددة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان وهذه الأشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد، من تناقض رئيسي واحد، وهو ذلك الجدل الإنساني الذي شرحناه القائم بين حفنة التراب وبين أشواق الله سبحانه وتعالى. مالم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني فسوف يظل هذا الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة، إذن النظرة الإسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، نظرة واسعة، منفتحة، معمقة، لا تقتصر على لون من التناقض ولا تهمل ألواناً أخرى من التناقض، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مرّ التاريخ وتنفذ إلى عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة، وروحها المشتركة، ثم تربط كل هذه التناقضات، تربطها بالتناقض الأعمق، بالجدل الإنساني».
ويقول: «إلا أنّ هذه النظرة الضيقة لا تنسجم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على تيار الأحداث في التاريخ، ليس التناقض الطبقي وليد تطور الآلة بل هو وليد الإنسان، هو من صنع الإنسان الأوروبي، ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامل، ليست الآلة هي التي خلقت النظام الرأسمالي، وإنما الإنسان الأوروبي الذي وقعت هذه الآلة بيده أفرز نظاماً رأسماليّاً يجسد قيمه في الحياة وتصوراته للحياة».
ويقول أيضاً: «نحن بنظرتنا المنفتحة ـ يقصد نظرة الإسلام ـ يمكننا أن نبصر ذلك التناقض لأننا لم نحصر أنفسنا في إطار التناقض الطبقي، بل قلنا إن جدل الإنسان دائماً يفرز أي شكل من أشكال التناقض الاجتماعي، ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغل الأوروبي والأمريكي، وجد فيه أن من طبيعة هذا التناقض أن يتحالف مع العامل، مع من يستغله لكي يشكل هو والعامل الأوروبي بل إن هذين الوجودين الطبقيين تحالفا معاً وكوّنا قطباً في التناقض أكبر بدأ تاريخياً منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدّث عنه ماركس. لكن ما هو القطب الآخر هذا التناقض؟ القطب الآخر في هذا التناقض هو أنا وأنت ، هو الشعوب الفقيرة في العالم، هو شعوب ما يسمى بـ«العالم الثالث»، هم شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية هذه الشعوب هي التي تمثل القطب الثاني في هذا التناقض»([7]).
هذه النص الأخير حول اتحاد الرأسمالي مع العامل يؤكده بعض المفكرين فالإنسان الأمريكي أصبح لا يجد حساسية في الطبقية الرأسمالية بل هي أمر مسلم لديه، وإذا كان لديه طموح فهو طموح الانتقال إلى هذه الطبقة لا إجراء تصحيح وتعديل في النظام الرأسمالي الطبقي، هذه الحالة في حقيقة الأمر من إفرازات قيم الحضارة الرأسمالية كما يتضح بالتأمل.
إذن يقع الشهيد في الطرف المقابل للاتجاه الحداثي المؤمن بضرورة دنيويّة الصيغ الحضارية وإخضاع شبكات العلاقات الدنيوية للعقل البشري؛ باعتبار أنّ الدين لا يؤمّن سؤال الواقع الدنيوي وأنّ الإنسان محتاج للأجوبة والنتائج العاجلة في حين أنّ الدين يعده بالآخرة للحصول على النتائج والثمرات وأنّ الدين ثابت في حين أنّ الإنسان يقع في دوامة من التغييرات والتبدلات والتنوعات فيحتاج إلى حلول تتماهى مع هذه الطبيعة.
فأولاً: إنّ هذا في نظر الشهيد يمثّل قصر نظر لحقيقة الحياة الممتدة كما تقدّم.
ثانياً: إنّ عنصر الغيب حاجة أساسية للإنسان، فإذا امتد الغيب إلى القضايا الدنيوية فسيضطر الإنسان إلى اتباعه لأنه أمل منظور لديه إذا علم بأنّ الدين يتدخل في القضايا الحياتية.
ثالثاً: يرى الشهيد أنّ علاقات الإنسان بأخيه الإنسان ثابتة من حيث الأسس الدينية([8]) فإذا كان التفكير الحداثي يرى أنّ هذه العلاقة متغيرة فيجب حينئذ أن يواكبها نظام متغيّر، فالجواب أنّ الدين يرفض هذه الحالة ويعمل على تثبيت أنظمة العلاقة وقمع أيّ حالة غير منسجمة مع الرؤية الدينيّة، هذا إذا صدق فعلاً أنّ طبيعة الإنسان تتغير وإلا فهناك مجال للمناقشة في ذلك والقول بثبات العناصر الأساسية الخيّرة للإنسان المسماة بالفطرة وأنّ هناك عناصر أخرى شريرة تحتاج لكبح وعلاج حتى لا تطغى على العناصر الخيّرة وفي إطاره يأتي النموذج الحضاري لتنمية هذه العناصر وإدارتها فمنها الدين ومنها غيره من النماذج الحضارية المطروحة، لهذا ينتقد الشهيد الصدر الفلسفة الماركسية التي تحاول قمع الفطرة الإنسانية وإرادة تغييرها بالقوة من خلال آمالها بمجيء وقت تتدخل الماكنة المادية في جسد الإنسان وفكره. فإنه يرفض هذه المحاولة ويستبعد وقوعها ويعدّها تفكيراً منطلقاً من الفضاء المادي([9]). وليس بعيداً من هذا ما يطرح الآن في فضاء فلسفة أخلاق الذكاء الاصطناعي. وأما علاقة الإنسان بالطبيعة فهي خاضعة للتغيير وهي مورد قاعدة الفراغ التشريعي عند الشهيد الصدر، فإذا كان التفكير الحداثي يقصد هذا عن مسألة حاجات الإنسان المتغيرة فالشهيد معهم لكنه يؤمن بأنّ الدين يتخذ أسلوباً خاصّاً يعالج به مشكلة هذه العلاقة –وللتفصيل فيه يراجع نظرية الفراغ التشريعي- فلا حاجة حينئذ للجوء إلى خيارات الحداثة الصرفة.
مسألة القيادة، تفسير العصمة في سياق الحضارة
بعد أن تقرر مفهوم الحضارة بإطارها الإسلامي ومعرفة امتدادها بحسب ما قد تم تحليله من كلمات ونصوص الشهيد الصدر، فالآن يأتي دور الفاعل الرئيس في تحريك الحضارة ودفعها إلى الأمام لإنجاحها ومنحها الديمومة.
يطرح السيد الشهيد مفهوم المثل الأعلى في تحليله لعناصر المجتمع، حيث يفرض المثل الأعلى في التركيبة الاجتماعيّة كأمل ونموذج يقتدي به المجتمع وبالتالي تنشأ الحضارة على رؤيته ونمطه.
ويمكن تنظيم فكرته حولها وتحليلها والإضاءة عليها بما يلي:
أولاً: يقرر الشهيد ضرورة المثل والقائد المناسب لأي مشروع يكون، فالمشاريع الناجحة هي التي تختار مثلاً نموذجيّاً وإنساناً متشبّعاً بمفاهيم مشروعه وواعياً بضرورته وأهدافه([10])، وهذا أمر متقرّر وراكز في الطبيعة التكوينية للإنسان في مجال التخطيط والإدارة وفلسفة الحياة، لكن يقع اختيار القيادة على من يستطيع تمثيل المشروع في إطاره وبحسبه، فمن أصغر مؤسسة حتى أكبر مذهب فكري وثقافي يجب أن يكون اختيار القائد على معيار الكفاءة والمناسبة، يضرب الشهيد مثلاً عن قيادة الاتحاد السوفييتي وما حدث من انقسام على نفسها وذلك بسبب اعتقاد الماركسيين الصينيين (الماوية) أنّ القيادة الروسية غير كفوءة لحمل المشروع الماركسي، هذا المثال أعطاه الشهيد في سياق بيان ضرورة القيادة الكفوءة والوعي بلزوم التناسب بين المشروع وقائده.
ونؤكد في سياق هذه النقطة أنّ فكرة القائد ليست أمراً خارجاً عن سياق المدنية الحديثة أو حتى بعض الاتجاهات والمدارس، فمع قيام الحداثة على اللامركزية الاجتماعية والسياسية ـ وكذلك هناك محاولات بضمّ الساحة الدينية إلى مجموعتها ـ إلا أنّه مع كل ذلك فالفارق بين العصر البدائي والعصر المتحضّر هو في مجال تنظيم الجماعة وتأسيس المؤسسات المتخصصة في تحقيق الأهداف، وليس روح هذه الممارسات إلا الإيمان العميق في داخل الإنسان المتحضر بفكرة القيادة بمفهومها العام والتي تتجلى أشكالها في تلك الممارسات. إذن القيادة عنصر أساسي في ماهية المجتمعات الإنسانية.
ثانياً: يتخذ المجتمع المتحضر في إطار نهضته مثلاً أعلى له، وهذا المثل تتنوع أشكاله بحسب ماهيته الفكرية والحضارية، ففي هذا المجال يسجل الصدر نقداً على جميع المثل المحدودة ما سوى الله والتي تعود إلى مختلف الحضارات غير الإلهية، فيطلق عليها مصطلح المثل التكرارية؛ لأن مآلها استنفاد دورتها الفاعلة ثم بعدئذ تمكث عند مثالها المحدود وتدور في فلكه غائبة عن الآفاق العالية التي تقع في طريق الله وفي ساحته، بل أكثر من ذلك سيعود ذلك المثل بالفساد على تلك الحضارات بعد أن يؤدي بعض الخدمات في قيامتها ونموها، فيتضخم المثل المحدود من كونه فاعلاً إصلاحيّاً إلى عامل هدم وجمود لها لأنه مادام منتهى تطلعات أصحاب الحضارة في ذلك المثل المحدود فإنّ مثلهم الأعلى سيعود من كونه مثلاً إلى كونه تمثالاً بعد مضي الزمان وسيشعر المثل المحدود بالأنانية والطغيان وحينها ستنشأ حالة التراجع والاضمحلال في تلك الحضارات وربما خسارة مكتسباتها بعدئذ.
حينئذ تتجلى أهميّة كون المثل الأعلى مطلقاً قادراً على احتواء المجتمعات ودفعها إلى اللانهاية في الأهداف والغايات، في التطلعات والآمال، في الارتباط بالمبدأ والسير في طريقه وتأمين المصالح على المنظور البعيد.
ثالثاً: في هذا البين ونظراً إلى إطلاقيّة المثل الأعلى تتأكد الحاجة إلى صلة موضوعيّة بين البشري المحدود والمثل المطلق (عز وجل)؛ فيضع عندها الشهيد الصدر مفهوم العصمة في سياق الحضارة الإسلامية لتكون مترشّحة عنها وعنصراً فاعلاً فيها وقد سماها بالصلة الموضوعية([11]).
ومنشأ الحاجة إلى هذه الصلة هي استحضار كل القيم والمعاني التي في المثل المطلق في إنسان كامل يقود الاجتماع الإنساني إلى الفلاح والخلاص والتقدّم الحضاري المسؤول والملتزم بالقيم، وهذه الحاجة ضرورة في إطار مشروع حضاري يتطلع إلى إرساء أهدافه وقيمه ولا أقل أن يبني قواعدها وأساساتها لتكون متاحة بيد الاجتماع الإنساني([12])، فكيف بنا نرى الدول والمؤسسات لا تتحمل الأخطاء المضرة بمصلحتها وتحاول أن تحدّ منها بتوظيف أكثر الناس أهلية وتجعل الضوابط والمعايير والرقابة لإنجاح أهدافها ولا نتصور ذلك في القائمين على المشروع الحضاري للدين على الأقل في حدود مرحلة تأسيسه وإنضاج تجربته لا أكثر. إذن الشكل الذي يتبعه الدين في انطلاقة حضارته هو ربط معظم المسؤوليات في شخص المعصوم «الصلة الموضوعية» ولا وجود ـ حال بعث الدين وإرساله ـ للأشكال المعاصرة في إعصام المؤسسات عن الخطأ والفشل في مرحلة التأسيس، وإذا فشلت المؤسسة في بداية ولادتها كان ذلك علامة على فشل صاحبها أو عدم اتخاذه للتدابير اللازمة، فكذلك المشرّع إذا أراد الانطلاقة للدين فإنّه يجب أن يحمّله لمن يستطيع أن يحفر في الواقع قواعده وأسسه الأولى لكي يستمر ويخلد كما أراد.
إذن، يمكن الآن معرفة الفرق بين تقريب مشهور المتكلمين لمفهوم العصمة وبين تقريب الشهيد الصدر، فالمشهور يعطي المعصوم صفة المقدّمية الصرفة للدين، أي أنه موصل للرسالة فلا يعقل عندئذ عدم اتصافه بالعصمة لأنه بذلك يوجب نقض الغرض الإلهي ويوجب عدم اتساق صفة الصدق في حامل الرسالة مع كون المعجزة حاصلة على يده، فهذا التقريب أورد عليه بإيرادات منها أنه مادامت القضية قضية إيصال وتبليغ وإعجاز فيكفي حكم العقل بدفع الضرر المقدّر بقدر القبول بالمعجزة، فيكفي الاعتقاد بالصدق وعدم الكذب ويجوز عليه السهو القليل الذي لا يضرّ باعتدال شخصيّته([13])، أما الصدر فإنّه يبني تصوّره للعصمة على إطار حضاري يكون المعصوم فيه عنصراً فاعلاً وضرورةً في قيامة الحضارة الإسلامية فلا يمكن تصوّر دين بلا عصمة. كما أنّ دليل ضرورة الحافظ للدين([14]) يختلف عن تصوّر الصدر للعصمة أيضاً فدليل ضرورة الحافظ لا توجد فيه الجهة الحيويّة والعموميّة التي في المشروع الحضاري، إنما هو مجرّد حفظ للشريعة أيّاً كانت، بينما العصمة عند الصدر عنصر فعال في حضارة إسلامية حيّة متحرّكة يقوم المعصوم بشؤونها، كما أنّ دليل الحافظيّة يكفي فيه تصوّر المعصوم مدافعاً وحامياً للدين لا أكثر من ذلك، أي يكفي الدور السلبي للمعصوم في حفظ الدين، أما العصمة في المشروع الحضاري عند الصدر قيادةٌ وكفاح.
خاتمة
يتلخص مما تقدّم أنّ رؤية الشهيد الصدر للإسلام أنّه مشروع حضاري يقف ندّاً لغيره من المشاريع الحضارية البشريّة الأخرى، كما أنّ الحضارة الإسلامية ليست بمعنى إبداع كامل لكل العناصر التفصيليّة للحضارة وإنما يساهم الإسلام فيها ويعدّل بما يتسق مع اتجاهه ورؤيته وأهدافه، كما يمكن تفهّم عصمة النبي‘ والأئمة^ في إطار كونهم قادةً للمشروع الإسلامي ومشرفين على قيامة الإسلام في الإنسان والاجتماع والأرض.
وأما بالنسبة إلى المنهج الذي اتخذه الشهيد الصدر في هذه النظريّة فهو قرآني يستكشف من خلاله سنن التاريخ، أي أنّ القرآن يمنح الوعي بسنن التاريخ بتدبّر آياته والتأمل فيها، كما أنّ سنن التاريخ التي نبّه عليها القرآن يحصل التصديق بها خارجاً بالعمليات الاستقرائية وإلا لما أصبحت سنناً، إذن تجتمع في هذه الأطروحة الأدلة القرآنية والعقلية ـ الاستقرائية ـ والتحليلية التاريخية([15]).
أخيراً، نرى أنّ هناك توافقاً في مفهوم العصمة بين الشهيد الصدر والسيد فضل الله (رحمهما الله)، يقول السيد فضل الله: «ومن هنا، فإننا حاولنا ولا ندري كما تصدق هذه المحاولة من الناحية الفكرية أن ندرس طبيعة النبوّة، فإن النبوة ليست مهمة (ساعي بريد) ينقل الرسالة ليبلغها للناس وتنتهي مهمته عند هذا الحد بل نحن نقرأ ﴿الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ (الجمعة:2)، ونحن نقرأ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ (الأحزاب:46)، فهو بالإضافة إلى كونه مبشراً ونذيراً يمثل الشاهد على الناس كما يمثل السراج الذي يضيء للناس، ومن المعلوم أن المقصد أنه يضيء للناس درب الحق وهكذا كان موقع النبي أن يحكم بين الناس بالحق وأن يقيم الحياة على أساس الحق لا يمكن أن يكون في عقله شيء من الباطل والإنسان الذي جاء ليكون السراج المنير لا يمكن أن يكون في عقله شيء من الظلمة أو في إحساسه أو في حركته شيء من الظلمة، الأمر الذي يجعل مسألة النبوة هي مسألة نور يشرق في عقول الناس وقلوب ناس وحياة الناس، لاسيما إن الله جعل الكتاب الذي يحمله النبي‘ نوراً واعتبر النبي تجسيداً للكتاب فهو القرآن الناطق إلى جانب القرآن الصامت. إننا نعتقد بأنّ فهمنا لدور النبوة وهو دور المهمة التي يراد لها أن نغير العالم على أساس الحق يفرض أن يكون حقّاً كله وألا يكون فيه شيء من الظلمة والإمامة هي امتداد للنبوة من دون نبوة «يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي من بعدي»، لذلك لما كان دور الإمام هو دور حارس الشريعة ودور الإنسان الذي يعمل على امتداد خط النبوة في حياة الناس على أساس تركيز الحق في الفكر وفي العمل والقول وفي حركة الواقع فلابد أن يكون معصوماً تماماً كما هو النبي‘ في هذا المجال»([16]).
_________________
([1]) محمد باقر الصدر، موجز في أصول الدين (المرسل ـ الرسول ـ الرسالة): ص175-178، ت: عبد الجبار الرفاعي، ط: دار حبيب، الأولى، 1417هـ.
([2]) محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: ص105-106، دار الكتاب الإسلامي، ط: الثانية، 2013م. وقد طرح ذلك وفقاً للرؤية القرآنية لسنن التاريخ.
([3]) راجع ما تقدم بشكل مبسوط: محمد باقر الصدر، بحوث إسلامية ومواضيع أخرى، دار الكتاب الإسلامي، ط: الثانية، 2013م، ص 138- 151. وفلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، ط: الثالثة، 2009م، ص50-92.
([4]) محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص311-312، ط: دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط: العشرون، 1987م.
([5]) المصدر السابق: ص680-686، والمدرسة القرآنية: 178.
([6]) فهو وإن كان يؤمن بأن نمط العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان لا تتغير قواعدها بخلاف علاقة الإنسان بالطبيعة التي هي مورد منطقة الفراغ التشريعي لكن كل هذا في مجال الأحكام الشرعيّة الفرعية، أما في المذهب الاجتماعي للإسلام فهو يعطي خطوطاً عامة وربما في بعض التفاصيل، لكن في التفاصيل التي لم يتحدث عنها بخصوصها فهي موكولة إلى المذهب العام للاجتماع الإسلامي على غرار كلامه في المذهب الاقتصادي للإسلام، وهذا وإن لم يصرّح به الشهيد الصدر في كتبه إلا أنّه تحليل للكاتب لا يجده غريباً عن أجواء كلامه في كتابي اقتصادنا في حديثه حول المذهب الاقتصادي للإسلام كما نقلنا نصه أعلاه وكذلك المدرسة القرآنية في محاضرات تحليل عناصر المجتمع.
([7]) راجع: محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص154-155 و 158 و 162.
([10]) محمد باقر الصدر، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف، ص213، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، ط: الثانية، 2006م، ت: عبد الرزاق الصالحي.
([11]) هذا الترشح يعود لتفكير اجتماعي وعقلائي ولا علاقة له بقاعدة العقول العشرة، وإن كان يمكن عدها ظهيراً فلسفياً لمن يقبل بهذه القاعدة.
([12]) مقصودنا أنه لا تضر غيبة المعصوم الذي هو الصلة الموضوعية للمثل الأعلى مادام أنّ هذه الصلة قد أرست النظام النموذجي ثم غابت بعدئذ بعض ملامحه مع مرور الزمان وغيبة الإمام؛ لأن المهم هو المنظومة العامة ولو مع فقدان بعض عناصرها كما في الأحكام الظاهرية وعدم اليقين ببعض القضايا الدينية، فالمنظومة تبقى ناهضة وحيوية حتى مع نقصها الذي يعوّض بالاجتهاد، كما أنّ سياق العصمة عند الشهيد الصدر هو كونها من الشكل الثالث للسنن التاريخية وهو أن تكون مجموعة من السنن اتجاهاً عامّاً يمكن انكسارها أو انكسار أجزاء منها مع توفر موانعها وليس من قبيل السنن القانونية ـ بتعبير الصدر ـ التي لا تقبل الانكسار أو الضمور في مقاطع من الزمان، فمع الالتفات إلى هذه النقطة يمكن إعطاء جواب على مباني ومفاهيم الصدر حول مسألة غيبة الإمام وتلائمها مع أدلة الإمامة، ولا يبرر ذلك النقص أن نذهب إلى الخيارات غير الدينية الصرفة؛ إذ لا تحتوي أساساً على تلك المنظومة التي في الدين، ومنطلقاتها قد تتغاير مع الاتجاه العام للدين.
([13]) انظر مثلاً نقد محمد آصف محسني في كتابه: صراط الحق في المعارف الإسلامية والأصول الاعتقادية، ج3، ص19-20.
([14]) امامت بزوهشي: ص144، مجموعة من المؤلفين، ط: جامعة العلوم الإسلامية الرضوية، الأولى، 1423هـ (فارسي).
([16]) محمد حسين فضل الله، في رحاب أهل البيت، ص404-405، دار الملاك، بيروت، 2001م.