دراسةٌ في المفهوم والمناشئ والآثار
ـ القسم الثاني ـ
السيد أمير العلي(*)
المبحث الثاني: عوامل ظهور الاحتياط
بعد أن تتبَّعنا الموارد التي يحتاط فيها الفقيه، ووقفنا على مناشئها، من المهمّ أن نتعرّض لعوامل وجود هذه الظاهرة، وأسباب اشتداد حضورها عند بعض الفقهاء قياساً بفقهاء آخرين، وفي بعض المراحل الزمنية دون غيرها. ونحن إذا أردنا استعراض العوامل التي نتوقّع دخالتها في وجود هذه الظاهرة وسعتها فإنّنا لا نعتبرها عوامل حَتْمية، كما لا نؤكّد توافرها جميعاً عند كلّ فقيه، وفي كلّ احتياطٍ يتّخذه في بياناته لآرائه الفقهية.
أما العوامل فهي:
الأوّل: الامتداد الزمني وتعمّق البحث الفقهي
كلّما امتدّ بنا الزمن، وابتعدنا عن عصر صدور النصّ، تتزايد الحاجة إلى الاجتهاد؛ بتزايد تفريعات المسائل، والتغيّرات التي تطرأ على مواضيعها، هذا من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى ينمو البحث في أصول الفقه، وتتعدّد وتتعمّق الآراء الاستدلالية، وهذا ما نجده واضحاً عند مراجعتنا للكتب الفقهية المتقدّمة في بدايات الغيبة الكبرى، ومقارنة عدد المسائل المطروحة فيها، وطول وسعة الاستدلالات عليها.
كلّ ذلك إذن يجعل العملية التي يقوم بها الفقيه أصعب وأعقد، ويجعل جزمه بالنتيجة أضعف([1])، بحيث يكون أمام احتمالات متعدّدة في المسألة التي يريد البحث عن الحكم فيها، وكلّ احتمال يميل إليه قد يجد وجوهاً أخرى لاحتمالٍ يقابله، بينما يكون عدد الاحتمالات في فتراتٍ زمنية متقدمة أقلّ؛ نظراً لقلة حضور العاملين الذين ذكرناهما: (التفريع الفقهي؛ والعمّق الاستدلالي).
لذلك فإنّ الفقيه المعاصر في هذه الأجواء البحثية المتفرّعة والمعقّدة يكون مهيّأً علمياً، ورُبَما نفسياً، فيشعر بالتواضع العلمي، والرغبة في أن يذهب باتجاه الاحتياط، الذي يضمن به الانسجام مع هذه الاحتمالات المتقابلة([2]).
غياب الاجتهاد القرآني
وفي هذا السياق يلفتنا موقفٌ لأحد الداعين إلى اجتهادٍ فقهي يرتكز بصورةٍ أساسية على القرآن الكريم، ويعيد له الاعتبار الذي غيَّبه وأبعده ارتكاز الاستدلالات الفقهية على الحديث والعقل غير القطعي، ممّا أدّى ـ حسب وجهة نظره ـ إلى نشوء خللٍ بنيوي في الفقه التقليدي؛ حيث إنّ التراث الحديثي مبتلىً بمشاكل كبيرة وتعقيدات شديدة في ناحيتي: صدوره الظنّي؛ ودلالته غير الواضحة. وهذا ما أسهم في أن يبذل الفقهاء كثيراً من الوقت والجهد حتّى يصلوا إلى نتائج اجتهادية، وهي مع ذلك نتائج غير أكيدة، مشحونة بالتردُّد وعبارات الأقوى والأحوط والأَوْلى. بينما لو اعتمدوا على الاجتهاد القرآني لوصلوا إلى نتائج آكد وأوضح، في وقتٍ أقصر، وبجهدٍ أقلّ؛ حيث إنّ صدور القرآن الكريم قطعيّ، ودلالته واضحة بيِّنة بعيدة عن التعقيد([3]).
الثاني: الروحية الاحتياطية والعقلية التدقيقية
يقوم الاستدلال الفقهي على مجموعة ضوابط يراعيها المجتهد أثناء بحثه عن الأحكام الشرعية. وترجع هذه الضوابط إلى ما يصل إليه من قواعد في علم أصول الفقه، الذي يبحث عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط. فهو ـ أي الاستدلال الفقهي ـ ميدانٌ تطبيقي لقواعد كلية على جزئيات متنوّعة ومتجدّدة ومتفاوتة. وهذا ما يعطي بطبيعته مساحةً للاختلاف بين الفقهاء في تطبيقهم لتلك القواعد، الاختلاف الذي ينشأ من اختلافهم في القواعد نفسها، وفي تطبيقاتها، كما قد ينشأ من اختلاف الخصائص الشخصية بينهم، لكنْ بشكلٍ لا يخرجون معه عن الضوابط العلمية الموضوعية المفترضة.
فالذكاء ـ مثلاً ـ والذهنيّة الوقّادة التي يمتاز بها بعض الفقهاء توثِّر في تميُّز بحوثهم الاستدلالية بالعمق والالتفاتات غير المسبوقة. والتتبُّع الواسع الذي يبذله بعض الفقهاء يظهر في شمولية بحوثهم وتكاملها. ولعلّ وضوح ما نذكره يجعلنا غير مضطرّين إلى إيراد نماذج تؤكِّده.
والروحية الاحتياطية وإنْ كانت تنطلق من التحذُّر في مقام الإفتاء؛ مراعاة للتقوى، وهذا ما تعنيه العدالة المشترطة في صفات المرجع، وبالتالي نتوقَّع وجودها في كلّ الفقهاء المتوفِّرين على هذه الصفة، وبذلك نبرِّر تقليدهم شرعياً، إلاّ أنّ بعض الفقهاء يتميَّز بمستوىً أعلى من هذه الصفة، ويكون مضيفاً إلى الحدّ المطلوب من الاتّصاف بهذه الروحية اتّصافاً أشدّ، وهذا ما يُعَدّ من أهمّ الخصائص الشخصيّة المؤثّرة، والتي يمكن اعتبارها عاملاً مساعداً في تشكُّل ظاهرة الاحتياط في الفتاوى إلى درجةٍ كبيرة([4]). هذه النزعة أدّت ببعض الفقهاء الكبار إلى أن يعرضوا عن التصدّي لمقام الإفتاء، رغم قدرتهم الاجتهادية المشهودة؛ كالسيد ابن طاووس، الذي لم يَرِدْ عالم الفتوى، بل اكتفى بأن كتب كتاباً فقهياً واحداً فقط؛ والملاّ صالح المازندراني، الذي امتنع عن شرح قسم الفروع من كتاب الكافي، للكليني، واكتفى بشرحه لأصول الكافي، وهو شرحٌ عميق ودقيق([5])؛ والشيخ أحمد النراقي، الذي ينقل عنه قوله: لئن تسقط عليّ صخور جبال نراق فإنّ تحمّلها أهون عليَّ من بيان الفتوى لمَنْ يستفتيني([6]). وإذا كانت الروحية الاحتياطية قد أدَّتْ بهؤلاء العلماء إلى الإعراض عن الدخول في ميدان الفتوى أو البحث الفقهي فإنّها أدَّتْ وتؤدّي إلى نزوع فقهاء آخرين إلى الامتناع أحياناً عن إبداء آرائهم الاجتهادية، حتّى لا يوقعوا مقلِّديهم في مخالفةٍ واقعية محتملة، ويرجِّحون الإشارة إليهم بطريق الاحتياط، الذي يضمنون به مطابقة سلوكهم لواقع الأحكام الشرعية.
وفي دائرة الخصائص الشخصية المؤثِّرة في اللجوء إلى الاحتياط يمكننا أن نعتبر العقلية التدقيقية، ورُبَما الشكّ الزائد عن المتعارف([7])، عاملاً كبيراً؛ حيث تبيّن من خلال تعرّضنا لمناشئ الاحتياط أنّ التفات الفقيه لها يكون بعد استقصائه للمحتملات في المسألة التي يبحث عن حكمها. وهذه الاحتمالات ستكون أكثر وأوفر حينما تكون ذهنية الفقيه تدقيقيةً، تتتبَّع كلّ الوجوه المحتملة، وتقف عند كلّ شاردةٍ وواردة، بل قد تستغرق في افتراضاتٍ بعيدة، تقترحها الذهنية الاحتمالية والذكاء الحادّ([8]). وكلّما تزايدت احتمالات الحكم الواقعي سيكون الفقيه أبعد عن الجزم والاطمئنان بالحكم الظاهري، وهذا ما يجعله يميل إلى اتّخاذ طريق الاحتياط.
ورُبَما إلى هذا العامل، بوجهتَيْه: الروحية؛ والذهنية، يشير بعض الباحثين، حينما يذهب إلى أنّ الاحتياط بترتيب الأثر على كلّ احتمال مهما كان ضعيفاً ينشأ أحياناً من التوهُّم والتخيُّل، ويدلّ على جنبةٍ وطريقة وسواسية غير معتدلة([9]).
الثالث: تأثير المدّ الأخباري
أرجَعَ بعض العلماء الباحثين في هذا الموضوع أحد أسباب تبلور ظاهرة الاحتياط إلى أنّ بعض الفقهاء الأصوليين تأثَّروا عملياً بالمنهج الأخباري في الاستدلال، وإنْ اختلفوا معهم نظرياً([10]).
ولتقريب هذا العامل يمكن أن نقول: ألقَتْ المدرسة الأخبارية بظلالها على الأجواء في الحوزات العلمية، وتركت جملة من الآثار المشهودة، لعلّ من أهمّها العناية الكبيرة بإعادة وتركيز حضور التراث الحديثي، من خلال الموسوعات التي جمعت المصادر الحديثية المتعدِّدة والكبيرة، أو من خلال التقعيد النظري لدَوْر الحديث في البناء والاستدلال العلمي في مختلف مجالات المعرفة الدينية، في مقابل العقل، الذي تحسَّست المدرسة الأخبارية من هيمنته على هذه العلوم، بما أدّى في نظرهم إلى انحسار دَوْر النصوص الدينية، ولا سيّما الحديث منها.
وهذه المدرسة وإنْ أفَلَتْ، وانتهى الصراع الأخباري الأصولي لصالح الأصوليين، على يد زعيمها الشيخ الوحيد البهبهاني(1206هـ) في كربلاء، إلاّ أن الجوّ العلمي العام قد تسرّبت إليه بعض الملامح الأخبارية، مثل: فكرة الاحتياط، التي دام الجدل حولها، واختلف معهم في تفاصيلها الأصوليون. إلاّ أنّ هذا الاختلاف النظري بدا متضائلاً في الجانب التطبيقي، حيث أدّى التركيز على فكرة الاحتياط إلى تكوّن حساسية خاصّة تجاه المحتملات في المسائل الفقهية؛ رُبَما بسبب تظهير روايات الاحتياط، وتسليط الضوء الشديد عليها، فصار الفقيه حين يواجه مسألةً معيّنة يلتفت إلى كلّ احتمالٍ فيها، يدفعه إلى ذلك حساسيّته النفسية من الوقوع في شبهة مخالفة واقع الحكم الشرعي، انطلاقاً من التوصيات الواردة في الروايات بالاحتياط والوقوف عند الشبهات. ولعلّ هذا ما يفسِّر وضوح ظاهرة الاحتياط في الفتوى بعد ظهور المدرسة الأخبارية مقارنة بما قبلها.
الرابع: التأثُّر ببعض الفقهاء
يمكن أن نضيف عاملاً آخر من العوامل المساعدة على ذهاب الفقيه إلى الاحتياط في الفتوى، وهو تأثُّر الفقهاء بفقهاء آخرين. وهو حالةٌ متوقّعة وعفوية؛ إذ من طبيعة الإنسان أن يتأثَّر بمَنْ حوله، ولا سيّما إذا كان ينظر إليه باحترامٍ، ويعرف منه القوّة العلمية، وشدّة التقوى، وحينئذٍ يعطي لأفعاله وجوهاً واحتمالات للصحّة، حتّى لو لم يعرف تفسيراً أو تبريراً واضحاً لها. ويزداد هذا التأثُّر إذا التفت إلى السبب العلمي، حتّى لو لم يكن مقتنعاً به بالكامل.
وفي ما نحن فيه نرى أنّ طريقة الفقهاء في العصور المتأخِّرة في بيان آرائهم وفتاواهم هو أن يأخذوا كتاباً فقهياً سابقاً (رسالةً عملية لأحد الفقهاء السابقين)، ويعمدوا إلى التعليق عليها، وهذا ما يستدعي نظرهم إلى فتاوى صاحب الكتاب واحتياطاته، وهذا ما يجعلهم أحياناً يلتفتون إلى مواطن احتياطاته، فيَجْرُون هم أيضاً على ذلك في تعليقاتهم. ولولا نظرهم هذا رُبَما لم يحتاطوا، بل صرّحوا بآرائهم فيها. ونحن هنا لا نريد أن ننفي وجود مبرِّر للاحتياط، بل نحتمل أن يكونوا قد التفتوا إليه من خلال احتياطات الفقيه الذي علّقوا على كتابه الفقهي وفتاواه. وإذا أردنا أن نأتي بشاهد على هذا التأثُّر سنجد خير مثال هو العروة الوثقى، للسيد اليزدي، والذي علّق عليها معظم الفقهاء المعاصرين، وجَرَوْا على كثير من احتياطاته فيها وقبلوها([11])، أو أنّهم تنزّلوا من الفتوى التي يقول بها إلى الاحتياط، وإنْ اختلفوا معه في بعضها، وصرّحوا بفتاواهم فيها.
ولعلّنا نعطي هذا العامل أهمّيةً حينما نجري مقارنة بين كتابين فتوائيين لمرجعٍ واحد، يكون أحدهما تعليقاً على كتاب فقيهٍ آخر، للاحتياطات حضورٌ كبير فيه، ويكون الكتاب الثاني ابتدائياً من تأليف المرجع نفسه؛ حيث نلاحظ تفاوتاً في عدد الاحتياطات. ويمكننا أن نطرح مقارنةً مقترحة بين منهاج الصالحين، للسيد الشهيد الصدر، الذي كان ناظراً فيه إلى منهاج السيد محسن الحكيم، وبين الفتاوى الواضحة، الذي طرح فيه فتاواه في آخر حياته، فلا تتعدّى الاحتياطات في الثاني العشرة، بينما في الكتاب الأوّل تزيد على العشرات. وكذلك حين نجري مقارنةً بين كتاب منهاج الصالحين، للسيد الخوئي، وبين تكملة المنهاج، الذي أضاف فيها السيّد نفسه الأبواب التي لم يتطرَّق إليها السيد الحكيم، رضوان الله عليهم جميعاً.
الخامس: فقدان الحرّية العلمية
تتيح أجواء الحرّية في المجتمع العلمي المجال أمام العلماء وطلاّب العلم، وتوفّر لهم الطمأنينة حين يريدون أن يطرحوا نظريات أو آراء جديدة مخالفةً للسائد والمشهور، أو حين تنقدح في أذهانهم أسئلة في موضوعات حسّاسة، فلا يتردَّدون في ذلك، ولا يضعون في أذهانهم ونفوسهم هواجس تعيق انطلاقتهم الفكرية. بينما تنقلب الصورة تماماً في أجواء القمع أو الحَذَر الشديد والتوجُّس من أيّ رأيٍ جديد أو سؤال حسّاس، فعندما تواجه الأفكار العلمية المختلفة بالتحذير منها أو الاستهزاء بها، وعندما يقيَّم الرأي على أساس كونه موافقاً أو مخالفاً للمشهور والمتعارف، بَدَلاً من التعامل معه على أساس انطباق المعايير الموضوعية عليه، في هذه الحالة سوف يتردَّد العالم في تبيين رأيه المخالف، ويتخوَّف الطالب من طرح سؤاله غير المعتاد. وهذا ما نستطيع اعتباره من عوامل اشتداد ظاهرة الاحتياط في الفتوى؛ حيث لن يتجرّأ الفقيه، أو سيضع حساباتٍ كثيرة قبل أن يبيِّن رأيه العلمي ويفتي به([12]).
أحكام وآثار الاحتياط بالنسبة إلى الفقيه
حالات الاحتياط عند الفقيه
لكي نتعرّف على حكم ممارسة الفقيه للاحتياط في الفتوى نحتاج أن نتصوّر الحالات التي يختار الفقيه فيها ذلك. ويمكننا اختزالها في ثلاث حالات؛ نستعرضها أوّلاً؛ ثمّ نستعرض حكم كلٍّ منها.
الحالة الأولى
قد لا ينتهي الفقيه من عملية البحث عن الحكم الشرعي في مسألةٍ ما؛ لضيق وقته، أو لعدم توفّر المصادر الكافية، أو لأسباب أخرى، فلا يصل إلى الحكم فيها، ويلجأ بَدَل تقديم حكمٍ غير مستدلّ عليه إلى الاحتياط، ببيان الطريق الذي يضمن به مقلِّدوه امتثالهم للحكم الواقعي، الذي لم يصل إليه الفقيه المرجع.
الحالة الثانية
أن يخرج الفقيه من عملية الاستدلال بحكمٍ واضح في المسألة مورد بحثه، لكنّه ـ لأسباب متعدّدة تقدَّم ذكرها ـ يعرض عن التصريح برأيه، والإفتاء بالنتيجة التي توصّل إليها، ويختار أن يحتاط في مقام الفتوى، فيقدِّم لمقلِّديه الطريق الذي يضمنون به ـ لو اختاروه ـ امتثالهم للحكم الواقعي على مختلف احتمالاته.
الحالة الثالثة
أن يذهب الفقيه إلى ميدان الاستدلال، ويجول بفكره في الأدلّة، فيجدها غير تامّة أو غير ناهضة، أو يجد بعضها مخالفاً أو معارضاً لبعضٍ آخر. وهنا:
ـ قد يصل بعد إعمال مزيدٍ من التدقيق والترجيح إلى اعتماد دليلٍ يركن إليه من بين الأدلة التي أمامه، غير أنّه؛ نظراً لوجود وجوهٍ أخرى محتملة، وإنْ كان هو يرفضها، ولا يراها ناهضةً بمواجهة ما اختاره من أدلّةٍ أوصلته إلى النتيجة، يحجم ويتوقَّف عن التصريح والإفتاء بتلك النتيجة. وهذه الصورة من الحالة الثالثة يمكن إرجاعها وإدراجها في الحالة الثانية.
ـ وقد تؤدّي مواجهة الأدلّة المختلفة والاحتمالات المتقابلة إلى تردُّد الفقيه وعدم جزمه برأيٍ في المسألة، فلا يصل إلى نتيجةٍ، ويكون متوقِّفاً في الرأي حقيقةً، فيلجأ إلى الاحتياط بسبب ذلك. وهذه الصورة في واقعها تعود إلى الحالة الأولى، التي لا يستكمل فيها المجتهد استدلاله.
هذه إذن هي مجمل الحالات التي يختار فيها الفقيه الاحتياط في الفتوى.
ونأتي الآن لبيان الموقف الشرعي من الاحتياط في كلٍّ منها.
حكم الحالة الأولى: الاحتياط عند عدم استكمال الاستدلال
إذا لم يستَوْفِ الفقيه البحث عن الأدلّة التي يحتملها في المسألة، وكذلك إذا بحث في الأدلّة ولم يجزم بنتيجةٍ فيها، فإنّه لا يستطيع أن يفتي بحكمٍ فيها، بل لا يجوز له ذلك؛ لأنّ إفتاءه في هذه الحالة يكون إفتاءً بغير علمٍ، وهذا محرَّمٌ، دلَّتْ على حرمته آياتٌ كثيرة، ورواياتٌ متواترة([13])، منها:
ـ قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (الأعراف: 33).
ـ قوله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ (النحل: 117).
ـ قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً﴾ (الإسراء: 36).
ـ عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر× قال: «مَنْ أفتى الناس بغير علمٍ ولا هدىً لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر مَنْ عمل بفتياه»([14]).
كما أنّ الفقيه في حالة عدم استكمال الفحص عن الأدلّة لا يستطيع التمسُّك بأصالة البراءة، بحيث ينفي الوجوب أو الحرمة إنْ كانا محتملين في المسألة؛ فإنّ (هذا الأصل مشروطٌ بالفحص واليأس عن الظفر بدليلٍ، فلا يجوز إجراء البراءة لمجرّد الشكّ في التكليف، وبدون فحصٍ في مظانّ وجوده من الأدلّة)([15]). كما لا يمكنه إجراء البراءة فيما إذا لم يجزم ببطلان الأدلّة المتوفِّرة لديه والمطروحة في المسألة، بحيث بقي متردِّداً تجاهها؛ فإنّه لا يكون فاقداً للدليل، ولا مستوفياً للفحص عن الحكم. وعليه، لا يجوز للفقيه أن يفتي بإلزام أو ترخيص في الحالة الأولى، وكذلك في الصورة الأولى من الحالة الثالثة.
حكم الحالة الثانية: الاحتياط عند الجزم بالنتيجة الاجتهادية
إذا خرج الفقيه من عملية الاستدلال بنتيجةٍ فإنّ الموقف من احتياطه في الفتوى حينئذٍ يمكن معرفته من خلال البحث عن حكم توقُّف الفقيه في الفتوى، وحكم بيان الفقيه لرأيه في المسائل المتعدِّدة، وخصوصاً إذا وجّه إليه أحد المكلَّفين أو المقلِّدين استفتاءً في مسألةٍ له رأيٌ فيها، وبالأخصّ إذا كانت تلك المسألة ابتلائية، يحتاج المكلَّفون إلى معرفة موقفهم الشرعي تجاهها.
الموقف من وجوب الإفتاء على الفقيه
لقد انقسمت آراء العلماء في حكم إفتاء الفقيه إلى اتّجاهين، هما:
الاتجاه الأوّل: وجوب الإفتاء على الفقيه
لقد نسب بعض العلماء إلى جُلِّ الفقهاء وجوبَ الإفتاء على المجتهد (إذا أَمِن الضرر، ولم يخَفْ على نفسه، أو على أحد من المؤمنين)([16])، بل في مجمع الفائدة: الظاهر أنّه لا خلاف في جواز الفتوى للمجتهد، بل وجوبه عليه([17]). ويبدو أنّ هذا الوجوب هو وجوبٌ كفائيّ على الفقهاء، يظهر ذلك من تعبير العلاّمة في التذكرة: يجب على الفقهاء الإفتاء في حال غيبة الإمام× إذا أمنوا الضرر…([18]). كما يظهر من كلماتهم أنّ هذا الوجوب شاملٌ لكلّ المسائل؛ حيث لم يفصِّلوا في هذا الوجوب، وإنْ لمّحوا أو صرّحوا بكفائيّته في كلّيات المسائل الفقهية، دون آحادها، وإنْ كان بعضهم ادّعى الإجماع على وجوب إظهار المجتهد حين يستفسر أحدٌ عنه، إلاّ إذا كان في حال تقيّة([19]).
الاتجاه الثاني: عدم الوجوب وجواز التوقّف
وهذا هو الذي يظهر وضوحه عند الفقهاء المعاصرين ـ على الأقلّ ـ؛ حيث إنّهم وإنْ لم أقِفْ على تصريحاتٍ منهم بحكم التوقّف عن الإفتاء، لكنّ سيرتهم في ممارسة الاحتياط في الفتوى لا تخفى على أحدٍ. والاحتياط ـ كما صار واضحاً ـ يعود إلى التوقُّف عن الفتوى وعدم بيان الرأي الذي يصل إليه الفقيه في عملية الاستنباط. بل هناك مَنْ صرّح بعدم الوجوب عند مناقشته للأدلة المطروحة للقول بالوجوب، كما سيأتي قريباً. هذا، وكلامنا حول حكم الإفتاء في آحاد المسائل، حيث يرى أصحاب هذا الاتّجاه (أنّ الإفتاء ليس واجباً عينياً، بل ليس واجباً أصلاً في آحاد المسائل، وإنْ قيل: إنّ أصل الاجتهاد واجبٌ كفائي، فلا حَرَج على الفقيه في عدم إبداء نظره)([20]).
إذن نحن بين اتّجاهين في الموقف الشرعي من إفتاء الفقيه؛ يظهر الأوّل من كلمات بعض العلماء، حيث ذهبوا إلى وجوب الفتوى على الفقيه، وإنْ لم ينصّوا على انحلاله إلى وجوباتٍ متعدّدة في آحاد المسائل؛ بينما يصرِّح آخرون أو يَجْرُون عملياً على عدم الوجوب، وجواز توقُّف الفقيه في الفتوى.
ولكي تتّضح صورة الخلاف في هذه المسألة نتعرّض لأهمّ الأدلّة التي طرحت للقول بالوجوب، ولأهمّ الإشكالات التي استند إليها القائلون بعدم الوجوب، بعد أن نقرّ بأن الأصل هو عدم الإلزام حين نشكّ في الوجوب، فيكون الإشكال على دليل الوجوب بمثابة الاستدلال على عدمه.
أدلّة وجوب الإفتاء
ونستطيع أن نجمل الدليل على وجوب الإفتاء في نوعين من الأدلّة: الأوّل: ما دلّ على حرمة كتمان العلم، فإذا حرم الكتمان وجب البيان والإفتاء؛ والثاني: ما دلّ على وجوب تعليم الأحكام، والفتاوى هي بيانٌ للأحكام، فتجب.
الدليل الأوّل: حرمة كتمان العلم
دلّت آية الكتمان، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ﴾ (البقرة: 159)، على حرمة إخفاء البيّنات، وحرمة كتمان ما يعلم كونه من الهدى والدين. وقد استدلّ بها القائلون بوجوب الفتوى([21])؛ فإنّ عدم إظهار الرأي الفقهي الذي يصل المجتهد إلى أنّه موجودٌ في الشريعة يُعَدّ كتماناً للعلم، وهو محرَّمٌ بدلالة الآية الكريمة.
مناقشة الاستدلال بآية الكتمان
تمّ توجيه عدّة ملاحظات على الاستدلال بآية الكتمان على وجوب الإفتاء، وهي:
1ـ إنّ هذه الآية لا تدلّ على حرمة كتمان الأحكام، بل هي نازلةٌ في ما يرتبط بأصول الدين والعقديّات، حيث تشير إلى علماء اليهود والنصارى (الذين كتموا أمر محمّد| ونبوّته، وهم يجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل، مبيَّناً فيهما)([22]). فتكون ناهيةً عن كتمان البينات الدالّة على الحقّ؛ حتّى لا يكون هذا الإخفاء سبباً في التشويش على الحقّ وعدم وضوحه. وهي لا تتحدَّث عن الأحكام المستفادة بعد ثبوت الحقّ، بل هي ناظرةٌ إلى الآيات والبيّنات التي يتجلّى بها وضوح الحقّ، وهو في مورد الآية نبوّة النبي محمّد|، و(لا يبعد أن تكون اللام في ذلك إشارة إلى أدلّة واضحة معيّنة معهودة، وهي التبشيرات الثابتة في الكتب السابقة، وهي من أدلّة النبوّة، التي هي من أصول الدين، فليس في الآية إطلاقٌ يشمل الأحكام)([23]).
2ـ إنّ الآية الكريمة، حتّى لو قلنا بدلالتها على حرمة كتمان الأحكام الشرعية، محتفّةٌ بقرينة في نفسها تجعلها دالّةً على أنّ (كتمان ما هو سببٌ للهداية هو المبغوض والمحرَّم لدى الله، وما به الهداية هو الأحكام الإلزامية فحَسْب)([24]).
3ـ أنّ الكتمان يكون محرَّماً فيما إذا كان مضرّاً بالحقيقة، وعائقاً أمام وصولها إلى الناس، ممّا يؤدّي إلى انحسارها مثلاً. فالمقصود من هذه الآية هو تحريم كتمان الحقائق؛ انطلاقاً من مصالح شخصية، أمّا عدم إظهار الحقيقة لأجل الحقيقة نفسها، وضمن شروط محدَّدة؛ لغاية منع الاستفادة الخاطئة بشكلٍ يعود بالضرر على الحقيقة نفسها، فلا تشمله الآية([25]).
الدليل الثاني: وجوب تبليغ الأحكام الشرعية
ممّا استدلّ به على وجوب الإفتاء على المجتهد هو ما دلّ على وجوب تبليغ الأحكام الشرعية؛ فإنّه لا إشكال في وجوبه في الجملة([26])، ولا رَيْبَ فيه (على حدّ الكفاية؛ لإبقاء الشريعة المقدّسة، وهو من الضروريات)([27]). ومستند هذا الوجوب آيات كريمة، منها: آية النَّفْر، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122). وتؤيِّد الآية عدّة نصوص، منها: ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبد الله× قال: «قرأتُ في كتاب عليٍّ× أنّ الله لم يأخذ على الجهّال عهداً بطلب العلم حتّى أخذ على العلماء عهداً ببذل العلم للجهّال؛ لأنّ العلم كان قبل الجهل»([28]). فمجموع هذه الأدلّة وغيرها يدلّ على وجوب تبليغ الأحكام على وجه الكفاية. ورُبَما استُفيد من بعضها وجوب الإعلام بالحكم على نحو الوجوب العيني حين السؤال. وهذا ما قد يكون مانعاً من التمسُّك بالبراءة عن وجوب الإفتاء على الفقيه. وبالتالي يكون مانعاً عن جواز توقُّف الفقيه عن بيان رأيه، وخصوصاً إذا استفتاه مَنْ يقلِّده، واستفسر عن رأيه في مسألةٍ معيّنة.
مناقشة الاستدلال بوجوب تبليغ الأحكام
ولكي تتَّضح المناقشات المطروحة على هذا النوع من الاستدلال على وجوب الإفتاء وبيان الرأي لا بُدَّ أن لا نغفل عن أنّنا نتحدّث عن التوقّف، لكنْ لا على إطلاقه، بل في حالة الاحتياط في الفتوى. وهو توقُّفٌ مقرون ببيان الطريق الذي يضمن به المكلَّف امتثال الواقع، وأنّه لن يخالف ـ من حيث عمله بمقتضى الاحتياط ـ الحكم الواقعي، وله أيضاً أن يرجع في ما احتاط فيه مرجعه إلى غيره من الفقهاء، ويعمل بفتواه. كما أنّ أكثر موارد الاحتياط في الفتاوى تكون في الأحكام الترخيصية، أي إنّ الفقيه يتوقّف عن الإفتاء بالترخيص، ويحتاط بَدَل الإفتاء، فهو يتوقَّف عن فتوى ترخيصية.
لذلك فقد تمّ الإيراد على هذا الاستدلال بأمور، هي:
أوّلاً: الوجوب المستفاد من أدلّة التبليغ كفائي، والفقيه حين يتوقّف يكون هناك فقهاء غيره يتصدّون لبيان الحكم الشرعي، وبهذا يتحقَّق امتثال الوجوب الموجّه إلى مجموع الفقهاء.
ثانياً: إنّ أدلّة الوجوب مختصّةٌ بالأحكام الإلزامية، ولا تعمّ الأحكام الترخيصية؛ وذلك لوجود قرائن في هذه الآيات والروايات تصيّرها خاصّة بالإلزاميات، كآية النَّفْر؛ وذلك (لوضوح أنّ الإنذار لا يتحقَّق إلاّ بالأحكام الإلزامية، إذ لا إنذار في الأحكام الترخيصية)([29]).
ثالثاً: ثمّ إنّه من مجموع الأدلّة نجد أنّ وجوب تعليم الأحكام مبنيٌّ أو مترتّب على وجوب تعلُّم هذه الأحكام، و(التعلُّم واجب طريقي، وليس بواجبٍ نفسي، والوجه في هذا الوجوب الطريقي هو التحفّظ على المصالح لئلا تفوت، والتجنّب عن الوقوع في المفاسد. ومن الواضح عدم وجوب التعليم إلاّ في ما وجب فيه التعلّم؛ لأنّه لا معنى لوجوبه من دون وجوب التعلُّم)([30]).
رابعاً: بما أنّ التعليم طريقٌ للحفاظ على عدم تفويت المصالح الواقعية، وعدم الوقوع في المفاسد، فالفقيه حينما يتوقَّف ويحتاط فإنّ المقلِّد أو السائل إذا عمل بالاحتياط سوف لا يرتكب ما يخالف الواقع. وبعبارةٍ أخرى: التوقُّف المقرون بالاحتياط يكون مؤدّياً إلى موافقة الواقع، فيتحقَّق به ما يتحقَّق بالتعليم وبيان الأحكام، ويوصل إلى ما كان التعليم طريقاً إليه([31]).
الاحتياط بين الرجحان والمرجوحية
بعد أن استعرضنا وجهتي النظر حول الموقف من التوقّف في الإفتاء، وبعد أن تبيّنت لنا مبرِّرات القائلين بجواز التوقّف، نتعرَّض الآن للجانب الثاني من الاحتياط في الفتوى، وهو عنصر الاحتياط. ونبحث عن الموقف من الاحتياط بعد فرض جواز التوقّف.
رجحان مبدأ الاحتياط
إنّ الاحتياط حَسَنٌ. وقد استُدلّ على حُسْن الاحتياط بالعقل أوّلاً؛ حيث يستقلّ العقل بإدراك حُسْنه ورجحانه؛ لما فيه من الاهتمام والعناية والتحفّظ على أغراض المولى ومراداته جلَّ وعلا، وهو من أكمل مصاديق الشكر لوليّ النعمة سبحانه وتعالى([32]).
وبالنقل ثانياً؛ حيث تدلّ على حُسْنه الآيات الآمرة بالتقوى، كقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (التغابن: 16)، وغيرها؛ والروايات الكثيرة التي لا يبعد تواترها، ولو إجمالاً([33]). وهي وإنْ كانت عامّةً تشمل أنواع الاحتياطات المتعدّدة التي ذكرناها في الفصل الأوّل من البحث، إلاّ أنّ بعضها ينسجم ـ على الأقلّ حَسْب بعض العلماء ـ مع الاحتياط في الفتوى، أو تكون شاملةً له بنحوٍ أوضح([34]).
ومن هذه الروايات:
ـ عن رسول الله|: «دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فإنّك لن تجد فقد شيء تركته لله عزَّ وجلَّ»([35]).
ـ وعن عليٍّ×: (لا وَرَع كالوقوف عند الشبهة)([36]).
ـ وعنه×: «أخوك دينُك فاحتَطْ لدينك»([37]).
ـ وعن أبي عبد الله×: «وإنّما الأمور ثلاثة: أمرٌ بيِّن رشده فيُتَّبَع؛ وأمرٌ بيِّن غيّه فيُجْتَنَب؛ وأمرٌ مشكل يردّ إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله|: حلال بيِّن؛ وحرام بيِّن؛ وشبهات بين ذلك. فمَنْ ترك الشبهات نجا، ومَنْ أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات، وهلك من حيث لا يعلم»([38]).
ـ وعن أحدهم : «ليس بناكبٍ عن الصراط مَنْ سلك سبيل الاحتياط»([39]).
ـ وعن الإمام الصادق×: «أورع الناس مَنْ وقف عند الشبهة»([40]).
ـ وذكر الحُرّ العاملي في الوسائل أنّه وجد بخطّ الشهيد محمد بن مكّي الشهيد الأوّل& حديثاً طويلاً عن عنوان البصري، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد×، يقول فيه: «وخُذْ بالاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هَرَبَك من الأسد، ولا تجعل رقبتك عتبةً للناس». لكنّ محقِّقي الكتاب علَّقوا على هذا الحديث بأنّهم لم يعثروا على مصدره([41]).
إنّ هذه الروايات وغيرها، وإنْ لم يقبل بها العلماء غير الأخباريين في إفادة وجوب الاحتياط، إلاّ أنّها دالّة على حُسْن الاحتياط، ومعاضدة ومؤيّدة لحكم العقل بذلك. ولذا حملها العلماء على الإرشاد إلى حُسْن الاحتياط في موارد احتمال التكليف([42]). والاحتياط حَسَنٌ مطلقاً، حتّى فيما إذا قام الدليل على البراءة، وإنْ لم يكن واجباً حينئذٍ، ولا يشمله تعبير الروايات بالاقتحام في موارد الهَلَكة أو القول بغير علمٍ([43]).
نعم، إذا كان الاحتياط موجباً لاختلال النظام فإنّه لا يكون حَسَناً حينئذٍ، بل يصير غير جائزٍ([44])، وكذلك إذا أدّى إلى مخالفة الاحتياط من جهةٍ أخرى؛ إذ (مع كونه مخلاًّ بالنظام لا يصدق عنوان الاحتياط؛ لكونه مبغوضاً للمولى، وكذا مع كونه مخالفاً للاحتياط من جهةٍ أخرى؛ فإنّه لا يصدق عليه عنوان الاحتياط وإدراك الواقع على ما هو عليه)([45]). وهكذا الكلام لو كان الاحتياط موجباً للعُسْر والحَرَج؛ فإنّ من المعلوم من الشارع اهتمامه بعدم وقوع المكلَّفين في العُسْر والحَرَج، وهذا ما ينفي الحُسْن عن الاحتياط؛ لانتفاء الحيثية التعليلية لحُسْنه)([46]).
موقفان من ظاهرة الاحتياط في الفتوى
بعد الاتّفاق على رجحان فكرة الاحتياط من حيث المبدأ وُجد اتّجاهان: أحدهما: يذهب إلى ارتفاع الحُسْن عن هذا النوع من الاحتياط؛ بسبب عدد من الإشكالات عليه، والاتّجاه الثاني: يرفض هذه الإشكالات، أو لا يراها قادرةً على رفع رجحان الاحتياط في الفتوى.
الاتجاه الأوّل: القول بمرجوحية الاحتياط في الفتوى
إضافةً إلى الإشكالات المطروحة في كتب أصول الفقه على حُسْن الاحتياط، مثل: عدم إمكان قصد القربة فيه، واستلزامه للعبث بأوامر المولى، فقد طُرحت عدّة إشكالات على خصوص ظاهرة الاحتياط في الفتوى، تؤدّي في نظر مجموعة من العلماء إلى أن يرتفع رجحانه، ويصير بسببها مرجوحاً. وتعود في مجملها إلى ثلاثة عناوين، نأتي على استعراضها تباعاً، ثمّ نستعرض ما طُرح من أجوبةٍ عليها. وهذه الإشكالات هي:
1ـ لزوم العُسْر والحَرَج من الاحتياط.
2ـ تسبيب الاحتياط للابتعاد عن التديُّن.
3ـ عدم انسجام الاحتياط مع نظام الشريعة.
إنّ هذه الإشكالات المثارة أمام ظاهرة الاحتياط في الفتوى ناظرةٌ ـ على الأقلّ في بعض جوانبها ـ إلى الاحتياط بلحاظ المجتمع، لا الفرد، أي إنّ هذه المحاذير تترتّب من وجهة نظر المستشكلين على الاحتياط حينما يمارسه أفراد المجتمع في حياتهم الاجتماعية، وقد لا تترتَّب على ممارستهم له في دائرة حياتهم الفردية.
الإشكال الأوّل: الاحتياط والتضييق على المكلَّفين والإعسار بهم
تقدَّمت الإشارة إلى أنّ الاحتياط قد يكون مقتضياً لفعل ما تحتمل وجوبه كحكمٍ تكليفي، أو لزومه كحكمٍ وضعي، وترك ما تحتمل حرمته أو مانعيّته، ممّا يؤدّي إلى التزام المحتاط بما كان بإمكانه عدم الالتزام به لولا الاحتياط. وهذا يعني تقييد حركة المكلَّف بما يوافق الاحتياط. ومن هنا ففي (بعض الموارد قد يكون الاحتياط موجباً للعُسْر والحَرَج، وخصوصاً في المجتمعات التي تريد أن تجعل حركتها كلّها ـ حتّى في ما يرتبط بشؤون الدولة والحكومة ـ مطابقةً للشريعة؛ فإنّ الاحتياط في هذه الموارد يسبّب عُسْراً وحَرَجاً، إذا أخذناه بهذا اللحاظ الجمعي)([47]).
وإذا أراد أصحاب هذه الإشكالية أن يطرحوا مثالاً على تسبيب الاحتياط للعُسْر والشدّة فإنّهم يدَّعون وجود أمثلة واقعية ولّدها هذا النوع من الاحتياطات. فمن المسائل التي يحتاط فيها بعض الفقهاء هو ما يرتبط بالموقف من أهل الكتاب في باب الطهارة. وها هو الشيخ محمد جواد مغنية ينتقد في بعض كتبه وبشدّةٍ مَنْ يحتاط بالنجاسة رغم وصوله إلى رأيٍ بطهارة أهل الكتاب، لكنّ الظروف الخارجية تمنعه من إعلان ذلك. يقول: (وقد عاصرتُ ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد […]، وقد أفتَوْا جميعاً بالطهارة، وأسرّوا بذلك إلى مَنْ يثقون به، ولم يعلنوا؛ خوفاً من المهوّشين[…]. وأنا على يقينٍ بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنّهم يخشَوْن أهل الجهل، والله أحقُّ أن يخشَوْه)([48]).
إنّ هذا الموقف الشديد ـ بغضّ النظر عن تقييمنا له ـ قد يكون مستَغْرَباً، بل هو كذلك فعلاً. لكنّ الشيخ مغنية يذكر في سياق نقده ما قد يكون مبرِّراً لموقفه النقدي هذا، فيقول: (وأحدث القول بنجاسة أهل الكتاب مشكلةً اجتماعية للشيعة، حيث أوجد هوّةً سحيقة عميقة بينهم وبين غيرهم، وأوقعهم في ضيقٍ وشدّة، وبخاصّة إذا سافروا إلى بلدٍ مسيحي، كالغرب، أو كان فيه مسيحيون، كلبنان، و بوجهٍ أخصّ في هذا العصر الذي أصبحت فيه الكرة الأرضية كالبيت الواحد، تسكنه الأسرة البشرية جمعاء)([49]).
وبما أنّ الاحتياط ـ ونقصد الوجوبي هنا ـ يرجع ـ في بعض موارده ـ إلى التوقُّف عن إعلان النتيجة الفقهية فإنّ هناك من الفقهاء مَنْ ألفت إلى إمكانية القول بأنّ (التضييق على العامّي المكلَّف؛ بسبب ترك إعلامه بعدم الوجوب أو الحرمة، مخالفٌ لما هو المقصود للشارع المقدَّس، ولكون هذه الشريعة سهلةً سمحة؛ ضرورة أنّ إيقاعه في الكلفة والمشقّة ممّا لا يرتضيه الشارع)([50]). إنّ صاحب هذه الإلفاتة وإنْ لم يكن ناظراً إلى ظاهرة الاحتياط بالضرورة، لكنّ كلامه قد يصدق عليه، على الأقلّ عند مَنْ يرى فيه تسبيباً للعُسْر والضيق. ولذا نرى أنّ بعض المناهضين لظاهرة الاحتياط يتّكئ على (أنّ هذا النوع من الاحتياط ـ وكلامنا في حالة وضوح الحكم لدى الفقيه ـ يتنافى مع مبدأ اليُسْر والسماحة في الشريعة الإسلامية)([51]). وقد لا يشعر المكلَّف بعُسْر وحَرَج حين التزامه بالاحتياط، إلاّ أنّه يقع من جهةٍ أخرى في الوسوسة، التي توقعه ـ رُبَما من حيث لا يعلم ـ في المشقّة، غاية الأمر أنّه يعتبر ذلك التزاماً بالشريعة، وهذه حالةٌ أقرب إلى الحالة المَرَضية، وذا أمر لا يرضى به الشارع([52])، كما لا يخفى.
الإشكال الثاني: الاحتياط وإيقاع المكلّفين في مخالفة الشريعة
ربما تتسبَّب ظاهرة الاحتياط في تكوُّن حالة شعورية لدى المكلَّف المتديِّن، توحي له بالتعقُّد من الالتزام الديني بما يحمله من إلزاماتٍ كثيرة، وبالتالي يؤدّي به هذا الشعور إلى مخالفة الشريعة، حتّى في غير مورد الاحتياط. والفقيه المرجع الذي يريد باحتياطاته أن يحفظ المكلَّف، أو يتحرَّز هو عن إيقاعه بمخالفة الواقع في مورد الاحتياط، لا يكون قد أدّى بالمكلَّف إلى مخالفة الواقع المحتمل في مورد الاحتياط فحَسْب، بل في غيره أيضاً.
وبهذا تكون هذه الظاهرة متولّدة ـ حَسْب رأي أصحاب هذه الإشكالية ـ عمّا يشبه فقد الفقيه المحتاط للإحساس بمسؤوليته عن المكلَّفين في حركته الاجتهادية، حينما يستغرق في مسؤوليته عن نفسه، ويتعامل مع الفتاوى التي يصدّرها للمكلّفين كما يتعامل مع احتياطاته الذاتية، وهذا ما يوقع بعض المكلَّفين في الحَرَج وصعوبة امتثال التكاليف، ممّا (يؤدّي إلى تعقيده من الشرع بالذات[…]. إنّ الاحتياطات قد أدخلت الكثير من الأحكام غير التحريمية في ذهنية المكلَّفين إلى أحكام تحريمية؛ باعتبار أنّها كذلك من حيث النتيجة، الأمر الذي أعطى للإسلام صورةً أخرى ـ بحَسَب النظرة العامّة ـ، تحمل ملامح سلبية، ممّا ساهم في الابتعاد عن الإسلام)([53]).
وقد لا تتحقّق هذه الإشكالية في حياة الأفراد الذين يعيشون في مجتمعاتٍ ذات بيئات محافظة من الناحية الشرعية، لكنّه في المجتمعات التي يكون تقبّلها للحكم الشرعي غير قويّ، ويكون لدى الناس فيها نفورٌ حتّى من بعض الأحكام القطعية، فإنّ الاحتياطات الإضافية من المتوقَّع أن تسبِّب نفوراً أشدّ من الدين، ورُبَما انجذاباً أكثر لمعاصي أكبر([54]).
من هنا نجد الشهيد مطهَّري، رغم تصريحه بأن السكوت عن بيان الحكم الشرعي قد يكون في بعض الأحيان أَوْلى من التصريح به، حينما يغدو في مصلحة الدين نفسه، ولحمايته من التهاون في تطبيقه، إلاّ أنّه يرى عدم واقعية هذا الأمر في بعض الموارد، حين يسبِّب السكوت بعض المفاسد، كالابتعاد عن الالتزام ببعض الأحكام نتيجة توهُّم الحرمة في المواضيع التي تمّ السكوت عن حكمها. وقد كان& في صدد الحديث عن مسألة ستر الوجه والكفّين، حيث امتنع بعض الفقهاء عن الإفتاء بعدم وجوبه، أو أنّهم احتاطوا فيه، ممّا أدّى إلى أن يتخيَّل كثيرٌ من الناس بأنّ الموقف الشرعي هو تحريم كشف الوجه، ويتصوَّرون عدم الالتزام بستر الوجه يعني انتهاء أمر الستر تماماً، وهم يرَوْن من جهةٍ أخرى عدم عملية تطبيق ستر الوجه، وعدم إمكانية الدفاع عنه منطقياً. وإذا رأَتْ النساء بأنّ أمر الستر مرتهنٌ بتغطية الوجه، الذي هو أمرٌ غير عمليّ، يقرِّرْنَ حينئذٍ الكشف عن تمام أجسادهنّ. ولذلك يرى بعض علماء الاجتماع أنّ أحد أسباب التحلُّل والتفريط في مسألة الحجاب هو (الأوهام الخاطئة التي يحملها الناس عن الحجاب؛ وعلّة ذلك أنّ حقائق الموقف الشرعي لم تُقَلْ للناس، فلو قيل للناس ما قاله الإسلام لا يصل الأمر إلى ما وصل إليه بالفعل، فلا نكن أحرص على الإسلام من الإسلام نفسه!)([55]).
وإذا صحّت هذه الملاحظة سيكون الاحتياط في مثل هذه الحالات ناقضاً للاحتياط، فيرتفع حُسْنه؛ فإنّ (الاحتياط حَسَنٌ على كلّ حالٍ حين يكون الحكم الشرعي الإلهي ملتبساً ليس عليه دليل بيِّن، أو عليه دليل بيِّن لكنّ دائرة البلوى به بين الناس محدودة ونادرة، وتقتضي ظروف الجماعة أو ظروف الشخص الحَذَر من تعدّي حدود الله وتجاوزها بذريعة الرخصة، ويكون فيه الاحتياط ممكناً من غير حَرَج ولا ضَرَر على المكلَّف الشخص أو الجماعة، بحيث يكون الاحتياط وسيلةً لحفظ حرمة الشريعة، وسلامة سلوك المكلَّف الفرد أو الجماعة أو المجتمع، وليس كتماناً للحقيقة الشرعية. أمّا إذا كان على الحكم دليلٌ بيِّن، وكانت دائرة البلوى فيه عامّة، تشمل الأمّة كلّها أو تكاد، والاحتياط فيه يؤدّي إلى الحَرَج الشديد، ويحمل أكثر الأمّة على مخالفة الاحتياط، أو الوقوع في شبهة المعصية، فإنّ الاحتياط في هذه الحالة قد يكون على خلاف مقصد الشارع المقدّس؛ لأنّه يؤدّي إلى تفويت مصلحة الحكم الشرعي على الأمّة كلّها، من دون تداركها)([56]). ولعلّ هذه الفكرة تتجلّى إذا نظرنا إلى مجموع الأحكام الفقهية، وجمعنا الأحكام الإلزامية، ثمّ أضَفْنا إليها الأحكام الترخيصية التي احتاط الفقيه فيها، والتي هي في نتيجتها العملية ـ إذا عمل المقلّد فيها بالاحتياط ـ إلزامات، فإنّ نسبة الإلزامات سوف تزداد، وحينئذٍ فإنّ الناس في طبيعتهم ـ أو بعضهم على الأقلّ ـ سينظرون إلى الشريعة كثقلٍ لا يتحمّلونه، وبالتالي سوف لن يتركوا العمل بالاحتياط فحَسْب، بل قد يتجاوزون ذلك إلى ترك الالتزام بالأحكام الإلزامية الصريحة أيضاً([57]).
لذلك فإنّ تبرير الاحتياط والتوقف عن الفتوى؛ بحجّة الابتعاد عمّا قد يخلق جوّاً من التسامح والتساهل، بما يدفع الناس إلى تجاوز حدود الرخصة إلى المحرّمات، سوف يكون حينئذٍ وَرَعاً، لكنّه وَرَعٌ في غير محلّه([58]).
وممّا مرّ تتَّضح وجهة نظر هذا الطيف من العلماء، حينما يطالبون بالتقليل من حضور الاحتياطات، والتصريح بنتيجة الاستدلال إذا كانت ترخيصيةً؛ فإنّ (إصدار النتائج الحاسمة التي قامت عليها الحجّة يحقِّق نتيجتين: عملية، من حيث ارتباطها بعمل المكلَّف وتسهيل أموره وإبعاده عن العُسْر والحَرَج؛ وفكرية، هي تقديم الصورة الصحيحة للإسلام، من خلال أحكامه الأصيلة)([59]). ومن أجل المحافظة على الروحية السليمة والنظرة الإيجابية للمتديِّنين تجاه الشريعة وأحكامها، ولكي لا يشعروا بتحوُّل حياتهم عند الالتزام بالشريعة إلى حياة منغلقة، معاقة في نشاطاتها وحيويتها، فإنّنا بحاجة إلى موازنةٍ بين ذهنية التحريم وممارسات الإباحة([60]).
الإشكال الثالث: الاحتياط واختلال النظام
قد يتأتّى الاحتياط وينسجم مع الممارسات الفردية، وفي بعض الحالات السلوكية، لكنْ أن يتحوَّل إلى طابعٍ عامّ يمتدّ في مفاصل الأحكام الشرعية فذلك مخالفٌ لروح الشريعة من جهةٍ، ومعرقل لاستقامة مسيرة الحياة في أبعادها المتعدِّدة من جهةٍ أخرى. وهنا يوجّه الشهيد الصدر نظرته الشمولية والجامعة إلى ظاهرة الاحتياط، حيث يعتبرها غير منسجمة مع الشريعة كنظامٍ شامل للحياة؛ فإنّ (المستفاد من ذَوْق الشارع وطريقته في التبليغ، والاهتمام بتنظيم حياة الإنسان بمختلف شؤونها ومجالاتها، أنّه لا يرضى بمرجعية الاحتياط. بل لا يعقل أن يكون بناء الشريعة على وجهٍ كلّي على الاحتياط؛ فإنّ هذا يعقل لو كانت الشريعة مجموعة تكاليف فردية، لا تشريعات تتكفَّل تنظيم مختلف نواحي حياة الإنسان الاجتماعية والفردية والسياسية. فكتاب القضاء مثلاً لا يعقل فيه مرجعية الاحتياط، ولا يحتمل الفرق فقهياً بين بابٍ وباب. فمرجعية الاحتياط مساوقةٌ لتعطّل الشريعة وأغراضها الأساسية)([61]).
ولعلّ ما يشير إليه الشهيد الصدر، من عدم انسجام الاحتياط مع بناء نظام الشريعة في مجالاته المتعدّدة، وإنْ كان منسجماً ومطلوباً في الشؤون الفردية، هو ما يؤكِّد عليه الشيخ جنّاتي، حين يركِّز على أنّ زمننا المعاصر، الذي تحوَّل فيه الإسلام إلى قائدٍ لمسيرة المجتمع ـ الجمهورية الإسلامية في إيران مثالاً ـ لا يمكن لمنهج الاحتياط أن يتأقلم معه، بل إنّه يرى هذه الطريقة من بيان الفتوى متنافيةً مع ظروف الحياة الراهنة، وخصوصاً إذا لاحظنا تولّد وظهور مسائل جديدة في الأبعاد الاقتصادية والجزائية والفنية والطبّية وفي العلاقات الدولية وغيرها، ممّا أدّى إلى تحوُّلات جَذْرية عديدة، حتّى في الخصائص الظاهرية والداخلية لموضوعات الأحكام([62]).
إنّ حديث الشهيد الصدر عن عدم توافق مرجعية الاحتياط مع روح الشريعة في نظامها الشامل والعامّ، وإنْ كان يقصد به فكرة وجوب أو أصالة الاحتياط، التي يتبنّاها الأخباريون، ويستنتجون منها فتاوى مضمونها الاحتياط، وهذا غير فكرة الاحتياط الذي نبحثه هنا، والذي لا تكون نتائجه فتاوى حَسْب النظرة العلمية، فلا تشمله ملاحظته&، إلاّ أنّ واقع ممارسات المكلّفين يتعامل مع هذه الاحتياطات كتعامله مع الفتاوى هيبةً والتزاماً في أحيان كثيرة([63])، وخصوصاً مع ملاحظة ترغيب الأحاديث الشريفة والخطاب الديني عموماً وحثّها على الاحتياط. فمن الطبيعي أن يلتزم المؤمنون المتديّنون بالاحتياط حينما يجدون الفقيه الذي يرجعون إليه قد أشار إلى طريقة الاحتياط في هذه المسألة أو تلك، ولا سيَّما إذا احتاط بذلك أكثر من فقيهٍ ومرجع. ومن الصعب على المكلّف ـ في الحالات الاعتيادية ـ أن يبحث عن فقيهٍ يقول بالجواز أو عدم الإلزام في الموارد التي يلتزم فيها بالاحتياط الفقهاء والمراجع المعروفون. ومع ملاحظة كون (الأحكام الترخيصية كالأحكام الإلزامية، ممّا يتوقف عليها انتظام حياة الناس، واستقامتها على جادّة الشرع)([64])، فإنّ الاحتياط سيغدو (خلاّقاً للمشاكل والأزمات، حينما يدخل حيّز الحياة الاجتماعية، ولا سيَّما ما يتّصل منه بجانب الحكومة وإدارة الدولة)([65]). وتتعزّز هذه المشكلة إذا أخذنا بنظر الاعتبار كون الأحكام العبادية المَحْضة ـ التي قد يقال بأنّ الاحتياط فيها أخفّ وأيسر ـ قليلة في الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى الأحكام الاجتماعية والسياسية والمعاملاتية([66]).
الإشكال الرابع: الاحتياط وضمور الحركة الاجتهادية
يدخل الفقيه ميدان الاجتهاد من أجل أن يسهم في الكشف عن أحكام الدين وغاياته؛ ولكي يقدِّم صورة عن الحياة التي تريدها الشريعة للناس. وهو يعتمد في ذلك على أدواتٍ ترجع في جزءٍ كبير من تطبيقاتها إلى ما يفهمه ويقتنع به من خلال نظره إلى الأدلّة المتوفّرة. ومن هنا فإنّه إذا امتنع عن ممارسة هذا الدَّوْر، أو مارسه لكنْ لم يرتّب أثراً عليه، فلم يقدِّم النتائج التي يتوصّل ويطمئنّ إليها، فسيكون هذا الموقف ـ خصوصاً إذا تكرّر ـ عائقاً أمام نموّ وتطوُّر العملية الاجتهادية من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى سيُحْرَم المؤمنون من الوصول إلى ما يأملونه باستنادهم إلى الفقيه، وهو اقترابهم من الصورة الحقيقية للدين ومراداته بقَدْر الإمكان([67]). وإذا توجّهنا إلى أنّ أحد العوامل المساعدة على تكوّن ظاهرة الاحتياط هو التفات الفقهاء إلى الاحتمالات المتكثِّرة في المسائل المختلفة، وإعطائها عناية، حتّى لو كانت ضعيفة، وحتّى لو قابَلَتْها احتمالات أقوى يطمئنّون إليها، إذا توجّهنا إلى هذا فسنتوجَّه إلى إشارة الشيخ صاحب الجواهر حينما انتقد هذا المنحى في الممارسة الاستنباطية، حيث قال: (ولكنْ لو ساغ للفقيه التردُّد بكلّ ما يَجِد، أو الجمود على كلّ ما يَرِد، ما اخضرّ للفقه عودٌ، ولا قام للدين عمود)([68]). وكأنّه يشير إلى الجهة الأولى من أثر الاحتياط على عملية الاجتهاد الفقهي.
بل هناك مَنْ اعتبر أنّ كثرة احتياطات المرجع قد تدلّ على ضعفٍ علميّ؛ لأنّه إذا احتاط في عشرين أو ثلاثين بالمئة من المسائل فهذا يكشف عن تردُّده، وعن عدم الوضوح في المباني عنده([69]).
بلورة موقف هذا الاتجاه
الملاحظات السابقة جعلت بعض العلماء المعاصرين يبدون موقفاً نقدياً شديداً من ظاهرة الاحتياط في الفتوى، اتّضح بعضها في سياق ما عرضناه من إشكاليات، حتّى صرّح بعضهم بذلك وبوضوحٍ، حين أعلن موقفه الناقد بقوله: (عليَّ أن أقول صريحاً: إنّ الاحتياطات التي تنبعث من الشبهة التحريمية أو الوجوبية، أو من خبرٍ ضعيف، أو شهرة، ولا سيَّما منها الشهرة المتكوِّنة بعد عصر الاجتهاد، أو أيّ دليل آخر غير معتبر، لا قيمة لها، بل هي مخالفةٌ للاحتياط نفسه، ولا سيَّما في هذا العصر)([70]). ورأوا أنّ الاحتياط المطلوب، والذي تحثّ عليه الروايات الكثيرة، إذا أراد المجتهد المرجع تطبيقه فعليه أن يطبِّقه في عملية الاستنباط نفسها، بأن يبذل جهده وغاية دقّته بإعمال الموازين العلمية؛ فإذا وصل إلى الحكم الشرعي فإنّ الاحتياط حينئذٍ يقتضي أن يعلنه ويبيِّنه للناس، لا أن يخفيه عنهم([71]). وإذا أراد أن يحتاط تمام الاحتياط، ولم يُرِدْ أن يتحمّل المسؤولية، فليمتنع عن كتابة رسالةٍ عملية أصلاً، وإلاّ فليتحمّل المسؤولية كاملة([72]).
الاتجاه الثاني: القول برجحان الاحتياط في الفتوى
لم يقبل الذاهبون إلى هذا الاتّجاه الإشكالات الآنفة، بل رأَوْا أنّها غير قادرةٍ على رفع رجحان الاحتياط في الفتوى. وفي سياق ردّ تلك الإشكالات ـ التي تعتبر أدلّة للاتّجاه الأوّل ـ أثار بعض العلماء عدداً من الملاحظات، هي:
أوّلاً: الاحتياط لا يعني الإلزام بمؤدّاه دائماً، بل يستطيع المكلَّف الذي يحتاط مرجعه في مسألةٍ ما أن يرجع إلى فقيهٍ آخر يفتي بالجواز أو عدم اللزوم. وعليه إذا نصّ أحد مراجع التقليد مثلاً (على احتياطٍ وجوبي يقضي بإسدال النساء الستر على وجوههنّ، وكنتم ترَوْن أنّ هذا الاحتياط يخلق مشكلة في العصر الحاضر، فإنّ حلّ هذا المشكل يكمن في الرجوع إلى فتوى مجتهدٍ آخر، يكون هو الأعلم بعد مرجع التقليد الذي تعملون برأيه، فإذا قال بعدم وجوب ستر الوجه والكفَّين ارتفع المحذور)([73]).
ثانياً: إنّه وإنْ سبَّبت الاحتياطات بعض المشاكل لآحاد الناس، أو لبعض المجتمعات أحياناً، إلاّ أنّ ذلك ليس قاعدةً مطّردة عامّة، تشمل كلّ الأحكام أو كلّ الأفراد والمجتمعات. وأقصى ما يستدعي ذلك هو أن يرفع الاحتياط في هذه الموارد، لا عن كافّة المكلَّفين، وفي كلّ الحالات([74]). كما أنّ كثيراً من الاحتياطات المسبّبة للمشكلات تحوَّلت اليوم إلى فتاوى بالجواز([75]).
ثالثاً: ثمّ إنّ (دعوى الحَرَج، ولا سيَّما الموجب لاختلال النظام، بالنسبة إلى آحاد المكلَّفين، الموجب لسقوط الامتثال القطعي عن الكلّ، في غاية الإشكال. وممّا يدلّ على ما ذكرنا أنّ بناء سيّد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدّس الله نفسه الزكيّة كان على إرجاع مقلِّديه إلى الاحتياط، وقَلَّما اتّفق منه إظهار الفتوى والمخالفة للاحتياط، وكان مرجع تمام أفراد الشيعة مدّةً متمادية، ومع ذلك ما اختلّ نظام العالم بواسطة الرجوع إلى الاحتياط، وما كان تحمُّل هذا الاحتياط شاقّاً على المسلمين، بحيث لا يتحمّل عادةً. وكيف كان فهذه الدعوى محلُّ نظرٍ)([76]). وهذه في الحقيقة مشكلات فرضية ليست بالواقعية؛ فإذا نظرنا إلى إيران ـ مثلاً ـ، التي هي اليوم بمجتمعها الكبير (تحت إشراف الوليّ الفقيه، فأنصفوا، أيّ من تلك الاحتياطات الواجبة سبَّبت مشكلة للناس والوطن؟! هل فعلت ذلك الاحتياطات الواجبة للإمام الخميني؟! فلماذا نرفع شعاراً بلا معنى؟! هل مشكلة النساء اليوم في الاحتياط الوجوبي القاضي بضرورة ستر الكفَّين؟! هل يشكِّل ستر الكفَّين أزمة للبلاد؟!)([77]).
رابعاً: ركّزت الملاحظات المطروحة على النظر إلى الاحتياطات من زاوية واحدة، وهي كون الحكم الذي وصل إليه الفقيه واحتاط في بيانه حكماً ترخيصياً، فيكون الاحتياط مؤدِّياً إلى إلزام المكلَّفين، رغم ترخيص الشارع لهم في هذا المورد. لكنّهم أغفلوا النظر إلى موارد أخرى للاحتياطات، يكون الحكم ـ الذي وصل إليه الفقيه، لكنْ لم يعلنه ـ حكماً إلزامياً، فيرى المرجع بأنّ هذا الحكم الإلزامي شاقٌّ على المكلَّفين مثلاً، وهناك من الفقهاء مَنْ يفتي بالترخيص في هذا المورد، فيمتنع المرجع من بيانه؛ حتّى يتيح لمقلِّديه أن يرجعوا إلى غيره؛ تسهيلاً عليهم، وليخفِّف عنهم ثقل الإلزام([78]). فهذه زاويةٌ أخرى للنظر الإيجابي إلى ظاهرة الاحتياط.
الموقف المعتدل من الاحتياط في الفتوى
وبين الموقف الرافض لهذه الظاهرة بشدّةٍ والموقف المدافع عنها بشدّةٍ مقابِلة يستوقفنا اتّجاهٌ ثالث، نستطيع أن نعتبره معتدلاً، وهو ما نقرؤه في حديثٍ للفقيه الكبير الشيح جعفر كاشف الغطاء، حيث يوصي الفقهاء وصيّةً بليغة بقوله: (وليتَّقوا الله في ترك التهجّم على الأحكام قبل النظر التامّ، وفي ترك الوسواس الباعث على لزوم الحَرَج على الناس)([79]).
أحكام الاحتياط بالنسبة إلى المقلّد
تترتّب على احتياط الفقيه المرجع جملة من الأحكام، التي تنعكس على سلوك المكلَّف الذي يقلِّده. وتتعدّد هذه الأحكام وفق نوع الاحتياط الذي يتَّخذه الفقيه. ويمكننا إجمالها في النقاط التالية:
النقطة الأولى: الأحكام بين الاحتياط في الفتوى والفتوى بالاحتياط
ـ قد يكون الاحتياط نتيجةً لاستدلال الفقيه، وفتوى يقدِّمها لمقلِّديه. وهذا ما يسمّى (فتوى بالاحتياط). ويجب على المكلَّفين في هذه الحالة الالتزام باحتياط مرجعهم، تماماً كالتزامهم بسائر فتاواه([80]).
ـ وقد يكون الاحتياط من (الاحتياط في الفتوى)؛ فإنْ كان وجوبياً فإنّ لمقلّدي المرجع المحتاط خيارين في هذه الحالة، هما:
أـ أن يعملوا بمقتضى الاحتياط([81])، فيحرزوا امتثالهم للواقع المحتمل، ويتأكّدوا من براءة ذمتهم بنحوٍ قطعي وجازم.
ب ـ أن يرجعوا في مورد الاحتياط إلى فقيهٍ آخر تكون له فتوى في هذه المسألة، ويعملوا بمقتضى فتواه([82]). فلا يلزمهم العمل بالاحتياط إنْ قلّدوا فقيهاً آخر في مورده، لكنْ لا يجوز لهم ترك الاحتياط إذا لم يرجعوا في ذلك إلى فقيهٍ آخر. وبهذا يحرزون مطابقة أعمالهم للمعايير الشرعية؛ حيث إنّهم انتخبوا طريق التقليد، وهو من الطرق التي يحرز بها المكلَّف مطابقة عمله لموازين الشريعة الإسلامية.
وإنْ كان الاحتياط استحبابياً فإنّ مقلِّدي المرجع المحتاط أمام خيارين، هما:
أـ أن يعملوا بمقتضى الاحتياط([83])، ليحرزوا الامتثال القطعي للواقع المحتمل.
ب ـ أن يتركوا الاحتياط، ويعملوا بمقتضى الفتوى التي بيَّنها الفقيه([84])، وهي ـ كما تقدّم ـ فتوى ترخيصية. ويكون عملهم حينئذٍ موافقاً لفتوى مرجعهم المحتاط، والتي هي حجّةٌ عليهم، ومحرزةٌ لبراءة ذمّتهم. وليس لهم في هذا النوع من الاحتياط الرجوع إلى فقيهٍ آخر؛ حيث إنّ لمرجعهم فتوى في المسألة([85]).
النقطة الثانية: ملاحظاتٌ واحترازات
1ـ اشترط أغلب الفقهاء في رجوع المقلِّد الذي احتاط مرجعه احتياطاً وجوبياً أن يراعي سلّم الأعلمية، فيكون رجوعه إلى الأعلم فالأعلم من بعد مرجعه المحتاط. وهم قد انقسموا بين مَنْ أفتى بهذا الشرط، كالسيد اليزدي في العروة الوثقى([86])؛ ومَنْ جعل مراعاة الأعلمية هو الأحوط؛ كالسيد الخميني([87])؛ ومَنْ حصر هذا الشرط بصورة العلم بمخالفة فتوى غير الأعلم لفتوى الأعلم في المسألة، كالسيد الخوئي([88]). وهذا الاختلاف تابعٌ للاختلاف في أصل وحدود اشتراط الأعلمية في التقليد.
2ـ عمل المكلّف بالاحتياط في احتياطات مرجعه الوجوبية متوقِّفٌ في العبادات على جواز الامتثال الإجمالي مع التمكُّن من الامتثال التفصيلي. وهي فكرةٌ محلّ اختلاف بين العلماء، وإنْ كان الرأي السائد فيها هو الجواز. فلو قيل بعدم الجواز لتعيَّن على المكلَّف أن يقلِّد غير الأعلم المحتاط، إذا تمكَّن من ذلك([89]).
3ـ استثنى بعض الفقهاء من عدم جواز الرجوع إلى فقيهٍ آخر في الاحتياطات الاستحبابية حالةً واحدة، وهي ما إذا كانت فتوى الغير أوفق بالاحتياط، فيجوز حينئذٍ تقليدُ الغير([90]). وهذا يجري ـ كما نصّ فقهاء آخرون ـ في الرجوع إلى غير الأعلم من بعد المرجع المحتاط في الاحتياطات الوجوبية أيضاً، فيجوز الرجوع إلى غير الأعلم بعد المرجع المحتاط إذا كانت فتواه أوفق بالاحتياط([91]).
4ـ قد لا يلتفت المكلَّف إلى احتياط مرجعه في موردٍ ما، أو لا يستطيع معرفة فتوى غيره، فيؤدّي العمل دون استنادٍ إلى فتوى مرجع آخر أثناء الأداء، فهل يبطل عمله في هذه الحالة أم يمكن تصحيح عمله؟
أفتى بعض المراجع ـ كالسيّد السيستاني ـ بتصحيح العمل، من خلال الرجوع إلى فتوى مَنْ يستطيع تقليده، إذا كان العمل مطابقاً لرأيه، وإنْ كان الرجوع بعد أداء العمل. كما أفتى مراجع آخرون ـ كالسيد الخامنئي ـ بإمكانية تصحيح العمل إذا كان مطابقاً حين أدائه لرأي مَنْ يمكنه تقليده، ويكون عمله صحيحاً ومجزئاً، حتّى بدون نيّة الرجوع بعد العمل([92]).
5ـ قد يرجع المكلَّف في بعض احتياطات مرجعه إلى فقيهٍ آخر، ثمّ يُتوفّى المرجع الثاني، وحينئذٍ رُبَما يطرأ هذا التساؤل: هل يستطيع المكلَّف الرجوع إلى المرجع المتوفَّى في الاحتياطات التي رجع إليه فيها قبل وفاته؟ وهل يصحّ أن يرجع إليه بعد وفاته في غير هذه الاحتياطات؟
وهنا نجد اختلافاً في أجوبة المراجع عن هذا السؤال؛ فبعضهم ـ كالشيخ السبحاني ـ يجيز الرجوع إلى المرجع المتوفَّى في الاحتياطات التي رجع إليه فيها المكلَّف قبل وفاته، ولا يجيز الرجوع إليه في غيرها؛ وبعضهم ـ كالسيد السيستاني ـ يجيز الرجوع إليه في جميع الاحتياطات إذا كان المكلَّف ملتزماً في حياة المرجع بالرجوع إليه في الاحتياطات الوجوبية مطلقاً؛ بينما لا يجيز بعضهم ـ كالشيخ الفيّاض ـ الرجوع إلى المرجع المتوفَّى في الاحتياطات، حتّى تلك التي كان قد رجع المكلَّف إليه فيها قبل الوفاة، بل يلزم على المكلَّف إمّا العمل بالاحتياط أو الرجوع إلى المجتهد الحيّ([93]).
6ـ بعد أن كان المكلَّف ملزماً في موارد الاحتياطات الوجوبية عند مرجعه بأن يحتاط أو يرجع إلى غيره من الفقهاء فإنّ عدم التزامه بأحد هذين الخيارين يُعَدّ خروجاً عن مقرَّرات الشريعة. ولعلّه لهذا ذهب بعض العلماء إلى الحكم بفسق المكلَّف إذا أصرّ على ارتكاب أمرٍ يرى مرجعه حرمته على نحو الاحتياط الوجوبي، مثل: حلق اللحية، دون أن يكون مستنداً في هذه المخالفة إلى فتوى فقيهٍ يصحّ رجوعه إليه([94])؛ بينما ذكر بعض العلماء أنّه لا يحكم على هذا المكلَّف بالفسق، لكنْ لا يحكم عليه بالعدالة أيضاً، فلا يُرتَّب عليه ما يُرتَّب على العدالة من آثار([95])، كالاقتداء به في صلاة الجماعة([96]).
النقطة الثالثة: الاحتياط بين تفنيد الأدلة وعدم استكمال الاستدلال
فرَّق بعض الفقهاء بين صورتين في الاحتياطات الوجوبية: الأولى: أن يكون احتياط المرجع ناشئاً من عدم استكماله لعملية الاستدلال، أو من أسباب خارج عملية الاستدلال؛ والثانية: أن يكون احتياطه ناشئاً من دراسته ونقده، وبالتالي رفضه للأدلّة المطروحة في المسألة. وبعبارةٍ أخرى: تارة تكون احتياطات الفقيه الأعلم ناشئة من (جهة الخدشة والإشكال في مستند الحكم، بحيث يخطّئ فتوى غيره)([97])؛ وتارةً ثانية تكون لأسباب أخرى، بحيث لا يخطّئ فتوى غيره. فقالوا بإمكانية الرجوع إلى الغير في حالة عدم التخطئة، بينما لا يمكن ذلك عند التخطئة، بل يلزم المكلَّف بالاحتياط([98])، و(لا وجه للرجوع لغير الأعلم)([99]). ولعلّ هذا التفصيل ومنع الرجوع إلى الغير هو لأنّ الأعلم يرى غيره مخطئاً، وأدلّة التقليد منصرفةٌ عن حالة العلم بخطأ الفقيه، أو قاصرة عن أن تشملها، وسيرة العقلاء لم تَجْرِ على الرجوع إلى الخبير ـ والفقيه خبيرٌ ـ حتّى في حالة العلم بخطئه، أو في حالة كونه مخطئاً في نظر مَنْ هو أعلم وأخبر منه([100]). وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن كثيراً من الاحتياطات هي ممّا يكون منشؤه تخطئة استدلال الغير، ونقد أدلّته، بل جعل هذه الكثرة واضحة([101]).
ولذلك نجد بعض الفقهاء قد نصَّ على لزوم اتّباع مقلِّديه لاحتياطاته في بعض الحالات، ولم يُتِحْ لمقلِّديه الرجوع إلى الغير فيها، ومنهم: الشيخ الآخوند الخراساني، الذي خصّ جواز الرجوع فيما لو بيَّن احتياطه بكلمة تأمُّلٍ أو إشكال([102])؛ ومنهم: الشيخ إسحاق الفيّاض، حيث نبّه إلى أنّ الاحتياط المذكور في رسالته العملية (إنْ كان مسبوقاً بالفتوى أو ملحوقاً بها فهو استحبابيٌّ يجوز تركه، وإلاّ فهو وجوبيّ، وعلى العامي أن يعمل به، تبعاً لمقلَّده)([103]). ولعلّ هذا راجعٌ إلى التزام هؤلاء المراجع بعدم الاحتياط في الفتوى، إلاّ في موارد رفضهم للأدلّة المطروحة في المسألة مورد الاحتياط.
النقطة الرابعة: بين الرجوع إلى الفتوى والرجوع إلى الرأي
قد يصل الفقيه إلى رأيٍ ونتيجة تكون واضحةً في نظره، غير أنّه مع ذلك لا يبدي ولا يعلن رأيه لمقلِّديه، فلا يطرح رأيه كفتوى في رسالته العملية مثلاً، بل يحتاط وجوباً في المسألة. فإذا اتّفق أن اطَّلع المكلَّف الذي يقلِّد هذا الفقيه على رأيه الذي لم يُفْتِ به، كما لو قرأ بحثه الاستدلالي وعلم برأيه بشكلٍ قطعي، وكما لو صرَّح له المرجع بذلك شفهياً، أو نقل له ذلك تلامذته الذين يَثِقُ بهم، فهل يمكنه أن يأخذ به ويعمل على وفقه، أم ليس له ذلك، بل يتعيَّن عليه أن يلتزم بموقف مرجعه في مقام الفتوى؟ وبعبارةٍ أخرى: يمكن أن نسأل: هل للمقلِّد أن يقلِّد مرجعه في الرأي أم ليس له إلاّ أن يقلِّده في الفتوى؟
يمكن أن يكون الجواب عن هذا السؤال باحتمالين: أوّلهما: الإيجاب، وتوسعة دائرة التقليد إلى الآراء العلمية، فضلاً عن الفتاوى؛ وثانيهما: النفي، وقصر مجال التقليد على الفتاوى، دون الآراء العلمية التي لم يظهرها الفقيه في مقام الإفتاء.
وقد صرَّح بالإيجاب عددٌ من المراجع الذين وجَّهنا لهم استفتاءات بهذا المطلب، ونصّوا على إمكان الأخذ بالرأي الفقهي، إذا تأكَّد المقلِّد من تبنّي الفقيه له، ولا يتعيَّن أن يلتزم بموقف الفقيه الاحتياطي، وإنْ كان يمكنه ذلك.
وقد كان هذا نصّ الاستفتاء: إذا احتاط المرجع في الرسالة العملية في مسألةٍ، لكنَ المقلّد علم برأي المرجع من خلال بحوثه الاستدلالية، أو من خلال تصريح المرجع نفسه له، فهل لهذا المقلِّد أن يأخذ برأي المرجع، أو يلزمه إمّا العمل بالاحتياط ذكره في الرسالة العملية أو الرجوع إلى مرجعٍ آخر؟
فكان جواب السيد شبيري الزنجاني: (يجوز الأخذ برأي المجتهد، كما يجوز العمل بالاحتياط المذكور)([104]).
وكان جواب الشيخ دوستي الزنجاني: (إذا علم المقلِّد رأي مَنْ وظيفته أن يقلِّده في مسألةٍ، بتصريح منه، أو حتّى من خلال بحوثه واستدلالاته، علماً قطعياً فله العمل به، وترك الاحتياط الذي ذكره في الرسالة العملية)([105]).
وقد أجاب بهذا الجواب، أو قريب منه، السيّد علوي الجرجاني([106]) والشيخ گرامي القمّي([107]). وصرّح بذلك أيضاً السيد محمد رضا السيستاني([108]).
وللسيد الخوئي جوابٌ يمكن أن يستوحى منه إمكانية الأخذ برأي المرجع حتّى لو لم يصرِّح به في الرسالة العملية؛ فقد سُئل عن فائدة التعرُّض في الرسالة العملية لمسألة عدم وجوب إعلام المرجع لمقلِّديه بفتواه الجديدة إذا تبدَّل رأيه، فإنّ المقلّد لا علاقة له بهذا الحكم، بل هو متعلّق بالمرجع، فأجاب بأنّ إحدى فوائد ذلك هو أنّ المقلِّد يجب عليه العمل برأي المرجع إذا اطّلع عليه، وليس له الاعتراض إذا لم يعلن رأيه([109]). لكنّه&، في جوابه عن سؤالٍ آخر، ذكر بأنّ على مقلِّديه أن يلتزموا بما في الرسالة العملية، فلا يصحّ لهم أن يلجأوا إلى البحوث الاستدلالية؛ ليعملوا بما يصل إليه المرجع من اجتهاداتٍ وآراء فيها([110]).
مقاربة الفكرة
هذا، ولعلّنا نستطيع مقاربة الجواب من خلال الرجوع إلى أدلّة مشروعية التقليد، فنرى موضوعها ومجالها، وأنّه شاملٌ لرأي الفقيه أم محدودٌ بفتواه التي يعلنها. إنّنا نجد أنّ الأدلّة المطروحة للاستدلال على شرعية التقليد، وكونه طريقاً لامتثال الأحكام الشرعية، نجد هذه الأدلّة متعدِّدة؛ فمنها: السيرة العقلائية؛ ومنها: الأدلّة النصّية. إلاّ أنّ أهمّ هذه الأدلّة وأتقنها، بل (يمكن أن يقال: إنّه الدليل الوحيد، هو بناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم)([111]). ومن الواضح كون مدار السيرة على رأي العالم، والنتيجة التي يصل إليها بعلمه واجتهاده، وما الفتوى إلاّ طريقٌ لمعرفة رأيه. وبمقتضى هذا الدليل سيكون حصر التقليد بالاعتماد على الفتوى غيرُ واضحٍ.
أمّا الأدلّة النصّية التي تمّ التمسّك بها، كآية النَّفْر، وآية السؤال، فإضافة إلى ما تمّ طرحه عليها من إشكالاتٍ، فقد أرجعها بعض العلماء إلى إمضاء السيرة([112])، وبالتالي لن يقتصر مجالها على الفتوى، دون الرأي العلمي.
نعم، أُخِذ في بعض الروايات عنوان الإفتاء والمفتي، كما في قول أبي جعفر× لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة، وأَفْتِ الناس؛ فإنّي أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك»([113])، أو ما كتبه الإمام أمير المؤمنين× إلى بعض الفقهاء من ولاته، وجاء فيه: «واجلس لهم العصرَيْن، فأَفْتِ المستفتي، وعلِّمْ الجاهل، وذاكِرْ العالم»([114]). ومن هنا قد تكون مثل هذه الروايات مستنداً للقول بعدم صحّة العمل برأي الفقيه إذا لم يُفْتِ به. إلاّ أن يكون هذا العنوان طريقاً إلى معرفة الرأي، ولا تكون له موضوعيةٌ، كما أشار إليه بعض العلماء، الذين تداولتُ معهم هذه المسألة. ورُبَما يوجَّه رفض بعض العلماء اعتماد مقلِّديهم على بحوثهم الاستدلالية، وإرجاعهم إلى الرسائل العملية فقط، بأنهم يكونون غير ملتزمين بإيراد النتائج النهائية التي يطمئنّون إليها بشكلٍ نهائي في تلك البحوث، أو بكونهم لا يطمئنّون بقدرة المكلَّفين كلِّهم على استخلاص آرائهم، فلم يريدوا أن يفتحوا باباً عامّاً غير مضمون الدّقة.
العمل برأي الفقيه غير المتصدّي
وبناءً على هذا التصوير وهذه الفكرة يمكن أن يُستفاد تصحيح العمل برأي الفقيه غير المتصدّي لمقام المرجعية فيما لو التزم بالاحتياط الفقهاء الذين هم أعلم منه، ووجد المكلّف رأياً علمياً له، فيمكنه حينئذٍ العمل اعتماداً عليه، ولا يشترط في ذلك أن يكون متصدّياً لمقام الإفتاء؛ حيث إنّ المدار هو على رأي العالم، لا فتواه، ولا أثر حينئذٍ لعدم تصدّيه للمرجعية، لكنْ يشترط أن يكون الفقيه الذي يُراد أن يرجع إليه جامعاً لشرائط الإفتاء([115]).
النقطة الخامسة: الاحتياط ولغة الرسائل العملية
جرَتْ عادة الفقهاء على اتّخاذ مصطلحات متعدّدة وطرق خاصّة للتعبير عن الاحتياطات الوجوبية والاستحبابية، في بيانهم لآرائهم الفقهية حين يعرضونها لمقلِّديهم في ما يُعْرَف بالرسائل العملية. وهم يريدون بذلك أحياناً الإشارة إلى نكاتٍ علمية في أدلّة المسائل التي يحتاطون فيها. وهذا ما أثار جملةً من الملاحظات، من أهمّها: عدم انسجام لغة الرسائل العملية مع مخاطَبيها المعاصرين غير المتخصِّصين؛ لنخبويّتها وانطلاقها من عُرْفٍ لغوي سائد بين الحوزويين، ويصعب على غيرهم فهمه والتفاعل معه. فعبارات مثل: يشكل، محلّ تأمّل، فيه نظر، الأحوط مطلقاً، وغيرها، لا يفهمها عامّة المكلَّفين([116]) ما لم يتصدَّ لتوضيحها طلاّب العلوم الحوزوية، أو العارفين بها. ويتبيّن حجم هذه المشكلة من استفسارات المكلَّفين المتكرِّرة في هذا المجال([117]). بل رُبَما يحصل ـ وقد حصل فعلاً ـ اختلاف بين علماء فضلاء قريبين من آراء ومباني المرجع نفسه في تحديد نوع الاحتياط، أو تمييزه عن الفتوى بالاحتياط، في بعض المسائل الموجودة في الرسائل العملية، وخصوصاً إذا ما التفتنا إلى أنّ بعض العبائر تستعمل للاحتياطين الوجوبي والاستحبابي، ويميَّز بينها بسبقها أو تعقُّبها للفتوى.
وقد انتبه إلى هذه الملاحظة جملةٌ من المراجع، فحاولوا أن يختاروا تعبيرات أوضح، وأقرب إلى الفهم العادي، ومنهم: السيد البروجردي، فاستبدل تعبير (الأحوط) مطلقاً بـ (الأحوط وجوباً)؛ ليميِّزه عن الاحتياط الاستحبابي([118])؛ وبعض المراجع المعاصرين، ومنهم:
ـ السيد الشهيد الصدر: استعمل في كتابه (الفتاوى الواضحة)؛ للدلالة على الاحتياط الاستحبابي، هذه الكلمات (الأحسن، الأَوْلى، يرجَّح) ([119]).
ـ السيد محمد سعيد الحكيم: استعمل في كتاب (الأحكام الفقهية)؛ للدلالة على الاحتياط الوجوبي، هذا الرمز ([])([120]).
ـ السيد محمد حسين فضل الله: استعمل في كتاب (أحكام الشريعة)؛ للدلالة على الاحتياط الاستحبابي، كلمة (الأحوط)([121]).
وهي تبقى محاولاتٌ محدودة، بحاجة إلى الاستمرار والتطوي؛ من أجل الوصول إلى حالةٍ أفضل في العلاقة بين المرجعيّة وعموم المكلَّفين.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة. من المملكة العربيّة السعوديّة.
([1]) الشيخ حيدر حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 140.
([2]) حبّ الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 56.
([3]) الشيخ محمد صادقي، فقه گويا: 15.
([4]) الشيخ محمد إبراهيم جنّاتي، تاريخ تحوّلات وكيفيت بيان فقه: 300.
([5]) السيد أحمد الحسيني، احتياطهاي روا ونا روا، ريشه ها وعوامل، مجله فقه، العدد 36: 47.
([6]) جنّاتي، تاريخ تحوّلات وكيفيت بيان فقه: 355.
([7]) السيد محمد رضا السيستاني، بحوث فقهية: 414.
([8]) الحسيني، احتياطهاي روا ونا روا، ريشه ها وعوامل، مجله فقه، العدد 36: 58.
([10]) جنّاتي، تاريخ تحوّلات وكيفيت بيان فقه: 300.
([11]) تعرّضنا إلى احتياطات السيد اليزدي في الفصل الأول من البحث، في مبحث تاريخية الاحتياط.
([12]) الحسيني، احتياطهاي روا ونا روا، ريشه ها وعوامل، مجله فقه، العدد 36: 57.
([13]) الشيخ محمد علي التوحيدي، مصباح الفقاهة (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي) 1: 193.
([14]) الكليني، الأصول من الكافي، في 1: 42.
([15]) الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى والثانية): 384.
([16]) الشيخ علي كاشف الغطاء، النور الساطع في العلم النافع 1: 260.
([17]) السيد محمد المجاهد الطباطبائي، مفاتيح الأصول 1: 602.
([19]) كاشف الغطاء، النور الساطع في العلم النافع 1: 260.
([20]) السيستاني، بحوث فقهية: 413.
([21]) الطباطبائي، مفاتيح الأصول 1: 601.
([22]) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، تفسير الآية 159 من سورة البقرة.
([23]) السيد تقي القمّي، الغاية القصوى في التعليق على العروة الوثقى (كتاب الاجتهاد والتقليد): 133.
([24]) الميرزا علي الغروي، التنقيح في شرح العروة الوثقى (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي) 1: 374.
([25]) الشهيد مرتضى مطهَّري، سلسلة تراثه وآثاره (المرأة حقوقها وحجابها): 458.
([26]) القمّي، الغاية القصوى في التعليق على العروة الوثقى (كتاب الاجتهاد والتقليد): 133.
([27]) السيد محمد كاظم مصطفوي، مائة قاعدة فقهية 1: 35.
([28]) الكليني، الأصول من الكافي 1، باب بذل العلم، ح1.
([29]) الغروي، التنقيح في شرح العروة الوثقى (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي) 1: 375.
([31]) استفَدْتُ هذا الوجه من بعض الأساتذة.
([32]) الشيخ محمد صنقور، المعجم الأصولي 1: 80.
([33]) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتقليد: 493.
([34]) الشيخ رضا أستادي، ظاهرة الاحتياط في التراث الفقهي، مجلة نصوص معاصرة، العدد 4: 214.
([35]) الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 27، الباب 2 من أبواب صفات القاضي، ح38.
([36]) نهج البلاغة: 360، الحكمة رقم 115.
([38]) الكليني، الأصول من الكافي 1: 68.
([39]) المحدِّث يوسف البحراني، الحدائق الناضرة 1: 76.
([40]) المحدِّث محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 2: 258.
([41]) الحُرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 27: 172، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ح61.
([42]) شمس الدين، الاجتهاد والتقليد: 493.
([43]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 344.
([45]) السيد محمد سرور البهسودي، مصباح الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الخوئي) 2: 565.
([46]) صنقور، المعجم الأصولي 1: 81.
([47]) محمد رضا رجب نجاد، احتياط در ترك احتياط: 203.
([48]) الشيخ محمد جواد مغنيّة، فقه الإمام الصادق× 1: 33.
([50]) الشيخ محمد الفاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسية (الاجتهاد والتقليد): 289.
([51]) الشيخ إبراهيم جنّاتي، أزمة الاحتياط في الفتاوى الدينية، مجلة نصوص معاصرة، العدد 4: 236. ولاحِظْ أيضاً: احتياط در ترك احتياط: 150 وما بعدها.
([52]) الحسيني، احتياطهاي روا ونا روا، نمونه ها وپيامدها، مجله فقه، العدد 37 ـ 38: 130.
([53]) السيد محمد حسين فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: 257.
([54]) رجب نجاد، احتياط در ترك احتياط: 203.
([55]) مطهّري، سلسلة تراثه وآثاره (المرأة حقوقها وحجابها): 458.
([56]) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مسائل حَرِجة في فقه المرأة، الستر والنظر: 218.
([57]) الشيخ جعفر الشاخوري البحراني، حركية العقل الاجتهادي لدى فقهاء الشيعة الإمامية: 37.
([58]) شمس الدين، مسائل حَرِجة في فقه المرأة، الستر والنظر: 218.
([59]) فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: 258.
([60]) حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 142.
([61]) الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 444.
([62]) جنّاتى، تاريخ تحوّلات وكيفيت بيان فقه: 71. ولاحِظْ أيضاً: المصدر السابق: 175، 306.
([63]) حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي 2: 142. ولاحِظْ أيضاً: شمس الدين، مسائل حَرِجة في فقه المرأة، الستر والنظر: 220.
([64]) حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي 2: 142. ولاحِظْ أيضاً: شمس الدين، مسائل حَرِجة في فقه المرأة، الستر والنظر: 220.
([65]) جنّاتي، أزمة الاحتياط في الفتاوى الدينية، مجلة نصوص معاصرة، العدد 4: 236.
([66]) الحسيني، احتياطهاي روا ونا روا؛ نمونه ها وپيامدها، مجله فقه، العدد 37 ـ 38: 125، نقلاً عن السيد البروجردي.
([67]) الحسيني، احتياطهاي روا ونا روا؛ ريشه ها وعوامل، مجله فقه، العدد 36: 59.
([68]) الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 29: 278.
([69]) حوار مع السيّد كمال الحيدري، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 22: 189.
([70]) جنّاتي، أزمة الاحتياط في الفتاوى الدينية، مجلة نصوص معاصرة، العدد 4: 236.
([71]) رجب نجاد، احتياط در ترك احتياط: 81.
([72]) حوار مع السيّد كمال الحيدري، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 22: 189.
([73]) أستادي، ظاهرة الاحتياط في التراث الفقهي، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 4: 221.
([74]) الشيخ عبدالكريم الحائري، درر الفوائد 2: 67.
([75]) أستادي، ظاهرة الاحتياط في التراث الفقهي، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 4: 221.
([76]) الحائري، درر الفوائد 2: 67.
([77]) أستادي، ظاهرة الاحتياط في التراث الفقهي، مجلّة نصوص معاصرة، العدد 4: 221.
([78]) السيستاني، بحوث فقهية: 413.
([79])الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء 1: 223.
([80]) الشيخ حسن فيّاض، منتخب الأحكام (مطابق لفتاوى السيد الخامنئي): 14، مسألة 12.
([81]) السيد محمد كاظم اليزدي، العروة الوثقى 1: 54، مسألة 61. ولاحِظْ أيضاً: السيد عليّ الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 1: 9، سؤال 8.
([83]) اليزدي، العروة الوثقى 1: 54، مسألة 61. ولاحِظْ أيضاً: الخامنئي، أجوبة الاستفتاءات 1: 9، سؤال 8.
([85]) شمس الدين، الاجتهاد والتقليد: 494.
([86]) العروة الوثقى والتعليقات عليها 1: 347.
([89]) السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 100.
([90]) اليزدي، العروة الوثقى 1: 54، مسألة 63.
([91]) العروة الوثقى مع التعليقات عليها 1: 347.
([92]) الشيخ مرتضى الباشا، الحبوة في مناسك الحجّ والعمرة: 29.
([94]) السيد أبو القاسم الخوئي، المسائل الشرعية 2: 9، جواب سؤال 13.
([95]) الخوئي، صراط النجاة (مع تعليقات الميرزا جواد التبريزي) 2: 285.
([96]) للاستزادة راجِعْ: السيستاني، بحوث فقهية: 411.
([97]) السيد محمد حسن اللنگرودي، الدرّ النضيد 2: 407.
([98]) الشيخ محمد علي گرامي القمّي، المعلّقات على العروة الوثقى 1: 23.
([99]) اللنگرودي، الدرّ النضيد 2: 407.
([100]) لاحِظْ؛ للاستزادة والتوسّع: الميرزا جواد التبريزي، دروس في مسائل علم الأصول 6: 414.
([101]) السيد رضا الصدر، الاجتهاد والتقليد: 395.
([102]) لاحِظْ: الشيخ مرتضى الأنصاري، صراط النجاة (محشّى): 32، هامش 4.
([103]) الشيخ محمد إسحاق الفيّاض، منهاج الصالحين 1: 21، مسألة 33.
([104]) استفتاء خطّي، برقم10400، وتاريخ 4/9/1394هـ.ش.
([105]) استفتاء خطّي، غير مرقَّم.
([106]) استفتاء خطّي، برقم10545، وتاريخ 11/9/1394هـ.ش.
([107]) استفتاط خطّي، برقم165/94، وتاريخ 6/9/1394هـ.ش.
([108]) السيستاني، بحوث فقهية: 413.
([109]) الخوئي، صراط النجاة (مع تعليقات الميرزا جواد التبريزي) 3: 14، سؤال 21.
([110]) المصدر السابق 2: 15، سؤال 19.
([111]) الشيخ جعفر السبحاني، تهذيب الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الخميني) 3: 609.
([112]) السيد محمد سعيد الحكيم، مصباح المنهاج (الاجتهاد والتقليد): 10.
([113]) النجاشي، فهرست أسماء مصنِّفي الشيعة: 10.
([114]) نهج البلاغة، الرسالة 67.
([115]) استفتاءات خطّية مقدّمة إلى مجموعة من المراجع، سبق ذكرها.
([116]) عبّاس يزداني، مروري بر رساله هاي عملي، مجلّه فقه، العدد 13: 213.
([117]) جنّاتي، تاريخ تحوّلات وبيان كيفيت فقه: 342.
([119]) الشهيد السيد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 93.