حيدر حبّ الله*
بقلم: أ. محمّد طرّاف
تمهيد
في البداية لا بدّ لي أن أشير بأنّني في هذه الكلمة المتواضعة، لن أتحدّث عن المنهج التفسيري كلّه عند العلامة المفسّر السيد محمد حسين فضل الله (2010م) ـ رحمه الله ـ بل سوف أسلّط الضوء فقط على جوانب قليلة محدّدة.
الجانب الذي أودّ الحديث فيه هو الطريقة التي يعتمدها السيد فضل الله في تناول الجانب اللغوي، وقراءته القرآن من خلال هذا الجانب.
وليس هدفي هنا سوى تقديم محاولة توصيفية تحليليّة بسيطة أقارب من خلالها المشهد اللّغوي عنده، وكيف كان يقرأ النص القرآنيّ من الزاوية اللّغوية طبقاً لقناعاته الخاصّة.
جميعنا يعرف ـ بطبيعة الحال ـ أنّ السيد محمد حسين فضل الله هو من الرعيل النجفي الذي كان يعيش في الفترة النجفية اللّغوية المزدهرة، وهي فترة الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات.. من القرن الميلادي الماضي، فالنجف في هذه الفترة كان فيها نشاطٌ لغويّ وأدبيّ عالٍ؛ ولذلك وجدنا نوعاً من التزاوج والدمج بين الشخصيّة العلمائيّة والشخصيّة اللغوية العربيّة، فظهرت أقلامٌ مُبدعة في ميدان الكتابة والنثر العربيّين مثل السيد عبد الحسين شرف الدين والسيّد محسن الأمين والشيخ محمد رضا المظفر وأمثالهم، إلى جانب ظهور فقهاء لغة مثل الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي.. وهو ازدهار ربما يكون قد تأثر كثيراً بالنزعة العروبيّة والقومية التي عمّت العالم العربي في القرن العشرين، وتركت بصماتها على الاهتمام باللغة العربية عموماً.
هذه الفترة كانت فترة ازدهار متميّزة، وكانت هناك مجلات ونشريّات أدبية متنوّعة، وكان طلاب الحوزة قريبين جداً من القضية اللّغوية بطريقة أو بأخرى. ليسوا كلّهم بطبيعة الحال، وإنّما فريق بارز منهم بالحدّ الأدنى.
معالم المقاربة اللغوية القرآنية عند العلامة فضل الله
لقد وضع العلامة فضل الله في قراءته لموضوع اللّغة التي يُبنى عليها النص القرآني مجموعة من الأسس، أشير هنا لبعضٍ منها باختصار وفقاً لتحليلي الشخصي:
1 ـ عقلائيّة اللغة القرآنيّة
أوّل المعالم والأسس هو عُقلائيّة اللغة القرآنيّة. صحيحٌ أنّنا قد لا نجد عنده نصّاً صريحاً بكامل الفكرة التي سأوضحها الآن، لكنّ جزءاً ممّا سأقوله مستقى من نصوصه، فيما الجزء الآخر ناتج عن تحليلي لطريقته في التعامل مع النصّ القرآني.
لم يكن السيد فضل الله يؤمن بأنّ النص القرآني يحتوي على لغة غير عقلائيّة، وأقصد من اللغة غير العقلائيّة، اللغةَ ما فوق العقلائيّة، لا المعنى السلبي للكلمة والذي يوحي باللغة المجنونة أو الخارجة عن العقل والعقلانيّة، فالقرآن يتكلّم باللغة التي يتكلّم بها الناس، لا بمعنى أنّ اللغة لغة عربيّة فحسب، بل بمعنى أنّ التركيب وقدرة النصّ على احتواء المعاني هي قدرة عقلائيّة في نهاية المطاف.
وعلى سبيل المثال، إذا أردنا أن نفهم لغة نصّ من ستمائة صفحة ـ مثل القرآن الكريم ـ على أساس أنّه يحتوي مع ما لا يتناهى من العلم، فإنّ من الطبيعي أن تكون هذه اللغة التي فيه هي لغة ما فوق عقلائيّة وبشريّة، أي أنّنا نتحدّث عن شيء غير قابل للتعقيل، أو فقل: عن شيء أقرب للميتافيزيقا؛ إذ لا يمكن لنصّ من ستمائة صفحة مثلاً أن يحتوي على ما لا يتناهى، فهذا شيء فوق طاقة الوضع اللّغوي العقلاني، ومن ثمّ فإنّ تركيبة اللغة الموجودة في القرآن وبِنيتها هي بِنية يمكن أن نعبّر عنها بأنّها ما فوق عقلائيّة وما فوق عقلانيّة.
يبدو من المسار التفسيري كلّه للعلامة فضل الله أنّه لا يعتقد كثيراً بأنّ النص القرآني يحتوي على لغة من هذا القبيل، فهو دائماً يتعامل بما يشبه طرائق تعامل الفقهاء، وهي الطرائق التي تنبني على أنّ الكلام الذي نتعامل معه هو لغة عادية، كما يتكلّم الناس مع بعضهم، ومن ثمّ فاختزان النصّ القرآني لطاقات خارجة عن إطار قواعد التفاهم والتفهيم المتعارفة بين الناس، هو أمرٌ استثنائي يحتاج إلى أن نقدّم دليلاً عليه.
يبدو من حركة السيد فضل الله في تفسيره (من وحي القرآن) بل في سائر بحوثه وكلماته أيضاً، أنّها كانت تسير في هذا الاتجاه، فقد كان معارضاً واضحاً للتفاسير الباطنيّة والإشاريّة والرمزيّة التي تعتقد بأنّ النصّ القرآني مركّب تركيبة خاصّة غير متداولة بين الناس، على الأقلّ من وجهة نظره، لذلك كان يرفض بشدّة النزعات التأويليّة غير القائمة على معطى لغويّ، بمعنى أنّ النزعة التي تقوم على نظريّة لغويّة عقلائية مثل نظريّة المجاز التي برّرت التأويل المعتزلي، يمكن أن تكون مقبولة عنده، أمّا النزعة التأويليّة التي تقوم على شيء لا يعتمده نظام اللغة العقلائي، كأن أقول: إنّ النص القرآني الموجود بين أيدينا ليس سوى تجلٍّ أو تنزّل للعلم الإلهي، وبالتالي أنا أستطيع أن أقرأ النصّ القرآني في نسخته ما فوق الماديّة، كما قد يثار ذلك في بعض الأوساط العرفانيّة، فهو ما لا يقبله العلامة فضل الله، ولم يكن ينسجم إطلاقاً مع نمطه التفسيري.
إذن، أوّل ركن يمكن أن نستنبطه من خلال تجربة العلامة فضل الله التفسيريّة، بل من خلال نصوصه المباشرة، أنّه لم يكن يقبل بأنّ بنية اللّغة القرآنية هي بنية غير ما نعرفه نحن من طرائق البيان والتبيين، وبذلك وقع التباعد الحقيقي بينه وبين بعض طرائق التأويل الفلسفي والعرفاني والباطني والرمزي.
بل على هذا الأساس عينه، لاحظنا له موقفاً أيضاً من الروايات التي تحمل هذا النمط من تفسير القرآن الكريم. فعلى سبيل المثال ـ والمثال من عندي ـ صحيحة بريد العجلي التي يستدلون بها على اشتراط الصيغة في عقد النكاح، فالسيّد الخوئي كأنّما يعتبرها الدليل العمدة عنده على اشتراط الصيغة في عقد النكاح وعدم مشروعيّة المعاطاة، إنّ هذه الرواية تشرح قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء: 21)، فتقول بأنّ الميثاق هي الكلمة التي يوثق بها عقد النكاح، و«غليظاً» ماء الرجل يفضيه إليها.
هذا التركيب التفسيري في الرواية لا ينسجم مع البنية اللغويّة؛ لأنّ «غليظاً» وصفٌ للميثاق، فلا نستطيع أن نفهم أن يكون الميثاق هو عبارة عن كلمة النكاح، أي العقد، وأنّ غليظاً هي عبارة عن أمر مادي خارجي لا علاقة له بوصف الكلمة، إلا بضرب من التأوّل والتكلّف.
مثل هذه المرويّات حتى ولو كانت في إطار فقهيّ، لم يكن العلامة فضل الله ليقبل بها، وكان يبدي تحفّظاً في غير مورد. هذا معلم من معالم اللّغة القرآنية من منظور العلامة فضل الله.
2 ـ اللغة من الذهنية التقعيديّة الهندسيّة إلى الفهم العفوي السيّال
المعلم الآخر هنا هو أنّ المفسّر فضل الله لم يكن يعتبر اللّغة عبارة عن مجموعة من قواعد أشبه بالمربعات والقوالب الذهنيّة التي نُسقطها على المفردات والجمل. اللغة ـ أيّ لغة كانت، ومنها اللغة العربيّة ـ هي نمط حياة، وهي نسق مفاهيمي، وهي أسلوب عيش، فلا يمكنك أن تفهم اللّغة إذا كنت تفهم مجرّد انعكاس هذه المفردات، بل يجب أن تندمج اندماجاً تاماً مع نمط عيش العربيّ في ذلك الزمان، حتى تستطيع أن تفهم المفردات التي كانت تراد من خلال استخدام الكلمات والجمل. أمّا إذا انعزلت عن أن تعيش الحياة العربيّة بما هي نسق من مفاهيم وثقافة ورؤية وما شابه ذلك، فكأنّك تحوّل اللّغة إلى قشور، تفصلها عن إطارها الثقافي وعن العمق الثقافي والاجتماعي الذي ولدت فيه أصلاً، واللّغة ليست سوى تعبير عن هذا العمق الثقافي الاجتماعي في إطار الزمان والمكان عند الإنسان.
كان العلامة فضل الله يرفض بشدّة ما يسمّيه التفسير الهندسي للنصّ ـ بحسب تعبيره ـ حتى أنّه كان يعبر أحياناً بـ”الاجتهاد الهندسي والفقه الهندسي”. فيقول: لا يمكنني أن أفهم التعابير بمعزل عن طرائق الناس في البيان والتبيين، وطبائع المجتمع العربي البدوي البسيط في كيفيّة إيصاله للأفكار.
وعلى سبيل المثال، تقول الرواية بأنّ شخصاً سأل الإمام×: متى أصلّي الوُتَيرة؟ فالإمام يقول له: صلّها بعد العشاء الآخرة. فالفقهاء يقولون: يجوز الإتيان بالوُتَيرة قبل الفجر. هذا النمط من التفسير لم يكن يعجب العلامة فضل الله، الذي كان يعتبر أنّ هذا التفسير تفسيرٌ هندسيّ؛ لأنّ الفقهاء يفكّرون أشبه بطريقة الفيلسوف، فإنّ (قُبيل الفجر) يصدق عليه البَعدية ـ بعد صلاة العشاء الآخرة ـ في حين أنّه لو قلت لك في الحياة العرفيّة: سآتيك إن شاء الله وأزورك بعد صلاة العشاء، ثم تراني قد طرقت الباب عليك الساعة الثانية ليلاً، وقلت لك: تصدق البَعدية هنا، فسوف تستهجن طريقتي في التعامل.
أقول: لا يمكن أن تتعامل مع التراكيب اللّغوية بهذه الطريقة البعيدة عمّا يألفه العرف اللغوي. ثمّة ارتكازات وثمّة طرائق مندمجة مع النصّ لا يمكنني أن أفصلها عن النصّ. فحتى أستطيع أن أفهم النصّ لا بدّ أن أندمج معه، وهذا ما يؤكّد ضرورة فهم التاريخ ـ تاريخ الجزيرة العربيّة وتاريخ ثقافتها ـ لفهم النصّ القرآني من وجهة نظر العلامة فضل الله.
إذن، النقطة هو أنّ اللّغة العربية ليست قوالب جامدة، بل هي كأيّ لغة أخرى، تعبّر عن نمط حياة وعيش، وتحمل في باطنها ثقافة وطريقة إفصاح. هذه أيضاً لا بدّ لنا أن نركّز عليها بتقديري في مقابل ما يسمّيه العلامة فضل الله بالتفسير الهندسي الذي يأتي بآية فيجعلها صغرى قياس، ثم يركّب معها جزءاً من آية أخرى ليتكوّن قياس منطقي أرسطي. إنّه ينتقد هذه الطريقة التي يستعملها بعض العلماء اليوم حتى صارت أشبه بالمتعارف بين العديد منهم. هذه الطريقة في التعامل مع النصوص هي طريقة هندسية، فكأنّما أضع مربّعاً إلى جانب مثلث، وفوقه مستطيل، فأبني شكلاً هندسيّاً معيّناً.
إنّ الزوايا في اللّغة ليست محدّدة، بل هي مدوّرة، ومن ثمّ لا يمكن التعامل مع اللّغة بوصفها أشبه بالرياضيات والحسابات وما شابه ذلك. وعندما أتعامل مع لغة ابن سينا في الإشارات والتنبيهات فأنا أتعامل مع لغة محدّدة، بينما عندما أتعامل مع النصّ القرآني الذي هو في بطن الحياة، ويستخدم لغة عموم الناس، فأنا أتعامل مع لغة مدوّرة وليست زواياها محدّدة من وجهة نظره رحمه الله.
وهذا ما يذكّرني بما كان قد طرحه من قَبْل الإمامُ المقاصدي الكبير أبو إسحاق الشاطبي (790هـ) حيث اعتبر في كتاب الموافقات الشهير بأنّ اللغة الدينيّة الإسلاميّة ـ لغة الكتاب والسنّة ـ هي لغة عربية أميّة، فعنصر الأميّة جوهريّ للغاية في فهم محتوى اللغة ورسالتها، ومن دونه قد ترتبك أمامنا الصورة كلّها.
بين المنهج اللغوي العفوي ونقد نظرية تجسّم الأعمال
على سبيل المثال، كان السيد فضل الله ينتقد نظرية تجسّم الأعمال، ولا يؤمن بها، ويقول بأنّه لا دليل عليها في القرآن الكريم، ثم ينتقد التفسير الهندسي لمثل قوله تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) (الكهف: 49). ويقول: لماذا هذا التفسير الهندسي الحرفيّ للنصّ، أنّه وجد ما عمل؟! فإنّ الناس مثلاً في الحياة العربيّة وغيرها، إذا رسب ابنك في المدرسة يقولون له: هذا هو عملك، هذا هو درسك، أي ناتج درسك. النص ليس بحاجة أن يُقحِم كلمة «النتيجة»، لماذا؟ لأنّ هناك نوعاً من التوافق اللّغوي فيما بيننا، ناتج عن طرائقنا في التعبير، لا يُحيجني أن أذكر القيود كلّها، فثمة محذوفات مقدّرة في أذهان المتلقّين يجب عليّ أن أعرفها حتى أفهم النص الذي قاله المتكلّم في هذا السياق، ولذلك قال: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) أي وجدوا نتيجة عملهم، وهذا هو التفسير الطبيعي الذي يفهمه العرف وأهل اللغة.
وكذلك مثلاً عندما يعالج مثل العلامة فضل الله قولَه تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (الدخان: 29)، فهم يقولون: ليس البكاء هنا للسماء، فلا تبكي السماء ولا تبكي الأرض، حتى نقول مثلاً: لِمَ قدّم بكاء السماء على بكاء الأرض؟ هل أنّ السماء تبكي أوّلاً ثمّ الأرض؟ يقولون: لا يوجد بكاء، هذه كلّها تفسّر تفسيراً جُمَلِيّاً، لا تفسيراً مفرداتياً، ومعنى الآية يساوي: لم يأسف عليهم أحد، فلا سماء ولا أرض ولا بكاء في البين، إنّما هي تراكيب يستخدمها العرف أشبه بالأمثلة الشعبية، علينا أن لا نجمد عندها، بل نذهب إلى ما ورائها في هذا السياق، تماماً كما فعل المعتزلة والإماميّة في تفسير آية: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) (القلم: 42)، حيث قالوا: ليس هناك من ساقٍ ولا كشف، وإنّما هي عبارة يراد منها في عرف أهل اللغة: يوم يشتدّ الأمر، فالعرب تقول: كشفت الحرب عن ساقها، أي اشتدّت، وانتهى الموضوع، فلا حاجة إلى أن نتعامل بحَرْفيّة عالية مع المفردات والتراكيب من وجهة نظر السيد فضل الله، حتى نخرج بتفسير كان يعبّر عنه رحمه الله مراراً بالتفسير الهندسي أو الفهم الهندسي.
إنّ هذا الفهم الهندسي ليس عمقاً كما يخيّل لبعضنا، بل هو تدميرٌ للغة وتشويهٌ لها وسلبها حياتها الأصيلة.
3 ـ القرآن بوصفه كتاب نهضة وتغيير، وبناء فهمه على العلاقة الجدليّة مع الواقع
المعلم الآخر من معالم التفسير عند العلامة فضل الله، وأركّز هنا على الجانب اللّغوي خاصّة، هو أنّه يعتبر أنّ النصّ القرآني يختلف عن النصوص النخبويّة، فلغة النصّ القرآني ليست لغةَ نخبة، فهو لا يخاطب فلاسفة حتى يتكلّم بلغتهم، ولا يخاطب علماء رياضيات حتى يتكلّم بلغتهم أيضاً، وإنّما يخاطب مجتمعاً بأكمله. وهذا الخطاب للمجتمع ليس خطاباً نظريّاً، إنّه لا يريد أن يعطي معلومات، ولم يأت ليقدّم نظريّات أو بعض المعلومات: المعلومة الأولى، المعلومة الثانية.. إنّما هو مواكب للحياة، فالنصّ القرآني نزل في مدّة ثلاث وعشرين سنة، وهذه الثلاث والعشرون سنة واكب القرآن فيها الأحداث، وخاصّة على الاعتقاد بحدوث القرآن الذي يؤمن به المعتزلة والإمامية. إنّه عاش في بطن الحدث، وفي داخل الحدث، وتفاعل مع الحدث، فكان يأخذ شيئاً من الحدث ثمّ يعلّق عليه، ليتأثّر الحدثُ بكلامه، فهناك علاقة جدليّة بين الحدث الزمني خلال ثلاث وعشرين سنة وبين النصّ القرآني، وهذه العلاقة الجدلية سببها ـ من وجهة نظره ـ أنّ القرآن ليس كتاب معلومات فقط، وإنّما هو كتاب نهضة وتغيير، وهو كتاب فعالية اجتماعيّة، ومن ثمّ يجب أن أنظر إليه من زاوية أنّه كتاب نهضة وفعالية وتغيير اجتماعي.
إذا أنا نظرت إلى النص القرآني من هذه الزاوية ما الذي سوف يتغيّر؟
إنّ الذي يتغيّر هو أنّ الذي يريد أن يفهم النصّ القرآني يجب أن يكون شخصاً خبيراً بالحياة الاجتماعيّة، أي يعيشها حتى يستطيع أن يعرف هذا المتكلم ماذا كان يريد. أمّا إذا كان شخصاً منعزلاً ليس له خبرة في الحياة الاجتماعية والتغيّرات الاجتماعية والحياة السياسية والحياة الأخلاقيّة والحياة الأسرية، فلن يستطيع أن يفهم النص.
لذلك هو ـ أعني العلامة فضل الله ـ يقترب أحياناً في بعض مواقفه من رأي سيد قطب في تفسير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)، فقد كان سيد قطب يقول: إنّ الطائفة النافرة هم المجاهدون وليس طلاب العلوم الدينيّة، وكان يبرّر ذلك بأنّ المجاهد هو الذي يدرك الحقيقة في بطن الحياة وفي عمق التجربة؛ لأنّ الحقيقة معاشة في كثير من الأحيان وليست مدرَكة ذهنيّاً فقط. فالفقه هو الإدراك المندمج مع الحياة، وليس هو الإدراك النظري التجريدي الانتزاعي.
لذلك كان العلامة فضل الله واضحاً في منهجه كلّه في تفسيره للقرآن الكريم، أنّه لا يريد أن يتعامل مع النصّ القرآني بطريقة تجريديّة، هو لا يتعامل مع تحليلات فرضيّة، إنّما يتعامل مع نصّ يعيش مع الحياة، ومن ثمّ ينبغي أن أفهم أنا الحياة، وأندمج معها حتى أقدر على فهمه؛ لأنّه مندمج فيها؛ ولأنّ هذه هي الوسيلة الوحيدة للتماهي مع صاحب النصّ، وللالتصاق به، لتقمّص شخصيّته، كي أفهمه بشكل أفضل، على حدّ قواعد الفهم الهرمنوطيقي لشلايرماخر (1834م).
لذلك كان فضل الله يعتبر أنّ الذين يفهمون النصوص هم أولئك الذين يعيشون قضاياها في الحياة، أمّا أولئك الذي لا يعيشون قضاياها في الواقع فهم أضعف في هذا المجال، وهذا ما جعله يتبنّى فكرة التفسير الحركي للقرآن الكريم أو التفسير الاجتماعي الحركي للقرآن الكريم، حتى أنّني أذكر أنّ الباحث القرآني الفاضل السيّد عبد السلام زين العابدين حفظه الله، كان يقول: إنّه كان هناك توافق على أن يُعاد النظر في تفسير من وحي القرآن (الطبعة الثانية)، وأعاد السيد فضل الله النظر فيه، وأضاف حوالى ألفي صفحة (في الطبعة الثالثة) على ما سمعت، والله أعلم. يقول السيد زين العابدين: أنا كنت من الذين يشتغلون في الموضوع، فعرضت عليه أن نقوم بعرض آراء الرازي والطبري والبيضاوي، هذه التحاليل والقضايا التفصيليّة الدقيقة في التفاسير القرآنيّة، ومناقشتها، لكن السيد فضل الله كان مصرّاً على الرفض، وكان يقول: أنا لا أريد أن أفسّر القرآن تفسيراً نظريّاً، بأن أقدّم معلومات إضافيّة في التفسير، لأنّ التفسير عندي هو عبارة عن أن أعطي المتلقّي الذي يقرأ تفسيري إدارة حياة، فلا بد أن أتعامل في حركة التفسير وكأنّني أمارس ما يريده النصّ القرآني نفسه، أي يُوجد حركة تغيير، فلذلك كان يعبّر عنه بالتفسير الحركي أو التفسير الاجتماعي، ويرفض أن يغيّر نسق تفسيره ووجه تفسيره إلى نسق تحليلي نظري مغرِق في التفكيكات والسجالات النخبويّة الغامضة، على طريقة: إن قلتَ قلتُ، إنّ هذه اللّغة وهذا النمط من الدخول في التفاصيل القرآنيّة يمكن أن تعيق أهدافه رحمه الله، ولهذا السبب أيضاً نجده يتجاهل كثيراً من البحوث التفسيرية الكلامية أحياناً، والفلسفيّة أحياناً أخرى، والتاريخيّة ثالثة، بل حتى الفقهيّة الدقيقة أيضاً. إنّها مسألة قناعات، وليست ضعفاً علميّاً كما يخيّل لبعضنا.
إنّ نمط تفكير المفسّر فضل الله يقول بأنّه لا يهمّني أن أفهم جوانب النصّ القرآني كلّه، بل أريد أن أفهم من النصّ القرآني ما يعينني في حياتي اليوم. لا أريد أن أضيف معلوماتٍ لا يمكنها أن تشارك في الفعل وفي التغيير بل تبقى اضافات ترفيّة لا تحدث تأثيراً في حياتي.
اللغة بين المعاجم والحياة العمليّة
النقطة لأخرى في هذا الموضوع ـ موضوع التفسير الحركي ـ أنّ المفسّر فضل الله لم يكن يعتقد بأنّ اللّغة تؤخذ من المعاجم فحسب، فالمعاجم هي أحد المصادر اللّغوية. المصدر الثاني للّغة هو الحياة.
هذا ما كان يسمّيه السيد محمد باقر الصدر (1980م) بمسألة الفهم الاجتماعي للنص القائم على الارتكازات. فقد كتب السيد الصدر مقالةً صغيرة، نشرها سنة 1967م في مجلّة «رسالة الإسلام»، تحدّث فيها عن مؤلَّف العلامة محمد جواد مغنية (1979م)، والذي حمل عنوان (فقه الإمام جعفر الصادق). لقد كان السيد الصدر فقيهاً متمرّساً لا يريد أن يخرج عن قواعد الاجتهاد الصارمة، وفي الوقت عينه كان معجباً بما أسماه الفهم الاجتماعي للنص عند العلامة مغنية. كان يعتبر أنّ مغنيّة يتحرّك مع النص في إطاره الاجتماعي بطريقة يفهمه من داخل الحياة الاجتماعيّة. ونحن جميعاً نعرف أنّ الشيخ مغنية كان كثيراً ما يستخدم قضيّة فهم الملاكات والعلل والأغراض، ولم يكن ـ إذا صح التعبير ـ فقيهاً محافظاً شيعياً إزاء قضيّة ملامسة العلل والملاكات والمصالح، فكان يتعامل ببساطة، فيقول ـ مثلاً ـ: إنّ الغاية من الزكاة كذا، هكذا يفهم العرف، والغاية من التشريع الفلاني كذا.
كانت هذه الطريقة تعجب ولو جزئيّاً ـ على ما يبدو ـ السيد محمد باقر الصدر، وقد عبّر عنها بالفهم الاجتماعي للنصّ، وأراد أن يكيّفها أصوليّاً، فكيّفها على قاعدة مناسبة الحكم والموضوع، حيث قال بأنّ الفهم الاجتماعي للنصّ بإمكاننا نحن أن نُدرجه في أصول الاجتهاد أيضاً عبر قاعدة مناسبات الحكم والموضوع؛ لأنّ مناسبات الحكم والموضوع ليست إلا ارتكازات العرف، فعندما يأتي النص يقوم العرف بوضع هذا النص في داخل ارتكازاته. والارتكازات تكون على شكل قوالب، فيضع العرف هذا النص في داخل ارتكازاته، فتصبح الارتكازات قرائن متّصلة لُبّية بتعبير السيد الصدر، أشبه شيء ـ إذا أردتُ أن أقارب الفكرة ـ بالقوالب الذهنيّة التي فَرضها الفيلسوف عمانوئيل كانط (1804م).
المفسّر فضل الله يريد أن يفعل شيئاً من ذلك، يقول: أنا لا أستطيع أن أفهم الكلمات والمفردات من خلال المعاجم اللّغوية فقط، وإنّما عليّ أن أفهمها أيضاً من داخل السياق الاجتماعي والحياتي، فلن تصبح النصوص معلّقةً في الفضاء، بل تنزل على أرضيّة مختمرة من قبل، ويمكن فهمها في سياق هذه الأرضية بوصف ذلك جزءاً من عمليّة الفهم اللغوي.
4 ـ المفسّر فضل الله وقضيّة الاجتهاد في اللغة
النقطة الأخرى التي أودّ الإضاءة السريعة عليها هنا، هو موضوع الاجتهاد في اللّغة؛ فالمفسّر فضل الله كان ـ كما يظهر في تفسيره وحواراته ـ يعتقد بأنّ قواعد اللّغة العربية وصلتنا من خلال جهودٍ اجتهاديّة قام بها العلماء في القرون الخمسة الهجريّة الأولى. كان يقول بأنّ المعتزلة والأشاعرة والباقلاني والجرجاني وعبد الجبار المعتزلي وأمثالهم، هؤلاء هم الذين صاغوا قواعد البلاغة، والنحويون صاغوا قواعد النحو وما شابه ذلك، والذي نسمّيه اليوم قواعد اللّغة العربية في النحو والصرف والبلاغة، فهذه القواعد ليست ملموسة بالوجدان، وإنّما اجتهاد لعلماء المسلمين في ملامسة حياة العرب في التعبير عن مراداتهم واستخراج قواعد من هذه التجارب العربيّة مثل قاعدة عدم جواز الابتداء بالنكرة، وقاعدة المجاز، وقاعدة الاستعارة وغير ذلك.
نقطة الامتياز هنا أنّ العلامة فضل الله كان يرى أنّ هذا الاجتهاد اللغوي ليس بملزمٍ لنا على طول الخطّ، فمن حقّنا اليوم أن نمارس اجتهاداً في اللغة، فنرجع إلى المعاجم اللغويّة والتراث اللغوي عموماً، وقد نخرج برأي يخالف رأي ابن فارس (395هـ) في أصل الكلمة مثلاً، وهذا حقّ طبيعي لنا. أنا استقرئ كلمات العرب وأخرج برأي يخالف ما ذكرته المعاجم اللّغوية.
أحد الأسباب الأساسية في هذا الموضوع، وهو من الإشكالات الأساسيّة التي يذكرها بعض الباحثين في اللّغة العربيّة اليوم ـ بصرف النظر عن كونها صحيحة أو لا ـ من أنّ علماء المعجم العربي أخذوا أكثر التعابير والمفردات من لغة أهل البادية في القرن الثاني والثالث الهجريّين، في حين أنّ لغة قريش مختلفة عن لغة أهل البادية جزئيّاً، فنحن لدينا مجموعة من القواعد أو من التفاسير المعجميّة تعبّر عن اللّغة العربية لأهل البادية، ولا تعبّر دائماً عن اللّغة العربيّة لقريش، ومن ثمّ من حقّي أنا الآن أن أقوم باجتهاد.
من هنا كان السيد فضل الله يدعو إلى إقحام الدراسات اللّسانية والهرمنوطيقيّة الجديدة في الدرس اللغوي العربي؛ لكي نجدّد الاجتهاد في اللّغة العربية، علّنا نصل إلى قواعد في البناء العربي يختلف عمّا وصل إليه السابقون ولو في الجملة دون أن يفرض الأمر تبايناً تامّاً معهم، وهذا ما كان يرفضه العلامة محمّد مهدي شمس الدين (2001م) تماماً، حيث كان يقول بأن قواعد الدراسات اللّغوية الحديثة واللسانيات وأمثالها، ولدت في فضاءات مختلفة عن فضاءاتنا، وإقحامها في الاجتهاد اللغوي العربي سوف يُحدث كارثة، بينما السيد فضل الله كان يعتقد بضرورة الاجتهاد اللّغوي العربي من خلال تطوّر الدراسات اللّغوية اليوم في العالم، ومن ثمّ فنحن لسنا ملزمين بالقواعد التي وصلت إلينا من الجرجاني في البلاغة وغيرها، عندما نصل بأنفسنا إلى قواعد مختلفة أخرى.
إذن، العناصر الأساسيّة التي أردت أن أشير إليها:
عنصر اللّغة العقلائية في النص القرآني عند السيد فضل الله.
عنصر أنّ اللّغة ليست عبارة عن مفردات، إنّما هي عبارة عن حياة ونمط عيش، وبالتالي يندمج الفهم اللّغوي بالفهم التاريخي اندماجاً كاملاً بالنسبة إليه.
العنصر الاجتماعي في الفهم اللّغوي.
عنصر ضرورة الاجتهاد في اللّغة العربيّة وعدم أخذ ما قاله السابقون وكأنّه عبارة عن فتوى يجب التقليد فيها، فلعلّهم أخطأوا في استنتاج بعض المعاني أو القواعد العربيّة هنا وهناك.
هذه بعض الإثارات التي أحببت أن أضيء عليها ممّا يبدو لي من تجربة العلامة المفسّر السيّد محمّد حسين فضل الله ومن نصوصه.
5 ـ بين مرجعيّتَي: القرآن والسنّة، عند المفسّر فضل الله (قانون الحكومة القرآني)
أختم كلامي هنا بأمر آخر، لا بأس بالإشارة إليه نظراً لحساسيته، ولأنّه في العادة أثار ضجّة على السيد فضل الله، وهو مرجعيّة القرآن الكريم، فالسيد فضل الله تقريباً يطابق رأي العلامة الطباطبائي في أنّ القرآن الكريم هو وحدة تفهيميّة مستقلة، ولسنا بحاجة إلى شيء خارج القرآن حتى نفهم القرآن. هو بنفسه يفهمنا نفسه، وله قدرة النطق والتعبير عن ذاته، دون قصورٍ في البيان ولا عجزٍ في الإفصاح حتى يأتي من يبيّنه. إنّ القرآن خطيبٌ متفوّه قادر على أن يقول مراده دون حاجة إلى غيره.
لم يمانع المفسّر فضل الله أن تأتي السُّنة الشريفة وتشرح شيئاً في القرآن، لكنّه يقول بأنّه إذا جاءت السُّنة لتشرح شيئاً من القرآن، فقيمة السُّنة هنا أن تلفتني إلى أنّه كيف بيّن القرآن ما شرحته السُّنة، إذا كانت في مقام الشرح لا في مقام تأسيس حكم جديد أو تأسيس فكرة جديدة لا وجود لها في القرآن، أو قيمة السُّنة أنها تلفتنا إلى أنّ النص القرآني أشار إلى النقطة الفلانيّة.
فأنا عندما آخذ النصّ من السُّنة الشريفة أذهب إلى النصّ القرآني، وأستطيع حينئذ أن أفهم النصّ القرآني في ذاته في ضوء ما أرشدتني إليه السنّة الشريفة في هذا السياق.
على هذا الأساس اعتقد فضل الله بمرجعيّة القرآن الكريم قياساً بالسنّة، واعتبر أنّ القرآن أعلى درجة من السنة، وعلينا أن نتعامل معه بعكس التعامل السائد الذي ورثناه من الحقبة الإخباريّة بنظره، وهو أنّ السُّنة هي القاضية على الكتاب، والكتاب ليس بقاضٍ على السنّة، وهي الجملة التي قالها يحيى بن أبي كثير وابن عبد البرّ القرطبي، بل لقد اعتبر الأوزاعي أنّ الكتاب أحوج إلى السنّة منها إليه. لقد تحوّلت هذه الجملة (السُّنة قاضية على الكتاب، والكتاب ليس بقاضٍ على السُّنة)، إلى شعار يهيمن على حركة العلاقة بين الكتاب والسنّة، فهي تملك قدرة التأثير فيه وليس له القدرة على التأثير فيها.
وكما تعرفون جميعاً، فأحاديث العرض على الكتاب يبطلها أهل السُّنة ولا يقبلونها، وهم يعتبرون أنها موضوعة أُريدَ منها الإطاحة بالسُّنة الشريفة، وهذا موجود في نصوصهم منذ قديم الأيام، فقد كانوا متشائمين جداً من المرويّات التي تقول بأنّ أيّ حديث يأتيكم فاعرضوه على القرآن، ولذلك من النادر أن تجد أحاديث العرض على الكتاب في كتب السنّة، إنما أغلبيتها الساحقة في كتب الشيعة الإماميّة.
لذلك فالعلامة فضل الله وقف بشكل مختلف مع هذه القاعدة، فاعتبر أنّ الكتاب هو القاضي على السُّنة، وقضاء الكتاب على السُّنة عند العلامة فضل الله عبر سبيلَين، ومن ناحيتَين:
الناحية الأولى: القضاء الصدوري، وهذا هو المتداول، فمثلاً رواية تأتيني وتتكلّم في موضوع معين، والنصّ القرآني يناقضها أو يعارضها، فأقول هذه الرواية باطلة لم تصدر لأنّ النبيّ وأهل بيته قالوا: ما خالف قول ربّنا الله فلم نقله، ولم يصدر منّا أصلاً، وهذا هو الذي ذهب إليه السيد محمد باقر الصدر والسيد السيستاني وآخرون من العلماء الذين صرّحوا بمرجعية القرآن الكريم، بمعنى مرجعيّة روح القرآن، والإطار العام للقرآن في محاكمة السنة.
هذا يقبل به السيد فضل الله بل مارسه كثيراً في العديد من أعماله، لكنّ هناك شيئاً إضافياً لاحظته عنده، وهو:
الناحية الثانية: القضاء التفسيري، أي حكومة النص القرآني، فالذي تعوّدنا عليه ـ خاصّة منذ طروحات الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) ـ هو أنّ الرواية تأتي فتوسّع من دائرة الآية توسعةً تعبّديّة.
لكنّ السيّد فضل الله يعتبر أنّه في بعض الأحيان تأتي الرواية فتخمّن أنت أنّها تقوم بتوسعة النص القرآني تعبّداً واعتباراً، في حين أنّ النص القرآني هو الذي يحكم عليها ويضيّقها. وعنده أمثلة في هذا الإطار.
من ذلك الرواية التي تقول: سألته عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون : 3)، قال: الغناء، أو مثلاً قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (البقرة : 219) قال: الشطرنج. إنّ الحالة الطبيعيّة عندنا نحن الآن هو أنّ الشطرنج سواء كان ميسراً أم لم يكن، فإنّ الرواية تعتبره مطلقاً ميسراً بالتعبّد والاعتبار ولو لم يكن كذلك واقعاً وحقيقةً، فيكون محرّماً حتى لو غدا آلة غير قماريّة؛ لأنّ الرواية وسّعت، بينما السيد فضل الله يقول بالعكس: حيث إنّ الرواية جاءت لتقول: الشطرنج ميسر، فإنّ الآية هي التي تضيّق دائرة كلمة الشطرنج في الرواية، فتقول: المراد من الشطرنج هنا في كلامي هو الشطرنج حالة كونه آلة قماريّة، وليس العكس.
وعلى هذا المنوال أيضاً الغناء، حيث كان يرى السيد فضل الله في بحثه العلمي سابقاً قبل أن يفتي بغيره، بأنّه عندما تأتي الرواية وتقول: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) قال: الغناء، فإنّنا نفهم أنّ المراد بالغناء المحرّم هو الغناء اللّهوي أي الذي فيه لهو ولعب وخروج عن جادة الشرع وما شابه ذلك.
وعليه، فالمرجعية القرآنية عند المفسّر فضل الله ليست فقط في تقويم صدور الروايات، وإنّما الأهم من ذلك في تقويم دلالات الروايات أيضاً، فبدل أن تكون حكومةً روائيّة على النص القرآني، تصبح برأيه حكومةً قرآنية على النص الروائي، دون أن يرفض مبدأ وجود حكومة روائية في بعض الموارد، لكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ النص القرآني يمكن أن تكون له حكومة أيضاً، وأنّ نفسّر الرواية في ضوء الآية وليس العكس دائماً.
خلاصة واستنتاج
يعتمد العلامة المفسّر السيد محمّد حسين فضل الله في منهجه التفسيري على مجموعة أصول وخلفيّات معرفيّة، أشرنا هنا لبعضٍ قليل من عيّناتها، وذلك على الشكل الآتي:
1 ـ اعتبار اللغة القرآنية لغةً عقلائيّة، فليست متعاليةً عن البناء اللغوي العقلائي في التفهيم والتفاهم، ومن ثمّ فهو يرفض البعد الباطني المتخطّي لقواعد الفهم العقلائي للنصّ، بل هذا الأمر قد يترك تأثيراً في طريقة تعامله مع بعض الروايات التفسيريّة أيضاً، كما يتخذ على هذا الأساس موقفاً من الكثير من التفاسير الصوفيّة والعرفانيّة والفلسفيّة التي لا تستنطق النصّ في قواعد الدلالة والتبيين العقلائيّة العامّة عنده؛ لتفهيم مقصودها من خلاله. وهو بهذا يرفض النزعات التأويليّة التي تطوّع النصوص وتلوي عنقها. كما يبدو قريباً نسبيّاً من التفكير التفكيكي.
2 ـ اعتبار وعي اللغة العربيّة مختزناً لوعي الحياة العربيّة وطرائق التفكير والبيان العربي، وليست قواعد ذهنيّة حسابيّة يتمّ إسقاطها على النصّ، وهو بهذا يعتقد أنّ الفهم اللغوي هو فهم ينطلق من ممارسة اللغة بوصفها نمط تفكير وحياة، لا من التعامل مع قواعدها بوصفها معادلات تطبّق هنا وهنا، لهذا يهاجم التفسير الحرفي الحسابي الهندسي الدقّي (نظريّة تجسّم الأعمال أنموذجاً)، ويربط هذا الموضوع بالفهم التاريخي لحياة العرب.
3 ـ اعتبار النصّ القرآني وحدةً تفهيمية مستقلّة، بمعنى أنّ القرآن غير محتاج لوسيلة تفهيم أخرى من حيث المبدأ، ومن ثم فهو يفسّر نفسه ضمن قواعد التفسير العقلائي للنصوص، وهذا لا يمنع من قيام السنّة الشريفة بالإضاءة على جوانب في النصّ لم تظهر لنا، دون أن يعني ذلك أنّ إضاءة السنّة تخطّت قواعد الدلالة اللغويّة العقلائيّة، بل هي إنّما كشفت عن عناصر في النصّ لم نكن ملتفتين إليها.
4 ـ الفهم الحركي للنصّ (النزعة الاجتماعيّة في التفسير بوصفها منهجاً في فهم اللغة)، بمعنى:
4 ـ 1 ـ إنّ المفسّر لا يمكنه أن يفهم نصّاً مثل القرآن الكريم إذا لم يعش الأبعاد الحياتيّة لهذا النصّ، فلا يمكنه أن يفهم بوضوح توجيهاته السياسيّة والجهاديّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة اذا لم يكن يعيش في داخل هذا النمط من الحياة ويعرف قضاياه، وإلا فسوف يصبح تفسيره لغويّاً حرفيّاً محضاً (التفسير الهندسي للنصّ). فالنصّ القرآني لا يُفهم ضمن سياق تجريدي انتزاعي، بل ضمن سياق حياتي نهضوي تغييري.
4 ـ 2 ـ إنّ اللغة لا تؤخذ من الكتب اللغويّة فحسب، بل المعاجم والقواعد اللغويّة هي أحد أضلاع عمليّة الفهم اللغوي، والضلع الآخر هو الاندماج مع الفهم الاجتماعي للنصّ بوصفه مشكّلاً لسياقات متصلة ارتكازيّة لا يمكن فهم اللغة صحيحاً من دونها، وهو ما يفرض وعياً تاريخياً بزمن النزول (ثنائيّة: العلامة محمد جواد مغنيّة وتعليق السيد محمد باقر الصدر عليه).
ويتبع هذا الأمرَ التخلّي عن الأسئلة العبثيّة التي توجّه للنصّ القرآني، وهذا إفراز لنزعته العملانيّة، وكأنّه يرى خطأ توجيه أيّ سؤال للنصّ متوقّعين إجابته عنه، بل علينا توجيه الأسئلة المفيدة لنا للنصّ كي نستطيع حلّ مشكلةٍ اليوم، ولهذا فهو يتجاهل المئات من التفاصيل التفسيرية العبثيّة بنظره؛ كونها تمثل ترفاً فكريّاً (تفاصيل القصص القرآني أنموذجاً)، كما يتجاهل العشرات من النزاعات التفسيريّة القديمة واستقصاء الأقوال؛ كونها تمثل بنظره ضرورات فكريّة لمرحلة زمنيّة ذهبت وانقضت، ولهذا لا يُشبه تفسيرُه نَمَطَ تفسير الإمامَين: الطبري والرازي.
5 ـ الانفتاح على الاجتهاد في اللغة العربيّة، فقواعد اللغة لم تظهر لنا بطريقة حسيّة، بل ظهرت بطريقة اجتهاديّة، عبّرت عنها جهود البلاغيين واللغويين والمعجميّين (مشكلة لغة قريش ولغة البادية) خلال القرون الخمسة الهجريّة الأولى، خاصّة ضمن سياق النزاع الأشعري ـ المعتزلي الذي ساهم تدريجيّاً في بناء منظومة لغوية بطريقة متراكمة، ومن ثم فبإمكاننا إعادة الاجتهاد مجدّداً في اللغة بهدف إنتاج فهوم قد تكون مختلفة عمّا ألفناه.
وبهذا يدعو فضل الله ـ يعارضه في ذلك العلامة شمس الدين ـ للانفتاح على الدراسات اللسانية واللغويّة الحديثة.
6 ـ هيمنة القرآن على نصّ السنّة الشريفة، عبر مرجعيّة الكتاب واعتباره:
أ ـ حَكَماً في فهم نصوص السنّة (مصطلح الحكومة القرآنيّة عند فضل الله في مثال الشطرنج والغناء).
ب ـ وحَكَماً في تصديقها، عبر عرض الحديث على الكتاب عرضاً روحيّاً، فالكتاب قاضٍ على السنّة، والسنّة ليست قاضيةً على الكتاب بالمعنى السائد.
إلى غير ذلك من معالم تفسيرية عنده رحمه الله.
* ألقيت هذه المحاضرة في مؤسّسة الإمام الرضا للمعارف الإسلاميّة في إيران، ضمن سلسلة محاضرات مجمع المباحثات القرآنية، وذلك بتاريخ 18 ـ 12 ـ 2019م.