الشيخ سعيد نورا(*)
الشيخ مصطفى مهدوي(**)
المقدّمة
تعتبر مسألة التفسير بالرأي من المسائل التي طُرحت منذ قديم الأيام في الأوساط العلمية الإسلامية، والتي لا تزال تحظى بأهمّية كبيرة في الدراسات القرآنية. بما أن هناك علاقة وطيدة بين هذه المسألة وآليات فهم القرآن الكريم، بوصفه أهمّ المصادر المعرفية الدينية في الإسلام، يجب أن نتخذ موقفاً علمياً تجاه هذه المسألة؛ لكي نتمكّن من الوصول إلى المعارف الإلهية بطريقةٍ علمية وسليمة.
المنطلق الأساس لهذه المسألة هي الروايات التي وصلتنا عبر التراث الحديثي للمذاهب الإسلامية المختلفة، فلذلك تحظى دراسة هذه الروايات بأهمّية كبيرة للوصول إلى النتيجة النهائية في هذا الموضوع. لكنْ للأسف أكثر الدراسات التي كُتبت في هذا الموضوع لم تُعِرْ اهتماماً لائقاً بهذا الجانب من البحث، بل في الكثير من الأوقات استغنوا عن الدخول في الجانب السندي لهذه الروايات، اعتماداً على ما ادّعاه بعض العلماء من تواتر الأخبار الناهية عن التفسير بالرأي، بينما في البحوث العلمية لا يبدو الاعتماد على الدعاوى صحيحاً. فلذلك قرّرنا أن ندرس هذا الموضوع، معتمدين على المصادر الحديثية الأصلية.
وحريٌّ بنا قبل الدخول في البحث أن نشير إلى بعض ما كُتب في هذا الموضوع إلى الآن:
1ـ پژوهشي درباره دلايل مخالفان وموافقان تفسير به رأي، لمحمد علي رضايي إصفهاني([1]).
2ـ تفسير به رأي أز منظر روايات، لمحمد أسعدي([2]).
3ـ ماهيت ومؤلفه هاي تفسير به رأي أز منظر فريقين با تأكيد بر آراء إمام خميني، لعلي نصيري([3]).
4ـ التفسير بالرأي: مفهومه، حكمه، أنواعه، لمساعد الطيّار([4]).
5ـ پژوهشي درباره أحاديث نهي أز تفسير به رأي در ديدگاه فريقين، لجعفر گل محمدي([5]).
حاولنا في هذه الدراسة أن نستقرئ الروايات المتصلة بهذا الموضوع من مختلف المصادر الحديثية، ثم ندرس جميع هذه الروايات من الناحية السندية والدلالية، حتى نحصل على رؤية شاملة من موقف السنّة الشريفة عن مسألة التفسير بالرأي.
هناك رواياتٌ كثيرة في مجموع المصادر الحديثية تتحدّث عن مسألة فهم القرآن، ومناهجه التي تكون على صلةٍ بهذا الموضوع. ويمكن تصنيف هذه الروايات الكثيرة في طوائف متعدّدة، نشير إلى بعضها:
1ـ النهي عن التفسير بالرأي: تضمّ هذه الطائفة روايات تنهى عن التفسير بالرأي، تلويحاً أو تصريحاً.
2ـ النهي عن التأويل بالرأي: تنهى هذه الطائفة من الروايات عن التأويل بالرأي.
3ـ النهي عن التلاوة بالرأي: يوجد في تراثنا الحديثي ما ينهى عن التلاوة بالرأي.
4ـ النهي عن استعمال الرأي في الدين: هناك رواياتٌ في التراث الحديثي الإمامي تنهى عن استعمال الرأي والقياس في الدين. وهذه الروايات وإنْ لم تتحدث عن خصوص فهم القرآن، ولكنّها تشمل بعمومها فهم القرآن وتفسيره، حيث يكون القرآن من المصادر الأساسية في فهم الدين.
5ـ النهي عن التفسير بغير العلم: بعض الروايات تركّز على النهي عن تفسير القرآن بغير العلم.
6ـ حصرية فهم القرآن في أهل البيت^: هناك رواياتٌ تحصر فهم القرآن بأهل البيت^، مثل: الروايات التي تعتبر فهم القرآن أبعد من عقول الرجال؛ أو الروايات التي تحصر فهم القرآن بمَنْ خوطب به، وتقصد أهل البيت^.
7ـ حصر تأويل المتشابهات بأهل البيت^: هذه الطائفة من الروايات، تبعاً لما ورد في الآية 7 من سورة آل عمران، تحصر فهم الآيات المتشابهة بأهل البيت^.
8ـ فهم القرآن فهماً متعالياً عن العُرْف: يستفاد من بعض الروايات أن هناك مراتب لفهم القرآن الكريم؛ بعضها متعالية عن القواعد العرفية، بحيث لا يفهمها إلا الذين يمتلكون قوى روحية عالية. ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى روايات بطون القرآن، وبعض التفاسير التي نقلت عن الأئمة^، حيث فسَّروا الآيات القرآنية بتفاسير لا تنسجم والقواعد العُرْفية للغة.
9ـ جواز الاستنباط من القرآن: هذه الطائفة تضمّ رواياتٍ تدلّ على جواز فهم القرآن والاستنباط منه، كروايات عرض الأخبار على القرآن؛ أو الروايات التي تعلم كيفية الاستنباط من القرآن الكريم.
إن دراسة جميع هذه الطوائف، ومقارنة بعضها ببعضٍ، يحتاج إلى بحث طويل، لا يَسَعه هذا المقال. لذلك نقصر البحث في هذا المقال على دراسة الطوائف الثلاث الأول، التي هي على صلةٍ وثيقة بموضوع بحثنا، ونترك البحث عن سائر الطوائف إلى مجال آخر.
وقد ادّعى بعضهم تواتر الأخبار في النهي عن التفسير بالرأي، حيث قال الشيخ جعفر السبحاني: «…وأمّا تفسير الآيات على ضوء الآراء المسبقة، وتطبيقها على تلك الأفكار، وجعلها دليلاً على صحّتها، فهو نفس التفسير بالرأي الذي حذَّر منه النبيّ| في الحديث المتواتر عنه: «مَنْ فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار»»([6]). ويبدو من السيد الخوئي الموافقة عليه، حيث ينقل ادّعاء التواتر في هذه الأخبار، ولا يردّ عليه([7]).
وسوف نقسم البحث إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى: الرصد التجزيئي. في هذه المرحلة سوف نقوم باستقراء هذه النصوص، وندرسها واحداً تلو الآخر دراسةً سندية ودلالية.
المرحلة الثانية: الدراسة الإجمالية. بعد أن قمنا بالتقويم التجزيئي لهذه الروايات سنقوم بالتجميع النهائي؛ لنخرج برؤيةٍ شاملة عن موقف السنّة الشريفة من التفسير بالرأي. ومن الواضح أن البتّ في مثل هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة جميع الآيات والروايات المتّصلة بمنهج فهم القرآن الكريم، والتي منها الطوائف التسع المتقدّمة.
وسوف نقسّم هذه الروايات إلى طائفتين. والهدف من وراء هذا التقسيم رصد حجم حضور هذه الروايات في كلٍّ من: المصادر السنّية؛ والمصادر الإمامية:
الطائفة الأولى: الروايات الإمامية.
الطائفة الثانية: الروايات السنّية.
الطائفة الأولى: الروايات الإمامية
بعد التتبُّع وصلنا إلى ثلاث عشرة رواية، بين مسنَدٍ ومرسَل، تتّصل بهذا الموضوع، أو يمكن أن تتصل بهذا الموضوع اتصالاً مباشراً. وبما أن الدرجة الوثوقية من هذه الروايات مختلفة فسوف نبحثها في هذين القسمين.
الروايات المسندة
الرواية الأولى: التفسير بالرأي وسلب الإيمان
حدثنا محمد بن موسى بن المتوكّل& قال: حدثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا أبي، عن الريان بن الصلت، عن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه، عن آبائه^، عن أمير المؤمنين× قال: قال رسول الله|: قال الله عزَّ وجلَّ: ما آمن بي مَنْ فسر برأيه كلامي، وما عرفني مَنْ شبَّهني بخلقي، وما على ديني مَنْ استعمل القياس في ديني([8]).
أـ الدراسة السندية: ينقل الشيخ الصدوق هذه الرواية عن محمد بن موسى المتوكّل. ولم نجد له توثيقاً صريحاً في المصادر الرجالية الأولى، إلا أن ابن داوود في الرجال والعلاّمة الحلّي في الخلاصة وصفاه بأنه ثقة([9])، وحاول بعضُهم توثيقه عبر طرق مختلفة([10])، ومنها:
1ـ ترضّي الشيخ الصدوق له.
2ـ كونه من مشايخ الإجازة.
3ـ إكثار الثقات من الرواية عنه.
فإذا قلنا بحجية توثيقات المتأخّرين، ومنهم: ابن داوود والعلاّمة الحلّي، أو أخذنا بهذه المعايير في توثيق الرواة، نستطيع أن نثبت وثاقته، ومن ثَمّ تصحيح السند من ناحيته. وإلا نواجه مشكلةً في توثيقه من جهةٍ، وتصحيح السند من جهةٍ أخرى.
وكذلك يشتمل هذا السند على إبراهيم بن هاشم، الذي لم يصلنا في المصادر الرجالية توثيقٌ صريح له، وإنْ لم تخْلُ تعابيرهم عن مدحه. ولذلك كان منذ قديم الأيام قولان بالنسبة إلى توثيقه؛ حيث ذهب بعضهم إلى توثيقه؛ والآخرون إلى عدمه، وإنْ ذهب الكثير من المتأخِّرين إلى وثاقته.
فينتج من ذلك صحّة السند أو حُسْنه، على اختلاف المباني في توثيق إبراهيم بن هاشم ومحمد بن موسى المتوكّل.
ب ـ الدراسة الدلالية: بعد التأمُّل في هذه الرواية نجدها ظاهرةً في بيان ثلاث قضايا:
1ـ الملازمة بين التفاسير بالرأي وعدم الإيمان بالله تبارك وتعالى. (التفسير بالرأي = عدم الإيمان بالله).
2ـ الملازمة بين تشبيه الله بالخلق وعدم معرفته تبارك وتعالى. (تشبيه الله بالخلق = عدم معرفته تبارك وتعالى).
3ـ الملازمة بين الخروج عن الدين واستعمال القياس فيه. (استعمال القياس = الخروج عن الدين).
من النقاط الجديرة بالتأمّل في هذه الرواية وجود كلمتي الرأي والقياس فيها، حيث يستفاد من الشواهد التاريخية رواج هاتين الكلمتين كاصطلاحٍ معين في القرن الثاني الهجري في العراق، حيث راج مذهب الأحناف، من استعمال الرأي والقياس في الاجتهاد. بينما هذه الرواية منقولةٌ بواسطة النبيّ| عن الله تبارك وتعالى، وهي ظاهرةٌ في تطابقها مع المحاورات العرفية في زمن النبيّ|.
ولذلك لا نستطيع أن ندخل مجال فهم هذه الرواية محمَّلين بما تعوّدنا عليه من حمل هذه الألفاظ على معانيها المتأخّرة، بل لا بُدَّ من دراسة هذه الألفاظ في زمن النبيّ|، بعيداً عن التحوّلات التي طرأت عليها فيما بعد.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نسجّل إشكالاً على صدور مثل هذه الروايات عن النبيّ|؛ لأن استخدام مثل هذه التعابير في هذا السياق ينسجم أكثر مع أجواء القرن الثاني الهجري فما بعد، الأمر الذي يمكن أن يخفِّف درجة الوثوق بصدور هذه الرواية.
ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بأن هناك احتمالين في المسألة:
أـ أن تكون الرواية مجعولة، ونُسبت إلى النبي|.
ب ـ أن تكون الرواية نفسها شاهداً على وجود الرأي والقياس بهذا المعنى في زمن النبيّ|.
ومن الواضح أنه إذا ثبت الاحتمال الثاني سينحلّ هذا الإشكال في صدور هذه الرواية. أما الاحتمال الأوّل فيحتاج إلى إثبات أمرين:
الأوّل: من جهةٍ يجب أن تدرس جميع الشواهد الموجودة ـ ومنها: نفس هذا الخبر ـ بخصوص استعمال مصطلحي القياس والرأي، ونثبت أن هذا الاصطلاح لم يكن مستعملاً في الصدر الأوّل في هذه المعاني.
الثاني: من جهةٍ أخرى لا بُدَّ من إثبات عدم وجود احتمالٍ معقول آخر لصدور مثل هذه الروايات في الصدر الأول، منقولة عن النبي|.
وما لم نثبت هذين الأمرين لا نستطيع أن ندّعي وضع هذه الرواية. فلذلك إذا وجدنا أيّ خلل في هذين الأمرين لا نستطيع أن ندّعي وضعها. لكنّ هذا الاحتمال نتيجة معقوليته يمكن أن يزلزل درجة الوثوق بهذه الرواية وأشباهها. إلاّ إذا ثبت وَهْن هذا الاحتمال بدرجةٍ لا يعبأ به العقلاء.
على سبيل المثال: يمكن أن ندّعي أن ظاهرة القياس بمعنى سراية الأحكام من المتشابهات، أو إبداء الرأي معتمداً على الظنون، قضية يعرفها البشر بطبعهم، بل كان رائجاً من بداية خلق البشر، حيث ورد: «أوّل مَنْ قال أنا هو إبليس»، فالنهي تعلق بهذه الظاهرة، وإنْ لم تكن خاصة بالقضايا الشرعية.
والبتّ في هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة جميع الشواهد، وهي خارجة عن عهدة هذا المقال، فلذلك نؤجِّله إلى مكان آخر.
الرواية الثانية: النهي عن التفسير بالرأي واختصاص فهم القرآن بالعلماء
ينقل الشيخ الصدوق روايةً عن أمير المؤمنين×، في جواب مَنْ ارتاب في أمر القرآن، زاعماً وجود التناقض فيه، حيث يجيب الإمام×: …فإياك أن تفسِّر القرآن برأيك حتّى تفقهه عن العلماء؛ فإنه رُبَّ تنزيل يشبه كلام البشر وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام البشر. كما ليس شيءٌ من خلقه يشبهه كذلك لا يشبه فعله تبارك وتعالى شيئاً من أفعال البشر، ولا يشبه شيء من كلامه كلام البشر. فكلام الله تبارك وتعالى صفته، وكلام البشر أفعالهم، فلا تشبّه كلام الله بكلام البشر فتهلك وتضلّ…إلخ([11]).
أـ الدراسة السندية: ينقل الشيخ الصدوق هذه الرواية في كتاب التوحيد بهذا السند: حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا أحمد بن يحيى، عن بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدثني أحمد بن يعقوب بن مطر قال: حدثنا محمد بن الحسن بن عبد العزيز الأحدب الجند بنيسابور قال: وجدتُ في كتاب أبي بخطّه: حدثنا طلحة بن يزيد، عن عبيد الله بن عبيد، عن أبي معمر السعداني.
ولا يمكن الاعتماد على هذا السند حَسْب المعايير الحديثية؛ بسبب اشتماله على مجاهيل كثيرة، لا نعرف عنهم شيئاً كثيراً.
إضافةً إلى أن طريقة تحمُّل هذا الحديث في قسمٍ منها تكون على طريقة الوجادة، حيث صرّح محمد بن الحسن: «وجدتُ في كتاب أبي بخطّه». وكما نعلم طريقة الوجادة من أضعف طرق تحمُّل الحديث، ولذلك تضعف درجه الوثوق بهذه الرواية جدّاً.
وعلى ما تقدّم، سند هذه الرواية ـ حَسْب المعايير الحديثية ـ ضعيفة، وإنْ كانت تعتبر قرينة وثوقية يجب مراعاتها في اتخاذ الموقف النهائي من هذه المسألة.
ب ـ الدراسة الدلالية: تتحدث هذه الرواية ـ بعد النهي عن التفسير بالرأي ـ عن التفقُّه من العلماء بوصفه الطريق الصحيح لتفسير القرآن الكريم. وهذا التعبير يمكن أن يكون من جهةٍ قرينة على اتحاد التفسير بالرأي والتفسير بغير العلم، ومن جهةٍ أخرى يمكن أن يكون قرينة على انحصار فهم القرآن في أهل البيت^؛ بقرينة ما جاء في الحديث: (ولا يشبه شيء من كلامه كلام البشر)، فيكون المقصود من هذه الرواية اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^.
تنفي هذه الرواية بصراحة أيّ نوع من التشابه بين كلام الله وكلام البشر، حيث استخدمت النكرة في سياق النفي، وهذا يدل على العموم. فلا يمكن أن نتمسّك بظواهر القرآن الكريم، بل بنصوصه، وهذا ما يقع في مقابل ما ندّعيه في علم الأصول من حجّية ظواهر القرآن الكريم، فيخرج القرآن الكريم من كونه مصدراً معرفياً مستقلاًّ.
وبما أن هذه الرواية تحصر الطريق الصحيح لتفسير القرآن في التفقّه من العلماء فلا بُدَّ أن نتحدّث قليلاً عن المحتملات الثبوتية في العلم والعلماء، ومن ثم نحاول ترجيح بعض هذه المحتملات على بعضها الآخر، مستعينين بالقرائن الإثباتية.
هناك ثلاثة محتملات ثبوتية في المقصود من العلم([12])، وبتبعه في المقصود من العلماء:
التصوير الأول: العلم الذاتي أو النفسي([13])
يمكن أن نقصد من العلم الحالة النفسية في الإنسان، التي تمنحه السكينة والاطمئنان بالنسبة إلى قضيةٍ، لكنْ من دون أن يتَّبع المنهج العقلاني لتحصيل هذا العلم، وإنما حصل له إمّا نتيجةَ استعجاله المفرِط في أخذ النتائج؛ أو عدم التأمل في الزوايا المختلفة للمسألة…. وقد يتطابق هذا العلم مع الواقع، ولكنه طريق غير عقلاني منهجياً.
التصوير الثاني: العلم الموضوعي
يقع في المقابل العلم الموضوعي، الذي يحصل من خلال اتّباع منهجٍ عقلاني في تحليل القضايا واستنتاج النتائج. ويمكن أن نقسم هذا العلم إلى قسمين:
العلم الموضوعي المعصوم: وهذا هو العلم الذي يُثبته بعض المذاهب الإسلامية للنبيّ| أو أهل بيته^، حيث يعتقدون عدم احتمال وقوع الخطأ فيهم، فيوسِّعون مفهوم العصمة ليشمل العصمة عن الخطأ أيضاً.
العلم الموضوعي غير المعصوم: وهذا هو الذي يحصل للعلماء غير المعصومين الذي يتبعون المناهج العقلانية في استنتاج النتائج، حيث يحتمل وقوع الخلاف في الكثير من العلوم، وإنْ كان احتمال مخالفته للواقع ضئيلاً إلى درجةٍ لا يعتني به العقلاء. بل حتّى لو كان العالم بقضيةٍ متيقّناً بالمعنى الأرسطي لكلمة اليقين، بحيث لا يحتمل الخلاف أبداً، يحتمل مخالفته مع الواقع بنظرةٍ شمولية. فإذا نظرنا إلى مجموع القضايا اليقينية بالمعنى الأرسطي عند المتيقّنين فبمقتضى حساب الاحتمالات سيثبت المخالفة الاطمئنانية لبعض هذه القضايا مع الواقع، الأمر الذي سوف يحدث لنا كناظرٍ خارجي احتمال المخالفة في جميع هذه القطوع، وإنْ لم يحدث في نفس المتيقّن.
فهناك ثلاثة تصاوير للعلم، وبتبعه يُقسَّم العالم أيضاً إلى ثلاثة أقسام:
1ـ العالم الذي إنما يحظى بالعلم الذاتي والنفسي.
2ـ العالم الذي يحظى بالعلم الموضوعي المعصوم.
3ـ العالم الذي يحظى بالعلم الموضوعي غير المعصوم.
ولكنْ يبدو أن العُرْف لا يُطلق العالم على مَنْ يحظى بالعلم الذاتي من دون أن يتبع المناهج العقلانية في تحصيله. فإطلاق العالم عليه لا يخلو من تسامحٍ. فيبقى التصويران الثاني والثالث.
أما التصوير الثاني فهو كما قلنا مبنائي، فلا يتصور عند مَنْ لا يؤمن بعصمة النبيّ| أو الإمام^ عن الخطأ. وكذلك يتضيَّق بدائرة التي يؤمنون بها. ولكنّ هذا الاحتمال هو الذي يتناسب أكثر مع التعبير الموجود في الرواية من عدم مشابهة كلام الله لكلام البشر في شيء، حيث لا طريق لنا لمعرفة معاني القرآن الكريم إلا الرجوع إلى المحاورات العُرْفية، ولا يمكن أن نتحدّث عن علمٍ موضوعي لغير المعصومين^، فتكون هذه الرواية لصالح نظرية الاختصاص.
ويجدر بنا أن نشير إلى إحدى النظريات المطروحة في معنى النهي عن التفسير بالرأي، حيث ذهب بعضٌ إلى أن المقصود من التفسير بالرأي تفسير القرآن قبل الرجوع إلى النصوص الحديثية. ولكنْ يبدو أن هذه النظرية غير صحيحة؛ لأن غاية ما يستفاد من النصوص الحديثية اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^، وهذا لن يحصل إلا عبر الرجوع في كل صغيرة أو كبيرة من الآيات القرآنية إلى أهل البيت^، والرجوع إلى ما وصل إلينا من أهل البيت^ ليس بمعنى الرجوع التامّ إليهم؛ لأن السنّة المحكية لا تحكي عن جميع السنّة الواقعية؛ إذ من الممكن أن لا يصلنا بعض رواياتهم الصادرة في تفسير القرآن، بل يمكن عدم تصدّيهم لتفسير جميع الآيات القرآنية. فإذا قبلنا بمثل هذه الرواية لا يمكن أن نحملها على التفسير من دون الرجوع إلى النصوص الموجودة، بل علينا أن نقول باختصاص فهم القرآن بأهل البيت^، ومن ثم عدم جواز الرجوع إلى القرآن الكريم مستقلاًّ. وهذه هي نظرية الاختصاص، التي يؤمن بها جماعة من أخباريي الشيعة.
إلاّ إذا قلنا بأن هذه الروايات، وسائر الروايات التي تتحدّث عن اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^، ناظرةٌ إلى دائرة معينة من الآيات القرآنية، وهي الآيات المتشابهة مثلاً، فتتضيق هذه النظرية بهذه الدائرة. ولكن هذا الكلام يحتاج إلى مقاربةٍ لتخصيص أو لتقييد النصوص الحديثية الواردة في هذا الموضوع.
الرواية الثالثة: التفسير بالرأي والافتراء على الله سبحانه وتعالى
الرواية الثالثة نقلها الشيخ الصدوق في كتابه تمام الدين وكمال النعمة، ونقلها الآخرون، كابن طاووس والعلاّمة الحلّي، عنه. وهي: حدثنا محمد بن عليّ ماجيلويه& قال: حدثني عمّي محمد بن أبي القاسم، عن محمد بن علي الصيرفي الكوفي، عن محمد بن سنان، عن المفضَّل بن عمر، عن جابر بن يزيد الجعفي، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله|: لعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبياً، ومَنْ جادل في آيات الله فقد كفر، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ﴾ (غافر: 4)، ومَنْ فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب، ومَنْ أفتى الناس بغير علمٍ فلعنته ملائكة السماوات والأرض. وكل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار. قال عبد الرحمن بن سمرة: فقلتُ: يا رسول الله، أرشدني إلى النجاة، فقال: يا بن سمرة، إذا اختلفت الأهواء وتفرّقت الآراء فعليك بعليّ بن أبي طالب؛ فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يميّز به بين الحق والباطل، مَنْ سأله أجابه، ومَنْ استرشده أرشده، ومَنْ طلب الحق عنده وجده، ومَنْ التمس الهدى لديه صادفه، ومَنْ لجأ إليه آمنه، ومَنْ استمسك به نجّاه، ومَنْ اقتدى به هداه…([14]).
أـ الدراسة السندية: هذه الرواية أيضاً من متفرّدات الشيخ الصدوق. وسندها ضعيفٌ؛ على الأقلّ بسبب وجود شخصين:
1ـ عبد الرحمن بن سمرة: لم يرِدْ اسمه في المصادر الرجالية الإمامية، إلاّ في رجال الشيخ الطوسي، واكتفى بذكر اسمه فقط. فهو على المستوى الإمامي مجهول. إضافة إلى أنه لم يرِدْ في الكتب الحديثة إلاّ قليلاً جدّاً. فالمعطيات المتصلة به محدودة جدّاً. وحَسْب بعض الروايات التاريخية كان واحداً من الشخصين اللذين أُرسلا من قِبَل معاوية للصلح مع الإمام الحسن×([15])، ويستفاد من بعضها الآخر أنه كان من الذين شاركوا في حرب مؤتة([16]).
2ـ محمد بن علي الصيرفي الكوفي: وهو محمد بن عليّ، أبو سمينة، الذي اشتهر بالكذب عند بعض الرجاليين.
ب ـ الدراسة الدلالية: يمكن أن نستفيد من هذه الرواية في فقرتين:
الأولى: عبارة «ومَنْ فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب»، حيث اعتبر التفسير بالرأي افتراء على الله.
الثانية: الطريق الذي اعتبر حلاًّ للخروج من هذه المخاطر التي ذكرت في الرواية.
أما الفقرة الأولى ـ اعتبار التفسير بالرأي افتراءً على الله ـ فإن الشاهد الأساس في هذه الرواية هي عبارة: «ومَنْ فسَّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب»، حيث اعتبر التفسير بالرأي من مصاديق الافتراء على الله سبحانه وتعالى. وهناك ثلاثة احتمالات في تفسير هذا الكلام:
أـ أن يكون التفسير بالرأي مصداقاً حقيقياً للافتراء على الله.
ب ـ أن يكون التفسير بالرأي ملازماً للافتراء ملازمة أكثرية أو كثيرية.
ج ـ أن يكون مصداقاً اعتبارياً للافتراء. وعليه تكون هذه الرواية حاكمةً على الآيات الناهية عن الافتراء بالتوسيع إذا قلنا بأنها ناظرةٌ إلى تلك الآيات.
وإذا قبلنا الاحتمال الأول أو الثاني نستطيع أن نستفيد من جميع النصوص الدالة على حرمة الافتراء على الله لتكريس هذا المفهوم. والاحتمال الثالث يتوقف على إثبات لسان الحكومة والنظارة في هذه الرواية بالنسبة إلى النصوص الدالة على حرمة الافتراء على الله، ومنها: الآيات القرآنية؛ وكذلك يحتاج إلى إثبات جواز التوسيع الاعتباري في الآيات القرآنية عبر خبر الواحد. وعلى أيّ حال حَسْب هذه الروايات سيكون التفسير بالرأي محكوماً بحكم الافتراء على الله، دائماً أو كثيراً على الأقلّ، وإنْ كان التفسير بالرأي من حيث المفهوم يختلف عن الافتراء، إذا ذهبنا إلى الاحتمال الثاني أو الثالث، ولا يختلف عنه على الاحتمال الأول.
والجدير بالذكر أن المتبادر من الرواية ـ بعد أن لم تكن فيها أيّ قرينة سياقية لحملها على المعنى الاعتباري ـ أن التفسير بالرأي من المصاديق الحقيقية للافتراء أو ملازم للافتراء الحقيقي، وعلى ذلك علينا أن نبحث عن تحقُّق عنوان الافتراء في التفسير بالرأي أو لازمه([17]). ولكنْ إذا قلنا بأن التفسير بالرأي حقيقة يختلف عن الافتراء على الله، ولا ملازمة بينه وبين الافتراء الحقيقي، فلا مجال لحمل الرواية على الاحتمال الأول والثاني؛ لأن نفس هذا الاختلاف الحقيقي يكون قرينة على إرادة المعنى الاعتباري في الرواية.
والبتُّ في هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة مفهوم «افتراء الكذب على الله»، ومدى تناسبه مع مفهوم التفسير بالرأي. فهناك مفردتان يجب أن ندرسهما لنصل إلى الحلّ، وهما: الكذب؛ والافتراء.
أمّا الافتراء فهو في أصل اللغة من الفري. والفري هو قطع الشيء([18])، سواء كان للإفساد أو للإصلاح([19])، أو اختلاق الشيء مع قصدٍ ونيّة، كما قاله الطريحي([20]) والمصطفوي([21]). فالافتراء في أصل اللغة ليس فيه معنى اختلاق الكذب ونسبته إلى الغير، بل هو قطع الشيء واختلاقه، سواء كان للإفساد أو الإصلاح.
وأما الكذب فهو اسمٌ موضوع للخبر الذي لا مخبَر له على ما هو به([22]). وقال بعض أهل اللغة: لا فرق فيه بين العمد والخطأ([23]). أما البحث عن أن الكذب هو التكلم بما يخالف علم المتكلّم أو ما يخالف الواقع فلا يوجد له عينٌ ولا أثر في الكتب اللغوية الأصلية. ولعلّه من تدقيقات المتأخِّرين. ولعلّ من أقدم مَنْ طرحه في مجال اللغة والأدب هو التفتازاني(792هـ) في المطوّل. ورُبَما لم يكن هذا التمييز موجوداً آنذاك؛ بسبب عدم التشكيكات الفعلية في قدرة العقل في إصابة الواقع ومَدَيات خطئه، فما كانوا يميِّزون بين الذهن والواقع. وعلى أيّ حال هذا بحثٌ مطوّل فليراجع.
إذن هناك ثلاثة احتمالات ثبوتية في معنى افتراء الكذب على الله، تبعاً لمعنى الكذب:
1ـ نسبة غير الواقع إلى الله سبحانه وتعالى مطلقاً (مع قصدٍ ونيّة).
2ـ نسبة غير المعلوم إليه سبحانه مطلقاً، سواء كان مطابقاً للواقع أم لا (مع قصدٍ ونيّة).
3ـ نسبة غير الواقع غير المعلوم إليه سبحانه تعالى (مع قصدٍ ونيّة).
ومن الواضح أن الاحتمال الثالث أضيق الاحتمالات، والقدر المتيقّن من مفهوم الافتراء. ولكنْ بما أن الكذب في اللغة ليس إلاّ بيان غير الواقع، كما يستفاد من الكتب اللغوية ـ كما ذكرنا آنفاً ـ، فالاحتمال الأوّل هو الأرجح، وإنْ كان الإثم لا يترتّب إلاّ في فرض العمد.
إذا قارنّا بين هذا المفهوم من افتراء الكذب على الله وبين مفهوم التفسير بالرأي سنقترب كثيراً من التفسير من غير امتلاك علم موضوعي، حيث لا طريق لنا إلى الواقع إلاّ العلم الموضوعي، وسنجد بين التفسير بالرأي ومخالفة الواقع ملازمة أكثرية أو كثيرية على الأقلّ؛ لأن مَنْ أقدم على التفسير من غير امتلاك للعلم الموضوعي كثيراً ما يقع في نسبة غير الواقع إلى الله تبارك وتعالى. ومن هنا نرجِّح أن يكون حمل الافتراء على التفسير بالرأي يكون بملاحظة هذا النوع من الملازمة، وإلا فلا بُدَّ من حمل الرواية على الاعتبار والمحاذير التي ذكرناها.
أما الفقرة الثانية ـ الطريق الذي اعتبر حلاًّ للخروج عن المخاطر، فبعد أن يذكر النبي| في هذه الرواية المهالك والمخاطر التي تكمن خلف التفسير بالرأي والافتاء بغير العلم، يسأل طريق النجاة منها، والرسول| يرشده إلى عليٍّ×، معتبراً إياه الفاروق الذي يميّز بين الحق والباطل. فبإمكاننا أن نستفيد من هذا الحلّ، وأن نتعرّف على مقابله، أي التفسير بالرأي والإفتاء بغير العلم.
فإذا قلنا بأن الرجوع إلى علي× والأئمة من ولده^ له خصوصية ذاتية، كعدم إمكان الوصول إلى مراد الله تبارك وتعالى إلاّ عبر الرجوع إليهم، فيكون المقصود من التفسير بالرأي التفسير المستقلّ عنهم^. ولكن إذا قلنا بأن الرجوع إليهم إنما هو لكونهم طريقاً حقيقياً للوصول إلى العلم واليقين فيكون المقصود من التفسير بالرأي نفس التفسير بغير العلم.
الرواية الرابعة: النهي عن التأويل بالرأي
حدثنا أحمد بن زياد رضوان الله عليه قال: حدثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا القاسم بن محمد البرمكي قال: حدثنا أبو الصلت الهروي قال: لمّا جمع المأمون لعليّ بن موسى الرضا× أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات، فلم يقم أحدٌ إلاّ وقد ألزمه حجّته كأنه ألقم حجراً، قام إليه عليّ بن محمد بن الجهم، فقال له: يا بن رسول الله، أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: نعم، قال: فما تعمل في قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (طه: 121)، وفي قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ (الأنبياء: 87)، وفي قوله عزَّ وجلَّ في يوسف×: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ (يوسف: 24)، وفي قوله عزَّ وجلَّ في داوود×: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ﴾ (ص: 24)، وقوله تعالى في نبيِّه محمد|: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ﴾ (الأحزاب: 37)؟ فقال الرضا×: ويحك يا عليّ، اتَّقِ الله، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش، ولا تتأوَّل كتاب الله عزَّ وجلَّ برأيك؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾…، إلخ([24]).
أـ الدراسة السندية: تعتبر هذه الرواية كسابقتها من متفرّدات الشيخ الصدوق، وتصنَّف من الضعاف؛ لأن سندها يشتمل على القاسم بن محمد البرمكي، الذي لم نجد له توثيقاً، حيث لم يتحدَّث عنه علماء الرجال القدامى بشيءٍ من التوثيق.
ب ـ الدراسة الدلالية: نرى في هذا الحديث، ولأوّل مرةٍ، استخدام تعبير التأويل بالرأي، حيث يتصدى الإمام× أمام الذي يستند إلى القرآن الكريم ليُثبت عدم عصمة الأنبياء، وينهاه عن تأويل القرآن بالرأي. وإنْ لم يتحدّث هذا الحديث عن التفسير بالرأي مباشرةً، ولكنْ يمكن أن نستفيد منه في جهتين:
الجهة الأولى: معنى مفردة «بالرأي». استدلّ الإمام× للنهي عن التأويل بالرأي بقوله تعالى: ﴿…وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ…﴾ (آل عمران: 7)([25]).
وهناك خلافٌ في المقصود من ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، هل المقصود منهم مطلق العلماء، فيشمل الأئمة^ وغيرهم أيضاً، أم أن المقصود منه ليس إلاّ الرسول الأكرم| والأئمة المعصومون^؟ وكذلك هناك خلافٌ في نوعية الواو في هذه الجملة؛ حيث اعتبرها بعضٌ استئنافية؛ بينما اعتبرها الآخرون عاطفة.
إذا قلنا بعاطفية الواو، وكذلك بأعمّية الراسخين في العلم، فيكون المقصود من التأويل بالرأي نفس التأويل بغير العلم الراسخ. ولكنْ إذا قلنا بعدم عاطفية الواو فيكون قرينةً على انحصار علم التأويل بالله سبحانه. وإذا قلنا بعدم أعمّية الراسخين في العلم، واختصاصه بالمعصومين^، فيكون المقصود من النهي عن التأويل بالرأي التأويل المستقلّ عن المعصومين^.
هذا، بغضّ النظر عن الرواية. ولكنّ الظاهر من الرواية أن الواو في الآية للعطف، وفيها قرينةٌ على اختصاص الراسخين في العلم بالنبيّ| والأئمة^.
الجهة الثانية: العلاقة بين التفسير والتأويل. إذا أردنا أن نستفيد من هذه الرواية مباشرةً للنهي عن التفسير بالرأي فعلينا أن نثبت اشتراكاً بين التفسير والتأويل. فإذا قلنا بأن التفسير هو مطلق الإيضاح والتبيين، كما ذكر ابن فارس في كتابه: «كلمة واحدة تدلّ على بيان شيء وإيضاحه»([26])، وكذلك قلنا بأن المقصود من التأويل نفس المعنى، أو مصداقاً من مصاديق توضيح معاني القرآن الكريم، نستطيع أن نتمسَّك بهذه الرواية لإثبات النهي عن التفسير بالرأي، على الأقلّ في دائرةٍ جزئية. ولكنْ إذا قلنا بأن التأويل شيءٌ متباين عن التفسير تماماً تكون هذه الرواية أجنبيةً عن هذا الموضوع. وبقرينة ما ورد في هذه الرواية يبدو أن المراد بالتأويل هنا هو نفس معنى التفسير، أو على الأقل الأعمّ منه.
الرواية الخامسة: منهج تفسير القتادة، نقدٌ وتعليق
عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن زيد الشحّام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر×، فقال: يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر×: بلغني أنك تفسِّر القرآن، فقال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر×: بعلمٍ تفسِّره أم بجهلٍ؟ قال: لا، بعلمٍ، فقال له أبو جعفر×: فإنْ كنت تفسِّره بعلمٍ فأنت أنت، وأنا أسألك، قال قتادة: سَلْ، قال: أخبرني عن قول الله عزَّ وجلَّ في سبأ: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾، فقال قتادة: ذلك مَنْ خرج من بيته بزادٍ حلال، وراحلةٍ وكراء حلال، يريد هذا البيت، كان آمناً حتى يرجع إلى أهله، فقال أبو جعفر×: نشدتك الله يا قتادة، هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزادٍ حلال وراحلة وكراء حلالٍ يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطريق، فتذهب نفقته، ويضرب مع ذلك ضربةً فيها اجتياحه! قال قتادة: اللهمّ نعم، فقال أبو جعفر×: ويحك يا قتادة، إنْ كنتَ إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكتَ وأهلكتَ، وإنْ كنت قد أخذتَه من الرجال فقد هلكتَ وأهلكتَ. ويحك يا قتادة، ذلك مَنْ خرج من بيته بزادٍ وراحلة وكراء حلال، يروم هذا البيت، عارفاً بحقّنا، يهوانا قلبه، كما قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾، ولم يعْنِ البيت فيقول: إليه، فنحن والله دعوة إبراهيم×، التي مَنْ هوانا قلبه قبلت حجّته، وإلاّ فلا. يا قتادة، فإذا كان كذلك كان آمناً من عذاب جهنم يوم القيامة. قال قتادة: لا جرم، والله لا فسّرتها إلاّ هكذا، فقال أبو جعفر×: ويحك يا قتادة، إنما يعرف القرآن مَنْ خوطب به([27]).
وردت هذه الرواية في كتاب الكافي، للشيخ الكليني. وهي أول رواية وصلتنا من غير طريق الصدوق. ولكنّها لا تتحدث مباشرةً عن مسألة التفسير بالرأي، وإنما تتحدّث عن التفسير من تلقاء النفس، الذي يمكن اعتباره تعبيراً آخر عن التفسير بالرأي.
أـ الدراسة السندية: يشتمل سند هذه الرواية على محمد بن خالد البرقي ومحمد بن سنان، اللذَيْن اختلف في توثيقهما. فصحة سند هذه الرواية تبتني على قبول وثاقتهما.
ب ـ الدراسة الدلالية: يقول الإمام× في صدر الرواية: «فإنْ كنت تفسِّره بعلمٍ فأنتَ أنتَ»، ممّا يدلّ على جواز التفسير بالعلم. ولكنه يعتبره بعيد المنال بالنسبة إلى مثل قتادة، وكأنه يريد أن ينحصر فهم القرآن في جماعةٍ معينة. وهذا ما يجعل الحديث في إطار أحاديث اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^. وهذا ما يؤيِّده ذيل الرواية، حيث يصرّح الإمام× بأنه لا يعرف القرآن إلاّ مَنْ خوطب به.
ثم اعتبر الإمام× أن التفسير من تلقاء النفس موجباً للهلاك والإهلاك. ويبدو أن المقصود منه الاعتماد على الأفكار الشخصية؛ بقرينة ذكر الأخذ من الرجال مستقلاًّ، حيث اعتبره أيضاً موجباً للهلاك والإهلاك؛ وبقرينة الذيل المقصود منهم غير الأئمة^.
ويمكن لهذه الرواية أن تفتح لنا باباً للعلاقة بين روايات النهي عن التفسير بالرأي وروايات اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^؛ الأمر الذي وجدناه في بعض الروايات المتقدّمة، كالرواية الثالثة والرابعة، ويكون في صالح النهي عن استبداد الرأي في فهم القرآن، ولزوم الرجوع إلى أهل البيت^. وهذا ما يحوجنا إلى دراسة موسّعة حول تلك الروايات، ومدى انسجامها مع العقل والقرآن الكريم، وهذا ما لا نريد خوضه الآن.
الروايات المرسلة
سنتناول في هذه المرحلة الروايات الإمامية المرسلة، ونقسمها إلى قسمين:
أـ الروايات الواردة في المصادر المعتبرة: ونعني بها الروايات التي وردت في مصادر موثوق من نسبتها إلى أصحابها، وكانت قريبة إلى زمن النصّ.
ب ـ الروايات الواردة في المصادر غير المعتبرة: ونعني بها الروايات التي وردت في مصادر متأخّرة، أو مشكوك من صحّة انتسابها إلى أصحابها، كالتفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري×، الذي هناك نقاشٌ في صحة انتسابه إلى الإمام×، أو كتاب «إرشاد القلوب» للديلمي(841هـ)، الذي يعتبر من المصادر المتأخّرة.
ولا نقصد من ذلك أن نُخرج الروايات الواردة في المصادر غير المعتبرة من البحث إخراجاً كلياً؛ إذ على مسلك الوثوق في قبول الأخبار فإن الرواية الضعيفة أيضاً تعتبر من القرائن الوثوقية، وإنْ كانت ناقصةً، ويجب أن ننظر إلى جميع القرائن الموجودة لنبتَّ في موضوعٍ معين.
الروايات الواردة في المصادر المعتبرة
الروايتان الأولى والثانية: من تفسير العياشي
1ـ عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله× قال: مَنْ فسّر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر؛ وإنْ أخطأ كان إثمه عليه([28]).
2ـ عن أبي بصير، عن أبي عبد الله× قال: مَنْ فسّر القرآن برأيه إنْ أصاب لم يؤجر؛ وإن أخطأ فهو أبعد من السماء([29]).
أـ الدراسة السندية: قد وردت هاتان الروايتان في مصادر مختلفة، كتفسير العياشي، وجامع الأخبار، وبحار الأنوار. ويبدو أن المصدر الأصلي لهاتين الروايتين هو تفسير العياشي، وهما روايتان مرسلتان من الناحية السندية، لا سند لهما.
ب ـ الدراسة الدلالية: على أساس هاتين الروايتين إنْ أصاب المفسِّر برأيه لم يؤجر، فإما أن تكون هذه الرواية قرينةً على تخصيص الروايات التي اعتبرت التفسير بالرأي افتراءً على الله، أو موجباً للعقاب مطلقاً؛ وإما أن تكون معارضةً لها؛ لأن الظاهر من هذه الرواية؛ بقرينة ذكر الإثم في فرض الخطأ فقط، أن المفسِّر بالرأي إنْ أصاب فلا إثم عليه. ولكن الإطلاق الموجود في الروايات السابقة ينافي هذا القول، إلاّ أن نقول: بما أنه لا طريق لمعرفة الصواب أو عدمه يكون التفسير بالرأي حراماً مطلقاً؛ بمقتضى العلم الإجمالي.
وتصف الرواية الثانية مَنْ يخطئ في التفسير بالرأي بأنه أبعد من السماء. وهذه العبارة تكاد أن تكون غير مفهومة، ولكن نقلها الشيخ الحُرّ العاملي في تفصيل وسائل الشيعة هكذا: «إنْ أخطأ خَرَّ أبعد من السماء»، فتكون كنايةً عن السقوط الروحي.
الرواية الثالثة: من تفسير العياشي أيضاً
عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد الله× قال: سُئل عن الحكومة؟ قال: مَنْ حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، ومَنْ فسَّر [برأيه] آيةً من كتاب الله فقد كفر([30]).
أـ الدراسة السندية: إن هذه الرواية أيضاً من متفرّدات تفسير العياشي، الذي نقله مرسلاً، فتكون رواية ضعيفة من الناحية السندية.
ب ـ الدراسة الدلالية: تشتمل هذه الرواية على مقطعين:
الأوّل: الذي يتعلّق بالقضاء، ويعتبر أن الحكم بالرأي يساوي أو يلازم الكفر. الأمر الذي يؤيّد اتساع النهي عن استعمال الرأي. وكأن الرواية تقع في سياق نزاع مدرسة أهل البيت^ مع مدرسة الرأي، التي كانت في العراق آنذاك. وهذا يساعد على فهم المقصود من التفسير بالرأي؛ إذ كانوا يعتمدون على الظنون والتخمينات في معرفة الدين والشريعة.
الثاني: في نسخةٍ من هذه الرواية لم ترِدْ «برأيه» في الرواية، وهذا يجعل الرواية في سياق روايات اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^، وإنْ لم تكن صريحة في ذلك أيضاً. ولكنْ في نسخةٍ أخرى نجد هذا القيد. وربما هو الأنسب؛ انسجاماً مع المقطع الأول، حيث ذكر فيه أيضاً «برأيه».
ترتِّب هذه الرواية حكم الكفر على مَنْ فسر آيةً من القرآن [برأيه]. والجدير بالذكر أن ترتُّب الكفر على مَنْ حكم برأيه أو فسَّر برأيه بمعناه الفقهي، أي الخروج عن الإسلام، بعيدٌ جدّاً؛ بملاحظة سائر النصوص التي تعتبر الشهادتين معياراً للإسلام. وربما كان المقصود من الكفر هنا الكفر العملي. وعلى أيّ حال دلالة هذه الرواية على النهي عن التفسير بالرأي واضحٌ تماماً.
الرواية الرابعة: من المحاسن
أحمد بن محمد بن خالد البرقي، في المحاسن، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن ثعلبة بن ميمون، عمَّنْ حدّثه، عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله×، في رسالةٍ: فأما ما سألت عن القرآن فذلك أيضاً من خطراتك المتفاوتة المختلفة؛ لأن القرآن ليس على ما ذكرتَ، وكلّ ما سمعت فمعناه (على) غير ما ذهبت إليه. وإنما القرآن أمثالٌ لقومٍ يعلمون دون غيرهم، ولقومٍ يتلونه حقّ تلاوته، وهم الذين يؤمنون به ويعرفونه. وأما غيرهم فما أشدّ إشكاله عليهم، وأبعده من مذاهب قلوبهم. ولذلك قال رسول الله|: إنه ليس شيءٌ أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن. وفي ذلك تحير الخلائق أجمعون إلاّ مَنْ شاء الله. وإنما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه وصراطه، وأن يعبدوه وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه، والناطقين عن أمره، وأن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم، لا عن أنفسهم، ثم قال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، فأما عن غيرهم فليس يعلم ذلك أبداً، ولا يوجد. وقد علمتَ أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الأمر؛ لأنهم لا يجدون مَنْ يأتمرون عليه، ومَنْ يبلِّغونه أمر الله ونهيه، فجعل الله الولاة خواصّ، ليقتدى بهم، فافهَمْ ذلك إنْ شاء الله. وإياك وإياك وتلاوة القرآن برأيك، فإن الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم في ما سواه من الأمور، ولا قادرين على تأويله إلاّ من حدِّه وبابه الذي جعله الله له، فافهَمْ إنْ شاء الله. واطلب الأمر من مكانه تجده إنْ شاء الله([31]).
أـ الدراسة السندية: تعتبر هذه الرواية من متفرّدات «المحاسن». وبغضّ النظر عن المناقشات التي في هذا الكتاب، هذه الرواية مرسلةٌ؛ حيث نقلها ثعلبة بن ميمون عمَّنْ حدَّثه، ولم يذكره. فتكون الرواية من الناحية السندية ضعيفة.
ب ـ الدراسة الدلالية: إن هذه الرواية هي الوحيدة في المصادر الإمامية التي تتحدث عن التلاوة بالرأي. وبما أنها عن القرن الثاني الهجري، وهناك قراءات متعددة في هذا القرن، يبدو أن التلاوة آنذاك كانت تتضمّن نوعاً من التفسير؛ لأن المصاحف آنذاك لم تكن تشتمل على النقط والإعراب، فكان كلٌّ يقرأه حَسْب فهمه وتفسيره للقرآن الكريم. فنستطيع أن نستفيد من هذه الرواية النهي عن التفسير بالرأي. إضافة إلى أن في صدر الرواية كلاماً عن ابتعاد العقول عن التفسير، وينقل عن النبي| «ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن». وهذا وإنْ لم يكن صريحاً في النهي عن التفسير بالرأي، ولكنّه يقع في سياقه.
هناك قرائن متعدّدة في هذه الرواية تساعد على فهم التفسير [التلاوة] بالرأي بعدم الرجوع إلى النبي| وأهل بيته^، وهذا ما يجعل الرواية في سياق روايات الاختصاص.
الروايات الواردة في مصادر غير معتبرة
الرواية الأولى: من عوالى اللآلي
عن النبيّ| أنه قال: مَنْ فسَّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار([32]).
أـ الدراسة السندية: قد وردت هذه الرواية في «عوالي اللآلي» مرسلة، فتكون الرواية من الناحية السندية ضعيفة.
ب ـ الدراسة الدلالية: إن هذه الرواية من الناحية الدلالية واضحة في النهي عن التفسير بالرأي؛ لأنها ترتّب الدخول في النار على التفسير بالرأي، وهي مطلقة من جهة الإصابة أو كونها مؤدّية إلى الافتراء.
الرواية الثانية: من عوالي اللآلي أيضاً
قال×: مَنْ قال في القرآن برأيه أو بغير علمٍ فليتبوّأ مقعده من النار([33]).
قد ورد في كتاب «منية المريد» ما يشبه هذا الحديث، حيث جاء فيه: عن النبيّ| قال: مَنْ قال في القرآن بغير علمٍ فليتبوأ مقعده من النار([34]). ولكنْ لا يمكن اعتباره حديثاً مستقلاًّ؛ نظراً لنوعية هذا الكتاب، ووجود ما يشبهه في المصادر الحديثية.
أـ الدراسة السندية: تصنَّف هذه الرواية في عداد الضعاف؛ لأنها لا سند لها.
ب ـ الدراسة الدلالية: تستخدم هذه الرواية تعبير «قال في القرآن»، الذي يمكن اعتباره أعمّ من التفسير وكلّ ما يرتبط بالقرآن. ويحتمل أن يكون المقصود ما يتعلق بتوصيف القرآن من كونه مخلوقاً أو قديماً. ولكن نظراً إلى أنها منقولة عن النبيّ|، ولم نسمع بنزاعٍ حول هذا الموضوع آنذاك، يصبح هذا الاحتمال ضعيفاً. ولا يبعد أن نقول باتحاد هذا التعبير مع التفسير بالرأي؛ بسبب التشابه الموجود بين هذه الرواية وسائر الروايات التي وردت في هذا الموضوع؛ الأمر الذي يساعد أيضاً على اعتبار هذه الرواية مستفادةً من تلك النصوص، لا كونها رواية مستقلّة.
تجمع هذه الرواية بين التفسير بالرأي والقول بغير العلم، وهذا ما يساعدنا على فهم التفسير بالرأي فهماً مختلفاً من التفسير بغير العلم، وكأنه يقصد منه التفسير المعتمد على الرأي الشخصي، وإنْ احتمل أن يكون مصداقاً بارزاً من التفسير بغير العلم، ولهذا خصّه بالذكر.
الرواية الثالثة: من التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
وقال رسول الله|: عليكم بالقرآن؛ فإنه الشفاء النافع، والدواء المبارك، وعصمة لمَنْ تمسَّك به، ونجاة لمَنْ تبعه، لا يعوجّ فيقوم، ولا يزيغ فيشعب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الردّ. واتلوه؛ فإن الله يأجركم على تلاوته بكلّ حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول: «الم» عشر، ولكنْ أقول «الألف» عشر، و«اللام» عشر، و«الميم» عشر. ثم قال رسول الله|: أتدرون من المتمسك الذي بتمسّكه ينال هذا الشرف العظيم؟ هو الذي أخذ القرآن وتأويله عنّا أهل البيت، أو عن وسائطنا السفراء عنّا إلى شيعتنا، لا عن آراء المجادلين وقياس القائسين. فأما مَنْ قال في القرآن برأيه فإنْ اتفق له مصادفة صواب فقد جهل في أخذه عن غير أهله، وكان كمَنْ سلك طريقا مسبعاً من غير حفّاظ يحفظونه، فإنْ اتفقت له السلامة فهو لا يعدم من العقلاء والفضلاء الذمّ والعذل والتوبيخ؛ وإنْ اتفق له افتراس السبع له فقد جمع إلى هلاكه سقوطه عند الخيِّرين الفاضلين وعند العوام الجاهلين؛ وإنْ أخطأ القائل في القرآن برأيه فقد تبوّأ مقعده من النار، وكان مثله كمثل مَنْ ركب بحراً هائجاً بلا ملاّح، ولا سفينة صحيحة، لا يسمع بهلاكه أحدٌ إلاّ قال: هو أهلٌ لما لحقه، ومستحقٌّ لما أصابه([35]).
أـ الدراسة السندية: تصنَّف هذه الرواية في عداد الروايات الضعيفة؛ لأنها وردت في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري×، ولم تثبت صحّة هذه النسبة إليه، بل قال السيد الخوئي في معجم رجال الحديث ما نصّه: « أقول: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري× إنما هو برواية هذا الرجل وزميله يوسف بن محمد بن زياد، وكلاهما مجهول الحال، ولا يعتدّ برواية أنفسهما عن الإمام× اهتمامه بشأنهما، وطلبه من أبوَيْهما إبقاءهما عنده، لإفادتهما العلم الذي يشرّفهما الله به. هذا مع أن الناظر في هذا التفسير لا يشكّ في أنه موضوعٌ، وجَلَّ مقام عالم محقِّق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام×؟»([36]).
ب ـ الدراسة الدلالية: يستخدم هذا الحديث كسابقه تعبير القول في القرآن. وهو إنْ لم نقل باتّحاده مع التفسير يشمله على الأقلّ. ثم يفصّل بين فرض الخطأ والصواب، وكأن مَنْ أصاب لا إثم عليه، ولكنه سلك طريقاً غير آمن، وهذا ما يقبح عند العقلاء، ولكنّ مَنْ أخطأ في تفسيره فليتبوّأ مقعده من النار. وهذا تعبيرٌ واضح عن النهي عنه.
إن هذه الرواية واضحةٌ في كون المقصود من التفسير بالرأي الاستغناء من أهل البيت^.
الرواية الرابعة: من إرشاد القلوب للديلمي(841هـ)
قال الحسن×: ما بقي في الدنيا بقيّة غير هذا القرآن، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هداكم. وإنّ أحقّ الناس بالقرآن مَنْ عمل به، وإنْ لم يحفظه؛ وأبعدهم منه مَنْ لم يعمل به، وإنْ كان يقرؤه. وقال: مَنْ قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ([37]).
وكذا ورد في منية المريد(966هـ): عن النبيّ| قال: مَنْ تكلَّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ([38]). وكذلك قال صاحب روض الجنان(556هـ): روى الخاصّة والعامّة عن النبي|: مَنْ فسَّر القرآن برأيه وأصاب الحقّ فقد أخطأ([39]).
أـ الدراسة السندية: لا تشتمل هذه الأحاديث الثلاثة على سندٍ، فتكون مرسلة جدّاً. ومصادرها متأخّرة. والغريب أن أبا الفتوح الرازي يرى هذه الرواية مروية عن الخاصة والعامة، ولكنْ لم نجد رواية عنهم بهذا التعبير.
وبما أن منية المريد وروض الجنان ليسا من مصادر الحديث، ويبدو أنهما أخذا رواياتهم عن المجاميع الحديثية، فلا نستطيع أن نعتبر رواياتهما أحاديث مستقلّة.
ب ـ الدراسة الدلالية: قد تبدو عبارة «مَنْ قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» للوهلة الأولى غريبة، حيث تثبت الخطأ في فرض الإصابة. ويمكن القول: إن متعلَّق الإصابة والخطأ هنا مختلفٌ، فالذي يفسِّر القرآن برأيه وإنْ كان يصيب الواقع في تفسيره، ولكن منهجه هذا منهجٌ خاطئ وغير سليم.
الطائفة الثانية: الروايات السنّية
قال العلاّمة المجلسي في البحار، ناقداً الخليفة الأول والثاني: «إنهما فسَّرا القرآن برأيهما، مع أن النهي عن التفسير بالرأي ورد في صحاحهم بروايات كثيرة! وهذا ما يوجب النقد عليهم».
ولكنْ بعد أن فتَّشنا المصادر الأصلية لأهل السنّة لم نَرَ فيها روايات كثيرة، بل هناك روايات أقلّ من أصابع اليد الواحدة تنهى عن ذلك؛ واحدة منها ضعيفة السند؛ والأخرى لا يرجع سندها إلى النبيّ|. وتبقى عندهم رواية واحدة تدلّ على النهي، وهو حَسَنٌ على حدّ تعبير الترمذي.
وربما اعتبر العلاّمة روايات النهي عن التفسير بالرأي إلى جانب الروايات الناهية عن القول بغير العلم، كما يدل على ذلك استشهاده بهذه الروايات. وكأنه فهم من التفسير بالرأي نفس التفسير بغير العلم، وجعل التفسير بغير العلم مصداقاً من القول بغير العلم، ومن ثمّ اعتبرها روايات كثيرة. والعلمُ عند الله.
وعلى أيّ حال سنتناول في هذا القسم الروايات التي استخرجناها من المصادر السنّية في خصوص النهي عن التفسير بالرأي، وهي ثلاثة:
الرواية الأولى: التفسير بالرأي والقول بغير العلم
حدثنا أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: جاء رجلٌ إلى عبد الله، فقال: إني تركت في المسجد رجلاً يفسِّر القرآن برأيه، يقول في هذه الآية: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ (الدخان: 10) إلى آخرها: يغشاهم يوم القيامة دخانٌ يأخذ بأنفاسهم، حتّى يصيبهم منه كهيئة الزكام، قال: فقال عبد الله: مَنْ علم علماً فليقُلْ به، ومَنْ لم يعلم فليقُلْ: الله أعلم؛ فإنّ من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبيّﷺ…([40]).
لا تنتهي هذه الرواية إلى مَنْ قوله الحجّة، حيث لا نؤمن بحجّية سنّة الصحابي. ولكنْ يمكن الاستفادة من هذا الحديث لمعرفة معنى التفسير بالرأي، حيث يشير عبد الله بالنسبة إلى مَنْ يفسِّر القرآن برأيه إلى التفسير بغير العلم. وهذا يساعد على اعتبار التفسير بالرأي آنذاك نوعاً من الاعتماد على الظنون والتخمينات في تفسير الآيات.
الرواية الثانية: التفسير بالرأي والدخول في النار
حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي: حدثنا أبو عوانة، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبيّ| قال: «اتّقوا الحديث عنّي إلاّ ما علمتم، فمَنْ كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، ومَنْ قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار([41]).
أـ الدراسة السندية: وصفه الترمذي بالحَسَن([42]). والحَسَن في اصطلاحه يطلق على الحديث الذي لا يشتمل سنده على راوٍ متّهم بالكذب، ويكون خالياً من الشذوذ، وله عدّة طرق([43]). وحيث إن الصحيح في ملاك اعتبار الحديث على مبنى القول بحجّية خبر الواحد ليس هو عدم اتهام الراوي بالكذب فقط، بل إثبات صدقه وضبطه، فالحديث يعدّ عندنا من الروايات غير المعتبرة.
ب ـ الدراسة الدلالية: تخبر هذه الرواية عن عقوبة مَنْ يقول في القرآن برأيه. أورد أبو عيسى الترمذي هذا الحديث، والذي يليه، في سننه، في باب «ما جاء في الذي يفسِّر القرآن برأيه»، ممّا يدلّ على أنه فهم من القول في القرآن التفسير بالرأي. وكما قلنا سابقاً: لا يبعد أن يكون المقصود من القول في القرآن هنا نفس التفسير بالرأي، وخاصّة أنها منقولة عن النبي|، ولم تكن آنذاك قضايا مثل: قضية خلق القرآن وقدمه مطروحةً؛ كي نفسّر الحديث على توصيف القرآن كله، لا تفسير آياته.
قد ورد في هذا الحديث، قبل الوعيد على القول بالرأي في القرآن، النهي عن نقل الأحاديث بغير العلم. وهذا ما يمكن اعتباره قرينة ناقصة جدّاً على تفسير القول بالرأي بالقول بغير العلم.
الرواية الثالثة: اعتبار التفسير بالرأي خاطئاً وإنْ كان مصيباً للواقع
حدثنا عبد بن حميد: حدثنا حبان بن هلال: حدثنا سهيل بن عبد الله ـ وهو ابن أبي حزم أخو حزم القطعي ـ: حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله|: مَنْ قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ([44]).
أـ الدراسة السندية: تصنَّف هذه الرواية في عداد الضعاف. قال أبو عيسى الترمذي: «هذا حديثٌ غريب. وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم»([45]). ونقل ابن أبي حاتم، في كتابه الجرح والتعديل، بسنده عن أحمد بن حنبل أنه قال فيه: «سهيل بن أبي حزم أخو حزم روى عن ثابت أحاديث منكرة». ونقل عن ابن معين أنه قال: «سهيل ابن أبي حزم صالحٌ»، ثمّ قال: «حدثنا عبد الرحمن قال: سمعتُ أبي يقول: سهيل بن أبي حزم ليس بالقويّ، يكتب حديثه ولا يحتجّ به، وحزم أخوه أتقن منه»([46]). ونقل البخاري عن ثابت بأنّه «ليس بالقويّ عندهم»([47]). وقد جاء في هامش سنن الترمذي في توصيف سهيل: «وثّقه العجليّ، وقال البخاري: لا يتابع في حديثه، يتكلّمون فيه. وقال النسائي: ليس بالقويّ»([48]).
ب ـ الدراسة الدلالية: تعتبر هذه الرواية التفسير بالرأي خاطئاً دائماً، وإنْ كان مصيباً في الواقع. وكما قلنا سابقاً يمكن اعتباره إشارة إلى الخطأ المنهجي في التفسير بالرأي.
النتيجة
بعد أن قمنا بجولةٍ مختصرة في روايات النهي عن التفسير بالرأي خرجنا بالنتائج التالية:
أـ نتائج الدراسة السندية في مصادر وأسانيد روايات النهي عن التفسير بالرأي:
المشهد الإمامي للروايات:
من حيث الأسانيد:
من 13حديثاً تعتبر الروايتان 1 و5 من الراويات المسندة والمعتبرة على بعض المباني.
وأما سائر الروايات المسندة (وهي الروايات 2، 3، 4) فقد وردت في مصادر معتبرة، لكنها ضعيفة الإسناد.
وهناك ثمان روايات ضعيفة ومرسلة؛ أربع منها وردت في مصادر معتبرة (ثلاث منها بلا سند)، والأربع الأخر وردت في مصادر غير معتبرة (ثلاث منها أيضاً بلا سند).
ومن حيث المصادر المعتبرة:
ـ أربعة منها تفرَّد بنقلها الشيخ الصدوق في غير الفقيه.
ـ رواية واحدة رواها الكليني في الكافي.
ـ ثلاثةٌ من تفسير العياشي
ـ رواية واحدة من المحاسن.
ومن حيث المصادر غير المعتبرة:
ـ روايتان من عوالي اللآلي.
ـ رواية واحدة من التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري×.
ـ رواية واحدة من إرشاد القلوب للديلمي.
وأما المشهد السنّي للروايات:
من حيث الإسناد:
من مجموع 3 روايات هناك رواية واحدة اتّصفت بالحسن، حَسْب تعريف الترمذي للحَسَن، وهي الرواية الثانية.
ورواية واحدة لا تنتهي إلى مَنْ قوله الحجّة، فلا يمكن الاحتجاج بها، وينبغي حذفها من الروايات، وهي الرواية الأولى.
ورواية واحدة ضعيفة الإسناد.
ومن حيث المصادر:
ـ الرواية الأولى رواها ابن حنبل في مسنده، ومسلم في الصحيح.
ـ الرواية الثانية رواها ابن حنبل في مسنده، وكذلك الترمذي في سننه، ونقلها النسائي في السنن الكبرى.
ـ الرواية الثالثة رواها الترمذي والنسائي، وكذلك البخاري في التاريخ الكبير.
هذا، إنْ لم ندَّعِ وحدة بعض هذه الروايات؛ من حيث تشابه الألفاظ والمرويّ عنه، وإلاّ فستكون حالها أسوأ.
وممّا تقدم يظهر أن هذه الروايات لا ترقى إلى مستوى خبر الواحد، حَسْب بعض المباني. ومن الغريب أن بعضهم اعتبرها من المتواترات([49])! ولعلهم اعتبروا معنى التفسير بالرأي نفس التفسير بغير علم، ثم ادّعوا تواترها بملاحظة تلك النصوص التي تدلّ على حرمة القول بغير العلم، وإلا فكيف حصل لهم تواترٌ من خلال بضعة روايات؛ تكون في أغلبها إما فاقدة للأسانيد؛ وإما واردة في مصادر غير معتبرة.
ب ـ النتائج الدلالية في معنى التفسير بالرأي:
بعد استبعاد أن يكون المقصود من الرأي هنا المعنى المصطلح في مدرسة الرأي؛ نظراً إلى كونها منقولةً عن النبي| والصحابة، نواجه تفسيرين أساسين للنهي عن التفسير بالرأي:
1ـ اختصاص فهم القرآن بأهل البيت^.
2ـ عدم الاعتماد على الظنون والعلم غير الموضوعي في تفسير القرآن الكريم.
أما الرواية الثانية من الروايات الإمامية المسندة فتنسجم أكثر مع التفسير الأول، حيث تؤكد على أن كلام الله لا يشبه كلام البشر في شيء، ولا طريق لنا لمعرفة معاني القرآن الكريم إلاّ الرجوع إلى القواعد العرفية، فلا يمكن أن نتحدث عن علمٍ موضوعي لغير المعصومين^. فتكون هذه الرواية لصالح نظرية الاختصاص.
أما صدر الرواية الثالثة فينسجم مع التفسير الثاني، حيث اعتبر التفسير بالرأي افتراءً على الله سبحانه، وبما أن هناك ملازمة عرفية بين التفسير بغير العلم والافتراء فلا يبعد أن يكون المقصود التفسير بغير العلم الموضوعي. إلاّ إذا قلنا بأن المولى لاحظ بعلمه عدم مطابقة أغلب التفاسير غير المأخوذة من أهل البيت مع الواقع، وإنْ كان تفسيراً عن علم؛ أو قلنا: لا سبيل لنا للعلم الموضوعي إلاّ عن طريق الأخذ من أهل البيت، كما يستوحى من الرواية الخامسة.
وأما ذيلها فإذا قلنا بأن هناك خصوصية ذاتية للرجوع إلى عليٍّ× والأئمة من ولده^، كعدم إمكان الوصول إلى مراد الله تبارك وتعالى إلاّ عبر الرجوع إليهم، فيكون المقصود من التفسير بالرأي التفسير المستقلّ عنهم^. ولكنْ إذا قلنا بأن الرجوع إليهم إنما هو لكونهم طريقاً حقيقياً للوصول إلى العلم واليقين، فيكون المقصود من التفسير بالرأي نفس التفسير بغير العلم.
وفي الرواية الرابعة من الروايات الإمامية المسندة نواجه لأوّل مرّة تعبير التأويل بالرأي. ولا يبعد أن يكون شاملاً للتفسير بالرأي؛ وبقرينة استشهاد الإمام× بالآية الشريفة: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾؛ وبقرينة السياق، نرجِّح أن المقصود اختصاص التفسير بأهل البيت.
أما الرواية الخامسة فمع أنها تشير في صدرها إلى جواز التفسير بالعلم، ولكنه في ذيلها ينحصر العلم في مَنْ خوطب بالقرآن الكريم، ولا يبعد أن يكون المقصود أهل البيت.
وكذلك الرواية التي وردت في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري× أيضاً واضحةٌ في اختصاص التفسير بأهل البيت^.
هذا على مستوى الروايات الإمامية. أما على مستوى الروايات السنّية القليلة فنجد في الرواية الأولى قرينة على أن المقصود من التفسير بالرأي نفس التفسير بغير العلم، ولكنها غير صادرة عن النبي|. أما سائر الروايات فخالية عن القرائن لترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.
نعم، ذكر الترمذي روايات النهي عن التفسير بغير العلم في باب (ما جاء في الذي يفسِّر القرآن برأيه)، وكذلك النسائي ذكر روايات النهي عن التفسير بالرأي في باب (مَنْ قال في القرآن بغير علم)، ممّا يشير إلى تساوي هذين التعبيرين عندهما.
فنستنتج من ذلك كلّه أن الأرجح في المقصود من هذه الروايات التأكيد على اختصاص فهم القرآن بأهل البيت، وخاصة مع التكملة الموجودة في الرواية الخامسة، حيث اعتبر عدم إمكان الوصول إلى التفسير العلمي إلاّ عن طريق أهل البيت، فتقع علاقة بين النهي عن التفسير بغير العلم واختصاص فهم القرآن بأهل البيت.
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم.
(**) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم.
([1]) محمد علي رضايي إصفهاني، «پژوهشي درباره دلايل مخالفان وموافقان تفسير به رأي»، نشريه معرفت، آذر 1380، العدد 48: 34 ـ 29.
([2]) محمد أسعدي، «تفسير به رأي أز منظر روايات»، نشريه روش شناسي علوم إنساني، صيف 1383، العدد 39: 132 ـ 102.
([3]) علي نصيري، «ماهيت ومؤلفه هاي تفسير به رأي أز منظر فريقين با تأكيد بر آراء إمام خميني»، پژوهشنامه حكمت وفلسفه إسلامي، خريف 1385، العدد 19: 44 ـ 23.
([4]) مساعد الطيّار، «التفسير بالرأي: مفهومه، حكمه، أنواعه»، البيان، ربيع الأول 1419، العدد 127: 29 ـ 20.
([5]) جعفر گل محمدي، «پژوهشي درباره أحاديث نهي أز تفسير به رأي در ديدگاه فريقين»، پژوهشهاي فقهي، صيف وخريف 1384، العدد 2: 208 ـ 199.
([6]) جعفر السبحاني، المفاهيم القرآن 4: 246.
([7]) انظر: أبو القاسم الخوئي، البيان في تفسير القرآن،: 267.
([8]) الصدوق، الأمالي: 6؛ الصدوق، التوحيد: 68؛ الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 116؛ المجلسي، بحار الأنوار، 89: 107.
([9]) العلاّمة الحلّي، ترتيب خلاصة الأقوال: 403؛ ابن داوود الحلّي، الرجال: 337.
([10]) انظر علي سبيل المثال: بحر العلوم، الفوائد الرجالية 4: 70.
([11]) الصدوق، التوحيد: 264؛ المجلسي، بحار الأنوار، 89: 107.
([12]) نقصد من العلم الأعمّ من اليقين الأرسطي والاطمئنان العرفي، حيث نعتقد بأن اليقين في القرآن الكريم والأحاديث، وخاصة ما قبل عصر الترجمة، كان يطلق على الأعمّ منهما.
([13]) وهذا التقسيم ما أشار إليه السيد الشهيد محمد باقر الصدر في أبحاثه الأصولية.
([14]) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، 1: 256؛ وانظر: ابن طاووس، التحصين لأسرار ما زاد من كتاب اليقين: 625؛ يوسف بن حاتم الشامي، الدرّ النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم: 796؛ الحلّي، العدد القوية لدفع المخاوف اليومية: 89؛ البحراني، البرهان في تفسير القرآن، 1: 39؛ الحُرّ العاملي، وسايل الشيعة، 27: 190، ونسب الشيخ العاملي هذه الرواية إلى الخصال، لكن يبدو أن هذه النسبة من سهو قلمه، أو كانت النسخة التي وصلته تختلف عن النسخة الموجودة بين أيدينا؛ إذ لم نجد هذه الرواية في كتاب الخصال.
([15]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 16: 43.
([17]) ليس المقصود من الملازمة هنا الملازمة العقلية الفلسلفية، بل يكفي ملازمة عرفية شبه دائمية.
([18]) معجم مقاييس اللغة 4: 496.
([19]) مفردات ألفاظ القرآن: 634.
([21]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم 9: 76.
([22]) الفروق في اللغة: 37؛ وانظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم 10: 35.
([23]) مجمع البحرين 2: 157؛ المصباح المنير: 528؛ الإفصاح 1: 180.
([24]) الصدوق، الأمالي: 90؛ الصدوق، عيون أخبار الرضا× 1: 192. وورد هذا الحديث في العيون بهذا السند: حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب وعليّ بن عبد الله الورّاق رضي الله عنهم قالوا: حدثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا القاسم بن محمد البرمكي قال: حدثنا أبو الصلت الهروي.
([25]) وتمام الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ومَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7) .
([26]) معجم مقاييس اللغة 4: 504.
([27]) الكليني، الكافي، 8: 311.
([28]) تفسير العياشي 1: 17؛ الشعيري، جامع الأخبار: 49؛ المجلسي، بحار الأنوار، 89: 110.
([29]) تفسير العياشي 1: 17؛ المجلسي، بحار الأنوار، 89: 110؛ وانظر: الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة، 27: 202، ولكن جاء: «خرَّ أبعد من السماء».
([30]) تفسير العياشي 1: 18؛ المجلسي، بحار الأنوار 89: 111، لكن لا نجد كلمة «برأيه» في البحار.
([32]) ابن أبي جمهور، عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية 4: 104.
([34]) الشهيد الثاني، منية المريد: 368. المجلسي، بحار الأنوار 89: 111.
([35]) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري×: 14.
([36]) معجم رجال الحديث 13: 157.
([37]) الديلمي، إرشاد القلوب: 315 (ترجمة: طباطبايي).
([38]) الشهيد الثاني، منية المريد: 369؛ المجلسي، بحار الأنوار 89: 111.
([39]) أبو الفتوح الرازي، روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، 1: 5؛ وقد نسب هذا الحديث في وسائل الشيعة 27: 205 إلى أهل السنّة.
([40]) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6: 106؛ وانظر: صحيح مسلم، 4: 2156.
([41]) سنن الترمذي، 5: 43؛ مسند الإمام أحمد بن حنبل 3: 496؛ 5: 122؛ النسائي، السنن الكبرى 5: 31.
([43]) حيدر حبّ الله، الحديث الشريف: دوائر المرجعية وحدود الاحتجاج 1: 317.
([44]) سنن الترمذي 5: 44؛ وانظر: سنن النسائي 5: 31. وكذلك ورد هذا الحديث في سنن النسائي بهذا السند: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال: حدثني سهيل بن مهران القطعي (وهو سهيل بن عبد الله وسهيل بن أبي حزم). انظر: البخاري، التاريخ الكبير 4: 106، قال: ثنا أبو عمران الجوني، عن جندب قال: قال رسول الله|…
([46]) الرازي، الجرح والتعديل 4: 247ـ 278.
([47]) البخاري، التاريخ الكبير، 4: 106.
([49]) انظر على سبيل المثال: عباسعلي عميد زنجاني، مباني وروشهاي تفسير قرآن: 221؛ وكذلك جعفر السبحاني، مفاهيم القرآن 4: 246.