حسين إبراهيم شمس الدين*
في المحاورات الفلسفية الدائمة تتمحور قضية جدلية أساسية تتمثل في نبذ أو قبول الفلسفات القديمة لقدمها، فنجد أن هناك تيارين أساسيين أحدهما يدعو إلى تجاوز الآراء القديمة للفلاسفة الذين مرّ عليهم زمن طويل نسبيًا وتوجيه النقاش إلى ما يتم تداوله حول الآراء الجديدة، بينما نجد تيارًا آخر يدعو إلى محاكمة الآراء الفلسفية من منطلق منطقها وسطوة البرهان الموجود فيها بغض النظر عن جدتها أو قدمها، فالمدار الذي يحتّم الأخذ برأي فلسفي هو المنطق والبرهان ولا دخل لعامل الزمان في ذلك.
وبقليل من التأمل نجد أن التيار الأول يسيطر على المتخصصين في الفلسفات الغربية بينما نجد أن أنصار الفلسفة الشرقية لا سيما الإسلامية منها تميل للرأي الثاني، وإذا كان لا بد من عودة فلسفة قديمة إلى البروز على الساحة الفكرية بالنسبة إلى الفلسفات الغربية نجد سمة “النيو new” سمة بارزة فترى: النيوكانطية، والنيوليبرالية والنيوداروينية وهكذا، بينما لا تجد “نيومشائية” أو “نيوإشراقية” بالنسبة للفلسفات الإسلامية، بل الأمر هو صراع فكري دائم بين “المشاء” و “الإشراق” مثلًا، وهذا يؤكد أن عامل الجدة والمعاصرة مؤثر في حياة الفلسفات الغربية دون الشرقية –ونخص الكلام في الإسلامية فقط-.
هذا الأمر له جذور ضاربة تعود إلى ماهية تشكل الفلسفات الغربية وتلك الإسلامية، ويتمثل بشكل أكيد حول “النشأة” التي شهدتها الآراء والشخصيات الفلسفية، فنرى أن الفلسفات الغربية نشأت في أحضان التجربة السياسية والاجتماعية ومنها برزت الآراء بينما لم يصلنا مثل هذا الصراع والتدافع في نشأة الفلسفات الإسلامية –وإن كنا بطبيعة الحال لا ننكر تأثير السياقات السياسية في نشأتها لكن الكلام في أصل النشأة لا في التأثير العام-.
تجد مثلًا أن فرانسيس بيكون الذي يعد من “أنبياء الثورة العلمية الحديثة” كان رجل دولة وكان من السياسيين الذين أثرت في بنيتهم الذهنية التبدلات الثورية في الواقع المعاش، ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ديكارت الذي يعتبر “أبو الفلسفة الحديثة” حيث كان الشك هو منطلقه الأساسي، وإنما كان كذلك لوجود متغيرات اجتماعية دعته لوضع المعتقدات الكنسية والدينية عمومًا المتعلقة بالرؤى الطبيعية والفيزيائية موضع التساؤل ولذا فإن شكيّة ديكارت تختلف عن شكية الغزالي في أن عصر الغزالي انتشر فيه المذاهب الدينية والاختلافات فيما بينها ولذا نجده قد سخّر مبدأ الشك في سبيل نبذ التقليد وأما ديكارت فكان في سياق الاكتشافات العلمية التي بسببها بدأ التشكيك في الآراء والمعتقدات الكنسية في عصره.
والأمر نفسه بالنسبة إلى توماس هوبز الذي كان رجل سياسة وكان في فترة من حياته سكرتيرًا لفرانسيس بيكون وجال البلدان الأوروبية وحاول الانتصار للملكية المطلقة ونقد الديمقراطية، ونجد أن أسس رؤاه الفلسفية كانت نتاج حراك ورؤى سياسية حاول ترسيخها بلغة فلسفية ومعرفية.
هذا الأمر لا يحسب على الفلاسفة الغربيين القدماء فقط، بل نجد الأمر ذاته موجودًا عند أحدث المفكرين، وإنما اكتفينا بذكر هؤلاء لأن الموضوع في أساسه يركّز النظر على “القديم” من الفلسفات وكيفية نشوئها، هذا مضافًا إلى أن الفلسفات الحديثة هي امتدادات لتلك القديمة فإن بيكون أسس المدرسة الإنكليزية للفلسفة حيث عقبه هيوم وجون لوك وجورج بركلي وستيوارت ميل وآخرين، كما أن ديكارت أسس الفلسفة القارية التي سيأتي فيها من بعده لابينتز وسبينوزا وكانط وهيغل، وعندئذ تصبح الفلسفة الحديثة ذات شقين: الفلسفة الإنكليزية وهم من جاؤوا بعد بيكون في مدرسته من جهة والفلسفة القارية وهم من تلا ديكارت من جهة أخرى.
أما بالنسبة للفلسفات الإسلامية التي تمثلت بشكل أساسي بالفلسفة المشائية التي كان الفارابي وابن سينا رائديها وبالفلسفة الإشراقية التي تمثلت بشهاب الدين السهروردي وبفلسفة الحكمة المتعالية التي تمثلت بصدرالمتألهين الشيرازي، نجد أن أعلام هذه المدارس لم يكونوا رجال دولة وسياسة بالمعنى الذي نجده عند فلاسفة الغرب، ولذا فإن انطلاقتهم الفكرية كانت محض “فكرية” –وهنا أعود وأذكر أننا لا ننفي التأثير للسياسي- أي من المنطق الأرسطي ونقده مرورًا بالفلسفات الطبيعية ووصولًا إلى الفلسفة العالية الأنطولوجية.
ولا بد من لفت النظر إلى أن الكلام الإسلامي يقترب في نشوئه من الفلسفة الغربية، فنظريات القضاء والقدر والجبر والتفويض والكلام الإلهي وغيرها من القضايا التي شكّلت هوية علم الكلام كانت ذات أصل صراعي سياسي، ومن هنا اعتبر بعض المفكرين أن قول المعتزلة بالتفويض مقابل الجبر كان نوعًا من المعارضة السياسية للأمويين القائلين بالجبر لتبرير سلوك الحكام، ولذا فإننا نسجّل ملاحظة وهي أن جدلية الجديد\القديم المثارة في الفلسفة الغربية نجد عينها بالنسبة إلى الكلام الإسلامي بخلاف الفلسفة الإسلامية التي تعتبر الفلسفة متعالية على الزمان، ولذا نجد الآن دعوات “علم الكلام المعاصر” و”الجديد” على غرار “النيو-فلسفة” بالنسبة للمسار الغربي.
عودًا على بدء، إن هذا المسار التشكّلي للفلسفة الإسلامية جعلها في الوقت الراهن موضع سؤال عن “نفعها” وجدواها، والسؤال عن الجدوى بطبيعة الحال ناشئ عن السياق الاجتماعي السياسي، ولذا فإنها في مأزق لتبرير نفسها أمام النخب السياسية والمثقفة عمومًا، بخلاف الفلسفة الغربية التي تترك القديم لكونه لصيقًا من حيث النشوء بالظروف الغابرة وتحاول أن تستنبط فلسفة مجدية وجديدة، ولذا صار السؤال “الابستمولوجي” أساسيًا في الفلسفة الإسلامية لأنه وإن كان سؤالًا فلسفيًا عميقًا لكنه في العمق يضع “الجدوى” للأفكار الخالية من النفع المجتمعي موضع الشك والسؤال، فهل تنهض الفلسفة الإسلامية لتربط مسائل “وحدة الوجود” مثلًا بالحرية والعدالة الاجتماعية وغيرها من مباحث الحاجة الاجتماعية التي شكّلت منطلقًا للفلسفات الغربية أم تعيد نفسها إلى زوايا البحث الضيّق دون خوض هذه الغمار باعتبار أن “العقل الفلسفي” مجانبًا للتبدلات الاجتماعية والسياسية؟
_________________________________
* أستاذ المنطق والإلهيات في الحوزة الدينية في لبنان باحث في الانتروبولوجيا. مجاز في علم الاجتماع وحائز شهادة الماستر في الانتروبولوجيا من الجامعة اللبنانيّة.