الشيخ أبو القاسم علي دوست(*)
إن من بين أقدم الأبحاث، وأكثرها حضوراً في الأوساط الراهنة، البحث عن سعة الشريعة ومساحتها (بغضّ النظر عن مجال الدين ومحدودية خطابه). ومن هنا نبدأ مقالتنا هذه بسؤالين منفصلين عن بعضهما، وهما:
أـ ما هو مجال الدين (العالمي والخالد)؟ وما هي حدوده ومَدَياته؟
ب ـ ما هي المسائل التي يشتمل عليها مجال الشريعة (بوصفها جزءاً من الدين).
هل تشمل هذه الدائرة جميع أبعاد وشؤون البشر؟ وهل مساحة الشريعة من السعة بحيث لا يشذّ شيء عنها، وعليه فإنها لا تتّسع لحضور العقلاء والعُرْف والتقاليد في إطار القانون، أم هناك من خارج مجال الشريعة جهاتٌ يمكن إدراج هذه الأمور ضمن إطارها؟ ثم بعد هذا التساؤل يأتي السؤال عن دائرة التعبّد (التشريع الإلهي الذي لا يمكن إدراكه بواسطة العقل أو بناء العقلاء والعُرْف السائد بين الناس) وعدم التعبُّد في الشرعيات.
والنقطة التي يجب التأكيد عليها، قبل الإجابة عن هذين السؤالين، هي الشرخ الفاصل بين السؤال الأوّل والثاني، وهو الشرخ الذي غفل عنه بعض الذين كتبوا في هذا الموضوع.
ففي السؤال الأوّل يقع السؤال عن رقعة الدين (المجموعة التي تشكّل الشريعة بعض أجزائها)، وموقعها من زاوية مفهوم السؤال وتنظيم العلوم في «فلسفة الدين». وبعد افتراض خروج بعض شؤون حياة الإنسان عن دائرة ورقعة الدين لا يصحّ الحديث عن التشريع الإلهي أو إمضاء العُرْف أو بناء العقلاء أو أيّ أمرٍ آخر من قِبَل الشارع؛ إذ في مثل هذه الحالة لا يكون لحامل الدين رأيٌ بشأن هذه الموارد، حتّى يكون له تشريعٌ وتأسيس خاصّ، أو أن يقيم ارتباطاً بتلك الشؤون من خلال إمضاء أو ردّ العُرْف والبناء أو أيّ قانونٍ من قوانين العقلاء والناس.
إن إيجاد المبنى والتأسيس والتقنين بشأن هذه الأمور يدخل ضمن شؤون البشر، ولا يدخل ضمن شؤون الله. ولا بُدَّ من الالتفات إلى هذه الشأنية من خلال هذه العبارة الإنجيلية القائلة: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»([1]).
وأما في السؤال الثاني فيقع السؤال عن حدود ورقعة الشريعة. وفي هذا السؤال يمكن افتراض شمول مجال الدين لجميع شؤون حياة الإنسان. ولكنّ السؤال عن حدود دائرة التشريع، أي هل أن الدين الناظر إلى جميع شؤون الناس مارس التأسيس والتشريع في جميع الأبعاد أم ترك جزءاً منها لإمضاء وتوشيح بناء العقلاء؟
في السؤال الثاني يقع السؤال عن مجال التشريع والشريعة (وبشكلٍ طبيعي) عن الفقه، ويقع ضمن منظومة فلسفة الشريعة والفقه، دون أن تكون هناك إرادة للتعرّض إلى دائرة ومساحة الدين. والمطروح في هذه المرحلة هو البحث عن تشريع وإمضاء أنواع العُرْف والعادات ومقدار التعبُّد والإرشاد. وفي هذه المرحلة لا يقع الكلام حول حيادية الشارع، بل الشارع في كلتا الحالتين (أي في حالتي الردّ والإمضاء) يتّخذ موقفاً، ويقع الكلام حول ثوابه وعقابه، ومن هنا يمكن نسبة بناء العُرف أو ردّه إلى الشارع، واعتباره حكماً إلهياً.
إن الكلام السابق يضيِّق النطاق على الرؤية القائلة: «إن كتاب الله وأحكامه على صنفين: الأوّل: هي الأحكام الإلهية السماوية بالتشريع…؛ والثاني: هي الأحكام العقلائية الإمضائية الإسلامية…، ولا حكم لله في تلك الموارد. وسكوت الشرع في مقابل الأحكام العُرفية العقلائية لا يوجب صحّة إسناد تلك الأحكام إلى الله تعالى»([2])؛ وذلك لأن الحكم المتبلور بالتأسيس والإبداع من قِبَل المشرِّع يُنسَب إليه، كذلك الأحكام الإمضائية تُنسَب إليه أيضاً. ومن الملفت في هذا الكلام أن المقسم هو «الأحكام الإلهية»، والأقسام هي «الحكم الإلهي؛ والحكم غير الإلهي».
والذي يرتبط بهذا المقال هو المسألة المطروحة في السؤال الثاني، أي مع القول بفرضية شمول واتساع رقعة الدين لجميع شؤون حياة الناس يقع الكلام عن سعة الشرعية ومحدوديّتها.
إن مسألة سعة الشريعة وحدودها قد شغلت علماء الدين منذ القِدَم، وقد حملت معها الكثير من الآراء المتنوّعة. وقد تعرَّض أبو محمد الفضل بن شاذان ـ وهو من علماء القرن الثالث الهجريّ ـ إلى هذه المسألة باختصارٍ؛ إذ قال: «في القوم المتسمّين بالجماعة المنسوبين إلى السنّة: إنا وجدناهم يقولون: إن الله لم يرسل النبيّ محمداً| بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم. ورُبَما لم يكن رسول الله يعرف ذلك؛ أو عرفه فلم يبيِّنه لهم، وأن الصحابة من بعده وغيرهم من التابعين استنبطوا ذلك برأيهم، وأقاموا أحكاماً سمّوها سنّةً، وأجروا الناس عليها، ومنعوهم أن يجاوزوها إلى غيرها»([3]).
وقال الشافعي(204هـ)، وهو من أئمّة الفقه عند أهل السنّة: «لا سياسة إلاّ ما وافق الشرع». بَيْدَ أن هناك مَنْ اعترض عليه، حتّى في ذلك العصر، قائلاً: «إنْ كان المراد من «الموافقة» عدم المخالفة كان كلامه صحيحاً؛ وأما إذا كان مراده من «الموافقة» وجود نصٍّ ودليل عامّ أو خاصّ من قِبَل الشارع فلا يكون كلام الشافعي صحيحاً»([4]).
وفي المرحلة المعاصرة يعتبر الكلام بشأن رقعة الشريعة أحد أكثر الأبحاث إثارة للجَدَل على الساحة. وعلى أيّ حال سنواصل البحث في هذا الشأن من خلال تتبُّع الأفكار المتنوِّعة، وأدلتها.
الرؤية الأولى في هذا الشأن تعبِّر عن سعة دائرة التشريع، بحيث لا تكون هناك واقعةٌ أو فعل إلاّ ولله فيها أحد الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة، وهي: (الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والحرمة). بل تذهب هذه النظرية إلى القول بجعل الحكم حتّى في المتلازمين، اللذين لا يحتاجان إلى جعل حكمين؛ لمجرّد الدليل القائل بعدم إمكان خلوّ الواقعة من حكمٍ([5]). طبقاً لهذه الرؤية يجب في كل حركةٍ التماس حكمها من الشريعة مسبقاً، وربما كان الحدّ الأقصى لهذا النوع من فهم الشريعة في مذهب الحنابلة بين أهل السنّة([6]). رغم أن النصوص الشيعية ـ على ما ستتأتي الإشارة إليه لاحقاً ـ لا تخلو من جذورٍ لهذه الرؤية.
أدلّة هذه النظرية
إن أصحاب هذه الرؤية ـ التي نعبِّر عنها بـ «الرؤية الشمولية» ـ يسندون رؤيتهم إلى القرآن الكريم والسنّة والعقل. وإليك نصٌّ في إثبات هذه الرؤية:
روى الصدوق، في كتاب إكمال الدين، عن عبد العزيز بن مسلم قال: «كنّا في أيام عليّ بن موسى الرضا× بمَرْو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة من بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلتُ على سيدي×، فأعلمتُه خوضان الناس؛ فتبسَّم×، ثمّ قال: يا عبد العزيز بن مسلم، جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، إن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ لم يقبض نبيَّه| حتّى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء، بيَّن فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كَمْلاً؛ فقال عزَّ وجلَّ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38)، وأنزل في حجّة الوداع ـ وهي آخر عمره| ـ ﴿…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً…﴾ (المائدة: 3). وإذا أمعنّا النظر بعين الإنصاف والعقل، سوف نقرّ بأن الله قد جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان، وأنه يريد له البقاء إلى يوم القيامة، وقد وصف نبينا بأنه خاتم الأنبياء، وعليه يجب بطبيعة الحال أن يكون قد بيَّن لنا جميع الأحكام، ولم يترك بيان شيء منها أبداً»([7]).
إن هذا المقال قد يكون أجمع ما كُتب في إثبات هذه النظرية؛ استناداً إلى القرآن الكريم والسنّة والعقل، في معرض إثبات جامعيّة وسعة مساحة الشريعة. وهناك مَنْ تحدّث عن هذه المسألة بصراحةٍ أكبر؛ إذ يقول: «يجب أن تندرج جميع أقوالنا وأفعالنا تحت واحد من الأحكام الخمسة، سواء ما كان منها حكومياً أو سياسياً، أو من العبادات أو المعاملات. قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89)»([8]).
إن النصوص والأدلة، ولا سيَّما الروايات، التي يمكنها أن تشكِّل سنداً لهذه الرؤية كثيرةٌ جدّاً([9]). وتبلغ دلالة بعض الأخبار حدّاً بحيث تَعُدّ القرآن الكريم وحده مبيِّناً لجميع ما يحتاجه الإنسان([10])، وإنْ كانت هناك الكثير من الروايات التي ترى في القرآن والسنّة معاً مبيِّناً لهذا الأمر، وليس القرآن الكريم وحده. (إن الكثير من روايات الأبواب المشار إليها في الأرقام السابقة تتكفَّل ببيان هذا الأمر).
ومن الجدير أن ندرك أن دلالة بعض الروايات تعتبر أن القرآن الكريم، أو مجموع القرآن والسنّة، تبياناً لكلّ شيء، وإنْ لم يكن هناك صلةٌ لذلك الشيء بحلال وحرام الشريعة. ومن هنا لا يمكن اعتبار مجال البيان وحده الذي يرسم حدود الشريعة والحلال والحرام، أو الأمور المرتبطة بهداية وسعادة الإنسان. (نقد على كلام العلامة الطباطبائي القائل: «إن القرآن المجيد لمّا كان كتاب هدايةٍ يهدي إلى صراط مستقيم، على أساس بيان حقائق المعارف التي لا غنى عن بيانها…، لم يفرّط فيه في بيان كلّ ما يتوقَّف على معرفته سعادة الإنسان، في دنياهم وآخرتهم…»([11]).
وفي ما يلي نستعرض روايةً دالّة على جامعية الشريعة. وفي هذه الرواية المعتبرة تحدَّث الإمام الصادق× إلى أبي بصير في وصف (الجامعة)، قائلاً: «يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلتُ: جعلت فداك، وما الجامعة؟ قال: صحيفةٌ طولها سبعون ذراعاً (بذراع رسول الله|، وإملاه من فلق فيه)، وخطّ عليٍّ× بيمينه، فيها كلّ حلالٍ وحرام، وكلّ شيءٍ يحتاج الناس إليه، حتّى الأرش في الخدش، وضرب بيده إليَّ، فقال: تأذن لي يا أبا محمد؟ قال: قلتُ: جُعلت فداك، أنا لك، اصنع ما شئتَ، فغمزني بيده، فقال: حتّى أرش هذا»([12]).
إن نظرية الشمول بصدد العثور على دليلٍ عامّ أو خاصّ من الشريعة لكلّ حركة أو سكون أو حادثة أو شأن، ولا ترى أيّ اعتبارٍ ومشروعية لبناءٍ من العُرف أو تأسيس من الناس ما لم يحصل على إمضاءٍ خاصّ من قِبَل الشارع. قال بعض القائلين بهذه النظرية: «يجب عدم السماع لمقالة قائلٍ يقول: لا شأن لنا مع الدين، ولن نقوم بتغيير الصلاة والصوم، وإنما كلّ ما نرومه هو تنظيم وتعديل الأمور السياسية والمدنية ودوائر الدولة فقط؛ فإن جواب هذا القول هو أن جميع هذه الأمور تندرج تحت حكمٍ من أحكام الشريعة التي نزلت عل النبيّ الأكرم|، وإن تجاوزها واعتبارها منفصلة عن الشريعة يعني في حدّ ذاته التخلّي عن حكم الله واتّباع حكم الجاهلية»([13]).
وفي مقابل هذه الرؤية تقف الجماعة القائلة بعدم شمولية الشريعة. إن أصحاب هذه النظرية، رغم اتفاقهم على عدم شمولية الشريعة، إلاّ أنهم يختلفون فيما بينهم في تحديد دائرة الشريعة. ويمكن في الحدّ الأدنى تقسيمهم في هذا الشأن إلى ثلاثة أقسام:
1ـ الجماعة التي تحصر دائرة الشريعة بالأخلاق الفردية والعبادات، وتعتبر جميع المعاملات والمسائل الاجتماعية والسياسية وغيرها خارجةً عن حدود الشريعة، وقالت بعدم وجود رأي للشارع في هذه الأمور. فالعقلاء هم الذين يؤسِّسون القوانين والقواعد في هذه الموارد، وأقصى ما يمكن للشارع أن يقوم بشأنها هو إمضاء هذه التأسيسات. إن هذه الجماعة تنكر حتّى البيان الأصولي العامّ والأخلاقي في هذا الشأن أيضاً، وإذا تمّت الإشارةُ في الآيات والروايات إلى أصلٍ فقد اعتبرت هذه الجماعة ذلك عائداً إلى عصر صدور هذه الأدلة، ولذلك لا يصحّ ـ من وجهة نظرهم ـ توظيف تلك النصوص في العصور اللاحقة. يمكن اعتبار العبارة التالية ناظرةً إلى هذه الرؤية: «أرى أن تلك المنظومة القائمة على الروايات هي منظومةٌ إرشادية، وليست مولويةً، بمعنى أنها إرشاد إلى منهج العقلاء… إن الشارع في ما يتعلَّق بمسائل من قبيل: المعاملات يلعب دَوْراً إمضائياً، لا دَوْراً تأسيسياً»([14]). وفي الرسالة التي كتبها فروغي ـ على ما يبدو ـ إلى الفقيه الكبير الشيخ عبد الكريم الحائري، بشأن حادثة نزع الحجاب، يقول: «إذا كان رأي سماحتكم يخصّ الثياب والقلنسوات فهو أمرٌ يدعو إلى العجب؛ إذ تتحدَّثون عن موافقة ومخالفة هذا النوع من الأمور لأحكام الشرع المقدّس»([15]).
في المرحلة الراهنة يتمّ التبليغ لفكرة الانعزال ـ تَبَعاً للغرب ـ على مساحةٍ واسعة من العالم، ولا سيَّما في إيران. وسوف نطلق على هذه الرؤية في الأبحاث الآتية مصطلح «نظرية الانعزال».
2ـ الجماعة التي تقول: إن بيان الأصول العامّة والكلّية يكون من قِبَل الشارع، والمسائل الشكلية والجزئية خارج دائرة الشريعة. انظر إلى النصّ التالي: «في ما يتعلَّق بالنظام المعيشي والاقتصادي الذي يختاره الناس، وما هو النموذج الذي يؤسّسون عليه نظامهم؟ نجد الشارع قد ترك الأمر إلى الناس أنفسهم، وحتّى الشريعة نفسها قالت: على الناس أن يضعوا أصول المقرّرات والقوانين بأنفسهم. وبطبيعة الحال حدَّد الشارع إطاراً لذلك؛ كي لا يكون في تجاوزه ظلماً على أحدٍ… إن مفهوم الحرّية يحظى بأهمّية خاصّة في الإسلام. ومعنى الحرّية هو أن يقوم الناس أنفسهم باتّخاذ القرارات في ما يتعلَّق بشؤون حياتهم الخاصّة… ولكنْ لو تمّ ترك الأمور إلى الناس أنفسهم بالمطلق، دون تحديد إطارٍ لهم في ذلك، رُبَما بادر كلُّ شخصٍ إلى رسم الأُطُر والحدود على وفق هواه، ولرُبَما أدّى ذلك إلى هضم حقوق الآخرين، وتضييع حقوق الضعفاء… ومن هنا عمد الشارع المقدَّس إلى تأسيس أصلٍ اجتماعي مهمّ، حيث قال تعالى: ﴿لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 279)»([16]).
طبقاً لهذا القول تكون الشريعة الإسلامية مبيّنة للأُطُر والأصول الأخلاقية والقِيَميّة العامة، من قبيل: الرحمة والعدالة والحرّية. وأما خارج هذا الأصول لا يكون للشارع المقدَّس من دَوْرٍ سوى إمضاء بناء العقلاء. والعبارة التالية تبيِّن وتوضِّح بدَوْرها هذا الرأي أيضاً: «إن أغلب نصوص باب السياسات في الكتاب والسنّة ليست ناظرةً إلى الأسئلة التي نطرحها اليوم حول القوانين الجزائية أو الحكومية وما إلى ذلك، ومن هنا تكون دلالتها على أحكام العصر الراهن منتفيةً. وعلى هذا الأساس فإن جميع هذه الأمور تندرج ضمن منطقة الفراغ، وتقتصر دلالتها على حدود الدلالة على عنصر «العدالة» و«الرحمة»، ولا تكون فيها دلالةٌ على أحكام معيّنة ومحدّدة، ولذلك تقع المسؤولية علينا من خلال ترتيب الآثار على تلك الدلالة المتناسبة مع الحقائق الاجتماعية والسياسية والصناعية والمعرفية للعصر الراهن، لنؤسِّس منظومة جزائية وقوانين حقوقية تلبّي الأهداف المذكورة أعلاه في المرحلة المعاصرة»([17]).
وقد عمد البعض من خلال الفصل بين «النظرية السياسية» و«التعليمات السياسية» إلى بيان هذا الرأي على النحو التالي: «هناك من المفكِّرين المسلمين مَنْ ينكر وجود نظرية سياسية في الكتاب والسنّة، ويعتبرون ذلك غير متناسبٍ مع شأن ومهمّة هذين المصدرين. يرى هؤلاء أن هذه المصادر إنما تحتوي على «تعليمات سياسية»، ولا تشتمل على «نظريّة سياسية». إن هذه المصادر تبيِّن تعليمات ترتبط بمساحة أبعد من الحياة الفردية، أي الحياة الاجتماعية والقرارات السياسية، وتضع بشأنها تكاليف محدّدة، إلاّ أن هذا شيءٌ، وبيان نظرية سياسية شيءٌ آخر»([18]).
إن هذا الكلام يعتبر بيان التعليمات الاجتماعية والسياسية والإرشادات العامة (في إطار أخلاق السلاطين والحكّام، وآداب المعاشرة والعلاقات بين الناس ومختلف الشعوب والأمم، على سبيل المثال) من وظائف وشؤون الشارع، وأما تقديم نموذج خاصّ للحكم أو الحياة الاجتماعية فهو خارج دائرة الشريعة.
وهناك مَنْ قال صراحةً بأن تدخُّل الشارع في هذه الموارد لا يتناسب مع مقامه ومنزلته، وأنه يؤدّي إلى انتهاك حرمة الشارع. وسوف نعبِّر عن هذه الرؤية في الأبحاث القادمة بـ «نظرية الإبهام».
أدلّة هذه النظرية
يمكن إسناد هذه النظرية إلى الوجوه التالية:
أوّلاً: إن الشريعة الخالدة لا يمكن أن تقدّم برنامجاً لجميع الأحداث والوقائع؛ فإن تدخُّل الشارع في جزئيات وتفاصيل الأمور ـ بالإضافة إلى عدم انسجامه مع عظمة مقامه ـ يؤدّي إلى ظهور شبكةٍ مغلقة ومتصلّبة لا يمكن لها أن تواكب المتغيِّرات والتحوّلات الاجتماعية، أو تنسجم مع التقدُّم والتكامل البشري. إن الشريعة الواقعة خلف سدٍّ منيع لا تستطيع التعاطي مع المعارف البشرية، أو هداية الإنسان في إطار التحولات الاجتماعية والإنسانية، إلاّ أن بيان الأصول والقِيَم العامّة، ضمن هداية الإنسان إلى أهدافه السامية ومصالحه، يبقي يده مفتوحةً في تأسيس القواعد والأعراف والتقاليد.
لقد تمّ في هذا الدليل الاستناد إلى عنصرين لإثبات المدّعى، وهما: «الضرورة»؛ و«الحكمة». إن ضرورة التناغم مع تحوّلات ومتغيّرات الشؤون البشرية تقتضي بالمقنِّن والمشرِّع الحكيم أن يعمل على بيان ورسم الخطوط العامة والقِيَميّة، ولا يتعرَّض إلى التفاصيل والجزئيات.
وثانياً: إن الوجه الآخر الذي يمكن أن يكون سنداً لهذا الرأي هو انسجام هذا النوع من التخطيط والتشريع (اعتبار الخطوط العامّة هي الهدف) مع مقاصد وأهداف الشريعة؛ فحيث يمكن للشارع أن يضمن مقاصده من خلال رسم الأُطُر والخطوط العريضة ما هي الحاجة إلى قيامه بالتشريع في جزئيات وتفاصيل الأحداث أيضاً؟
إن المعقول هو أن يقوم المقنِّن بترك ما هو خارج البرنامج العامّ إلى عُرف الناس وعقولهم، بل ويجيز لهم حتّى تسمية تقاليدهم وأعرافهم بأنها «برنامجٌ شرعي وسياسة إلهية». وقد جاء في كلامٍ منسوب إلى ابن قَيِّم [الجوزية] أنه قال: «إن السياسة الشرعية لا تعني بالضرورة التطابق مع أحكام الشريعة الصريحة. فكلّ خطوةٍ تعمل من الناحية العملية على تقريب الناس من الصلاح، وإبعادهم عن الفساد، تشترك في هذه السياسة الشرعية، حتّى إذا لم يَرِدْ تصحيحها من قِبَل النبيّ الأكرم|، ولم يقرِّرها الوحي الإلهي»([19]).
إن هذا الوجه يقوم على «عدم احتياج» المقنِّن في هداية البشرية وتحقيق أهدافه إلى تشريعٍ آخر غير تشريع الأصول العامّة والكلّية، دون أن يريد الاستفادة من عنصرٍ مثل: عنصر «الضرورة».
وثالثاً: تمّ إسناد هذه النظرية إلى بعض الروايات أيضاً، أو يمكن لها أن تكون مستنداً (في الوَهْلة الأولى)، وهي رواياتٌ من قبيل:
ـ قال رسول الله|: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»([20]).
إن هذا الحديث يدلّ على إذن الشارع للناس في تأسيس الأصول والقواعد التي تتعلَّق بحياتهم([21]).
ـ رُوي عن رسول الله| أنه قال: «إن الله تعالى حدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وسنّ لكم سنناً فاتَّبعوها، وحرَّم عليكم حرماتٍ فلا تنتهكوها، وعفا لكم عن أشياء؛ رحمةً منه من غير نسيانٍ، فلا تتكلَّفوها»([22]).
يمكن اعتبار موارد العفو هي الأمور المرتبطة بحياة الناس.
3ـ الفئة الثالثة من القائلين بالمحدودية النسبية لحدود الشريعة هم الذين يقولون بالمحدودية المذكورة، ويرَوْن خطأ القول بنظرية الشمولية على النحو المتقدِّم ويعتبرونها متطرّفة؛ ولكنّهم قالوا في الوقت نفسه ببطلان تحديد دائرة الشريعة بالأخلاق الفردية والعبادات (من المجموعة الأولى)، ونظرية الحصر والتحديد ببيان الأصول العامة والقِيَميّة (من المجموعة الثانية) أيضاً. تذهب هذه الفئة إلى الاعتقاد قائلةً: على الرغم من عدم وجوب أن يكون للشارع حكمٌ لكلّ حركةٍ وبرنامج وخطوة، وتقديم سند في هذا الشأن، إلاّ أن الأسناد الشرعية المتوفِّرة (الأعمّ من النقلية والعقلية) لم تكتفِ ببيان الإرشادات العامة ورسم الخطوط العريضة وبيان الأصول الأخلاقية، بل بيَّنت العديد من القضايا (حتّى في غير العبادات)، دون أن تتعلَّق بزمانٍ أو مكان أو جماعة بعينها.
إن دائرة العبادات في هذه الرؤية تكتسب في الغالب صبغةً تعبُّدية، ولا مجال فيها لأعراف وتقاليد الناس. إن دائرة العبادات على المستوى الكمّي والكيفي هي ـ في الأساس ـ ما تمّ تشريعه، بمعنى أن الناس لا شأن لهم في مقابل العبادات؛ كي يقال: هل العبادات المشروعة تشمل جميع تلك الشؤون أم أن بعض تلك الشؤون خارجةٌ عن مجال الشريعة؟ وكأنّ الإنسان ينتظر وصول أمرٍ من الله في سياق مناجاة وعبادة الله سبحانه وتعالى؛ كي يعثر في هذا الشأن على علقةٍ ويعمل بها. وبطبيعة الحال من الممكن للإنسان بمقتضى العقل والفطرة أن يمارس أصل المناجاة، أو يقوم ـ بمقتضى العادة أو الذكريات المتبقّية عن الأديان السابقة ـ بحركةٍ أو شكلٍ خاصّ على شكل مناجاة وعبادة، ويعمل الشارع على إمضائها. وأما في شريعة الإسلام ـ التي هي محور حديثنا ـ فعلى الرغم من تحقُّق هذا الأمر، حدث من التغيير في جزئيات وتفاصيل وشرائط العبادات الممضاة، من قبيل: الصلاة والصوم والحجّ، بحيث أضفَتْ على هذه العبادات صبغة التأسيس. مع أن كلامنا في إطار العثور على أسس الناس وتأسيسات العقلاء. وغير التعبُّد في العبادات، وإمضاء الشارع في العبادات التي ورثناها من الأديان السابقة، لا يتنافى مع هذا الكلام. وبطبيعة الحال إن القول بخروج العُرف والعقلاء والعقل عن دائرة العبادات، والقبول بما حدَّده الشارع في هذه الدائرة، قلَّما تمّ تناوله بالبحث والنقد داخل إطار الدين. وإن النقد من خارج إطار الدين لهذه الشؤون وإنْ كان ممكناً ـ بل واقعاً ـ، إلاّ أنه لا صلة له بموضوع بحثنا. وعلى هذا الأساس نواصل هذا البحث ـ كما كان يقتضيه فضاء الأبحاث والأمثلة حتّى الآن ـ من خلال التركيز على غير العبادات، أي مختلف شؤون حياة الإنسان، من قبيل: المعاملات، والاقتصاد، والسياسة، والحكم، وما إلى ذلك. ونواصل البحث ونختمه عبر مرحلتين، وهما:
1ـ التوضيح والبيان الأدقّ والأوضح لهذا الرأي الأخير، الذي نعبّر عنه بـ «الرأي المعتدل».
2ـ إثبات هذا الرأي، بعد نقد سائر الأفكار، ودراسة المسألة من زاوية العقل والتجربة والنصوص الدينية.
المرحلة الأولى: توضيح الرأي المعتدل
على الرغم من إشباع هذه المرحلة بالبحث والنقاش إلى حدٍّ كبير، فإننا سنعمل ـ بدافع المزيد من التوضيح وبيان هذه الرؤية بشكلٍ أفضل ـ على مواصلة البحث من خلال استعراض النماذج والأمثلة المستحصلة من هذه النظرية:
ـ تحدّث السيد حسن المدرّس، في كلامه عن (قانون أصول المحاكمات الجزائية)، المصادَق عليه سنة 1320هـ.ش (1941م)، قائلاً: «لقد سعيتُ في حدود الإمكان إلى العمل على وضع القوانين الجزائية بحيث توافق الشرع، وأن لا تكون الموارد الخاصّة بالأمور الإدارية مخالفةً للموازين الإسلامية([23]).
إن القوانين الحكومية لا صلة لها بالأحكام والتكاليف الشرعية، ولا تتعارض أو تتزاحم مع قواعد المتشرِّعة، أصلاً وفرعاً، بأيّ وجهٍ من الوجوه، بل هي دائماً من قبيل: تعيين الموضوعات (التعبير بـ «المصداق» هو الصحيح، وليس بـ «الموضوع»). وعليه فإن صحة ولزوم الكبرى المتمثِّلة بالحفاظ على بيضة الإسلام وبقاء الطريقة الجعفرية ليس موضع شبهةٍ من أحد. وأما الصغرى المطروحة حالياً بمقتضى هذا الزمن، وما هي العلوم والمعارف والأسباب والآلات التي لها دخلٌ أكثر في بقاء الطريقة الجعفرية؟ فهي أمورٌ داخلة في الموضوعات. وإن المصادقة عليها ترتبط برؤية وإدارة القادة من علماء الشعب، وعائدة إلى مصادقة المفكِّرين وعقلاء البلد من ذوي الخبرة والاطّلاع في الشؤون السياسية والمدنية([24]).
جاء في المادة رقم 16 من قانون العقوبات الإسلامية، المصادَق عليه في الشهر التاسع (شهر آذر) من سنة 1370هـ.ش (1991م)، ما يلي: «إن (التعزير)، تأديباً أو عقوبةً، لم يَرِدْ تحديد نوعها ومقدارها في الشرع، وتمّ تركها لرأي الحاكم، من قبيل: الحبس والعقوبة المالية والجلد، ومقدار الجلد يجب أن يكون أقلّ من مقدار الحدّ».
وجاء في المادة رقم 17: «إن (العقوبة الرادعة)، تأديباً أو عقوبةً، يتمّ تحديدها من قِبَل الحكومة من أجل الحفاظ على النظم ومراعاة مصلحة المجتمع في مقابل التخلف عن القرارات والأنظمة الحكومية، من قبيل: الحبس والعقوبة المالية وإغلاق المحال التجارية أو رخصة مزاولة التجارة وما إلى ذلك. وإن المدرسة والنظرية الاقتصادية في الإسلام تشتمل على جهتين وناحيتين، وهما: جهة مضمونة من ناحية التشريع الإسلامي بشكلٍ منجّز وقطعي وغير قابل للتغيير؛ والجهة التي تسمّى بـ «منطقة الفراغ»، حيث لا يوجد قانونٌ خاصّ في التشريع الإسلامي، وإن الدولة أو وليّ الأمر هو الذي يتكفَّل بوضع القوانين والتشريعات فيها بما يتطابق والمصالح والظروف الخاصّة الحاكمة من جهةٍ، وبما يتطابق مع الأهداف الاقتصادية العامّة للإسلام من جهةٍ أخرى»([25]).
وكما تلاحظون، ويُستفاد من النصوص السابقة، إن عدم مخالفة الشريعة ـ في التفكير المعتدل ـ يكفي في قبول الأعراف والقوانين الموضوعة من قِبَل البشر. في هذه الرؤية يتمّ النظر إلى الكثير من الأبنية والتأسيسات التي يضعها الناس والعقلاء بوصفها مصاديق لكلّي وعامّ له في الشريعة حكمٌ ثابت ولا يقبل التغيير. ومن هنا لا ضرورة لإصدار الشارع حكماً خاصاً لتلك المصاديق، وأن يقدِّم الفقيه سنداً لها. يوجد في هذه الرؤية منطقة فارغة من الجعل والتشريع الخاصّ، حيث يعمل الحاكم بملاحظة العناصر المقرَّرة من قِبَل الشارع على وضع القوانين والتشريعات. وبطبيعة الحال إن ما ذكرناه حتّى الآن من هذه الرؤية يمكن اعتباره تفسيراً مشهوراً ومعروفاً عنها، بَيْدَ أنني أرى أننا إذا أردنا الوصول إلى الواقع والفكرة الخالصة، ومن دون أيّ إفراط وتفريط في فهم وبيان دائرة الشريعة، يجب أن نأخذ بعض الأصول بنظر الاعتبار، وهذه الأصول هي:
1ـ خلوُّ الواقعة من حكمٍ أمرٌ ممكن وواقع، بل واجبٌ وضروري. ليس هناك من الناحية العقلية دليلٌ يحتِّم على المقنِّن والشارع أن يجعل حكماً لكلّ حركةٍ وفعل وانفعال اختياريّ، بل حيث إن جعل الحكم على شكل عمل من المقنِّن يجب أن لا يكون لَغْواً وعَبَثاً، لا يمكن تصوُّر جعل حكم للحركات غير المتناهية (مهما كان ذلك الحكم) على نحو عامّ، وفي وقتٍ واحد.
وعلى هذا الأساس فإننا لا نعتقد بالتقسيم الخماسي للأحكام التكليفية، ولا نرى «الإباحة» شيئاً سوى عدم الأحكام الأربعة. كما نرى أن الأدلة التي تدلّ على إباحة الأشياء مبيّنة لنفي الأحكام الأربعة، وليست مبيّنة لجعل التساوي بين الفعل والترك (الإباحة)؛ إذ إن جعل الحكم يجب أن يكون بدافع التحريك وإيجاد الحافز، ومثل هذا الأثر لا يترتَّب على جعل الإباحة. وبعبارةٍ أخرى: إن مؤدّى أدلة الإباحة هو الإخبار عن عدم الاعتبار والحكم، وليس إنشاء الحكم([26]).
2ـ إن النصوص الواردة عن القرآن وسنّة المعصوم× قد تمّ تقسيمها باعتبارات متنوّعة. وهذه التقسيمات هي:
ـ النص المبيِّن للحكم الإلهي (الأوّلي أو الثانوي)؛ والنصّ المبيِّن للحكم الولائي أو الحكومي أو القضائي (وهذا من أروع الأبحاث المرتبطة بأصول الفقه، حيث يشتمل على رؤيةٍ علمية ومنضبطة إلى النصوص من جهة التقسيمات المذكورة في النصّ. وللأسف الشديد إن هذا البحث يسلك أشدّ مراحله الابتدائية في هذا العلم، بحيث يتمّ الاكتفاء بذكر بعض النصوص الأصولية على مستوى الإشارة فقط إلى بعض الأقسام فقط، من دون بيان ضابطةٍ واضحة. وعلى الأجيال القادمة أن تتناول هذا البحث المؤثِّر في الاستنباط، وتعمل على إشباع نصوصه وهوامشه بالدراسة والتنقيب).
ـ القضية الدالّة على الحكم المولوي، والقضية الإرشادية.
ـ الدليل الحاكي عن الحكم الشرعي، والدليل الهادي إلى الأساليب التنفيذية والعملية. (يرى كاتب هذه السطور أن بعض الروايات ـ ولا سيَّما روايات باب الديات، والتي تتحدَّث عن أحكام أمير المؤمنين× ـ ناظرةٌ إلى تنفيذ الحكم الشرعي، وتنظر أحياناً إلى أفضل الوسائل في التنفيذ، وليست مبيِّنةً للحكم الشرعي. ومن هذا القبيل: الروايات الدالّة على اعتبار نظر الخبيرين العدلين الذكرين في التقييم، وهناك شواهد على هذا الكلام).
ـ السند الدالّ على القضية الحقيقية والكلّية، والسند الدالّ على القضية الخارجية والجزئية.
ـ الأدلة الدالة على الأوامر التشريعية والتقنينية والمبيِّنة للضرورات والمحظورات، والأدلة الدالة على الوجود والعدم. (إن بعض الأدلة ـ ولا سيَّما الأدلة المبيِّنة للخواص الطبيعية لبعض الأشياء والأعمال، وتتمّ استفادة الاستحباب أو الكراهة منها ـ تبيِّن الأمر التكويني، دون أن تكون سنداً لجعل الحكم الشرعي، حتّى إذا كان ذلك في إطار الاستحباب أو الكراهة).
ـ الآيات والروايات المبيِّنة للحكم، والآيات والروايات المبيِّنة للمقاصد. (إن أسلوب وعُرف الفقهاء في الاستنباط يقوم على أن بعض النصوص تبيِّن حكم وسند اكتشاف الحكم الشرعي، إلاّ أن تعاطيها مع بعض النصوص ليس كذلك. يمكن المقارنة ما بين ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ و«المؤمنون عند شروطهم»؛ وبين ﴿اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ و«إنّما بُعثْتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق». إن للقاعدتين الأوليين حضوراً واسعاً في استنباط الأحكام والنصوص الفقهية، وأما النصّان الأخيران فليسا كذلك. إن التوجيه الفنّي لهذا الاختلاف يكمن في أن المجموعة الأولى في تفكير الفقهاء مبيّنة للحكم، خلافاً للمجموعة الثانية التي لا تمثِّل نصّاً تشريعياً، وإنما تبيِّن المقاصد العامة للشريعة. إن هذا الشرخ، وإنْ أمكن النقاش في مثاله وصغراه، يمثِّل واحداً من الضرورات في الاجتهاد، حيث يجب على الفقيه أن يأخذه بنظر الاعتبار).
ـ النصوص المبيّنة للأحكام والمقرّبات، والمبيّنة لمناطات وعلل الأحكام. (إن النص المبيّن للحكمة والمقرِّب للحكم لا يصلح للاستناد في غير مورده، أما النصّ المبيّن للتعليل فيمتلك هذه الصلاحية. وفي علم أصول الفقه تمَّتْ الإشارة إلى الاختلاف الثبوتي بين الحكمة والعلة، أما الضابطة الإثباتية للدليل المبيّن للعلة والحكمة فقلَّما تمّ إخضاعه للبحث، وهو بحثٌ في غاية الضرورة).
لا شَكَّ في أن الحديث عن دائرة الشريعة، وحدود اختيارات الناس واعتبار أعرافهم وتقاليدهم في هذا الشأن، لا يمكن أن يأتي دون ملاحظة هذه التقسيمات في النصوص الشرعية. هل مدّعي الفقاهة والاستنباط، الذي يعتبر جميع النصوص الموجودة في غير العبادات (باستثناء عددٍ لا يتجاوز الأصابع) حاملاً لحكمٍ إلهيّ مولوي، ويرى القضايا بشكلٍ عامّ قضايا حقيقية، والذي لا يحمل مثل هذه الرؤية تجاه النصوص، ويذهب في بعض الأحيان إلى حدّ الإفراط في تصوُّر القضايا الدينية تاريخيةً وناظرة إلى الشرائط الخاصّة لصدور هذه النصوص، يصلان إلى رؤيةٍ واحدة بشأن بيان مجال الشريعة؟! لا شَكَّ في أن الأمر ليس كذلك. إن هذا الأصل يثبت أن على الفقيه الذي يدّعي استنباط واستكشاف الشريعة من الأسانيد أن يعمل على تصنيف النصوص على أساس ضوابط واضحةٍ وفنّية، ويقوم بتحديد النصوص بما يتطابق مع الاعتبارات والتقسيمات التي تقدَّم ذكرها، ويفصِّل بين الأدلة المبيّنة للحكم الإلهي الأبدي عن غيره؛ ليصل بعد ذلك إلى التعيين الدقيق لمجال الشريعة، ويمارس عملية الاستنباط.
والملفت أن هذا التقسيم والتعيين المذكور وإنْ كان يستند على نحو الإجمال والارتكاز إلى رؤية الفقيه بشأن مجال الشريعة، إلاّ أن هذا الاستناد لا يؤدّي إلى الدَّوْر المحال، وإخفاق الفقيه في فهم مجال الشريعة أو تقسيم النصوص. وفي الحقيقة إن الوصول إلى الفهم الدقيق والتعيين التفصيلي لمجال الشريعة يتوقَّف على تقسيم الأسناد والمدارك بما يتطابق مع التقسيمات التي تقدَّم ذكرها. وإن التقسيم المذكور يتوقَّف على الفهم الإجمالي والارتكازي لمجال التشريع، وهو الفهم الذي يتمّ الحصول عليه من الأُنس بنصوص الدين ومصادره. (إن الذي تمّ بيانه في هذا الأصل يثبت مدى ما يحتاج إليه الاستنباط وفهم وبيان مجال الشريعة من التخصُّص والدقّة والأُنس بالنصوص وأقسامها، ومدى الاعتباطية في مؤلَّفات بعض الكتاب المُكْثِرين في هذا الشأن، وسذاجة النتائج والثمار المترتِّبة على أفكارهم).
3ـ على ما هو مستفادٌ من أسلوب وعُرف الشارع المقدّس، وما سنعمل على إثباته في البحث عن ترسيخ هذه الرؤية في المرحلة اللاحقة، فإن الأصل الحاكم على فعل الشارع في غير العبادات يقوم على الإمضاء وتصحيح ما عليه الناس من البناء، إلاّ إذا ثبت خلافه بالدليل المعتبر. يمكن لهذا الأصل أن يكون مرجعاً لرفع الترديد في حالة الشكّ؛ كما له تأثيرٌ جَذْريّ في نظرة الفقيه إلى الأدلة والأسناد الشرعية المتوفِّرة. إن هذه الرؤية لا تنظر إلى مجال المعاملات وغير العبادات (في الكثير من الموارد في الحدّ الأدنى) بوصفه مجالاً لتأسيسات الشرع، ويؤمن بحضور الشارع في موقع إمضاء وتصحيح أبنية العُرف. إن الاعتقاد بهذا الأصل اعتقادٌ معتدل يبتعد عن الإفراط في إنكار مطلق التأسيس من ناحية الشارع في غير العبادات، وعن التفريط في القول بتعبُّدية مطلق الأدلة في غير المعاملات.
وعلى الرغم من أن الأصل الحاكم على التشريع الإسلامي في غير العبادات قائمٌ على الإمضاء وعدم التعبُّد، لا يمكن لهذا الأصل في موارد وجود الدليل الخاصّ على التشريع غضّ الطرف عن الدليل، والإصرار على الإمضاء وتصحيح ما عليه بناء العُرف والناس. إن الأصل في نظرة الشارع إلى بناء الناس وتأسيسات العقلاء ـ بمقتضى هذه القاعدة ـ هو «التصحيح والتكميل»، دون «التبديل والتغيير».
4ـ رغم تأكيد الإسلام على حصرية حقّ التشريع بالذات المقدَّسة لله تعالى، ومصادقة العقل بدَوْره على هذا التأكيد أيضاً، لا يمكن أن ننكر أن تعيين مؤسّسة أو مؤسسات للتقنين والتشريع تعمل ـ بالالتفات إلى الأُطُر والمقاصد العامة للشارع وبلحاظ الظرفيات والمصالح ـ على التقنين والتشريع يُمثِّل جزءاً من التشريع الإلهي أيضاً. إن القبول بمؤسّسة أو مؤسّسات تشريعية ـ بالشكل الذي تقدَّم ذكره ـ أمرٌ لم ينكره فقيهٌ وأصوليّ خبير بالمعارف الدينية والأسناد الشرعية ومقتضيات الحياة البشرية.
5ـ إن من بين الأصول ذات التأثير الكبير في فهم وتحديد مجال الشريعة، ومقدار تأسيس وإمضاء الشارع، وقبول أو ردّ العُرف والتقاليد وبناء العقلاء، هو «حجّية العقل» في الشريعة الإسلامية. وإن الفقهاء والأصوليين قاطبةً ـ (وإن التعبير بـ «قاطبة» تعبيرٌ يدعو إلى التأمُّل ومخالفٌ لما هو شائع على الألسنة)([27]) ـ قد قبلوا بحجّية العقل ومدركيّته في كشف الشريعة. ومن ناحيةٍ أخرى إن جذور وأسس الكثير من موارد العُرف وبناء العُقلاء ناشئةٌ من إدراك العقل والقوة الرياضية والمصلحية لدى الناس، وعليه فإن إدراك المصالح والمفاسد (في غير العبادات) ممكنٌ بالنسبة إلى العقلاء، وإذا كان هناك بناءٌ أو قاعدة يتمّ تأسيسها على أساس إدراك العقل، وتقييم ملاكات المصالح والمفاسد، لا ينبغي الشكّ في إمضائها من قِبَل الشارع، ولا حاجة إلى توسيع دائرة تأسيس الشريعة في هذه الموارد.
يبدو ـ بالالتفات إلى هذا الأصل ـ أن التعبير بـ «الفراغ القانوني» و«منطقة الفراغ»، الوارد في كتابات بعض المفكِّرين، ليس دقيقاً؛ (هناك مَنْ قال: «من الأنسب استبدال مصطلح «الفراغ القانوني» بـ «اختيار الجعل القانوني لوليّ الأمر في إدارة الحكم والدولة»)([28]). وبطبيعة الحال هناك موارد لما يصطلح عليه بالفراغ من القانون، ومنطقة الفراغ من التشريع الأبدي، والفراغ من وجود النصّ والدليل الخاصّ، ولكنْ ليس هناك ما هو فارغٌ من مطلق القانون. فهي المنطقة التي تعمل فيها المؤسّسة التشريعية بواسطة أحد الحجج والأدلة المعتبرة عند الشارع ـ ونعني به العقل ـ بمهمّة التقنين والتشريع، وحيث إن هذه المؤسّسة تستمدّ من العقل، والعقل أحد الأدلة المعتبرة في عملية الكشف، يمكن لنا أن ننسب الاعتبار والحكم الناتج من هذا المسار إلى الشارع، واعتباره «حكماً شرعياً» أو «مطلوباً للشارع».
والنتيجة الأخرى المترتِّبة على هذا الكلام هي أنه ليس من الضروريّ التعبير بـ «الموافق للشرع» و«غير المخالف للشرع» ـ على ما هو واردٌ في بعض كتب المتقدِّمين، ويستفاد منه في المرحلة الراهنة من قِبَل البعض ـ؛ إذ إن الذي يجب أن يتّصف بـ «عدم مخالفة الشرع» إذا كان ناشئاً عن العقل الرياضي والمصلحي لماذا لا يتّصف بـ «موافقة الشرع»؟! إن القائلين بتعدُّد هذين العنوانين، والفصل بين «الموافق للشرع» و«غير المخالف للشرع»، كأنّهم قالوا بأن الشرع هو القرآن والسنّة فقط، وأرادوا بالموافق للشرع ما وافق القرآن والسنّة، وتوصَّلوا إلى هذين العنوانين والفصل بينهما؛ في حين أن إدراك العقل جزءٌ من الشرع أيضاً، والذي يوافق العقل يُعَدّ موافقاً للشرع أيضاً. أفليس القرآن والسنّة يصرّان على اعتبار المدركات العقلية ـ التي تشكِّل بعض موارد بناء الناس جزءاً منها ـ؟! إذن يجب بحكم القرآن والسنّة اعتبار ما وافق العقل موافقاً للشرع أيضاً. وبعبارةٍ أخرى: يجب تقسيم ما وافق الشرع إلى ما وافق النقل وما وافق العقل، وليس جعل ما وافق العقل قسيماً لما وافق الشرع. ومن الأفضل استبدال تقسيم الأمور إلى: شرعية؛ وعقلية (من قبيل: الحكم الشرعي والعقلي، والبراءة الشرعية والعقلية، والدليل العقلي والشرعي)، بتقسيمها إلى: النقلية؛ والعقلية.
إن الأصول التي أتَيْنا على ذكرها توضِّح رؤية الاعتدال في فهم وبيان مجال الشريعة. لقد أوضحَتْ هذه الأصول أن الأمور في غير العبادات وإنْ كانت منظورةً للمشرِّع، إلاّ أن حضوره الرئيس في هذا المجال ـ إلاّ في الموارد التي تعرّض فيها على نحو التعبُّد الخاص ـ هو «حضور الإمضاء والتصحيح والتكميل»، وليس «التبديل والتغيير والتأسيس».
المرحلة الثانية: ترسيخ فكرة الاعتدال، ونقد سائر الأفكار
أرى أن رؤية الاعتدال لا تحتاج إلى برهانٍ واستدلال، وإن تصوّرها ـ بحَسَب المصطلح ـ يستلزم تصديقها. ولكنْ من أجل ترسيخها بشكلٍ أكثر، ورفع أيّ مورد للشكّ في هذه الرؤية، وبيان بعض مشاكل سائر الآراء، يجب القول: يدور كلامنا حول الشريعة العالمية والخالدة، وإن مثل هذه الشريعة لها مقتضيات لا يمكن للشارع الحكيم أن يتجاوزها، ولا يأخذها بنظر الاعتبار. والاقتضاء الأوّل في ذلك هو ملاحظة وتصوّر الأوضاع الزمانية والمكانية المتنوّعة، وكذلك الأعراف والعادات والتقاليد السائدة بين المخاطَبين والمكلَّفين بالقانون. ومع وجود هذه الشرائط والظرفيات، التي لا يمكن إنكارها، هناك ثلاث طرق أمام الشارع، وهي:
1ـ أن يتنكَّر لجميع الظرفيات وعناصر التغيير، وأن يعمل بمعزلٍ عن هذه الشرائط على جعل قوانين متصلِّبة وغير متناغمة، بحيث يضطرّ الناس إلى تكييف أنفسهم مع تلك الضوابط الثابتة، ويتأقلمون معها، مهما كلَّف الأمر.
2ـ أن يعمل على تنظيم أمر التقنين والتشريع، من خلال وضع العشرات والمئات من القوانين والتشريعات العامّة والخاصّة، والناظرة إلى مختلف الظروف المتنوّعة.
3ـ أن يعمل على بيان الأصول الكلّية والعامة والمقاصد والقواعد القابلة للتطبيق في مختلف الحالات، ويترك سائر الأمور والموارد إلى مؤسّسة أو مؤسّسات، أو حتّى إلى الناس أنفسهم، في إطار بعض الشروط.
من الواضح أن الخيار الأوّل خيارٌ مهيض وغير موفَّق؛ فإن إبداع مجموعةٍ من القرارات والقوانين الصلبة وغير الناظرة إلى الشرائط المختلفة لم ولن يكون مورد نظر الشارع وتأييد العقل أبداً.
كما أن الخيار الثاني مستحيلُ التحقُّق على المستوى العملي؛ فحتّى إذا أمكن تقديم تصويرٍ صحيح وجامع لهذا الخيار في عالم الافتراض والتقدير وعالم الذهن، إلاّ أنه لا يكون عملياً على مستوى التطبيق والإجراء وتعيين المؤسّسة التنفيذية. مَنْ ذا الذي يجب أن يحدِّد أن هذه الوضعية الخاصة تنسجم مع هذا القانون المجعول، وأن هذه الصغرى مصداقٌ لتلك الكبرى؟ وعليه فإن الذي يبقى في البين هو الخيار الثالث، وهو الذي عبَّرنا عنه بـ «رؤية الاعتدال».
ومن خلال هذه المقدّمة نصل إلى بطلان نظرية الشمول التي تقدَّم بحثها سابقاً. إن هذه النظرية، على الرغم من اعتبارها الشريعة ـ في الوهلة الأولى ـ شريعةً جامعة وشاملة، وقالت بحضورها في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، وكلّ شاردةٍ وواردة، قد غضَّتْ الطرف عن عالميّتها وخلودها، وحشرتها في زاويةٍ مكانية وزمانية ضيِّقة، وهذه أكبر ضربةٍ يمكن تسديدها إلى جسد الشريعة الإسلامية العالمية الجامعة والخالدة. ورُبَما لهذا السبب لا نجد ـ (خلافاً لتصوُّر غير الخبراء بالنصوص الفقهية) ـ فقيهاً منضبطاً معتقداً بنظرية الشمول. ومن ذلك أن الشيخ الأنصاري& ـ مثلاً ـ من الفقهاء الذين أرى أنه قد توجّه إلى حدٍّ كبير إلى أدلّة المعاملات وغير العبادات بنظرة التعبُّد وشيوع مجال الشريعة، واعتبر حتّى أصعب وأشمل السِّيَر العقلائية في المعاملات قابلة للردّ من ناحية الشرع أيضاً. ومن هذا القبيل: تشكيكه في سيرة العقلاء بشأن التعامل بالمعاطاة([29])، ومن هذه الناحية يمكن الإشكال على استنباطاته الجزئية. ومن بين موارد تعبّد الشيخ الأنصاري ما نراه في بيع السلاح إلى أعداء الدين([30])، وبيع العنب ممَّنْ يعمله خمراً([31])، وخيار تخلُّف الشرط([32])، وخيار تأخير الثمن([33])، وكيفية إرث الحقوق([34])، وما إلى ذلك من الأمور الأخرى. ومع ذلك كلّه ذهب في بعض الموارد إلى استبعاد التعبُّد، ولم يرَ ضرورةً لتأسيس الشارع، وأكّد على احترام بناء وعُرف الناس من قِبَل الشارع([35]).
إن حصيلة البحث في النصوص الدينية والفقهية والأصولية هو فهم هذه الحقيقة، وهي أن الشارع المقدَّس في ما يتعلَّق بالمعاملات قد حافظ على معاملات الناس وتأسيساتهم، وعمد إلى تهذيب العادات التي يستقبحها، وقام بإصلاحها. ومن هنا فإن لغة النصوص في المعاملات ـ خلافاً للمسار السائد في العبادات ـ هي في الغالب لغةُ ردعٍ ونهي، وليست لغةَ تأسيسٍ وإثبات([36]). ولهذا السبب إن عدد النصوص الواردة من قِبَل الشارع المقدَّس في العبادات لا يمكن مقارنته مع عدد النصوص الواردة في الأبواب الأخرى([37]).
لقد أثَّر هذا الأسلوب من الشارع المقدَّس حتّى على سيرة ومنهج علماء الفقه والأصول أيضاً، ومن هنا نجد الفقهاء يتحدَّثون عن «المكاسب المحرَّمة»، ولا يرَوْن ضرورة للتأليف في «المكاسب المحلَّلة»؛ ويرَوْن المعاملات أمراً عقلائياً، ويتحدّثون عن الردع والتخطئة([38]). قال الإمام الخميني: «إن المعاملات عقلائيةٌ، لا بُدَّ فيها من الردع»([39]). كما أن القرآن الكريم يأمر القائمين على الاستنباط بالتماس الدليل على الحكم بتحريم الطعام، وذلك في قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ…﴾ (الأنعام: 145)، وإلاّ فإن حكم الشارع على طبق بناء الناس، وعلى مسلك إنكار الإباحة التكليفية تخلو الواقعة من الحكم.
نقد الأدلة الدالة على نظريّة الشمول
أشَرْنا في ما تقدَّم إلى بعض الآيات والروايات التي قد تكون منشأً للقول بالشمول. ولكنْ يمكن الإجابة عن الاستفادة المذكورة من هذه الأدلة بوجوهٍ. وفي ما يلي نجمل هذه الوجوه على النحو التالي:
1ـ الذي يُستفاد من هذه النصوص هو إشراف الشارع المقدَّس وتشريعه لاحتياجات الإنسان؛ ولكنّها لا تدلّ على نفي إمضاء وإنكار المؤسّسة أو المؤسّسات التشريعية وردّ العُرف وبناء العقلاء. يمكن (بل يجب) اعتبار ترك التقنين إلى المؤسّسات التشريعية؛ بالالتفات إلى مقاصد الشريعة العامة والاحتياجات والمتغيرات المرتبطة بحياة الإنسان وتقاليد الناس وبناءاتهم، جزءاً من التشريع الإلهي. والشاهد على هذا التوجيه تعاطي الفقهاء مع هذه النصوص. ومن ذلك مثلاً أنه قيل في صحيحة أبي المصير المتقدّمة: إن هذه الرواية تدلّ على تعيين الأرش ومقدار الخسارة من قِبَل الحاكم أو البيّنة، بمعنى أن الشارع المقدّس قد جعل تحديد الأرش والخسائر ـ غير المحدّدة من قِبَل الشرع المقدَّس ـ إلى الحاكم الشرعي؛ بالالتفات إلى خبرة الخبراء. وبعبارةٍ أخرى: إنهم قد اعتبروا هذه الرواية دالّةً على تعيين مؤسّسة الحكومة من أجل التقويم، وليست معبِّرةً عن جعل مقدارٍ معيَّن من أرش الخدش وغيره([40]).
2ـ لا شَكَّ في أن التعاطي الانتقائي والأحادي في المسألة ذات النصوص والروايات المتنوّعة ليس صحيحاً. وعلى المحقِّق المتتبِّع الضابط ملاحظة النصوص والأدلة المتنوّعة؛ من أجل العثور على طريقٍ جامع من بينها. وهذه الحالة هي السائدة في المسألة مورد البحث؛ إذ هناك، في مقابل النصوص المتقدّمة، أدلّةٌ تعبِّر عن عدم تدخُّل الشارع في بعض الأمور. وقد سبق أن أشَرْنا إلى رواياتٍ في هذا الشأن، وهي الروايات التي تعبّر عن سكوت الله في بعض الموارد، وعدم جعل الحكم والتكليف في تلك الموارد؛ وكذلك الروايات التي تتحدَّث عن استعداد أكثر الناس، ومنهم: النبيّ الأكرم|، للنظر بشأن أمور دنياهم؛ وهناك رواياتٌ تدلّ على وجود بعض موارد الخلأ تحت عنوان: «المعضلات»، التي لم يَرِدْ بيان حكمها في الكتاب والسنّة، بحيث إن الإمام عليّاً× نفسه ـ وهو باب مدينة العلم وأمير العلم والبيان ـ لم يكن يعلم بها، ولكنّه كان يُلْهَم حكمها. عن أبي جعفر× قال: «كان عليٌّ× يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، فإذا ورد عليه الشيء الحادث الذي ليس في الكتاب ولا في السنّة ألهمه الله تعالى إلهاماً، وذلك والله من المعضلات»([41]).
وخلاصةُ الكلام أنه؛ بالالتفات إلى مجموع الأدلة، لا يمكن اعتبار الروايات والآيات المستند إليها في نظرية الشمول دالّةً على هذه النظرية.
3ـ إن التأمُّل في الروايات المتعدّدة يثبت أن الأدلة مورد البحث ليست بصدد إثبات نظرية الشمول، وجعل الحكم الموردي والمشخّص لكلّ واقعةٍ وحادثة، بل هي ناظرةٌ إلى الشمول النسبي للأحكام الخاصّة، والشمول المطلق للأحكام العامّة، وهي بصدد ضرب التيارات والأشخاص الجاهلين المغرورين الذين لا يستفيدون ـ بسبب عدم نضجهم ـ من القرآن والسنّة حتّى بالنسبة إلى الموارد التي يكون فيها تشريعٌ خاصّ، ويلجأون بَدَلاً من ذلك إلى طرقٍ غير موثوق بها، من قبيل: القياس؛ وآرائهم الشخصية. وفي مقابل هذه الفوضى كان الأئمّة المعصومون^ يصرّون على سعة وشمولية القرآن والسنّة (بشكلٍ عامّ أو خاصّ)، وكانوا يردعون الناس عن الانجرار وراء الفوضى غير المؤدّية إلى الشريعة الإلهية. فما هي علاقة هذا المضمون ـ في ضوء الاستفادة من سعة الشريعة ـ بجعل الأحكام الخاصّة، والنهي عن أبنية العقلاء والناس؟!
وإليك روايةٌ في هذا الشأن: «عن أبي الحسن× قال: إنما هلك مَنْ كان قبلكم بالقياس، وإن الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يقبض نبيّه حتّى أكمل له جميع دينه في حلاله وحرامه، فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته، وتستغيثون به وبأهل بيته بعد موته، وإنها مخبيّة عند أهل بيته، حتّى أن فيه لأرش الخدش، ثم قال: إن أبا حنيفة ممَّنْ يقول: قال عليٌّ؛ و قلتُ أنا»([42]).
وعلى أيّ حال إن نظرية الشمول ـ على النحو المتقدِّم ـ لا تستند إلى أساسٍ عند الفقهاء المحقِّقين، ولا دليل عليها من النصوص الدينية والعقل السليم.
نقد نظرية الانعزال والإبهام
إن رؤية الانعزال المطلق للشريعة عن الحياة الدنيوية وما يرتبط بمختلف شؤون حياة الإنسان، والقول بالإبهام واكتفاء الشريعة ببيان عددٍ من الأصول الأخلاقية العامّة، وترك التقنين والتشريع إلى الناس في ما يتعلَّق بحياتهم الخاصّة، قابلٌ للنقد من عدّة جهات:
1ـ إن الأدلة القائمة على ضرورة إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية، والتي لا ترى العقل البشري وحده كافياً لهداية الإنسان إلى الغاية النهائية، تدلّ على ضرورة التشريع حول شؤون حياة البشر([43]). كيف يمكن الجمع بين الرؤية التي تجعل الإنسان محوراً في التقنين بشأن المسائل الكلّية والجزئية، وحصر الدين والشريعة في إطار الأمور الأخلاقية والفردية أو إضافة بيان بضعة أصول كلّية وأخلاقية، من قبيل: الرحمة والعدالة والمساواة، وبين الأدلّة التي تؤكِّد على حاجة الإنسان إلى الهداية الإلهية والأنبياء المعصومين المسدَّدين من السماء؟
في حين أن وجود الحبّ والبغض والمصلحة والانفعال اللاشعوري للبشر، والتي هي من ارتدادات وانعكاسات العوامل المحيطة بالإنسان، تشكِّل موانع تجعل من تحرُّر البشر في التقنين أمراً غير مؤكَّد([44]). والعجيب أن البعض عندما يتمّ الحديث عن فهم وتفسير النصوص الدينية يعتبر ذهن المفسِّر متأثِّراً بعَشَرات من الخلفيات، بحيث لا يستطيع الإقبال على النصّ وهو فارغ الذهن من أيّ رواسب سابقة. ولكنْ عندما يكون الكلام حول التقنين والتشريع يرى الإنسان قادراً على إدراك المصالح والمفاسد، وتفريغ نفسه من جميع الموانع التي تحول دون الإدراك الصحيح.
2ـ إن تجاهل وجود مئات الآيات وآلاف الروايات في الموسوعات الروائية الدالّة على التشريع في مختلف المجالات المرتبطة بحياة الإنسان، واعتبار هذه النصوص بأجمعها ناظرةً إلى عصرٍ ومكان بعينه، بالإضافة إلى عدم وجود دليلٍ عليه، يخالف الكثير من هذه النصوص نفسها. إن القائلين بنظرية الانعزال والإبهام يستخدمون كلاماً غير فنّي وغير علميّ في إرجاع جميع هذه القضايا إلى قضايا ناظرةٍ إلى الأوضاع الخاصّة وغير الدائمة([45]). بَيْدَ أنه بالإمكان، بأبسط عبارةٍ وأدنى تأمُّل بشأن أدلّة جامعية الدين، إثبات اضطراب هذا الكلام. لقد حدَّد علماء الأصول في علم أصول الفقه ضوابط للقضايا التشريعية وغير التشريعية، والإنشائية والإخبارية، والحقيقية والخارجية؛ للحيلولة دون هذا الاضطرابات في الأقوال والأفكار.
3ـ إن المشكلة الأخرى الموجودة في رؤية «الإبهام» هو إبهامها. فمَنْ ذا لا يعلم أن اعتبار عددٍ من القضايا الكلّية، من قبيل: الرحمة، ومراعاة الحرّية والعدالة، والتي يمكن للعقل أن يدركها على المستوى الكلّي أيضاً، ولا حاجة إلى اعتبارها من قِبَل الشارع، ليس سوى اعتبار مجموعة من الأمور الكلّية؟! إن العدالة غير المفسّرة، والرحمة غير المبيّنة، والحرّية غير المعرّفة، لا تمثِّل حاجة الإنسان في التقنين، ولا سيَّما إذا أضَفْنا إلى ذلك وادي النسبية السحيق، وكنا أيضاً ـ على حدّ تعبير بعض أصحاب هذه الرؤية ـ من القائلين بـ «عدالة وعقل العصر» (والرحمة المكانية حتماً)([46]).
ومن خلال تتبُّعي للكثير من أعمال وكتابات القائلين بفكرة الإبهام (وحتّى الانعزال) لم أعثر على أيّ بيانٍ واضح يجيب عن التساؤلات الجوهرية. فلا نرى في هذه الكتابات والأقوال سوى بضعة انتقادات غير منتجة([47]).
4ـ إن انفصال الصدر والذيل وعدم الانسجام في كلمات أصحاب رؤية الإبهام يمثِّل مشكلة أخرى، تضيِّق الخناق على هذه النظرية. انظر إلى النصّ التالي: «أرى أن الروايات في هذه الموارد (المعاملات) هي إرشاديةٌ نوعاً ما، وليست مولوية. فهي إرشادٌ إلى أسلوب العقلاء… إن جميع أحكام المعاملات هي ضرورةٌ عقلائية، وما دامت ضروريةً وشائعة يتمّ إمضاؤها من قِبَل العقلاء، وبالتالي فإن الشارع كان يمضيها أيضاً؛ لأن الشارع في مسائل من قبيل: المعاملات يمارس دَوْر الإمضاء، دون التأسيس»([48]).
إن صدر هذا الكلام من خلال التعبير بـ «نوعاً ما» يميل إلى فكرة الاعتدال، في حين أن الكلام اللاحق، الذي يتمّ التعبير فيه بـ «جميع الأحكام»، يؤدّي إلى رؤية الانعزال أو الإبهام.
ويقول الآخر: «في ما يتعلّق بالنظام المعيشي والاقتصادي الذي يختاره الناس، وما هو النموذج الذي يؤسِّسون عليه نظامهم؟ نجد الشارع قد ترك الأمر إلى الناس أنفسهم، وحتّى الشريعة نفسها قالت: على الناس أن يضعوا أصول المقرّرات والقوانين بأنفسهم. وبطبيعة الحال قد حدَّد الشارع إطاراً لذلك؛ كي لا يكون في تجاوزه ظلمٌ لأحدٍ… ولكنْ لو تمّ ترك الأمور إلى الناس أنفسهم بالمطلق، دون تحديد إطارٍ لهم في ذلك، رُبَما بادر كلّ شخصٍ إلى رسم الأُطُر والحدود وفق هواه، ولرُبُما أدّى ذلك إلى هضم حقوق الآخرين، وتضييع حقوق الضعفاء، وسادت شريعة الغاب؛ إذ سوف يقوم كلّ شخصٍ بجرّ النار إلى قرصه… ومن هنا عمد الشارع المقدَّس إلى تأسيس أصل اجتماعيّ مهمّ، حيث قال تعالى: ﴿لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾… إن علماء السَّلَف في دراستهم لأنواع الشركات في عصرهم انتبهوا إلى وجود ثلاثة أنواع من الشراكات، والتفتوا أثناء تقييمهم لها إلى أن نوعين منها لا يتنافيان مع القواعد العامّة والكلّية للشرع، ولذلك فإنهم أفتَوْا بجواز هذين النوعين، ولكنهم أبطلوا النوع الثالث من الشراكة، وهي التي تُعْرَف باسم شراكة الوجوه، رغم حكم عقلاء العالم بجواز وإباحة هذا النوع من الشراكة. بَيْدَ أن الفقهاء قد توصَّلوا إلى أن شراكة الوجوه لا تنسجم مع القواعد الأوّلية للشرع. إن شراكة الوجوه تقوم على أساس الاعتبار، بمعنى أنها لا تقوم على أساس النقود والثروة ورأس مال العمل، ولا تستتبع عملاً…»([49]).
إن الأمر الذي يجب أن نقوله لهذا القائل المحترم هو:
1ـ هل يمكن الجمع بين ردّ نوعٍ خاصّ من أنواع الشراكة المقبولة من قِبَل عقلاء القوم وبين النفي المطلق للتعبُّد والتأسيس، الذي يصرّ عليه صاحب هذا الكلام؟! هل يمكن لنا ـ بعد افتراض ترك مطلق النظام المعاشي والاقتصادي والعقود إلى عُرف الناس، وبيان أصلٍ واحد أو عددٍ من الأصول الكلّية ـ أن نتحدَّث عن بطلان عقدٍ مقبول من قِبَل عقلاء العالم؟! ما هي تلك «القواعد العامّة والأوّلية والكلّية للشرع» التي لا تنسجم معها شراكة الوجوه؟ هل يمكن لعبارة: «إن شراكة الوجوه تقوم على أساس الاعتبار، بمعنى أنها لا تقوم على أساس النقود والثروة ورأس مال العمل، ولا تستتبع عملاً» أن تنسجم مع منهج الانعزال أو الإبهام ونفي أيّ نوعٍ من أنواع التشريع التأسيسي في الشريعة؟!
2ـ كيف يجب على الشارع المقدَّس أن يحدِّد إطاراً؛ بدافع الحيلولة دون ظلم المقتدرين المتمكّنين، والمنع من تحقيق المصالح والأطماع الشخصية للناس، على أن يكون هذا الإطار مقبولاً من قِبَل عقل كلّ عاقلٍ، ولكنْ ليس من الضروري أن يقول شيئاً أو أن تكون له هداية وراء هذا الإطار؟ إذا كان عدم الإطار يؤدّي إلى قانون الغاب أفلا يؤدّي عدم القانون في الدائرة التي يمكن للشارع أن يضع قانونه إلى مثل هذه الحكومة والقانون أيضاً؟
وعلى أيّ حال إن رؤية الانعزال والإبهام ـ خلافاً للزخرفة والبهرجة التي أُحيطت بها، وحصولها على بعض الأتباع والأنصار في الدوائر غير الاختصاصية ـ هي رؤيةٌ في غاية الضعف، وفاقدةٌ للأساس العلمي.
كما أن الأدلّة التي أوردناها في توجيه هذه الرؤية ـ رغم عدم عثورنا على دليلٍ واضح منها ـ وإنْ كانت تطيح برؤية الشمول، إلاّ أنها لا تثبت هاتين الرؤيتين. يجب الاستفادة من هذه الأدلة ـ كما صنعنا نحن ـ في إثبات نظرية الاعتدال. والحقيقة هي أن هاتين الرؤيتين عبارةٌ عن اعتقادٍ مضطرب، وموقفٍ غير عمليّ في مواجهة رؤية الشمول المتطرِّفة.
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلميّة في مركز دراسات الفكر الإسلاميّ، وأستاذُ بحث الخارج في الفقه والأصول في الحوزة العلميّة في قم. له مؤلَّفاتٌ عديدة.
([1]) انظر: العهد الجديد، إنجيل متّى، الإصحاح 22، الفقرة 21؛ إنجيل مرقس، الإصحاح 12، الفقرة 16.
([2]) مصطفى الخميني، تحريرات في الفقه (الخيارات) 4: 66، مؤسّسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، ط1، 1376هـ.ش.
([3]) الفضل بن شاذان النيشابوري، الإيضاح: 3 ـ 4، إعداد: السيد جلال الدين الحسيني الأرموي، نشر دانشگاه، ط1، طهران، 1351هـ.ش.
([4]) محمد مجتهد شبستري، هرمنوتيك كتاب وسنّت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة): 55 (الهامش)، نشر طرح نو، ط1، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).
([5]) انظر: الآخوند الخراساني، كفاية الأصول 1: 21 و211، كتابفروشي إسلامية، طهران.
([6]) انظر: سيد مرتضى تقوي، جايگاه فقه در أنديشه ديني (منـزلة الفقه في التفكير الديني)، فصلية فقه أهل البيت^، العدد 6: 223 ـ 224، قم، 1374هـ.ش. (مصدر فارسي).
([7]) أبو الحسن المرندي، دلائل براهين الفرقان (المطبوع ضمن رسائل المشروطة): 198 ـ 199، إعداد: غلام حسين زرگري نجاد، نشر كوير، ط2، طهران، 1377هـ.ش.
([8]) محمد حسين التبريزي، كشف المراد من المشروطة والاستبداد (المطبوع ضمن رسائل المشروطة): 142، إعداد: غلام حسين زرگري نجاد، نشر كوير، ط2، طهران، 1377هـ.ش.
([9]) انظر: الكليني، أصول الكافي: 76 ـ 80، إعداد: الحاج السيد جواد المصطفوي، انتشارات علمية إسلامية، طهران؛ المجلسي، بحار الأنوار 26: 18 ـ 66، مؤسّسة الوفاء، بيروت 1402هـ.
([10]) انظر: الكليني، أصول الكافي: 77.
([11]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 7: 81، دار الكتب الإسلامية، ط2، طهران، 1394هـ.
([12]) المجلسي، بحار الأنوار 26: 39.
([13]) التبريزي، كشف المراد من المشروطة والاستبداد (المطبوع ضمن رسائل المشروطة): 142، 1377هـ.ش.
([14]) مهدي الحائري، آفاق فلسفة (آفاق الفلسفة): 126 ـ 127، إعداد: مسعود رضوي، نشر فروزان، ط1، طهران، 1379هـ.ش. (مصدر فارسي).
([15]) انظر: حسين بُدلا، هفتاد سال خاطرة (خواطر سبعين سنة): 118 (الهامش)، تدوين: مركز أسناد انقلاب إسلامي، مركز أسناد انقلاب إسلامي، ط1، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).
([16]) محمد هادي معرفت، مقالة تحت عنوان: (اقتراح)، منشورة في مجلة (نقد ونظر)، العدد 1: 60 ـ 61، دفتر تبليغات إسلامي، قم، 1373هـ.ش. (مصدر فارسي).
([17]) عبد الكريم سروش، بسط تجربة نبوي (بسط التجربة النبوية): 46، نشر صراط، طهران، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).
([18]) محمد مجتهد شبستري، إيمان وآزادي (الإيمان والحرّية): 71، نشر طرح نو، ط1، طهران، 1376هـ.ش. (مصدر فارسي).
([19]) محمد هاشم كمالي ومحمد سعيد حنائي كاشاني، سياست شرعيه يا تدابير حكومت إسلامي (السياسة الشرعية أو تدابير الحكومة الإسلامية)، مجلة خبرنامه دين پژوهان، العدد 12: 39 ـ 40، وزارت فرهنگ وإرشاد إسلامي (دبيرخانه دين پژوهان)، قم، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).
([20]) صحيح مسلم (شرح النووي): 117 ـ 118، دار الفكر، بيروت، 1401هـ.
([21]) كمال الدين جعيط، العرف مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة، العدد الخامس، الجزء الرابع: 3169، جدّة، 1409هـ.
([22]) المجلسي، بحار الأنوار 2: 263، ح11، دار الوفاء، ط3، بيروت، 1403هـ.
([23]) محمد علي هدايتي، آيين دادرسي كيفري (قوانين المحاكمات الجزائية): 12. (مصدر فارسي).
([24]) انظر: عماد العلماء خلخالي، بيان معنى مشروطه وفوائدها (المطبوع ضمن رسائل المشروطة): 298، نشر كوير، ط2، طهران، 1377هـ.ش؛ يوسف الفاضل الخراساني، كلمه جامعه شمس كاشمري (المطبوع ضمن رسائل المشروطة): 633، نشر كوير، ط2، طهران، 1377هـ.ش؛ عباس علي عميد زنجاني، مجلة أفق حوزه، العدد 9: 4، نشر الحوزة العلمية، قم، 1381هـ.ش.
([25]) الشهيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 378، 680، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1411هـ. وانظر أيضاً: الشيخ محمد حسين النائيني، تنبيه الأمة وتنـزيه الملّة: 98، شرح وتقديم: السيد محمود الطالقاني.
([26]) انظر: أبو القاسم علي دوست، فقه وعقل: 174 ـ 175، مؤسسه فرهنگي دانش وأنديشه معاصر، ط1، طهران، 1381هـ.ش. (مصدر فارسي).
([27]) انظر تحقيق المطلب في: أبو القاسم علي دوست، فقه وعقل: 19 ـ 20. (مصدر فارسي).
([28]) انظر: محمد الرحماني، منطقة الفراغ، مجلة نقد ونظر، العدد 5: 249، شتاء عام 1374هـ.ش. (مصدر فارسي).
([29]) انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، المتاجر (المكاسب): 83، 116.
([30]) انظر: المصدر السابق: 19.
([31]) انظر: المصدر السابق: 17.
([32]) انظر: المصدر السابق: 289.
([33]) انظر: المصدر السابق: 245.
([34]) انظر: المصدر السابق: 292.
([35]) انظر: المصدر السابق: 212 (الطبعة الحجرية)؛ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 35: 20؛ 16: 51، تصحيح: محمد الآخندي، دار الكتب الإسلامية، ط7، طهران، 1392هـ؛ حسين علي المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه 2: 644، المركز العلمي للدراسات الإسلامية، ط1، قم، 1408هـ.
([36]) راجِعْ: الروايات والعناوين المذكورة في الجزء الثاني عشر من كتاب وسائل الشيعة، وستجد في الكثير من هذه الروايات والعناوين مادّة أو صيغة النهي ومفردة التحريم ومشتقّاتها، واللعن وتفريعاته من ذات المادة، والتعبير بـ «لا يصحّ» وأمثال ذلك، وحتّى بعض الروايات أو العناوين الواردة بعباراتٍ من قبيل: «يجوز» و«يصحّ» هي من قبيل: الموارد، التي هي من النوع الذي يتطرَّق إليها الحَظْر والمنع، ورأى الشارع ضرورة التصريح بجواز وصحّة العقد في تلك الموارد، وإلاّ لم تكن هناك ضرورةٌ لهذا التصريح في الظروف العادية.
([37]) قيل في هذا الشأن: «إن مجموع كتاب وسائل الشيعة، المؤلَّف من عشرين جزءاً، قد اختصّ منها ما يزيد على الثمانية عشر جزءاً بالروايات، وقد اختصت عشرة أجزاء منه بستّة أبواب من الفقه، وهي: الطهارة، والصلاة، والزكاة، والخمس، والصوم، والحجّ، التي هي من العبادات، من بين ما مجموعه 52 كتاباً في فقه الشيعة إذا ارتضَيْنا هذا التقسيم. إن هذه الكتب الستّة قد اشتملت على 19901 رواية، من بين 35843 رواية في هذه الموسوعة الروائية؛ وإن سائر الروايات الأخرى البالغ عددها 15942 تخصّ كتب فقه الشيعة الأخرى، والتي يبلغ عددها 46 كتاباً».
([38]) انظر على سبيل المثال: الآخوند الخراساني، كفاية الأصول 1: 49، نشر كتاب فروشي إسلامية، طهران.
([39]) الإمام الخميني، مناهج الوصول 2: 163، مؤسّسة وتنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، ط1، 1373هـ.ش.
([40]) انظر: أبو القاسم الخوئي، مباني تكملة المنهاج: 266 ـ 267، المطبعة العلمية، ط2، قم، 1396هـ.
([41]) المجلسي، بحار الأنوار 26: 55، الباب 1 من أبواب علومهم، ح113؛ 32، ح48؛ 19، ح2.
([42]) انظر: المصدر السابق: 34، ح56؛ 33، ح52.
([43]) إن هذا النقد يأتي من داخل الدين، ويمثِّل خطاباً لأولئك الذين يؤمنون بضرورة إرسال الرسل وإنزال الكتب، أما النقد من خارج الدين، والذي يخاطب الذين لا يؤمنون بضرورة الإرسال والإنزال المذكور، ويعتقدون بعدم حاجة الإنسان إلى الهداية الإلهية في هذا الإطار، فهو خارجٌ عن موضوع بحثنا في هذه الرسالة.
([44]) لقد تناولنا هذا البحث بالتفصيل في كتاب (الفقه والعُرف)، وهو في طريقه إلى الطبع والصدور قريباً.
([45]) سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية): 29، 1378هـ.ش؛ سروش، أخلاق خدايان (أخلاق الآلهة): 103، طرح نو، ط3، طهران، 1380هـ.ش؛ مجتهد شبستري، إيمان وآزادي (الإيمان والحرّية): 71، نشر طرح نو، ط1، طهران، 1376هـ.ش. (مصادر فارسية).
([46]) مجتهد شبستري، نقدي بر قراءت رسمي أز دين (نقد القراءة الرسمية للدين): 51، 162، 342، وغيرها، دفتر تبليغات إسلامي، ط1، قم، 1379هـ.ش. (مصدر فارسي).
([47]) انظر: داود مهدوي زادگان، أفق إين جهاني در معنى زدائي أز دين (الأفق الدنيوي في محو المفهوم الديني)، صحيفة زمانه الشهرية، العدد 13: 37 ـ 51، مؤسّسه فرهنگي دانش وأنديشه معاصر، طهران، 1382هـ.ش. (مصدر فارسي).
([48]) مهدي الحائري، آفاق فلسفة (آفاق الفلسفة): 126 ـ 127، إعداد: مسعود رضوي، نشر فروزان، ط1، طهران، 1379هـ.ش. (مصدر فارسي).
([49]) محمد هادي معرفت، مقالة تحت عنوان: (اقتراح)، منشورة في مجلة (نقد ونظر)، العدد 1: 60 ـ 66، دفتر تبليغات إسلامي، قم، 1373هـ.ش. (مصدر فارسي).