تمهيد
مقارنة الأديان مسارٌ لا يستهدف تسجيل نقاط، بل يرى أنّ فهم الأديان بطريقة المقارنة والمقاربة يعيد إنتاج فهمنا للدين بطريقةٍ جديدة ومختلفة.
لن أتحدّث هنا ببحث مستقلّ وشامل، بل سأقدّم خواطري من وحي تخصُّصي الجامعي في مجال مقارنة الأديان الإبراهيميّة؛ لتحفيز القارئ على أهمّية هذا التخصُّص، وخاصّةً طلاب العلوم الدينيّة.
ثمّة جَدَلٌ في مشروع مقارنة ومقاربة الأديان، لا أقلّ من زاويتين:
سؤال الإمكان في مقارنة الأديان
الزاوية الأولى: في إمكان المقارنة وجدوائيتها العامّة. وهذا بحثٌ فلسفي، ينشأ من أنّ فكرة المقارنات لا معنى لها؛ لأنّ كلّ شيء هو في ظرفه الزمكاني لا يمكن أن يُقارَن بغيره الذي هو في ظرفٍ آخر، ومن ثمّ فكلّ شيء هو هو، والفرديّة سمةٌ خالصة قاطعة فيه، وهو كلٌّ لا يتجزأ، ومن هنا لا معنى للتفضيل أو عكسه، بل المقارنات هي التي تلحق بفكرنا أكبر الضرر، انطلاقاً من نزعة أصالة الجزئي، التي اشتهرت منذ عصر النهضة، بل قبله، مع الفلسفة الأُوكاميّة (نسبةً إلى أحد أبرز فلاسفة ما يُسمّى بالقرون الوسطى، وليام الأُوكامي المتوفّى عام 1347م)، وإلى يومنا هذا. ومن ثمّة فليست هناك تصوُّرات عالميّة، بل دائماً البناءات الفكريّة هي محلّية أو قومية، وهذا ما يشبه الفرق بين المذهب الكلاسيكي في الأدب، والذي يقوم على فكرة الإنسان الكلّي الأنموذج، والمذهبي الرومنطيقي، الذي ظهر منذ القرن الثامن عشر، وتراجع منذ أواسط القرن العشرين، والذي يقوم على فرديّة كلّ فرد، وأنّ الفرد نوعٌ، واعتبار نقاط تميّزه عن غيره هي الأصل والأساس، ومن ثمّ يجب التخلّي عن فكرة النوع الكلّي.
زاوية الرؤية هذه يعارضها كثيرون اليوم، بل الاتجاه الفكري الذي بدأ بالنشاط الواسع خاصّة مع بدايات القرن العشرين يميل نحو تأصيل الفكر المقارن في الأديان والحضارات والفلسفات والثقافات؛ تارةً بهدف أداتي ينشُد الكشف عن (الفلسفة العالميّة الكونيّة)، وهي العناصر المشتركة بين الفلسفات، أو (الدين العالمي) بهذا المفهوم، أو (الثقافة العالميّة)؛ وأخرى بهدف الكشف عن الروح الواحدة الكامنة في كلّ تجلّيات الأديان أو الفلسفات، وهو ما تعبِّر عنه مدرسة (الحكمة أو الفلسفة الخالدة)، التي ترى أنّ تعدُّد الأديان أو الفلسفات ليس إلاّ تجلّيات وظهورات لحقيقةٍ واحدة كامنة خلفها، فالتعدُّد في الفلسفة العالميّة حقيقيٌّ، لكنْ إلى جانبه وحدة مستهدَفَة بالاكتشاف؛ تمهيداً لخوض حوارٍ عالميّ، ولكنّه في الحكمة الخالدة تعدُّدٌ شكليّ ظهوريّ، وليس في الحقيقة سوى شيءٍ واحد ودينٍ واحد، فتوجّه الفلسفة الخالدة توجّه نحو الجوهر، يشبه توجّه شلايرماخر وإيزوتسو نحوه عندما كانا يريان أن اللغة والمفاهيم ترجمات للجوهر، وليستا عينه.
إنّ ثورة المعلوماتيّة، ودخولنا عصر القرية الكونيّة، لم يعُدْ يسمح لنا بتجاهل الآخر، فقد ولّى ذلك الزمن، فقد صار الآخر ملاصقاً لنا في كلّ شيء، ومن ثمّ لم يعُدْ يمكن بناءُ حياةٍ عمليّة وتواصليّة ومعرفيّة صحيحة دون وعي الآخر وفهمه.
الجانب العملاني من مقارنة الأديان
إنّ الجانب الآخر من علم مقارنات الأديان هو الجانب العملاني، ففي هذا العلم تنشأ عناصر الالتقاء، وتظهر مكوِّنات الجمع. وهذا الظهور، أو في المقابل: هذا التلاشي لمفهوم التباين الحادّ بين الديانات، يمكنه أن يكون بناءً لحوارٍ أدياني عالمي، لا يستهدف نشر السلام في العالم فحَسْب، وهو بالتأكيد له دَوْرٌ عظيم في نشر السلام؛ إذ لا سلام في العالم من دون سلام الأديان والمذاهب، كما يقول المفكِّر اللاهوتي السويسري المعاصر المثير للجدل هانس كونج، في كتابه (الإسلام رمز الأمل، القِيَم الأخلاقيّة المشتركة للأديان)… بل هو أيضاً يستهدف تكوين جبهة دينيّة عريضة، يمكنها التصدّي بشكلٍ فاعل أكثر لأزمات العصر الحديث والعواصف الأخلاقيّة والروحيّة والنفسيّة ـ بل والمادّية ـ التي تهدّد الكائن الإنساني اليوم على الأرض، بل تهدّد الأرض نفسها وخيراتها وطاقاتها.
فالأديان يمكنها ـ باللقاء الحقيقي القائم على فتح باب المقارنات والمقاربات، تمهيداً لوَعْي الذات والآخر وَعْياً أعمق ـ اكتشاف الجبهة الموحَّدة الكامنة فيها، ثم تحمّل مسؤوليّاتها اليوم في قضايا العالم، وهذه حاجةٌ أديانيّة وإنسانيّة معاً:
أـ أمّا أنّها حاجةٌ أديانيّة؛ فلأنّ الأديان مطالبةٌ بلعب دَوْر في إصلاح الإنسان، وهي بتحمّلها مسؤوليّات الاشتغال على أزمات العصر الحديث تقوم بدَوْرها، ممّا يجعلها فاعلةً في حياة البشر، ويحول دون تلاشيها. والكلّ يعرف أنّ هناك مراهنات كثيرة على دخولنا مرحلةً برزخيّة خلال القرون الأخيرة، سيخرج فيها الإنسان من عصر الدين (الميتافيزيقا) إلى عصرٍ جديد، تماماً كما خرج ـ برأي هؤلاء ـ من عصر الديانات البدائيّة جدّاً، مع السحر والشعوذة (مثل: الشامانيّة Shamanism)، نحو الأديان الناضجة التي أتَتْ مع الأنبياء وأمثالهم… ثمّة مراهنات واشتغالات على أن يتمّ الانتهاء بشريّاً من مرحلة الدين خلال مائة أو ألف عام، وهناك مَنْ يبذل جهوداً في هذا الصدد. والأديانُ بحضورها في قضايا الإنسان الحديث تُثبت ذاتها، وتحوّل هذه المراهنات إلى وَهْمٍ، أمّا لو تراجع حضورها عبر هذه الجبهات العريضة، واشتغلت بذاتها الضيّقة، فإنّ هذا سوف يعطي فرصةً قويّة للتيار الآخر لتعزيز فرص تلاشي الأديان تماماً.
ومن الواضح لنا جميعاً أنّ الاشتغال على الانتهاء من (الزمن الديني) لم يكن وليس نزهةً؛ فقد عرف الغرب الحديث ـ منذ القرن الثامن عشر وإلى اليوم ـ تأسيس بدائل للدين في الحياة: من القانون الوضعي بوصفه بديلاً عن الشريعة، إلى (الأخلاق العلمانيّة) بوصفها بديلاً عن (الأخلاق الدينيّة)، وهناك الكثير من المقارنات بين هاتين المدرستين من الأخلاق؛ لإثبات تفوُّق الأخلاق العلمانيّة على الدين وقدرتها على بناء صفاء داخلي وسلام عالمي…، إلى العلوم الإنسانيّة وما أفرزَتْه من علومِ وفنونِ المهارات وبناء الذات، والتي حلّت محلّ العمل الديني على بناء الإنسان وكينونته، وخاصّة مع المدرسة الوجوديّة، التي بلغت أَوْجها مع سارتر(1980م) وهايدغر(1976م) وغيرهما، بل الطبيعة نفسها، والتي كانت دائماً مستمسك الأديان للعبور نحو الله. ها هو العلم الحديث ـ عبر الداروينيّة وفيزياء الكمّ وغيرها ـ يشكِّك في هدفيّة الطبيعة وعناصر الغائية في الخَلْق، ليقول بأنّ كلّ ما حصل هو مجرّد مسارات صمّاء غير واعية، ومن ثم يهزّ برهان النظم وبرهان الهداية وغيرها من البراهين…
إنّ مقارنات الأديان مشروعٌ عظيم لتكوين جبهةٍ موحّدة، لا للبناء على خيال الماضي، والمراهنة على أوهامٍ تلاشت بفعل تطوّر العلوم، بل للبناء على حقائق تثبت اليوم أنّ تشييء الإنسان (جعله شيئاً)، والفراغ الروحي والأخلاقي الذي بات يعيشه في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، يجرّان نحو المعنويّة، فهل ستتمكّن الأديان من أن تقدّم الأنموذج الأفضل للحياة المعنويّة والأخلاقيّة للبشر عبر جبهةٍ عريضة من التنسيق والإصلاحات أو أنّها ستفشل في هذا، وستكون بنفسها عنصر اضطراب وتوتّر وقلق يَفْقِد الإنسانُ الحديثُ معها هويّتَه الأصيلة ـ بحَسَب التعبير الهايدغري ـ أو يغرق في الاغتراب عن ذاته ـ بحَسَب الأدبيات الهيجليّة والماركسيّة ـ؟
هذا كلّه يعني أنّ الجبهة الأديانيّة الموحّدة حاجةٌ للأديان نفسها وبقائها ونجاحها وتقدّمها أمام جبهة اللادينيّة القائمة اليوم بأطيافها المتعدّدة. ونصيحتي المتواضعة أن لا يغترّ أبناء الديانات بمفهوم الفطرة، ويراهنوا عليه، وهو مفهومٌ لا أنفيه البتّة، بل بالعكس، قناعتي أنّ الإنسان أمام الله كقطعة الحديد أمام المغناطيس، قد تبتعد تارةً لكنّها سرعان ما تنجذب، فحركتُها منحنيةٌ؛ لأنّ هذا هو تكويننا؛ فالفيض الإلهي كوَّن فينا هذا الإيمان الطبيعي، كما يقول كارل رانر(1984م)؛ لكنّ اغترار أهل الديانات بالفكرة يمكن أن يبعث فيهم الكسل والشعور بالغرور، وأنّهم لا يمكن أن يزولوا أو ينتهوا. لهذا يجدر التنبُّه لهذا الأمر.
ب ـ وأمّا أنّها حاجةٌ إنسانيّة؛ فلأنّ عصرنا الحاضر بل كلّ العصور تؤكّد بأنّ الدين فاعلٌ قوي في السلام والحرب، ومن ثمّ فلبناء تفاهم عالمي وصلح أو سلام عالمي لا بُدَّ أن يكون للدين دَوْرٌ. فالإنسان اليوم بحاجة لدَوْر ديني موحّد من كبرى القضايا التي تؤرّقه في العالم؛ لأنّ نضوج القرارات الدينيّة في العالم اليوم يمكنه أن يساعد البشر على تخطّي المآزق التي وقعوا فيها، أو يعانون منها، كائناً مَنْ كان السبب في وقوعهم فيها.
هل تؤثّر مقارنة الأديان على فهم الإنسان دينَه الخاصّ؟!
الزاوية الثانية: في تأثيرات المقارنة على فهم الدين الشخصي. وأعني بهذه الزاوية ما يتّصل بشكلٍ خاصّ بالأديان الإبراهيميّة. وأحاول هنا أن يكون مخاطَبي هو الإنسان المسلم بشكلٍ أكبر.
إنّ فكرتي المتواضعة تقوم على عناصر متعدّدة، سأشير في هذه الخواطر لاثنين منها فقط:
1ـ المبدأ الهرمنوطيقي ـ المعترف به في مذاهب التفسير الإسلامي، وخاصّة في علم أصول الفقه ـ القائل بأنّ فهم النصّ لا يكون بالنصّ وحده فقط، بل بجماع فهم النصّ بوصفه بنية لغويّة وفهم السياق ـ بالمعنى الواسع للكلمة ـ الذي جاء النصّ فيه، فلا نهدر في فهمِ النصِّ النصَّ نفسَه ونتجاهل قدرته على تبيين ذاته، كما لا نهدر قدرة السياقات الزمكانيّة وخصوصيّات المؤلِّف أو المخاطَب وغير ذلك في فهم روح النصّ ورسالته.
يُعْرَف عن المرجع الديني السيد البروجردي(1961م) أنّه كان يرى أنّ فهم نصوص أهل البيت النبويّ لا يكون إلاّ من خلال فهم الفضاء الفكري والثقافي والاجتماعي الذي كان يعيشه جمهور المسلمين ـ من غير الشيعة ـ في القرون الثلاثة الأولى؛ لأنّ نصوص الأئمّة جاءت في هذا السياق، وتنظر إلى هذا المسار القائم، وتستهدف تصويبه.
هذه الفكرة بعينها يكتشف المسلمُ الدارسُ لمقارنات الأديان الإبراهيميّة حجمَ حضورها، لتشكِّل عنده أساساً جديداً من أُسُس التفسير القرآني، بعيداً عن ما يقوله غيرُ واحدٍ من الباحثين المعاصرين، من أنّ فهم الذات الدينيّة ليس ممكناً دون فهم الآخر الديني؛ إذ هذا هو الجهل بالدين نفسه، وهو ما بلغ فيه ماكس مولر(1900م) ـ الذي يُعَدّ أحد رموز مقارنة الأديان ـ بلغ فيه الأَوْج عندما كان يردِّد في مشروعه المعروف في المقارنات مقولة: إنّ مَنْ لا يعرف إلاّ ديانةً واحدة فهو لا يعرف أيّ ديانة.
المسيحيّة واليهوديّة بوصفهما سياقاً حافّاً مفسّراً للنصّ القرآني
وفقاً لهذا كلّه، عندما نفهم قصص الخلق والأنبياء والماضين في (الكتاب المقدّس) نستطيع ـ عبر المقارنة مع نصّ القرآن الكريم ـ أن نفهم بشكلٍ أفضل رسالة الآيات القرآنيّة، وسيُثري ذلك فرضيّاتنا التفسيريّة؛ لأنّنا سوف نندهش عندما نلاحظ ما أضاء عليه النصّ القرآني في سياق ما هو قائمٌ للقصّة في نصوص الكتب المقدّسة السابقة. فلماذا أضاء على هذه النقطة أو تلك دون هذه أو تلك؟ ولماذا عدّل هذه النقطة أو تلك؟ بل قد تفهم لماذا استحضر هذه القصّة دون تلك… بهذه الطريقة سوف تظهر لك امتيازات النصّ القرآني عن سائر النصوص وخصائصه في تناول القضايا التي تناولتها الكتب السابقة، وستدرك بشكلٍ أجلى هذه الخصائص، وتتمكَّن من مقاربة الموضوع بطريقةٍ أفضل.
هكذا الحال في قضايا العقيدة الدينيّة والأخلاق والشريعة والمفاهيم اللاهوتيّة الحسّاسة. فبالمقارنة تدرك أنّ التوراة حمَّلت حواء مسؤوليّة ما حدث، بينما نجد القرآن أكثر مَيْلاً لتحميل آدم المسؤوليّة. وهل هناك ربطٌ بين قصّة المائدة في القرآن وواقعة العشاء الربّاني الذي يُعَدّ سرّ أسرار الكنيسة إلى اليوم؟ هل يريد القرآن الغمز مثلاً من فكرة العشاء الربّاني لصالح تكوين تصوُّر آخر عن قضيّة المائدة؟ ومثل هذه اللطائف أكثر من أن يُحْصى. وعندما يستخدم القرآن توصيفات معيَّنة للنبيّ عيسى مثلاً لها دلالاتها في الثقافة المسيحيّة، فماذا يقصد؟ فقد وصفه بالمسيح، وهذا التعبير في الثقافة المسيحيّة ـ وهي مستهْدَفة أيضاً بالخطاب القرآنيّ بالتأكيد ـ ينتقل بنا إلى فكرة (المسيا) أي المخلِّص، ومن ثم فلماذا استخدم القرآن هذا التعبير الذي يختلف عن تعبير (عيسى)، فعيسى غير المسيح بالمفهوم اللاهوتي، ولهذا يؤمن اليهود بعيسى، لكنّهم لا يرَوْنه المسيح (المسيا)؛ لأنّ المسيا تعبيرٌ مأخوذ من العبريّة (ماشيح)، وهو المسيح، أي الممسوح بالدهن المقدّس بوصف ذلك تنصيباً له على عرش مُلْك بني إسرائيل، وبهذا عندما صُلب عيسى (وفقاً للرؤية السائدة بين المسيحيّين) أكَّد اليهود رؤيتهم بأنّه لو كان هو المسيح لكان هو المخلِّص، والمفروض أنّه قد صُلب دون أن يخلِّص شعب إسرائيل من القهر وحكم الرومان وغيرهم، ودون أن يحقِّق لهم الوعد النهائي بتسليمهم الأرض المقدَّسة! ومن هنا نجد أنّ فكرة المخلِّص انتقلت في اللاهوت المسيحي من الخلاص الدنيوي السلطاني الذي تفهمه اليهوديّة (وكثير من المسلمين يفهمون المهدويّة بهذا المعنى أيضاً تقريباً) إلى الخلاص الملكوتي، وتحرير الإنسان من الخطيئة الأولى، وجعله بالإيمان محلاًّ لفيض الله تعالى. فهل يريد القرآن الكريم وسط هذا كلّه أن يقرّ المسيحيّين على تصوُّرهم أنّ عيسى هو (المسيا) المخلِّص بمفهومٍ جديد له؛ أو أنّ هذا الأمر من باب أنّ هذه التسمية لها منطلقٌ آخر (أنّه كان يشفي من خلال المسح باليد)؛ أو أنّ هذا مجرّد مصاحبة لغويّة مع الآخر، فيستخدم القرآن التعبير الذي يستخدمه الآخر بحقّ تلك الشخصيّة، دون أن يحمل ذلك أيّ معنىً خاصّ، وبه نفهم أنّه يستهدف هنا بخطابه المسيحيّين، لا اليهود مثلاً؟
وهكذا استخدام القرآن (كلمة الله) بحقّ عيسى، وهو تعبيرٌ نعرف جميعاً أنّه بالغ الحساسية في اللاهوت المسيحي، من حيث إنّ مفهوم الكلمة مفهومٌ خطير جدّاً. وبإمكاننا اكتشاف خطورته في مطلع إنجيل يوحنّا، وهو المطلع المهمّ جدّاً في فضاء نظريّة اللوغوس اليونانيّة، والصادر الأوّل المتّحد. فلماذا استخدم القرآن هذا التعبير، وهو له دلالةٌ خطيرة جدّاً في اللاهوت المسيحي؟ هل قصد الموافقة أو المجاراة اللفظيّة فقط، أو له دلالةٌ أخرى؟
بل الأمر الأشدّ خطورةً هنا هو فهم أيٍّ من الطوائف المسيحية أو اليهوديّة كان يحاور القرآن الكريم؟ هل كان يحاور المسيحيّة الغربيّة (مسيحيّة روما)، أو المسيحيّة المشرقيّة، من اليعقوبيّة والنسطوريّة وأمثالها في الجزيرة العربيّة؟ صحيحٌ أنّ الانقسام الكبير النهائي والفاصل بين الكاثوليك والأرثوذكس (القرن الحادي عشر الميلادي)، ثمّ البروتستانت (القرن السادس عشر الميلادي)، لم يكن قد وقع في عصر نزول القرآن، لكنّ التشظّيات الأولى كانت قد وقعَتْ، وهي انقساماتٌ كبرى عرفتها المسيحيّة في ذلك الوقت، وأفرزتها وكشفت عنها المجامع المسكونيّة التي كانت قد وقعت منذ مطلع القرن الرابع الميلادي، وكذلك الجهود الدفاعية للردّ على مَنْ اتُّهموا بالهرطقة عبر ستّة قرون من حياة المسيحيّة إلى مجيء الإسلام، وتكوّنت فِرَق عظيمة، واتخذت فِرَق مهمّة بلاد الشرق موطنها بعد طردها من الكنيسة والمجتمع المسيحي المتمثِّل بروما. هنا من الضروري أن نفهم أنّ القرآن الكريم هل كان يخاطب عقائديّات روما أو كنائس شرقيّة كان على صلةٍ بها؟ وما هي عقيدة اليهود والنصارى في شبه الجزيرة في تلك الفترة؟ إنّ تحليل هذه القضيّة بعمقٍ ودقّة يساعد على فهم مرادات القرآن الكريم من جهةٍ؛ وعلى الدفاع عنه من جهةٍ أخرى؛ لأنّ بعض الانتقادات التي يوجِّهها القرآن لليهود والنصارى يعتبر اليهودُ والنصارى اليوم أنّها لا تعنيهم ولم تكن تمثِّلهم، ومن ثمّ تقع التباساتٌ كثيرة هنا، من نوع: ثالث ثلاثة، تحديد هويّة عُزَيْر، وهل هو عَزْرا الكاتب أو غيره؟ ومفهوم الأبوّة والبنوّة الذي يقدِّمه القرآن بالمعنى المادّي للكلمة، وغير ذلك.
بل دعوني أذهب أبعد من ذلك في تساؤلي: هل أنّ أهل الكتاب الذين وصفهم القرآن، وتعامل معهم وتحاور، هم أنفسهم أهل الكتاب الذين يعيشون اليوم في العالم بكلّ طوائفهم؟ هل يمكن الحديث عن وحدة حقيقيّة، بحيث نعتبر أنّ أولئك هم هؤلاء المعاصرون، أو أنّ التحوّلات التي طرأت بالخصوص على الفكر المسيحي ـ وخاصّة على بعض مذاهبه، كالبروتستانتيّة وبعض الكاثوليك ـ قد أحدثت تحوُّلات عميقة، بحيث لم تَعُدْ تسمح لنا باعتبار مَنْ تعامل معهم القرآن هم أنفسهم تماماً الذين نعايشهم نحن اليوم؟ هذه قضيّةٌ بالغة الخطورة، وخاصّة لناحية تطوُّر صياغة قضايا عقائديّة عندهم، من نوع التثليث وغير ذلك. لا أريد أن أُصدر أحكاماً الآن، لكنْ من الطبيعي لمَنْ يطّلع على حجم وحدّة التحوّلات أن يتريّث ويتأمّل في مجموع هذه الأمور، حتّى على مستوى التناول الفقهي لبعض القضايا، وإصدار تعميمات شرعيّة على أهل الكتاب، دون ملاحظة مدارسهم ومذاهبهم اليوم!
خلاصةُ الفكرة أنّ فهم الفضاء الديني في الأديان الإبراهيميّة من جهةٍ، والفضاء الديني في الأديان العربية غير الإبراهيميّة من جهةٍ أخرى، يساعدان على فهم النصّ القرآني واستنطاقه بطريقةٍ متنوّعة. ومن الضروريّ أن يكون فهماً نابعاً عن تخصُّص وتعمُّق، وعدم الاستخفاف بالموضوع بمجرّد مطالعة كتاب أو كتابين؛ فإنّ حجم التعقيدات والتموُّجات والاتجاهات والتحوُّلات في هذه الأديان واسعٌ جدّاً، لا يمكن البناء على معطيات مبتسرة أو منقوصة فيه.
ولا أريد أن أُعرِّج على التاريخ النقدي الإسلامي لليهوديّة والمسيحيّة، ومساهمات العلماء المسلمين، كابن حزم وابن تيميّة وابن قيّم الجوزية، وصولاً إلى كاشف الغطاء والبلاغي والصادقي الطهراني وغيرهم، في هذا المجال، وما هي الأخطاء التي وقعنا فيها خلال هذه المسيرة الطويلة من البحث النقدي؟ وما هي عناصر القوّة؟ فهذا في حدّ نفسه موضوعٌ مستقلّ ومثير. ومع الأسف نحن نقع في أخطاء فادحة في تناول هذه القضايا اليوم؛ بسبب قلّة وجود مختصّين بمجال دراسة الأديان الأخرى، ممّا يوجب في بعض الأحيان سخرية الآخرين بنا، تماماً كما يوجب سخريتنا بهم عندما يتناولوننا دون معرفة متخصِّصة، فالأديان ليست مقالاً صحفيّاً ينتهي الإنسان من تصفُّحه بيومٍ أو يومين.
تساؤلٌ عابر حول مقولة (الإسرائيليّات) في النقد الحديثي الإسلامي
2ـ هذا الأمر يجرّ لإعادة النظر بفكرة الإسرائيليّات. وأرجو أن يتفهَّمني القارئ هنا؛ إنّ فكرة الإسرائيليّات بوصفها عنواناً لتصفية تيارات فكريّة أو نصوص حديثيّة في الدائرة الإسلاميّة سيفٌ ذو حَدَّيْن؛ فمَنْ يُجري مقارنات واسعة بين القرآن والإسلام والديانات الإبراهيميّة الأخرى يُدرك حجم التقارب المذهل بينها، في كثير من قضايا التاريخ والعقائد، وفي كثير من قضايا الشريعة بين اليهوديّة والإسلام. وفي ظلّ هذا التشابه اللافت كيف يحقّ لي أن أقوم بتصفية حديثٍ منسوب إلى المعصوم بمجرَّد تشابهه مع موروثٍ يهوديّ أو مسيحيّ؟ عندما لا يكون هناك نسبة تشابه بين القرآن واليهودية والمسيحية فمن حقّي أن أُشكِّك، لكنْ عندما يكون التشابه كبيراً، والقرآن يشترك في كثيرٍ من النقاط ـ بما فيها قصص الأنبياء ـ مع العهد القديم بالخصوص، ويترك قصصاً أخرى، لا نعرف هل تركها لكذبها أو لعدم أهمّيتها عنده…؟ في ظلّ هذا الوضع ما هو المبرِّر المنطقي لاتّهام حديثٍ بالوضع لتشابهه مع موروثٍ أدياني آخر؟
لو كنّا نتكلّم من فضاء ظاهراتي تاريخي علماني بعيد عن الأصول الدينيّة لرُبَما قيل بإمكان أنّ النبيّ محمداً قد أخذ من كتب اليهود والنصارى ووضع في كتابه، وربما يغدو ممكناً أيضاً أنّ كلّ ما نجده مشتركاً في الحديث مع المزاج اليهودي والنصراني فهو مأخوذٌ منهم، ومن ثمّ فهو موضوعٌ، لكنْ لمّا كنّا نتحدث من منطلق إسلامي، كيف أُبرِّر إسقاط حديث لأنّه يشبه ما في التوراة؟ ألم تشبه عشرات القصص والنقاط الأخرى في القرآن الكريم ما في الكتاب المقدّس؟
هذا كلُّه بعيداً عن الفكرة التي قدَّمها في آخر حياته ـ بوصفها إثارةً ـ الشيخُ محمد هادي معرفت(1427هـ)، من تصحيح نسبة الكتاب المقدّس الموجود بين أيدينا اليوم (التوراة والإنجيل خاصّة) إلى الوحي؛ استناداً لمعطيات تاريخيّة وقرآنيّة معاً.
هنا نحن أمام ضرورة إعادة النظر في هذه القضيّة، من خلال:
أـ إنّ المنقولات غير المسندة إلى معصومٍ إذا احتمل أنّ مصدرها غير المعصوم جاء احتمال الإسرائيليّات فيها، بمعنى أنّ التابعي الفلاني لو نسب شيئاً ما دون أن يرفعه إلى النبيّ، واحتملنا ـ من خلال مقاربات تاريخيّة ـ أنّه أخذه من بعض اليهود وتراثهم، فهنا لنا أن نطرح احتماليّة المصدر اليهوديّ، ومن ثم لا يكون الحديث حجّةً. ولكنّ هذا لا يُثبت أنّه كاذب واقعاً؛ لاحتمال صدق المصدر اليهودي في ما ينقل، كما صدق في نقولاتٍ أخرى، أشار إليها القرآن الكريم.
ب ـ أن يسند الراوي المنقولات (الإسرائيليّة) إلى معصومٍ. والسؤال هناك كيف عرفنا أنّها موضوعة؟
يوجد هنا أساسان:
الأساس الأوّل: إنّنا أخضعناها لنقد متني أكّد لنا أنّها غير منتسبة إلى النبيّ، وفي الوقت عينه وجدناها في كتب اليهود والنصارى. وهنا يمكن إسقاط هذا الحديث واعتباره مجعولاً؛ لا لأنّه يشبه ما في كتب أهل الكتاب، بل لأنّه قام الدليل المضموني النقدي ضدّه.
الأساس الثاني: أن لا نجد فيها مانعاً متنيّاً، بل هي سليمةٌ في المتن، لكنّنا وجدناها تشبه الموروث اليهودي والنصراني، فهنا لا مبرِّر لتهمة الاسرائيليّات؛ لأنّ مجرّد التشابه ـ بعد اطّلاعنا عبر مقارنة الأديان على نسبةٍ كبيرة من التشابه ـ لا يثبت الوضع في الحديث؛ لكنّه يطرحه بوصفه احتماليّةً ممكنة.
وهذا ما ينتج أنّ مفهوم الاسرائيليّات بنفسه ليس مضعِّفاً للحديث؛ بل المضعِّف هو النقد المتني على الحديث، والذي يثبت استبعاد صدوره عن المعصوم أو عدم واقعيّة مضمونه، أو فقُلْ: كون الحديث بطريقةٍ يشتمل فيها على خصوصيّات تنفي إمكان نسبته إلى النبيّ، وفي الوقت عينه ترجِّح أخذه من مصادر أهل الكتاب. وبهذا كلّه تبدو كلمة: الموروث الشيعي الحديثي أغلبه إسرائيليّات، أو الموروث السنّي الحديثي كذلك…، تبدو هذه الكلمة بلا مضمون؛ إذ مَنْ يرصد تشابهات الأديان والنصوص الدينيّة الإبراهيميّة يُدْرِك أنّ مثل هذه الجملة غير ممكنة الإثبات عمليّاً.
كلمةٌ أخيرة
أكتفي بهذه الخواطر، لأختم بـ:
أوّلاً: تجديد الدعوة التي أطلقتُها عام 2014م (انظر: إضاءات في الفكر والدين والاجتماع 4: 598 ـ 599) إلى الاشتغال على تأسيس جامعات كبرى في العالم العربيّ مختصّة بالأديان والمذاهب بفروعها المختلفة، وخاصّةً الإبراهيميّة منها، وما يرافق ذلك أو يتبعه من تأسيس مراكز دراسات جادّة في هذا الصدد، وإصدار نشريّات علميّة رزينة، وأعمال فكريّة مرموقة.
ثانياً: لا نريد لمشروع دراسة الأديان والمذاهب أن يسير على خطى الجَدَل الطائفي والمذهبي، أو يساهم في نشر التعصُّب البغيض، بل نستهدف في عالم اليوم معرفة الآخر وفهمه، وقراءته من زواياه المختلفة، السلبيّة والإيجابيّة؛ بهدف الارتقاء بالذات وبالآخر معاً لمرحلةٍ أفضل من الوعي والفهم والعلاقة، لا تُهْدَر فيها الحقيقة ولا تموت أمام المجاملات، وفي الوقت عينه لا تغيب فيها الوجوه المشرقة للآخر أو نخسر الاستفادة من تجاربه.
فالمسيحيّة ـ على سبيل المثال ـ خاضَتْ قبل الجميع تجربة الحداثة، وواجهت لقرونٍ عصوراً بالغة الخطورة، من عصر الإصلاح الدينيّ إلى عصر الثورة العلميّة، إلى عصر الأنوار، إلى عصر الحداثة، إلى ما بعد الحداثة… وتجربتها أكبر من أن توصف، فلماذا لا نستفيد من تجاربهم؛ لنتجنَّب الأخطاء التي وقعوا فيها، أو لنأخذ بعناصر القوّة التي اكتسبوها بفعل التجارب المتراكمة؟ هذا هو السؤال. بل بمقتضى ملاحظتي المتواضعة أجد أنّ المسيحيّة واليهوديّة بإمكانهما اليوم كثيراً أن تستفيدا من نتاجات العلماء المسلمين؛ فإنّ لديهم الكثير من الأفكار التي يمكنها فكّ عُقَد لاهوتيّة في أكثر من مكانٍ.
هذا هو المطلوب، وليس المطلوب مقارنات أديانيّة بهَدَف الاحتجاج والجَدَل وتصفية الحسابات ورفع مستوى الاضطراب والقلق في بلداننا، وإنْ كان لكلّ أحدٍ الحقّ في أن يدافع عن قناعاته، وأن يخوض مقاربات نقديّة للآخر.