د. السيد حسن إسلامي(*)
الماضي سراج المستقبل
إن هذا الكتاب في طبعته الثالثة المزيدة والمنقَّحة هو ثمرة سنين من التأمُّل، ودراسة امتدّت لسنةٍ كاملة، قام بها الدكتور فهمي جدعان، الأستاذ في جامعة الأردن. ولد الدكتور فهمي جدعان سنة 1940م، في بلدة عين غزال، وحاز على شهادة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون في فرنسا. ثم درّس الفلسفة والفكر العربي بعد ذلك في جامعة الأردن، وشغل كرسي الحضارة العربية في جامعة السوربون الحديثة. له الكثير من المؤلَّفات باللغتين العربية والفرنسية، ومن بينها: فلسفة السجستاني، والتأثير الرواقي في الفكر الإسلامي، والظروف الاجتماعية ـ الثقافية في الفلسفة الإسلامية، ومنزلة الملائكة في اللاهوت المعرفي الإسلامي، والوحي والإلهام في الإسلام، والمحنة (بحث في جَدَلية الديني والسياسي في الإسلام)، وفي الخلاص النهائي (مقالٌ في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين). يُعَدّ الدكتور فهمي جدعان واحداً من المفكِّرين المسلمين المرموقين، حيث يسعى إلى تقديم فَهْمٍ وتصوُّر واضح ودقيق عن الوضع والواقع الفكري والعملي للمسلمين، وأن يبحث عن حلول للخروج من المنعطفات في ضوء التقاليد الدينية والنظرية للمسلمين([2]).
ومن بين مؤلَّفاته العديدة يتمتَّع كتابه «أسس التقدُّم عند مفكِّري الإسلام في العالم العربي الحديث» بطبيعة وغايات خاصّة. فقد صدر هذا الكتاب بعد سنوات من التأمُّل النظري والتحدّي الفكري سنة 1979م، بالتزامن مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وقد صدرت الطبعة الثانية المنقَّحة لهذا الكتاب بعد ذلك بعقدٍ من الزمن، وقد أشار في مقدّمة هذه الطبعة إلى أصداء هذا الكتاب، وكانت له في الوقت نفسه إطلالةٌ مقتضبة على الثورة الإسلامية الإيرانية. وأما الطبعة الثالثة والمزيدة فقد صدرت بعد ثلاثة عقود من انتصار الثورة الإسلامية، وقد تعرَّض المؤلِّف في مقدّمة هذه الطبعة إلى إيران ووقائعها، ولا سيَّما أحداث ما بعد انتخابات عام 1388هـ.ش، وأثار بعض الأمور التي تدعو إلى التأمُّل. وعلى الرغم من ذلك لا نجد في هذا الكتاب بحثاً عن إيران ومفكِّريها، وليس هناك من ذكر للحركة الدستورية وثورة المشروطة أبداً. إلاّ أن هذا الأمر لا يقلِّل من أهمّية هذا الكتاب؛ لأن محوره الرئيس يدور حول تخلُّف المسلمين في العالم المعاصر، والحلول المقدّمة من قبل مختلف العلماء للتغلُّب على هذه الأزمة. إن الجامعية التي يتمتّع بها الكاتب، ورؤيته الثاقبة، ولغته الأكاديمية، وذهنيته المنهجية، قد تضافرت لتجعل من هذا الكتاب مصدراً ومرجعاً استثنائياً في مجال بحثه، ولا يزال محتفظاً بهذ المكانة. إن التجوال بين كلمات المؤلِّف ودراسة الأفكار ومعرفة الطرق السالكة دون بلوغ الغايات تغنينا عن تجريب المجرَّب، وتضع أمامنا أفقاً أوسع لنقد الذات، من خلال التدبُّر في أحوال الآخرين، والنظر في مسائلنا من خلال التمعُّن في مرآة نظرائنا.
لقد عمد المؤلِّف في المقدّمة الأخيرة ـ التي أضافها إلى هذا الكتاب ـ إلى تبويب الطرق المقترحة من قبل المفكِّرين المسلمين؛ للتغلُّب على الوضع الراهن في العالم الإسلامي، ضمن أربع مجموعات عامّة، حيث يؤكّد كلّ واحد منها على عنصر خاصّ للتقدُّم. ويمكن إجمال هذه العناصر والعوامل على النحو التالي:
1ـ العامل الكلامي ـ الاعتقادي.
2ـ العامل الاجتماعي ـ الاقتصادي.
3ـ العامل الأخلاقي.
4ـ العامل السياسي على أساس الشريعة.
وعلى الرغم من ذلك كلّه فإن الذين حملوا هموم إعلاء كلمة الإسلام طوال القرنين المنصرمين يختلفون بشكلٍ جوهري من جهات متعدّدة عن الإسلاميين المعاصرين، ولذلك يجب عدم تقييم أدائهم على أساس سلوك السَّلَفيين المعاصرين. والفارق الأول بينهما يكمن في أن المفكّرين الطليعيين كانوا بعيدين كلّ البُعْد عن الراديكالية والانفصال عن الواقع الراهن والعودة إلى الماضي. كما أنه لم يكن من منهجهم تكفير الفِرَق الأخرى. والأهمّ من ذلك كله أنهم يتمتّعون بالعقلانية والتأويل، ومن هنا كانوا يعملون على تقديم صورةٍ عن إسلامٍ منسجم مع العالم المعاصر ومتناغم مع العلم. في حين أن بعض السَّلَفيين المعاصرين يقدِّمون صورةً عن الإسلام مناهضة للعلم، بحيث تثير سخرية الآخرين. وإن أنصار هذه الصورة يعملون على الترويج لإسلامٍ خرافي يقوم على فتاوى من قبيل: «خلق السيدة حواء من ضلع أعوج، ورضاع الكبير، وطهارة بول النبيّ وكل إفرازاته، والحجر الدائم على النساء»، عبر «قنوات فضائية» لا يُعْرَف مصدر تمويلها ودعمها. إن هذه التيارات تؤمن بمرجعية النصّ إيماناً مطلقاً، ولا تعمل على توظيف العقل إلاّ في حدود البيان الخطابي والإقناعي والجَدَلي. وبذلك نكون اليوم أمام رؤيتين ونسختين عن الإسلام، وهما: النسخة القائمة على المحبّة والتلاحم والاعتراف بالآخر والتعاون مع المجتمع الإنساني؛ والنسخة الأخرى تقوم على الكراهية والعدوان ومحاربة العقل. وهدف هذا الكتاب هو تقرير النسخة الأولى، والتعريف بالمنظِّرين الذين سعَوْا إلى فهم الإسلام وتحديثه في ضوء هذه الرؤية.
يشتمل هذا الكتاب، بالإضافة إلى المقدّمة، على ستّة فصول وخاتمة، وملحق بسيرة المفكِّرين البارزين الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب. وقد رسمت المقدّمة في هذا الكتاب خارطة طريق للقارئ. يذهب أكثر المحقّقين إلى الاعتقاد بأن بداية الصحوة الإسلامية في العالم المعاصر تعود إلى هجوم نابليون بونابرت على مصر في نهاية القرن الثامن عشر للميلاد، في حين يذهب الدكتور فهمي جدعان إلى الاعتقاد بأن الصحوة الإسلامية تعود إلى عصر ابن خلدون، ويقدِّم لذلك تقسيماً خاصّاً عن تاريخ الإسلام، وعلى أساس هذا التقسيم يكون الإسلام قد تجاوز حتّى الآن أربع مراحل على النحو التالي:
1ـ مرحلة التنوير وبناء الحضارة. وهي تحتلّ القرون الهجرية الأربعة الأولى، وقد اقترنَتْ بازدهار الحضارة الإسلامية بشكلٍ كامل.
2ـ مرحلة التوقُّف الحضاري والتوازن، حيث يتمّ العمل على تثبيت الوضع القائم والمحافظة عليه.
3ـ مرحلة اختلال التوازن والانحطاط، حيث تبدأ هذه المرحلة مع الغزالي في القرن السادس الهجري. وفي هذه المرحلة يتوقّف النشاط الاجتماعي، وتتبلور الصوفية المنعزلة عن الواقع، وتأخذ بالتوسُّع والانتشار، بالإضافة إلى مجموعة من الوقائع السياسية كسقوط الخلافة العباسية في بغداد، والغَزْو التتاري والمغولي. وقد استمرّت هذه المرحلة حتّى نهاية القرن الثامن الهجري.
4ـ مرحلة اليقظة والنهوض، حيث تبدأ بابن خلدون، وسَعْيه إلى فهم أسباب السقوط والانحطاط. وقد مثّل مجهود ابن خلدون حاضنةً لجميع المفكِّرين الذين جاؤوا بعده.
وبهذه المقدّمة يتعرّض الدكتور فهمي جدعان إلى تحليل آراء المفكّرين الإسلاميين بشأن أسباب التخلّف والانحطاط في العالم الإسلامي. والمراد من المفكّرين الإسلاميين جميع الذين يطالبون بحضورٍ فاعل للإسلام في مسرح الحياة، أيّاً كانت مشاربهم ومراميهم. وفي مقابل هؤلاء يقف المفكّرون المسلمون الذين لا يحملون مثل هذه الهواجس. والنقطة الأساسية في البين هي أن التعبير بمفهوم «التقدّم»، المساوق للمفردة الإنجليزية (progress)، مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بمفهومين آخرين، هما: مفهوم التطوّر؛ ومفهوم التغيُّر. أما المفهوم الأول فهو وليد الفلسفة الداروينية بصورة خاصّة، وهو أيضاً ذو طابع حياديّ من الناحية الأخلاقية؛ أما مفهوم «التغيُّر» فهو عارٍ عن كلّ مضمونٍ أخلاقي. إن مفهوم التقدّم قديم ومتقدّم على الثورة الصناعية وأمثالها، إلاّ أن هذا التعبير كان له في السابق مفهومٌ مثاليّ، في حين أن له في الوقت الراهن مفهوماً عينياً، وناظراً إلى الأمور المادّية، ويتمّ قياسه بالمقاييس الكمّية، وهو اليوم يضاهي الجدوائية التكنولوجية.
1ـ التراث الفكري
لقد تعرّض الدكتور فهمي جدعان في الفصل الأول من هذا الكتاب، تحت عنوان: «ميتافيزيقا التقدّم»، إلى بحث فكرة التقدُّم عند المسلمين، حيث يرى أن الإسلام على الرغم من إحيائه روح التقدّم في قلوب المسلمين، إلاّ أن الأحداث المريرة التي أعقبت ذلك، والإخفاقات الروحية المتلاحقة التي مُني بها المسلمون، وتحوّل الخلافة الراشدة إلى ملكٍ عضوض سبق للإسلام أن جاء للقضاء عليه، دفع بالمسلمين نحو الوقوع في مستنقع اليأس والقنوط، حتّى أخذوا ينظرون إلى التقدّم بوصفه ضرباً من الخيال، بل ذهب الأمر ببعضهم إلى إنكار إمكانية التقدّم، ووضعوا على لسان رسول الله| أحاديث وروايات تحمل مضمون «خير القرون قرني». وقد ترتّب على ذلك تصوُّرٌ مفاده أن الماضي خيرٌ من المستقبل، وأن النجاة من الواقع الراهن تكمن في العودة إلى الماضي، أو انتظار ظهور المنقذ.
وإلى جانب هذه الرؤية التي هيمنت على أهل السنّة ـ وحتّى الشيعة الذين وجدوا الحلّ في انتظار المنقذ؛ لحلّ جميع مشاكلهم، بَدَلاً من العمل على تغيير الواقع بأنفسهم ـ قال الفلاسفة عموماً بإمكانية التقدّم. بَيْدَ أن هذه الرؤية كانت تعاني من نقصين وآفتين: الأولى أن هذه الجماعة كانت قليلة جدّاً، ولا تجد لأفكارها صدى مناسباً في المجتمع؛ والآفة الأخرى أن نظرتهم إلى التقدّم كانت تقتصر على التنظير والتأمُّل، دون أن تأخذ طريقها إلى الواقع العملي. وبطبيعة الحال كان أمثال: الفارابي وابن رشد يرَوْن أرسطوطاليس وأفلاطون قد ختما العلوم، وأنهما قالا كلمة الفصل في هذا الشأن، وأن مهمّة العلماء اللاحقين تقتصر على شرح ما قاله الأوّلون. في حين أن هذا النوع من التفكير يقف إلى الضدّ من التطوّر. وفي المقابل يذهب آخرون، من أمثال: ابن سينا، إلى القول بأن هناك الكثير من الكلمات والآفاق التي لم يتمّ فتح مغاليقها. وقد سعى ابن سينا في فلسفته المشرقية إلى تجاوز مقولة المشّائين، وأثبت أن الحقيقة لا تزال قابلةً للكشف والتوسعة، وأن هناك إمكانيةً لإخراجها من بين القضبان الأرسطية والأفلاطونية. كما نرى هذه النَّزْعة التقدّمية عند ابن زكريا الرازي أيضاً؛ بحيث إنه يرى إمكانية تقدّم الإنسان والوصول إلى الحياة العقلانية الكاملة. ومع ذلك كلّه اتّسعت رقعة الاعتقاد بإمكان التقدّم، حتّى قام ابن خلدون في مقدّمته بفلسفة هذا الأمر، وعمل على تظهيره على شكل غياب «العصبة»، بوصفها أمراً ضرورياً في عملية التقدّم.
2ـ الحقيقة والتاريخ
بعد هذه المقدّمات ينتقل الدكتور فهمي جدعان إلى الفصل الثاني، وهو بعنوان: «الحقيقة والتاريخ»؛ ليجعل من مؤلَّفات الماوردي وابن خلدون محوراً لبحثه حول انحطاط المجتمعات؛ إذ يرى أن كتباً من قبيل: كتاب (أدب الدنيا والدين)، للماوردي، و(مقدّمة ابن خلدون)، لا تزال شديدة التأثير بين المفكّرين الإسلاميين. فقد ذهبت جماعةٌ برؤية سَلَفية إلى جعل تحليل الماوردي لجنوح الناس إلى الركود وتكاليفه محوراً لبحثهم؛ وذهبت جماعةٌ أخرى إلى اعتبار تحليل ابن خلدون للانحطاط مداراً لتحليل وفهم وضع العالم الإسلامي الراهن. وعلى الرغم من أن الماوردي يرى الدنيا والآخرة بوصفهما مكمّلان لبعضهما، إلاّ أن الطبيعة الأخروية عنده أشدّ قوّةً، وهي النزعة التي تشتد في (إحياء علوم الدين) بشكلٍ أكبر.
يذكر ابن خلدون خمس مراحل لإقامة الدول والحكومات، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة القهر والغَلَبة والانتصار وتأسيس الدولة.
المرحلة الثانية: الاستبداد، وإبعاد الأشخاص الذين كان لهم دَوْرٌ في إقامة الدولة، وتهيئة الظروف للقضاء على العصبية.
المرحلة الثالثة: مرحلة الرفاه والرخاء واستقرار الدولة.
المرحلة الرابعة: الرضا بالوضع القائم، والمحافظة على العلاقات الجيّدة مع الدول والحكومات الأخرى.
المرحلة الخامسة: مرحلة الإسراف والبَطَر والقضاء على جميع الإنجازات السابقة. وهذه المرحلة هي مرحلة شيخوخة وضعف الدول، واقترابها من الموت والأفول.
كما يذهب ابن خلدون إلى تقسيم الحكام إلى ثلاثة أجيال على النحو التالي:
الجيل الأوّل: هو الجيل الذي وصل إلى السلطة متسلِّحاً بالأخلاقيات الشديدة، وهو الجيل الذي تغلب عليه البساطة في العيش وخشونة البادية.
الجيل الثاني: هو الجيل الذي يتأثّر بحياة المدينة ورفاهيتها، ويتسلّل إليه الفساد شيئاً فشيئاً.
الجيل الثالث: ينقطع عن البداوة بالمرّة، وينشأ على البَطَر والتَّرَف والنعيم، ويعدّ العدّة للفناء والزوال.
إن المسألة الرئيسة التي تستحوذ على اهتمام ابن خلدون تكمن في كيفية نشوء الحضارة، ومراحل ازدهارها، وما هي أسباب زوالها؟ وكيف يحصل هذا الزوال؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة على طريقة ابن خلدون تحرِّرنا من جميع الأوهام والخرافات. فمن هذه الناحية لم يبلغ مفكِّرٌ الشَّأْوَ الذي بلغه ابن خلدون، ولا يزال كتابه منذ القرن التاسع الهجري هو المحور في الأبحاث والدراسات اللاحقة.
3ـ الدخول في الأزمنة الحديثة
يبدأ الفصل الثالث بالحديث عن المواجهة الأولى بين المسلمين والغرب الحديث. إن هجوم نابليون بونابرت على مصر سنة 1798م أدّى إلى إقبال المصريين على العلوم الحديثة. وقد سعى الشيخ حسن العطّار ـ شيخ الأزهر في حينه ـ إلى التعرّف على علماء الفرنجة والاطلاع على العلوم الحديثة، وأرسل في هذا السياق وفداً إلى فرنسا، وكان تلميذه (رفاعة رافع الطهطاوي) واحداً من أعضاء هذا الوفد. ومن هنا بدأ نشاطٌ عملي في إطار نشر العلوم الحديثة في مصر منذ عام 1805م، بإشراف من محمد عليّ باشا الحاكم المصري، الذي كان رغم أمّيته بالغ الحذق والذكاء. وقد عمد إلى إرسال الطهطاوي على رأس وفدٍ إلى باريس. وقد مكث الطهطاوي خمس سنوات في فرنسا، قرأ خلالها مؤلَّفات فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو، ودرس الرياضيات والجغرافيا، وتعلّم اللغة الفرنسية. وقام لاحقاً بترجمة الكثير من الأعمال الفرنسية إلى اللغة العربية، ومن بينها: كتاب مونتسكيو، تحت عنوان «تأمُّلات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم». وقد عرض رفاعة الطهطاوي مشاهداته وتأمُّلاته حول الشرق والغرب وقضية التقدُّم في كتابين أساسيين له، وهما: «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز»، و«مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية». حيث يرى أن مرحلة كتابة الحواشي على أمثال: كتاب (الشفاء) قد طُويت، وأنه حان الوقت لتعلُّم العلوم الحديثة. وقد ذكر رؤيته في كتاب التلخيص حول التقدُّم وقال: إن التمدُّن ليس حالةً فطرية أو طبيعية للإنسان، وإنما هو جهدٌ وكَدٌّ وكَدْحٌ وحركةٌ وإقدام على ركوب المخاطر. كما أن للتمدُّن عنصرين: أحدهما: تهذيب الأخلاق بالآداب الدينية والفضائل الإنسانية؛ والآخر: وجود الثروات والمصادر الطبيعية.
أما خير الدين التونسي ـ وهو سياسيٌّ تونسي ورئيسٌ للوزراء في العهد العثماني ـ فله كتاب بعنوان «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، ضمَّنه رؤية أكثر نضجاً في ما يتعلَّق بمسألة التقدّم. ولم تقتصر دعوة التونسي على مجرّد أخذ العلوم الغربية فقط، وإنما طالب أيضاً بنقل المؤسّسات المدنية الغربية إلى العالم الإسلامي؛ حيث كان يرى أن المؤسّسات السياسية في الغرب تقوم على ركنين، وهما: العدالة؛ والحرّية. كما أكّد على ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ للحيلولة دون وقوع الفساد. وأكّد كذلك على مبدأ الشورى أيضاً.
يقوم مشروع خير الدين التونسي على التعريف بثلاث مشاكل رئيسة، والبحث عن حلولها، وهي:
مشكلة تقدُّم أوروبا وتخلُّف الشرق. وطريقة حلّ هذه المشكلة تكمن في ضرورة أخذ العلوم من الغرب.
والمشكلة الثانية هي مشكلة نظام الحكم المطلق الاستبدادي في الشرق. وحلُّها يكمن في ضرورة أن يستبدل بنظامٍ مقيد بالشرع والقانون والعدل.
والمشكلة الثالثة هي مشكلة التخلُّف والانهيار الاقتصادي. وحلُّ هذه المشكلة يكمن في توظيف نظامٍ جديد للاستثمار في العقارات والتجارة، وبناء نظام شبيه بالنظام الليبرالي الاقتصادي.
وقد صادف أن اطّلع السلطان العثماني (عبد الحميد) على كتاب خير الدين التونسي، فدعاه إلى الآستانة، ليتولّى منصب رئيس الوزراء، ويباشر مشروعه الإصلاحي هناك.
حتّى جاء جمال الدين في زمن التناقضات، زمن تحرير الأرقّاء وأسارة الأحرار. فقد جاب جميع الأقطار الإسلامية، وأدرك أن الجذور الرئيسة للمشاكل الإسلامية تكمن في انقسام المسلمين واختلافهم وتفرُّقهم. وقد ذكر في خاتمة رسالته في الردّ على «النيشيرية» أو الدهرية أربعة شروط لحصول الأمم على السعادة، وهي:
أوّلها: عقيديّ، يقوم على تصفية العقول من لَوْث الأوهام وكَدَر الخرافات.
وثانيها: أخلاقيّ، يوجِّه نفوس الأمم إلى بلوغ أعلى مراتب الكمال الإنساني.
وثالثها: عقلانيّ، يقضي بالتحرُّر من التقليد، وبالتعلُّق بالدليل والاحتكام إلى العقل.
ورابعها: تربويّ، يخلِّص النفس من سلطان الشهوة، ويهذِّبها بالمعارف الحقّة.
لقد أصاب السيد جمال الدين في قوله: إن التمدُّن يقوم على ركنين رئيسين، وهما: الإيمان بالله؛ والمعاد. وهذا ما ينكره الدهريّون. وبإنكارهم هذا قد أنكروا أصل التمدُّن. ومن هنا كان جمال الدين يرى الدين هو العنصر الوحيد للتحرُّر. ولم يَرُقْ ذلك لبعض المتأثِّرين بالفلسفة الوضعية، من الذين كانوا يعيشون ضمن حدود الدولة العثمانية، وكانوا لذلك يطالبون بالمزيد من التَّبَعية للغرب.
4ـ التوحيد المحرّر
يدور الفصل الرابع من هذا الكتاب، وهو بعنوان «التوحيد المحرّر»، حول بحث التوحيد المحرّر في الفكر الإسلامي. لقد تمّ تأسيس علم الكلام للدفاع عن الدين، ولكنه تحوّل إلى علمٍ جافّ وانتزاعي، ولم يكن للتوحيد الذي أفرزه أيّ دَوْر في النشاط الاجتماعي. وقد ظهر في علم الكلام ـ الذي حقَّق نجاحاً كبيراً في التغلُّب على الخصوم ـ اتجاهان، وهما: الاتجاه الإلهيّ المَحْض، الذي مثَّله أهل السنّة والجماعة؛ والاتجاه الإنسانيّ، الذي تزعَّمه المعتزلة. فكان الاتجاه الأوّل يقلِّل من قيمة الإنسان، ويُرْجِع كلّ المسائل إلى الدائرة الإلهية؛ في حين كان الاتجاه الثاني يولي أهمّية كبيرة لمسألة اختيار الإنسان. بَيْدَ أن كلا هذين الاتجاهين كانا يطرحان المسائل بشكلٍ انتزاعي، ولم يكونا ينتفعان بنتائج التوحيد من الناحية العملية.
لقد دأبت الكتب الكلامية على مدى قرونٍ تعيد اجترار أقوال العلماء السابقين، دون أن نشهد ظهور كتابٍ حديث يحتوي على عناصر كلامية جديدة، حتّى انقلب الأمر كلياً عند صدور كتاب الشيخ محمد عبده، بعنوان: «رسالة التوحيد»، والذي كان في بدايته عبارة عن دروس ألقاها على تلاميذه في بيروت. وكانت هذه الرسالة أهمّ كتابٍ كلاميّ يصدر في العصر الحديث، حيث قدَّم تفسيراً جديداً عن التوحيد، وأعاد للتوحيد روحه الأصيلة. فقد سعى محمد عبده في هذه الرسالة ـ التي يبدو أثر ابن سينا والأشاعرة والمعتزلة عليها واضحاً ـ إلى تقديم صورةٍ جديدة عن مفهوم ودَوْر التوحيد. فقد قام بتصوير التوحيد بحيث يتحوَّل إلى طاقة محرّرة. وبذلك كانت عناصر التوحيد من وجهة نظر محمد عبده عبارةً عن:
1ـ تطهير العقول من الأوهام والخرافات.
2ـ ردّ الحرّية إلى الإنسان، وإطلاق إرادته من القيود، وتحريره من جميع المرجعيات الأرضية، وتقرير المساواة بين الناس.
3ـ نفي جميع أنواع التقليد والتَّبَعية العمياء وما إلى ذلك.
4ـ ردّ الكثرة إلى الوحدة، والفرقة إلى الاتحاد والألفة والتجمّع.
وباختصارٍ فإن محمد عبده يرى أن التوحيد يقدِّم للإنسان أمرين عظيمين، وهما: استقلال الإرادة؛ واستقلال الرأي والفكر.
لقد زعم جابرييل هانوتو ـ السياسي الفرنسي المعاصر لمحمد عبده ـ أن حالة التأخّر التي يعاني منها المسلمون ترتدّ في نهاية التحليل إلى العقيدة الإسلامية نفسها، في حين أنتجت المسيحية تقدّماً علمياً، وساهمت في بناء المدنية الحديثة. وقد أرجع سبب تخلّف المسلمين إلى عقيدتين رئيستين، وهما: أوّلاً: التوحيد الخالص؛ وثانياً: الاعتقاد بالقضاء والقَدَر الإلهيّين. أما عقيدة «التوحيد» فإنها بتقريرها للقدرة والعظمة اللامتناهيتين والعلوّ المطلق لله تضع الإنسان في درك الوجود. أما الاعتقاد بالقَدَر فإنه يلغي إرادة الإنسان، ويشلّ فعاليته، ويردّ وجوده إلى العدم.
وقد ردّ محمد عبده في كتابه «الإسلام والردّ على منتقديه» ردّاً حاسماً وعنيفاً على هانوتو، بالقول:
أوّلاً: ليس ثمّة علاقة بين المدنية والدين المسيحي الداعي إلى الزهادة والانسلاخ من الدنيا.
وثانياً: لقد عاب القرآن صراحةً على أهل الجَبْر رأيهم، وأنكر مقالتهم، وأثبت الكسب والاختيار في نحو أربع وستين آية.
وثالثاً: إن التنزيه الإسلامي والتوحيد الخالص لا يعني قطع الصلة بين العبد وربّه، وفي الإسلام يمكن للإنسان أن يتّصل بالله مباشرة.
ورابعاً: ليس الإسلام ديانةً روحانية مجرّدة خالصة، وإنما هو أكثر من ذلك، فإنه وإنْ كان حياةً روحانية وجدانية حقّاً، إلا أنه وبالمقادر نفسه انخراطٌ في الزمان والدنيا؛ إذ يحثّهم على جلائل الأعمال الدنيوية والأخروية، وهذا هو ما أتاح لهم بناء مدنية شاملة، ارتقت بأربابها ارتقاءً لم يعرف التاريخ له مثيلاً.
وعلى هذا الأساس فإن الشيخ محمد عبده لا ينكر انحطاط المسلمين، وإنما يرى جذور هذا الانحطاط في سياسة وأداء الخلفاء في الاعتماد على جيوش الترك وتهميش العرب.
كما أن الشيخ محمد عبده لا ينكر الدَّوْر العملي لعقيدة القضاء والقَدَر والجمود على الماضي؛ فإن هذا الجمود، ولا سيَّما في الحقل الديني، كان سبباً في احتدام الخلافات، وتكفير المسلمين لبعضهم، كما كان هو السبب في تقديم النقل على العقل. وتُعَدّ الثورة على التقليد والجمود وإعادة الحياة إلى جسد الإسلام المتهالك من أهمّ إنجازات الشيخ محمد عبده، فقد أثبت أن الإسلام لا يحارب العقل والتقدّم. بَيْدَ أن المشكلة لم تكن بحثاً نظرياً بَحْتاً؛ كي يمكن من خلاله إقناع الخصم فقط. بل يضاف إلى ذلك أن الغرب قد تمكّن بتفوُّقه العلمي من الاستيلاء على الشرق، وجاء بنظريات علمية يبدو أن الإسلام لا ينسجم معها. ولم يكن الشيخ محمد عبده ـ بشكلٍ عامّ، وعلى نحوٍ مثاليّ ـ ليرى تنافياً بين الدين والعلم الحديث، إلاّ أنه كان يحجم عن الدخول في تفاصيل ذلك؛ بسبب عدم امتلاكه للخلفية المناسبة في هذا المجال. ولعلّ له العُذْر في ذلك؛ لأن الذين ألزموه الخَوْض في هذه المسألة قد فرضوا عليه ساعة المعركة، وحدَّدوا له مكانها وأسلحتها أيضاً. فكلّهم، بَدْءاً من «فيكتور كوزان» و«إرنست رينان» وانتهاء بـ «فرح أنطوان»، قد وجَّهوا سهامهم إلى الإسلام في التاريخ، وحمَّلوه إثم انحطاط أهله، ولم يكتفوا بذلك، وإنما تعمدوا إثارة الضغائن بإدخال طرفٍ آخر في الموضوع، وهو دفاعهم عن المسيحية ـ التي قدَّموها بصورةٍ لا تخفى معارضتها لوقائع التاريخ المعروفة ـ على أنها حاميةٌ للعلم ومشجِّعة للعلماء! ولذلك كان من الطبيعي أن يعجز محمد عبده ـ وهو الذي يمنح الوجدان دَوْراً أكبر من العقل ـ عن الصمود في هذا الميدان، وكان عليه إفساح المجال لشخصٍ آخر أقدر منه على التحليق في العقلانية. ولم يكن ذلك الشخص غير المفكِّر السوري حسين الجسر الطرابلسي، حيث أخذ على عاتقه هذه المهمّة. وقد بدأها بمواجهة نظرية التكامل الداروينية. وفي كتابَيْه الرئيسين: «الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية»، و«الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية»، وطّد حسين الجسر العَزْم على أمرين أساسيين، وهما: أوّلاً: التصدّي للفلسفات الجديدة الوافدة من الغرب، والتي كانت تتجلّى في الغالب على هيئة المادّية الداروينية؛ صَوْناً لعقيدة التوحيد الإسلامية؛ وثانياً: بيان عقلانية أمور، من قبيل: المعجزة والمعاد. وحيث كان حسين الجسر صوفياً معروفاً، من أهل الخلوة على طريقة الشعراني، فقد عمد إلى تحليل العلوم الجديدة ومعطياتها ببساطةٍ، وأثبت عدم وجود تضادّ بين الإسلام ومعطيات العلم الحديث. وبذلك فقد دافع عن حياض الإسلام بوعيٍ واسع وروح جريئة، وتركت كتبه تأثيراً بالغاً وخالداً.
وقد كان منهجه في الفهم والتحليل قائماً على ثلاث مقدّمات:
الأولى: إن النصوص الشرعية على نوعين: نصوص؛ وظواهر. والذي يمكن الاستناد إليه هو النصّ، دون الظاهر.
الثانية: لا يجب علينا ـ شرعاً ـ من الاعتقادات إلاّ ما قام عليه الدليل العقلي القاطع.
الثالثة: إن الشريعة المحمدية إنما يُراد منها هداية الناس إلى الله وتهذيب النفوس، وليس تعلُّم العلوم الطبيعية. وما أشار له القرآن من هذه العلوم إنما هو لأجل أن يكون دليلاً عقلياً للناس على وجود الله.
وبذلك يكون حسين الجسر قد التزم في منهجه بنزعةٍ عقلية قوية. وقد اتّسمت نزعته بالجرأة في طرح الأفكار. ومع ذلك كان في الوقت نفسه شديد الحَذَر والمحافظة، وكان لذلك يتناول المسائل القطعية في العلم، من قبيل: كروية الأرض بوصفها فرضيةً. وحيث اعتُرض عليه في ذلك قال: إن التصريح بحقائق هذه الأمور قد يُثير علينا العوامّ من الناس. وقال السيد جمال الدين ذات مرّةٍ لحسين الجسر: إن جريدتكم (طرابلس) جمعت بين الكفر والإيمان، أقرأ في صفحتها الأولى الحضّ على الفضيلة والخير ومكارم الأخلاق، وفي باقي الصفحات ضروباً من التملُّق والنفاق! فكان جواب حسين الجسر عن ذلك بالقول: لا يمكن للجريدة أن تستمرّ إلاّ من خلال انتهاج سياسة الرفق واللين ومجاملة الحكّام ومداراتهم!
وهناك الكثير من الأعلام الذين تأثَّروا بكتابَيْ «الرسالة الحميدية» و«الحصون» إلى حدٍّ كبير، وأظهروا اهتماماً كبيراً بالناحية العلمية من الإسلام. وفي ما يلي نذكر ثلاثة منهم، وهم:
1ـ الطنطاوي الجوهري المصري، الذي أكَّد على الأبعاد العلمية من الإسلام.
2ـ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي، صاحب كتاب «دلائل التوحيد»، الذي استقبل بُعَيْد نشره استقبالاً كبيراً. وقد ضمّ أدلّة التوحيد بمختلف أنواعها إلى بعضها، وخلص إلى نتيجةٍ مفادها أن الإلحاد لا ينسجم مع المدنية. ومن وجهة نظره لا يُعَدّ التوحيد مجرّد نظرية فكرية وانتزاعية، وإنما هي وثيقةُ الصلة بالتمدُّن والرقيّ والتقدّم.
3ـ محمود شكري الآلوسي العراقي، حفيد شهاب الدين الآلوسي، صاحب تفسير روح المعاني. وقد ذهب بدَوْره إلى أن العقل والنقل يعضد بعضهما بعضاً، ولكنّه في ما يتعلق بالعلوم، بَدَلاً من اللجوء إلى معيار التجربة، يميل إلى تحكيم القلب أكثر، ومن ذلك أنه كان يقول: «إن في كروية الأرض اختلافاً… والقلب يميل إلى الكروية».
خلاصة القول: إن العقائد الإسلامية ـ ولا سيَّما عقيدة التوحيد ـ قد تحرّرت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر للميلاد من البحوث الانتزاعية، وكان هناك سعيٌ حثيث من قِبَل المفكِّرين إلى بيان دَوْره التحريري.
5ـ دروب الفعل
في الفصل الخامس يبحث الدكتور فهمي جدعان في «دروب الفعل»، أو طرق العمل؛ حيث يستعرض التقريرات العملية التي قدّمها المفكِّرون المسلمون للتغلُّب على التخلّف. هناك مَنْ أرجع أسباب تخلّف المسلمين إلى البؤرة السياسية، وفي هذا الشأن لا تجدي المساعي الرامية إلى فصل الإسلام عن السياسة شيئاً؛ إذ لا يمكن تحقيق ذلك إلاّ من خلال تقطيع أوصال النصوص. وقد كان السيد جمال الدين يرى أن جذور المأساة تكمن في تفرّق المسلمين، ودعا إلى إقامة الاتحاد الإسلامي، واتّفق في ذلك حتّى مع السلطان عبد الحميد، مشترطاً عليه تعريب لغة الدولة، وإشراك العرب في الحكم إشراكاً فعلياً. وبعد أن أدرك عدم رغبة السلطان عبد الحميد الثاني في السير ضمن هذا المشروع تحلَّل من بيعته، وانفصل عنه.
وفي الوقت الذي ذهب السيد جمال الدين إلى طرح فكرة الاتّحاد الإسلامي كان هناك مَنْ ينشر في جريدة الأهرام والمقطّم أن هذا الاتحاد الإسلامي لا يؤدّي إلى نتيجة، بل من شأنه أن يثير حساسية الغربيين وغير المسلمين من سكّان البلدان الإسلامية، ويثير مخاوفهم. ومن هنا لا طريق أمامنا لتحقيق التقدّم سوى التَّبَعية للغرب. وذهب رشيد رضا إلى الادّعاء بأن المراد من المجتمع والاتحاد الإسلامي ليس هو الاتحاد السياسي وإقامة إمبراطورية إسلامية، بل هي دعوةٌ إلى الاتّحاد الأخلاقي وتعزيز روح الإخاء.
وقد قام عبد الحميد الزهراوي ـ وهو من المحسوبين على المتديِّنين ـ بنقدٍ جادّ لمفهوم الجامعة الإسلامية، وقال في كتابه «السنوسية والجامعة الإسلامية (حقائق نافع بيانها)»: إن هذه الجامعة لا وجود لها على أرض الواقع، حيث كان المسلمون يمزِّقون بعضهم على طول التاريخ، بل لم يفعلوا شيئاً حتّى تجاه صدّ الاجتياح المغولي والصليبي لأرضهم. وعليه فإن هذه الجامعة مجرّد رغبةٍ ساذجة، ليس لها أدنى أثر. وطالب المسلمين بأن ينظروا إلى الأمور بواقعيةٍ.
وبعد ثورة عام 1908م في تركيا، واستلام الشباب التركي للحكم هناك، ظهرت في العالم العربي حركاتٌ وطنية، تجنَّبت الحديث عن الجامعة الإسلامية، واستبدلَتْه بالحديث عن القومية العربية والاتحاد العربي. وقد أدّى إعدام عددٍ من المفكِّرين العرب، وعلى رأسهم عبد الحميد الزهراوي، سنة 1916م، على يد جمال باشا، إلى تعزيز الحركة القومية العربية وترجيحها على كفّة الجامعة الإسلامية، حتّى كان رشيد رضا يكتب في المنار في عام 1919م عن المسألة العربية، دون المسألة الإسلامية. أما الذي تقدّم بخطوةٍ كبيرة في الدعوة إلى توحيد المفهوم العربي الإسلامي رسمياً فهو المفكِّر العراقي عبد الرحمن البزّاز، حيث بسط أفكاره في مؤلَّفات من قبيل: «من وحي العروبة»، و«دفاع عن العروبة»، و«هذه قوميّتنا»، و«أضواء على التفكير القومي». وادّعى في الأساس أن الإسلام دينٌ عربي، بل ذهب إلى حدّ القول بأن الإسلام دينٌ خاصّ بالعرب، شأنه في ذلك شأن الديانة اليهودية بوصفها ديناً خاصاً ببني إسرائيل. ليعود بعد ذلك لاحقاً ويعدِّل من هذه الاندفاعة، ويقول: إن الإسلام دينٌ عربي، ولكنّه لا يختصّ بالعرب. وعلى هذه الشاكلة خفَّتْ حدّة الدعوة الإسلامية ما بين الحربين الكونيتين، وازدهرَتْ على حسابها الدعوات القومية. وعلى الرغم من ذلك عاد لجَذْوة الجامعة الإسلامية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أوارها من جديد، حيث تأسّست جماعة الإخوان المسلمين، وبزغ نجم شخصيات، من أمثال: أبي الحسن الندوي، حيث ألَّف كتاباً بعنوان: «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»، وكانت له أصداء واسعة، وقد طالب فيه بعودة الإسلام إلى السلطة؛ ليفي بدَوْره التاريخي.
وفي مقابل هؤلاء، الذين يرَوْن الطريق إلى حلّ جميع المعضلات والمشاكل يكمن في إقامة الجامعة الإسلامية، كان هناك آخرون يرَوْن جذور المشاكل في الاستبداد الداخلي، وطالبوا بتفعيل مبدأ الشورى في إدارة الحكم والدولة. ومن أهمّ الداعين إلى ذلك المفكِّر السوري عبد الرحمن الكواكبي. ومن بين الأسباب الدينية والأخلاقية والسياسية أعطى الكواكبي الأولوية للعامل السياسيّ، وذكر ذلك في كتابَيْه: «أمّ القرى»؛ و«طبائع الاستبداد». وقد ذهب الكواكبي إلى اعتبار استبدال حكم الشورى والخلفاء الراشدين بالسلطنة الوراثية، وغياب الحرّيات، والاستبداد المطلق، من أسباب ضياع وتخلّف المجتمعات الإسلامية. وعلى الرغم من قول البعض: إن الاستبداد السياسي وليد الاستبداد الديني، يذهب الكواكبي إلى رفض هذا الكلام قائلاً: إنه لا ينسجم مع طبيعة الإسلام؛ إذ إن الكثير من تعاليم القرآن تدعو إلى وَأْد الاستبداد في مَهْده.
كما تُعَدّ ظاهرة التغريب من أهمّ ظواهر ما بعد الحربين العالميتين، وكان محورها الرئيس في مصر، ويأتي بعدها لبنان بالدرجة الثانية. وتطالعنا في هذا المجال أسماء شخصيات لامعة، من أمثال: أحمد لطفي السيد، وشبلي شميل، وسلامة موسى، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، وعليّ عبد الرزّاق([3])، ومحمود عزمي، ومنصور فهمي، وإسماعيل مظهر. إن التغريبيين المصريين في الوقت الذي يوجِّهون إلى الإسلام انتقادات لا ترحم، قابلوا ذلك باستسلامٍ مطلق للغرب، ولم يمارسوا تجاهه ذات النقد العلمي والمنهج الديكارتي الذي ساروا عليه في تعاطيهم مع التعاليم الإسلامية…، وبذلك لا نشاهد توازناً في أساليبهم. ويعود السبب في ذلك إلى أحد أمرين؛ فهو إما أن يكون نتيجة لهزيمةٍ نفسية ثقافية ولّدتها الهزيمة السياسية، أي إن المغلوب يميل دَوْماً إلى تقليد الغالب؛ وإما إلى أن تجربة هؤلاء المفكِّرين مع الغرب كانت ناقصةً، من حيث إنهم حين اتّصلوا بالغرب لم يتّصلوا به إلاّ لفترةٍ قصيرة، لا تكفي لتعرُّفهم على جميع وجوه هذه المدنية؛ بغية تقييمها ونقدها. فعلى سبيل المثال: قام طه حسين بتأليف كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» سنة 1938م، أي بعد سنتين من تحرُّر مصر رسمياً من الاحتلال، ودافع فيه عن الثقافة القِبْطية، معتبراً مصر وثيقة الصلة بالإغريق والجزء الغربي من الحضارة العالمية، دون الإسلامية، وطالب بتغريب المجتمع المصريّ بالكامل. كما كان التقليديون في مصر أو شيوخ الأزهر؛ حيث يدافعون عن الماضي، يعانون من نقصٍ كبير، ولم يكونوا يتمتّعون بالمقدرة العقلية الكافية لفهم الغرب.
وبالتدريج تبلورت هذه الفكرة القائلة بضرورة الحصول على التكنولوجيا الغربية، مع الحفاظ على القِيَم الأخلاقية والمعنوية للشرق والإسلام. وكانت هذه هي رؤية «علال الفاسي». بَيْدَ أنه لم يتمّ عملٌ دقيق بشأن هذه المفارقة والثنائية، وإمكانية التعايش بين هذين العنصرين على المستوى التجريبي والعملي، ولم يتّضح ما إذا كان بالإمكان الجمع بين هذين المفهومين عمليّاً أم لا؟
وأما القضية الأخرى التي كان لها أصداء سياسية واسعة، وتركت بصمتها القوية على الحركة الفكرية الإسلامية في العالم العربي الحديث، فقد تمثَّلت في مسألة العلاقة بين الدين والدولة، أو بين الشريعة والقانون (فصل الدين عن السياسة). وقد تجلَّت هذه القضية بأحد شكلين: الأوّل: التخلّي عن المحاكم الشرعية والرضوخ للقوانين الوضعية؛ والثاني: وهو الأخطر، قد تمثَّل في الدعوة إلى التخلّي عن الدين في مسرح الحياة العامة. وكان معظم المروِّجين لهذه الظاهرة ـ في بادئ الأمر ـ من غير المسلمين، من أمثال: سكوت (المستشار القضائي الإنجليزي في مصر)، وهانوتو (السياسي الفرنسي)، واللورد كرومر (المعتمد البريطاني في مصر). ورُبَما بدا للوَهْلة الأولى أن ليس لهذه الدعوات أيّ أغراض سياسية؛ لأنها تتعمَّد صراحةً استبعاد الاعتبارات الدينية من المجال السياسي، لكنّ الحقيقة هي خلاف ذلك تماماً؛ إذ إن التخلّي عن الإسلام يمهِّد الأرضية المناسبة لتقبُّل الثقافة والقِيَم الغربية.
وقد كانت حركة عليّ عبد الرزاق ـ الشيخ الأزهريّ وعضو حزب الأحرار الدستوريين ـ شديدة التأثير في الأوساط. وقد ألّف كتابه «الإسلام وأصول الحكم» سنة 1925م، أي بعد عامٍ واحد من إلغاء الأتراك للخلافة العثمانية. وقد قام كتابه هذا على أساس دعويين، وهما: أوّلاً: القول بفصل الدين عن السياسة؛ وثانياً: القول بأن الخلافة والأنظمة السياسية والحضارة الإسلامية لم تكن إسلاميةً. وبذلك كان يحصر الدين بالأمور الروحية والمعنوية؛ ليفتح الطريق أمام التقدّم العلمي والتطوّر الصناعي. وقد ادّعى في هذا الكتاب أن الدين الإسلامي بريءٌ من تلك الخلافة التي عهدها المسلمون على مدى القرون. لا شَكَّ في أن أدلة عليّ عبد الرزاق التاريخية لا تقوى على الصمود أمام النقد الرصين. وإن رؤيته المجافية للدنيا ـ إذ يقول: إن الدنيا أهون عند الله من أن يشغل بها ـ لا تكتسب قيمةً إلاّ في الإطار الصوفي، وإلاّ فإن النبيّ كان يمارس الكثير من الأنشطة الدنيوية. ومع ذلك فإن عبد الرزّاق كان محقّاً في نقد نظام الخلافة، والتصوُّر المتطرِّف الذي يحيط الخليفة بهالةٍ من القوة والقداسة، وإظهار عدم قداستها.
ومع ذلك لا بُدَّ في ما يتعلَّق بنظرية عبد الرزّاق من الالتفات إلى نقطتين، وهما:
أوّلاً: إنه بسبب انتمائه إلى حزب الأحرار الدستوريين كان على خلافٍ مع الخلافة ومسائلها. وقد انعكس هذا الرأي ـ الذي هو رأيُ حزبه أيضاً ـ بوضوحٍ وعلى نحوٍ حاسم في نظريته.
وثانياً: بعد سقوط الخلافة العثمانية أراد محمد عليّ باشا تنصيب نفسه خليفةً على مصر، وقد وافقه عددٌ من علماء الأزهر على ذلك. وحيث لم يكن في وسع عليّ عبد الرزاق الدخول في مواجهةٍ مباشرة مع محمد عليّ باشا، والتصريح بفقدانه صلاحية الخلافة، توجَّه إلى أصل الخلافة باعتبارها أمراً من صنع البشر، وأنها فاقدةٌ للقداسة.
وكان عبد الحميد بن باديس ـ مؤسِّس «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» ـ من بين الذين انتقدوا الخلافة، وقال: إن هذه المؤسسة كانت صحيحةً في الأصل، ولكنّها فقدَتْ روحها حالياً، وانسلخَتْ عن معناها الأصلي، ولم يبْقَ منها سوى شبح وفزّاعة تخيف الأوروبيين، ويتّخذون من ذلك ذريعةً لقتال المسلمين. كما انتقد موقف بعض علماء الأزهر الذين طالبوا بالخلافة لملك مصر. وعلى الرغم من أنه لم يكن يدافع عن الخلافة، ولكنّه في الوقت نفسه لم يَرَ فيها سبباً لجميع مآسي المسلمين.
وقد شهدت مصر في أواسط النصف الأول من القرن العشرين للميلاد ظهور الإخوان المسلمين. فقد تأسّست هذه الجماعة في عقد الثلاثينيات من القرن الميلادي المنصرم. وحيث شهدت فشل الأحزاب المتصارعة تحت الانتداب الإنجليزي فقد أطلقت على نفسها مصطلح «الجمعية»، وطالبت بحلّ جميع الأحزاب، وأخذَتْ تدعو إلى نظام الحزب الواحد. بل إن جمال عبد الناصر ـ العدوّ التاريخي للإخوان المسلمين ـ قد استلهم فكرة الحزب الواحد من أفكار حسن البنّا والإخوان المسلمين. لقد كان حسن البنّا ـ مؤسّس هذه الجمعية، والذي كان يتمتّع بكفاءةٍ عالية في إدارة هذه الجماعة ـ يرى أن الهدف والغاية من حركته أحد أمرين: الأوّل: تحرير الشعب المصري؛ كي يحصل على استقلاله وسيادته؛ والثاني: بناء أمّة تسير نحو التقدّم والكمال. وقد كان يطالب بإقامة حكومةٍ إسلامية، ولكنّه لم يدافع عن الخلافة، ولا يراها منظومةً إسلامية بالضرورة.
وأما (علال الفاسي) فهو مفكِّر اجتماعي، قبل أن يكون مفكِّراً سياسياً، حيث كان يتمتَّع برؤيةٍ شاملة. وقد عرض آراءه في كتابه «النقد الذاتي»؛ إذ يقول: «لا مسؤولية بغير حرّية، ولا حرّية بغير تفكير». وقد جعلت منه شخصيّته المعتدلة والناضجة مقبولاً من قِبَل الآخرين. وقد كان ينظر إلى الدين نظرةً ديمقراطية، ويدافع عن الديمقراطية المعدّلة أو المقيّدة، وكان يخالف رؤية أمثال عبد الرزّاق، الذي يعتبر الدين منفصلاً بالكامل عن السياسة والحياة الاجتماعية، وكان يصف أفكارهم بـ «الإسرائيليات الجديدة». إن العمل في الفضاء المعاصر وتعقيداته يصعب أن يكون منسجماً ومعتدلاً ودقيقاً. بَيْدَ أن الفاسي قد استطاع السَّيْر فوق هذا الحبل الدقيق، في حين قام سيد قطب من خلال تأليفه كتاب «معالم في الطريق» (سنة 1964م) بشنّ حملة شعواء على جميع النظم السياسية القائمة، ناعتاً إيّاها بالجاهلية، وداعياً صراحةً إلى تكوين تكتُّلات تلقي بها إلى الهاوية. وقد جاءت دعوة سيد قطب هذه في وقتٍ كانت السياسة المصرية تواجه أزمات داخلية وخارجية حادّة؛ فاتُّخذت هذه الدعوة مسوِّغاً لإجراءات قضائية أدَّتْ إلى إعدام سيد قطب، الذي كان وقعه ثقيلاً على الطرفين.
6ـ العودة إلى القِيَم
في الفصل السادس، وهو بعنوان «القِيَم»، يتناول فهمي جدعان اهتمام المفكِّرين بالقِيَم الأخلاقية في التقدّم. لقد اتّخذت مسألة الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين شكلاً آخر من خلال طرح المسائل الاجتماعية والرؤية المنهجية والاهتمام بالمجتمع والاتجاه الأخلاقي، وتمّ طرح مسألة القِيَم، حيث يمكن إدراجها وحصرها ضمن الدوائر الثلاث التالية:
1ـ دائرة القيمة التمدُّنية.
2ـ دائرة القِيَم الأخلاقية ـ الاجتماعية.
3ـ دائرة القِيَم الاجتماعية ـ الاقتصادية.
لقد اهتمّ بعض المفكِّرين المعاصرين بالتأمُّل في مفهوم الحضارة الأوروبية. ويمكن لنا أن نذكر من بين هؤلاء: رفيق العظم، حيث قام بتحليل الحضارة وعناصرها، متأثِّراً بمقدّمة ابن خلدون، وألّف كتاب «البيان في التمدّن وأسباب العمران». وقد كان لنقد الغربيين، ومن بينهم: لورد كرومر، القائم على مخالفة الإسلام للتمدّن، تأثيرٌ كبير على بلورة هذه الاتجاهات.
وفي هذه المرحلة شهدنا بضع نظريات تمدّنية، من قِبَل أشخاصٍ من أمثال: مصطفى الغلاييني، وفريد وجدي، ومالك بن نبي، ورفيق العظم، وهي في الغالب متأثّرة بالغرب. ومن بينهم: عبد الرحمن الشهبندر، في كتابه «القضايا الاجتماعية الكبرى في العالم العربي»، حيث ارتضى نظرية (أوغست كونت) الوضعية، التي تقول بأن التاريخ والتمدّن عبارةٌ عن اجتياز المراحل الثلاث، وهي: المرحلة الربانية؛ والمرحلة الميتافيزيقية؛ والمرحلة العلمية الوضعية، دون أن يراها مخالفةً للإسلام، أو أن يبدي التفاتاً إلى هذه الناحية. ومن أهمّ هؤلاء المنظِّرين: مالك بن نبي الجزائري، المتأثِّر بالمفكِّرين الغربيين بشدّةٍ، ولكنّه يعتبر في الوقت نفسه تلميذاً أصيلاً لعبد الرحمن بن خلدون. وقد كان ابن نبي يتجنّب الخَوْض في الأبحاث النظرية والكلامية بشأن تقدّم الغرب، أو التأكيد على مسائل من قبيل: الاستعمار، والعلم والجهل، أو التوحيد، ويرى أن المفكِّرين الإسلاميين، بَدَلاً من الاهتمام بجذور الداء والمرض، قد تشبّثوا بأعراضه، وقد كتبوا الكثير من الوصفات دون تشخيص هذا الداء. إنّ لكل حضارة ثمارها ومحاصيلها الخاصّة، ومن هنا لا يمكن استيراد محاصيل الحضارات الأخرى وإدخالها في حضارة لا تنتمي إليها بصلةٍ. وفي رأي مالك بن نبي أن قضية الإنسان تتعدّد بتوجيهه في دوائر عدّة، وهي:
1ـ الدستور الأخلاقي.
2ـ الذوق الجمالي.
3ـ المنطق العملي.
4ـ الصناعة أو التقنية.
وفي البداية انبهر المسلمون بتقدّم الغرب، ولكنّهم في القرن العشرين تنبَّهوا إلى النقص الأخلاقي والأزمة الروحية التي يعاني منها الغرب، وأخذوا يفكّكون بين هذين الأمرين. ونحن مدينون في ذلك بالدرجة الأولى إلى المفكِّر العراقي عبد الرحمن البزّاز. وبالتدريج تبلورت المسالك القِيَمية التي تستند إلى القِيَم الأخلاقية بوصفها من عناصر التقدّم. ومن بين هؤلاء يمكن لنا تسمية الشيخ عبد القادر المغربي، الذي ألَّف كتاب «الأخلاق والواجبات» في هذا الاتجاه. إن الأخلاق الاجتماعية عند هؤلاء المفكّرين تقوم على أساسين، وهما: الأساس أو المستوى الإيجابي؛ والمستوى السلبي. وقد كان لعبد القادر المغربي الدَّوْر الأكبر في المستوى الأول، بينما كان لقاسم أمين الدَّوْر الأكبر في بيان النقص الأخلاقي الموجود في العالم الإسلامي.
لقد توصّل عبد القادر المغربي، بعد لقائه بالسيد جمال الدين في الآستانة، إلى نتيجة مفادها أن أساس التغيير الداخلي بفعل التربية. يقول المغربي: إنه سأل السيد جمال الدين مرّةً عن الإصلاح، فأجابه بأن الإصلاح الديني حركةٌ شبيهة بالحركة اللوثرية الدينية. ومن هذه الناحية كان السيد جمال الدين يطالب بالإصلاح العلمي والتعليمي البَحْت. وقد قال السيد جمال الدين ذات مرّة: إن خير طريقة لجذب الأوروبيين إلى الإسلام تكمن قبل كلّ شيء في «أن نثبت للأوروبيين أننا غير مسلمين».
وإلى جانب هذه الأعمال الإيجابية، والتأكيد على الأمور الواجبة، عمد بعض المفكِّرين إلى وضع اليد على المشاكل والآفات الاجتماعية في العالم الإسلامي، وهي مشاكل من قبيل: حرّية المرأة، والعبودية الاجتماعية، وتقليد الغرب، والنزعة الجَبْرية.
إن قضيّة المرأة في العالم الإسلامي قد مرَّتْ بثلاث مراحل أساسية، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة الدعوة إلى تربية المرأة.
المرحلة الثانية: مرحلة الدعوة إلى تحرير المرأة.
المرحلة الثالثة: مرحلة الدعوة إلى إصلاح المرأة.
وفي الوقت الذي يعتبر رفاعة رافع الطهطاوي ممثِّل المرحلة الأولى، يمكن اعتبار قاسم أمين ممثِّل المرحلة الثانية، حيث ألَّف كتابه «تحرير المرأة» سنة 1899م، وطالب فيه ـ ضمن الالتزام بالإسلام ـ بالتساهل في شأن الحجاب للمرأة، واعتبر أن الحجاب يمثِّل عقبةً تحول دون تقدُّمها. وقد واجه هذا الكتاب ردود فعلٍ شديدة من قِبَل علماء الأزهر. وعمد قاسم أمين إلى تأليف كتاب «المرأة الجديدة» سنة 1900م في الردّ عليهم، وذهب فيه إلى مواقف بعيدة، حتّى أنكر أن يكون الإسلام هو أسمى مراحل التمدُّن البشري، ودافع فيه عن الغرب بشدّةٍ، وانتقد العلماء.
ذهب الدوق الفرنسي داركور، في كتابه «مصر والمصريون»، إلى القول بأن الإسلام هو السبب الرئيس في تخلّف المسلمين. إلاّ أن قاسم أمين قد ردَّ على هذا الكلام في كتابٍ له بعنوان «المصريون». يرى قاسم أمين أن الاستبداد السياسي قد اضطهد الرجال، فقام هؤلاء ـ بدَوْرهم ـ باضطهاد النساء. وقد انعكس هذا الاستبداد بين المسلمين بوجهٍ خاصّ في مظهرين اجتماعيين رئيسين، وهما:
أوّلاً: نقص تربية النساء.
ثانياً: رسوخ عادة الحجاب.
وفي ما يتعلَّق بالحجاب يرى قاسم أمين أنه كان في الأصل تقليداً شائعاً بين نساء اليونان إذا خرجْنَ من بيوتهنّ، فكان موجوداً قبل الإسلام، وأما الإسلام فقد أقرَّه دون أن يكون هو مَنْ وضعه أو شرَّعه. ولذلك عمد قاسم أمين إلى المطالبة بالتخلّي عن الحجاب تدريجياً.
وفي مقابل الرؤية الليبرالية لقاسم أمين، الذي عمد إلى اجتثاث قضية المرأة من التقاليد الإسلامية، يمكن لنا أن نتحدَّث عن مرحلةٍ ثالثة تبدأ بالسيدة ملك حفني ناصف ـ واسمها المستعار «باحثة البادية» ـ، حيث لم تَرَ علاقة بين التقدّم والسفور، وفي الوقت الذي عملت على ضرورة إصلاح المرأة، بذلَتْ سعياً حثيثاً للحدّ من غَلْواء قاسم أمين. فقد عملَتْ أوّلاً في بحث الحجاب والاختلاط إلى اتّخاذ موقفٍ وسط بين التقليد والتغريب، ثم قامَتْ بنقد مسائل الزواج، وفي الخطوة الثالثة أنكرَتْ وجود علاقة بين السفور والتقدّم. وهي تدعو إلى تخفيف وطأة الحجاب عن الفتيات ما دمْنَ لم يتزوَّجْنَ؛ حتّى يتسنّى للشباب رؤيتهنّ واختيار شريكاتهم في الحياة. كما أنها ترى أن المصريات حتّى لو كُنَّ سافراتٍ فإن هذا لن يحول دون استخفاف الغرب بمصر.
وعلى أثر فرض الحجاب من قِبَل السلطات في دمشق نشرت (نظيرة زين الدين) كتاباً بعنوان «السفور والحجاب»، هاجمت فيه الحجاب. وقد استدعى هذا الكتاب ردّة فعلٍ شديدة من الشيخ مصطفى الغلاييني، وسعى في كتابه «نظرات في كتاب السفور والحجاب المنسوب إلى الآنسة نظيرة زين الدين» إلى إبطال ادّعاءاتها. وردت السيدة نظيرة بدَوْرها على هذا النقد بعنفٍ في كتاب بعنوان «الفتاة والشيوخ (نظرات ومناظرات في السفور والحجاب وتحرير المرأة والتجدُّد الاجتماعي في العالم الإسلامي)»، وضمّنته العديد من الأدلة لصالح رؤيتها، مع ذكر شواهد تفنِّد مدَّعيات الغلاييني.
لقد كان من الطبيعي أن لا يغفل المفكِّرون المسلمون عن خطورة المشكلة الاجتماعية ـ الاقتصادية، بعد أن تراءى لهم شيئاً فشيئاً أن أقطارهم لا تملك البقاء خارج إطار الصراع؛ إذ لم يكن الاستعمار إلاّ نتيجة طبيعية للرأسمالية النامية الباحثة عن مصادر للثروة، ومراكز للتسويق. وقد أدرك بعض المسلمين الفَرْق بين الاشتراكية والشيوعية بشكلٍ مبكِّر، فأبدَوْا تساهلاً مع الأولى، بينما أبدَوْا مقاومةً نفسية وعملية تجاه الثانية، حتّى عبّر الشاعر المصري أحمد شوقي عن هذا الموقف العامّ بقوله في وصف النبيّ الأكرم:
الاشتراكيون أنت إمامُهم *** لولا دعاءُ القوم والغلواءُ
وفي البداية اعتبر هؤلاء أن النظام الإسلامي هو ذات النظام الاشتراكي، إلاّ أنهم جهدوا بعد ذلك في إيجاد مصطلحٍ خاص يميِّز النظام الإسلامي من غيره. فاقترح بعضهم أوّل الأمر عنوان: «النظام الإسلامي»، إلاّ أن هذه التسمية بدَتْ عامة جدّاً، ولا تعبّر عن طبيعة التصوُّر نفسه، ممّا دفع آخرين إلى تبني مصطلح «العدالة الاجتماعية» أو «الجماعية الإسلامية». بَيْدَ أن أكثر المصطلحات تعبيراً عن التصوّر الإسلامي لهذه المشكلة في رأي هؤلاء المفكِّرين هو من غير شكٍّ مصطلح «التكافل الاجتماعي»، الذي كان أيضاً من أكثر المصطلحات استخداماً عند الكثير من المفكِّرين للتعبير عن المشكلة الاجتماعية في العالم الإسلامي المعاصر. وكانت الطريقة السنوسية الصوفية هي أوّل مَنْ أشاع هذا المصطلح، حيث أقام السيد محمد بن علي السنوسي ـ شيخ هذه الطريقة ـ في ليبيا الكثير من التَّكايا والزوايا في منتصف القرن التاسع عشر للميلاد، وأخذ من خلالها يدعو إلى نوعٍ من العدالة الاجتماعية بين قبائل الصحراء، الأمر الذي أوجس منه الغربيون خيفةً.
كما كان المفكِّر السوري رفيق العظم من أبرز المفكِّرين المعاصرين في البحث بشأن «التكافل الاجتماعي» أو «التكافل العامّ»، وسعى إلى بيان التلاحم الاجتماعي والمسؤولية العامة لجميع المسلمين على أساس العدالة الاجتماعية الإسلامية. ويمكن الوقوف على ملخَّص أفكاره الاجتماعية في كتاب «تنبيه الأفهام إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام».
كما سعى مصطفى الغلاييني إلى حلّ المشكلة الاقتصادية في المجتمعات الإسلامية، من خلال تأليفه كتاب «حياة الأمم وموتها، أو التضامن والتكافل والتخاذل والتواكل». فهو ينطلق من مقولة الإنسان مدنيٌّ بالطبع، وهذا المبدأ يقوم على التكافل، وهو على نوعين: تكافل عامّ تتعاون فيه جميع طبقات المجتمع فيما بينها لحلّ مشاكلها؛ وتكافل خاصّ يختصّ بجماعة وفئة بعينها، وهذا الضرب من التكافل والتضامن لا يتحقّق إلاّ من خلال تأسيس الجمعيات والنقابات.
تعود البذور الأولى للتفكير الاشتراكي والاجتماعي إلى آراء السيد جمال الدين وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا، حيث كانوا يرَوْن في الصدقات والزكاة وتحريم الرِّبا نوعاً من التفكير الاشتراكي. يرى عبد القادر المغربي أن ليس في الدين الإسلامي شيءٌ يُسَمَّى «البطالة»، وأن هذه الكلمة لم تَرِدْ في قاموس تعاليمه الدينية قطّ، على العكس تماماً من كلمة «العمل»، التي يندر أن لا نجدها في القرآن والسنّة. وقد ذكر عبد القادر المغربي ثلاثة أنواع من البطالة، وثلاث فئات من المتبطّلين، وهي:
1ـ بطالة الصوفيين والمتنسِّكين. وهي بطالةٌ سلبية، يسعى أصحابها إلى التعيُّش والتكسُّب.
2ـ بطالة طلبة العلوم الدينية (طلبة العلم).
3ـ بطالة الذين يقنعون بحياة الكفاف، والذين يعرضون عن السعي والكدّ في طلب الرزق، استناداً إلى بعض الأحاديث؛ خشية أن ينسبوا إلى الخِسّة والجَشَع والتكالب على الدنيا.
في حين يذهب عبد القادر المغربي إلى اعتبار العمل والنشاط جوهر الاقتصاد. بَيْدَ أنه يقف عند حدود البحث العامّ، ولا يذهب إلى أبعد من ذلك، ولا يشير إلى ظاهرة استغلال العمّال.
كما سعى عبد الرحمن البزّاز إلى رسم نظامٍ اقتصادي مختلف عن الرأسمالية والاشتراكية، وتخلّص من عيوبهما، واشتمل على مزاياهما. وبَدَلاً من استعمال مفهوم التكافل الاجتماعي أبدع مصطلح «النزعة الجماعية»، وقال في كتابه (روح الإسلام): لا يوجد في هذا النظام انفلات وفردانية الرأسمالية، ولا استبداد الاشتراكية. ومن وجهة نظره فإن جميع الأحكام الإسلامية، من قبيل: صلاة الجماعة والزكاة والحجّ، ذات مظهر اجتماعي.
أما المفكِّر الذي كان أبرز مَنْ عُني حديثاً بالمشكلة الاقتصادية في العالم العربي فهو سيّد قطب، بتأثير من عبد القادر عودة.
وقد استند عبد القادر عودة في كتابه «الإسلام وأوضاعنا السياسية» إلى هَدَفية الخلق، وتسخير الطبيعة لخدمة الإنسان. كما أنه يرى أن الإنسان ليس مالكاً للمال، بل إن المال أمانةٌ بيده، لا يملك منه إلاّ حقّ الانتفاع به، كما أن للآخرين حقّ الانتفاع به أيضاً، ويمكن للدولة أن تحدّ من دائرة هذه الملكية وتقيِّدها.
وقد سعى سيد قطب في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» إلى إكمال مشروع عبد القادر عودة. وقد بدأ ذلك من مفهوم التوحيد. فالتوحيد من وجهة نظره ليس مجرّد عقيدةٍ كلامية، وإنما يشمل جميع أركان الوجود. كما أن العدالة قبل أن تكون مقولةً اقتصادية هي مقولةٌ إنسانية. وبذلك نكون أمام وحدة متكاملة تقوم على ثلاثة أركان، وهي:
1ـ التحرُّر الوجداني المطلق.
2ـ المساواة الإنسانية الكاملة.
3ـ التكافل الاجتماعي الوثيق.
وبالتالي فإن الإسلام يحرّر الإنسان من جميع أنواع الذُّلّ، ومن بينها: الحاجة الاقتصادية، ويعتبر جميع الناس سواسية، ويدعو الى التلاحم الاجتماعي بين الجميع.
كما يسير مصطفى السباعي على منهج عبد القادر عودة وسيد قطب ذاته، إلاّ أنه تميَّز بالدرجة الأولى بجرأته على إطلاق اسم «اشتراكية الإسلام» أو «الاشتراكية الإسلامية» على منظومته الاقتصادية المقترحة.
7ـ الإسلام والمستقبل
في الفصل الأخير من هذا الكتاب يسعى الدكتور فهمي جدعان إلى لملمة الأفكار المبعثرة في طول هذا الكتاب وعَرْضه، والصادرة عن مختلف المفكِّرين. وبذلك يحاول تقديم صورةٍ واضحة للواقع الراهن الذي عليه الفكر الإسلامي، والمسار الذي يجب سلوكه، والموقف الذي يجب اتخاذه من مجمل هذه الأفكار. وبهذه الرؤية يستعرض عدّة نقاط ويركِّز عليها:
النقطة الأولى: لقد أثبت التاريخ أن الإسلام تمكّن من تجاوز الكثير من العقبات والأزمات بنجاحٍ، واستطاع أن يثبت جدارته. ولكنْ لا يَسَعنا أن نحكم من هذا المنطلق بشأن المستقبل المجهول. فإذا أراد الفكر الإسلامي أن يواصل حضوره ويثبت ذاته فهو مضطرٌّ إلى التماهي مع الواقعيات الراهنة، وأن يتجنَّب المثالية المفرطة والأفكار المنفصلة عن الواقع.
النقطة الثانية: أن تاريخ الفكر الإسلامي قد استعرض أربعة أساليب ومناهج معرفية، وهي: المنهج العقلي؛ والمنهج النقلي؛ والمنهج العرفاني؛ والمنهج التجريبي. لقد تبلور المنهج العقلي في النصّ القرآني، بحيث إن للعقل كلمة الفصل في كلّ مسألة ناظرة إلى الكَوْن والإنسان. وقد كانت هذه الرؤية العقلية وليدة الفكر الأصولي والاجتهادي عبر التاريخ. وإلى جانب هذه الرؤية نلاحظ الاتجاه النقلي، الذي تبلور في القرن الثالث الهجريّ من طريق الحنابلة. وتمخّض العرفان من صلب الزهد والتنسُّك، وتجلّى عبر مؤلَّفات بعض فلاسفة الإشراق. وظهرت الرؤية التجريبية بالتزامن مع تسلُّل الفكر اليوناني إلى الثقافة الإسلامية، وأدّت إلى تبلور علوم، من قبيل: علم الطب وعلم الهيئة، ولكنْ حالت بعض الأسباب دون تواصل هذا المسار.
النقطة الثالثة: واقع العقلانية الإسلامية في العصر الراهن. والحقيقة هي أن هناك تيارين يحكمان العالم الإسلامي حالياً، وهما: أوّلاً: التفكير السَّلَفي؛ والآخر: الاتّجاه المتأثِّر بمفكِّري عصر النهضة. وإن السِّمَة الهامّة للتفكير السَّلَفي تكمن في التشبُّث الراديكالي بالماضي، ومعارضة الأفكار الجديدة والإبداع في التفكير. ومن ناحيةٍ أخرى نشاهد في التيار الجانح نحو الإصلاح ثنائيةً مستعصية على الحلّ بين التقليد والحداثة، والإيمان والعقل، والعلم والعقيدة، والماضي والحاضر. وعلى هذه الشاكلة نرصد شطراً كبيراً من الطاقة الفكرية للمجتمع الإسلامي في طريقها إلى التآكل بين هذين التيارين.
النقطة الرابعة: ناظرةٌ إلى تحدّيات وهواجس المستقبل. إن كلّ محاولة في إطار الخروج من الوضع الراهن هي رهنٌ بإدراك الذات بشكلٍ صحيح، ومعرفة مشاكلها الرئيسة. وإن هذه المشاكل تتلخّص في: التخلّف، ومعضلة التراث، والاغتراب، والعلم، والتغيّر. وأما سائر المسائل الفرعية الأخرى فهي وليدةُ هذه التحدّيات والهواجس.
إن التخلّف حقيقةٌ لا يمكن إنكارها. ولكنْ حتّى الآن لم يتمّ تقديم إجابة واضحة وكافية عن سبب هذا التخلّف، حيث تتراوح الإجابات ابتداءً من سقوط الدولة العثمانية إلى تحوّل الخلافة إلى ملك عضوض في عهد معاوية بن أبي سفيان. والمراد من التراث مجموعة الأمور التي ورثناها من الأسلاف. ولا يندرج القرآن والحديث ضمن التراث؛ لكونهما ليسا من المعطيات البشرية. بَيْدَ أن جميع العلوم الإسلامية جزءٌ من التراث. واليوم هناك ثلاثة مواقف رئيسة تجاه التراث:
1ـ الدعوة إلى إحياء التراث.
2ـ استلهام التراث.
3ـ إعادة قراءة التراث في ضوء معطيات العلم الحديث.
وأما الاغتراب فهو حالةٌ واقعية تجلَّت على شكلين متطرّفين، وهما: الأوّل: الاتجاه الفكري السَّلَفي، الذي ينكر الواقعية الراهنة، ويريد العودة بالناس إلى الماضي، ويعتبر العصر الحاضر عصر جاهلية؛ والآخر: الاتجاه الفكري الليبرالي العلماني، الذي يسعى بدَوْره إلى تجاهل الواقعية الراهنة للمسلمين، ويريد منهم قطع الأواصر التي تربطهم بماضيهم. وقد مُني هذان التياران بالإخفاق والفشل.
وأما مسألة العلم فهي من المسائل الأصلية أيضاً. واليوم تنحصر تلك التيارات الأربعة المعرفية من الناحية العملية بتيّارٍ واحد نقليّ. ومن دون الاهتمام بالمعطيات العلمية الراهنة لا يمكن لنا الحديث عن التشريع والاجتهاد.
وأما مسألة العمل فهي من أهمّ مسائلنا، والمسلمون اليوم أمام تناقضين ومفارقتين: المفارقة الأولى: مفارقة الإيمان بالقِيَم غير المترجمة إلى ممارسةٍ عملية؛ والمفارقة الثانية: مفارقة الدعوة إلى القوّة، دون العمل الفعلي من أجل تحصيلها.
كما أن التغيير عبارةٌ عن واقعية تحدث في العالم، دون أن نستعدّ لها. ولا بُدَّ في هذا الشأن من أن نعدّ أنفسنا لذلك على المستوى الاستراتيجي وما بعد الاستراتيجي.
وبعد طرح هذه المسائل التمهيدية ينتقل الدكتور فهمي جدعان إلى بيت القصيد من بحثه، ويقترح بعض التوجيهات لحلّ المعضلات القائمة والحركة نحو المستقبل. وفي هذا الشأن يذهب إلى الاعتقاد:
1ـ في ما يتعلَّق بمواجهة التخلّف لا بُدَّ من الإيمان بضرورة التقدّم، والتخلّي عن عقيدة الجَبْر والقَدَر.
2ـ وفي ما يتعلَّق ببحث التراث يجب الاعتقاد بتاريخية التراث، وفصله عن نصوص الوَحْي، وإعادة صياغته من جديدٍ، بحيث يلبي حاجة العصر.
3ـ وفي ما يتعلَّق بالاغتراب تجب العودة إلى الذات، والإيمان بأن طريق التقدّم ينحصر بالتجذُّر في التراث، وتوظيفه في المضيّ إلى الأمام.
4ـ في مقابل مسألة العلم يجب سلوك طريق الدمج المادّي والاستقلاب المعنوي لمنتجات العلم، بحيث تصبح جزءاً عضوياً في بنية العقل، بأن نجعل من المعطيات العلمية والتكنولوجية جزءاً من وجودنا، أو أن نقوم بثورةٍ علمية وتقنية، من منطلق إيماننا بأن الإسلام يوافق العلم، وأن نعمل على طبق هذا الإيمان.
5ـ وفي ما يتعلَّق بمسألة البطالة يجب المزج بين التكنولوجيا والعقل السياسي. وبَدَلاً من التأكيد على الراديكالية، والإصرار على إقامة الدولة الإسلامية، يجب العمل على تظهير نموذجٍ صالح للتفكير الإسلامي.
6ـ وبالتالي فإن الطريق الوحيد في مسألة التغيير هو التكيُّف الواعي مع الوضع الطارئ.
إن الغاية من هذا التقرير لا تكمن في المناقشة، بل في تقديم صورةٍ شاملة وجامعة نسبياً عن الهواجس التي شغلت أذهان المفكِّرين المسلمين في العالم العربي على مدى القرنين المنصرمين، حيث سعى كلّ واحدٍ منهم إلى إعطاء الدين حقَّه كما يجب، دون التفريط في حقّ العقل. وإذا كان الكاتب قد نجح في رسم صورةٍ صادقة عن هذا الأمر فقد نال مُناه. إن الوقوف على آثار مكتوبة بقلمٍ نزيه وأدب علمي رفيع، بعيداً عن الإغراق في الهوامش والحواشي، وتقوم على دراسات منهجية واسعة، في عصرٍ شهد تخمةً في التأليف، يُعَدّ غنيمةً نادرة. وهذا الكتاب هو واحدٌ من هذه الآثار النادرة. ومن هنا ليس من اللازم أن نوافق المؤلِّف على جميع مدّعياته، أو أن نكون حتماً بصدد نقد مدّعياته المرفوضة. إنما المهمّ هو أن نتعرَّف على رؤية شخصٍ خبر على مدى عقود من الزمن أوضاع المسلمين من الداخل، ونظر إلى الواقع الفعلي للمسلمين وتياراتهم الفكرية بعينٍ أكاديمية، ونسعى إلى الاقتراب من التجارب المتراكمة في هذا الكتاب، والاستفادة منها، عملاً بقول الإمام عليّ×، إذ يقول بحقٍّ: «العاقل مَنْ اتَّعظ بغيره»([4]).
الهوامش
(*) باحثٌ بارز في الحوزة والجامعة.
([1]) جولةٌ في كتاب (أسس التقدّم عند مفكِّري الإسلام في العالم العربي الحديث)، من 614 صفحة، لمؤلِّفه: فهمي جدعان، في طبعته الثالثة، الصادرة سنة 2010م، عن دار الشبكة العربية للأبحاث في بيروت.
([2]) للتعرُّف على المزيد من الأفكار والسجلّ العلمي للدكتور فهمي جدعان انظر: (تحدّيات التقدّم الفكري والقوّة، السجلّ الفكري للدكتور فهمي جدعان، في حوار أجراه معه: علي عميم)، ترجمه إلى الفارسية: مجيد مرادي، نُشر في مجلة كتاب ماه دين، العدد 114 ـ 116: 4 ـ 21، بتاريخ: فروردين / خرداد، سنة 1386هـ.ش.
([3]) غالباً ما يذكر اسمه خطأ بـ (رزّاق).
([4]) عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، الحكمة رقم 4570.