أ. محمد زرقاني(*)
د. علي آغا نوري(**)
المقدّمة
كانت مدينة الريّ في المرحلة الزمنية الممتدّة من القرن الهجري الرابع إلى منتصف القرن السابع الهجري (328 ـ 656هـ)، أي من ظهور دولة البويهيين إلى هجمة المغول، تضمّ مختلف المذاهب والفرق ـ الأعمّ من بعض الأقلِّيات الدينية والمذاهب الإسلامية، من قبيل: الإمامية، والإسماعيلية، والزيدية، والمعتزلة، والأشاعرة، والشافعية، والحنفية، وغيرهم ـ. ومن هنا فقد كان أتباع الإمامية في هذه الحقبة الزمنية ـ حيث كانوا يشكِّلون أقلّية نسبية ـ يعيشون مع أتباع سائر الأقلّيات الدينية والفرق والمذاهب الإسلامية. وكان من الطبيعي أن تحدث بينهم نزاعات وخلافات متواصلة. وقد أدّى بعضها إلى حمل السلاح وإراقة الدماء وإزهاق الأنفس. وقد بلغت هذه الخلافات والنزاعات في بعض الموارد حدّاً يُنذر بزوال أصل ووجود الإمامية في تلك المدينة. ومن هنا فقد كان الإمامية على طول هذه المرحلة يعمدون؛ من أجل الحفاظ على وجودهم وبقائهم والدفاع عن حدود عقائدهم، إلى اتّخاذ مواقف من قبيل: التعايش والتعامل أو المواجهة بحَسَب الظروف السياسية القائمة، وبحَسَب إمكانياتهم في كلّ مرحلة. ولكنْ حيث إن اتخاذ المواقف وإقامة مختلف أنواع العلاقات مع الآخرين في الرؤية الإمامية تستند إلى سلسلةٍ من المباني الفكرية والعقائدية، فإن الإمامية في مدينة الريّ بدَوْرهم قد توصّلوا ـ في تلك المرحلة الزمنية، وبالاستناد إلى تلك المباني، والتمسُّك بالأهداف والسياسات الاستراتيجية المعتمدة على بُعْد النظر ـ إلى معطياتٍ جديرة بالملاحظة. ومن هنا سوف نعمل في هذه المقالة ـ ضمن الإشارة إلى بعض أهمّ المباني والعلاقات في فكر الإمامية ـ على استعراض نماذج من الأهداف والمواقف الاستراتيجية في هذا الشأن. وفي الختام سوف نذكر موارد من النتائج والمعطيات التي تمكّن الإمامية من الوصول إليها في هذا الخصوص.
1ـ المباني الفكرية والاعتقادية
هناك في كلّ مذهبٍ سلسلة من المباني الفكرية والاعتقادية التي تشكّل الأساس العقائدي والسلوكي لأتباع ذلك المذهب. وهناك في الدين الإسلامي الحنيف ـ ولا سيَّما عند الإمامية ـ سلسلةٌ من المباني الفكرية والعقائدية المتّخذة من المصادر الدينية، تحكم ـ بوصفها من المباني والأصول الحاكمة ـ على جميع الأمور العقائدية والتفكير والسلوك الفردي والاجتماعي. ومن هنا، حيث إن أتباع المذهب الإمامي في الريّ يشكِّلون جزءاً من أتباع المدرسة الإمامية، فإن جميع سلوكياتهم، ومن بينها: مواقفهم وعلاقاتهم مع الآخرين، سوف تدور بالضرورة حول هذه المباني العقائدية. وإن من بين أهمّ هذه المباني الفكرية العقائدية الموارد التالية:
أـ القيمة والكرامة الذاتية للإنسان
وعلى هذا الأساس يتمتَّع الإنسان بالقيمة والحرمة الذاتية والاكتسابية([1]). وعلى الرغم من أن استمرار هذه الكرامة في المراحلة اللاحقة رهنٌ بعمله وسلوكه، ولكنه على كلّ حال، وفي أصل الخلقة والخصائص الخاصة التي يتّصف بها، يمتلك حقوقاً وتكاليف يجب احترامها لذات السبب. وبناءً على هذا الأصل الأوّلي فإن جميع مواقف وعلاقات الإمامية مع الآخرين يجب أن تشتمل على قِيَم العزّة والكرامة الإنسانية. ومن هنا فإن كلّ موقفٍ أو مناسبة تؤدّي إلى الإضرار بقيمة وكرامة الإنسان أو تستوجب عدم احترامه تُعَدّ باطلةً ومرفوضة.
ب ـ العزّة والكرامة الواقعية للإنسان رهنٌ بتقوى الله وعبادته
يُقال: إن للإنسان كرامة ذاتية؛ ومكتسبة، ويجب رعايتها في المرحلة الأولى من قِبَل الفرد نفسه، وفي المراحل التالية من قِبَل الآخرين. ولكنْ ينبغي أن لا نغفل عن أصلٍ أهمّ، وهو أن القيمة والعزّة الواقعية للإنسان تكمن في تقوى الله وإخلاص العبادة له([2])؛ لأنه في ظلّ هذه العبادة الخالصة لله يتحرَّر من قيود الجهالة والطاغوت والشياطين، ومن خلال ضمان السعادة الدنيوية والأخروية يصل إلى الكمال والمكانة الحقيقية المتمثِّلة بالقرب من الله سبحانه وتعالى. وعليه يجب على الإنسان أن يبتعد عن جميع أنواع القيود والخضوع لغير الله عزَّ وجلَّ. ومن هنا يجب على المؤمن ـ في مواقفه وعلاقاته مع الآخرين ـ أن يراعي هذا الأصل، بالإضافة إلى مراعاته سائر الأصول الأخرى؛ إذ من طريق الارتباط مع الآخرين يتمّ تعزيز أصل العبودية لله، وهذا بدَوْره يُعِدّ لموجبات الخلاص من عبودية غير الله. وطبقاً لهذا الأصل فإن كلّ علاقة تؤدّي إلى الابتعاد عن الله، واتّباع غير الله، والخضوع للطاغوت، تُعَدّ من وجهة نظر الإسلام مرفوضةً وباطلة.
ج ـ العدالة ومواجهة الظلم وعدم المساواة
إن الله سبحانه وتعالى ـ طبقاً للأصول والتعاليم العقائدية التي ندين بها كمسلمين ـ إنما يحكم على أساس العدل، وإن أحد أهمّ فلسفات إرسال الرسل هو إقامة العدالة الاجتماعية، ومكافحة الظلم وعدم المساواة([3]). إن من بين أهمّ مصاديق وموضوعات العدالة الاجتماعية هو التعاطي العادل مع الناس على أساس مقتضيات الكرامة الذاتية والمكتسبة. توضيح ذلك: إن الإنسان، بالإضافة إلى الاحترام والقيمة الذاتية، يمكنه من خلال ممارسة التقوى والعبودية لربّ العالمين أن يحصل على العزّة والكرامة الاكتسابية العالية أيضاً. ومن هنا فإنه يتمتّع بسلسلةٍ من الحقوق والتكاليف الأوّلية والذاتية بما هو إنسان، كما يتمتّع بسلسلةٍ من الحقوق والتكاليف الثانوية والمكتسبة بما هو إنسان مؤمن وعبد لله (من قبيل: حقّ الحياة، وحقّ الانتخاب والاختيار، وحقّ العبادة، وما إلى ذلك من الحقوق الأخرى)، تجاه نفسه وتجاه الآخرين. ومن الواضح أن احترام الحقوق والتكاليف الأولية والذاتية، والعمل على تحصيل وتوفير الأرضية لتحصيل الحقوق والتكاليف الثانوية من قِبَل الفرد والآخرين، هو عين العدالة. كما أن العكس من ذلك، أي عدم احترام الحقوق والتكاليف الأوّلية، والتهاون ووضع العراقيل في مسار الحصول على الحقوق والتكاليف الثانوية، هو عين الظلم. ومن هنا فإن جميع مواقف وعلاقات المؤمنين مع الآخرين يجب أن تصبّ في إطار ضمان العدالة الفردية والاجتماعية، وفي سياق المساعدة على توفير الأرضية للوصول إلى الحقوق والتكاليف الأوّلية والثانوية؛ من أجل إقامة العدالة ومحاربة الظلم. وعلى هذا الأساس فإن كلّ نوعٍ من أنواع العلاقات والمواقف التي تؤدّي إلى الظلم وعدم العدل تُعَدّ باطلةً ومرفوضة.
د ـ حاكمية الله والتمسُّك باتّباع الله واجتناب الطاغوت
إن المعبود الحقيقي ـ طبقاً لمعتقداتنا وتعاليمنا الإسلامية ـ هو الله وحده؛ لأنه هو وحده خالق الكون والوجود ومالكه([4])، وليس هناك غيره مَنْ يستحقّ العبادة([5]). وعلى هذا الأساس إنما يجب اتّباع الله وحده أو مَنْ أذن الله باتّباعه([6]). ومن هنا فإن التبعية لغير الله ما هي إلاّ تبعية للطاغوت الذي يجب اجتنابه([7]). وبطبيعة الحال فإن لهذه التبعية لله واجتناب التبعية للطاغوت نتائج وثماراً أيضاً، ومن أهمّ الثمار والنتائج المترتِّبة على اتّباع الله هو الخروج من الظلمات والضلال إلى النور والهداية والكمال؛ كما أن اتّباع الطاغوت سيؤدّي إلى السقوط في الضلالة والضياع والظلمات ودخول الجحيم([8]). ومن هنا فإن المنشأ الذاتي لمشروعية جميع أنواع الحكومات والأنظمة ـ من وجهة نظر الإسلام ـ هو الله وحده، وإن مشروعية حكومة النبيّ الأكرم| والأئمة الأطهار^ والفقهاء في عصر الغَيْبة إنما تكون بإذنٍ من الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا الأساس فإن الإنسان ـ في التفكير السياسي للإسلام ـ إذا لم يكن ضمن دائرة الولاية الإلهية فإنه سيكون حَتْماً ضمن سيطرة ولاية الطاغوت، وليس هناك حالة وسط بين هذين الأمرين.
وعليه فإن جميع أنواع المواقف والعلاقات التي يقيمها المسلمون مع الآخرين على المستوى الوطني والعالمي يجب أن تقوم على محور الحكومة الإلهية والتَّبَعية لله، وتجنُّب جميع أنواع التَّبَعية لغير الله والاعتماد على الطاغوت، بمعنى أنه في ما يتعلَّق بكيفية الارتباط وإقامة العلاقات مع الآخرين واتّخاذ المواقف منهم يجب مراعاة هذا المبدأ، وعدم خروج المسلمين عن دائرة الحاكمية الإلهية. وهذا بطبيعة الحال لا يعني عدم الارتباط أو الالتزام بالعلاقات الصِّرْفة مع الملحدين والمشركين، بل إن كلّ نوعٍ من أنواع العلاقة مع الآخرين يجب ـ طبقاً لهذا الأصل ـ أن تقوم أوّلاً وبالذات على أساس إعلاء كلمة التوحيد، وترسيخ مبدأ الحاكمية المطلقة لله واتّباعه، وتجنُّب جميع أنواع التَّبَعية للطاغوت، أو أن لا تكون في الحدّ الأدنى مخالفةً لأصل التوحيد وعبادة الله والتوكُّل عليه. وعلى هذا الأساس فإن كلّ علاقة تؤدّي إلى اتباع غير الله، أو تفضي ـ في الحدّ الأدنى ـ إلى التَّبَعية والاعتماد على الطاغوت، ستكون مرفوضةً وباطلة.
هـ ـ الرأفة والمداراة مع المخالفين من غير المعاندين
لقد تمّ التأكيد في الدين الإسلامي الحنيف على أصل المداراة والرأفة ـ لا بمعنى الاستسلام والرضوخ ـ كثيراً، بحيث يمكن وصف الدين الإسلامي ونبيّ الإسلام بحقٍّ أنه دين المحبّة ونبيّ الرحمة([9]). ومن هنا ورد في التعاليم الإسلامية الأخلاقية التأكيد على التعاطي الليِّن والهادئ مع المخالفين من غير المعاندين([10]). وبطبيعة الحال لا بُدَّ من الاعتراف والإقرار بأن هذا الأصل الهامّ كان له دَوْرٌ رئيس سواء في أصل التبلور والظهور أو في اجتذاب الأتباع وفي انتشار الأتباع وتمدُّدهم في الأصقاع والأمصار. وعلى هذا الأساس يجب أخذ هذا الأصل ـ بالإضافة إلى سائر الأصول الأخرى في إقامة العلاقات والتواصل ـ بنظر الاعتبار أيضاً.
و ـ الغلظة والشدّة في المواجهة مع المشركين والكفّار والمخالفين المعاندين
إن الإسلام في الوقت الذي يتَّصف بكونه دين السلام والصداقة والمودّة والحفاظ على الحقوق والقِيَم الإنسانية، هو يخالف الكفر([11])، والشرك([12])، والنفاق([13])، والفتنة([14])، والعدوان([15])، والظلم والجَوْر([16])، ويدعو إلى الوقوف بوجه هذه المفاهيم بشدّةٍ وقوّة. ومن هنا فإن فلسفة الجهاد والقتال من وجهة نظر القرآن والمصادر الدينية والإسلامية هي إقامة العدل وضمان المصالح الحقيقية والحرّيات الواقعية للمجتمع والأمّة على أساس القِيَم الإنسانية والدينية؛ بغية تحقيق الفلاح والكمال والسعادة البشرية. وعلى هذا الأساس فإن مواجهة وجهاد كلّ مَنْ يقف عقبةً دون تحقيق هذا الهدف، ويحول دون الوصول إلى هذا التكامل الإنسانيّ، جائزٌ، بل ويكون في بعض الموارد فرضاً وواجباً. وعلى هذا الأساس فإن وصف الدين الإسلامي الحنيف بالمحبّة والرأفة والصلح والسلام تجاه المؤمنين، بل وحتّى المخالفين غير المعاندين، لا يتنافى مع هذا الأصل القائل بوجوب الغلظة والشدّة تجاه المشركين والكفّار والمعتدين المعاندين، الذين يعتدون على الدين، ويسلبون الناس حرّياتهم وأمنهم وطمأنينتهم. ومن هنا فإن الإسلام يقف بشدّةٍ في مواجهة المشركين والكفّار وجميع المخالفين والمعاندين والمعتدين، ولا يتسامح مع أعمالهم وتصرُّفاتهم العدوانية. وإن هذه المواجهة للمخالفين المعاندين والمتجاوزين تشمل حتّى المخالفين من المسلمين، وما يُصطلح عليهم إخواننا في الدين([17]).
ولا شَكَّ في طبيعة الحال بأن بعض الأصول والتعاليم الاعتقادية للدين الإسلامي الحنيف من شأنها أن تكون مباني للعلاقات، ولكنْ بسبب الدَّوْر الرئيس والركن الأساس الذي تلعبه الأصول المتقدّمة في هذا الاتجاه فإننا نكتفي بما تقدَّم؛ رعايةً للاختصار.
2ـ أهداف وسياسات الإماميّة في توجيه العلاقات
إن التكامل الإنساني والوصول إلى القرب الإلهي من أهمّ أهداف خلق الإنسان. وإن الوصول إلى هذا المقام والمنزلة لا يكون إلاّ من طريق العبودية لله سبحانه وتعالى، وذلك في ظلّ هدايته وتوفيقه. وإن أرضية وشروط هذه الهداية إنما تكون من طريق إرسال الرسل ونزول الوحي الإلهي ممثَّلاً بالدين الإسلامي الحنيف بوصفه أكمل وآخر الأديان السماوية، حيث مَنَّ الله به على البشرية بواسطة النبيّ الأكرم وخاتم الرسل إلى الأبد. ولكنْ كان هناك على الدوام في كلّ مرحلةٍ زمنية شخص أو جماعة من الناس الضالّين والمتَّصفين بكونهم من شياطين الإنس، يعملون على تحريف النصوص والمصادر الدينية، وتوجيه الاتهامات، وإثارة الشبهات تجاه الحقائق، وتأجيج النعرات والعصبيات والمواجهات العنيفة ضدّ المخالفين وغيرهم، يسعَوْن بجهلهم في إطار المواجهة مع الدين والهداية، على حساب حرمان أنفسهم والآخرين من نعمة الهداية والحقائق الدينية. وفي هذه المرحلة الزمنية بشكلٍ خاصّ كان هناك بعض الأشخاص والقوى التي تختلق الذرائع والعَقَبات في مسار الهداية وبلوغ الإنسان مرحلة الكمال. ومن هنا فإن الإمامية، الذين يمثِّلون الأتباع الحقيقيين للدين الإسلامي الحنيف، عمدوا من خلال تحديد ورسم الأهداف التمهيدية، واتخاذ المواقف والسياسات، إلى الحيلولة دون خلق العراقيل، وعملوا على رفع الشبهات والتحريف عن المسار الحقيقي للإسلام، تمهيداً للاستفادة الكاملة والصحيحة من نِعَم الدين الإسلامي؛ من أجل إيصال البشرية إلى سعادتها وكمالها الحقيقي، الذي يمثِّل الهدف الأوّل والأخير من إرسال الأنبياء وإنزال الكتب السماوية.
أـ الأهداف
يبدو ـ من خلال دراسة وضع المجتمع الإسلامي والتشيُّع في مدينة الريّ في الفترة الزمنية ما بين القرن الرابع ومنتصف القرن السابع الهجريين ـ أن الإمامية كانوا من خلال إقامة العلاقات البنّاءة مع الآخرين يسعَوْن إلى تحقيق الأهداف التالية:
أـ الحفاظ على هويّة الدين الإسلامي المبين، ولا سيَّما المذهب الشيعي والكيان الإسلامي.
ب ـ التعريف والتحديد العقائدي لمذهب التشيُّع عبر الحوارات والمباحثات والمناظرات والمقابلات مع الجماعات المختلفة والمخالفة.
ج ـ الحدّ والحيلولة دون إثارة الفِرَق الأخرى للمزيد من الانحرافات والتحريفات، من خلال التفاهم والتعاون المشترك معها.
د ـ إقامة العدالة، والحيلولة دون وقوع الحيف والظلم.
هـ ـ ازدهار وتطوُّر ثقافة العلوم والحضارة الإسلامية والشيعية.
ب ـ السياسات
لقد كان الإمامية في تحقيق هذه الأهداف بحاجةٍ إلى اتخاذ سلسلةٍ من السياسات والمواقف:
أـ السياسات الاستراتيجية (التماهي([18]) والاختلاف([19])): لقد سلك الإمامية في المرحلة الزمنية المنظورة سلسلةً من السياسات، واتخذوا بعض المواقف؛ للوصول إلى الأهداف والخطط المنشودة. في هذه السياسة هناك ـ بالإضافة إلى الاهتمام بتطابقها مع المباني والأصول الاعتقادية ـ عينٌ ونظرة إلى الظروف الاجتماعية والسياسية للمجتمع وشرائطه في تلك المرحلة الزمنية. ومن هنا فإننا نعبِّر عن هذا النوع من السياسات بعنوان: السياسات الاستراتيجية. ومن الجدير ذكره ـ بطبيعة الحال ـ أن اتّخاذ هذا النوع من السياسات، بالإضافة إلى الشرائط المذكورة، يجب أن يراعي في المقابل شرائط الطرف الآخر أيضاً؛ بمعنى أن وضع السياسات بشأن نوع التعاطي مع الأشخاص الذين لا يشتركون معنا في سلسلة من الأصول والعقائد (حتّى وإنْ لم يكونوا من مذهبنا)، أو الذين لا يمتلكون مشتركات أصولية وعقائدية معنا ولكنّهم في الحدّ الأدنى يحترمون أصولنا ومعتقداتنا، سيكون مختلفاً بالقياس إلى التعاطي مع أولئك الذين لا يؤمنون بهذه الأصول من الأساس، ولا يحترمونها أيضاً. ويمكن لهذا الاختلاف في اتخاذ السياسات والمواقف أن يتجلّى على شكل التماهي على مستوى الاتحاد والوفاق الكامل، إلى الاختلاف على مستوى خوض الحرب والقتال. وعلى هذا الأساس يمكن إدراج السياسات الاستراتيجية للإمامية في إقامة العلاقات وإيجاد الروابط مع الآخرين بشكلٍ عامّ في إطار نوعين من التماهي والاختلاف، والتي يمكن تنفيذها وتطبيقها من خلال السياسيات التطبيقية التالية:
ب ـ السياسات التطبيقية: لقد كان الإمامية في سلوكهم وكيفية إقامة العلاقات والروابط مع الآخرين يعملون على توظيف سلسلة من السياسات. إن هذا النوع من السياسات يُسمّى بـ (السياسات التطبيقية)، والذي يمكن تعريفه في مختلف المجالات على النحو التالي:
1ـ المجال السياسي الاجتماعي.
2ـ التعايش السلمي على محور المشتركات مع المخالفين.
هناك مشتركاتٌ بين جميع أتباع المذاهب والأديان الإلهية، من قبيل: أصل ضرورة الدين والشريعة، والتوحيد، والصلاة، والمعاد، وما إلى ذلك. يمكن لهذه المشتركات أن تكون محوراً للتعايش السلمي بين الأديان السماوية. ومن هنا فإن الدين الإسلامي الحنيف يدعو في القرآن الكريم أتباع هذه الأديان ـ من خلال الإعلان عن بعض المشتركات بين الأديان التوحيدية، مثل: الصلاة وغيرها ـ إلى التعايش السلمي والاتّحاد حول المشتركات وتجنُّب الاختلافات([20]). وقد كان النبيّ الأكرم| والأئمّة الأطهار^ في دعوتهم وحواراتهم ومناظراتهم مع سائر الأديان والفرق التوحيدية الأخرى يؤكِّدون على الأصول المشتركة. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن النبيّ الأكرم| في إرسال كتبه إلى قيصر الروم يؤكِّد على هذه المسألة بوضوحٍ، وعندما يدعوهم إلى الإسلام يشير إلى الأصول المشتركة بين الأنبياء والثقافات والأديان السماوية، ويقول: «من محمد رسول اللهﷺ إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على مَنْ اتَّبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بداعية الإسلام، فأَسْلِمْ تَسْلَمْ، ويُؤْتِكَ اللهُ أجركَ مرّتين… ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64)»([21]).
وإن الإمامية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ؛ من خلال التأسّي بمنهج القرآن الكريم وسيرة أئمة الدين، قد اتَّخذوا سياسة التعايش السلمي حول محور المشتركات وإيجاد العلاقات والروابط المتناسبة من نوع التعاطي مع المخالفين، والسعي إلى التماهي والتعايش مع المخالفين وأتباع المذاهب والأديان السماوية.
3ـ التعاون والتعاطي مع المخالفين بغية المواجهة مع الظلم والطغيان: إن الإسلام يعمل على ضمان الحرّية والكرامة للبشرية جمعاء، ويعارض جميع أنواع الظلم والطغيان، ويسعى إلى رفع جميع أشكال الحَيْف والجَوْر والعدوان. ومن هنا فإنه في الخطوة الأولى لا يسمح بالمواجهة الشديدة مع الطاغي، ويوصي باللِّين والكلمة الطيّبة في دعوة الطاغية إلى الطريق القويم، عسى أن ينفع ذلك في هدايته وعودته إلى جادّة الصواب([22]). ومن هنا كان الإمامية في هذه المرحلة التاريخية؛ وبالنظر إلى جميع الشروط، يسعَوْن ـ كما سبق أن ذكرنا ـ إلى التعاطي السلمي والمواجهة الليِّنة مع الطغاة والظالمين، وكانوا من خلال انتهاج سياساتٍ من قبيل: التعاون والتعامل مع الخصوم بصدد تعديل أو خفض الممارسات الظالمة من قِبَلهم، والحيلولة دون المزيد من الظلم والجَوْر تجاه المظلومين.
التقريب والاتّحاد بين المذاهب الإسلامية
إن الذي يُظهر الشهادتين مسلمٌ، وتجري عليه أحكام المسلمين([23]). ومن هنا لا يجوز لنا تكفير سائر المسلمين (حتّى إذا اختلفوا معنا في المذهب). وعلى هذا الأساس فإن من أهمّ تعاليم الدين الإسلامي الحنيف التأكيد على أصل الاتّحاد والتلاحم بين أبناء الأمّة الإسلامية والتقريب بين المذاهب حول محور المشتركات. هناك الكثير من المشتركات التي يمكن للمسلمين أن يتّحدوا فيما بينهم على أساسها، من قبيل: التوحيد([24])، والنبوّة([25])، والصلاة، والزكاة([26])، والمعاد، والقرآن، وما إلى ذلك. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى، ضمن اعتباره المسلمين أمّة واحدة([27])، وأنهم إخوة، أمرهم بإقامة الصلح والصداقة فيما بينهم([28])، ونهاهم عن جميع أنواع الاختلاف والفرقة([29])؛ وذلك لأن الخلاف والنزاع يؤدّي إلى الضعف والفشل([30]). وهذا الأمر بدَوْره يفضي إلى العزلة والسقوط فريسةً سهلة بين مخالب الشيطان([31])، وسوف يؤدّي إلى الخسران في نهاية المطاف([32]). وإن الإمامية كانوا في هذه المرحلة التاريخية يقومون على الدوام بانتهاج هذه السياسة في السلوك والعمل تجاه الآخرين.
الاعتدال وتجنُّب التطرُّف حتّى في محاربة الأعداء والمعاندين
إن الإسلامَ دينُ عدالةٍ، وإن القرآن الكريم حتّى في الموارد التي يأذن فيها بالجهاد، بل ويوجب فيها المواجهة مع الأعداء والمعاندين، يمنع المؤمنين والمسلمين منعاً شديداً من التطرُّف وتجاوز الحدود، والقيام بالأعمال التي تتنافى مع الحقوق والقِيَم الإنسانية، بل ويمنعهم حتّى من الاعتداء على حقوق الحيوانات والنباتات، ويأمرهم بالحفاظ على البيئة أيضاً([33]). وإن النبيّ الأكرم والأئمّة الأطهار، ضمن تمسُّكهم بهذا الأمر الهامّ في سيرتهم العملية، قد عملوا في الكثير من الروايات المأثورة عنهم على توجيه أتباعهم وشيعتهم إلى هذا الأمر([34]). إن الإمامية؛ في التأسّي بالدين الإسلامي الحنيف واتّباع سيرة الأئمّة الأطهار، قد تمسَّكوا في هذه المرحلة التاريخية ـ كما في سائر المراحل التاريخية الأخرى ـ بهذه السياسة الهامّة بالكامل. وقد تقدَّمت الإشارة ضمن الأبحاث السابقة إلى موارد من هذه السياسات والسلوكيات والتطبيقات التي قام بها الإمامية.
في مجال الثقافة العقائدية
1ـ بيان عقائد الإمامية، وتمييزهم من الجماعات الشيعية الغالية والمنحرفة
في المرحلة التاريخية موضع البحث، بالإضافة إلى مختلف الفِرَق الإسلامية، كانت هناك فِرَقٌ شيعية أيضاً، من قبيل: الغلاة، والأخبارية، والحَشْوية، وكان بعضها يذهب إلى القول بعقائد تتراوح ما بين الإفراط والتفريط في مقام الأئمّة، ومكانة العقل، ومنزلة القرآن والحديث، وكان هناك مَنْ يقع ـ عن قصدٍ أو غفلة ـ في الخلط بين هذه العقائد المنحرفة والمعتدلة للإمامية، وكان يتمّ طرح الشبهات والإشكالات في هذا الشأن، ومن هناك كان يفترض بالإمامية أن يبيِّنوا ويميِّزوا بين العقائد الحقّة للإمامية وبين العقائد الخاطئة والمتطرّفة والمفرطة؛ من أجل الحفاظ على العقائد الصحيحة، وأن يجيبوا عن الشبهات والإشكالات المطروحة في هذا الشأن. ومن هنا عندما صدر كتاب «بعض فضائح الروافض» ضدّ الشيعة الاثني عشرية في هذه الفترة الزمنية ـ على سبيل المثال ـ، وتمّ الخلط فيه بين آراء الغلاة والأخبارية والحَشْوية وبين الآراء الأصولية لدى الشيعة الاثني عشرية، وأثار ذلك زوبعةً من الإشكالات والشبهات حول عقائد الإمامية، رأى السيد المرتضى ـ بوصفه زعيم الشيعة ـ هذا الكتاب، فقال: يجب على عبد الجليل القزويني أن يتصدّى للإجابة عن هذا الكتاب بحقٍّ، وأن يرفده بأدلّةٍ لا يمكن الردّ عليها وإنكارها([35]).
2ـ البحث والحوار على أساس الحكمة والجدال بالتي هي أحسن
كما سبق أن ذكرنا فإن جميع المذاهب والأديان السماوية والتوحيدية تجمع بينها بعض المشتركات، وهناك بعض الاختلافات أيضاً. وإنه طبقاً لتعاليم الإسلام يجب تجنُّب إثارة موارد الخلاف، والتسامح بشأنها، والتركيز على المشتركات، والحفاظ على التماهي والانسجام، وأن نعمل على التحاور بشأن موارد الاختلاف من خلال الجدال بالتي هي أحسن([36]). وإن النبيّ الأكرم| كان ـ بالإضافة إلى التزامه في سيرته العملية بهذا الأمر ـ يوصي بعض أصحابه عندما يرسلهم إلى الأقطار في بعض المهامّ أو الدعوة وتبليغ الدين بأن يتساهلوا مع الناس، وأن يعملوا على تبشيرهم. من ذلك مثلاً أنه قال للطفيل بن عمرو الدوسي، الذي أرسله لهداية قومه: «ارجِعْ إلى قومك فادْعُهم، وارفِقْ بهم»([37]).
وكان الإمامية في هذه المرحلة التاريخية بدَوْرهم؛ على أساس الأصول وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف ـ ضمن تحمُّلهم وتعاملهم مع أتباع الأديان والمذاهب المختلفة ـ، يؤكِّدون على المشتركات. وفي ما يتعلَّق بالأمور الخلافية يحاورون الخصوم على أساس الحكمة والجدال بالتي هي أحسن. وقد تمّ بيان نماذج من هذا الحوار للإمامية والجدال بالتي هي أحسن في هذه المرحلة التاريخية تحت عنوان المناظرة وغيرها.
3ـ الدعوة إلى الحقّ بأسلوبٍ ليِّن
إن الإسلامَ دينُ محبّةٍ ورأفة. وضمن تأكيده في تعاليمه على هذا الأصل يدعو المسلمين إلى التعامل مع المخالفين (حتّى إذا كانوا من المخالفين في الدين والمذهب) بالمحبّة والاحترام، وأن يتمّ التعامل معهم باللِّين، عند الحديث معهم ودعوتهم إلى الحقّ([38]). وقد شهدنا نماذج كثيرة من هذا النوع من السياسات في سلوك وسيرة الإمامية في هذه المرحلة التاريخية، وقد تقدَّم أن أشَرْنا إلى بعضها.
4ـ تجنُّب التطرُّف وإهانة المخالفين
إن الإنسان بما هو إنسانٌ يتمتَّع ـ طبقاً للتعاليم الإسلامية ـ بالقيمة والكرامة الذاتية. ولم يُسْمَح لنا بسبّ وشتم وإهانة الخصوم ومقدَّساتهم. وكانت هذه الصفة من كريم صفات النبيّ الأكرم|، التي جعلَتْه أهلاً للاتّصاف بعنوان «رحمة للعالمين»([39]). وإنه في الكثير من الروايات المأثورة عنه قد منع من الشتم وسبّ الآخرين، بل ونهى حتّى عن سبّ الطبيعة، والرياح، والدَّهْر، والموتى، وغيرهم([40]). وعلى هذا الأساس فإن هذا الأصل وسياسة احترام الآخرين ومقدّساتهم كانت على الدوام محلّ اعتبار من قِبَل المسلمين في علاقاتهم مع الآخرين. وفي هذه المرحلة الزمنية كان الإمامية يسعون بمختلف الأساليب والطرق إلى احترام الآخرين، وتجنُّب سبِّهم وهتك مقدّساتهم، وكانت لهم سياسات وأساليب عملية متعدّدة في هذا الشأن، وقد تقدَّمت الإشارة إلى بعضها.
5ـ المقاومة والشدّة ضدّ المشركين والكفّار والمعاندين
قد يذهب البعض إلى تصوُّر أن الحرب والعنف لا ينسجمان مع الصلح والسلام والرأفة الإسلامية؛ في حين أن الأمر على العكس من ذلك تماماً، وأن خصائص الصلح والسلام والمحبّة والمودة تحافظ على الحقوق والقِيَم الإنسانية في الإسلام، حيث إن هذه الخصائص تتنافى مع جميع أنواع الفتنة([41])، والكفر([42])، والقتل([43])، والجريمة، والظلم، والاستكبار، واستعباد الناس من قِبَل أيّ شخصٍ أو جماعة. وقد صدر الأمر بمواجهة جميع أنواع هذه الأمور. ومن هنا فإن فلسفة الحرب والجهاد من وجهة نظر القرآن الكريم والمصادر الدينية هي ضمان جميع أنواع الأمن والعدل، وضمان المصالح الواقعية والحرّيات الحقيقية للبشر من جميع أنواع العبودية لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأن الفلاح والكمال والسعادة الحقيقية للإنسان إنما هي رهنٌ بعبادة الله فقط. وعلى هذا الأساس فإن المواجهة والجهاد ضدّ كلّ مفهومٍ أو شخص يحول دون تحقُّق هذه الأهداف والوصول إلى كمال الإنسان يُعَدّ أمراً جائزاً، بل رُبَما بلغ حدّ الفرض والوجوب في بعض الموارد.
3ـ المعطيات والنتائج الإيجابية
لقد حقّق إماميّة الريّ في هذه المرحلة التاريخية ـ من خلال إقامة العلاقات المناسبة والبنّاءة مع الآخرين ـ الكثير من النتائج والمعطيات الإيجابية التي مهَّدت الأرضية أمامهم لتحقيق المزيد من الأهداف المتعالية والمنشودة.
وفي ما يلي سوف نشير إلى بعض هذه المعطيات في مختلف المجالات.
في المجال السياسي ـ الاجتماعي
1ـ انتشار التشيُّع وتوسيع النشاط الثقافي الاجتماعي لنُخَب الإمامية
في هذه المرحلة التاريخية كان عدد علماء الشيعة يأخذ في الازدياد. وقد وصف صاحب كتاب «بعض فضائح الروافض» الانتشار والحضور الثقافي الفاعل للإمامية قائلاً: «لم يكن لهم مثل هذه الشوكة من قبل ذلك، فما أقواهم الآن! إنهم يتكلَّمون بشتى اللغات. إنك لا تجد خاناً للترك إلاّ وفيه عشرة من الرافضة أو يزيدون، وهم الكَتَبة في الدواوين، وإنهم اليوم كما كانوا في عهد الخليفة المقتدر بالله»([44]).
كما عبَّر صاحب كتاب «راحة الصدور» عن قلقه وتذمُّره من حضور وتأثير الإمامية، قائلاً: «أيّ فساد أسوأ من أن ترى كاتباً رافضياً أو أشعرياً يترأّس الديوان، ويثبت في السجل ممتلكات المسلمين؟!»([45]).
2ـ تأثير التشيُّع في جهاز الحكم وإقامة التوازن في سلوك الحكّام
في هذه المرحلة التاريخية كان السلاطين من الغزنويين والسلاجقة أشدّ عداوة للشيعة من غيرهم. ومن هنا كانوا يمارسون أقسى أنواع الضغط وصنوف التعذيب بحقّ الشيعة، وحتّى الإمامية([46]). ولكنْ لم يَمْضِ طويلُ وقتٍ حتّى أعاد الإمامية بسط تأثيرهم في جهاز الحكم والسلطة([47]). وقد تمكّن الإمامية بواسطة ذلك من إحداث بعض التغييرات في سلوك بعض الملوك والأمراء في التعامل مع الشيعة والإمامية. وبذلك تمّ تخفيف حدّة الضغوط على التشيُّع بشكلٍ تدريجي. ومن هنا فإن الملوك في هذه الحقبة من التاريخ قاموا ـ من خلال انتهاجهم سياسة التسامح ـ بتخفيف الضغط والتشدُّد على الشيعة الاثني عشرية. وقد وردت في بعض المصادر أخبارٌ بشأن تسامح هؤلاء السلاطين مع الإمامية([48]). ومن ذلك، على سبيل المثال، أن الخواجة نظام الملك كان في بداية أمره من الوزراء المتشدِّدين في عصر السلاجقة، وكان يمارس الكثير من التعذيب والتنكيل بحقّ الشيعة، ولكنّه تأثَّر بعد ذلك بالتدريج بالسلوكيات المعقولة والمنطقية للإمامية، وأخذ يتعامل مع السادة الأشراف والعلماء الكبار والزهّاد من الشيعة، بل وعمل على صرف رواتب لهم([49]). كما أنه، بتأثيرٍ من ذلك، كان يُظهر الاحترام والتبجيل تجاه الشيخ جعفر الدوريستي الإمامي([50])، وكان لذلك يقوم بزيارات دَوْرية لمنطقة دوريست خارج الريّ، حيث يقيم هذا العالم الجليل([51]).
3ـ زيادة الاتحاد والتلاحم بين الإمامية
لقد عمل الإمامية على المحافظة على وجودهم ومعتقداتهم من خلال الاتحاد والتلاحم فيما بينهم. إن هذا الاتّحاد ودفاع الإمامية عن بعضهم كان من الوضوح في مجتمع الريّ آنذاك بحيث أثار إقرار المخالفين، وممّا قيل في هذا الشأن: «إذا وقع الرافضي في شدّةٍ تظاهروا فيما بينهم واستنقذوه، وإنْ وقع الحنفي أو الشافعي في شدّةٍ تظافروا فيما بينهم ليسقطوه»([52]).
4ـ ارتفاع شأن الإمامية عند أهل السنّة والمجتمع
إن تجنُّب الإمامية عن السلوكيات المتطرِّفة، وكذلك بيان العلماء الصحيح لفضائل أهل البيت ومكانتهم العلمية، دفع أهل السنّة (من الأحناف والشافعية) في عصر السلاجقة إلى إدراك عظمة ومكانة أهل البيت^ والإمامية أكثر من ذي قَبْل. ومن هنا فقد أخذنا نشهد ارتفاعاً لشأن ومكانة الإمامية، ولا سيَّما العلماء والنُّخَب منهم، لدى كبار أهل السنّة يوماً بعد يوم. ومن ذلك مثلاً أن علماء الفريقين في عصر السيد مرتضى القمّي كانوا يزورونه في كلّ جمعةٍ لتقديم واجب الاحترام، ويأخذون منه بعض الهدايا، وكان حتّى السلطان في حينها يزوره في بيته. وكان الخواجة نظام الملك ـ الوزير السنّي الناصبي في زمن السلاجقة ـ قد زار بدَوْره دار السيد مرتضى القمّي؛ لتقديم الاحترام، أكثر من مرّةٍ([53]). وكان يذهب مرّةً في كل أسبوعين من الريّ إلى دوريست، حيث يقيم الشيخ جعفر الدوريستي الإمامي؛ لغرض سماع الحديث واكتساب الفضائل([54]).
5ـ مشاركة أهل السنّة في الشعائر والمناسبات المذهبية لدى الشيعة
بفعل الأداء الإيجابي والمتَّزن من قِبَل الشيعة الإمامية كان أهل السنّة في هذه المرحلة التاريخية، من خلال مشاركتهم لإخوانهم الشيعة في إقامة مراسم عاشوراء، وإبداء التكريم والاحترام لمراقد الأئمّة الأطهار من أهل البيت^، يعبِّرون عن حبِّهم ومودّتهم الخالصة لأهل بيت النبوّة والرسالة([55]). وحتّى السلطان محمد الغزنوي، رغم تعامله القاسي مع الشيعة ـ ولا سيَّما في أحداث فتح الريّ ـ، كان في بعض الأحيان يتظاهر بالانحياز إلى كلمة الحقّ من خلال مشايعة أهل بيت النبوّة والرسالة^([56]). وقد تمّ رصد هذا التغيير في النهج والسياسة لدى السلطان طغرل السلجوقي([57])، وملك شاه([58]) أيضاً.
في المجال الثقافي / العقائدي
1ـ المحافظة على التشيُّع وبقائه واستمراره
إن الأمن والسكينة يمثِّلان الشرط الأوّل في الحفاظ على وجود المذهب والنظام. ومن هنا فإن الإمامية طوال هذه المرحلة التاريخية قد عملوا من ـ خلال إقامة العلاقات الحَسَنة والبنّاءة مع سائر المذاهب الأخرى ـ على بسط الأمن والهدوء في الريّ؛ كي يتمكَّنوا في ظلّ ذلك من الحفاظ والدفاع عن أصل هوية التشيُّع، وتحقيق سائر أهدافهم المتعالية. من هنا فإن الإمامية طوال هذه الفترة الزمنية ـ ولا سيَّما في عصر البويهيين ـ قد عملوا، من خلال التركيز على الأصول المشتركة وانتهاج سياسة التسامح تجاه عقائد وأتباع مختلف المذاهب الأخرى في مدينة الريّ، إلى إعادة الهدوء والأمن إلى المجتمع([59]). وبطبيعة الحال فقد كان إلى جوار واستمرار هذه السياسة بعض الخطوات والسياسات الأصولية والاستراتيجية المؤثِّرة من قِبَل الإمامية في الحفاظ على التشيُّع. وإن بعض هذه الخطوات والسياسات عبارةٌ عن الفصل ورسم الحدود الاعتقادية مع الجماعات المتناظرة، والنشاطات العلمية والثقافية في إطار بيان وتعميق التعاليم والمباني والأصول العقائدية لدى الإمامية، ونشرها، والعمل على بسط النفوذ والتعاون والتعاطي الاجتماعي والسياسي مع السلاطين والحكّام وغيرهم.
2ـ ارتفاع أعداد الإمامية
إذا ما استثنينا البويهيين (آل بويه) فقد حكم مدينة الريّ في هذه الحقبة التاريخية عددٌ من السلالات المَلَكية السنّية، من قبيل: الغزنويين؛ والسلاجقة؛ والخوارزمشاهيين؛ بل وكان بعض السلاطين والوزراء المتشدِّدين في المذهب الحنفي والشافعي. ومن هنا فإن الشيعة في العصور التالية للبويهيين كانوا في الغالب يرزحون تحت الضغط والتعذيب والتضييق. وعليه كان الشيعة يضطرّون لاستعمال التقية في التعبير عن عقائدهم. ولكنْ على الرغم من ذلك؛ وبسبب الجهود والجهاد العلمي، وكذلك الكفاءة والتأثير الذي كان يتمتَّع به الشيعة في الإدارة والحكم، وتسنُّم المناصب والمواقع، من قبيل: الإدارات والدواوين والوزارات، فقد تمكَّن الشيعة بذلك لا من الخروج تحت عباءة الصمت والتقيّة فحَسْب، بل أخذوا ينتشرون بشكلٍ متزايد، إلى الحدّ الذي قال معه الحموي البغدادي: إن أكثر سكان مدينة الريّ في القرنين الخامس والسادس الهجريين كانوا من الشيعة([60]).
3ـ توسيع المراكز العلمية والدينية الإسلامية والشيعية
على الرغم من السلطة والحكم الطويل لأهل السنّة المتشدِّدين في هذه المرحلة، والضغوط الكبيرة التي مورست بحقّ الشيعة في تلك الفترة، ولكنْ بالتزامن مع زيادة القدرة الاجتماعية للشيعة؛ بسبب جهودهم الذاتية وكفاءتهم وتأثيرهم في الجهاز الحاكم وغيره، كان يزيد عدد المساجد والمدارس وسائر المراكز العلمية والدينية الخاصّة بالشيعة([61]).
4ـ ازدهار العلم والحضارة الإسلامية
إن زيادة أعداد الشيعة، وارتفاع عدد العلماء والنُّخَب البارزة من الإمامية، والنشاطات والخدمات الثقافية، ودعم بعض السلاطين والوزراء ـ ولا سيَّما في عهد البويهيين ـ، أدّى إلى انتعاش العلم وازدهار الحضارة الإسلامية. قال ابن مسكوَيْه في هذا الشأن ما مضمونه: «تمّ إحياء العلوم البائدة، واجتمع رجالها بعد تفرُّق، وبادر الشباب إلى التعلُّم، واتَّجه الشيوخ إلى التعليم، واستثيرت القرائح، وازدهر سوق العلم بعد كساده، وكان يُنْفَق على ذلك من بيت المال أموالٌ طائلة»([62]). كما أن سائر السلاطين والحكّام ـ بعضهم لرغبةٍ شخصية أو بتأثيرٍ من رجال الدين وعلماء الإمامية ـ اهتمّ ببعض الحوزات العلمية والمعرفية، وقام بدعمها. ومن ذلك أن محمود الغزنوي ـ على سبيل المثال ـ كان يحتفي بالعلماء والشعراء، وكان ينفق عليهم من المال ما قيمته 400 دينار سنوياً([63]).
النتيجة
منذ القرن الثالث الهجري وحتّى منتصف القرن الهجري السابع في مدينة الريّ كان بعض أتباع المذاهب الدينية والإسلامية يعيشون إلى جوار بعض الإمامية. ولذلك كان الإماميةُ بحاجةٍ إلى إقامة العلاقات مع أتباع هذه المذاهب والأديان؛ من أجل الحفاظ على هويّتهم وبقائهم. وقد كانت هذه العلاقات ـ بحَسَب الظروف الاجتماعية والسياسية الحاكمة، ومكانة الإمامية ـ في هذه المرحلة التاريخية تتراوح ما بين التساهل والتسامح، إلى التعامل، وصولاً إلى المواجهة. بَيْدَ أن أصل هذه العلاقات كان يقوم على سلسلة من المباني الفكرية والعقائدية الإماميّة، من قبيل: الكرامة الذاتية للإنسان، والعزّة الحقيقية للبشر، في ظلّ التقوى، ومواجهة المحاباة والظلم، والمداراة مع المخالفين غير المعاندين، وأصل الشدّة في مواجهة المخالفين المعاندين. وقد حقَّق الإمامية ـ من خلال اتّباعهم سياساتٍ من قبيل: رسم الحدود العقائدية مع الفرق المنحرفة، مثل: الغلاة، والتعايش السلمي مع المخالفين غير المعاندين، والحوار على أساس الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، والمقاومة والشدّة في العمل تجاه المخالفين المعاندين ـ من تحقيق الأهداف والمعطيات المتقدّمة، من قبيل: الحفاظ على التشيُّع واستمراره ونشره، والارتقاء بموقع ومكانة الإمامية بين مجتمع أهل السنّة.
الهوامش
(*) طالبٌ على مستوى الدكتوراه في مجال تاريخ التشيُّع الاثني عشري في جامعة الأديان والمذاهب.
(**) أستاذٌ مساعِدٌ في مجال تاريخ التشيُّع في كلِّية شيعه شناسي في جامعة الأديان والمذاهب.
([17]) انظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم 54.
([21]) تاريخ اليعقوبي 2: 77، دار صادر، بيروت.
([31]) انظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم 27.
([32]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار^ 74: 397، بيروت ـ لبنان، 1403هـ.
([34]) انظر: نهج البلاغة، الكتاب رقم: 14.
([35]) انظر: عبد الجليل الرازي القزويني، بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض: 8، تصحيح وتحقيق: المحدّث الأرموي، مؤسّسة علمي فرهنگي دار الحديث، قم، 1391هـ.ش. (مصدر فارسي).
([37]) ابن هشام، السيرة النبوية 1: 384، تصحيح: مصطفى سقا، المكتبة الإسلامية، بيروت.
([40]) انظر: الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 377، ح5781، انتشارات إسلامي، قم.
([44]) الرازي القزويني، بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض: 86. (مصدر فارسي).
([45]) محمد بن علي بن سليمان الراوندي، راحة الصدور وآية السرور در تاريخ آل سلجوق: 32، تصحيح: محمد إقبال ومجتبى مينوي، نشر أمير كبير، طهران، 1364هـ.ش. (مصدر فارسي).
([46]) انظر: ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية 12: 26، دار الفكر، بيروت، 1407هـ.
([47]) انظر: حسن بن علي بن إسحاق نظام الملك الطوسي، سير الملوك يا سياست نامه: 215، مع مقدّمة وتعليقات من إعداد: عطاء الله تديّن، انتشارات طهران، طهران، 1373هـ.ش؛ الرازي القزويني، بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض: 123. (مصدران فارسيان).
([48]) انظر: بازورث، تاريخ غزنويان (تاريخ الغنويين) 1: 196 ـ 197، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حسن أنوشه، مؤسّسة انتشارات أمير كبير، طهران، 1372هـ.ش.
([49]) انظر: الرازي القزويني، بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض: 154 ـ 157. (مصدر فارسي).
([50]) الشيخ أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس بن الفاخر العبسي الدوريستي: رجل دين وفقيه ومتكلّم ومصنِّف شيعي، من قدماء علماء الشيعة الاثني عشرية. من تلاميذ الشيخ المفيد، والشريف المرتضى، وابن عيّاش الجوهري، ومحمد بن الحسن الطوسي، بالإضافة إلى تتلمذه على والده. وقد لقّب بالدوريستي نسبة إلى دوريست، وهي ـ كما قال ياقوت الحموي ـ قريةٌ من قرى الريّ، ويقال لها الآن: (دُرشت)، ويلقّب بالعبسي نسبة إلى بني عبس؛ لكونه ينحدر من صلب الصحابي المعروف حذيفة بن اليمان العبسي. المعرِّب.
([51]) انظر: المصدر السابق: 157.
([53]) انظر: الرازي القزويني، بعض مثالب النواصب في نقض بعض فضائح الروافض: 154 ـ 157. (مصدر فارسي).
([54]) انظر: المصدر السابق: 157.
([55]) انظر: المصدر السابق: 405، 648.
([56]) انظر: ابن الأثير، كامل تاريخ بزرگ إسلام وإيران (الكامل في التاريخ) 9: 401، ترجمه إلى اللغة الفارسية: حميد رضا آجير، نشر أساطير، طهران، 1383هـ.ش.
([57]) انظر: علي شهابي، تاريخچه وقف در إسلام (تاريخ الوقف في الإسلام): 72 ـ 73، انتشارات دانشگاه طهران، طهران، 1343هـ.ش. (مصدر فارسي).
([58]) انظر: ابن الأثير، كامل تاريخ بزرگ إسلام وإيران (الكامل في التاريخ) 9: 14.
([59]) انظر: ابن مسكويه الرازي، تجارب الأمم 6: 341، ترجمه إلى الفارسية: علي نقي منـزوي، نشر توس، طهران، 1376هـ.ش.
([60]) انظر: ياقوت الحموي البغدادي، معجم البلدان 2: 598، ترجمه إلى اللغة الفارسية: علي نقي منـزوي، پژوهشگاه سازمان ميراث فرهنگي، طهران، 1383هـ.ش.
([61]) انظر: المصدر السابق: 39 ـ 41.
([62]) انظر: ابن مسكويه الرازي، تجارب الأمم 6: 481 ـ 482.
([63]) انظر: حمد الله المستوفي، تاريخ گزيده (التاريخ المنتخب): 391، إعداد: الدكتور عبد الحسين نوائي، انتشارات أمير كبير، ط 7، طهران 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).