د. أبو القاسم فنائي(*)
1ـ المدخل
سوف نخوض هنا في بُعْدٍ آخر من أبعاد «أخلاق الاجتهاد كما هي»، ونقارنه ببُعْد «أخلاق الاجتهاد كما يجب أن تكون». وبعبارةٍ أخرى: سوف نعمل على نقد التفسير والفهم السائد لماهية الاجتهاد الفقهي، ونقيم تفسيراً وفهماً جديداً بديلاً عنه. إن من بين أهم خصائص الاجتهاد السائد في الحوزات العلمية (الاجتهاد المتمحور حول القانون)، الذي يتمّ نقده هنا هو أن هذا الاجتهاد لا يتمّ فيه فصل «ذاتيات» الشريعة عن «عرضيات» الشريعة، كما لا يتمّ فيه فصل «الدين المطلق»([1]) أو «ما فوق التاريخي»([2]) عن «الدين المطبّق»([3]) أو «التاريخي»([4])، وتتمّ تسرية أحكام الدين نفسه أي «المظروف» إلى «ظرفه» التاريخي، كما تتمّ ترجمة ذلك الجزء من النصوص الدينية المبيّنة للدين التاريخي، والذي تمّ تطبيقه «ترجمة حرفية»، بَدَلاً من «ترجمته ثقافياً»، ويتمّ النظر إليه بوصفه ما فوق ثقافي، في حين أن «الترجمة الثقافية» لهذا القسم من النصوص الدينية هو جزءٌ من طبيعة الاجتهاد، والشرط اللازم والذي لا ينفكّ عن الاجتهاد بالمعنى الصحيح للكلمة([5]).
وتأتي الحاجة إلى ترجمة النصوص الدينية ثقافياً من فرضية أن الدين «مظروف» سماوي مقدّس يُصبّ في «ظرف» عُرْفي وأرضي، ولذلك لا ينبغي تسرية تقديس وخلود وأبدية المظروف إلى ظرفه. وإن هذا الظرف ليس سوى ثقافة وأعراف وتقاليد وعقلانية وأخلاق المخاطَبين الأوائل بالوَحْي. وبعبارةٍ أخرى: إن فرضية الترجمة الثقافية للنصوص الدينية هي أن هذه النصوص لا تبيّن أحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي دائماً، وإن جانباً مما جاء في هذه النصوص عبارة عن أحكام تاريخية تمّ تطبيقها على العالم القديم، وإن المخاطَب الأول بهذه الأحكام بدَوْر إنسان تاريخي، وليس إنساناً ما فوق تاريخي. وعليه لا يمكن تسرية هذه الأحكام ـ مع المحافظة على قيودها وشرائطها وخصوصياتها ـ إلى العالم الحديث. وإنما يجب على سكّان العالم الحديث أن ينظروا إلى هذه الأحكام بوصفها قدوة للتأسّي، وأنها تمثِّل الخطوة الأولى التي أمكن اتخاذها في ذلك العصر لتحقيق المجتمع العادل والإنساني، لا أن ينظروا إليها بوصفها الخطوة الأخيرة في هذا المسار.
نرى أن إحدى نقاط الضعف الجوهرية التي يعاني منها الاجتهاد المصطلح والسائد في الحوزات العلمية، وأن أحد أسباب عدم كفاءة هذا الاجتهاد في حلّ المعضلات الفقهية في العالم المعاصر، هو أن هذا الاجتهاد يمزج بين الظرف والمظروف، وأنه لا يأخذ بجدّية المزج بين الدين المطلق (ما فوق التاريخي) والدين الذي تمّ تطبيقه حتّى الآن (الدين التاريخي)، ولا يؤمن بضرورة الفصل والتفكيك بين هذين الأمرين، بل إنه يتجاهل خطورة هذه المسألة بشكلٍ كامل. وإن الفقهاء الذين يتعلَّمون في صُلْب هذه المدرسة الفكرية التقليدية، ويتخرَّجون منها، لا يمتلكون ولن يمتلكوا أيّ آلية أو منهج لتشخيص وتفكيك ظرف الدين (العرف والثقافة السائدة في عصر النزول) عن ذات الدين (الشريعة).
2ـ الفهم السائد لماهية الاجتهاد
في الفهم السائد لماهية الاجتهاد، أو في أخلاق الاجتهاد كما هي، تعمل النصوص على بيان الحكم الشرعي بما هي نصوصٌ تدلّ على الدوام على ذات الدين وأحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي. إن الذين يجتهدون في إطار النموذج التقليدي يتصوَّرون أن العقبة الوحيدة الماثلة أمام جعل الحكم الأبدي وما فوق التاريخي من قِبَل المقنِّن والمشرِّع عبارةٌ عن «جهله» بالمصالح والمفاسد الغيبية، وهذه المسألة لا تنطبق على الله تعالى، الذي هو باعتقاد الكثير من أتباع الأديان الإبراهيمية هو المصدر الأساس للتشريع. إن الله يعلم الغيب، وإن هذا العلم يمكِّنه من تشريع الأحكام التي يمكن تطبيقها في جميع الأزمنة والأمكنة، ويكون المخاطَب بها هو الإنسان بما هو إنسانٌ، أو الإنسان ما فوق التاريخي.
في هذه الرؤية تتمّ الغفلة عن عدد من الأمور الهامّة والمصيريّة.
الأمر الأوّل: إن مجرّد كون علم المقنِّن والمشرِّع مطلقاً لا يكفي لجعل الأحكام المطلقة والخالدة والأبدية. فهناك أمورٌ تفرض نفسها على المقنِّن من خارج الدين، وتمنعه من أن يُصدر أحكاماً مطلقة وما فوق مكانية وزمانية دائماً. ويمكن لنا الإشارة من بين تلك الموانع إلى القيود اللغوية والثقافية والمستوى العقلي والمعاشي والمخاطَبين الأوائل لرسالة الدين وامتناع التطوُّر الدفعي في المجتمع.
الأمر الثاني، الذي يتمّ تجاهله في نموذج الاجتهاد المصطلح، هو أن علم وقدرة الله المطلقة لا تستوجب تحويل الحكم ـ الذي هو في «ذاته» ليس مطلقاً، ولا يمتلك قابلية الإطلاق ـ ليغدو حكماً مطلقاً وما فوق تاريخي، أو أن يتحوّل الفعل الذي هو في «ذاته» لا يشتمل على مصلحة أو مفسدة مطلقة وأبدية ليكون واجداً لمثل هذه المصلحة والمفسدة. وعلى هذا الأساس لا يمكن التمسُّك بعلم وقدرة الله المطلقة لإثبات أن جميع الأحكام المجعولة من قِبَله ذات مصلحة ومفسدة مطلقة وأبدية، ويكون تطبيقها في جميع الأزمنة والأمكنة لازماً وواجباً.
إن الرواية القائلة: «حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»([6])، إذا كان لها من سندٍ معتبر، لا تعني استمرار حلال وحرام محمد دون قيد أو شرط، وخارج إطار الظروف الزمانية والمكانية المناسبة لها. إنّ لكل حكم موضوعاً (قيوداً)، وإن فعلية ذلك الحكم رهنٌ بتحقُّق قيود وشروط خاصّة. ولو أن تلك القيود والشروط كتب لها التحقُّق في عالم خاصّ فقط فإن ذلك الحكم إنما سيُكتب له التحقُّق في ذلك العالم فقط. فإن التيمُّم بَدَلاً من الوضوء ـ مثلاً ـ هو واحد من الأحكام الأبدية في الإسلام، إلاّ أن شرط فعلية هذا الحكم هو عدم العثور على الماء أو إضرار الماء بالجسم أو ضرورة المحافظة عليه للاستعمالات الأخرى الأهمّ. وعليه عندما لا يتوفر أيّ واحد من هذه الشروط في عالمٍ ما فإن هذا الحكم لن تكتب له الفعلية والتحقُّق. وهذا يعني أن هذا الحكم إنما جعل لعالم خاصّ وظروف خاصّة، ولا يكون له وجودٌ خارج ذلك العالم وتلك الشروط.
وعليه لا يمكن بالاستناد إلى أدلّة خاتمية وخلود الإسلام فصل أيّ حكم من قيوده وشروطه، وتسريته إلى عالم آخر يستحيل فيه تحقُّق تلك القيود والشروط. وعلى هذا الأساس لو قال شخصٌ بأن بعض الأحكام الشرعية مقيّدة بقيود وشروط خاصّة، وإن تلك القيود والشروط إنما يكتب لها التحقُّق في عالم ما قبل الحداثة فقط، وإن تحقق تلك القيود والشروط في العالم الحديث مستحيلٌ، لا يكون منكراً لخلود وخاتمية الدين؛ فإن مثل هذا الشخص إنما يدّعي أن ذلك الحكم سيكون من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع. إن تبعية الحكم لموضوعه أمرٌ عقلاني ومنطقي، وإن الاختلاف بشأن تحقق وعدم تحقُّق موضوع الأحكام لا ربط له بالاختلاف حول خلود وخاتمية الدين.
وبعبارةٍ أخرى: إن القضايا المعبّرة عن الحكم الشرعي «شرطية»، وليست «حملية». وعندما نقول: إن الأحكام الشرعية أبدية إنما نعني أن مضمون هذه القضايا الشرطية أبديّ. بَيْدَ أن صدق القضايا الشرطية ـ كما نعلم ـ لا يتوقَّف على صدق مقدّم هذه القضايا، رغم أن تحقُّق وفعلية تالي هذه القضايا (أي المشروط) متوقِّفٌ على تحقّق مقدّمها (أي الشرط). وعلى هذا الأساس فإن القول بأن بعض الأحكام الأبديّة للشرع لا فعلية له؛ بسبب عدم تحقُّق شروطه في العالم الجديد، ولا يمكن تطبيقها في هذا العالم، لا يستلزم إنكار خلود الدين وختم النبوّة، وإنما هو ينسجم مع القول بخلود الدين وختم النبوّة([7]).
الأمر الثالث، الذي يتمّ تجاهله في الاجتهاد المصطلح، هو أن خلود الدين لا يقتضي خلود «جميع» أحكامه، في حين أن الاجتهاد المصطلح يفترض أن خلود الدين يعني (أو يقتضي) خلود جميع أحكامه. إلاّ أن هذا الافتراض لا مبرِّر له، ولا يقوم على أساسٍ متين؛ إذ يمكن القول: إن للدين قابلية الخلود عندما تكون بعض أحكامه مطلقة، وبعضها الأخرى مقيّدة. وإن تقييد بعض أحكام الدين لا يكون منسجماً مع خلوده فحَسْب، بل إن افتراض وجود مثل هذه الأحكام يمثِّل واحداً من الشروط لخلود ذلك الدين.
وبعبارةٍ أخرى: إن الأحكام الشرعية تنقسم إلى مجموعتين، وهما: الأحكام «الأصلية» أو «ما فوق التاريخية» (المحكمات)؛ والأحكام «الفرعية» أو «الاشتقاقية» أو «التاريخية» (المتشابهات). وإن أحكام الدين الأصلية هي تلك الأحكام المطلقة والخالدة التي يمكن تطبيقها في جميع الأزمنة والأمكنة وعلى جميع الأوضاع والأحوال. أما الأحكام الفرعية فيتمّ الحصول عليها ـ في الحقيقة ـ من خلال «تطبيق» الأحكام الأصلية على الأوضاع والأحوال والشرائط التاريخية الخاصّة. وإن هذه الأحكام «مشروطة»، وليست «مطلقة»، وإن تسريتها إلى الأوضاع والأحوال والشروط التاريخية المختلفة يُعتَبَر نوعاً من «البِدْعة» في الدين.
إن أنصار الاجتهاد المصطلح يتجاهلون هذه الأمور. فهؤلاء لا يفصلون بين الدين و«ظرفه»، ولا يفصلون بين أحكام «الدين المطلق» وبين أحكام «الدين الذي تمّ تفصيله» على العالم القديم. ففي الاجتهاد المعروف يُفتَرَض أن النصوص الدينية تعبّر في جميع الأحوال عن ذات الدين، أو أنها تعبِّر عن الأحكام «ما فوق التاريخية». في حين أن هذه النصوص خليطٌ من الظرف والمظروف، ومزيجٌ من أحكام الدين المطلق وأحكام الدين المفصّل على مقاس العالم القديم. وهذا يفرض علينا ضرورة ترجمة هذه النصوص ثقافياً.
وأما لو أذعن الفرد بأن مضمون ومفاد النصوص الدينية ليس هو «ذات الدين» أو «الدين المطلق» دائماً فلا يمكنه القول بأن الأصل الأوّلي عند الشكّ يقتضي أن نعتبر مفاد ومضمون هذه النصوص هو الدين أو الدين المطلق؛ إذ ليس لهذا الأصل أيّ أساس أو قاعدة على أرض الواقع. ومضافاً إلى ذلك، فإننا من خلال القول بهذا الادّعاء لا يمكن لنا التمسُّك بالعموم والإطلاق الزماني لهذه النصوص، لنعتبر أن مضمونها ومفادها أبدياً؛ إذ مع القول بهذا الادّعاء لا يُكْتَب البقاء لهذا الظهور، أو إذا كتب له البقاء سيفقد حجّيته واعتباره؛ وذلك لأن العقلاء لا يعملون بمثل هذا الظهور، فإن سيرة العقلاء في العمل بظاهر الكلام ليست مطلقة، ولا تشمل مثل هذه الظهورات.
إن الحكم الشرعي ينقسم بحَسَب الافتراض المنطقي إلى قسمين: الحكم الشرعي التأسيسي؛ والحكم الشرعي الإمضائي. كما ينقسم كل واحد من هذين الحكمين بدوره إلى قسمين، وهما: الحكم الدائمي؛ والحكم المؤقَّت. وبذلك نحصل على الأحكام الشرعية الأربعة التالية:
1ـ الحكم الشرعي التأسيسي الدائم.
2ـ الحكم الشرعي التأسيسي المؤقَّت.
3ـ الحكم الشرعي الإمضائي الدائم.
4ـ الحكم الشرعي الإمضائي المؤقَّت.
إلاّ أن العقلانية السائدة في الفقه التقليدي لا تأخذ هذا التقسيم بجدّية، ولا تضع أيّ معيار بين أيدي الفقهاء للتفكيك بين هذه الأقسام وفصلها عن بعضها. وإن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية إنما هي في الحقيقة منهجٌ وأسلوب للتعريف بين هذه الأقسام وفصلها وتفكيكها عن بعضها.
3ـ الاجتهاد يعني الترجمة الثقافية([8])
في الفهم الصحيح لماهية الاجتهاد، أو في أخلاق الاجتهاد كما يجب أن تكون، تنقسم النصوص الدينية إلى قسمين: القسم الأوّل يعبِّر عن الأحكام التاريخية (المتشابهات)؛ والقسم الثاني يُعبِّر عن الأحكام ما فوق التاريخية (المحكمات). في هذه الرؤية يُعَدّ الأسلوب المناسب لتفسير القسم الأوّل هو الترجمة الثقافية، والأسلوب الأفضل لتفسير القسم الثاني هو الترجمة الحرفية. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4). إن إرسال كلّ نبيّ يتحدّث بلغة قومه أمرٌ واضح وبديهيّ، وبعبارةٍ أخرى: هو من قبيل: توضيح الواضحات. وعليه لا بُدَّ أن يكون المراد الذي ترمي إليه هذه الآية شيئاً آخر. ويمكن لذلك المعنى أن يكون: وما أرسلنا من رسول إلاّ «بثقافة قومه»؛ لأن لغة كل قومٌ تحمل ثقافة هؤلاء القوم، وإن مجرّد التكلم بلغة قومٍ لا يكفي لإقامة الارتباط والتواصل والحوار والتفاهم، بمعنى الإدراك المتبادل بين المتكلِّم والسامع. فلكي يفهم قومٌ التعاليم الدينية بشكلٍ صحيح يجب أن ترتبط تلك التعاليم بثقافتهم؛ فإن ثقافة القوم تشكّل ظرفاً لا بُدَّ للدين أن يُصَبّ فيه حتماً؛ كي يتمكّن أصحاب وحَمَلة تلك الثقافة من هضمها واستيعابها.
وعلى هذا الأساس فإن «اللغة» و«الثقافة» أمر يُفْرَض على الدين من خارجه، وإنهما بمنزلة الغبار البشري الذي يغطي السطح ما فوق البشري من الوحي، والصورة التي تلقى على المعنى الذي هو في حدّ ذاته فاقدٌ لتلك الصورة. ولهذا السبب يجب اعتبار اللغة والثقافة للمخاطَبين الأوائل بالوحي جزءاً من «عرضيات» الدين، وليس جزءاً من ذاتياته. إن هذه الآية تعلِّمنا هذا الدرس المنهجيّ الهامّ: إن الذين يعيشون في عالَمٍ مختلف عن العالم الذي عاش فيه المخاطَبون الأوائل بالوحي إذا أرادوا أن يفهموا رسالة الوحي بشكلٍ صحيح لا بُدَّ لهم من العمل على ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، بمعنى أن يعملوا على فصل الوحي عن ثقافة المخاطَبين الأوائل به، والعمل على ربطه بثقافتهم الخاصة. إن ثقافة كلّ قوم من جملة خصوصياتهم، وهي تتناسب مع مصرهم وعصرهم، وهي من الأمور البشرية والتاريخية غير المقدّسة، وإذا لم يتمّ فصل الدين ـ الذي هو أمر مقدّس وما فوق زماني وما فوق مكاني (خالد) ـ عن الجوانب الخاصة بثقافة القوم في عصر النزول فإنه، بالإضافة إلى الخطأ الذي يحصل في فهم الدين، سوف نقع في واحدة من الحالتين غير الحميدتين التاليتين:
1ـ الحالة المرفوضة الأولى عبارةٌ عن: «الزوال والانقراض التدريجي للدين». ففي هذه الحالة سوف ينحسر الدين تدريجيّاً عن أذهان وضمائر الناس، وينسحب عن صُلْب حياتهم؛ لأن الإحجام عن ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، وتقديس ظرف الدين، والإصرار على المحافظة على ذلك الظرف، وتقديم الدين في ذلك الظرف، يؤدّي بالمفاهيم الدينية إلى الخواء التدريجي، وتغدو التعاليم الدينية غير مفهومة، وسوف يستحيل تطبيق التعاليم الدينية. وهذا من أهمّ أسباب تفشّي ظاهرة عدم التديّن، وانتشار العلمانية بالمعنى الخاطئ للكلمة في المجتمعات الدينية([9]). إن عرض الدين في قوالب ثقافية منسوخة أو غير منسجمة مع ثقافة المجتمع الحديث يمثِّل في الحقيقة مصداقاً لـ «الغَزْو الثقافي»، وإن المقاومة الثقافية ستكون من التداعيات الطبيعية لهذا الغَزْو الثقافي([10]).
2ـ الحالة المرفوضة الثانية هي «تخلُّف» و«انحطاط» و«زوال وانقراض الثقافة والحضارة البشرية». إن الإحجام عن ترجمة النصوص الدينية ثقافياً يؤدّي بالمتديِّنين إلى أن يتوهَّموا أن حفظ ظرف الدين هو نفس حفظ الدين، ولكي يحفظوا الدين يحولون دون تطوّر وتقدّم المجتمع الإنساني، ويقفون حَجَر عثرة أمام ازدهار العقل والعلم، وبذلك يتخلّون عن الثقافة والعلم والحضارة الجديدة، ويسعَوْن إلى فرض ثقافة وتقاليد وأعراف وطريقة عيش المخاطَبين الأوائل بالوحي على سائر الثقافات والتقاليد والأعراف الأخرى بالقوّة والإكراه. وأما إذا لم نتردَّد في إمكان هذا الأمر فلا شَكَّ في أن تحقُّقه سيؤدّي إلى زوال العلم والحضارة البشرية وانحطاط وتخلُّف المجتمعات الدينية. بل إن الإصرار على حفظ الظرف الأول للدين لن يُبْقي شيئاً من الإنسان المخاطَب بالدين؛ وذلك لأن ثقافة كلّ قوم تشكِّل جزءاً من هويتهم الجماعية، وإن عقل وعقلانية كلّ شخصٍ تمثِّل الركن الرئيس لهويته الإنسانية.
وعليه فإن الاجتهاد ـ الذي هو جهدٌ منظم ومضبوط لفهم الدين ـ عبارةٌ عن تفكيك «الدين» عن «الظرف» الذي نزل في إطاره للمرّة الأولى، أو تفكيك «الدين» عن «ثقافة» عصر النبيّ، وليس فرض هذه الثقافة على أصحاب الثقافات الأخرى؛ لأن هذا الأمر غير ممكنٍ، ولا مطلوب. فلو امتنع علماء الدين عن ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، وأصرّوا على حفظ ظرف الدين، أو إحلال الظرف محلّ المظروف، وقالوا بتأصيل الظرف، وقاموا بتسرية قداسة المظروف إلى ظرفه، فإنهم سيضعون مخاطَبيهم على مفترق طريقين؛ ليختاروا بين «الدين» و«الحضارة»؛ إذ في مثل هذه الحالة يضطرّ الناس إمّا إلى التخلّي عن معطيات العلم والحضارة والتجارب البشرية ليحافظوا على تديُّنهم؛ وإما أن يتخلّوا عن الدين ليحافظوا على ثقافتهم وحضارتهم.
يمكن أن تكون هناك أفهامٌ مختلفة ومتفاوتة للدين والنصوص الدينية؛ إذ يمكن فهم الدين بشكلٍ يتنافى مع الحضارة الجديدة، ويؤدّي التمسّك به إلى السكن في الأكواخ والبراري وانهيار الحضارة البشرية. وهذه في الحقيقة هي القراءة الدينية التي لا تميِّز الظرف من المظروف، وتعمل على تسرية قداسة الدين وخلوده إلى ظرفه الأول، ولا تميِّز الدين التاريخي من الدين ما فوق التاريخي، وتحول دون ترجمة النصوص الدينيّة ثقافياً. إن الظرف الأوّلي الذي نزل فيه الإسلام ـ أي ثقافة وحضارة وطريقة حياة وعيش الناس في شبه الجزيرة العربية في صدر الإسلام، وبنيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأهمّ من ذلك الأخلاق والعقلانية التي تشكِّل رافعة لجميع هذه الأمور ـ يختلف اختلافاً جَذْرياً وجوهرياً عن الثقافة والحضارة والأخلاق والعقلانية الحديثة التي تمثِّل قاعدةً لهذه الثقافة والحضارة، ولذلك فإن الإصرار على حفظ ذلك الظرف يؤدّي إلى زوال الدين أو زوال الحضارة أو زوالهما معاً.
وإن هذا التنافي ليس بين الإسلام والحداثة أو الإسلام والعلمانية والليبرالية، بل هو بين «العقلانية التقليدية» و«العقلانية الحديثة». وهذا النزاع لا ربط له بالنزاع بين الإسلام والكفر والإلحاد. إن النزاع بين تفسيرين وقراءتين مختلفتين للعقلانية إنما هو نزاعٌ ما فوق ديني ومن خارج الدين. وعليه لو عمد شخص إلى تحويل هذا النزاع إلى نزاع ديني، واعتباره نزاعاً بين الإسلام والكفر، إنما يريد توظيف الدين، أو بعبارةٍ أفضل: يريد أن يُسيء الاستفادة من الدين، واتّخاذه أداةً للوصول إلى مآربه.
إن الدين لا يُعارض العلم والأخلاق والثقافة والحضارة والمعنويات والعقلانية أبداً. وإذا كان هناك من تعارض فهو بين العلم والحضارة والأخلاق والعقلانية القديمة وبين العلم والحضارة الجديدة والأخلاق والعقلانية الجديدة. وعليه فإن تعارض القراءة الدينية مع العلم والحضارة والأخلاق والعقلانية التقليدية المرتبطة بالعلم والحضارة والأخلاق والعقلانية الحديثة لا ربط له بالدين. إن أسلوب تفكير القدماء وطريقة حياتهم ونظرتهم إلى العالم والإنسان وارتباط ونسبة الدين والإنسان، وكذلك توقّعاتهم من الدين والمجتمع والحضارة التي بنوها على أساس ذلك، يختلف اختلافاً كاملاً عن أسلوب تفكير المعاصرين وطريقة حياتهم ومعاشهم ونظرتهم إلى هذه الأمور والحضارة التي بنوها على أساسها. وعليه إذا امتنعنا عن ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، ولم نعمل على تفكيك ظرف الدين عن الدين، فإنه لن يقتصر الضرر على الدين فحَسْب، بل سيتخلَّف المتديّنون عن ركب الحضارة أيضاً.
وهذا بأجمعه يعني أن «للزمان والمكان دَوْراً في الاجتهاد»، إلاّ أن دليل دَوْر الزمان والمكان في الاجتهاد لا يكمن في ظهور موضوعاتٍ جديدة تضع أسئلة فقهية جديدة أمام الفقهاء في العالم المعاصر. وهذا هو الشيء الذي يذعن به جميع الفقهاء ـ حتّى أولئك الذين لا يلتفتون إلى الاختلاف الجوهري بين العالم الجديد والعالم القديم، ويمتنعون عن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية ـ، ويعترفون بحدوث موضوعات جديدة، أحياناً يكون تشخيص حكمها الشرعي بحاجةٍ إلى اجتهاد، وإن المتغيّرات الطبيعية والاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك تؤدّي أحياناً إلى خروج موضوعٍ من عنوان؛ ليندرج تحت عنوانٍ آخر، وبذلك يختلف حكمه. إن السبب الذي يجعل للزمان والمكان دَوْراً في الاجتهاد هو أن الدين الذي يمثِّل حقيقة «قدسية» و«سماوية» و«ما فوق زمانية» و«ما فوق مكانية» قد نزل على البشر في ظرف وقالب «عُرْفي» و«مكاني» و«زماني»([11]). وعليه فإن الذين يعيشون في عصرٍ مختلف عن عصر نزول الدين يضطرّون إلى فصل هذه الحقيقة القدسية والسماوية عن هذا الظرف العُرْفي والمكاني، والعمل من أجل ذلك على الاجتهاد الحيوي والبنّاء، وأخذ التفكيك بين الأمر العُرْفي عن الأمر القُدْسي، أو الظرف عن المظروف، بشكلٍ جادّ، وعليهم أن يتوجَّهوا بكل طاقتهم إلى ترجمة النصوص الدينية ثقافياً.
وعليه فإن الاجتهاد الفقهي لا يعني مجرّد استخراج حكم المسائل المستحدثة من النصوص الدينية. بل إن المهمّة الرئيسة والأساسية للمجتهد تكمن في تحرير الحقيقة القدسية والمتعالية للدين من القفص الضيّق لثقافة المخاطَبين الأوائل للدين، والعمل على التمييز بين الظرف والمظروف. إن تفكيك الظرف عن المظروف أو فصل الدين ما فوق التاريخي عن الدين التاريخي متقدِّمٌ على استنباط حكم المسائل المستحدثة تقدُّماً منهجياً. فلا بُدَّ أوّلاً من ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، وتشذيبها من عناصر ثقافة عصر النزول التي يتمّ تحميلها عليها من الخارج، والعمل على مواءمة فهمنا للدين مع العقل والعقلانية والأخلاق الحديثة، ومن ثم المصير إلى استنباط حكم المسائل الجديدة.
وفي الحقيقة إن الذي يعتبر ثقافة قوم النبيّ، التي تمثِّل ظرف الدين، مساويةً ومتّحدة مع المظروف، ويجري عليها أحكام ذات الدين، ويضفي عليها قيمة الدين وأهمّيته وقداسته، يكون مبتدعاً في الدين؛ لأن البِدْعة في الدين ليست سوى «إدخال ما ليس في الدين في الدين». إن إدخال ظرف الدين في ذات الدين، واعتبار ظرف الدين بوصفه جزءاً من الدين، وتقديس الأمور غير المقدّسة، من أسوأ أنواع البِدَع في الدين. فهل هناك أسوأ بِدْعةً من تفسير الدين للناس بشكلٍ لا ينفع غير المتاحف الأثرية، ويضع المخاطَبين على مفترق طريقين مختلفين؛ إما العقل؛ أو الدين؟! إن ثقافة قوم النبي تمثِّل بالنسبة إلى سكان عصر الحداثة غباراً بشرياً عالقاً على صفحة الوحي. وما لم يتمّ نفض هذا الغبار عن صفحة الدين لن نتمكَّن من إظهار بريق الدين، ولن تكون له تلك الجاذبية التي تستقطب الأقوام الذين يعيشون في العالم الحديث ويفكّرون ويسلكون بشكلٍ مختلف.
إن المشكلة التي نعاني منها نحن المسلمون تكمن في أن الكثير من علمائنا ما زالوا يعيشون في العالم القديم، ويعملون على فهم النصوص الدينية واستنطاقها وتفسيرها بذهنيّة تتناسب مع ذلك العالم القديم. إن هؤلاء من الناحية المعرفية يتغذّون من مصدرٍ واحد، ولا يمتلكون رؤية تاريخية، ويجهلون وجود «الركن الخارجي» للمعرفة الدينية، وتأثير هذا الركن على تفسير النصّ، ويتوهَّمون أن عليهم استقاء معلوماتهم من القرآن والسنّة فقط. إن العقل المسموع لهذه الجماعة بنموّه السرطاني قد سدّ المنافذ على العقل الشهودي والتجريبي. عندما يحصر الشخص مصادر معرفته بالقرآن والسنّة سيكون نَمَط فكره تجاه الإنسان والمجتمع والتاريخ والدين والثقافة والحياة والعقل والعقلانية والأخلاق هو ذات النَّمَط الفكري للمعاصرين للنبيّ؛ لأن هذا النَّمَط الفكري ينتقل إلى ذهنه تلقائياً من طريق الظرف الذي تمّ فيه تقديم الدين، ويتصوَّر بدَوْره أنه تمكّن من الوصول إلى فهم خالص للدين الخالد والأبدي وما فوق التاريخي، والذي يجب تطبيقه في جميع الأزمنة والأمكنة، دون الالتفات إلى امتزاج الظرف بالمظروف، وضرورة التفكيك بين هذين الأمرين.
إن الالتفات إلى امتزاج الظرف بالمظروف، والدين بالثقافة، وأن تلك الثقافة التي امتزجت بالدين ليست جزءاً من الدين، بل ظرفه، وأنها أمرٌ بشريّ وغير مقدَّس وتاريخي وزائل، وأن بإمكان الدين ـ لكي يبقى إلى الأبد، وأن يلعب دَوْراً مؤثِّراً وبنّاءً في حياة الإنسان ـ بل لا بُدَّ من صبّه في ظروف وقوالب أخرى، وأن يمتزج بالثقافات الأخرى، إن الالتفات إلى هذه المسألة إنما يخطر على ذهن أولئك الذين تختلف عوالمهم باختلاف حجم ومقدار معلوماتهم. وإن تغيّر عالم الشخص رَهْنٌ بتعدّد مصادره ومنافذه المعرفية. وفي ظل هذا الفرض يرى الإنسان للعلم والمعرفة غير الدينية وما وراء الدينية شأناً ومنزلة ومكانة وأهمّية وسَهْماً ودَوْراً وتأثيراً في فهم الدين وتفسير النصوص الدينية. إن اختلاف العالم الجديد والعالم القديم لا يقتصر على المنتوجات والمحاصيل الصناعية الحديثة فقط، بل إن هذين العالمين عبارةٌ عن ظرفين مختلفين يشكِّلان حاضنةً للدين، ويتمّ فهم الدين وتطبيقه في إطارَيْهما. إن العالم الجديد هو عالم العقلانية والأخلاق الجديدة، وليس عالم الصناعات الجديدة.
رُوي عن النبيّ الأكرم أنه قال: «إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ»([12])، ولم يقُلْ: إنه أمر أن يكلم الناس على قدر عقولنا. إن هذا الحديث الشريف، الذي يشهد مضمونه على صحّته، يشتمل على نقاط قيّمة ومهمّة للغاية. إلا أن الذي يرتبط ببحثنا الراهن هو أن عقل المعاصرين للنبيّ والمخاطَبين الأوائل للنبيّ يشكّل الظرف الذي ينزل عليه الدين ويصبّ فيه، ويتمّ وزنه فيه ويتّسق معه. إن العقل هنا لا يعني القوّة العاقلة التي توجد بالقوّة عند جميع الناس، بل بمعنى مخزون المعلومات والتجارب التي يحصل عليها الناس من بيئتهم ومن سائر القنوات المعرفية. ولذلك كانت عقول الأنبياء أكمل من عقول مخاطَبيهم؛ لأن الأنبياء يعرفون ويرَوْن ويسمعون أموراً لا ينالها الآخرون. وبعبارةٍ أدقّ: إن المراد من العقل هنا هو «شريعة العقل» (العقلانية).
وعلى أيّ حال فإن السرّ في أمر الأنبياء بأن يتكلّموا مع الناس على قدر عقولهم يكمن في أن الفهم الصحيح لكلام الأنبياء يتوقّف على مقدمتين ضروريتين، وهما:
1ـ الاستفادة من القِيَم والمعايير العقلانية.
2ـ امتزاج كلام الأنبياء بالمعلومات والتجارب السابقة للمخاطَبين.
لهذا السبب يجب على الأنبياء أن يجعلوا كلامهم متناسباً مع عقول الذين يخاطبونهم، وأن يقدِّموا كلامهم في إطارٍ وظرف يمكن للناس أن يستوعبوه. إن هذا الظرف والإطار يُسْتَعار من المخاطَبين الأوائل للدين، بمعنى أنه يُفْرَض على الدين من الخارج، وإن مشرِّع الدين لا مندوحة له من افتراضه واستعارته. إن هذا الأمر من المقدّمات الضرورية لفهم الدين. ولذلك لا يمكن لله والنبيّ أن يلغوه، وأن يعرضوا كلامهم ورسالتهم على الناس دون ظرفٍ أو في ظرف ما فوق ثقافي. إن الدين المجرّد من الظرف لا يوجد إلاّ في عالم التشريع (اللوح المحفوظ)، وإن نزول الدين على البشر يعنى ارتباطه وامتزاجه بالعقل والثقافة البشرية. ولذلك قبل أن يتحقَّق هذا الامتزاج والارتباط لا يمكن الحديث عن «نزول» الوحي والدين.
إلاّ أن تقديم الوحي من قِبَل الله في إطار وقالب الثقافة المعاصرة لنزول الوحي لا يعني تأييد تلك الثقافة والمصادقة عليها وإضفاء القداسة على العقلانية السائدة في تلك الثقافة. إن عقول الناس في حالةٍ مستمرة من التحوُّل والتكامل بشكلٍ يومي. وإن هذا التحوُّل والتكامل يؤدّي إلى زوال التوازن والتناغم الذي كان حاصلاً بفعل الحوار والتعاطي السابق بين العقل والوحي، وإن تعاليم الأنبياء؛ بسبب امتزاجها بالظرف السابق، تغدو مبهمةً وصامتة بالنسبة إلى المتأخِّرين. وفي هذه الحالة يضطرّ الناس لفهم الدين إلى إخراجه وفصله عن ظرفه القديم، وصبّه في ظرفٍ وقالب جديد. وهذا بطبيعة الحال لا يشكِّل نقصاً أو غمزاً على الوحي؛ فإن هذا الأمر من لوازم ومقدّمات المعرفة، وهو شيءٌ يتمّ فرضه على الدين من خارجه، ومن قِبَلنا نحن البشر. ولذلك فإن الفهم والتفسير الصحيح للدين بالنسبة إلى المعاصرين رَهْنٌ بإدراك حقيقة أن عقول المعاصرين للنبيّ وثقافتهم كانت تفرض قيوداً على الله وعلى النبيّ. إن هذه القيود تشكِّل جزءاً من «شأن نزول» الوحي، الذي من دون فهمه لا نستطيع أن نكوّن فهماً صحيحاً للوحي كما ينبغي ويجب. يضطرّ الأنبياء إلى النزول برسالتهم إلى مستوى عقول مخاطَبيهم، وهذه قيودٌ مفروضة على الأنبياء من قبيل: المنظومة الإدراكية المحدودة للبشر. وإن مراعاة ذلك ضروريةٌ لإبلاغ الرسالة وفهمها وجعلها نافعة ومفيدة، ولذلك فإنها تكون واحدةً من مقتضيات العقلانية([13]). وبعبارةٍ أخرى: إن الفهم الصحيح للتحوُّل والتغيير الذي أحدثه الإسلام في المجتمع رَهْنٌ بالمعرفة العميقة لخصائص المجتمع السابق على الإسلام (العصر الجاهلي)، وإجراء مقارنة بين هذين الأمرين.
وعلى هذا الأساس فإن امتزاج الظرف والمظروف، وعدم تقديس الظرف، وضرورة تغييره على طول التاريخ وفي مواجهة الدين لمختلف الثقافات، يستوجب ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، وفصل الدين عن ظرفه. لو أريد للتعاليم الدينية أن تُفْهَم بشكلٍ صحيح فيجب أن تخرج من حالتها المجرّدة والانتزاعية وما فوق التاريخية، وأن تظهر على شكلٍ ملموس ومحسوس، وأن تلبس رداءً تاريخياً، وأن تمتزج بثقافة القوم. وهذا الأمر يجعل من إصلاح الفكر الديني على المستوى العقلاني وبشكلٍ متواصل أمراً ضرورياً.
إن الدين ليس أفيون الشعوب، إلاّ أن المتديِّنين؛ بفعل فهمهم الخاطئ له، قد يحوّلونه إلى أفيون، ويدمنونه. من هنا يمكن اعتبار بعض القراءات الدينية أفيوناً للشعوب. إن علامة القراءة الأفيونية للدين هي أن الفرد لكي يتقبَّل تلك القراءة، ويعمل على طبقها، يضطرّ إلى إلغاء عقله. لا يكفي لسعادة الإنسان ونجاته مجرّد وجود الدين والعمل به، بل لا بُدَّ أيضاً من الفهم الصحيح للدين، والمشكلة تنشأ من هنا تماماً. يمكن تقديم قراءتين للدين والنصوص الدينية في الحدّ الأدنى، وهما: القراءة الأفيونية؛ والقراءة الحيوية، القراءة القاتلة؛ والقراءة المنقذة، القراءة التي تؤدّي إلى زوال العقلانية وتعطيل العقل؛ والقراءة التي تؤدّي إلى تحرير العقل والعقلانية وتطويرها وتعمل على شحذ العقل وتنشيطه. إن من بين الأسباب الرئيسة لشيوع القراءة الأفيونية للدين بين الجماهير المتديّنة امتناع بل حيلولة علماء الدين دون ترجمة النصوص الدينية ثقافياً.
إذا لم يعمل علماء الدين في مقام فهم وتفسير الدين على فصل «ظرف» الدين عن «مضمونه» و«محتواه»، ولم يعملوا بعد ذلك على صبّه في قالب وظرف عصرهم، فإن الدين سيتحوَّل إلى أمرٍ مبهم وغير مفهوم، وسوف يفقد دوره وآليته المناسبة في حياة المتدينين، وسوف يتحوَّل إلى أفيون. إن ظرف ظهور الدين الإسلامي ـ أي ثقافة العرب في صدر الإسلام ـ في الوقت الذي يُعتَبَر شرطاً أساسياً لفهمهم للدين والعمل به، يُعَدّ بالنسبة إلى الذين يعيشون في العالم الجديد مانعاً من فهم الدين والعمل به. وإن على هؤلاء إذا أرادوا أن يفهموا الدين بشكلٍ صحيح إمّا أن يغيِّروا دنياهم ويرجعوا إلى الوراء، ويحولوا دون تطوُّر العالم وتقدُّمه (وهذا أمرٌ مستحيل، وإذا أمكن فهو غير مطلوب)؛ وإما أن يعملوا على فصل الدين من العالم القديم، كي يتمكنوا من ربطه بعالمهم.
عندما يتحوَّل الدين إلى أمرٍ غير مفهوم سوف يضطرّ المتديِّنون إلى الاقتناع بالقشرة الظاهرية من الدين، وسوف يحلّون هذا الظاهر محلّ باطن الدين وحقيقته. وفي الحقيقة هذا نوعٌ من الجمع بين الدين ومقتضيات العالم الجديد. وفي هذه الحالة سوف تنقسم حياة المتديِّنين على دائرتين مستقلّتين ومنفصلتين: الدائرة الأولى، التي تمثِّل الساحة الدينية، عبارةٌ عن مجموعة من العقائد الحتمية والنمطية والسلوكيات الجافّة والخالية من الروح والمصطنعة والتقليدية وغير المؤثِّرة وغير المثمرة، والتي لا تصلح للدنيا ولا للآخرة. وإن مثل هذا الدين هو مجرَّد نوع من الإدمان والأفيون. أما الدائرة الثانية التي تمثّل دائرة الحياة فهي حيث لا يكون فيه من أثرٍ للدين. إن الامتناع عن الترجمة الثقافية للدين سوف يؤدّي إلى تحويل الدين إلى جَسَدٍ فارغ من الروح، ومجرّد قشرة خشنة ملقاة على هامش حياة الإنسان([14]).
وبعبارةٍ أخرى: إن مضمون النصوص الدينية خليطٌ من الدين «المطلق» أو «ما فوق التاريخي» والدين «المفصّل» على مقاس العالم القديم، أو الدين «التاريخي». إن الدين المطلق وما فوق التاريخي هو الذي يمكن تطبيقه في جميع الأزمنة والأمكنة والعوالم؛ لأنه بحسب الفرض منسجمٌ مع جميع الثقافات أو القدر المشترك بينها، في حين أن الدين التاريخي حصيلة تطبيق الدين المطلق على الشروط والأوضاع والأحوال التاريخية الخاصة. إن الدين التاريخي يخصّ ذلك العالم وتلك الشروط التي تمّ تطبيقه عليها، ولا يمكن تطبيقه في الظروف والعوالم المختلفة. إن الدين التاريخي يتحوَّل في خارج ظرفه التاريخي إلى أفيون. وبطبيعة الحال فإن الأديان المفصَّلة على مقاسات العوالم المختلفة ـ التي هي عبارةٌ عن قراءات مختلفة للدين المطلق وما فوق التاريخي ـ تحتوي على مشتركات أيضاً، إلاّ أن نقاط اشتراكها وافتراقها تابعةٌ لنقاط اشتراك وافتراق العوالم، فإن العالم الجديد إنما يُسمّى عالماً جديداً لما يشتمل عليه من نقاط الافتراق التي تميِّزه من العالم القديم.
يمكن لنا توضيح هذا الأمر من خلال التمثيل التالي: لنفترض أن التفجُّر السكاني على الكرة الأرضية أجبر جماعةً من الناس إلى مغادرته والعيش في كوكبٍ آخر، مثل: المريخ. يمكن القول بوضوحٍ: إن القراءة الأرضية للدين الذي هو الدين «المفصل» على مقاس ظروف الكرة الأرضية غير قابل للتطبيق على ظروف المريخ بشكلٍ تامّ. وعندها سيضطرّ علماء الدين والشريعة إلى تقديم قراءةٍ جديدة عن الدين، تناسب أولئك الذين غادروا كوكبنا، وسكنوا في كوكب المريخ. ومن بين الاختلافات الهامّة هو أن القمر لا وجود له في كوكب المريخ، ولذلك فإن جميع الآيات والروايات التي تشير إلى القمر يجب ترجمتها ثقافياً؛ كي يتمكن المرّيخيّون من فهمها واستيعابها، ويجب أن تتحوَّل جميع الأحكام القائمة على التقويم القمري والشمسي لتغدو قابلةً للاتّباع من قِبَل سكان المرّيخ. فمثلاً: إن السنة في كوكب المريخ تشتمل على 687 يوماً بَدَلاً من أن تكون 365 يوماً، كما هو الحال بالنسبة إلى الكرة الأرضيّة، وهكذا… فما الذي سيحدث إذا أراد المبلِّغون الذهاب من الأرض إلى المرّيخ، وأرادوا أن يقدِّموا لسكان المرّيخ قراءة أرضيةً عن الدين؟ إذا أراد هؤلاء المبلِّغون أن يحقِّقوا نجاحاً في مهمّتهم يجب عليهم قبل كلّ شيء تفريغ الدين من خصوصياته الأرضية، ليعملوا بعد ذلك على ردّ الفروع على الأصول، وعليهم أن يستنبطوا حكم الفروع من الأصول.
والنقطة الجديرة بالانتباه هي أن اختلاف العالم القديم الذي كان يعيش فيه المسلمون الأوئل عن العالم الجديد الذي نعيش فيه حالياً أعمق من ذلك بكثيرٍ. إن هذا الاختلاف هو اختلاف «باطني» أكثر منه اختلافاً «ظاهرياً»؛ فإن عالمنا الخارجي وإنْ كان مختلفاً عن العالم الخارجي لأسلافنا، إلاّ أن الاختلاف الذهني والثقافي والعقلاني، ورؤيتنا إلى الكون والإنسان، أعمق من ذلك بكثيرٍ، وهي أكثر مصيرية.
وقد أشَرْنا في مناسبة أخرى إلى أهمّ هذه الاختلافات، وكان الكثير منها من المقوِّمات والمؤلّفات التي يستحيل فصلها عن العالم الجديد. من هنا إذا أراد شخصٌ أن يحفظ الدين بظرفه القديم، وأن يعتبر الدين المفصّل على مقاس العالم القديم ديناً مطلقاً، لا مندوحة له من التخلّي عن الحياة في العالم الجديد. إن تفكيك العالم الجديد عن مقوّماته لا هو بالأمر الممكن، ولا هو بالأمر المطلوب، وهذا هو السرّ الجوهري في إخفاق وعدم جدوائية الاجتهاد المصطلح في حلّ المسائل والمعضلات الفقهية للعالم المعاصر.
إلاّ أن فصل الدين عن ظرفه القديم أمرٌ ممكن، ومطلوبٌ أيضاً. يمكن للمتديِّنين أن يختاروا بين العيش في العالم الجديد أو في العالم القديم، ولكنْ عليهم أن يدركوا أوّلاً أن التلفيق بين هذين العالمين وقطف ثمار ومحاصيل أحدهما والاستفادة منها في الآخر أمرٌ مستحيل، ويؤدي إلى الكثير من الأزمات. وثانياً: إن كلّ عالم يختاره الشخص يضطرّه إلى قراءة الدين والنصوص الدينية بشكلٍ يتناسب ويتلاءم مع العالم الذي اختاره، بحيث يمكن لسكّان ذلك العالم أن يفهموه ويدركوه، كما يمكن لهم أن يتَّبعوه. إن الاختيار بين العوالم المختلفة هو اختيارٌ بين الأنماط والنماذج والأساليب المختلفة للحياة التي يتمّ فرضها على الدين من خارجه، وإن هذا الاختيار متقدِّمٌ على فهم الدين والعمل بأحكامه.
من السذاجة أن يتصوَّر المرء أن الدين هو اختياره «الأوّل»، وأن سائر الأمور مجرّد معاجين يمكن تشكيلها كما نريد في ضوء الدين. فمن دون تركيب الدين ومضمون النصوص الدينية بالعقل والعقلانية، ومن دون افتراض مقوّمات العالم الذي يعيش فيه الإنسان، يستحيل فهم هذا الدين. وعليه لا يمكن القول: يجب الذهاب أوّلاً إلى الدين وسماع ما يقول، ومن ثمّ اختيار العيش في عالمٍ يتناسب وتعاليم ذلك الدين، أو العمل على بناء عالمٍ في ضوء تعاليم ذلك الدين. في الحقيقة إن الذين يتوهَّمون ضرورة الذهاب إلى الدين قبل كلّ شيء، والعمل بزعمهم على فهم الدين بشكلٍ خالص، إنما يفترضون العالم القديم ومقوّماته دون شعورٍ منهم؛ حيث إن العالم القديم يفرض إطاره النظري والعملي على المعرفة الدينية لهؤلاء الأفراد. ومن هنا فإن حصيلة جهودهم في فهم الدين عبارةٌ عن الدين «التاريخي» و«المفصّل» على مقاس العالم القديم، وليس الدين «ما فوق التاريخي» و«المطلق».
وبطبيعة الحال لا ينبغي فهم هذا الكلام على أن الدين ليس لديه أيّ شيء ليقوله بشأن العالم الحديث، بل هو قابلٌ للانسجام مع كلّ عالمٍ، ويمكن تطبيقه على جميع العوالم. إلاّ أن لفهم وتفسير النصوص الدينية إطاراً خاصاً، ويتبع معايير وقواعد خاصة، وليس هناك هرجاً ومرجاً واضطراباً في هذه الساحة. ليس الدين عجينةً فاقدة للشكل والمادّة والصورة، إلاّ أن شكله وصورته في الوقت نفسه ليست ثابتةً أو متعيّنة أو جامدة مئة في المئة. بل هي شيءٌ بين هذين الأمرين. فعلى سبيل المثال: لا يمكن الحصول من القرآن الكريم على قراءةٍ مشركة، ولكنْ يمكن الخروج من التوحيد القرآني بقراءاتٍ وتفسيرات مختلفة ومتعدِّدة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى أصل العدالة وسائر الأصول المعيارية التي تمّ التأكيد عليها في القرآن الكريم.
وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن بعض أبعاد ومظاهر الحضارة الجديدة لا تقتصر في عدم انسجامها على ظرف الدين فحَسْب، بل لا تنسجم حتّى مع ذات الدين أيضاً. وإن الحضارة الجديدة يمكن نقدها من الزاوية الدينية. ولكنْ يجب الالتفات إلى أن فهم الدين الشائع حالياً بين المسلمين، والذي يتمّ استنباطه من خلال توظيف أصول وقواعد الاجتهاد المصطلح من النصوص الدينية، هو فهمٌ منسجم مع الثقافة والحضارة القديمة، وهو عبارةٌ عن قراءة للدين الذي تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم. ولذلك لا يحقّ لأيّ شخصٍ أن يحكم على العالم الجديد من خلال هذا الفهم والتفسير، ويعمل على توجيه النقد له. إن نقد العالم الجديد من الزاوية الدينية ممكنٌ ومطلوب أيضاً، إلاّ أن الشرط الضروري لهذا الأمر هو أن نقوم أوّلاً بتجريد الدين من ظرفه القديم، وأن نخرج من الدين الذي تمّ تفصيله ليتناسب مع ظرفه التاريخي، للوصول إلى الدين المطلق وما فوق التاريخي. يحقّ لنا على أساس تعاليم الدين «المطلق» و«ما فوق التاريخي» أن نحكم بشأن العالم الجديد، بل على جميع العوالم أيضاً. إلاّ أننا إذا أردنا أن ننتقد العالم الجديد على أساس التعاليم الدينية قبل العمل على ترجمة النصوص الدينية ترجمة ثقافية نكون في الحقيقة قد حكمنا على العالم من خلال الثقافة القديمة والمعايير السائدة في العالم القديم (العقلانية التقليدية)، لا من خلال التعاليم الدينية.
4ـ معايير الفصل بين الظرف والمظروف
بعد الإقرار بهذا الأصل القائل بأن محتوى النصوص الدينية ليس هو الدين الخالص وما فوق التاريخي، بل هو مزيجٌ من «الدين التاريخي» و«الدين ما فوق التاريخي» وأن الفهم الصحيح للدين رهنٌ بالعمل على فصل الدين عن ثقافة وحضارة العالم القديم، يطرح هذا التساؤل الهامّ نفسه:
«ما هو معيار تشخيص الظرف وفصله عن المظروف؟»، أو «كيف يمكن تشخيص ما إذا كانت المعلومة أو الحكم الديني ليس من تعاليم وأحكام الدين المطلق وما فوق التاريخي، بل هو من تعاليم وأحكام الدين التاريخي، والذي تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم؟».
في الوهلة الأولى قد يُتصوَّر أن الذين يُصِرُّون على امتزاج الظرف والمظروف وضرورة الفصل والتفكيك بينهما يريدون القول بأن الثقافة والحضارة الجديدة بجميع مساوئها وعيوبها ومفاسدها هي المعيار لتفكيك وفصل الظرف عن المظروف. ويبدو أن سوء الفهم يؤدّي بالمدافعين عن القراءة التقليدية للدين إلى إنكار امتزاج الظرف بالمظروف من الأساس. وينكرون من جهةٍ أخرى اختلاف العالم الجديد عن العالم القديم. ويرى هؤلاء أن «الترجمة الثقافية» للنصوص الدينية نوعٌ من أنواع «التَّبَعية للغرب» و«الغَزْو الثقافي».
إن التساؤل عن معيار الفصل والتفكيك بين الظرف والمظروف مشروع ومعقول، ولكنْ لا يصحّ أن نرهن هذه النظرية بالإجابة عن هذا التساؤل. لنفترض مثلاً أننا عجزنا في الوقت الراهن عن الإجابة عن هذا السؤال فهل يمكن أن نتذرّع بعجزنا هذا لنستنتج أن الدين لا ظرف له، أو القول بأن ظرف الدين جزءٌ من الدين، وأن أحكام الدين تجري على ذلك الظرف أيضاً؟ ألا يمثِّل هذا الرأي تقويضاً للدين من جذوره؟ أليس هذا الأمر هو مطلب الذين يدَّعون أن الدين في ذاته أمرٌ تاريخي، وأن تاريخ صلاحيته قد انتهى، وأن الدين ما فوق التاريخي مفهومٌ لا مصداق له؟ إن تَبِعات إنكار هذه النظرية من الأهمّية والخطورة بحيث تقضّ مضجع كلّ مؤمنٍ، وتدعوه إلى التفكير والتأمُّل. ولا يخفى أن إنكار هذه النظرية لا يوافق حتّى الاحتياط؛ فإن أصل الاحتياط عند الشكّ في كون شيءٍ جزءاً من الدين أو جزءاً من ظرف الدين لا يقتضي منّا البناء على أنه جزءٌ من الدين حتّى يثبت الخلاف على نحو القطع واليقين. وإن هذا الخطأ قد ابتُلي به بعض المستنيرين المجدّدين في قطرنا، بالإضافة إلى أصحاب القراءة التقليدية للدين. وقد انتقدنا هذا التوهُّم في محلّه، فلا نرى حاجةً إلى الإعادة. وعلى كلّ حال فإن المنهج العلمي يقتضي من الذين يخالفون هذه النظرية أن يقدِّموا نظرية بديلة، تشتمل على محاسن هذه النظرية، وتخلو من عيوبها، وما لم يتمّ تقديم هذه النظرية من قِبَلهم لا مندوحة لنا من الالتزام بهذه النظرية.
إن المؤمنين يريدون للدين أن يتّصف بـ «الخلوص» و«القدرة»، فإن الإيمان بأحقّية الدين يقتضي من المؤمنين القول بأن الدين «خالصٌ» و«قادرٌ» وناجعٌ أيضاً([15]). بَيْدَ أن لبّ الكلام في أن الدين الخالص هو الدين المنفصل عن ثقافة عصر النزول، وإن الفهم الذي لا يفصل الدين عن هذه الثقافة لا يقدّم لنا الدين الخالص. ولذلك لا يمكن نسبة عجز وعدم جدوائية الدين في العالم المعاصر إلى ذات الدين أو عدم كفاءة المتديِّنين أو تآمر الملحدين. إنما المشكلة الرئيسة تنشأ من الأسلوب الخاطئ لفهم الدين، وتفسيره الذي يتجاهل امتزاح الظرف بالمظروف تماماً. كما أن عدم كفاءة المتديِّنين تكمن ـ كما أسلفنا ـ بشكلٍ رئيس في عدم ترجمة النصوص الدينية ثقافياً.
إن نفي هذه النظرية يترتّب عليه تَبِعات نظرية وعملية غير محمودة، ولا يمكن تجاوزها بسهولة. ويمكن القول من الزاوية الدينية: إن إنكار هذه النظرية يؤدّي في الحقيقة إلى إنكار الخاتمية، وإلى البِدْعة في الدين.
أما الأول فلأن الدين الخاتم هو الدين الذي يمكن فهمه والقول به واتّباعه في جميع الأزمنة والأمكنة، وهذا الدين هو الدين «المطلق»، وليس الدين الذي تمّ «تفصيله» على مقاس عالمٍ خاصّ. إن الخاتمية وصفٌ لذات الدين، وليست وصفاً لظرف الدين. إن الدين الإسلامي باعتقاد جميع المسلمين هو آخر وأكمل الأديان التي نزلت على البشرية من قِبَل الله تعالى، إلاّ أن الظرف الذي نزل فيه هذا الدين لا يختلف من حيث الكمال والنقصان عن سائر ظروف الأديان الأخرى، إذا لم نقُلْ: إنه أسوأ منها من بعض الجهات، وأشدّ قسوةً، وأكثر تخلُّفاً وانحطاطاً.
وأما البِدْعة في الدين فلأن ظرف الدين ليس جزءاً من الدين، ومع إنكار هذه النظرية يُعَدّ ظرف الدين جزءاً من الدين.
والتَّبِعة الأخرى لنفي هذه النظرية تكمن في إعلان الحرب بين الدين والحضارة، وتَبَعاً لذلك الزوال التدريجي للدين والحضارة البشرية. فإذا لم يتمّ فصل ظرف الدين عن ذات الدين فإن المؤمنين سوف يتصوَّرون أن الظرف القديم للدين جزءٌ منه، وسوف يعملون على تسرية قداسة الدين إلى ثقافة الأسلاف وأعرافهم وتقاليدهم، وسوف يقعون في مطبّ عبادة الماضي، وسوف يهتمّون بالحفاظ على ذلك الظرف باسم الدين. وإن هذا الظرف يضيِّق الخناق على العقلانية والعلم والحضارة وعلى تقدُّم المجتمع البشري. وفي هذه الحالة سيجد أولئك الذين لا يستطيعون التخلّي عن العقلانية والعلم والحضارة أنفسهم مضطرّين إلى إنكار أصل الدين. ومن جهةٍ أخرى فإن المتديِّنين الذين يبدون اهتماماً بحفظ الدين بزعمهم سيضطرّون إلى التخلّي عن الحضارة والعلم والتقدّم. وإن غلبة الجماعة الأولى تؤدّي إلى زوال الدين، وغلبة الجماعة الثانية تؤدّي إلى زوال الثقافة والحضارة، وتؤدي إلى انحطاط المجتمع البشري.
يمكن القول: إن إنكار هذه النظرية سيؤدّي بالكثير من الآيات والروايات إلى أن تفقد معناها المنطقي والمعقول. وإن هذه المشكلة لا تقتصر على النصوص الفقهية فقط. يمكن لك أن تلتفت إلى هذا المثال البسيط: إن القرآن يُشير في جميع المواطن إلى الله بضمير المذكَّر، فإذا لم نفصل الظرف عن المظروف فعلينا القول: إن الله من وجهة نظر القرآن ـ والعياذ بالله ـ مذكّر! وهذا ما لم يقُلْ به أحدٌ. وهذا يُثبت أن الجميع يؤمن بشكلٍ وآخر بأصل نظرية امتزاج الظرف والمظروف، وضرورة الفصل والتفكيك بينهما، وإذا كان هناك من اختلافٍ فهو في حدود وسعة هذه النظرية.
لا يمكن القول في هذا المورد: إن القرينة القطعية ـ أي الدليل العقلي القائم على أن الله لا جنسية له ـ توجب علينا رفع اليد عن ظهور الآيات؛ لأن هذا الحلّ لا يمثِّل جواباً مقنعاً لهذا السؤال. فالسؤال هنا يقول: أوّلاً: «لماذا يستعمل الله الضمير ـ وهو دالٌّ على نوع الجنس ـ للإشارة إلى نفسه؟»؛ وثانياً: «لماذا يستعمل ضمير المذكّر؟».
إن الجواب عن السؤال الأوّل هو أن هذه هي ميزة «اللغة» العربية التي يتمّ فرضها على الدين الإسلامي من خارجه. ولذلك لو كان القرآن قد نزل باللغة الفارسية لما فرضت عليه هذه القيود؛ لأن الضمير باللغة الفارسية لا يدلّ على جنس مرجعه.
والجواب عن السؤال الثاني: إن هذه هي قيود «الثقافة» العربية التي تفرض نفسها على الدين الإسلامي من خارجه، إذ يحتلّ الذكور في هذه الثقافة مكانةً أشرف من مكانة الإناث، ولذلك فإن الإشارة إلى الله بضمير المؤنّث في إطار هذه الثقافة ينطوي على توهينٍ واستهانة بالله تعالى، في حين أن الأمر على خلاف ذلك في الثقافة الهندية. وبالمناسبة فإن القرآن قد أشار إلى هذا العُرْف العربي، إذ يقول: ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾ (الإسراء: 40).
الاتجاهات المختلفة في مجال نسبة الدين إلى العالم الجديد
قبل الخوض في دراسة معايير الفصل والتفكيك بين الظرف والمظروف، من المناسب أن نمرّ بشكلٍ عابر على مختلف الاتجاهات التي يمكن أن نسلكها بشأن فهم الدين في العالم المعاصر. وفي هذا الإطار يمكن لنا الفصل بين ثلاثة أنواع من الاتجاهات المعرفية، ويمكن إجمالها على النحو التالي:
1ـ الاتجاه السَّلَفي (الأصولي).
2ـ الاتجاه الإسقاطي.
3ـ الاتجاه الانتقادي.
1ـ الاتجاه السَّلَفي
في هذا الاتجاه يعمد الشخص أوّلاً إلى قراءة النصوص الدينية دون أن يأخذ خصائص ومقتضيات العالم المعاصر واختلافاته الجَذْرية عن عالم المخاطَبين الأوائل للدين بنظر الاعتبار، ويسعى إلى تحصيل فهم للدين، ليتّجه بعد ذلك مسلَّحاً بهذا الفهم ليعمل على نقد العالم المعاصر، بمعنى أن يجعل ذلك الفهم معياراً للحكم على العناصر المؤلِّفة للعالم المعاصر. هناك الكثير من الذين يتصوَّرون أن هذا هو الطريق الوحيد للحصول على الإسلام الخالص والتفكير الديني النقيّ والمحافظة عليه. إن هؤلاء في الحقيقة إنما يعتبرون الدين والأشياء الأَثَرية في المتاحف شيئاً واحداً، ويعتبرون التديُّن بمنزلة الحارس للتراث القديم، ويتّهمون كلّ صوتٍ جديد بالعمالة للغرب والانبهار بالعلمانية والليبرالية وتقليد الغرب.
إلاّ أن هذا التصوُّر في غير محلّه؛ إذ لا ينبغي اعتبار «السَّلَفية» و«الخلوص» شيئاً واحداً. إذا لم نعمل على فصل الدين عن العالم والظرف الذي نزل فيه سوف نصل إلى فهمٍ للدين تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم، ونحصل على خليطٍ من الدين التاريخي وما فوق التاريخي. وفي هذه الحالة فإن معيار حكمنا على العالم المعاصر ليس هو الدين نفسه، بل ظرفه القديم، وإنما نكون قد حكمنا على العالم المعاصر من خلال إضفاء الأصالة والقداسة على العالم القديم. إن مجرّد نزول الدين في ظرف وقالب العالم القديم، وارتباطه بثقافة عصر النزول، ليس فيه أيّ دلالةٍ دائمة على المطلوبية الأبدية لذلك العالم وذلك الظرف وتلك الثقافة من الناحية الدينية. في هذا الاتجاه يتمّ اتّخاذ فهم الدين الذي تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم، واختلط بالثقافة والحضارة القديمة واتّسق معها، معياراً للفصل والتفكيك بين الأبعاد الجيّدة والسيئة للعالم المعاصر. إن هذا الأسلوب سوف لا يُبْقي شيئاً من العالم الجديد؛ وذلك لأن الدين الذي تمّ تفصيله على مقاس العالم القديم يتعارض ويختلف عن المقوّمات والعناصر التي لا يمكن التخلّي عنها في العالم المعاصر. إذا كان الانبهار بالغرب قبيحاً كذلك الانبهار بالشرق والعرب قبيحٌ أيضاً، وإذا كان التقليد الأعمى لآراء وأفكار وتقاليد وأعراف الغربيين أمراً قبيحاً كذلك التقليد الأعمى لآراء وأفكار وتقاليد وأعراف الأسلاف، ولا سيَّما أعراب شبه الجزيرة العربية في صدر الإسلام، قبيحٌ أيضاً، حتّى إذا لبست تلك الأفكار والتقاليد والأعراف مسوح الدين([16]).
يرى القائلون بكفاية الاجتهاد المصطلح أن علينا الاكتفاء في مقام فهم الدين بالعلوم الحوزوية، من الصرف والنحو وأصول الفقه وعلم الرجال (سند الحديث) وعلم الدراية (متن الحديث)، وأما العلوم الحديثة فليس لها أيّ دَوْرٍ أو تأثير في فهم الدين، ولا ينبغي أن يكون لها مثل هذا الدَّوْر والتأثير. فهؤلاء يقولون: إن الاستفادة من هذه العلوم في فهم الدين يؤدّي بنا إلى الوقوع في مطبّ «الإسقاط»، ولذلك لا يكون مشرّعاً ويكون محرّماً من الناحية الشرعية. يرى هؤلاء أن العلوم الحديثة قد تنفعنا أحياناً في «تطبيق» الدين، إلاّ أنها لا تلعب أيّ دَوْرٍ في فهم الدين، ولا ينبغي لها ذلك. إن مثل هذا الاتجاه يؤدّي بنا إلى الأصولية الدينية، وإلى زوال الدين أو الحضارة الجديدة؛ لأن فهم الدين الذي نحصل عليه من هذا الطريق قد تناغم مع العالم القديم. وفي الحقيقة فإن حصيلة هذا الاجتهاد عبارةٌ عن الدين الذي تمّ تفصيله على العالم القديم، ولذلك فإنه لا ينسجم مع مقوّمات العالم الجديد.
2ـ الاتجاه الإسقاطي
في هذا الاتجاه يعمد الشخص أوّلاً إلى قراءة العالم المعاصر، ويتبنّى جميع الأبعاد الجيّدة والسيئة لهذا العالم، ثمّ يذهب مسلَّحاً بهذه الرؤية للحكم بشأن الدين، ويعملون على نبذ كلّ ما لا ينسجم مع مظاهر الحضارة الجديدة والمعاصرة، بحجّة أنه يمثّل ظرفاً للدين.
وهذا الأمر يُعَدّ نوعاً من عبادة التجدُّد، ويفضي بدَوْره إلى النزعة الإسقاطية وعدم الأصالة؛ لأن بعض أبعاد ومظاهر الحضارة الجديدة يتنافى مع ذات الدين وذاتياته. وعلى هذا الأساس فإن الثقافة والحضارة الجديدة والمعاصرة لا يمكن أن تكون من تلقائها معياراً وملاكاً لفصل وتفكيك الظرف عن المظروف، أو تمييز ذاتيات الدين من عرضياته. في هذا الأسلوب لا يتمّ فصل عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها عن عناصرها التي يمكن اجتنابها، ولا يتمّ فصل عناصرها الجيّدة التي يمكن اجتنابها عن عناصرها السيّئة التي يمكن اجتنابها أيضاً([17]). ولو كان هذا الشيء هو المعيار والملاك لفصل الظرف عن المظروف سوف لا يبقى شيءٌ من الدين، وسوف يزول قسمٌ من الدين، أو يزول بأجمعه؛ لأن الدين ليس عجينةً يمكن لنا قولبتها كما نشاء. وفي الحقيقة إن مصدر المعرفة الدينية في هذا الأسلوب والمنهج لا يتمثَّل بشخص النصوص الدينية، وإنما هو الثقافة والحضارة الجديدة بجميع ما تشتمل عليه من الحَسَنات والعيوب.
يشترك كلٌّ من الاتّجاه السَّلَفي والاتّجاه الإسقاطي في أنهما لا يفصلان بين ظرف الدين وذات الدين؛ فإن الاتّجاه السَّلَفي يريد المحافظة على الظرف والمظروف معاً، وأما الاتّجاه الإسقاطي فينبذ الظرف والمظروف معاً.
3ـ الاتجاه الانتقادي
إن التعاطي الانتقادي مع النصوص الدينية، ومع الثقافة والحضارة الجديدة، يقوم على مقدّمتين رئيستين: المقدّمة الأولى تقول: إن محتوى النصوص الدينية خليط من الظرف والمظروف، أو «الدين المطلق» و«الدين الذي تمّ تفصيله» على مقاس العالم القديم، أو الدين ما فوق التاريخي والدين التاريخي، ولذلك لا يمكن العمل بذلك قبل الإصلاح العقلاني للسنّة، وقبل ترجمة النصوص الدينية ثقافياً. وتقول المقدّمة الثانية: إن الثقافة والحضارة الحديثة هي، مثل الثقافة والحضارة القديمة، واحدةٌ من المنتجات البشرية، ولذلك لا تكون مقدّسة، ولا تكون فوق النقد، بل هي، مثل سائر المنتجات البشرية، في معرض النقد والتقييم والإصلاح والترميم. من هنا يجب علينا فصل العناصر التي لا يمكن اجتنابها في هذه الثقافة والحضارة عن العناصر التي يمكن اجتنابها، ويجب فصل عناصرها الجيّدة التي يمكن اجتنابها عن عناصرها السيئة التي يمكن اجتنابها.
ليس هناك من دليلٍ يُثبت أن كلّ جديد يظهر في حياة الإنسان هو جيّدٌ ومفيد ومؤشِّرٌ على الكمال والتقدّم بالضرورة. فليس كل تحوُّل تقدُّم، وليس كلّ حركة تنطلق نحو الكمال بالضرورة؛ فإن للشيطان والنفس الأمّارة حظّهما في ظهور وتفشّي الأمور، إلاّ أن حظَّيْهما لا يقتصر على الأشياء التي نعتبرها جديدة في اللحظة الراهنة؛ إذ كلّ قديم كان جديداً في زمنٍ ما، وكلّ تقليد كان في ظرف ظهوره بِدْعة. في الاتجاه الانتقادي للنصوص الدينية والعالم المعاصر، أو التقليد والحداثة، لسنا نعتبر جميع أجزاء النصوص الدينية تمثِّل الدين المطلق وما فوق التاريخي، كما لا نعتبر جميع أبعاد ومظاهر الثقافة والحضارة الجديدة حسنةً ومفيدة وضرورية. إن هذا الاتجاه يساعدنا في الحصول على فهمٍ صحيح وعصريّ للدين، كما يساعدنا في فصل الدين عن ظرفه [القديم]، كما يمكننا من الحفاظ على العناصر المفيدة والإيجابية من الثقافة والحضارة الجديدة والمعاصرة، وأن نكون في الوقت نفسه في مأمن من مساوئها وأضرارها، وأن نصل في نهاية المطاف إلى قراءةٍ جديدة معتدلة ومتوازنة بين الدين والحضارة، أو بين الأصالة والحداثة، حيث تخلو هذه القراءة من النزعة «السلفية» الجافّة، كما تخلو من النزعة «الإسقاطية».
غير أن الهامّ هنا هو ضرورة القيام بهاتين العمليتين بشكلٍ متزامن ومتوازٍ، بحيث لا يكون هناك أيّ تقدُّم أو تأخُّر بينهما. توجد هناك علاقة متبادلة وحوارية بين طرفين؛ إذ إنّ معرفة العالم الجديد بشكلٍ أفضل سوف يساعدنا على تشخيص ظرف الدين وتمييزه من ذات الدين، وعلى تشخيص الدين المطلق من الدين المفصّل على مقاس العالم القديم، كما سوف يُساعدنا الفهم الأفضل والأعمق للدين في تشخيص وفصل الأجزاء الجيّدة والمفيدة للعالم الجديد والمعاصر عن أجزائه السيّئة والضارّة أيضاً([18]).
وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن نستنتج من ذلك أن العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية الحديثة، التي تُعَدّ من مقوّمات العالم الجديد، كما تُعَدّ مرآةً لهذه الدنيا، تعتبر من المقدمات الضرورية للاجتهاد والاستنباط في الدين؛ لأن الدين الذي يجب على المعاصرين أن يؤمنوا به ويتّبعوه عبارةٌ عن قراءة للدين تنسجم وتتناسب مع خصائص ومقتضيات العالم المعاصر. إن هذا الدين مضطرٌّ إلى الاعتراف بعناصر وأجزاء العالم المعاصر التي لا يمكن اجتنابها، كما هو مضطرٌّ إلى تأييد العناصر الجيّدة والمفيدة التي لا يمكن اجتنابها في هذا العالم أيضاً. من الواضح أننا إنما نتمكّن من الحصول على هذه القراءة للدين إذا بادرنا قبل الرجوع إلى النصوص الدينية، أو بالتزامن معها، إلى تكوين معرفةٍ عميقة للعالم الجديد والمعاصر أيضاً، وهذا لا يأتي إلاّ بعد معرفة عميقة للعلوم والمعارف البشرية الجديدة.
إن الذين يدافعون عن كفاية الاجتهاد المصطلح يذهبون إلى افتراض إمكان الوصول إلى قراءة للدين المطلق وما فوق التاريخي دون الحاجة إلى معرفة للعلوم الجديدة، ومن دون الحاجة إلى معرفة العالم الجديد، ومع ذلك تكون هذه القراءة قابلةً للتطبيق على جميع الأزمنة والأمكنة. وبعبارةٍ أخرى: إن هؤلاء يتصوّّرون «أن العالم الجديد هو صورةٌ مكبّرة عن العالم القديم»([19])، ولذلك فإنهم في مقام الحكم الديني على العالم الجديد يتوجَّهون إلى ثمار ومحاصيل الحداثة، ويتجاهلون جذورها وأصولها، بل إنهم حتّى في مقام نقدهم لثمار ومحاصيل الحداثة أيضاً يتجاهلون هذه الحقيقة الهامّة، وهي أن محاصيل وثمار الحداثة «مشحونةٌ بالنظريات»([20])، و«مشحونة بالقِيَم»([21]). يرى هؤلاء أن جميع الأشياء تنقسم إلى: «إسلامي»؛ و«غير إسلامي»، وأن مساحة الدين والفقه مطلقة، ولا يوجد أيّ أمرٍ ما فوق ديني أو ما فوق فقهي.
من هنا ننتقل إلى دراسة معايير فصل وتفكيك الظرف عن المظروف. كما ذكرنا سابقاً إن التعاطي الانتقادي مع النصوص الدينية عبارةٌ عن قياس مضمون ومحتوى هذه النصوص بالمعايير التي تساعدنا في تفكيك الظرف عن المظروف. وإن بعض المعايير العامّة التي يمكن تقديمها في هذا الشأن عبارةٌ عن:
1ـ عدم الانسجام مع العقل والعقلانية الحديثة.
2ـ عدم الانسجام مع الفطرة.
3ـ عدم الانسجام مع ألوهية الله.
4ـ عدم الانسجام مع إنسانية الإنسان.
5ـ عدم الانسجام مع القِيَم والواجبات الأخلاقية.
6ـ عدم الانسجام مع ضرورات ومقوِّمات العالم الجديد.
7ـ عدم الانسجام مع الجوانب الجيّدة والإيجابيّة والمفيدة للعالم الجديد.
8ـ عدم الانسجام مع الوقائع التجريبية.
9ـ عدم الانسجام مع أصول الدين.
10ـ عدم الانسجام مع أهداف ومقاصد الشريعة.
11ـ عدم الانسجام مع توقُّعات البشر من الدين.
12ـ عدم الانسجام مع العُرْف الجديد.
ومن الضروري التذكير ببعض الأمور بشأن هذه المعايير:
الأمر الأول: إن هذه المعايير متداخلة ومتضمَّنة، بمعنى أن النسبة المنطقية القائمة بينها هي نسبة العموم والخصوص من وجهٍ، أو نسبة العموم والخصوص المطلق.
الأمر الثاني: إن هذه المعايير مبطلة، ويمكن من خلالها فصل عرضيات الشريعة عن ذاتياتها، أو فصل ظرف الشريعة عن الشريعة ذاتها، أو فصل الشريعة التي تمّ تفصيلها على مقاس ظرفها التاريخي عن الشريعة المطلقة وما فوق التاريخية، وبذلك يمكن كشف الأفهام الخاطئة للنصوص الشرعية وإبطالها.
الأمر الثالث: إن هذه المعايير لا تستعمل في مورد ذات الدين والشريعة، وإنما تستعمل في مورد «المعرفة الدينية»، التي هي عبارةٌ عن فهم البشر الذي يجوز عليه الخطأ في قراءته للنصوص الدينية. وربما أذعن أتباع المنهج التقليدي في فهم الدين بهذه المعايير، ولكنّهم يقولون في الوقت نفسه: «إن من مسؤولية الله أن يقيِّم دينه من خلال هذه المعايير، ونحن نعلم بشكلٍ مسبق، وفي ظلّ الأدلة ما قبل التجريبية، أن الله قد فعل ذلك». فهؤلاء ـ على سبيل المثال ـ يذعنون بأن أحكام الدين يجب أن تكون منسجمةً مع أهداف الدين، ويقولون في الوقت نفسه: إن هذا ما قام به الله مسبقاً.
إن هذا كلامُ حقٍّ يُراد به باطلٌ؛ فإن انسجام «الدين» مع هذه المعايير شيء وانسجام «المعرفة الدينية» معها شيءٌ آخر. فعندما يقوم الله تعالى بمواءمة دينه مع هذه المعايير فإن ذلك لا يستوجب أن يكون فهمنا للنصوص الدينية منسجماً مع هذه المعايير بشكلٍ تلقائي؛ إذ قد رأينا أن فهم الدين، بالإضافة إلى استناده إلى الركن الداخلي (القرآن والسنّة)، يستند أيضاً إلى الركن الخارجي (العقلانية وما إلى ذلك) أيضاً.
فعلى سبيل المثال: يُدَّعى أن بعض الأحكام الشرعية إنما تلبّي مقاصد الشريعة في العالم القديم فقط، وأن تطبيق تلك الأحكام على العالم الجديد والمعاصر يُبعد الفرد عن مقاصد الشريعة. إن علمنا «السابق» بأن «أحكام الدين» منسجمةٌ في عالم الثبوت مع «أهداف الدين» لا يستوجب انسجام فهمنا لتلك الأحكام مع «أهداف الدين» على نحوٍ «سابق» أيضاً. وبالمناسبة إن السبب الذي يدعونا إلى القول بضرورة تقييم «معرفتنا الدينية» بهذه المعايير هو أن «الدين» في حدّ ذاته يتبع هذه المعايير في مقام الثبوت أو اللوح المحفوظ، وأن الله سبحانه وتعالى قد راعى هذه المعايير في تشريع الدين. إن الله لا يُخطئ في تشريع الدين، ولكنّنا نحن البشر نخطئ في «فهم» الدين، وإن من بين الأخطاء الشائعة في فهم الدين عدمَ فصل وتفكيك الدين عن ظرفه. وإن هذا الخطأ إنما يحصل بسبب الغفلة عن هذه المعايير وتجاهلها في مقام فهم وتفسير النصوص الدينية.
إن مواءمة ذات «الدين» مع هذه المعايير هو من مسؤولية الله تعالى، إلاّ أن مواءمة «المعرفة الدينية» مع هذه المعايير هي من مسؤولية الإنسان الذي يروم فهم الدين بشكلٍ صحيح، وأن يعمل على تطبيقه بشكلٍ صحيح. وحيث إن الله قد جعل دينه منسجماً مع هذه المعايير علينا أن نعمل على مواءمة فهمنا للنصوص الدينية على أساس هذه المعايير أيضاً. وهذا أمرٌ يجب القيام به على نحوٍ «لاحق». فليس هناك من دليلٍ يضمن انسجام «المعرفة الدينية» مع هذه المعايير بشكلٍ «سابق»؛ إذ نعلم بشكلٍ «سابق» أن «الدين» في عالم التشريع لا يعمل على نقض هذه المعايير، ولكنْ كما رأينا سابقاً في محلّه قد يتمّ نقض هذه المعايير في مقام بيان الدين، وفي مقام إثباته أيضاً. وعليه فإن مواءمة «المعرفة الدينية» وجعلها منسجمة مع هذه المعايير ملقاةٌ على عاتقنا نحن البشر، ويجب أن نتولّى ذلك بأنفسنا.
فعلى سبيل المثال: نحن نعلم أن أحكام الله تعالى ليست ظالمةً، إلاّ أن علمنا هذا لا يستوجب أن لا يكون فهمنا للنصوص الدينية ظالماً؛ فقد نخطئ في استنباطنا للحكم من النصوص الدينية فنخرج منها بحكمٍ ظالم، وننسب ذلك الحكم إلى الله. وللحيلولة دون الوقوع في هذا الخطأ يجب علينا أن نقيِّم فهمنا للنصوص الدينية بمعيار العدالة. وإن الحكم الذي كان يُعَدّ عادلاً في صدر الإسلام والعالم القديم قد لا يُعَدّ عادلاً في جميع العوالم بالضرورة. وإن علم الله تعالى بالغَيْب لا يستطيع تحويل «العدل التاريخي» إلى عدل «ما فوق تاريخي». إن تشريع الدين من مهامّ الله، وإن ساحته المقدَّسة منزَّهة عن الخطأ، إلاّ أن فهم الدين من مهامّ البشر الذي يجوز عليه الخطأ، والذي يحتاج إلى المعايير اللاحقة لتصحيح أخطائه المعرفية.
الأمر الرابع: إن عدم انسجام القراءة التقليدية للدين مع العالم الحديث يعود بشكلٍ رئيس إلى عدم انسجام هذه القراءة مع هذه المعايير.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([5]) لقد تمّ التأكيد على التفكيك والفصل بين الظرف والمظروف وضرورة الترجمة الثقافية للنصوص الدينية من قِبَل الكثير من المجدّدين في الفكر الديني، رغم أنهم يختلفون أحياناً في التعبير عن هذا الأمور. فقد تحدّث الدكتور علي شريعتي بهذه التعابير في الكثير من مؤلَّفاته، وفي بعض الموارد بهذا الشأن. وللأسف الشديد لا يحضرني حالياً شيءٌ من مؤلفاته؛ كي أحيل القارئ الكريم إلى مورد خاصّ منها. وانظر أيضاً: (سروش، «ذاتي وعرضي در أديان»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 29 ـ 82؛ سروش، «دين أقلي وأكثري»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 83 ـ 112؛ ملكيان، معنويت گوهر أديان (1)، وذلك في: سنّت وسكولاريسم: 285 ـ 286، طهران، مؤسسة فرهنگي صراط؛ گلشن راز؛ كديور، أز إسلام تاريخي به إسلام معنوي، وذلك في: سنّت وسكولاريسم: 405 ـ 431، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط). ومن الجدير بالذكر أن التعريف الذي يقدّمه الدكتور سروش عن «الذاتي» و«العرضي» في الأديان يختلف عمّا نسمّيه بـ «الظرف» و«المظروف». وقد عمد سماحته إلى تقسيم العرضيات إلى ثمانية أقسام، وجعل الفقه والشرائع الدينية من بين عرضيات الأديان. يرى الدكتور سروش أن «ضابطة الأمر العرضي تكمن في أنه كان بالإمكان أن تكون بشكل آخر» (سروش، «ذاتي وعرضي در أديان»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 31). ولكنّي أرى أن الفقه والشرائع الدينية، سواء اعتبرناها عرضية بهذا المعنى أم لا، فإنّ هذا التقسيم يمكن استعماله داخل إطار الفقه والشريعة نفسها أيضاً، وتقسيم أحكام الشرع إلى الذاتي والعرضي بمعنى أنه يمكن لنا أن ندعي بأن العرضي ذو مراتب ودرجات، بمعنى أن العرضيات في ذات الوقت الذي تكون من العرضيات لا تكون في مرتبةٍ واحدة. ومضافاً إلى ذلك فإن الدكتور سروش أشار في هامشٍ من هوامشه على مقال «الذاتي والعرضي في الأديان» إلى ذاتيات الأديان، واعتبر «حفظ الدين والعقل والنسل والأموال والأرواح» واحداً من ذاتيات الدين، بوصفها من «أهمّ مقاصد الشارع في الحياة الدنيوية». وأما لو اعتبرنا هذه الأمور من ذاتيات الدين فلا بُدَّ من القول بأن «وجوب» حفظ الدين والعقل والنسل والأموال والأرواح من ذاتيات الفقه والشريعة، وإن هذا الحكم لم يكن بالإمكان أن يكون بشكلٍ آخر. رغم أن طريقة وأسلوب حفظ الدين والعقل والنسل والأموال والأرواح من العرضيات، وأنها قد تختلف من ثقافةٍ إلى أخرى ومن عالم إلى عالم آخر.
([7]) إن القضايا التي تعبِّر عن الحكم الشرعي يتم تبويبها دائماً على هيئة «إذا (أ)، ثمّ (ب)» (القضية الحقيقية). وفي مثل هذه الحالة إذا كان الحكم الشرعي أبدياً فإن الشيء الأبدي يمثِّل ارتباطاً بين (أ) و(ب)، لا وجود (أ) ولا وجود (ب) عند عدم وجود (أ). ولذلك فإن النـزاع بشأن وجود وعدم (أ) ليس نزاعاً دينياً، بل هو نزاع عُرفي أو غير ديني أو ما فوق ديني. يقول الأصوليون في الدين: علينا المحافظة على (أ) أو أن نسعى إلى إيجاده مهما كلَّف الأمر؛ كي نتمكَّن من إجراء حكم (ب) في مورده.
([8]) إن تعريف الاجتهاد بالترجمة الثقافية من تعاليم الدكتور سروش. انظر في هذا الشأن: سروش، «ذاتي وعرضي در أديان»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 78. ومن الجدير بالذكر أن الدكتور سروش يقترح الترجمة الثقافية بوصفها منهجاً وأسلوباً للتفكيك بين الذاتي والعرضي في الأديان، إلاّ أن مرادنا هنا من الفصل بين الذاتي والعرضي في خصوص الشريعة أو الفقه.
([9]) إن الامتناع عن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية سوف ينتهي إلى انتعاش العلمانية المتطرّفة. من الزاوية الدينية يمكن تقسيم العلمانية إلى نوعين: «معتدل»؛ و«متطرّف». إن العلمانية لا تنحصر بفصل الدين عن السياسة، أو إفراغ الدين من السياسة، أو إفراغ السياسة من الدين. إن العلمانية المتطرّفة تعني إفراغ وتفريغ حياة الإنسان من الدين، ومنع أو صدّ الدين عن الحضور الحيّ والمؤثِّر والحيوي في ساحة الحياة الفردية والجماعية للناس. إن العلمانية بهذا المعنى، قبل أن تكون نتاج مؤامرات الحاقدين والمنحرفين فكرياً، هي نتاجُ سوء فهم المتديِّنين، وثمرة جمودهم وإصرارهم على المحافظة على القوالب الثقافية المنسوخة، ومن تداعيات تقديم الدين في ظروف قديمة منتهية الصلاحية. وهذا بطبيعة الحال هو النوع المتطرِّف من العلمانية. كما تعني العلمانية استقلال ما ليس جزءاً من الدين، ولكن تمّ تصوُّره في برهة من التاريخ خطأً بوصفه جزءاً من الدين أيضاً. إن العلمانية بهذا المعنى عبارة عن رفع التقديس عن الأمور التي هي في حدّ ذاتها غير مقدّسة والتي اعتبرت مقدّسة عن طريق الخطأ.
([10]) ربما أمكن تقييم مؤلَّفات من قبيل: «الشاهنامه»، للشاعر الملحمي الفارسي أبو القاسم الفردوسي، في هذا الإطار. فقد كانت الشاهنامه دفاعاً عن الثقافة الإيرانية في مواجهة الثقافة العربية التي تمّ فرضها على إيران باسم الإسلام… يجب فصل الثقافة الإسلامية عن الثقافة العربية والإيرانية والتركية والهندية وغيرها، ويجب عدم تسرية قداسة الثقافة الإسلامية ـ التي تمثِّل قيمة وتقدّس ذات الإسلام ـ إلى الثقافة العربية التي شكّلت الظرف الأوّلي للإسلام. وبطبيعة الحال لا خصوصية للثقافة العربية في البين، بمعنى أن القرآن لو كان قد نزل باللغة الفارسية لصدق عليها ذات الحكم بشأن نسبة الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية إلى الثقافة الفارسية أيضاً.
([11]) يمكن القول: إن هذا هو المعنى الصحيح لنـزول القرآن والوحي؛ فإن نزول القرآن لا يعني نزوله من مكانٍ إلى مكان آخر، وإنما يعني نزوله من سماء المعنى إلى أرض اللغة والثقافة وامتزاجه بالثقافة والذهنية البشرية. قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا…﴾ (الرعد: 17).
([13]) أرى أن المعنى الصحيح لـ «اختصاص الخطاب بالمشافهين» هو هذا المعنى. لنفترض أن شخصاً يُرسل في مهمّة تتلخص في تعريف الحضارة الجديدة لأفراد قبيلة تعيش في منطقةٍ مجهولة في واحدة من الغابات التي لم تسمع ولم تعلم بوجود حضارة وعلم وثقافة خارج حدود غابتهم. كيف يمكن لهذا الشخص أن يتحدَّث إلى أفراد هذه القبيلة بشأن العالم الجديد والعلم والتكنولوجيا والحضارة، دون أن يربط كلامه بلغتهم وثقافتهم، وصبّ كلامه في قالب المفاهيم التي يتعامل بها أفراد تلك القبيلة في حياتهم اليومية؟ فهل يمكن لهؤلاء أن يستوعبوا كلامه دون هذه العملية؟ لنفترض الآن أن تعليمات ذلك الشخص قد تمّ تدوينها في كتاب، ثم تمّ اكتشافُه من قِبَل أناسٍ بعد عدّة قرون، وكان هؤلاء الناس من الناحية العقلانية والثقافية أكثر ذكاء وعقلاً من المخاطَبين الأوائل بهذا الكتاب، وكانوا في المجموع يعيشون في عالمٍ جديد يختلف عن عالم المخاطَبين الأوائل بمئات المرّات. لا مندوحة لهذه الجماعة من العمل على ترجمة هذا الكتاب الذي تركه ذلك الشخص ترجمةً ثقافية، وأن يأخذوا في ترجمتهم بنظر الاعتبار القيود التي كان يفرضها المخاطَبون الأوائل على ذهن ولغة ذلك الشخص. وهذا هو حال الأنبياء ورسالاتهم.
([14]) ورد في نهج البلاغة كلام عن الإمام عليّ× تحدّث فيه عن أحداث المستقبل قائلاً: «وَلُبِسَ الإِسْلامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً». نهج البلاغة، الخطبة رقم 108.
([15]) لا نعني بنجاعة الدين جدوائيته في حلّ وفصل المعضلات والمشاكل الدنيوية، وإنما المراد من ذلك جدوائيّته في تلبية الحاجات الدينية لأتباعه.
([16]) وقد أنكر القرآن الكريم هذا المنطق وانتقده بشدّة. انظر في هذا الشأن: المائدة: 104؛ الأعراف: 28؛ يونس: 78؛ الأنبياء: 53؛ الشعراء: 74 ـ 77؛ لقمان: 21؛ الزخرف: 22 ـ 25.
([17]) استعرت هذا الفصل والتفكيك والعبارات الحاكية عنها من سماحة الأستاذ القدير السيد مصطفى ملكيان. انظر في هذا الشأن: ملكيان، معنويت گوهر أديان (1)، وذلك في: سنّت وسكولاريسم: 306 ـ 276، طهران، مؤسسة فرهنگي صراط.
([18]) وكما سبق أن ذكرنا فإن ردم الهوّة بين الأصالة والحداثة لا يكون إلاّ من خلال نقد وإصلاح العقلانية لهذين الأمرين بشكلٍ متزامن.