د. قاسم جوادي صفري(*)
مقدّمة
تشاركت دعوة الرسل والأنبياء محورية التوحيد والأخلاق، وتلازمت الدعوة إلى التوحيد مع الدعوة إلى الأخلاق. وكما بدأ النبيّ الأكرم| رسالته بالدعوة إلى التوحيد، حين قال للناس: «قولوا: لا إله إلاّ الله تفلحوا»([1])، أردفها بدعوتهم إلى الأخلاق حين أخبرهم| أنه «إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»([2]). لذا فالأخلاق هي أكثر الأمور ضرورةً بعد التوحيد. وبلحاظٍ ديني دقيق كلّ شيء في الدين هو التوحيد، والتوحيد الحقيقة لا يفترق عن الأخلاق.
وإذا لم يتحلَّ الفرد بالأخلاق فهذا يُعَدّ مؤشّراً على أنه لم يستوعب مفهوم ومعنى التوحيد، ولم يمارس التوحيد بكلياته وجزئياته.
النتيجة أن ميراث الأنبياء في الجملة: التوحيد والأخلاق. ولا تتحقّق صحّة ادعاء الاقتداء والاتباع للأنبياء ما لم يتوحد عنصرا التوحيد والأخلاق في شخصية المدّعي وفي سلوكياته.
جميع المذاهب والفرق الإسلامية التي ترى نفسها حاملةً لمشعل الأديان ورسالة الأنبياء متفقةٌ على ضرورية عنصري التوحيد والأخلاق. وبطبيعة الحال يهمّنا في هذا المقال الفرق والمذاهب الإسلامية، التي رغم اختلاف وجهات النظر وتنوّع مباني الاجتهاد تبقى متفقة على عنصر الدين الواحد، ومؤمنة بالقرآن والأحاديث النبوية مرجعاً وحجّة. وبالطبع المصدران (القرآن والحديث) كافيان في تحقق التوحيد والأخلاق.
لقد قضيتُ عمراً في المطالعة والتدريس في مؤسسة المذاهب الإسلامية ـ أعمّ من المذاهب الفقهية، الفرق الكلامية، وتوجّهات العرفان والتصوّف ـ، لكنْ ما يؤسف له بشدّة من خلال ما تتبّعتُه في هذه الدراسات هو عدم مراعاة الأخلاق الإسلامية وتجاوز سقفها بين المذاهب بعضهم بعضاً، وفي مقابل بعضهم بعضاً.
ابتداءً نذكر النقاط الكلية حول أصل مبحث الأخلاق، وننتقل بعدها إلى تحديد المباحث الأخلاقية المفترض الالتزام بها في عملية نقد المذاهب، والتي كان تجاوزها سبباً لما أصبح عليه حال الأمة والفرق الإسلامية من الاختلاف والتنافر طوال هذه القرون.
النقاط الكلية
لا يمكن تصوّر تغيير وإصلاح هذا العالم من دون مشاركة ومساعدة رجال وعلماء الدين، ولا يمكن لأتباع الدين أن يقوموا بالرسالة على وجهها الصحيح إذا لم يكونوا أنفسهم متخلِّقين بأخلاقها، ففي غياب الأخلاق كيف سيتسنّى لهم إصلاح المجتمع؟!
من الأمور الأساسية في مجال تربية المجتمعات المؤمنة أن هذه المجتمعات تحتاج فعلاً أن ترى تجسُّد هذه الأخلاق في زعمائها وعلمائها، وتحلّيهم بها في كلّ حركاتهم وسكناتهم؛ إذ كيف يمكن لأمة ترى علماءها وزعماءها عديمي الأخلاق، لا يتورعون عن ممارسة الكذب، الغيبة، التّهمة، الشتم والسبّ واللعن والطعن في المذاهب الأخرى، أن ترقى إلى مستوى ومقام المجتمعات السليمة والصالحة؟! بل كيف نرجو سلامة العالم بدون سلامة وصلاح المجتمعات المؤمنة؟!
للأسف ليس فقط زعماء وعلماء المذاهب مَنْ يعانون من انعدام الأخلاق في نقد بعضهم البعض، بل يلاحظ تحطّم شرف الأخلاق واستعمال العنف الكلامي بكلّ أشكاله بين أفراد المذهب والفرقة الواحدة، نظير: أن يكون عالمان شيعيان، وعند الاختلاف في بعض المسائل يعمد أحدهما للتشنيع على الآخر كأن يخاطبه «بالأمويّ» أو ما شاكل ذلك([3]). وحين يكون أسلوب التعامل عند الاختلاف بين هذين العالمين بهذا الشكل، وهما من نفس التوجه العقائدي والفكري، فكيف سيكون حال مَنْ يقتدي ويقلِّدهما من عوامّ الناس، وكما قال الشاعر:
إذا كان ربُّ البيت بالدفّ ضارباً *** فشيمة أهل البيت الرقصُ والطربُ
من الطبيعي أننا في هذا المقال لسنا بصدد إجراء تحقيق علميّ لنصل في نهايته إلى عرض نظرية علمية؛ لأن المشكلة تكمن في عدم وجود نظريات جامعة تفتح البحث على نفس مستوى البحث العلمي. المشكل الذي يناقشه الموضوع هو قضية واضحة المفاهيم، قد تكون لها طبيعة عالمية تمّ التغافل عنها أو إغفالها، أو لعل الإحساس بالمسؤولية الدينية تجاه الدين والمذهب أغرى هؤلاء الأفراد باعتبار أيّ عملٍ مخالف للدين إذا كان في حقّ الآخرين جائزاً ومقبولاً. البيان النوراني في الآية: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الذاريات: 55) يمكّننا من إثبات ما ذهبنا إليه، حيث يوضح أن المشكل في هذا الجانب يحتاج إلى التذكير، وليس إلى التحقيق والبحث العلمي.
يكاد لا يخلو أيّ مذهب من التصنيفات غير الصحيحة للمذاهب الأخرى وفق معايير ومقاييس غير عادلة. هذه التصنيفات متوفّرة بكثرة في نطاق المذاهب الكلامية (مثلاً: هذا جبري، وذاك مفوضي؛ هذا مجسمي، والآخر مشبهة؛ ذاك ناصبي، وهذا غلاة؛ الآخر من أعداء أهل البيت^، والآخر معادٍ للصحابة؛ فلان إباحي، وفلان الآخر متحجِّر، وغيرها من المقاييس) وكذلك نراها في نطاق المناقشات والمناظرات والمذاهب الفقهية، لكنْ يبدو أن هذه التصنيفات والمقاييس توجّهت سهامها إلى العرفان والتصوّف أكثر من الاتجاهات الأخرى، ومن المؤكّد أن البحث في أسباب هذه الظاهرة يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ.
نعم، تحقيقنا حول أخلاق نقد المذاهب ليس سابقة في حدّ ذاته، نظراً لحجم الكتب التي كتبت فيه والأبحاث التي تناولته؛ لكنّ التوصل إلى وضع أخلاقي أمامه شوطٌ بعيد.
الحقّ سبحانه وتعالى في باب خلق الإنسان ذكر لنا ما جرى بينه وبين ملائكته. قد يكون الاهتمام بهذه الحادثة لاستخلاص وضع أخلاقي ليس سوى طموح أو تطلع، لكنّ هذا لا يمنع من أن يبذل كلّ واحد حسب وظيفته مجهوداً في هذا الباب. يقال: إن الماضي هو المصباح الذي ينير طريق المستقبل. ومن الممكن أن يشعر الإنسان بالإحباط في طريق وصوله إلى الهدف، لكن لا يجب التراجع عن خوض غمار البحث والتحقيق؛ من أجل الوصول إلى هذا الهدف أو الاقتراب منه.
كاتب هذا المقال لا ينطلق من الاعتقاد بالتعدُّدية والكثرة الدينية، بل ربما لا يكون من منطلق الاعتقاد بالتقريب بين المذاهب بالشكل الذي هو عليه، لكنْ في المقابل نفي هذه الموارد لا يعني بأيّ شكلٍ فتح المجال أمام التجاوزات والتهمة والافتراء على المذاهب أو بين بعضها البعض. وحَسَب نظر الكاتب الكذبُ هو فعلٌ حرام، وتشتدّ حرمته خصوصاً إذا تعلق بجمعٍ من الأفراد، وهذا يدفعنا إلى التساؤل كيف يجوز نسبة موضوع من المواضيع لفرقة أو لمذهب من دون الاطلاع الكافي والتامّ على جميع خصوصيات هذه الفرقة أو ذاك المذهب؟
بعد التذكير بهذه الملاحظات الكلية، ننتقل إلى عرض بحثنا في الأخلاق المفترض بل الواجب التحلّي بها في انتقاد ومناقشة المذاهب بعضها بعضاً، وهو الموضوع الأصل في هذا البحث.
لكنْ قبل ذلك لا بُدَّ من عرضٍ لأهمّ المباحث الكلية والعامة في مبحث الأخلاق. مجال ونطاق هذا النوع من الأخلاق يختصّ بتعامل الإنسان مع بعضه البعض، أعمّ من أن يكون في مجال المباحثات الدينية والمذهبية أو خارج حدودها. ونشير ضرورةً إلى عدم الاستهانة بالمباحث التربوية في هذا الصدد. فالإنسان الفرد عليه أن يتعلّم كيف يتعامل مع الآخر تعاملاً إنسانياً. وبالإضافة إلى التعلّم هو في أمسّ الحاجة إلى القدوة والأسوة الحسنة الممارسة فعلياً لمجموع هذه الأخلاق. وقد عرّف القرآن الكريم هذه القدوة والأسوة في رسول الله|، وذلك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21).
إن ادّعاء اتباع النبي الأكرم| لا يُصدَّق إلاّ من خلال الاقتداء به علماً وعملاً، وهذا يتطلب معرفته| حقّ المعرفة التي تقتضي المطابقة بين أفعال وأخلاق الفرد المؤمن لأخلاق النبي | وأفعاله.
يلاحظ أن بيانات وإرشادات الأئمة تحتوى العديد من العبارات التي يعدّ مفادها ومضمونها عالمياً، وقد يوجد لها نظيرٌ في الأديان الأخرى ولكنْ بشكل مختلف. ما يهمنا في تلك الإرشادات والعبارات أنها يمكن أن تتخذ ملاكاً ومعياراً في تنظيم جزء كبير من سلوك الإنسان، بل الكثير منها يؤسّس قواعد ذهبية في الأخلاق.
قال الإمام عليّ×، في خطابه لابنه الإمام الحسن×: «يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك؛ فأحْبِبْ لغيرك ما تحبّ لنفسك»([4]).
في نظري المتواضع لو اعتمدت هذه العبارة في مباحث الأخلاق لكانت كافية في إغنائه على مستوى البُعْد النظري، ولكانت بالفعل كافية في إصلاح الكثير من السلوكيات اللاأخلاقية عند المسلمين. فحين تكون نفس الإنسان ميزاناً في تحديد كيفية التعامل مع الآخر، حيث لا يقوم بسلوكٍ ولا بفعلٍ تجاه الآخر أو في مقابل الآخر إلاّ بعد أن يعرضه على نفسه، هل يحبه لنفسه أو لا يحبه لنفسه؟ فإذا وجده غير محبوب لديه في حقّ نفسه لم يقُمْ به تجاه الآخر. كمثال: نفرض أن شخصاً في أحد المجالات يحب أن يولي الآخرُ أهمّية واحتراماً لجميع جوانب مذهبه أو اتجاهه أو نحلته، من هنا لا بُدَّ في دراسته أو نظرته أن يتّسم بهذه الأخلاق في دراسته أو نظرته لبضاعة الآخر أو لأفكاره وتوجّهه. إن الإنصاف في ساحة أتباع المذاهب أن يصفوا ما عند الآخر من دون زيادة أو نقصان، وأن يظهروا مسيرة المقدّمات التي طواها هذا المذهب أو ذاك في طريق تكامله التاريخي والفكري و… ثم إن الإنصاف لا يفرض عليك القبول بكلّ ما عند الآخر، قد تقبل بجزءٍ لتكامل مقدّماته بحَسَب مبناك ومعتقدك، ولا تقبل بجزءٍ آخر، الإنصاف يفرض عليك أن تقول كلمة الحقّ في الآخر وإنْ لم تقبل بنظرياته.
يؤكّد القرآن الكريم على ضرورة الإنصاف والعدل، وهذا حدٌّ آخر في وجه المعاداة والعداء. قال تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: 8)، وقال تعالى في موضعٍ آخر: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المائدة: 2).
نفترض أن بين الفرق والمذاهب عداوة، رغم أن هذه الفرق والمذاهب مشتركة في الكثير من النقاط، وحتّى هذه العداوة مبدئياً ليس لها دليلٌ تستند إليه، اللهم إلا أن يكون حالهم كما قال مولانا ـ وترجمتُه ـ: على الوهم صلحهم وحربهم، ومن الوهم افتخارهم وخزيهم([5]).
الآن وقد وجدت الخصومة والعداوة بين تلك الفرق لعللٍ وأسباب، حيث لا يمكن العودة إلى الطبيعي، فالمفترض التزاماً بالمنهج القرآني أن تضبط هذه العداوة بالضوابط القرآنية، بحيث لا تصبح ناراً تأتي على الأخضر واليابس. فالعداوة لا يجب أن تكون موجباً لنفي العدالة، ولا أن تكون مسوّغاً للتعدي والتجاوز. فالقرآن يقول: إذا تجاوزوا عليكم ومنعوكم من دخول المسجد الحرام فهذا لا يكون موجباً لأن تتصرفوا في حقهم بما تريد أهواؤكم، أو أن تعاملوهم وفق ما يطفئ نار القوة الغضبية، فلا بُدَّ من مراعاة العدالة والإنصاف.
هذه التوصيات القرآنية كانت في مقابل المشركين. ولنفرض أن بعض الفرق الإسلامية بلغت حدّ الشرك فإن منطق القرآن يفرض ممارسة العدالة في التعامل مع هذه الفرق؛ وإذا كان هذا منطق القرآن مع المشركين والكفار فالأَوْلى أن تمارس الفرق والمذاهب العدالة وتراعي الإنصاف فيما بينها؛ لأن لا أحد من الفرق قد بلغ مبلغ الكفر والشرك.
وقد سجّل التاريخ أن الإمام عليّ× بعد الضربة التي استشهد إثرها ظلّ يوصي أبناءه بأن لا تتلطخ أيديهم بدم المسلمين؛ انتقاماً له، وأن لا يكون قتله مسوّغاً لأن يعمدوا لاعتقال فرقة أو مجموعة ومن ثمّ يقتلونها؛ عقاباً وانتقاماً له، بحيث يكون في الأمر توطئة ودسيسة، وأمرهم أن لا يقتصوا إلاّ من القاتل، كما أمر ابنه الحسن بأنه إذا استشهد في هذه الضربة أن يعمد إلى ابن ملجم وأن يضرب عنقه ضربةً واحدة([6]).
نعم، طرح ملف المذاهب والمباحث العلمية على نفس مستوى ما ذكرناه ليس صحيحاً. والكاتب إنما طرح ذلك من باب بيان النظرة الحاكمة في الإسلام في مقابل أعداء الإسلام والمخالفين له، ولا يمكن إفساح المجال لأهواء النفس في تحديد كيفية التعامل مع المخالف، بل لا بُدَّ من مراعاة الآداب الواردة في هذا المجال. علماً أن مثل هذه المعاملات تحكمها مجموعة من الأخلاقيات والآداب، سواء على المستوى العُرْفي أو القانوني أو الديني.
وكما هو ظاهرٌ فإن بحثنا لغاية هذه النقطة يجري تحت عنوان العدل ومراعاة العدالة، بحيث يتعامل الفرد منا مع الآخر على نفس المستوى الذي يحب أن يُعامَل به. لكن الأخلاق في القرآن لا تقف عند هذا المستوى من المعاملة، بل ترتقي إلى مستوى أعلى، حين يقول الحق تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ (فصّلت: 96).
وإنه لمن دواعي الأسف أن لا يسفر الواقع في تاريخ الإسلام عن مصاديق لهذه الآية، إلا حالات معدودة، بالكاد تُعَدّ على رؤوس الأصابع، حيث لم يستطِعْ المسلمون ـ باستثناء النبيّ الأكرم| وأهل البيت^ ـ العمل بهذه الآية والتخلُّق بها. ففي الوقت الذي تشدِّد الآية على الحسنى في التعامل مع العدو، بحيث يتغيَّر سلوكه وعداوته ليصبح وليّاً حميماً، نجد المسلمين قد فشلوا في الحدّ الأدنى على حفظ مودة وحميمية العديد من الموالين، فقد حملوهم؛ بسوء المعاملة وقبح الأخلاق، أن أصبحوا في خطّ المواجهة وصفّ الأعداء. فكم من مجموعةٍ بعد أن كانت موالية وصديقة أصبحت مخالفة وعدوة؟! ولم يسجِّل التاريخ في غير مَنْ ذكرنا أن انتقلت مجموعة من عدوة إلى صديقة. وكم من الاختلافات البسيطة أصبحت وقوداً للفتنة ولنارٍ حارقة أتت على الأخضر واليابس، وكانت عنصراً للتطاحن عبر التاريخ، وكان بالمقدور تحويلها إلى عنصر التسامح والمصالحة؟!
مسألة أخرى لا بُدَّ من التوجه إليها بإمعانٍ، هل يمكن في الحرب على الباطل التمسك بالباطل واستعمال الباطل؟ هل يجوز لنا إذا استعمل الآخر الباطل في مواجهتنا أن نردّ عليه بالباطل في مواجهته، وفي الدفاع عن النفس؟
إن الباطل باطلٌ والحقّ حقٌّ، من أيّ جهة صدر. والقرآن واضحٌ في هذا المسار. فحين تمسك أهل الكتاب بالباطل أمر القرآن باستعمال الحقّ في مجادلتهم، أو ما عبَّر عنه بالجدال بالتي هي أحسن: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (العنكبوت: 16)، ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
لقد بيَّن الإمام الصادق× مصاديق الجدال بغير الأحسن أو بغير الحسنى، فكلّ جدالٍ وجدْتَ نفسك فيه غير قادر على تشخيص مواطن الحقّ عن مواطن الباطل، أو تدفعك الرغبة في ردّ الباطل مرغماً على استعمال الباطل، أو الاستعانة بالباطل، أو أن تنكر في الحدّ الأدنى حقانية الحق([7])، فهذا الجدال حرامٌ؛ لأن المجادل ينكر فيه الحقّ، ويدفعك أن تنكر أنت كذلك الحقّ من جانبك. لذلك فإن القرآن يأمر باستعمال التي هي أحسن في مجادلة أهل المذاهب، أي أن يكون إبراز الحقّ وتثبيته هو الهدف من مجادلتهم، وأن لا يكون للباطل مجالٌ في إثبات الحقّ والحقانية، سواء في استعماله أو الرضا به أو السكوت عنه.
أخلاق في نقد المذاهب
من النكات الأخلاقية المبدئية في عملية النقد للمذاهب عدم الانطلاق من الظنّ، فقد أمر الله بعدم العمل بالظنّ، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36)، وقال أيضاً: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم: 28)، وقال أيضاً: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ (الحجرات: 12).
هذه الآيات صريحةٌ في النهي عن عقد أيّ خطوةٍ لم تكن ناتجةً عن علم؛ وتؤكد على أن الظن والشبهة لا يغنيان عن الحقّ شيئاً، بل إن مجموعة من الظنون والشبهات تُعَدّ معصيةً وذنباً. والله سبحانه وتعالى في مجموعة من الآيات بيَّن أن المشكل الأساس وراء انحراف المنحرفين اعتقادهم في الظنّ والظنون، قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ﴾ (يونس: 66)، وقال أيضاً: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً﴾ (يونس: 36)، وقال أيضاً: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ (النساء: 157). وللأسف فإن إتباع الظنّ والاعتقاد بالشبهات الشائعة بضاعةٌ رائجة في نقد المذاهب لبعضها، وميزان يكيل به بعضهم لبعض.
يؤكِّد القرآن على تحصيل اليقين، لذلك في نقد المذاهب لا بُدَّ أن يكون هذا بديهياً. فأول خطوة في نقد المذهب تحصيل اليقين في وجود أمر من الأمور، والتحقّق من ثبوتها واقعاً، وفي ارتباطها بالفعل بهذا المذهب، وليست مجرد ظنّ أو شبهة. ولا يُعَدّ سماع ما يُحكى ويُقال أو قراءة ما يُكتب طريقاً تامّاً في الإثبات، وخصوصاً أنه قد يوجد الكثير من الكذب والوضع والبهتان في العديد من الكتب، وحتّى الشخصيات التاريخية الكبيرة والعظيمة الشأن لم تسلم منها.
تحصيل العلم واليقين بوجود الشيء في نقد المذاهب لا يعني ضرورة وجوده في كل أبعاد البحث؛ لأنه ربما يكون الحق في زاوية والظنّ في زاوية أخرى، لذلك لا بُدَّ أوّلاً من تشخيص موضوع البحث الذي تريد نقده في المذهب، من أين يبتدئ؟ وإلى أين ينتهي؟ ما هي حدوده وحيثياته؟ أيّ النظريات ستنتقد؟ وأيّ الشخصيات معنية في هذا البحث؟ وما هو المصدر الذي سينكب عليه النقد؟ لأن وجود مسألة في أحد زوايا أحد المصادر لا يُعَدّ مجوّزاً لتعميمها على كلّ المذهب في شخصياته ونظرياته ومصادره؛ فصرف وجود مسألة في أحد الكتب لا يمكن أن يكون مسوّغاً لتعميم هذه المسألة على كل المذهب أو الفرقة، والادّعاء أنك قرأتها في كتبهم، وأنها ثابتةٌ في حقهم، فلربما يكون العديد من أتباع هذه الفرقة أو هذا المذهب رافضين ومنكرين لها. للمثال: ما يُشاع من أن الصوفية ليسوا أهل عبادة، وذلك لأنه عثر في السفر الفلاني يقول مصنّفه: أنا الشخص الفلاني صوفيّ، ولا أقوم بفريضة الصلاة ـ على سبيل المثال ـ، السؤال هنا: هل من الإنصاف العلمي أن يكون صدور مثل هذا الكلام من هذا الشخص الفلاني مدعاةً لتعميم هذا الوصف على جميع الصوفية والمتصوّفة؟ والأمثلة في الواقع كثيرة، فكثيراً ما نرى أشخاصاً من العلويين أو الإسماعليين أو السلفيين أو الشيعة أو المعتزلة، أو نقرأ في كتابٍ لشيعي أو أشعري أو ماتردي أو كرامي أو قادري أو من فرق أخرى، أو نجد موضوعاً في أحد كتب الفخر الرازي أو القاضي عبد الجبّار أو السيد المرتضى أو النسفي أو أبي الحاتم الرازي أو ابن المرتضى، فهل هذا يُعَدّ معياراً وملاكاً في صدور الحكم في حقّ كل الفرقة وكلّ المذهب؟ فليس هنا أيّ مجوز علميّ يسمح لنا بالانطلاق من مجرد رؤية شخص أو قراءة مسألة أو وجود موضوع في أحد الكتب لنعمّمه على كل الفرقة. والإنصاف أن يقال: وجدتُ في كتاب «الذخيرة»، للسيد المرتضى، أو قرأتُ في كتاب «المباحث المشرقية» للفخر الرازي، أو في كتاب «العقائد» للنسفي، أو ضمن كتاب «خوان الإخوان» لناصر خسرو، أو في كتاب «القسطاس المستقيم» للغزالي، المبحث الكذائي.
تعميم فكرة أو مطلب من المطالب على جميع الفرقة ونسبته لها لا يكون إلاّ في حالتين:
الحالة الأولى: إحراز كون الكتاب الفلاني من الكتب المقبولة عند هذه الفرقة أو هذا المذهب بامتيازٍ. بعد ذلك نتبين من وجود المطلب الفلاني فعلاً في هذا الكتاب، بعد ذلك يصبح لنا الحقّ في القول: إن هذا المطلب وجد في الكتاب الفلاني، والذي هو محلّ قبول الفرقة، لكنّ هل هذا يُعَدّ كافياً في نسبة المطلب للفرقة وأن الفرقة تقبل به؟ هذا الحكم يحتاج إلى عملٍ آخر مستقلّ؛ لأنه من الممكن أن يكون الكتاب مورد قبول الفرقة واعتمادها، لكنْ قد يكون هذا المطلب بعينه غير مقبول للفرقة، أو أن لها فيه قولاً أو نظراً. مثلاً: كتاب «الكافي» للشيخ الكليني، فما هو المعروف أن الشيعة تقبل بالكتاب، وهو أحد مصادرها في الحديث، لكنْ هل قبولها له يعني أن كل علماء الشيعة يقبلون بكلّ ما جاء فيه حديثاً حديثاً ورواية رواية؟! الواقع يثبت أن هناك جمعاً من علماء الفرقة يردّون بعض أحاديثه ويقبلون ببعضها، فليس كل ما فيه قد صدر فعلاً عن النبي الأكرم| وليس كلّ ما ورد فيه قد صدر عن القرآن وعن الأئمة^. إذن صرف قبول الكتاب لدى علماء المذهب لا يعني قبول كلّ ما فيه. وقد يكون كتابٌ من الكتب مقبولاً لدى فرقة من الفرق، لكن تكون فيه مطالب لها تأويلات أخرى غير التي ذكرها نفس صاحب الكتاب، وتكون هي المقصودة بالذات، وليس نفس ما في الكتاب. لهذا الواجب أن تذكر هذه التأويلات والتفسيرات حين ذكر المطلب نفسه، حتى يتضح أن الفرقة وإنْ كانت تقبل بهذا المطلب في هذا الكتاب، لكنْ على نحوٍ مختلف أو مغاير لما جاء في الكتاب، أو أن لها تعديلات عليه.
هناك الكثير من الروايات في بعض الكتب تتعارض والقول بعصمة النبيّ الأكرم|، أو لا تنسجم والقول بعلم الإمام، أو لا تساوق تنزيه الحقّ تعالى عن بعض الأفعال أو الصفات، في مثل هذه الحال لا بُدَّ من الرجوع إلى الشروحات التي كتبت في المذهب لهذا الكتاب، حيث سيلاحظ أن هذه الشروح قد تعرضت لهذه الأمور بالتوضيح والتنقيح وغيرها، وعدم الرجوع لهذه الشروحات يُعَدّ مانعاً من نسبة تلك الأمور إلى المذهب.
الحالة الثانية: إنه لغرض إظهار النظر وبيان الرأي في أحد المذاهب لا بُدَّ من تتبُّع جميع ما كتب من الكتب والمقالات و… في هذا المذهب في ما يراد نسبته إليها، وهو عملٌ شاقّ ومكلف جداً، لذلك نادراً ما نجد أشخاصاً قاموا بهذا العمل، وتصرفوا وفق أساسياته.
لذلك تبقى الحالة والطريق الأولى الأفضل والأيسر، وذلك من خلال مراعاة كل الضوابط العلمية والأخلاقية، بحيث:
أوّلاً: لا بُدَّ من بيان أن المطلب الفلاني قد وجد في الكتاب الفلاني.
ثانياً: أن يكون النقد في حدود هذا المطلب ضمن هذا الكتاب؛ كأن نقول مثلاً: إن هذا المبحث قد وجدته في كتاب «الكافي» أو «صحيح البخاري» أو «صحيح مسلم» أو في كتاب «قاسم الرسي»، أو كتاب للإمام يحيى… وإن لي فيه نظرٌ، وعليه إيرادٌ. ومن المحتمل أن يكون نفس الكاتب قد ردّ على هذا المطلب في أحد كتبه اللاحقة أو في رسالةٍ أخرى، فتكون جواباً مسبقاً عن ذلك الإشكال.
عندما نريد أن ننسب الفخر الرازي إلى الجبرية أو إلى التفويض فلا بُدَّ من تتبع الموارد التي صرَّح فيها بذلك، وطرح فيها نظريته بخصوص الجبر أو التفويض، هل طرح تلك النظرية في كل تصنيفاته، حتّى إذا تمّ تحصيل ذلك في كلّ كتبه آنذاك يمكن التصريح بنسبته إلى الجبرية أو المفوّضة، ومن الممكن بعد تفحص جميع كتاباته بخصوص إحدى النظريات أن يتبين أن له مواقف وآراء متناقضة فيما بينها، أو أن آراءه بخصوص بعض المواضيع العلمية جدّ معقدة، بحيث مثلاً ينسب أحدها لأحد الأطراف، ومثال ذلك: ما قاله في مبحث الجبر والاختيار، وفي تفسير سورة القمر طرح حديث «القدرية مجوس هذه الأمّة»، وفي مناقشته لمصداقٍ تساءل: هل يعني المعتزلة أو الأشاعرة؟ لقد تعرض الفخر الرازي في كتاباته المختلفة لنقد المعتزلة، حتى أن نقده لهم في بعض الموارد كان حادّاً ولاذعاً، لكنْ في مناقشته للحديث بين أنه لا يشمل الأشاعرة، كما لا يشمل المعتزلة، وأن كلَيْهما خارجٌ عن معنى الحديث، فقد كتب قائلاً: «اختلف القائلون في التعصّب أن الاسم بالمعتزلة أحقّ أم بالأشاعرة، فقالت المعتزلة: الاسم بكم أحقّ…، وقالت الأشاعرة: النصوص تدل على أن القدري مَنْ ينفي قدرة الله… والحقّ الصراح أن كلّ واحد من المسلمين الذين ذهبوا إلى المذهبين خارج عن القدرية، ولا يصير واحدٌ منهم قدرياً إلاّ إذا صار النافي نافياً للقدرية، والمثبت منكراً للتكليف»([8]).
في مواضع أخرى طرح نظرية مختلفة، حيث قال: «أما قوله رضي الله عنه: فإنه أمرٌ بين الأمرين، لا جبر ولا تفويض، فتفسيره هو أن الجبر أن يحدث الشيء على خلاف الإرادة، وهاهنا فعل الإنسان يحدث على وفق إرادته، فلا يكون جبراً، ثم إن حدوث تلك الإرادة في قلب الإنسان ليس من الإنسان، وإلاّ لافتقر إلى إرادةٍ أخرى، ولزم التسلسل، وهو محالٌ على الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه لا تفويض، فثبت أن زبدة كلام العقلاء وحاصل أفكارهم ليس إلاّ ما أدرجه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في هذه الألفاظ الموجزة النفيسة»([9]).
ظاهر كلام الفخر الرازي أنه يقول بالأمر بين الأمرين، لا جبر ولا تفويض. لكنْ هناك عبارات أخرى يستفاد منها قوله بالجبر. لهذا فإذا أردنا إصدار حكم دقيق وجامع بهذا الشأن فلا بُدَّ من تجميع جميع آرائه ونظرياته في الموضوع من جميع كتبه، ومن ثمّ استخلاص رأيه.
كون شخص ليس جبرياً وينفي التفويض لا يعني أتوماتيكياً أن نظريته تجانس نظرية «الأمر بين الأمرين». فعلى طول التاريخ عددُ الذين فهموا نظرية «الأمر بين الأمرين»؛ بسبب تعقيدها، قليلٌ. لذلك وجدنا عالمين شيعيين نفَوْا أن يكون القول بالجبر كفراً أو سبباً للحكم بنجاسة قائليه، أو أن القول «بالأمر بين الأمرين» من ضروريات الدين أو المذهب. المحقّق الهمداني&، صاحب «مصباح الفقاهة»، في كتاب الطهارة، قال بطهارة القائلين بالجبر؛ والإمام الخميني& كذلك في كتاب الطهارة «نفى أن يكون القول «بالأمر بين الأمرين» من ضروريات المذهب والدين، وعلَّل ذلك بكون مسألة «الأمر بين الأمرين» مسألة جدّ معقّدة، ولا يتسنّى للجميع فهمها([10]).
نعم، هناك علماء شيعة آخرون ذهبوا إلى القول بطهارة المفوّضة والجبرية، فعلى سبيل المثال: ظاهر مجموع كلام الشيخ الأنصاري أنه يقول بطهارتهم([11])، وكذلك نقل نفس الرأي عن علماء آخرين في المذهب. وهذا كذلك هو صريح عبارات الشيخ المحقّق الهمداني، والسيد الخميني الذي قال: إن هذا البحث نظري، وبناءً عليه فالقول بالجبر أو بالتفويض بالدليل النظري ليس سبباً للقول بكفرهم، وبالتالي بنجاستهم؛ لأنه يحتاج إلى دليل.
من الأخلاق الأخرى الضرورية في مجال نقد المذاهب، والتي سيفضي إغفالها إلى الإساءة للآخرين وإلحاق الأذى بهم، ضرورة الالتزام بالفهم الدقيق لكلام الفرد والإحاطة به من كلّ جوانبه؛ لأن هناك الكثير من الموارد التي تمّ فيها نقد كلام الآخر تبيَّن بعد الفحص الدقيق أن الناقد لم يفهم العبارات مورد البحث. وعلى سبيل المثال: تضمّنت مجلة (علوم الحديث)، العدد 21، نقداً للسلفية، وورد جوابٌ على النقد في نفس المجلة، العدد 22. وعلى ما يبدو فإن كاتب النقد جعله موقفه المتعصِّب من السلفية من جهةٍ، واعتقاده بضرورة نقدهم من جهةٍ ثانية، يعتبر هذا المبحث من بديهيات السلفية، ورغم كونه من أهل البحث والتحقيق فقد أخطأ فهم عبارة «الميزان» على بساطتها. ولتفادي مثل هذه العثرات يقتضي الموقف العلمي في نقد المذاهب عرض ما كتب أوّلاً على أصحاب النظر، حتّى ينظروا في صحة النقد، وتنبيهه إلى مواطن سوء الفهم والاشتباه قبل أن تنشر خارجاً، فتكون محسوبة عليه، وربما تترتّب عليها أضرارٌ فادحة، سواء على المستوى العلمي والمعرفي أو على مستوى العلاقات بين المذاهب، شريطة أن لا يبتعد الإنسان عن القضايا الأخلاقية الأخرى.
كذلك يجب أن تتمثَّل في الإنسان رحابة الصدر، وأن يتقبَّل توجيهات الآخرين، وتذكيره بأخطائه واشتباهاته، فلا يتوقّع أن يتقبل الآخرون كلّ ما يكتب، فينهالون عليه بالتمجيد والمدح، بل عليه أن يأخذ اشتباهاته وأخطاءه مأخذ الجدّ، ويقرّ بها بكلّ روح علمية، بعيداً عن الحساسيات النفسية والتعصبات العمياء.
ومن الأسباب الموضوعية وراء سوء فهم المباحث التي يعرضها الآخر، ويمثِّل دافعاً للفهم الخطأ، هو أن الآخر غالباً ما يدرس كلام المخالف من الفرق والمذاهب الأخرى بنظرةٍ مسبقة، مفادها: إن الآخر دائماً على خطأ، وإن كلام الآخر لا بُدَّ أن يكون مخالفاً للصواب، فتكون القراءة منذ الوهلة الأولى قراءة هرمنوطيقية مسبوقة برؤيةٍ خاصة وبنية مسبقة، تبحث عن الأخطاء والزلاّت ونقاط الضعف في الآخر، وقليلاً ما يكون الهدف منها السعي للفهم الحقيقي لما كتب. وتتّسم هذه القراءة بسرعة إصدار أحكام القيمة في حقّ ما كتبه الآخر، نظير: إن هذه العبارة كفر، وتلك العبارة نفاق، والثالثة شرك، وهكذا تتوالى الأحكام على الكاتب وفق عبارات كتبها لم يبلغ الناقد فهمها، فيخرج كاتب تلك العبارات عن كلّ خصوصية الإنسان، وعن حدود الدين وحرمته، ليصبح وفق تلك الأحكام كافراً، مرتداً، منافقاً، أو مشركاً. ولعلّ أفضل ردٍّ على مثل هذا الناقد القول له: يا للعجب، كيف أن كل ما عندك حلوٌ وعند غيرك علقم؟!
المعرفة التامة بمذهبك
في الكثير من الموارد نتوجه لنقد المذهب الآخر في بعض مباحثه؛ لإظهار ضعفه، أو لبيان الخلل والاشتباه فيه، في حين أن نفس المباحث توجد بعينها في مذهبنا، فيكون الحديث عن ضعف المذهب الآخر في تلك المباحث هو حديثٌ عن ضعف مذهبنا، من دون أن ندرك ذلك، أو أن نكون راغبين في كشف عوراتنا.
وهنا لا بُدَّ من التذكير أن أهمّ أخلاق في النقد أن يتّصف الناقد بالصدق. والصدق ليس خلقاً يأتي في الدرجة الثانية، بل هو من الأخلاق الأصيلة، وعليه تقوم الأخلاق. فإذا كنّا فعلاً على اطّلاعٍ ومعرفة بمذهبنا، وكنا طلاّب الحقيقة، ومستعدّين لتحمُّل كلّ شيءٍ من أجل الحقّ والحقيقة، فابتداء لا بُدَّ من نقد تلك المباحث في مذهبنا، وأن نتوجَّه بالنقد إلى ذواتنا في الأمور التي تخالف الواقع، وخارجة عن ميدان الحق والحقيقة. والنقد السليم أو الصادق يستلزم الابتداء بالنفس أوّلاً قبل الآخرين. أما أن نكون غير ملمّين بضعف فرقتنا ومذهبنا، وننتقد الآخر في نفس نقاط الضعف التي لدينا، فهذا إما أن يكون ناتجاً عن الجهل: المركّب أو البسيط، وكلّ واحد منهما له إشكالاته الخاصة به. القرآن الكريم يأمرنا بالتوجه إلى ذواتنا قبل التوجّه إلى الآخرين بالنقد، قال تعالى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة: 105).
نحن مكلَّفون أوّلاً بالتوجه إلى ذواتنا بالنقد وطلب الإصلاح ورفع الضعف، وأن لا نتوجّه إلى الآخرين إلاّ بعد أن نكون قد صحّحنا أخطاءنا، ورفعنا ما علينا من الإشكالات. مبدئيّاً لو اهتمّ كلّ واحدٍ من المذاهب بنفسه، وتوجّه إلى داخله، لكانت أوضاع المجتمعات البشرية على أحسن حالٍ، وأفضل مما هي عليه اليوم. إن أصل المشكلات بين المذاهب هو سيطرة العناد على النفوس، وعدم استعداد أيٍّ منها للاستماع للآخر، وتقبّل ما يستشكل به عليه. وهذا مشكلٌ أخلاقيّ عويص، فالإنسان إذا كان متحلِّياً بالصدق، ويسعى وراء الحقيقة، فعليه أن يبين الإشكالات من أيّ ناحية كانت، ويكشف الضعف بروحية علمية، وعلى الآخر أن يتقبَّلها، وأن يرى أنها تمّت بنيّات سليمة. وقد بيَّن الإمام الصادق× هذا بقوله: «أحبّ إخواني مَنْ أهدى إليَّ عيوبي»([12])، فذكرُ نقاط الضعف، وبيانُ ناحية الإشكال، موجبٌ لإصلاح الإنسان، وأساسٌ في توجيه البشرية نحو الخير.
المعرفة التامة بالمذاهب كلٍّ على حِدَة
الكثير من الأخطاء التي تقع عند عملية نقد المذاهب هي الخلط بين المذاهب وتعميم العناوين. نحن عندما نتحدث عن السنّة أو الشيعة فنحن في الواقع أمام فرق متعددة واتجاهات مختلفة، فليس هناك مذهب سني أو فرقة سنية واحدة، كما ليس هناك فرقة شيعية واحدة؛ إذ داخل كلّ واحد من هذه المذاهب الكبيرة فرق تختلف عن بعضها البعض بلحاظ العقائد والأفكار والمواقف، لكن إذا اطّلعنا جيداً على المذاهب نجد أنها وإنْ كانت تحت عنوان واحد، فهي تختلف في بنيتها الفكرية والعقائدية، فالشيعة عنوان عام يدخل تحته الزيدية والإسماعيلية والعلوية والشيخية. وبين كلّ واحدٍ من هؤلاء اختلافٌ وتفاوت كبير. فلا يمكن أن نتوجه بالنقد إلى الشيخية من خلال النقد الموجَّه إلى الإسماعيلية. وكذلك في المذهب السني هناك الشافعي وهناك المالكي، وهما بلحاظ البنية العقائدية والفكرية غير الظاهرية، فقد يكون سنّياً بعيداً على المستوى العقائدي عن الفرقة السنية الأخرى لدرجة أنه لا يعلم ولا يدرك عقائده، في حين يكون الخارج عنهما معتقداً أنهما واحدٌ. على سبيل المثال: مبحث الإجماع وعمل أهل المدينة عند أهل السنّة، وبالذات عند المالكية، فقد تكلَّم فيهما بعض العلماء، وبيَّنوا وجهة نظرهم، وهناك من المالكية مَنْ قام للردّ عليهم من دون أن يكون على درايةٍ بمقالة مالك في هذا الموضوع، فيذهب إلى القول: إن مالك يقول بحجية الإجماع وعمل أهل المدينة، بينما مالك بن أنس يرى أن الإجماع شيء وعمل أهل المدينة شيءٌ آخر([13]).
قد نقوم بنقد مذهبٍ بدل مذهب آخر، وننسب نقد هذا المذهب إلى مذهبٍ آخر، متصوِّرين أن نقد المذهب (ألف) سيكون نقداً لمذهب (ب). فالخوارج في الحقيقة ليسوا من السنّة، وليسوا من الشيعة، فهل يعقل أن يكون نقد مذهب السنّة نقداً ضمناً لمذهب الخوارج؟! النقد الصحيح لا يقوم على التوهُّمات، ولا على التقاط صغرى من هذا المذهب، وكبرى من الآخر، ونجري عملية النتيجة في فضاء الذهن، ثم نسقطها على هذا المذهب أو ذاك، ومن ثم نقوم بنقدها.
الفصل بين ما هو نظري وما هو ضروري
من المباحث الضروري مراعاتها في مجال نقد المذاهب ضرورة الفصل بين المباحث النظرية والمباحث الضرورية. فإذا كانت المسألة المطروحة للنقد ضمن المسائل النظرية تكون مفتوحةً على طرح العديد من الآراء، وبطبيعة الحال على وجود الاختلاف بين الآراء والنظريات. لذا ليس لائقاً بالمرّة أن ينتقل الافتراض من كونه مجرّد طرح ذهني ليصير من ضروريات المذهب أو ضروريات الدين في حقّ المذاهب الأخرى، ثم بعد ذلك نتّهم تلك المذاهب بإنكارها لضروريات مذهبها. ومن الأمثلة على سموّ خلق صاحب الميزان إشارته إلى هذه المسألة في ما يتعلّق بخصوص «الشيخية» و«الشيخية الكرمانية»، حيث قال: «ظهرت بين مذهب الشيعة الإمامية في القرنين الأخيرين طائفتي «الشيخية» و«الكريم خانية»، ونظراً للاختلاف بينهما في تفسير مجموعة من المباحث النظرية، وليس في إثبات أو نفي أصل المسائل، فقليلاً ما يتنبه للفرق والتشعّب بينهما»([14]).
الكثير من الكتّاب والباحثين لم يتوصّلوا إلى حقيقة الشيخية كما توصل إليها السيد الطباطبائي، وهذا لتمتُّعه بعلوّ الأخلاق العلمية، ورعايته للتقوى، وسموّ الأخلاق. وكان هذا سبباً جعله يحرِّر محل النزاع، وينبِّه إلى أنه نظريّ مَحْض في الكثير من الاختلافات والنزاعات بين المذاهب والفرق. والظاهر أن الكثيرين ممَّنْ تعرضوا لنقد المذاهب ليست لهم القدرة العلمية، أو هم في الحدّ الأدنى غافلون عن اعتبار الكثير من الاختلافات في حدود الجانب النظري، وليست ضمن الضروريات. فالسيد الطباطبائي كان يرى أن كلّ مذهبٍ يحدِّد بنفسه ضرورياته، ولهذا كان يرى «أن مَنْ ينطق بالشهادتين، ولا ينكر أحد ضروريات مذهبه، فهو ليس بكافرٍ، بل هو مسلم»([15]).
المرحوم المقدس الأردبيلي له نظريات في باب الضروريات، حتى أنه لم يكن يَعُدّ الإجماع من الضروريات. «في بعض كتب العامة والخاصة أنه حتّى لو كانت المسألة من الإجماع فإن مَنْ أنكرها يحسب في عداد الكفّار وضمن صفّهم. في حين أن الأمر ظاهره ليس هكذا، فما دامت المسألة ليست من الضروريات، وليست كما فهمها الفقيه حين قال: إن الكافر هو مَنْ أنكر أحد الأوامر أو النواهي الصادرة عن الله تعالى وعن رسوله| إنكاراً عن علمٍ بها وإصرارٍ وعنادٍ، آنذاك يمكن القول في حقّه: قد كفر، أما إنْ كان الأمر من الضروريات في الدين عند الآخرين، لكنْ هو لا يراها من الضروريات، فظاهر الأمر أن إنكاره لها ليس من باب الكفر، كيف كان حالها، أعمّ من أن تكون من الإجماع الذي لا يُعَدّ من ضروريات الدين»([16]).
كيفية مواجهة المخالفين
كان بحثنا حول فهم أصل المذاهب، وضرورة الفصل بين المباحث بعضها عن بعض وعدم الخلط بينها. والآن مع فرض تحصيل كلّ النقاط التي أشرنا إليها سابقاً، وميَّزنا بين ما هو نظري وما هو ضروري، بين ما هو عامّ ومشترك بين جميع المذاهب وما هو خاصّ بهذا المذهب دون آخر، و…، فإنّ السؤال الذي يطرح، مع فرض تحصيل ما سبق: ما هي الكيفية التي يجب أن يكون عليها نقد هذا المذهب أو ذاك؟
1ـ مراعاة الأدب: الآن، وقد تبين أن المذهب الفلاني له نظريات وآراء مخالفة لما هو لديّ، وأريد أن أكتب نقداً لآرائه ونظرياته، لا بُدَّ أن أحدِّد ما هو الهدف من النقد؟ هل هو لأجل الهداية؛ لبيان الحقيقة والحقائق، أم أنه لأجل الشماتة؟ فإذا كان لأجل الهداية لا بُدَّ أن يكون النقد بحيث يرقى لمستوى هداية الأفراد، ويتقبَّلونه بكل طواعية؛ إذ متى كان النقد اللاذع والمهين، والذي يسعى للتنقيص والتحقير، مورداً للهداية؟! وهل أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل والأنبياء ـ حاشا لله ـ فاستعملوا الإهانات والتنقيص لهداية الناس؟!
ومع فرض أن المذهب الفلاني قد سار في طريق غير صحيح، وسلك منهجاً خاطئاً، فوظيفتي تجاهه إرجاعه لطريق الحقّ؛ لأن التكليف هو الإصلاح، فهل يكون الإصلاح بالباطل وبالسبّ والشتم؟!
مما يبعث على التأسُّف الشديد أن تاريخ الأديان مليء بالتوهين والتنقيص والتحقير. وسنحاول هنا الإشارة إلى واحدةٍ منها:
أـ «كَتَبَ أهل السنة والجماعة في تكفير النظّام كتباً لا تحصى… ففي كتابه إكفار المتأوّلين أشار إلى ضلال النظّام، ونحن هنا سنذكر الفضائح المشهورة للنظّام واحدةً واحدةً»([17]).
ب ـ «فضائح الكرامية أكثر من أن تعدّ أو تحصى»([18]).
ج ـ «الباطنية.. بمَحْض الافتراء والخدعة عمدوا إلى تأويل أحكام الدين، مبتغين من وراء ذلك تجويز زنى المحارم، وشراب السكر، وكلّ رذيلةٍ، لأتباعهم»([19]).
د ـ «لقد سار على نهج أبناء الأسارى والموالي، والذين ظهرت منهم البدع، ووصلت به الشناعة إلى أن كتب بعض جلسائه كتاباً في تكفيره»([20]).
هـ ـ اعلم أن الخبيث قد وقع في الفخّ… أراد أن يكتب يفضح الآخرين ففضح نفسه…» ([21]).
و ـ «اعلم أنه ليس هناك مذهبٌ قريب لمقولات الفلاسفة من مذهب المجوس، فهم يقولون بحلية وطء الأمهات والأخوات والعمات والخالات وكل ما يولد لهم، إلاّ أن الفلاسفة يذهبون إلى أن القبائح الشرعية والمحرّمات مباحة([22])… وإن مقالات وفضائح هؤلاء كثيرة»([23]).
ز ـ «رغم أن العرفاء لا يقولون بالقبر ويوم القيامة والحشر والنشور، ويقولون بقدم العالم، وهذا كافٍ بكفرهم…»([24]).
ح ـ «لقد لخص العلماء حال الإسماعيلية في جملةٍ واحدة: إن خواصهم زنادقة، وعوامهم رافضة»([25]).
ط ـ «ليس هناك اختلافٌ بين المسلمين أن شيعة الأمس كفار، ومَنْ يشكِّك في كفرهم فهو كافرٌ. حتى أنهم ليسوا كمثل أهل الكتاب والمشركين، بل هم كفار وضالون، فلا يجوز أكل طعامهم، ويجوز أسر نسائهم، وأموالهم وأعراضهم حلال؛ فهم زنادقة مرتدّون عن الإسلام، ولا تقبل منهم توبة، وأينما ثقف بهم وجب قتلهم…»([26]).
يُلاحَظ على مجموع الأمثلة التي ذكرنا أنها خارجةٌ عن ساحة الأخلاق. وفعلاً فإن الكتب التي كتبت فيها تحت عنوان الدين والكتب الإسلامية مدعاةٌ لأن يبكي عليها كلّ واحد منا بدل الدموع دماً؛ لأنها نقطة سوداء في حقّ هذا الدين السمح. وللأسف الذين لبسوا لباس حماة الدين والشريعة، ورفعوا شعاره، لا يتورَّعون عن قول سفاسف الأمور في حقّ المذاهب المخالفة لهم، ولا يجدون حَرَجاً في ضرب الأخلاق والخروج إلى اللاأخلاق في سبيل هواهم.
إن هدف وغاية النقد يمكن أن تكون صحيحة. وفعلاً التحقيق ليس محتاجاً إلى استعمال الشدّة والكلام الجارح. وقد يكون الهدف من النقد ليس الهداية، ولا التحقيق العلمي؛ فهناك الكثير من الموارد التي يأخذ فيها بعض الأشخاص القلم، ويجلسون في غرفهم، فيكتبون كلّ ما يَلِجُ في صدورهم، ويقع في روعهم، فتكون كتاباتهم وقوداً للفتن، وشعلة للأحقاد، ينفثونها بين المذاهب، حتّى أن الكثير من الاختلافات بل من الحروب التي وقعت في بعض المناطق بين أتباع المذاهب كانت تلك الكتابات المحرِّك الرئيس لها. هذه الكتابات التي ليس فقط خارجةً عن الأخلاق، بل إنها تلعب دور السامريّ في هذه الأمة، فهي تنشر الباطل، وتدعو إلى اللاأخلاق بين أفراد الأمة بكلّ أطيافها.
في الختام أرى من المناسب ذكر كلام للدكتور شفيعي كدكني، والذي هو كلامٌ صريح في العديد من الممارسات المنافية للأخلاق: «من الأفضل أن أبدأ النقد من نفسي ولنفسي، فقد كنت سنوات وسنوات أعطي للطلبة دروساً في الآراء والعقائد، وكان دائماً التصور الذي أعطيه «للكرامية» تصوّراً مغايراً لحقيقتهم. فالصورة التي عكستها لهم في أذهانهم أنهم مجسّمة ومشبّهة، أنهم يرَوْن الله مضحكاً ومحدوداً بحدود ونهاية، وهذا الربّ الذي يعبدونه ملقىً على العرش ومحلٌّ للحوادث، له وزن وثقل، وأن لهم في النبوة عقائد عجيبة وغريبة، وكذلك لهم في الإمام، وخصوصاً إمامة الإمام عليّ×، فهم يرَوْنه على الحقّ، وكذلك يعتقدون أن معاوية كان على حقّ؛ فهم يرَوْن عليّاً× إماماً موافقاً للسنّة، ومعاوية إماماً مخالفاً للسنّة، واتّباع كل واحد منهما واجب، وأنهم يقولون: إن المنافقين الذين ينطقون الشهادتين ولو باللسان مؤمنون، ولا يخرجون بنفاقهم من حوزة الإيمان، ولهم في الفقه آراء ونظريات تخالف بشكلٍ تامّ ما عليه المذاهب الإسلامية، ولا توافقها في شيءٍ مطلقاً.
ما قلناه هو الوجه المشترك في الصورة التي عكسها مؤلِّفو كتب الملل والنحل الإسلامية، نظير: حكيم السمرقندي، عبد القاهر البغدادي، الإسفرايني، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، وآخرين. وكذلك شبيهٌ بما ورد في بعض الكتب، من قبيل: إن محمد بن كرام له عقائد، من بينها أن الله سبعة أشبار من أشباره، يجلس ويقوم، وله مكانٌ، و…
والحقيقة أن ما كتبه مصنِّفو كتب الملل والنحل في باب الفرق الإسلامية الأخرى من نوع الكذب قربةً لله، حيث إن كلّ واحد يطلق العنان لهواه في حقّ الآخر، وفي كذبهم ذاك يعتقدون أنه لنصرة الحقّ وإعلاء كلمته. وهذا جارٍ على أيّ فرقة كانت مخالفة له أو مضادّة له في أفكاره ونظرياته، أعمّ من أن تكون شيعية أو كرامية أو إسماعيلية أو غيرها، فكلّ مصنّف ينصب نفسه حَسْب اعتقاده في مقام الممثِّل الشرعي والناطق الرسمي لمذهبه أو فرقته، وهذا المذهب أو الفرقة هي ممثّلٌ لقوّة سياسية واقتصادية في عصرها، فلا يجد المصنِّف والمؤلِّف بدّاً من ضرورة الدفاع عن مصالح فرقته ومذهبه، وينزل سبّاً وشتماً في الفرق الأخرى والمذاهب الأخرى، حَسْب تصنيف سلّم الأعداء ومَنْ يمثِّلون خطراً على فرقته ومذهبه. بعض المؤلِّفين القدامى يسلِّطون هجومهم على الإسماعيلية، وهذا يبين أنهم كانوا غريمه في السياسة؛ فالإسماعيلية إذا غلبت فرقته فهذا يعني ذهاب رزقه ومعاشه وخراب بيته وذهاب الدولة أو السلطة التي يمثِّلها. ففي بعض الكتب يسلّط الهجوم وفقاً لما يناسب الشروط التاريخية، فيتوجَّه نحو انتقاد الشيعة أو الكرامية أو الخوارج، وهكذا يكون معيار النقد وملاكه. فكتب الملل والنحل أو كتب الفرق الإسلامية ناظرةٌ إلى الظروف التي يعيش فيها المصنِّف، وفي الرقعة الجغرافية التي يتواجد بها.
بخصوص ما كتبه أغلب مصنِّفي كتب الملل والنحل في حقّ «الكرامية»، وبالذات في حقّ زعيمها أبو عبد الله محمد بن كرام السيستاني النيشابوري(255هـ)، في أغلبه ليس سوى تهم زائفة وكذب بواح. بعد أن اطلعنا على ما تم العثور عليه من كتب ووثائق تخصّ تلك الفرقة وصلنا إلى النتيجة التالية، ومفادها: إن السلطات والحكومات والقوى الحاكمة القديمة كانت على معرفةٍ تامة بالأساليب المستعملة اليوم في غسل أدمغة المجتمعات، وإنها فعلاً قد استفادت من الأساليب المستعملة في عصرنا بشكلٍ تامّ في دعوتها ودعاياتها. وبعد أن اطّلعنا على هذه القصة تذكّرنا القصة التي كتبها الشاعر الفارسي الكبير السعدي الشيرازي، حيث قال ـ ما معناه ـ: لا أتذكر في أيّ كتابٍ قرأت أن شخصاً رأى إبليس في منامه، طويل القدّ بطول شجرة الصنوبر، وكأنه حور عين، وجهه كالشمس، يتلألأ نوراً، فتوجَّه إليه، وقال: واعجباً، هل أنت أنت، فلم أَرَ مَلَكاً بهذا الحسن؟! أنتَ الذي الآن بحسن القمر لماذا في محافل الأنس والسمر يجعلونك قبيحاً وبشعاً؟! لماذا رغم ما لك من دورٍ في ملك الشاه قد حوّلوك إلى قبيحٍ ومدمّر؟! فلما سمع الملك هذا الصوت بكى لحظةً، وتحسَّر على ما فات منه. فذاك الذي كان حظّي، واستمعت إلى صوت الوشاة والحسّاد فيه، لم يكن كما صوّروه، ولكن القلم حين يكون في يد الأعداء يخطّ ما يشاؤون.
السعدي كما هو ظاهر من كلامه يريد أن يعالج مشكلةً اجتماعية، فهو ينبِّه إلى آفة الأحكام المسبقة، ومشكلة المواقف السلبية من الآخرين، لمجرد أننا نختلف معهم، فنسعى في إظهارهم بمظهرٍ قبيح، ونجعلهم في صورةٍ عكس ما هم عليه في الواقع.
يحكي الفخر الرازي في كتابه المناظرات أنه بينما كان يمشي في طريق ما وراء النهر، وإذا به يرى شرف الدين المسعودي قادماً نحوه، وكله سرور وفرح، فسأله عن سبب فرحه وسروره؟ فأخبره المسعودي أن الحظّ كان نصيبه، فقد اقتنى من سوق الكتب مجموعةً نفيسة من الكتب، فسأله الفخر الرازي عن هذه الكتب؟ وقد ذكر له الكثير من العناوين، وما إن وصل إلى عنوان كتاب الملل والنحل حتّى استوقفه الفخر الرازي قائلاً: نعم، هذا الكتاب للشهرستاني، وقد كتبه حسب ظنّه وظنونه، لكنّ الكتاب ليس له أيّ اعتبار، ولا يجب الاعتماد عليه؛ لأنه نقل المذاهب عن كتاب «الفرق بين الفرق»، لأستاذه أبي منصور البغدادي، وكان هذا الأستاذ في مقابل مخالفيه شديد التعصب، ولم يتكلّم في أيّ فرصة عن مذهبه بالشكل الصحيح، وإن الشهرستاني في ما كتبه عن الفِرَق قد أخذه من هذا الكتاب، ولهذا كان الخلل وارداً في كتابه. نعم، شخصياً لا أعرف إلى أيّ مدىً كانت تحقيقات الفخر الرازي حول الفرق والمذاهب صائبة وموافقة للواقع، لكن كلامه هذا فعلاً يمثِّل للأسف حقيقة عبد القاهر البغدادي، الذي كان في تشكيله لملفّات حول المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى مجحفاً، ولم يكن يراعي الصحّة من الفساد، اللهم إلاّ في ما كان يتعلّق بالسنّة والأشاعرة، أما غيرهما فإنه لم يكن ملاماً في عكس الصورة التي خلط فيها بين كثير من الباطل وقليل من الحقّ.
لم يكن عبد القاهر البغدادي وحده مجحفاً في حكمه ضدّ الفرق الأخرى المخالفة لعقيدته ومذهبه، بل إن جُلَّ مؤلِّفي كتب الملل والنحل كانوا على شاكلته، ونحَوْا نحوه. فمثلاً: في خصوص نفس الفرقة الكرامية انظر إلى ما كتبه الحكيم السمرقندي في كتابه «السواد الأعظم»، فحين أراد الحديث عن الفرق الضالة أورد الحديث المسند إلى رسول الله|: (أَلا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَ)، وقال: واحد وسبعون شيعة، واثنان وسبعون كرامية، وثلاثة وسبعون السنّة والجماعة والناجون من النار، يعني جعل تلك الاثني وسبعين فرقة، التي آخرها الشيعة والكرامية، فرقاً ضالة ومصيرها إلى النار، وليس من فرقةٍ ناجية سوى فرقة السمرقندي. لكنْ لأن عصر السمرقندي، وفي خراسان آنذاك، لم تكن الشيعة تشكِّل تهديداً للسلطة الحاكمة، وكانت الكرامية تشكِّل قوةً منافسة، فإن توزيعه للفرق الضالة لم يكن ليشفي غليله، حيث توجَّه وبشكل مفاجئ في عبارةٍ إلى الكرامية، وقال: إن هذه الفرقة إيمانها لا يتعدى لسانها، وإن قلوبهم لم تعرف الإيمان، وإنهم كانوا يقولون: إن الله تعالى ـ حاشاه ـ رجلٌ كباقي البشر، له جسمٌ كباقي جسم البشر، وإن الكرامية تمثِّل في مرتبة تلك الاثني وسبعين فرقة أكثر الفرق الضالّة ضلالة، وأعظمها جهلاً وقبحاً».
وقد تابع شفيعي كدكني كلامه، ضمن بيان ما قيل بخصوص الكرامية من النقاط السلبية في كتب الملل والنحل، فقال: إنه عثر على كتاب يفنِّد بشكلٍ تامّ كلّ ما نقلته تلك الكتب من نقاطٍ سلبية للكرامية، ويكشف عن الوجه الحقيقي لهذه الفرقة وزعيمها. وقال: «محمد بن كرام من خلال الصورة التي كشفها هذا الكتاب إنسان زاهد متفرّد، وعارف متبصّر في الإلهيات، متكلِّم منزَّه وبعيد عن شائبة التجسيم، وفي نفس الوقت هو رجلٌ من أهل العمل، ومخالف للحكومات، وصاحب أفكار ثورية في مجال الأمور الاجتماعية ومبادئ الملكية».
فهذه الصورة التي عكسها هذا الكتاب لزعيم الكرامية الأول تخالف بشكلٍ تامّ الصورة التي عكستها كتب الملل والنحل خلال الألف ومئة سنة السابقة له. والسبب بات واضحاً، فزُهْده وبُعْده عن ملذّات الدنيا، وتشدُّده في شروط الإمام أو الحاكم، وعقائده الشديدة في باب الملكية ومشروعية الكثير من الملكيات، كانت سبباً في تكالب أعدائه واستعمالهم لكلّ الوسائل في تشويه صورته وإظهاره في صورة قبيحة، وخصوصاً في جانب الفقه والكلام، حتّى صنعوا له صورة الفقيه المتفيقه، والعالم الذي لا علم له، وليست له بضاعةٌ سوى مجموعة من الآراء السخيفة والمضحكة»([27]).
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ جامعيّ، له أعمالٌ علميّة متعدِّدة.
([1]) محمد إبرهيم آيتي، تاريخ پيامبر إسلام|: 105، جامعة طهران، 1369.
([2]) المجلسي، بحار الأنوار 16: 210؛ الطوسي، الأمالي: 596؛ مالك بن أنس، الموطّأ 2: 905.
([3]) رسول جعفريان، رسالتان من كاشف الغطاء في الميرزا محمد الأخباري، انتشارات مكتبة مجلس، 1390هـ.
([5]) مولانا جلال الدين البلخي، مثنوي معنوي، دفتر 1، الشعر 71، طهران، انتشارات گلي، 1371هـ.
([6]) الأربلي، كشف الغمّة في معرفة الأئمة 2: 58.
([7]) الطبرسي، الاحتجاج 1: 15.
([8]) الفخر الرازي، التفسير الكبير، سورة القمر، الآيات 8 ـ 47.
([9]) الفخر الرازي، مناقب الإمام الشافعي: 128.
([10]) الهمداني، مصباح الفقاهة (كتاب الطهارة) 3: 1 ـ 34.
([11]) الشيخ الأنصاري، كتاب الطهارة، النجاسة الثامنة.
([12]) الحراني، تحف العقول: 273؛ الكليني، أصول الكافي 2: 639.
([13]) عبد الهادي الفضلي ومحمد وفا ريشي ومحمد سكحال الجزائري ووهبة الزحيلي وأسامة الحموي، المذاهب الإسلامية الخمسة: 398 ـ 402.
([14]) الطباطبائي، الشيعة في الإسلام: 74.
([15]) محمد حسين رخشاد، في محضر العلاّمة الطباطبائي: 401.
([16]) الأردبيلي، أصول الدين: 183.
([17]) عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق: 88.
([21]) السيد مرتضى بن داعي الحسني الرازي، تبصرة العوام: 106.