د. آرش نراقي(*)
تحليل نموذج: القرآن باعتباره كلام الله
من المفيد أن نحلِّل نموذجاً محدّداً لتبيين التراثية النقدية في إطار الدين. إن أحد المعتقدات الأساسية لدى المسلمين هو أن القرآن كلام الله. فهل تمسُّك المسلمين بهذا المعتقد مقبول عقلاً؟ إذ على أساس نموذج التوجه التقليدي المنفتح على النقد يكون هذا المعتقد الديني مقبولاً إذا توفّرت الشروط الثلاثة التالية:
الأوّل: هو أن يكون صدق هذا المعتقد من الناحية الميتافيزيقية ممكناً. وبعبارة أخرى: لو تبين أن كلام الله مع البشر (أي ظاهرة الوحي اللساني) غير ممكن الحدوث من الناحية الميتافيزيقية سيكون الخبر القائل بأن «القرآن كلام الله» كاذباً ضرورةً، والاعتقاد به غير مقبول عقلاً.
الثاني: هو أن يكون النبي راوياً صادقاً وأميناً. في هذه الحالة إنْ ادّعى النبيّ بأنه مخاطب الله، والقرآن كلام الله، فيجوز لمتَّبعيه عقلاً الاعتقاد بأن القرآن كلام الله على أساس شهادته، فيتّخذون القرآن رسالة من الله وصلت إليهم عن طريق النبيّ. وبالطبع إنْ خاطب الله النبيّ حقيقةً سيفيد اعتقاد النبيّ بمخاطبته لله العلم، وسيفيد اعتقاد أتباعه بأن القرآن كلام الله العلم أيضاً. لكنْ إنْ أخطأ النبيّ في ما خالج قلبه وظنّ أنه وحي من الله سوف لا يفيد اعتقاد أتباعه بما يقوله العلم، لكنّه يظلّ مقبولاً عقلاً.
فهل للمسلمين اعتبار الشرطين السابقين نافذين، وإنْ في بادئ الأمر فحَسْب؟
في ما يخصّ الشرط الأول من المتعذِّر اعتبار وجود الله محالاً من الناحية الميتافيزيقية، وإنْ كان الله موجوداً يتعذّر الاعتقاد بأن كلامه مع البشر غير ممكن من الناحية الميتافيزيقية([1]). كما أن كثيراً من المؤمنين عبر التاريخ مرّوا بتجربة الخطاب في حياتهم الإيمانية، وبالنسبة لهم وجود الله ومخاطبته الناس ليس اعتقاداً نظريّاً مَحْضاً، بل هو نوعٌ من الاعتقاد «المبنيّ على التجربة».
كما أن الإذعان بصدق محمد «الأمين» أيضاً يسيرٌ؛ إذ تدلي مصادر تاريخ السنة الإسلامية بشواهد تؤيِّد هذا المعتقد. وبالطبع لا يعني ذلك أن اعتقاد المسلمين بهذا الأمر صادقٌ ومقبول ضرورةً ومطلقاً، لكنّه يعني أن للمسلمين اعتبار الشرطين السابقين صادقين، ومعتقدهم هذا مقبولٌ عقلاً، وإنْ ابتداءً على أقل تقدير.
الثالث: هو أن تمسُّك المسلمين بالمعتقد القائل بأن القرآن كلام الله يبقى مقبولاً عقلاً إنْ لم تكن هناك قرينة ناقضة لم تدحض. وبعبارةٍ أخرى: على المسلمين دحض الشواهد الناقضة لمعتقدهم، من موضع الدفاع عن عقلانية اعتقادهم.
لكنْ هل تحقّق الشرط الثالث؟ في الحقيقة إن الحكم في هذا الأمر عملية مستمرّة إلى ما لا نهاية. فعلى المؤمنين في كلّ أوانٍ اليقظة إزاء ما يقدَّم من نقد ونقض ضدّ معتقداتهم الدينية (ومنها: إن القرآن كلام الله)، والسعي في تقييم هذه الشواهد والقرائن الناقضة. فإن تبين أن القرائن الناقضة للمعتقد (أ) محكمة ومبررة آنذاك ينبغي عليهم تحويره على هيئة يتفادون بها وَهْنه، وإنْ تعذّر ذلك أخرجوه من منظومة معتقداتهم.
بناءً على ذلك يبدو أن أهمّ شرطٍ لقبول معقولية الاعتقاد بأن القرآن كلام الله هو مناقشة الشواهد والأدلة التي تريد نقض هذا المعتقد. فمَنْ ينتقدون الاعتقاد بأن القرآن كلام الله، ويرفضونه، قد أتَوْا بأدلةٍ مختلفة لإثبات رأيهم. بعض هذه الأدلة غير تاريخي (كلامي وفلسفي)؛ وبعضها الآخر تاريخي. وأودّ هنا الوقوف فقط على أحد الآراء التاريخية المهمّة في نقض الاعتقاد بأن القرآن كلام الله([2]).
في تاريخ الثقافة الإسلامية هناك اختلافٌ مهمّ بين «القرآن» و«المصحف». «القرآن» هو (كما يعتقد المسلمون) ما نزل على قلب النبيّ من قبل الله باسم الوحي؛ و«المصحف» هو الشكل المكتوب لذلك الوحي، وهو موجودٌ وسارٍ بين المسلمين اليوم. إن المسلمين الذين يعتقدون بأن القرآن كلام الله يؤمنون بأن الله هو حافظ هذا القرآن، وأن الكتاب الذي بين أيدينا باسم القرآن (أي المصحف) في الحقيقة هو القرآن الذي نزل على نبيّ الإسلام. وما برهن على أن «القرآن» كلام الله (أي أمانة النبيّ وصدقه في القول) يبرهن على أن «المصحف» (أي هذا الكتاب المحدد) أيضاً يحتوي كلام الله. ويمكن تقرير هذا الاستدلال كالتالي:
(1) إنْ كان النبي راوياً صادقاً فالقرآن عين كلام الله (أو على الأقلّ هذا الاعتقاد مقبولٌ عقلاً).
(2) إنْ كان القرآن عين كلام الله فكل نصٍّ يدخل فيه القرآن هو نصّ يحتوي كلام الله.
(3) المصحف نصٌّ يحتوي القرآن.
(4) فإنْ كان القرآن عين كلام الله فالمصحف أيضاً يحتوي كلام الله (أو على الأقلّ الاعتقاد به مقبولٌ عقلاً).
(5) إن النبيّ راوٍ صادق (فرض مسبق يعتقد المسلمون بأنه مقبولٌ عقلاً).
(6) إن القرآن عين كلام الله (أو على الأقلّ الاعتقاد بذلك مقبول عقلاً)(النتيجة الحاصلة من المقدّمتين (1) و(5)، بناءً على قاعدة القياس الاستثنائي).
(7) إذن يحتوي المصحف كلام الله (أو على الأقلّ الاعتقاد بذلك مقبولٌ عقلاً)(النتيجة الحاصلة من المقدّمتين (4) و(6)، بناء على قاعدة القياس الاستثنائي).
بناءً على ما مرّ الاعتقاد بأن الكتاب الذي بين أيدينا اليوم (أي المصحف) هو كلام الله مشروط بأن يحتوي عين الخطاب الذي نزل على نبيّ الإسلام من الله.
لكنْ هل الخبر (3) صادقٌ؟ فممّا لا شَكَّ فيه أن هناك اختلاف بين «القرآن» (أي كلام الله الذي نزل على قلب نبيّ الإسلام) و«المصحف» (أي الصورة المكتوبة لذلك الوحي التي بين يدي المسلمين). وقد افترض المسلمون بأن «المصحف» (تقريباً) يحتوي «القرآن» تماماً (أي إن الخبر (3) صادق)، وبما أن القرآن عين كلام الله فـ «المصحف» أيضاً يحتوي (على الأقل) كلام الله، أو هو عين كلام الله.
لكنّ العلاقة بين «القرآن» و«المصحف» معقّدة، وقد تكون مبهمة، وخاصّة أن هناك تضاربَ آراءٍ خطيراً في شأن ظهور «المصحف».
إن التوجه التقليدي للمسلمين عن كيفية نشأة المصحف وتدوينه يبتني على أساسين: الأوّل: إن القرآن نزل تباعاً، وليس دفعة واحدة؛ الثاني: مقاطع الوحي جُمعت ودونت لاحقاً في كتاب (أي المصحف).
وكما نرى فإن رواية المصادر السلامية عن كيفية نشأة المصحف وتدوينه تؤيد الاختلاف بين «القرآن» و«المصحف». لكنْ يعتقد المسلمون بأن كيفية جمع القرآن وتدوينة تدفعنا إلى الاطمئنان بالمصحف (وإنْ نسبياً)، فيمكننا الاعتقاد بثقة بـ:
إما (أ) أن «المصحف» عين القرآن، أي يحتوي «القرآن»، وليس جزءاً منه، فقد ورد فيه كلّ الآيات التي أوحي بها إلى النبيّ، ولم يدخله غير تلك الآيات. وبناء على ذلك يكون المصحف قرآناً كاملاً وخالصاً (لنطلق على ذلك «المعلومة القصوى»)؛
وإما (ب) ليس «المصحف» ضرورةً عين «القرآن»، لكنه «يحتوي» كلام الله (القرآن) (لنطلق على ذلك «المعلومة الدنيا»).
كما يمكن فهم الرواية الدنيا انطلاقاً من توجهات ثلاث:
يرى التوجّه الأول أن المصحف لا يحتوي غير القرآن، لكنه لا يحتوي كل القرآن، أي إن النص يحتوي جزءاً كبيراً (وليس الكلّ ضرورةً) من الآيات التي أوحي بها إلى نبيّ الإسلام، لكنْ لم يدخل المصحف شيءٌ سوى آيات الوحي. وبعبارةٍ أخرى: إن المصحف قرآنٌ ناقص، لكنه خالص([3]).
أما التوجه الثاني فيجد أن المصحف احتوى معظم (وليس ضرورةً كلّ) الآيات التي أُوحيت إلى نبي الإسلام، ومن الممكن دخول أجزاء من غير القرآن فيه. وبعبارة أخرى: إن المصحف قرآن ناقص، وليس بخالص([4]).
وأخيراً يذهب الاتجاه الثالث إلى أن المصحف يحتوي كلّ القرآن، لكنْ ربما تكون دخلت أجزاء من غير القرآن فيه. وبعبارة أخرى: المصحف قرآن كامل، لكنه ليس خالصاً.
ما يشترك فيه الاتجاه الأقصى والاتجاه الأدنى هو أن «المصحف يحتوي كلام الله». فإنْ اعتمد أحدٌ الاتجاه الأقصى أو الاتجاه الأدنى سوف يصدق في كلا الحالتين أن «المصحف يحتوي كلام الله». ولنطلق على هذه التعاليم التي يشترك فيها التوجه الأقصى والأدنى «التعاليم المحورية». إذن في هذا البحث سينصبّ مسعاي في الدفاع عن «التعاليم المحورية» (أي التعليم القائل: «إن المصحف يحتوي كلام الله»)، مقابل مَنْ يدّعون على أساس المنهجية العلمية ـ التاريخية الحديثة بأن المصحف لا يحتوي «الآيات الموحاة» إلى نبيّ الإسلام من قِبَل الله (مع افتراض حصول ذلك). فادّعاؤهم الأساس هو أن «المصحف لا يحتوي كلام الله».
لكنْ قبل أن نخوض البحث في هذا النقد التاريخي يجدر بنا (أوّلاً) ترسيم الصورة التقليدية التي تلقّاها المسلمون عن كيفية نشوء المصحف؛ و(ثانياً) مناقشة الأدلة التاريخية للمسلمين حول مصداقية هذه الصورة، وصدق التعاليم المحورية.
الفهم التقليدي للمسلمين عن كيفية نشوء المصحف
تقدِّم المصادر الإسلامية معلومات مختلفة، وأحياناً متعارضة، عن كيفية جمع وتدوين مصحف القرآن. فعلى سبيل المثال: يؤكِّد عدد من هذه المصادر على أن القرآن ظاهرة شفهية، وحفظ بطريقة شفهية أيضاً، أي إن النبيّ تلقى آيات الوحي بشكلٍ شفهي، وقرأها على أتباعه، فحفظوها أو على الأقلّ حفظوا جزءاً منها. وقد ظهر لاحقاً في التعاليم الإسلامية ادّعاءٌ بأن تعبير «الأمّي» الذي ورد في القرآن وصفاً للنبيّ عنى عدم مقدرته على القراءة والكتابة. لكنْ من ناحيةٍ أخرى يعبِّر القرآن مراراً عن نفسه بـ «الكتاب» (وإنْ ادّعى المفسِّرون بأنه في عدّة مواضع يشير هذا التعبير إلى «اللوح المحفوظ» أو الصورة المكتوبة للوحي عند الله، وليس الصورة المكتوبة الأرضية). وقد تحدّثت بعض المصادر الإسلامية عن كتّاب الوحي لدى الرسول، وقد أمرهم النبيّ بنفسه أن يكتبوا ويحفظوا آيات الوحي التي يقرأها عليهم. كما نقل أنه حين وفاة النبيّ كان لدى بعض مقرَّبيه، ومنهم زوجته عائشة، نسخاً مكتوبة من القرآن (أو أجزاء من القرآن).
بناءً على ذلك التمعُّن في الروايات التاريخية المختلفة التي وردت في المصادر الإسلامية تنتهي بنا إلى افتراض أن النبيّ كان يقرأ آيات القرآن على مَنْ يثق بهم بعد برهةٍ من تلقّيه أولى آيات الوحي، ليحفظوها ويعيدوا قراءتها في غيابه([5]). كان يسمّى هؤلاء «الحفظة» أو «القرّاء». ومن المحتمل أن النبيّ في أوّل سنوات تلقّيه للوحي لم يَرَ ضرورةً لحفظ الوحي بشكلٍ مكتوب. لكنْ حين استمر نزول الوحي، وطالت الآيات، فمن الطبيعي أن نتصوَّر بأن النبيّ قرَّر كتابتها، ولذلك أمر أشخاصاً بكتابة الوحي([6]). فعلى أساس ما ورد في المصادر الإسلامية يمكننا قبول أن أجزاء من آيات القرآن كانت محفوظةً في ذاكرة الحفظة حتّى وفاة النبي، وأجزاء أخرى قد كتبتها أيدي كتّاب الوحي([7]).
بناءً على ذلك كان لدى المسلمين مصدران أساسيان لجمع وتدوين المصحف: الأوّل: أجزاء من الوحي القرآني الذي كتبه كتّاب الوحي، وكان بين يدي أصحاب النبيّ وأتباعه؛ والثاني: أجزاء من الوحي القرآني الذي كان محفوظاً في ذاكرة أصحاب النبيّ وأتباعه.
وبعد وفاة نبيّ الإسلام كان على عاتق المجتمع الإسلامي ثلاثة فروض لترسيخ القرآن كنصٍّ مقدّس ومعتمد بين المسلمين: (الأوّل): كان عليه جمع الأجزاء المتفرقة من القرآن، المكتوب منها والمحفوظ شفهياً، وتدوينه في كتابٍ. (الثاني): توحيد الخطّ العربي وتأصيله. (الثالث): إعجام النصّ وتشكيله، ليصبح بشكله الأخير نصّاً رسمياً ومعتمداً ومقبولاً من قِبَل المجتمع الإسلامي،ويكون مصدره الأساسي.
بناءً على الفهم السائد في المصادر الإسلامية، بُعَيْد وفاة النبيّ، وفي الحروب التي خاضها المسلمون ضدّ «مسيلمة» أو «النبيّ الكذّاب»، وخاصّة في معركة عقرباء باليمامة (سنة 11 أو 12هـ)، قُتل عددٌ كبير من حَفَظة القرآن وقرّائه وحامليه. وقد أثار ذلك قلق عمر بن الخطاب، وأيقظ لديه هاجس الخوف من فقدان القرآن؛ بفقدان هؤلاء الرجال. لذلك اقترح عمر على الخليفة آنذاك، أبي بكر، أن يأمر بجمع الأجزاء المتفرّقة من القرآن. وقد أصاب أبا بكر الترديد أوّلاً في أن يأمر بما لم يُجِزْه النبيّ، لكنْ تغلّب نهايةً على ترديده، وأمر زيد بن ثابت، الذي جعله النبيّ كاتباً للوحي في المدينة، بجمع وتدوين الأجزاء المتفرّقة من القرآن. قَبِل زيد هذه المسؤولية متوجِّساً؛ إذ كان يجدها أصعب من «زحزحة جبل»، فقام بجمع أجزاء القرآن المكتوبة هنا وهناك على أوراق البردي، وجلد الغزال، ولحاء النخل، وعظام الجمل. واستدعى حفظة القرآن، ودوَّن ما كان محفوظاً في ذاكرتهم. ثم توكَّل على الله، كما ورد في آية القرآن: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (التوبة: 129)، وأتمّ العمل. وقد كتب كل الأجزاء التي جمعها على «صحائف» متساوية في القياس، ووضع المجموعة بين جلدين (جمع بين اللوحين)([8]). ثم أتى بها إلى أبي بكر، الخليفة آنذاك. وبعد وفاة أبي بكر انتقلت المجموعة التي جمعها زيد إلى الخليفة الثاني، عمر، ومن ثم إلى ابنته حفصة (إحدى زوجات النبيّ). لكنْ عدّت هذه النسخة خاصّة أكثر من أن تكون نسخة رسمية ومعتمدة([9]). ولا دليل على أن نسخة أبي بكر/ عمر/ حفصة أول نسخة مضبوطة ومنظّمة من القرآن، أو النسخة الوحيدة عنه. وتدلّ بعض القرائن التاريخية على وجود نسخ أخرى من القرآن (حدوداً في نفس الوقت أو بعيده) لدى أصحاب النبيّ([10]). ومن المحتمل أن تكون هذه النسخ مجموعة مكتوبة من آيات القرآن، كان يعتمدها أصحابها لدعم ذاكرتهم([11]).
بعد ما يقارب عشرين سنة من ظهور نسخة أبي بكر، وفي زمن عثمان، الخليفة الثالث للمسلمين، اشتدّ النزاع بين مَنْ كان لديهم نسخ مختلفة عن القرآن. وكانت تختلف هذه النسخ من حيث عدد السور وترتيبها، كما لم تتوحَّد قراءتها([12]). وقد ذهب كلّ واحدٍ من أصحاب هذه النسخ إلى أن نسخته هي الأفضل، وتتفرد بكونها موثوقة. وقد ورد في مصادر تاريخ الإسلام ظهور خلاف بين المجاهدين العراقيين والسوريين على الشكل الصحيح والموثوق للقرآن أيّام حربهم في أرمينيا وآذربايجان. فاعتمد محاربو حمص نسخة مقداد بن أسد، واعتمد أهل الشام وسوريا النسخ المتداولة في مناطقهم. لم يقبل محاربو الكوفة سوى قراءة عبد الله بن مسعود، ولم يتبع محاربو البصرة سوى قراءة أبي موسى الأشعري. وقد توجّس حذيفة بن اليمان، وهو من مشاهير قادة جيش الإسلام، من هذه الخلافات، واعتبرها تهديداً خطيراً على مستقبل الإسلام، ونقل تخوُّفه إلى الخليفة آنذاك، عثمان. فبحث عثمان الأمر مع صحابة النبيّ المقربين، ووجد جميعهم توجّس حذيفة مقبولاً. لذلك أمر الخليفة بإنشاء نسخةٍ رسمية من القرآن، وإرسالها إلى البقاع الإسلامية المهمّة، وإتلاف النسخ الأخرى. وقد أنشأ هذه النسخة الرسمية زيد بن ثابت، بناء على نسخة أبي بكر (التي كانت لدى حفصة)، وساعده فيها ثلاثة من قريش (عبدالله بن الزبير، سعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث). وقد اشتهر هذا النصّ الأخير الذي ظهر في السنين الأخيرة من خلافة عثمان بـ «مصحف عثمان». وقد لاقى قبولاً وترحيباً في العالم الإسلامي كنصٍّ رسمي وأساسي، وإنْ لم يخْلُ من منافسةٍ حَسْب المصادر الإسلامية، ولم يلْقَ خطّه وقراءته قبولاً عامّاً. لكنْ يبدو أن أهل الكوفة كانوا الوحيدين الذين عارضوا هذه النسخة الرسمية، بقيادة ابن مسعود([13]). أما تنفيذ الفروض الثلاثة التي سبق ذكرها ـ أي تدوين النصّ، تأصيل الخط، والإعجام والتشكيل ـ فقد استغرق ثلاثة قرون تقريباً. أما اليوم، فالصورة التي تمّ التصويت عليها عام 1942م في مصر كنصٍّ أساسي هي المتداولة بين كافّة الناس، استناداً إلى ملاحظةٍ عملية بَحْتة.
وقد أيَّد كثير من الباحثين الغربيين في مجال القرآن، وخاصّة الجيل الأول منهم، كـ: تئودور نولدكه، وريتشارد بل، هذا الفهم التقليدي للمسلمين عن كيفية جمع مصحف القرآن وتدوينه([14]).
إنْ أخذنا بهذا الفهم عن كيفية نشوء المصحف وتدوينه سنتمكَّن من الاعتقاد بأن مصحف القرآن المتداول (على الأقلّ) يحتوي الوحي القرآني أو كلام الله، ويكون اعتقادنا مقبولاً عقلاً، أي إن الاعتقاد بـ «القضية الأساسية» مقبولٌ عقلاً.
الأدلة التاريخية لدى المسلمين لقبول الفهم التقليدي
ما هي الأدلة التي يستند إليها المسلمون ليجعلوا فهمهم التقليدي لنشأة المصحف مقبولاً؟ وبعبارةٍ أخرى: ما هي المصادر والقرائن التي يعتمدها المسلمون في اعتقادهم بأن المصحف القرآني يحتوي الآيات الموحاة إلى نبيّ الإسلام خلال نبوته (من قبل الله) في مكّة والمدينة، وقد قرأها على أتباعه؟
يبدو أن لنا افتراض ثلاثة مصادر لتحقّق هذا الادّعاء عملياً: 1ـ النسخ القديمة للقرآن؛ 2ـ نصّ القرآن نفسه؛ 3ـ التقاليد الإسلامية في خصوص القرآن([15]).
لكنْ هل بين أيدينا نسخة من مصحف القرآن تعود إلى زمن النبيّ؟ وهل كان هناك نسخة من القرآن أيّدها النبيّ نفسه؟ الجواب هو لا. النسخ القديمة للقرآن بعدد أصابع اليد، وتبيُّنُ تاريخها الدقيق عملٌ شاقّ. وقد عثر على أجزاء من القرآن مكتوبة على البردي أو جلد الغزال، لكنْ لم يتّفق المحقِّقون على التاريخ الدقيق لتلك الأجزاء؛ فقد ذهب بعضهم إلى أن تاريخها يعود إلى نهاية القرن الأول والنصف الأول من القرن الهجري الثاني، وقد عدَّ آخرون ذلك خطأً وعارياً من الدقّة([16]). من ناحية أخرى أقدم نسخ للقرآن أجزاء متفرقة، ولذلك من الصعب ادّعاء أن القرآن بشكله الأول، وحجمه، ومحتواه، يشابه النسخ المتأخِّرة (بالشكل الذي بين أيدينا اليوم). فلا يمكن تبرير «القضية الأساسية» على أساس النسخ القديمة للقرآن.
لكنْ هل لنصّ القرآن نفسه إفادتنا بقرينة تدعم «القضية الأساسية»؟ وبشكلٍ أدقّ: هل في نصّ القرآن قرائن تدلّنا على مؤلِّف المصحف أو جامعه؟ فقد ورد اسم نبيّ الإسلام (محمد) في أربعة مواضع من القرآن فحَسْب، وفي الأربعة يدور الحديث عنه كغائب([17])؛ إذ إن نصّ القرآن غالباً ما يخاطب «الرسول» أو «النبي»، والمفسِّرون يعودون بهذه الألقاب إلى «محمد»، بناءً على القرائن المتوفِّرة داخل النص وخارجه. وفي مواضع عدّة لا يخاطب القرآن «الرسول» أو «النبيّ»، بل يوجه القول إلى ضميرٍ مخاطب مفرد، ويعتقد بعض المحقِّقين في شأن القرآن بأن مرجع هذا الضمير ليس بالضرورة شخص النبي دائماً (ففي بعض المواضع من البديهي أن مرجع الضمير ليس النبيّ). فعلى سبيل المثال: في كثيرٍ من الأحيان يكون مرجع الضمير قارئ النصّ (أيّاً كان)([18]). فإنْ تبنى أحدٌ هذا المنظور المتردِّد حينها لا يمكنه الاعتقاد بشكلٍ قاطع على أساس نصّ القرآن بأن النبيّ هو «مؤلِّف» أو «راوي» كافّة آيات القرآن. في هذه الحالة، ومن هذا المنظور المتردِّد، إنْ كان نصّ القرآن وحده الحكم يمكن الادّعاء كحدٍّ أقصى أن النبيّ «مؤلِّف» أو «راوي» أجزاء من القرآن، وليس كلّه([19]).
مما مضى يبدو أن أهمّ دليل عملي لتصديق «القضية الأساسية» (أي الاعتقاد بأن مصحف القرآن يحتوي الآيات الموحى بها إلى نبيّ الإسلام) هو السنّة الإسلامية، التي وصلتنا على شكل «أحاديث» مختلفة. وفي الحقيقة إن الفهم التقليدي للمسلمين عن كيفية نشوء المصحف، كما مرّ سابقاً، يرتكز على التقليد الإسلامي([20])، الذي ينشأ عن الأحاديث والروايات، التي تفيد بأن تدوين القرآن تمّ في مرحلتين، كما مر: المرحلة الأولى: التي تمّ فيها تدوين «نسخة أبي بكر» بأمره، وعلى يد زيد بن ثابت، وانتقلت بعد وفاته إلى عمر، ومن ثم حفصة. والمرحلة الثانية: التي تمّ فيها إنشاء «نسخة عثمان» كنسخةٍ رسمية، وتمّ تأصيلها بشكلٍ سريع. لكنّ السؤال الأساسي الذي يطرح هنا هو: هل التقليد الإسلامي أساسٌ متين لقبول الفهم التقليدي للمسلمين عن كيفية نشأة المصحف؟
النقد التاريخي على الفهم التقليدي للمسلمين عن تاريخ المصحف
لقد واجه الفهم التقليدي للمسلمين عن نشأة مصحف القرآن نقداً من ناحيتين على وجه الخصوص:
النقد الأوّل: هو أن التقليد الإسلامي، وخاصة الأحاديث، لا يمكنها بناء أساس متين لقبول الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ جمع مصحف القرآن وتدوينه، ولذلك الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ المصحف لا يتمتع بأساس متين. (ولنسمِّ هذا النقد «النقد الأدنى»). إن النقد الأدنى هو مصداق ما أطلقنا عليه في ما مضى: «القرينة الناقضة النافية».
والنقد الثاني: هو أن عدداً من القرائن التاريخية والأدبية تشير إلى أن الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ جمع مصحف القرآن وتدوينه ليس فاقداً لأساس متين فحَسْب، بل غالب الظنّ أنه خاطئ. (ولنطلق على هذا النقد «النقد الأقصى»). والنقد الأقصى مصداقٌ لما أسميناه سابقاً: «القرينة الناقضة المعارضة».
ومن المفيد أن نناقش هذين النقدين بتفصيلٍ أكثر:
إن أهمّ رواد «النقد الأدنى» هما: إيغناتس غلدتسيهر([21])؛ وجوزيف شاخت([22]). وبالطبع تجاوز نقد هذين المحققين الأحاديث التي يستند إليها في الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ المصحف؛ إذ عدّا الأحاديث الواردة في المصادر الإسلامية (ومنها: الأحاديث التي تخصّ كيفية جمع المصحف وتدوينه) هشّةً، ولا يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها.
كان الافتراض المحوري لدى غلدتسيهر في كشف تاريخ الأحاديث أن غالبية الأحاديث الواردة في المصادر الرسمية الإسلامية (ومنها: الصحاح الستّة) من صنع المسلمين في القرنين الهجريين الأولين، نتيجة التغيرات الدينية والتاريخية والاجتماعية في الإسلام خلالهما. فقبل أن تدلّ على أحداث عصر الرسول كانت انعكاساً لجهد المجتمع الإسلامي في مسيرة تكامله في المقاطع الزمنية اللاحقة([23]).
فبناءً على هذا الأصل، يرفض غلدتسيهر تقريباً كافة الأحاديث عن النبي وصحابته، والتي تتضمن معلومات عن أيامهم من الناحية التاريخية. ولذلك يعتقد بأن لا قيمة للأحاديث في فهم تاريخ صدر الإسلام، ومعرفته، واعتبارها التاريخي ينحصر في أنها تساعد على معرفة التغييرات التي طرأت في الأدوار اللاحقة، أي إنها تساعد على فهم التغييرات التي طرأت على الإسلام في السنين اللاحقة، وهو يسعى في الظهور ككيانٍ منسجم ومحكم في خضمّ تجاذب القوى المتعارضة([24]).
وبالطبع لا يقصد غلدتسيهر أن كافّة الأحاديث الموجودة لايمكن الوثوق بها. لكنْ إنْ صدق ادعاؤه لا بُدَّ من اعتبار أكثر هذه الأحاديث متأخّرة من الناحية التاريخة، فتفقد مصداقيتها. آنذاك يتضاءل احتمال العثور على حديثٍ صحيح ومعتبر في الكمّ الهائل من هذه الأحاديث. لذلك يعتقد بأنه مراعاةً للحرص والدقّة ينبغي حمل كافة الأحاديث على محمل الشكّ، والذهاب إلى عدم مصداقيتها([25]).
لكنْ كيف يبرر غلدتسيهر نظريته؟
لقد بنى غلدتسيهر ادّعاءه على مناقشة عدد محدود من الأحاديث وتقييمها. فمن منظوره قد قامت مجموعةٌ في المجتمع الإسلامي في القرنين الأول والثاني الهجريين بوضع الأحاديث؛ بدوافع كالتالي:
الدافع الأوّل: كانت الصراعات السياسية والخلافات الدينية داخل المجتمع الإسلامي في حداثة عهده. ويعتقد غلدتسيهر أن خلافة الأمويين الأرستقراطية وَلَّدت ردّ فعل لدى المسلمين الأتقياء، فانتهجوا سبيل الزهد، ونأَوْا بأنفسهم عن زخارف الدنيا، وكانوا يعدّون نهجهم مستقىً من حياة النبيّ والخلفاء الراشدين. وفي المقابل أيضاً كان حكّام بني أمية يسعَوْن لتبرير طريقتهم بنفس الادّعاء، مستعينين بالعلماء المادّيين والانتهازيين. لذلك أمر خلفاء بني أمية علماء البلاط بوضع أحاديث توافق مطالبهم، ونسبتها إلى كبار الصحابة والسلف الصالح. ويعتقد غلدتسيهر أن القسم الأعظم من الأحاديث التي ينتهي سندها (حَسْب الادّعاء) إلى النبي أو الصحابة قد وضعت في الحقيقة بهذه الطريقة في النصف الثاني من القرن الهجري الأوّل([26]).
وقد وضعت مجموعة أخرى من الأحاديث أيام خلافة بني العباس، فقد شهدت تلك الأيام ازدهار الفقه الإسلامي، ولذلك أصبح لمطالعة الحديث شأنٌ، وراج وضعه. وقد استدعى الخلفاء العباسيون جمعاً من العلماء والفقهاء والأعيان؛ ليضعوا أحاديث في ذمّ الأمويين ومدح العباسيين. وتمادى علماء البلاط أولئك، حتّى أصبحوا يضعون الحديث لما تشتهيه نفس الحكّام([27]).
ومن ناحيةٍ أخرى، اشتدّ الصراع بين مجموعتين من الفقهاء: أهل الرأي؛ وأهل الحديث، في منتصف القرن الثاني الهجري. فكان أهل الحديث يصرّون على ضرورة ابتناء القوانين والأحكام على سنّة النبيّ وسيرة الصحابة. وكما يرى غلدتسيهر كانوا يلجأون إلى وضع الحديث في ما لم يجدوا له حديثاً مؤيداً من المواقف التي يتبنّونها. وفي المقابل كان أهل الرأي أيضاً يلجأون إلى السنّة لتأييد موقفهم، ودعم موقعهم، ولم يتوانَوْا عن وضع الحديث لمصلحتهم أينما ضاقت بهم السبل([28]).
وكما يعتقد غلدتسيهر فإنه في خضم الصراع السياسي والطائفي المحتدم في المجتمع الإسلامي أقدمت كثير من المجموعات المشاركة في هذا الصراع، والمناوئة للحكّام، على وضع الحديث؛ ليخلقوا لأنفسهم مستنداً من سنّة النبيّ وسيرة صحابته في سخطهم هذا، أو لينفوا شرعية خصومهم، أو لاستهجان الحكم القائم، أو ليجعلوا الخلافة حقّاً لهذا البيت أو ذاك من قبيلة النبيّ. وبعبارةٍ أخرى: المنافسة بين القبائل، أو المدن، أو دوائر العلم أيضاً، كانت دافعاً لوضع الحديث في التقليد الإسلامي([29]).
ولقد تبنّى غلدتسيهر أصولاً مهمة في تقييمه للأحاديث، دون أن يصرِّح بها([30])، وهي:
الأوّل: المفارقة التاريخية (Anachronism) في نصّ حديثٍ ما تشير إلى أنه نشأ في أدوار لاحقة لما يدّعيه. وعلى سبيل المثال: إن تطرّق إلى أحداثٍ لم تكن وقعَتْ بعدُ في الوقت الذي يُدّعى أن الحديث صدر فيه فينبغي التعامل معه على أنه صادر لاحقاً([31]).
الثاني: إن الأحاديث التي تتضمّن تطوّر موضوع في زمنٍ قادم، و يتّصف محتواها بالتعقيد، تكون لاحقةً للأحاديث التي تكسو البساطة والسهولة محتواها([32]).
الثالث: إنْ احتوى حديثٌ صورةً عن النبيّ أو المسلمين في صدر الإسلام لم تستحسن فينبغي الأخذ به واعتباره من الأحاديث المتقدّمة. فعلى سبيل المثال: ينقل غلدتسيهر مرجحاً روايات تدلّ على أن المسلمين الجدد من العرب وغير العرب في البقاع البعيدة عن المدينة أوان الفتوحات الإسلامية لم يعرفوا كثيراً عن آداب الدين ومناسكه، فمثلاً: لم يعرفوا عدد الصلوات الواجبة ووقتها([33]).
رابعاً: ذمّ الخصوم بعضهم بعضاً، والقدح بالآخر المناهض، يرجّح حمل الحديث في طياته حوادث تاريخية([34]).
ويؤيّد جوزف شاخت، في كتابه المؤثّر والمهمّ (مبادئ الفقه الإسلامي)([35])، نظرية غلدتسيهر في شأن الحديث، أي إنه يشارك غلدتسيهر اعتقاده بأن غالبية الأحاديث والروايات المتداولة في المصادر الإسلامية موضوعة، وخاصة ما نُسب منها إلى النبيّ والصحابة في القرن الثاني الهجري وما تلاه، أي تقارن وضعها مع نشأة المذاهب الفقهية. وقد سعى شاخت لإثبات صحة نظرية غلدتسيهر من خلال مناقشة الأحاديث الفقهية، لكنْ غلب على نتائجه طابع العمومية، وشملت أصناف الحديث الأخرى أيضاً. وقد انتهج شاخت بعض السبل لتبيين تاريخ الأحاديث، وأخذ بتحليل النصّ وتقييمه، وتقييم إسناده، وحتى التأريخ للحديث بناءً على المصادر المكتوبة التي نقلت الحديث لأوّل مرة.
وقد يكون النهج الذي اتبعه شاخت للتأريخ للروايات على أساس تحليل سندها أهمّ نتائجه، وأكثرها تأثيراً في نطاق دراسة الحديث. فقد وضع خمسة أسس للتأريخ للأحاديث على أساس سندها:
الأصل الأوّل: «كلّما تأخَّر الإسناد كان أكمل، وأقلّ عرضة للنقص»([36]). فقد كان يعتقد شاخت بأن أسانيد الروايات يدخلها التصحيح عبر الزمن؛ إذ ينشئ الفقهاء تعاليم جديدة، ويسعَوْن لنسبتها إلى مصادر للحجّية أوثق وأعلى شأناً؛ طلباً لدعمها وتأصيلها. لذلك كانوا يضعون الأحاديث لدعم آرائهم، ويجعلون لها سلسلة إسناد منقحة وكاملة.
الأصل الثاني: يخصّ الظاهرة التي سمّاها شاخت «صناعة السند المعكوس» (Backwards growth of isnads). إن هذه الظاهرة تنشأ في ظروف مثل: نقل راوٍ لرواية محدّدة، فتسمع هذه الرواية وينقلها آخرون، وهكذا ينقلها عددٌ من الأشخاص عن بعضهم، وتظهر سلسلة السند متشعبة من الراوي الأول. لكنْ على أساس القاعدة يجب أن تنتهي سلسلة الإسناد إلى مصادر الحجّية الأعلى شأناً، كالنبيّ أو الصحابة. هنا يسعى الراوي الأول أو مَنْ يليه إلى إعادة بناء سلسلة الإسناد المفقودة (أي سلسلة رواة يصلون الراوي الأول بالنبيّ أو أحد الصحابة). فلنفترض بأننا نقارن مجموعتين من الأسانيد لحديثٍ واحد: المجموعة الأولى تتوقّف عند رواة متأخّرين، كالتابعين مثلاً؛ أما المجموعة الثانية فتنتهي عند مصدر حجية أعلى شأناً، كالنبي أو الصحابة. في هذه الحالة، على أساس ظاهرة «صناعة السند المعكوس» يفترض أن تكون أسانيد المجموعة الثانية متأخّرة زمنياً عن أسانيد المجموعة الأولى([37]).
الأصل الثالث: يتعلق بظاهرة سماها شاخت «تكثير الأسانيد» (Spread of isnads). كان «تكثير الأسانيد» حيلة تتبع للالتفاف على إشكالية «الخبر الواحد». «الخبر الواحد» أو «الخبر المفرد» حديثٌ نقله راوٍ واحد، ولذلك لا يمكن الوثوق به والاعتماد عليه. فشرط تصديق حديثٍ ما هو أن ينقله شاهدان أمينان([38]). على هذا الأساس كان هناك مَنْ يسعى إلى نحت رواةٍ أو مصادر حجّية أكثر؛ لتأصيل حديثٍ ما (وخاصّة إنْ كان خبر واحد)([39]). لذلك كان يعتقد شاخت بأن العثور على إسناد جديد في المصادر المتأخّرة لحديثٍ ما، يضيف في رواته أو مصادر حجّيته، يعني أن ذلك الإسناد موضوع([40]).
الأصل الرابع: يخصّ الظاهرة التي سمّاها شاخت «الحلقة المشتركة» (Common Link). فكرة «الحلقة المشتركة» هي أن يفترض طرق عدّة لرواية حديث واحد. فإنْ قارنّا أسانيده المختلفة غالباً ما سنجد راوٍ يقع في مركز تقاطع هذه الأسانيد أو أغلبها. وقد سمّى شاخت هذا الراوي بـ «الحلقة المشتركة». ويُعَدّ وجود حلقة مشتركة في كافّة الأسانيد المختلفة لروايةٍ ما، أو في أكثرها، دلالةً قاطعة على أن الحديث قد نشأ وانتشر في أيّام ذلك الشخص (أي الحلقة المشتركة)، وغالباً على يديه (أو مَنْ يستخدم اسمه). فغالباً ما تقوم الحلقة المشتركة بوضع الإسناد للرواية؛ ليملأ الفراغ بينه وبين أحد مصادر الحجّية (أي النبيّ أو الصحابة) (أي يمارس «صناعة السند المعكوس»)([41]).
أما الأصل الخامس فيعتبر أن من بين الأسانيد المتعدّدة لروايةٍ واحدة الأسانيد التي تلتف على الحلقة المشتركة، وتحذفها من سلسلة الرواة، تكون متأخِّرة من حيث الزمن([42]).
وبناءً على هذه الأسس والمعايير ينتهي شاخت إلى شكٍّ مفرط بالأحاديث والروايات في المصادر الإسلامية، شكٍّ انتقل فيما بعد إلى المحقِّقين في مجال الحديث، من الأجيال القادمة.
ويبدو أن تبنّي الشكّ المفرط والواسع بالأحاديث لدى غلدتسيهر وشاخت ينتهي بنا حتماً إلى الشكّ في مصداقية الأحاديث التي يبتني عليها الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ جمع القرآن وتدوينه. وتبعاً لذلك لا بُدَّ أن نعتبر الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ جمع القرآن وتدوينه غير مستدلّ.
النقد الأقصى على الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ المصحف
إن أهمّ روّاد «النقد الأقصى» على الفهم التقليدي لدى المسلمين لتاريخ المصحف هما: جان ونزبرو في كتابه مطالعات قرآنية([43])؛ وجان برتن في كتابه جمع القرآن وتدوينه([44]). وكانا يعتقدان بأن الفهم التقليدي لتاريخ المصحف لدى المسلمين لم يتمّ البرهنة عليه، بل ادّعيا أن قرائن داخل النصّ أو خارجه ترجّح أن هذا الفهم مباين للصواب. وقد تأثّر الاثنان عميقاً بأبحاث غلدتسيهر وشاخت، وعدّا وجهة نظر الأخيرين مسلّماً بها في بحثهما. وبناءً على ذلك استنتجا أن كافّة الأحاديث والروايات التي يستند إليها المسلمون في شأن جمع مصحف القرآن وتحريره وتدوينه ليست موثوقاً بها من الناحية التاريخية، وينبغي حملها على أنها تداعيات الجدل الفقهي والكلامي في المجتمع الإسلامي نهاية القرن الهجري الثاني وما تلاه.
وما يجدر الالتفات إليه هنا أن بحثي ونزبرو وبرتن حول تاريخ جمع القرآن وتدوينه قد أُجريا في إطارٍ نظري واحد (أي على أساس قواعد غلدتسيهر وشاخت)، ونُشرا في نفس الوقت تقريباً (عام 1977م)، لكنهما انتهيا إلى نتيجتين مختلفتين([45]).
فقد انتهى برتن، بعد تحليلٍ تفصيلي لروايات المسلمين عن جمع القرآن وتدوينه، إلى أن كافّة الروايات حول جمع القرآن وتدوينه بعد وفاة النبيّ مختلقة. ويعتقد بأن «نسخة أبي بكر» و«نسخة عثمان» لم تكونا حقيقيتين، ومصحف القرآن بشكله الحالي جُمع ودُوِّن واتّخذ شكله النهائي في زمن نبيّ الإسلام وبإشرافه. لكنّ فقهاء الأدوار اللاحقة اختلقوا أحاديث عن جمع القرآن وتدوينه بعد وفاة نبيّ الإسلام، وادّعوا بأن مصحف القرآن نسخة ناقصة، ولا تحوي جميع ما أُوحي من القرآن، ولم يكن للنبيّ ضلعٌ في جمعه وتدوينه.
لكنْ ما الذي دفع بهؤلاء الفقهاء لاختلاق تاريخٍ كاذب لجمع القرآن وتدوينه؟ يبرِّر برتن ذلك بوجود أحكام وطرائق حقوقية متعارفة بين هؤلاء الفقهاء لم تبتنِ على القرآن([46])، وحتّى تناقض نصّ مصحف القرآن. فكان الفقهاء يلجأون في كثير من الأحيان إلى نظرية النسخ، ويستندون إلى نسخ السنّة للقرآن، ويفتعلون مشروعية دينية للأحكام الحقوقية. لكنْ أدّى تباين هذه الأحكام والطرائق الحقوقية أو منافاتها للقرآن إلى ظهور إشكاليات ونقد واعتراض من قِبَل التوجُّه التقليدي في المجتمع الإسلامي، وخاصّة أن المذاهب الفقهية اعترفت بالقرآن كمصدرٍ أساس لنظامها الحقوقي منذ زمنٍ محدّد. لذلك اضطر الفقهاء إلى الالتفات الجادّ إلى القرآن في استنباطاتهم الفقهية، لكنْ لم يكن من اليسير إيجاد المواءمة بين مصحف القرآن وتلك الأحكام الحقوقية. وفي مثل هذه الظروف سعى الفقهاء إلى حذف النبيّ من عملية جمع القرآن وتدوينه، وأكّدوا على أن مصحف القرآن نسخةً ناقصة من الوحي القرآني. وقد كانوا يستهدفون أمرين على وجه الخصوص من ذلك:
الأوّل: حين يكون حكم حقوقي متفقاً عليه في الفقه، ولم يذكر عنه شيء في المصحف، فمن السهولة بمكان إرجاع ذلك الحكم إلى مصدرٍ قرآني غير المصحف الموجود، وتبريره وإضفاء المشروعية عليه.
الثاني: في أجزاء من العالم الإسلامي كثيراً ما كان الفقهاء يتبعون الأحكام والطرائق الحقوقية المتداولة في تلك المناطق فيما مضى، فإنْ حاججهم أحدٌ وخالفهم استناداً إلى المصحف (أي النسخة الرسمية الموجودة) كانوا يدافعون عن نهج سكان تلك المناطق في ما يخصّ تلك الموضوعات استناداً إلى النسخ الأخرى من القرآن، والتي كانت معروفةً ومتداولة في تلك المناطق([47]).
فعلى سبيل المثال: كان لدى جميع الفقهاء تقريباً إجماع على أن حكم بعض أنواع الزنى هو الرجم. لكنْ ليس في القرآن دلالة على ذلك، بل يبين القرآن صراحةً حكم الزنى، وليس رجماً([48]). في مثل هذا الحكم برَّر بعض الفقهاء بأن حكم القرآن قد نُسخ بالسنّة (على سبيل المثال: خبر واحد عن الخليفة الثاني عمر)؛ وقد ادّعى آخرون بأن المصحف المتداول لا يحتوي كلّ القرآن، وقد ورد حكم الرجم في أجزاء محذوفة من القرآن. أي إن آية الرجم قد فقدت، لكنّ الحكم باقٍ (رفع رسمه وبقي حكمه). فكما يدعي هؤلاء إن القرآن قد نسخ الحكم السابق للزنى (وهو الجلد) بالحكم اللاحق (أي الرجم المحذوف من المصحف)([49]).
ولذلك فإن تصديق المجتمع الإسلامي بأن مصحف القرآن نسخةٌ ناقصة كان يتيح للفقهاء ادّعاء أن الطرائق الحقوقية المتَّبعة فيما بينهم تنبع من الأجزاء المحذوفة من مصحف القرآن.
لكنْ يبرهن برتن على أن مصحف القرآن هو الوحيد الذي يتمتَّع بالقبول من الناحية التاريخية، دون الروايات والأحاديث التي اختلقت فيما بعد عن جمع القرآن وتدوينه([50]). ولذلك يرفض برتن الفهم التقليدي للمسلمين عن تاريخ المصحف، لكنْ لا تنقض نظريته «القضية الأساسية» (أي الاعتقاد بأن مصحف القرآن يحتوي الآيات الموحية التي ألقاها النبيّ على أتباعه)، بل تؤكّد استقامة هذه التعاليم.
إذن لا يؤدّي رفض الفهم التقليدي لدى المسلمين من تاريخ المصحف إلى رفض «القضية الأساسية». ولذلك في سياق هذا البحث يستحوذ تحليل منظور ونزبرو لتاريخ نشوء القرآن على الأولوية؛ إذ إنه (خلافاً لبرتن) ينتهي إلى رفض «القضية الأساسية» من خلال رفضه للفهم التقليدي لدى المسلمين لتاريخ المصحف.
إن ونزبرو من الباحثين البارزين في القرآن، ويتسم توجّهه بـ «التعديلية». إن المحقّقين الذين يتبعون هذا التوجّه، على الرغم من اختلافاتهم، يرفضون جميعاً الإطار العام للفهم التقليدي لدى المسلمين لنشوء القرآن. لكنّ تقديم تقرير عن آراء ونزبرو في كتابه مطالعات قرآنية ليس بالأمر اليسير. فأسلوبه في الكتابة، كما يؤيِّد ذلك ذوو الخبرة، معقَّد، ويفتقد نصُّه إلى السلاسة، مما يجعل فهمه صعباً([51]).
لكن ونزبرو، خلافاً لبرتن، كان يعتقد بأن مصحف القرآن أُعِدّ وصيغ بأيدي المسلمين حوالي القرن الثالث الهجري؛ لما اقتضته الضرورة في المجتمع الإسلامي، على أساس نسخةٍ سابقة تحوي أقوال النبيّ وخطاباته. كما يعتقد بأن النسخة المتقدّمة التي استُقي القرآن منها يحتمل ظهورها في القرنين الأولين الهجريين في بلاد الرافدين. لكنْ ما الذي يستند عليه ونزبرو في تبرير هذا الادّعاء؟
لا بُدَّ لي هنا من الاكتفاء بتبيين الإطار الأساسي لأهمّ أبحاثه التي جاء بها، وخاصّة في نقد الفهم التقليدي لدى المسلمين لتاريخ جمع القرآن وتدوينه:
ابتنى استدلال ونزبرو الأول والمعروف على مصادر غير القرآن. فأقدم المصادر الأدبية العربية ـ الإسلامية هي: كتب السيرة، والتفسير، والفقه، والصرف، والنحو، والتي تمّ تأليفها في أيام العباسيين. وتدّعي أكثر هذه المصادر أنها تنقل معلومات عن الأجيال السابقة، وخاصّة نبيّ الإسلام. وبالطبع هذا الادّعاء بحدّ ذاته، كما مرّ، تعرّض للنقد من قبل غلدتسيهر وشاخت. لكنْ هناك أمرٌ محدَّد لفت انتباه ونزبرو في هذا الموضوع([52]). فبناءً على تحقيقات شاخت لم تُحِلْ المصادر الإسلامية الأولى إلى القرآن، إلاّ في ما ندر. وعلى سبيل المثال: إبّان تشكُّل الفقه وتطوّره نادراً ما كانت تستند الأحكام والطرائق الحقوقية على محتوى القرآن. وحتّى في المواضع التي أحيل فيها إلى القرآن من الصعب القبول بأن تلك الإرجاعات كانت على نصٍّ رسميّ متأصّل. فمثلاً: لا نجد أيّ إحالة إلى القرآن في كتاب الفقه الأكبر، الذي يعتقد بأنه ظهر في منتصف القرن الهجري الثاني([53]). أما التفسير الحقوقي للقرآن فقد ظهر في القرن الثالث الهجري. كما لم يكن هناك تفاسير على حاشية نصّ القرآن توضِّح القضايا اللغوية والقواعد (ما يسمى التفسير النصّي Masoretic exegesis)([54]) حتّى القرن الثالث. أما ظهور آداب القراءات المختلفة للقرآن (المصاحف) فتلا ذلك بفترةٍ([55]). ولذلك يعتقد ونزبرو بأن تاريخ ظهور القرآن بشكله النهائي لا يمكن أن يكون قبل اعتماده كمصدرٍ من قِبَل كتب السيرة، والتفسير، والفقه، والصرف، والنحو، وإحالتها عليه. «فمن الناحية المنطقية أعتقد بأنه من غير الممكن أن يصبح القرآن نصّاً رسمياً قبل (وليس بعد) أن يحظى بالسلطة والقبول كنصٍّ مقدَّس. كما لا تفيد الأبحاث في الأدب العربي، من حيث التسلسل الزمني، وجود نصٍّ رسميّ قبل القرن الثالث الهجري»([56]). وبعبارةٍ أخرى: يرى ونزبرو بأن عدم إحالة المصادر الأولى على القرآن كمصدر قبل القرن الثالث الهجري هو عدم وجود نصّ رسميّ متأصّل للقرآن إلى ذلك الحين. ولذلك يرى بأن النصّ الرسميّ المتأصِّل للقرآن لا بُدَّ أنه نشأ في العراق في العصر العباسي، وليس في الحجاز. وبالطبع لا ينفي احتمال وجود أوّليات لهذه النسخة الرسمية قبل عصر ازدهار الأدب العظيم المستقى من القرآن، لكنّه يستبعد تماماً وجود نسخة رسمية متأصلة، كنسخة عثمان قبل ذلك([57]).
استدلال ونزبر الثاني يدور حول الماهية الأدبية لنصّ المصحف وحبكته؛ إذ لا يجد بعد تحليل حبكة النصّ تخطيطاً دقيقاً ومسبقاً له. فعلى سبيل المثال: يبدو أن «تاريخ الخلاص» (salvation history) أو المضامين والأجزاء التي تتعلَّق بالأخلاق أو ما يخصّ آخر الزمان في القرآن قد جمع من مفاهيم شرائع عدّة. كما أن هناك كثيراً من التكرار والحذف في النصّ. ويعتقد ونزبرو أن أموراً كهذه تجعل من الصعب تصديق أن النصّ الحاضر نتيجة عمل دقيق ومنظّم لشخصٍ واحد، أو حتّى لجنة صياغة وتدوين خاصّة، بل الأَوْلى بنا افتراض أن مقاطعه المختلفة قد تشكّلت خلال الزمن، مستقلّةً عن بعضها، ثم وضعت فيما بعد معاً على أساس قواعد بلاغية محدودة([58]). ويقول ونزبرو عن ذلك: «إن الإطار العام للوحي يحوي قواعد، تتبع لتبيين المحتوى الأساسي لإلهيات القرآن. إن هذه القواعد التي تعرض مجموعة ضئيلة من المفردات ترجح أن النصّ نشأ من تلفيق نسخ أو مقاطع سابقة لم تكن على صلةٍ ببعضها»([59]). ويعتقد ونزبرو بأن هذه الفرضية تبرِّر جيداً «صفة التكرار في النصّ»، وكذلك «أسلوبه المتجانس»([60]). كما يرى أن من الممكن اعتبار هذه المقاطع المستقلة، التي أصبحت أساساً لتدوين المصحف، مجموعة من «كلمات رسالية أو نبوية» (Logia Prophetic)، فتحليل حبكة هذه المقاطع تبين تنوُّع صياغتها الأدبية. وقد استخدم الأدب النبوي في الشريعة اليهودية، وفي نصوص التوراة وما تلاها، أساليب خاصة كالتي تبتني على «البداهة» (apodictic)، و«الاستفهام» (supplicatory)، و«السرد» (narrative)، لتبيين المضامين الأساسية لرسالة السماء (أي «العقاب والثواب» (retribution)، «الآية والعلامة» (sign)، «الضياع والهجرة» (exile)، «العهد والميثاق» (covenant))([61]). ويبيِّن ونزبرو بأن هذه الأساليب تلاحظ بوضوح في الخطاب النبوي الذي ينشئ القرآن([62]). ففي نصّ مصحف القرآن تُعَدّ هذه الأقوال بشكلٍ غير منتظم كلام الله، لكنّ هذه الأجزاء تُعَدّ تقريراً عن كلام الله إنْ جاءت خارج نصّ المصحف([63]).
ويعتقد ونزبرو بأن المسيح واليهود كانوا يتحدَّون باستمرار دين العرب الحديث، في العصر العبّاسي بالعراق، فراج التحزُّب والارتداد. لذلك قام المسلمون بتحرير الأجزاء المشتّتة أو النسخ المتناثرة من الخطاب النبوي الموجودة من قبل في قالب نصّ مقدّس واحد، ليردّوا على تلك التحديات (لا تحدّيات الكفّار من عبدة الأصنام)، وأنشأوا آنذاك «تاريخ خلاصهم». إذن لم يكن مصحف القرآن وتاريخ خلاص المسلمين انعكاساً لتجربة النبيّ الحقيقية في القرن السابع الميلادي بالحجاز([64]).
الدليل الثالث الذي يقدّمه ونزبرو هو نقد الوجود التاريخي لنسخة عثمان. فكما أشرنا سلفاً بناء على المصادر الإسلامية كان هناك عددٌ من النسخ للقرآن (على الأقلّ) وقت جمع نسخة عثمان وتدوينها مستقلّةً عنها. لكنْ بناء على ما ترويه تلك المصادر، وبعد أن اكتملت نسخة عثمان، أمر الخليفة بجمع النسخ الأخرى وإتلافها. ويدّعي ونزبرو أن تحليل ما تبقّى من النسخ القديمة يبين أن هناك اختلافاً ضئيلاً بينها وبين نسخة عثمان. فهل كان في هذه الحالة ما يدفع بالخليفة إلى الأمر بإتلاف النسخ الأخرى، وخاصة أن الانحراف الطفيف عن نصّ المصحف كان يتوافق مع مفهوم «الأحرف» أو تعدُّد القراءات (على الأقلّ مع قسمٍ من تفاسيره)؟([65]). ولذلك لفهم الروايات حول نسخة عثمان إما أن نفترض أن عمل إتلاف النسخ التي تختلف جوهرياً عن نسخة عثمان كان سريعاً وشاملاً، بحيث لم يبْقَ أثرٌ عن تلك النسخ؛ وإما أن نفترض أن الروايات حول نسخة عثمان مختلقة، وكانت تهدف تحقيق أمرٍ آخر.
يعتقد ونزبرو أن الخيار الأوّل لا يوافق التعاقب الزمني للخطاب الذي يخصّ القرآن. فعلى سبيل المثال: في تلك المصادر لم تَرِدْ إشارة واضحة إلى نصّ رسمي (canon) حين اقتضى الأمر ذلك. إذن يرى ونزبرو أن الخيار الثاني أقرب إلى التصديق؛ إذ يبين في نفس الوقت كيف أن المجتمع المسلم الحديث سعى لتقديم رواية عن منشئه([66]). وينبغي أن نضيف أن ونزبرو يرى تنوّع النسخ أو القراءات قد ظهر نتيجة التعديلات وإجراءات المراجعة الصرفية والنحوية التي قام بها المفسّرون خلال ما يقارب قرنين، حيث لم يكن النصّ المقدس مكتملاً ومتأصّلاً بعد([67]).
وفي النهاية إن مصحف القرآن باللغة العربية الكلاسيكية. ويعتقد نولدكه أن القرآن قد حفظ الصورة الأصيلة لهذه اللغة الكلاسيكية، والتي لم تطَلْها يد التحريف (وإنْ عثر على كثير من الأخطاء النحوية في النصّ). لكنْ يرى كارل ولرز([68])أن القرآن قد تمّ تحريره ابتداءً بلهجة القبيلة الأصيلة، ثم طالته يد التغيير والتعديل، حتى طابق اللغة العربية الكلاسيكية. أما ونزبرو فيخالف النظريتين. ويبرّر ذلك باقتران ظهور اللغة العربية الكلاسيكة على أيدي النحاة بتوقيت جمع القرآن وتدوينه في القرن الثاني الهجري. فخلافاً لنولدكه، لا يرى ونزبرو معنى للحديث عن «الأخطاء النحوية» في القرآن؛ إذ لم يتوفر آنذك معيارٌ يعدّ انحراف القرآن عنه «خطأ». ومن ناحيةٍ أخرى، خلافاً لولرز، يعتقد ونزبرو بأن اللغة العربية الكلاسيكية لم تكن موجودة في الوقت الذي يدّعيه، حتى يتمّ تعديل لغة القرآن الأصلية وتغييرها على أساس تلك اللغة الكلاسيكية، فيرى ولرز أن عملية كتابة القرآن باللغة العربية الكلاسيكة واكبت نشوء تلك اللغة وتكاملها. لذلك يقول ونزبرو أن لا وجود للغة العربية الكلاسيكية قبل القرن الهجري الثاني، ليكتب القرآن بها([69]).
وبناءً على الأدلة التي مرّ ذكرها يشكّك ونزبرو في صحة الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ جمع القرآن وتدوينه. وبالطبع يقرّ بـ «طابع الفرضية» في رأيه([70]). لكنْ إنْ صحّت نظريته حول تاريخ نشوء القرآن فمن الصعب التصديق بأن مصحف القرآن يحتوي آيات الوحي التي تلاها النبيّ على أتباعه، أي إن اعتماد نظرية ونزبرو ينتهي بنا إلى رفض «القضية الأساسية».
تقييم النقد التاريخي على الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ المصحف
من المفيد هنا أن نراجع بدقّة أكبر النقد التاريخي على الفهم التقليدي لدى المسلمين عن تاريخ المصحف:
(أولاً) أحد أصول منهج النقد لدى شاخت، كما رأينا، كان أصل «صناعة السند المعكوس». وبناءً على هذا الأصل «الحلقة المشتركة» هو منشئ الرواية أو مختلقها، وسلسلة الرواة التي تربط الحلقة المشتركة بالنبيّ مختلقةٌ أيضاً، وغالب الظنّ أن الحلقة المشتركة هو مَنْ اختلقها. وبعبارةٍ أخرى: يستدلّ شاخت كما يلي:
(1) لا يمكن الجزم بمجرد تحليل إسناد روايةٍ ما بأن الحلقة المشتركة قد سمع الرواية من شخصٍ آخر أو لم يسمعها.
(2) ولذلك علينا أن نعتبر الحلقة المشتركة مبدأ الرواية ومختلقها، ولم يسمعها من آخر.
قد يبدو أن هذا الاستنتاج يصحّ في بعض المواضع، أي في تحليل بعض الأحاديث يكون الخبر (1) أساساً مقبولاً لتصديق الخبر (2). لكنّ صحة ذلك في بعض المواضع لا يجعل منها قاعدة عامة بأن تكون صحيحة دائماً. ففي الحقيقة صاغ شاخت أصل «وضع السند المعكوس» على أساس تحليل عددٍ محدود من الروايات (وخاصّة الروايات التي تتعلّق بالقضايا الحقوقية)، ثم جعل منه أصلاً عاماً يقيس عليه جميع الروايات. لكنْ يبدو هذا التعميم مستعجلاً، فلا يمكن إصدار حكمٍ عامّ على جميع الروايات بتحليل عددٍ محدود منها. فيرد الاحتمال قوياً (على الأقلّ في بعض منها) أن يكون الحلقة المشتركة قد سمع الرواية من أحد أفراد سلسلة الرواة تلك. ولا يمكن رفض هذا الاحتمال بتلك الطريقة.
(ثانياً) ما الذي يمكن أن يُقال عن أصل «تكثير الأسانيد»؟ يعتقد مايكل كوك أن أمام الباحثين الذين يؤمنون بمصداقية الحديث خيارين: (1) إما أن يثبتوا أن ظاهرة «تكثير الأسانيد» لم تكن شائعة، ولم تقع في نطاقٍ واسع، وآنذاك عليهم أن يعدّوا الأحاديث المتواترة من الأحاديث الصحيحة من الناحية التاريخية؛ (2) وإما أن يذعنوا بأن علماء المسلمين قاموا بوضع الأسانيد في نطاقٍ واسع، ولذلك لا يمكن معرفة تاريخ روايةٍ ما من سندها، وخاصة حين يتعلّق الأمر بوجود الحلقة المشتركة([71]).
الإشكالية الأصلية التي يواجهها هذا الاستدلال هي أن شاخت وكوك لم يبيِّنا أن ظاهرة «تكثير الأسانيد» كانت واسعة وشائعة. وفي الحقيقة قاما بتقديم احتمالين:
(1) بيَّنا الدوافع الكامنة لدى علماء المسلمين، والتي تدفعهم إلى وضع الحديث.
(2) بيَّنا الطرق الممكنة لوضع الأسانيد للروايات.
لكنْ لم يبيِّنا أن هذه الممكنات تحققت بالفعل، أي قدّموا في كتاباتهم عدداً ضئيلاً من الشواهد الدالة على أن علماء المسلمين عملوا حقيقة بناء على تلك الدوافع، واستخدموا تلك الطرق (في نطاقٍ واسع) حقيقة لوضع الأسانيد([72]). كما أن الشواهد المتوفرة ترجّح بأن ظاهرة «تكثير الأسانيد» لم تكن شائعةً وواسعة. إن تقييم الروايات من خلال الأسناد كانت طريقة للاطمئنان من صحة عملية نقل الروايات. فكان الأصل في هذه الطريقة بأن يقوم الراوي بذكر مصدر خبره بصدقٍ وصراحة، وإن لم يفعل ذلك تعمّد وضع السند، وكان عمله خاطئاً وافتراء. وقد كانت هذه الطريقة معروفة في الأوساط العلمية، وكان الوسط العلمي حريصاً على المحافظة عليها عملياً، والحذر من أن يخلّ بها أحد. وبالطبع لا يعني ذلك أنه لم يتخلَّف عنها أحد، ولم يوضع سندٌ. لكنْ من المستبعد جدّاً أن تكون ظاهرة وضع الأسانيد واسعة وشائعة في الأوساط العلمية (وخاصّة بين المحدّثين). فإنْ كانت قواعد نقل الأسانيد الدقيقة والحريصة وضعت فقط لتضليل المخاطبين وخداعهم بأن الأحاديث صادقة وموثوق بها فهي ضربٌ من العبث؛ إذ كان الجميع يعلم سلفاً بأن الأسانيد موضوعة، واختلقت لتبدو الروايات صادقة ويمكن الوثوق بها. فهل كان الشافعي يعتقد بأن غالبية الأسانيد موضوعة حين دعا إلى الاستناد إلى الأحاديث صحيحة السند؟! فلِمَ التأكيد على صحة سند تلك الأحاديث؟! وإنْ كان وضع السند شائعاً في نطاق واسع فمَنْ الذي يفترض أن يخدع ويضلل بذلك؟ فهل في وضع كهذا كان من الممكن أن يحاجج فقيهٌ ما آخر بناء على «صحة» سند الرواية؟! يبدو أن الفهم العام في الأوساط العلمية للمسلمين هو أن ظاهرة وضع السند وتكثيره لم تكن بالسعة التي تجعل الأخذ بالأسانيد في عملية تقييم صحّة الحديث عقيماً. ولذلك يدفعنا الفهم العام لعلماء المسلمين عن الطريقة العلمية لنقل الحديث إلى أن الأسانيد كانت غالباً على درجة من الدقّة والأمانة، لتصبح معياراً لتعيين صحّة الأحاديث لدى أهل العلم([73]).
(ثالثاً) يعتقد هارالد موتسكي أنه من الممكن تقديم تفسير بديل لنظرية شاخت حول «الحلقة المشتركة»، وبناءً عليه يتم تبيين تاريخ الروايات بشكلٍ أكثر دقة([74]). فكما رأينا يعتقد شاخت بأن «الحلقة المشتركة» هو منشئ الحديث وواضعه. لكنْ يعتقد موتسكي بأن القرائن تدلّ على أن الحلقات المشتركة في كثير من الأحيان هم روّاد جمع الحديث، الذين سعَوْا لنشر تلك الأحاديث بصورةٍ منهجية. ويتفق موتسكي مع شاخت في أن سلسلة الرواة التي تربط الحلقة المشتركة بجامعي الأحاديث اللاحقين (أي جزء من الأسانيد التي يسمّيها شاخت «الجزء الحقيقي») غالباً ما تكون حقيقية. لكنْ إنْ صدقنا بأن غالبية رواة «الجزء الحقيقي» حقيقيون لِمَ علينا الحكم مسبقاً وبشكلٍ قاطع بأن «الحلقة المشتركة» لا يمكنها أن تكون «راوياً حقيقياً»، ولا بُدَّ أن يكون واضعاً للحديث؟ ولِمَ لا يمكن افتراض أن «الحلقة المشتركة» قد سمع الحديث حقيقةً من مصدرٍ آخر؟ (وبالطبع لا يعني ذلك أن الحلقات المشتركة لم يقوموا إطلاقاً بوضع الحديث، أو لم يغيِّروا عمداً أو سهواً في نصّ الحديث أو سنده، أو لم يخطئوا في ذكر اسم المصدر الذي سمعوا منه الحديث)([75]). فإنْ أخذنا بتفسير موتسكي لنظرية «الحلقة المشتركة» آنذاك لنا أن نعتقد بأن «الحلقة المشتركة» أخذ الحديث (أو فحواه) عن شخصٍ أو أشخاص آخرين، إلاّ إذا ثبت خلاف ذلك. فبناءً على تفسير موتسكي لم يعُدْ «الحلقة المشتركة» محور الاهتمام، وإنما مصدر خبره، أو بعبارةٍ أدقّ: تاريخ وفاته أو تاريخ ارتباطه بالحلقة المشتركة([76]). وهذا التغيير يهمّنا من حيث إنه يتيح لنا الاطلاع على تاريخ الرواية قبل «الحلقة المشتركة».
(رابعاً) لم يناقش غلدتسيهر وشاخت الروايات حول جمع القرآن وتدوينه بشكلٍ مستقلّ، وغالباً ما اعتمد ونزبرو نتائج أبحاثهما حول المصداقية التاريخية للأحاديث، وافترض عدم مصداقية الروايات حول جمع القرآن وتدوينه. لكنْ على الرغم من إفقاد الروايات الإسلامية مصداقيتها، يعتقد كثيرٌ من المحقِّقين الغربيين في شأن القرآن، ومنهم: غلدتسيهر وشاخت، أن تاريخ القرآن يعود إلى أيام نبي الإسلام، بناءً على تلك الروايات، وعدّوه أصدق مصدر عن حياة نبيّ الإسلام وتعاليمه([77]).
أما موتسكي فقد ناقش مفصلاً الروايات التاريخية حول مصحف أبي بكر وعثمان، في إطار تفسيره لنظرية شاخت «الحلقة المشتركة»([78]). وينتهي إلى «أن الروايتين اللتين تبينان تاريخ مصحف القرآن، وقد أخذ بهما معظم علماء المسلمين، نشرا من قبل ابن شهاب [الزهري]، ويمكننا ردّها إلى الربع الأول من القرن الهجري الثاني»([79]). فإنْ أخذنا بتحليل موتسكي علينا أن نعتبر رأي ونزبرو مجانباً للصواب؛ إذ رجع بتاريخ الروايات حول جمع القرآن وتدوينه إلى بداية القرن الثالث الهجري وما تلاها.
(خامساً) هناك قرائن أخرى تدلّ على أن نظرية ونزبرو حول تاريخ تدوين القرآن (بداية القرن الثالث الهجري وما تلاه) غير صائبة. فعلى سبيل المثال: بعد عدّة سنوات من نشر كتاب ونزبرو عثر على أجزاء كبيرة من كتاب الردّ والفتوح الكبير، لسيف بن عمر، وقد ورد فيها تقرير عن كيفية جمع مصحف عثمان وتدوينه([80]). وقد توفي سيف بن عمر حوالي عام 200هـ، وإنْ افترضنا أنه ألّف كتابه في النصف الثاني من عمره فيكون قد ألّفه في النصف الثاني من القرن الهجري الثاني، أي لا يمكن أن يتجاوز تقريره 120 عاماً بعد تاريخ تدوين مصحف عثمان (بناءً على القول المشهور). لكنْ إنْ أخذنا بتحليل ونزبرو فيعني ذلك عدم وجود نسخة نهائية للقرآن أساساً أيام سيف بن عمر([81]).
(سادساً) يعتقد فرد دانر([82]) أيضاً أن نظرية ونزبرو حول تاريخ القرآن غير صائبة إطلاقاً؛ إذ يرى (أوّلاً) أن تحليل حبكة القرآن يدفع إلى أن نصّه قد تم تأصيله قبل الحروب الداخلية الأولى بين المسلمين، المعروفة بـ «الفتنة»، أي قبل الأعوام 34 إلى 40هـ. فإنْ لم يكن كذلك لوجدنا دون شكٍّ كثيراً من التخبُّط الزمني في النص الحالي للقرآن، الأمر الذي لم نعثر عليه؛ (ثانياً) أن الأبحاث الأخيرة في أقدم نسخ موجودة من القرآن تبيّن أنه قد تم تأصيله كنصّ مقدَّس حتى نهاية القرن الأول الهجري على أكثر تقدير([83]). فعلى سبيل المثال: يعود تاريخ الأجزاء التي عثر عليها من «نسخة صنعاء» للقرآن إلى النصف الثاني من القرن الأول الهجري. وقد أكّد الباحثون أن هذه النسخة تطابق نسخة عثمان دون أيّ تغيير، كما تحوي سور أول القرآن وآخره، والتي لا ترى في سائر المصاحف، غير نسخة عثمان([84]).
الحقيقة هي أن نظرية ونزبرو حول تاريخ نشأة القرآن لم تَلْقَ قبولاً واسعاً بين الباحثين في تاريخ القرآن، وإنْ وجدوه ذو رؤية ثاقبة في التفاتاته التاريخية ومعرفته بالأساليب([85]). فبشكلٍ عامّ الباحثون في شأن القرآن، الذين يرفضون الفهم التقليدي للمسلمين عن كيفية نشأة القرآن، ويدعون إلى إعادة النظر فيه، لم يقدّموا رواية منسجمة منتظمة عن هذه الظاهرة، وكلّ ما فعلوه هو الإدلاء بفرضيات (من الناحية العلمية) غالباً ما تكون متضاربة، وفي بعض الأحيان جريئة([86]).
في هذه الحالة يبدو استنتاج موتسكي حول مصداقية الفهم التقليدي للمسلمين عن كيفية جمع القرآن وتدوينه، أكثر تحفّظاً: «لا يمكننا إثبات أن الأخبار حول تاريخ القرآن وما يزعم من أحداث وقعت حين جمعه وتدوينه تعود إلى شهود عيان. ولا يمكننا الاطمئنان إلى أن الأمور جَرَتْ كما ذكرت في الروايات. مع ذلك إن الأخبار التي لدى المسلمين أقدم من افتراضات الباحثين الغربيين، ولذلك هي أقرب زمناً للأحداث المزعومة. وصحيح أن هذه الأخبار تحوي جزئيات لا يمكن تصديقها ـ وإنْ أردنا التحفُّظ ـ، وتحتاج إلى تفسيرٍ، لكنْ هناك بونٌ شاسع بين ما يدّعيه الغربيون وما يقدِّمه المنظور الغربي من أخبار يدّعي أنها أقرب للتصديق وأكثر مصداقية من حيث التاريخ بَدَل روايات المسلمين»([87]).
حصيلة البحث
بناءً على ما مرّ تبين أن المسلمين الذين يعدّون «القرآن» كلام الله، على أساس أمانة راوٍ صادق (أي النبيّ الأمين)، يمكنهم الاعتقاد بطريقةٍ مقبولة أن «المصحف» الموجود يحوي كلام الله، بشرط أن يحوي «المصحف» «القرآن». إن هذا الاعتقاد مقبول عقلاً، إذا لم يكن هناك ناقضٌ لـ «القضية الأساسية» (أي الاعتقاد بأن «مصحف القرآن يحتوي آيات قرأها شخص نبيّ الإسلام كآيات وحيٍ على أتباعه») لم يدحض. وقد بيَّن هذا البحث أن عدداً من الأبحاث التاريخية المتأخّرة في نقد «القضية الأساسية» لم تتّسم بالقاطعية اللازمة من الناحية العقلية، كي تثني المعتقدين بـ «القضية الأساسية» عن التمسُّك بها. وبعبارةٍ أخرى: لا وجود بعد لما ينقض «القضية الأساسية»، ولم تدحض حتّى الآن، ولذلك للمسلمين الاعتقاد بنحوٍ مقبول عقلاً بأن القرآن الذي بين أيديهم يحتوي على كلام الله.
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتبٌ متخصِّص في مجال فلسفة الدين وعلم المعرفة.
([1]) يندر اليوم أن يعتبر فيلسوف وجود الله ممتنعاً من الناحية الميتافيزيقية. فالحدّ الأقصى الذي يذهب إليه غالبية الذين لا يعتقدون بوجود الله من المثقفين أنهم يعتبرون وجوده غير محتمل. لذلك أجعل من إمكان وجود الله أمراً مفترضاً هنا. لكنْ عن إمكان مخاطبة الله للإنسان تحدثت كثيراً في مقالات أخرى، وقد أثبتّ أن بالإمكان الدفاع عن الوحي اللساني في إطار نوع من الإبستمولوجيا. للتفصيل راجع: آرش نراقي، «إمكان وساختار وحي زباني»، في كتاب حديث حاضر وغايب: 135 ـ 150، نگاه معاصر، ط1، 1390؛ كذلك: «نقدي بر نظريه قرائت نبوي أز جهان (2)»، المصدر السابق: 237 ـ 245.
([2]) قد ناقشت في ما مضى بعضاً من النقد الكلامي والفلسفي الوارد من قبل النقّاد (الدينيين) في موضعٍ آخر، ولذلك ذكرته من باب الافتراض هنا. للاطلاع على نقدي على تلك الآراء راجِعْ كتاب حديث حاضر وغايب، الفصول 6 ـ 7 ـ 8، وأيضاً الفصول 10 ـ 11 ـ 12 ـ 13 ـ 14.
([3]) على سبيل المثال: قد ورد في بعض المصادر الإسلامية أن عمراً، استناداً إلى بعض المصادر، اضطلع في تدوين «نسخة أبي بكر»، فكان لا يثبت فيها آيةً إلا إذا دعم صحتها شاهدان. فقد قيل: إنه لم يثبت آية الرجم؛ إذ لم يؤيدها شاهدان. راجع: السيوطي، الإتقان في علوم القرآن: 137، القاهرة، 1318؛ وكذلك: عبدالرحمن بن عليّ بن محمد بن علي بن الجوزي، كتاب النواسخ القرآن 2: 357). ويعتقد عدد من علماء الشيعة أن الآيات التي تدل على ولاية الأئمة محذوفةٌ من القرآن. وقد جمع المحدِّث النوري في الكتاب التالي عدداً كبيراً من الأحاديث الشيعية عن تحريف القرآن ونقصه. حسين النوري، فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب، الطبعة الحجرية، 1298هـ. ويمكن العثور على نسخةٍ من الكتاب في العنوان التالي:
http: //www. jesus ـ for ـ all. net/hewar adyan/pdf 236. pdf
كما أن هناك نسخة منقَّحة من هذا الكتاب يصحبه نقدٌ عليه في العنوان التالي:
http: //ia600409. us. archive. org/14/items/fasl khtab nakd/fasl khtab nakd. pdf
وقد لاقى هذا الكتاب معارضات وانتقادات كثيرة من علماء الشيعة. فمثلاً: راجع: محمد هادي معرفت، صيانة القرآن من التحريف، دفتر انتشارات إسلامي وابسته به جامعه مدرسين حوزه علمية، قم، 1413.
([4]) تدّعي عدد من المصادر الإسلامية أن بعض الآيات زيدت في القرآن لاحقاً. فعلى سبيل المثال: قد ورد اسم «محمد» أربع مرات في القرآن. ويدّعي عدد من الباحثين أن هذه الأجزاء لم تكن في النسخ الأقدم للقرآن، وقد زيدت لاحقاً. للتعرف على مزيد من هذه الأبحاث راجع:
Hischfeld, Hartwig, New Researches into the Composition and Exegesis of the Quran, Royal Asiatic Society, London, 1902, pp. 139-140.
([5]) Noldeke, Theodor, The History of the Quran, Edited and translated by Wolfgang H. Behn, Brill, 2013, p. 36.
([6]) Noldeke, The History of the Quran, pp. 36-37.
([7]) في المقالة التالية قد استدل بتفصيل على أنه في زمن النبي كانت كتابة الثقافة الشفهية، وخاصة الشعر، أمراً متعارفاً. ولذلك يردّ بقوة احتمال أن نبي الإسلام اتبع هذه الطريقة المتعارف عليها بين العرب في زمانه في حفظ القرآن كتابةً. راجع:
Schoeler, Gregor, «A Comment on the hypotheses of Burton and Wansbrough», in The Quran in Context: Historical and Literary Investigations into the Quranic Milieu, ed. By Angelika Neuwirth, Nicola Sinai, and Michael Marx, Brill, 2010, pp. 779-795.
([8]) ابن أبي داوود، كتاب المصاحف 1: 48 ـ 50، الفاروق الحديثة للطباعة، القاهرة.
([9]) من الأدلة التي يقيمها نولدكه على هذا الأمر أن هذه النسخة (خلافاً لنسخ عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب) لم ترسل بعد فتوحات المسلمين الكبرى في زمن عمر إلى مختلف مناطق حكم الإسلام كنسخة رسمية:
Noldeke, The History of the Quran, p. 229.
([10]) على سبيل المثال: تحدثت المصادر عن نسخ عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، ومقداد بن أسود. وللاطلاع على بحث مفصل عن النسخ راجع:
Noldeke, The History of the Quran, Ch. «The Other Pre ـ Uthmanic Collections», pp. 235-250.
([11]) للاطلاع المفصل عن الروايات المتعلقة بكيفية نشوء «نسخة أبي بكر»، ومناقشة تلك الروايات، راجع:
Noldeke, The Historybof the Quran, Ch. «The (first) Collection of Zyd B. Thabit», pp. 222-234.
([12]) Noldeke, The History Of The Quran, p. 237.
([13]) Noldeke, The History of The Quran, pp. 251-253.
وللاطلاع على تقييم الروايات التي يستند عليها هذا التقرير راجع:
Noldeke, The History of The Quran, pp. 253-263.
([14]) للاطلاع على آراء نولدكه راجع:
Noldeke, The History of The Quran, esp. pp. 209-267.
وللاطلاع على آراء بل راجع:
Bell, Richard, A Commentary on the Quran, C. E. Bosworth and M. E. J. Richardson (eds), Manchester: University of Manchester, 1991.
And, Bell, Richard, Bell’s Introduction to the Quran, Revised by W. Montgomeray Watt, Edinburgh: Edinburgh University Press, 1937.
ويمكن العثور على النسخة الإلكترونية لهذا الكتاب في العنوان التالي:
http://www.deenresearchcenter.com/LinkClick.aspx?link=Bells+Introduction+to+the+Quran. pdf&tabid=93&mid=869
([15]) للاطلاع على مناقشة دقيقة في هذه المصادر الثلاث وتقييمها من منظور النقد راجع:
Motzki, Harald, «The Collection of the Quran: A Reconsideration of Western Views in Light of Recent Methodological Developments» in Der Islam, 78(1) ـ Jan, 2001, pp. 1-34.
هناك ترجمة جيدة لهذا المقال إلى الفارسية، راجع:
هارالد موتسكي، «جمع وتدوين قرآن: بازنگری در ديدگاه هاي غربي در پرتو تحولات جديد روش شناختي»، ترجمة: مرتضى كريمى نيا، نشريه هفت آسمان، العدد 32: 155 ـ 196.
([16]) للاطلاع على النسخ القديمة للقرآن والإشكاليات التي تواجه تعيين تاريخها راجع:
Grohmann, Adolf, «The Problem of Dating Early Qurans», in Der Islam 33 (1958), pp. 213-231.
([17]) قد ادعى بعض المحققين أن هذه الآيات الأربع أضيفت فيما بعد إلى نصّ المصحف. على سبيل المثال راجع:
Hischfeld, New Researches into the Composition and Exegesis of the Quran, pp. 139-140.
Rippin, Andrew, «Muhammad in the Quran: Reading Scripture in the 21st Century», in The Biography of Muhammad: The Issue of the Sources, Harald Motzki (ed.) , Brill Academic Publishers, 2000, pp. 298-309.
([19]) كما سنرى إن أحد أهم المدافعين عن هذه النظرية هو جان ونزبرو (John Wansbrough)، راجع:
Wansbrough, John, Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation, Forward, Translations, and Expanded Notes by, Andrew Rippin, Prometheus Books, 2004, pp. 1-52.
([20]) المطلوب هنا «التقليد الإسلامي» بمعناه الواسع، أي كافة التقاليد التاريخية والتفسيرية التي وردت في المصادر المختلفة في أشكال أدبية مختلفة، وتفسير، وسيرة، والمجموعات التي تحوي السنن، ويراد منها إفادتنا بمعلومات أساسية عن القرآن وما له صلةٌ به. فمن الممكن إطلاق «الحديث» على مجموع ما ذكر.
([23]) Goldziher, Ignaz, Muslim Studies II, Trans. C. R. Varber nd S. M. Stern, London, George Allen & Unwin, 1971, p. 19.
([24]) Goldziher, Muslim Studies II. P. 19.
([25]) قد ظهر نوع من هذا الشك بأصالة الحديث ومصداقيته بين المصلحين المسلمين في القرون الأخيرة. على سبيل المثال: جماعة تسمّى «أهل القرآن» (وخاصّة في شبه القارة الهندية) شكّكت بنسب مختلفة بمصداقية الأحاديث واعتماد التقليد الإسلامي المفرط عليها، حتّى دعم عدد من المصلحين المسلمين فكرة «التقليد دون الحديث». للاطلاع على النقد الذي قدَّمه «أهل القرآن»، وصراعهم مع المعارضين الذين يطلق عليهم «أهل الحديث»، راجع:
Brown, Daniel W., Rethinking tradition in modern Islamic thought, Cambridge University Press, 1999, esp. Ch. 2, 5, and 6.
([26]) للاطلاع على آراء غلدتسيهر حول تاريخ الحديث في أيام الأمويين راجع:
Goldziher, Muslim Studies II, pp. 38-59.
كذلك راجع:
ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 4: 63 ـ 64، 73، باهتمام: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية وعيسى بابي الحلبي وشركاه.
كذلك: محمود أبو رية، أضواء على السنة المحمدية: 128، القاهرة، نشر البطحاء.
وكذلك نقل عن ابن راهويه (من المحدِّثين المشهورين الحنابلة في القرنين الثاني والثالث الهجريين) أنه قال: «لم يرد أيّ شيء صحيح في فضل معاوية عن النبيّ». ابن قيم الجوزية، المنار المنيف في الصحيح والضعيف: 116، مكتب المطبوعات الإسلامية.
([27]) للاطلاع على رأي غلدتسيهر عن تاريخ الحديث في أيام العباسيين راجع:
Goldziher, Muslim studies, pp. 59-77.
كذلك راجع: السيوطي، تاريخ الخلفاء: 27 ـ 32، بيروت، مؤسسة عزّ الدين، 1412.
([28]) Goldziher, Muslim Studies II, pp. 77-85.
([29]) Goldziher, Muslim Studies II, pp. 89-103.
([30]) للاطلاع على مناقشة أصول منهجية غلدتسيهر راجع:
Motzki, Harald, «Dating Muslim Traditions», Arabica, T. 52, Fasc. 2(Apr. , 2005) , pp. 209-210.
([31]) قد طبّق غلدتسيهر هذا الأصل بشأن عدد من الأحاديث التي تتضمن مفاهيم «البدعة» و«البدعة الحسنة»، وكذلك «الإجماع». للاطلاع على الأحاديث في شأن «البدعة» راجع:
Goldziher, Muslim Studies II, pp. 34-37.
وللأحاديث في شأن «الإجماع» راجع:
Goldziher, Muslim Studies II, pp. 132-134.
([32]) Goldziher, Muslim Studies, pp. 35-37.
([33]) Goldziher, Muslim Studies, pp. 38-40.
([34]) Goldziher, Muslim Studies, p. 40.
([35]) Schacht, Josef, The Origins of Muhammadan Jurisprudence, Oxford University Press, (first published) 1950.
وقد ترجم كتاب آخر لشاخت إلى الفارسية حول تاريخ الفقه الإسلامي. راجع:
يوزف شاخت، درآمدي به فقه إسلامي، ترجمة وتتمّة نقدية: ياسر ميردامادي، نشر نوگام، طهران، 1387.
([36]) Schacht, The Origins of Muhammadan Jurisprudence, p. 165.
([37]) Schacht, The Originsof Muhammadan Jurisprudence, pp. 161, 171-172.
([38]) Schacht, The Originsof Muhammadan Jurisprudence, p. 50.
([39]) Schacht, The Originsof Muhammadan Jurisprudence, p. 166.
([40]) Schacht, The Originsof Muhammadan Jurisprudence, pp. 164-169.
([41]) Schacht, The Originsof Muhammadan Jurisprudence, pp. 171-172.
([42]) Schacht, The Originsof Muhammadan Jurisprudence, p. 171.
([43]) Wansbrough, John, Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation, Forwardwd, Translations, and Expanded Notes by, Andrew Rippin, Prometheus Books, 2004.
([44]) Burton, John, The Collection of the Quran, Cambridge University Press, 1979.
([45]) للاطلاع على نقد ونزبرو على كتاب برتن راجع:
Wansbrough, John, «The Collection of the Quran by Burton», Bulletin of School of Oriental and African Studies, University of London, Vol. 41, No. 2 (1978), pp. 370-371.
([46]) وقد تجاوز يوزف شاخت هذا الادّعاء إلى ما هو أبعد منه، حيث استدلّ بالتفصيل على أن فقهاء المسلمين لم يستندوا على القرآن، ولم يتخذوه مصدراً للأحكام الحقوقية، إلاّ في ما ندر، في المراحل الأولى من نشأة الفقه في المجتمع الإسلامي. للاطلاع على رأيه بالتفصيل في هذا الموضوع راجع:
Schacht, The Origins of Muhammadan Jurisprudence, Part II, Ch. 3, pp. 224-227.
([47]) Burton, The Collection of the Quran, pp. 162-163.
([48]) انظر: سورة النور، الآية 2.
([49]) عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي، كتاب نواسخ القرآن 2: 357.
([50]) للاطلاع على آراء برتن راجع:
Burton, The Collection of the Quran, pp. 105-240.
([51]) كثير من المحققين يعتبرون تأليف ونزبرو بعيداً عن السلاسة، وكتابه «معقَّد وصعب دون مبرّر» وحبكته مبهمة. فعلى سبيل المثال: راجع عدداً من الأوصاف التي جاء بها ذوو الخبرة للتعريف بكتابه:
ويليام غراهام، «ملاحظات على كتاب مطالعات قرآنية»، ترجمة: مرتضى كريمي نيا، نشرية آيينه پژوهش، العدد 65: 47.
كذلك راجع:
Cobb, Paul, «John Wansbrough, Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation», Journal of Near Eastern Studies, Vol. 68, No. 2 (april 2009), p. 157.
Uullendorff, Edward, «Quranic Studies: Sources and Methods of Scriptural Interpretation by John Wansbrough», Bulletin of The School of Oriental and African Studies, University of London, Vol. 40, No. 3(1977) , pp. 609-612.
([52]) Wansbrogh, Quranic Studies, p. 44.
([53]) Wensinck, A. J, The Muslim Creed: Its Genesis and Historical Development, (first published 1932) , first published by Routledge in 2008, 102-124.
([54]) المراد هنا بـ «التفسير النصي» هو التعليقات والشروح والتفسير في حاشية النصّ التي تبين القضايا اللغوية والقواعد في ما يخصّ ذلك النصّ.
([55]) Noldeke, The History of The Quran, Section on «The Non ـ Uthmanic Orthographic Variants and Readings: The Sources», esp. pp. 429-470.
([56]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 202.
([57]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 44.
([58]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 47.
([59]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 12.
([60]) Wansbourgh, Quranic Studies, ppp. 47, 117-118.
([61]) اتبعت في ترجمة هذه المصطلحات السيد مرتضى كريمي نيا في ما وضعه من مرادفات، في ترجمته لكتاب «ملاحظات على كتاب المطالعات القرآنية».
([62]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 12.
([63]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 47.
وقد ناقش ونزبرو مفصلاً الحديث المنسوب إلى جعفر بن أبي طالب لدى النجاشي، ملك الحبشة، لتبيين هذا الاختلاف. راجع:
Wansbourgh, Quranic Studies, pp. 38-43.
([64]) Wansbourgh, Quranic Studies, p. 50.
كذلك راجع:
Wansbrough, John, The Sectarian Milieu: Content and Composition of Islamic Salvation History, Oxford: Oxford University Press, 1978, p. 147.
([65]) للاطلاع على مناقشة تحليلية لهذه المفاهيم راجع على سبيل المثال:
Noldeke, The History of theQuran, pp. 39-43.
([66]) Wansbourgh, Quranic Studies, pp. 45-46.
وكذلك:
Wansbrough, The Sectarian Milieu, p. 147.
([67]) Wansbourgh, Quranic Studies, pp. 225-226.
([69]) Wansbourgh, Quranic Studies, pp. 85-118.
([70]) Wansbourgh, Quranic Studies, xxiii.
([71]) Cook, Michael, Early Muslim Dogma: A Source ـ Critical Study, Cambridge, Cambridge University Press, 1981, p. 110.
([72]) Motzki, «Dating Muslim Traditions: A Survey», p. 235.
([73]) Motzki,Harald,» The Prophet and the Cat: On Dating Malik`s Muwatta` and Legal Traditions», Jerusalem Studies in Arabic and Islam, 22 (1998), 32, note 44.
([74]) قد نقد موتسكي في الكتاب التالي (وخاصّة في فصله الثالث) مفصلاً طريقة شاخت، وسعى لتطبيق نظرية شاخت حول «الحلقة المشتركة» على نموذج مختلف:
Motzki, Harald, The Origins of Islamic Jurisprudence: Meccan Fiqh before the Classical Schools, Translated from German by, Marion H. Katz, Brill, 2002.
([75]) Motzki, «Dating Muslim Traditions: A Survey», p. 238.
([76]) Motzki, «Dating Muslim Traditions: A Survey», p. 240-241.
Motzki, «The Collection of the Quran», p. 4.
وكذلك ترجمته إلى الفارسية: هارالد موتسكي، «جمع وتدوين قرآن»: 162.
([78]) Motzki, «The Collection of the Quran», p. 21-31.
هارالد موتسكي، «جمع وتدوين قرآن»: 178 ـ 185.
([79]) Motzki, «The Collection of the Quran», p. 29.
ترجمة الاقتباس مأخوذة من الترجمة الفارسية للمقال، مع قليل من التعديل: هارالد موتسكي، «جمع وتدوين قرآن»: 183.
([80]) سيف بن عامر، كتاب الردّ والفتوح الكبير وسير عائشة وعليّ: 48 ـ 50، تحقيق: قاسم السامرائي، ليدن، 1995.
([81]) في ما يخصّ هذا الموضوع راجع:
Schoeler, Gregor, «A Comment on the Hypotheses of Burton and Wansbrough», The Quran in Context: Historical and Literary Investigations into the Quranic Milieu, Ed. By Angelika Neuwirth, Nicolai Sinai, and Michael Marx, Brill, 2010, p. 786.
كذلك، حول تاريخ اللغة العربية وانتشارها في الشرق الأوسط واستخدامها في تدوين الآثار الأدبية وحفظها مكتوبة، راجع:
Hoyland, Robert, «Epigraphy and the linguistic background to the Quran», in The Quran in its Historical Context, ed. By Gabriel Said Reynolds, Rutledge, 2008, pp. 51-69.
([83]) Donner, Fred M., «The Historian, the believer, and the Quran», in New Perspectives on the Quran (The Quran in its historical context 2), ed. By Grbriel Said Reynolds, Rutledge, 2011, p. 29.
([84]) Von Brothmer, H. C. and Puin, G. R., «Neue Wege der Koranforschung», Magazin Forschung (Universitat desSaarlandes) 1 (1999): pp. 39, 45-46.
نقلاً عن:
Schoeler, «A Comment on the Hypotheses of Burton and Wansbrough», p. 729.
كذلك:
Reynolds, Gabriel Said, «Quranic studies and its controversies», in TheQuran in its Historical Context, ed. By Gabriel Said Reynolds, Rutledge, 2008,pp. 7-8.
([85]) Reynolds, «Quranic studies and its controversies», p. 13.
([86]) للاطلاع مفصلاً على إشكاليات هذه النظريات، وتعارضها، راجع:
Donner, Fred M., «The Quran in recnt scholarship: Challenges and desiderata», in The Quran in its Historical context, ed. By Gabriel Said Reynolds, Rutledge, 2008, pp. 29-50.
كذلك:
Reynolds, «Quranic studies and its controversies», p. 9, 17-18.
وكذلك:
Reynolds, Gabriel Said, «The golden age of Quranic Studies», in New Perspectives on the Quran (The Quran in its historical context 2), ed. By Gabriel Said Reynolds, Rutledge, 2011, pp. 4-5.
([87]) Motzki, «The Collection of the Quran», p. 31.
أخذتُ ترجمة هذا النقل مع قليل من التعديل من ترجمة هذا المقال الفارسية: هارالد موتسكي، «جمع وتدوين قرآن»: 185.