د. السيد صادق حقيقت(*)
في إطار حديثنا عن دور الدين ومَدَياته، وبتبع ذلك عن الفكر السياسي الشيعي، يصطفّ اتجاهان أحدهما مقابل الآخر، وفي هذا السياق لا بُدَّ أن تكون للتجديد الديني كلمة بهذا الصدد، ولا بُدَّ له أن يسجل موقفاً، إما سلبياً أو إيجابياً، إزاء كلّ واحد من الاتجاهين.
وتأتي هذه الدراسة لتسلط الضوء على أهم مرتكزات هذين الاتجاهين، وملاحقة نقاط الضعف التي تعتورهما، عبر محاولة نقدية جادة، لتصل في نهاية المطاف إلى اتجاه تلفيقي بديل، يعرف بـ «نظرية التلفيق»([1])، ويضمّ نقاط القوة التي يتّسم بها كل واحد منهما.
والفرضية التي تقوم عليها الدراسة الحالية هي أن سر نجاح التجديد الديني يكمن في محاولته النقدية لكلٍّ من الاتجاهين: الشمولي (الراديكالي)؛ والتجزيئي (الحداثوي). وبدون محاولة النقد والتلفيق هذه لن يثمر التجديد الديني، بل لا يصح وصفه بالتجديد الديني أصلاً. كما أنه ليس بإمكان التجديد الديني الذي يتمحور حول التقليد والتجديد إغفال جميع محاولات التجديد، كما أغفلها المنهج الراديكالي، كما ليس بإمكانه إغفال سائر محاولات التقليد، كما أغفله بعض روّاد التجديد. ومن هذه النقطة تحديداً يتبلور تعريف «التجديد الديني»، الذي هو عبارة عن رؤية جديدة للدين لا يقتصر اهتمامها على السنّة والتراث والتقليد، إنّما يشمل منتجات العلوم البشرية والحداثة والتجديد أيضاً.
الاختلاف بين الاتجاهين: الشمولي(التقليدي)؛ والتجزيئي (الحداثوي)
أبرز ما يميّز الاتجاه الشمولي التقليدي عن الاتجاه الحداثوي التجزيئي هو أن الأول يرى أنّ للدين في كل واقعة حكماً، بما في ذلك القضايا الاجتماعية والسياسية؛ بينما يحصر الاتجاه الثاني دائرة الدين في مسألة المبدأ والمعاد فقط. يُضاف إلى ذلك أن تكون راديكالياً أو حداثوياً فهو أمرٌ نسبي يتفاوت شدّةً وضعفاً، وبمعنى أدقّ بإمكاننا المقارنة بين الاتجاهين بالموارد التالية([2]):
1ـ دائرة أو مساحة العقل البشري: يعتبر العقل مستقلاًّ في إطلاق الأحكام لدى الحداثويين، فيما يعتبر ناقصاً قاصراً في نظر الراديكاليين. ففي رأي الراديكاليين إن الانسان موجودٌ غائي، مركب من جسمٍ وروح، يفتقر إلى نمطين من الحاجات: الأولى: مادية؛ والأخرى: معنوية، وكماله يكمن في تأمين حاجاته المعنوية، هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى فإن عقل الإنسان وحده قاصرٌ عن إدراك وتشخيص وتأمين حاجاته المعنوية، وبالتالي برزت الحاجة إلى المرشد أو الهادي([3]).
ومهمة الهداية هذه لا يتولاّها سوى مَنْ كان لديه إلمامٌ تامّ بحاجات الإنسان ومكامن سعادته، وليس من أحدٍ يتوفّر على ذلك سوى الله سبحانه وتعالى. ولأجل ذلك بعث الله سبحانه النبيين والمرسلين، وشرّع الدين؛ لطفاً منه بعباده. فاحتاج العقل للأدلّة النقلية والسماعية أملاً في تحقيق السعادة([4]). كما تستدعي هذه الهداية التركيز على النفس الأمارة بالسوء، التي تبادر بالإنسان إلى الخطيئة، وتجعله عرضةً لكمائن الشيطان([5]).
أما الاتجاه الحداثوي التجزيئي فيرى للعقل استقلالاً في إدراك القضايا الاجتماعية، وذلك أنّ القضايا الاجتماعية تختلف عن العبادية بكونها جليّة غير مبهمة. وبالتالي فإن تجريد العقل عن الاستقلال لا يضعف أسس الدين فحَسْب، إنما يزلزلها أيضاً. يضاف إلى ذلك أن فهم النصّ الديني برمّته يتوقّف على معطيات العقل، ولا يخفى أن معطيات العقل اليقينية تتقدَّم كل أنماط فهم النصّ الديني الأخرى.
2ـ كمال الدين وشموليته: تضع بعض الرؤى الراديكالية «كمال الدين» و«شموليته» في صفٍّ واحد؛ وتنطلق من خلال كمال الدين لتصل إلى شموليته([6])، وبموجب ذلك يعتبر الدين الإلهي ديناً كاملاً وشاملاً في الوقت نفسه، بمعنى أنه يلبي كافة حاجات الإنسان ومتطلباته، دنيوية كانت أم أخروية، مادّية أم معنوية، ويكتب له دستوراً كاملاً، ويرسم له منهجاً شاملاً([7]). فيما يرى البعض أن شمولية الدين تقتصر على ما يضمن للإنسان سعادته الدنيوية والأخروية فحَسْب. أمّا الحداثويون فيميّزون بين «كمال الدين» وبين «شموليته»؛ فبالرغم من إقرارهم بكمال الدين، إلاّ أنّهم يحصرون هذا الكمال بحدود الرسالة السماوية والغايات المرجوّة منها([8]). فدَوْر الدين لديهم لا يتعدّى حدود المبدأ والمعاد فحَسْب.
3ـ العلاقة بين العلوم الدينية وغيرها من العلوم الإنسانية: بحَسَب الاتجاه الحداثوي، وخلافاً للاتجاه الراديكالي، فإن العلوم الدينية تدخل ضمن دائرة العلوم الإنسانية؛ وتتغذّى منها على الدوام([9]). فالنصّ الديني حاله حال باقي النصوص يخضع لتعدُّد القراءات، ويتأثّر بطموح، وتوجُّهات، وخلفيات، واستفسارات، ومواقف القارئ، وبيئته الاجتماعية، ومرحلته التاريخية.
4ـ قراءة النصّ الديني: انطلاقاً من كون الدين المصدر الأوحد والحصري للتشريع يعتقد الراديكاليون أنّه، وبالرغم من وجود القراءات المتعدّدة للدين، لا يمكن أن تصحّ سوى قراءةٍ واحدة من بين سائر القراءات، ولا يمكن الاستناد إلاّ إلى تلك القراءة([10]). أما المعارضون لهذا المبدأ فيقرّون بوجود القراءات المتعدّدة للنصّ الديني، ويعتبرون ذلك أمراً واقعاً، وجزءاً من تاريخ الفكر الديني لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه، وبالتالي لا يمكن إثبات مصدرٍ أوحد أو حصري لفهم النصّ الديني([11]). كما يعتقد القائلون بالتعدُّدية أنّ رفض التعدُّد وإرجاع الجميع إلى الوحدة، مضافاً إلى كونه أمراً مستحيلاً، مرفوضٌ بلا شكٍّ.
5ـ حجّية الفقه السياسي: يقول محمد عابد الجابري: إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها: إنها حضارة فقه([12]). كما يرى لمبتون أنّ الفقه السياسي «أكثر أسلمةً» إذا ما قورن بالفلسفة والرسائل السياسية([13]). خلافاً للحداثويين الذين يرَوْن أن الفقه السياسي عقيمٌ إلى حدٍّ ما. فالاتجاه الحداثوي التجزيئي يرى أن الأحكام السياسية أحكام زمانية ـ مكانية؛ ولذا فالكثير من الأحكام الفقهية (كحكم قطع يد السارق ورجم الزاني وغيرها) لا تجد لها موضوعاً في يومنا هذا، وإنّما هي أساليب اختصّت بزمان ومكان محدّدين. فالأساليب لا بُدَّ أن تتناغم مع طبيعة المجتمع([14])، ومع المرحلة الزمنية الخاصة. فهدف النبي| من تشريع الحدود لم يكن لأجل كبح السلوك السلبي بحدّ ذاته، كالزنى وغيره، إنما لأجل الحدّ من استفحال أنماط السلوك السلبي في ذلك العصر. وبحَسَب هذا الرأي فإنّ الأدلة والقرائن التأريخية تشير إلى أن جميع التدابير السياسية في عهد الرسول، كالبيعة والشورى، تدخل ضمن الإطار نفسه، وبالتالي لم يكن النبي الكريم| بصدد إنشاء نظام سياسي محدّد، وإنّما كان يسير وفقاً للعدل بمفهومه المتعارف في ذلك الوقت([15]).«في عالم السياسة تتزلزل القواعد العقلية، ويتعسّر الدليل الاجتهادي، ويتحرّك الجميع في منطقة الفراغ. وبالتالي لا بُدَّ من اعتماد نظامٍ قائم على أساس «العدل والرحمة»». فالفقه يشبه الطبيعيات (أي العلوم الطبيعية) في الماضي، قد نضبت مصادره، وأصبح يعاني على أكثر من صعيد: كونه بشرياً، ناقصاً، تابعاً، وليس مؤسّساً أو شاملاً، متحايلاً (كعلم القانون)، كما أنه ظاهري، يتوافق مع الأخلاق والسجايا السطحية، مستهلك للمعطيات الأيديولوجية والأنثروبولوجية والأنطولوجية والسوسيولوجية، محدود (برفع الخصومات)، كما أنه متأثّر بالواقع الاجتماعي، ويتمحور حول التكاليف، ويعتمد المصالح أو الملاكات الخفية، حتّى في الأحكام الاجتماعية (الفقه التقليدي)([16]).
6ـ تطبيق الأحكام الشرعية: من وجهة نظر الراديكاليين (الشموليين) إن رسالة الدين وأهدافه لا تتحقّق عبر التعاليم والأحكام التي تضمن للناس سعادتهم فحَسْب، إنما تتحقق بتطبيق هذه الأحكام على أرض الواقع. لذلك فإنّ أحد أبعاد رسالة النبي الخاتم تمثّلت في إنشاء حكومة كأداة لتطبيق الشريعة. وهكذا الحال في عصر الغيبة أيضاً، إذ تمّ تنصيب أشخاص من قِبَل الأئمة، وهم: الفقهاء الجامعون للشرائط، مخوَّلين تولّي السلطة وإصدار الأحكام([17]). أما الاتجاه الآخر فيرى أن رسالة الدين الحقيقية لم تكن مهمتها رسم معالم الحياة للفرد أو المجتمع، إنما أحال الشارع هذا الأمر إلى العقول البشرية، وبالتالي أحجم الدين عن التدخُّل في هذه الأمور إلاّ ببيان الحدّ الأدنى لبعضها. وبحَسَب هؤلاء فإنّه من المستحيل إصدار أحكام ثابتة لمثل هذه الأمور؛ وذلك بسبب تاريخانية الأحكام الشرعية من جهة؛ وتطوُّر الموضوعات الاجتماعية من جهةٍ أخرى([18]). بناءً على ذلك فإن أول مبدأ أو تحدٍّ يواجه الشريعة وأحكامها هو تاريخانية الأحكام، بمعنى اختصاصها بزمانٍ ومكان محدَّدين. ولو تجاونا هذا التحدّي، ولم نأخذه بنظر الاعتبار، فإنّ الطابع العامّ للأحكام الاجتماعية والسياسية هو الإمضاء، لا التأسيس، أو على الأقلّ النظر العرفي ومبنى العقلاء، وبالتالي فالشارع لم يتعمَّد تأسيس أحكام جديدة في هذا المجال([19]).
الاتجاه الشمولي الراديكالي، نقدٌ وتحليل
المبادرة بدراسة وتحليل الاتجاهين النصّي والـ (ما وراء نصّي) قد تساهم إلى حدٍّ كبير بتمهيد السبيل لظهور وبلورة نظرية التلفيق [وهي النظرية التي تتولى التلفيق بين الاتجاهين: الراديكالي؛ والحداثوي]. فنقاط الضعف لدى الاتجاه النصّي هي نقاط قوّة لدى الاتجاه الـ (ما وراء نصّي). والعكس صحيح أيضاً. فإنْ كنّا نتأمّل أن تغطّي أحكام الدين كل جوانب الحياة وأبعادها ففهمنا هذا للدين هو فهمٌ راديكالي شمولي، يتمخّض عن القول بكمال الإسلام وخاتميته. فالدين الذي يدّعي أنّ له في كل واقعة حكمٌ، وأنّه يغطي جميع متطلّبات المسلم، ويحدّد أبسط أنماطه السلوكية، كيف لا يسجِّل موقفاً إزاء أهمّ القضايا التي تهمّ البشر على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟! وبهذا الصدد يقول مرتضى مطهّري، الذي كان ـ على ما يبدو ـ أحد الشخصيات التي تبنَّت هذا الاتجاه: «إنّ الإسلام يغطي كافة شؤون الحياة البشرية. ففي الإسلام نجد القوانين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو دينٌ جاء ليؤسّس دولةً، ويدير حكومة»([20]).
وفي سياق حديثه عن الاستدلال على أن قاعدة (كرامة الإنسان) لا تجري إلاّ في المستحدثات يشير «ناصر مكارم» إلى أنّ الدين قد تكفَّل ببيان كلّ شيء، حتى أنّه بيَّن لمَنْ يريد أن يكتب رسالةً طريقة كتابة الرسائل، وآلية عنونتها، وكيفية البدء بها([21]).
ومن خلال الرؤية الراديكالية المتقدّمة نجد أن ما هو ثابت وغير تاريخي قد تحوّل إلى تاريخي، وما هو تاريخي قد أصبح ثابتاً. فطريقة تدوين الرسائل هي قضية نسبية، ومرتبطة بتاريخ معيّن، وتختلف بحَسَب الأعراف والتقاليد، بينما «قاعدة الكرامة» هي قاعدةٌ ثابتة، غير مقيَّدة بزمان أو مكان محدَّدين؛ وتعتبر دليلاً غير نصّي متقدِّم على التشريع، وليس بوسع الدين أن يتقاطع معها، بل يستحيل ذلك. يقول عبد الله جوادي الآملي، والذي يعدّ أحد أبرز رموز التيار الشمولي الراديكالي: «على علماء الفيزياء والكيمياء والبيئة والجيولوجيا أن لا يَعُوا هذه العلوم دون أسلمتها»([22]).
ويرى «أن صناعة السفن في عهد النبي نوح هي أنموذج يُحتذى به لكافّة أنماط الصناعات البرية والبحرية والغواصات ـ المدنية وغيرها ممّا يستخدم لنقل البضائع ـ والصناعات الجوية وغيرها، وكذلك الحال بالنسبة لصناعة الدروع على عهد النبيّ داوود، فهي أنموذج لصناعة الأسلحة الدفاعية وأسلحة الردع في عصرنا الحاضر»([23]).
إذن هو بطريق أَوْلى يعتقد أن للإسلام رأياً في كافّة القضايا الاجتماعية أيضاً.
لكنْ لا يخفى على القارئ أنه ما من دليلٍ، عقلي أو نقلي، يدلّ على أن صناعة السفن في عهد النبي نوح تعتبر أنموذجاً يحتذى به للصناعات البحرية في عهدنا هذا؛ والسببُ أوّلاً: ليس هناك شبه أو تماثل بين الصناعات البحرية المعاصرة وبين صناعة السفن قبل آلاف السنين؛ وثانياً: ليس هناك معلومات موثّقة تكشف آلية صناعة السفن من قبل النبي نوح.
إنّ العلاقة بين الراديكالية وبين أسلمة العلوم أمرٌ واضح. فجميع الراديكاليين يتبنّون مقولة أسلمة المعرفة؛ كما أنّ جميع الحداثويين يرفضون هذه المقولة جملة وتفصيلاً. مصباح اليزدي، وبالرغم من انتمائه إلى مجموعة الراديكاليين، أقلُّ حماساً في طرحه من جوادي الآملي، حيث يقول: «الدين لا يقول لك ماذا عليك أن تأكل، أو كيف تعدّ مائدتك، أو كيف تبني بيتك، لكنّه بلا شكٍّ ينهاك عن البناء في الأرض المغتصبة. ولنأتِ على مثال الكحول: فآلية صناعة الكحول، والمواد المكونة لها، وأنواع الكحول، كلّ ذلك بحوث علمية لا دَخْل للدين بها»([24]).
والمغزى من هذا الكلام أن الدين ليست مهمته بيان المواضيع العلمية الصرفة، إنّما تقع هذه المهمة على عاتق العلم والعقل. لكنْ يبقى الأمر المهمّ هو أنّه مهما تقدّم العلم وتطوّر العقل البشري فإنّه لن يكون وحده قادراً على إدراك العلاقة بين عالمنا هذا وما يترتّب عليه من نتائج في عالم الآخرة([25])، أي الجوانب القِيَمية المترتّبة على «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»([26]). إنّ تعقيد العلاقات وتوسّع دائرة أنماطها لا يتنافى مع ثبات القوانين العامة للإسلام([27])، لذلك قال النبيّ الأكرم: «ما من شيءٍ يقرّبكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به»([28]). فهو قد أخذ قيد «الإسلامي» في إجابات الدين: «إنّ رسالة الدين الأساسية هي بيان العقائد الصحيحة حول أهم القضايا الأيديولوجية (الرؤية الكونية)، وبيان القِيَم الحقيقية والأنظمة العلمية التي تضمن سعادة الدنيا والآخرة؛ إلاّ أنّه وفي بعض الأحيان قد تتعرَّض المصادر الدينية لبعض المواضيع الطبيعية، وقضايا العالم والإنسان والمجتمع والتاريخ، فتتوثَّق العلاقة بين أجزاء مهمة من العلوم الإنسانية وبين الدين، وبالتالي تصبح النظريات المستخلصة من النصوص الدينية حول الموضوعات الفلسفية والتجريبية والقانونية بمثابة الموقف الديني من هذه العلوم، ويصحّ حينها أن توصف كل مجموعة منتظمة من هذه العلوم بوصف «الدينية» أو «الإسلامية»، فيقال: «الفلسفة الإسلامية»، «الأيديولوجيا الإسلامية»، «الأنثروبولوجيا الإسلامية»، «الأخلاق الإسلامية»، «القانون الإسلامي»، «الاقتصاد الإسلامي»…، إلخ. وأبرز تأثير للدين على هذه العلوم هو التأثير الذي يتأتّى عبر نظامه القِيَمي([29]).
ويرى مصباح يزدي أن دائرة تأثير الدين يحدّدها الدين نفسه، وليس كلام المستشرقين. فهو ـ كما جاء في القرآن والسنّة ـ يشمل الجوانب الاجتماعية والسياسية([30]). وهذا لا شَكَّ فيه بطبيعة الحال؛ إذ العديد من الآيات تتعرّض للجوانب الاجتماعية والسياسية، فتجد في القرآن والحديث إسهاباً حول صلاة الجمعة، ومسألة الولاية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والديات، وغيرها. إلاّ إنّ أساس الموضوع هو هل أنّ هذه الأحكام [الاجتماعية والسياسية] تمتدّ عبر الزمان والمكان أم تعتبر أحكاماً زمنية وتاريخية اختصّت بزمانٍ ومكان محدّدين؟ من هنا كان الرجوع للقرآن والسنّة بمثابة الدَّوْر في هذه المسألة؛ وذلك لأنّ أصل الموضوع يتمحور حول هذه النصوص الدينية نفسها.
إنّ الاتجاه النصّي يذهب مباشرةً إلى القرآن والسنّة. وإذا كان الاتجاه الـ (ما وراء نصّي) يبحث موضوعة العدالة وحقوق الإنسان خارج دائرة الدين فإنّ النصّيين يتمتعون بنقطة القوّة هذه، وهي أنّهم لا يغادرون النصّ الديني بأيّ حال، محاولين اقتناص موقف الشارع المقدَّس. فمن ناحيةٍ يعتبر القرآن الكريم قطعي السند وظنّي الدلالة، وتعتبر الأخبار ظنّية السند قطعية الدلالة؛ ومن ناحيةٍ أخرى قد ترك النبي| لأمّته أمرين في غاية الأهمّية (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله؛ وعترتي)، لا يفترقان حتّى تقوم الساعة، يكمِّل أحدهما الآخر، فالأئمة مفسِّرون للقرآن، وعليّ× بمنزلة القرآن الناطق؛ ومن ناحية ثالثة إن تنقية الأخبار من الغثّ والسمين بحاجةٍ إلى متخصِّصين في هذا المجال، وهنا يأتي دَوْر الفقيه الذي يحاول الاستعانة بعلم الرجال والدراية لهذا الغرض. لذلك كان من الطبيعي أن يظهر فرعٌ جديد في الفقه وفي علم السياسة يُسمى بـ (الفقه السياسي). وعليه فالناحية الإيجابية في الاتجاه النصّي تتمثّل في الإبقاء على الباب مشرّعاً لمراجعة النصوص الدينية، ومنح الفقه حجّيةً حتّى في المجال الاجتماعي. وهناك أمرٌ آخر أيضاً يدعم موقف الاتجاه النصّي، وهو السجالات البيزنطية التي كثيراً ما تحدث في الأطر السياسية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال: استمرّ السجال بين الليبراليين والاشتراكيين لعقود من الزمن، دون أن يتمكن الليبراليون من التحوُّل إلى الاشتراكية، ولا استطاع الاشتراكيون التحوُّل إلى الليبرالية؛ والسبب يكمن في عجز الطرفين عن إقامة الدليل البرهاني وإلقاء الحجة على بعضهما، فالاستدلال الذي سيق ضمن السجال لم يكن سوى جَدَلٍ بيزنطيّ، وكأنّ بعض فلاسفة السياسة بلور في عقله مجموعة من الفرضيات، وأراد أن يحمل الطرف الآخر على قبولها كبرهانٍ قاطع لا شكٍّ فيه ولا رَيْب.
وفي المقابل يفتقد الاتجاه النصّي لبعض نقاط القوّة التي يتميّز بها الاتجاه الـ (ما وراء نصّي)، كالاهتمام بالبراهين العقلية، وقضية الحُسْن والقُبْح العقليين، والبحوث المنهجية، والبنيوية. ومن ناحيةٍ أخرى يجد الاتجاه الـ (ما وراء نصّي) نفسه في غنىً عن العودة إلى القرآن والسنّة، في حين أن النصوص الدينية على الأقلّ قد تضمَّنت رسم الخطوط الكلّية في العديد من الموارد.
ومن الجدير الإشارة إلى أنّه لا يوجد ما يسمّى اتجاهاً نصيّاً بَحْتاً؛ فصحيحٌ أن النصّيين يعتمدون على القرآن والسنّة فقط، لكنْ من الواضح أن عودتهم إلى تلك النصوص لا تخلو من خلفيات وافتراضات ومعطيات سابقة ــ كما أشير إلى ذلك في بحث الهرمونيوطيق ــ. ففي كثير من الأحيان يعتقد المفسِّر نفسه مستلهماً من القرآن والسنّة مباشرةً على نحو الاستقلال، والحال أنّ هناك العديد من القَبْليات الذهنية تساهم في صياغة الرؤية لديه. وكما يقول مطهري: إنّ الفقيه الحضري والفقيه القروي لا يجتهدان بنحوٍ واحد؛ فالفقيه القروي يقرأ النصّ القرآني بأفقٍ محدود ضمن ما ألهمته بيئته القروية، فيما الفقيه الحضري يفهم النصّ القرآني بأفق أوسع ضمن بيئته الحضرية. وكذلك يختلف مستوى الفهم للقرآن الكريم بين الفقيه الحضري والفقيه المجدِّد…، وهكذا.
الاتجاه التجزيئي أو الحداثوي، نقدٌ وتحليل
ينتشر الاتجاه الحداثوي في الغالب بين طبقة المثقَّفين الدينيين. وبالرغم من عودة بعض المفكّرين الإسلاميين إلى النصوص الدينية، إلاّ إن المنحى السائد بينهم في ما يرتبط بالمجال الاجتماعي والسياسي هو البحث خارج دائرة النصّ الديني ــ ضمن الدائرة العقلية والعلمية ــ، بدلاً من العودة إلى الآيات والأخبار. وبناءً على هذه الرؤية تتحجّم دائرة الدين لتشمل العلاقة بين الإنسان وربّه فقط، أمّا باقي القضايا (كالاجتماعية وغيرها) فيتكفّل بها العقل البشري. وليس ثمة اختلاف مهمّ بين الإسلاميين وغيرهم في أن منشأ الأحكام الاجتماعية هو سيرة العقلاء. وبالنسبة إلى القضايا التي يكون العقل البشري قادراً على حَسْمها فإنّ الدين يبقى بمنأىً عن التدخُّل فيها، كما يذهب إلى ذلك مهدي بازرگان، الذي كتب: «كما أنّ الدين لم يأتِ ليعلِّمنا الطبخ أو البستنة فكذلك لم يأتِ ليتدخّل في القضايا السياسية والاجتماعية، إنما ترك لنا البتّ فيها»([31]). وبرأي سروش فإنّ الغاية من الفقه هي فكّ النزاعات، وبالتالي لن يحين دَوْره إلاّ حين تتزاحم القوانين أو تصطدم المصالح ببعضها. ويضيف: إنّ دور الدين يتلخّص في: تأهيل الكون وجعله ميسّراً للبشر، وحثّ البشر على خوض التجربة الدينية، وتقديم التفسير الصحيح لهذه التجربة، وإثراء الحياة البشرية ومنحها بُعْداً معنوياً، وتشجيع المكارم الخلقية، وإثارة دفائن العقول التي باستطاعة العقل دَرْكها على نحوٍ مستقلّ (كالتصديق بوجود الخالق)، وإيصال الإنسان إلى أمور قد يتأخّر في إدراكها فيما لو استقلّ بذاته في المسير نحوها (كالصوم والحياة الأخروية)([32]). وبحَسَب سروش، الأمور السياسية (والاقتصادية والاجتماعية) ليست دينية بحدّ ذاتها؛ ومن غير الصحيح أن نتأمَّل من الدين أن يصدر لنا أحكاماً اجتماعية، أو يبين لنا كيفية إدارة المجتمع، أو آلية السيطرة على التضخُّم. فالدين يمثِّل علاقة الإنسان بربّه، وليس دستوراً أو قانوناً شاملاً لتنظيم الحياة البشرية. وبرأيه، العلمانية ليست سوى علمنة وعقلنة آليات تدبير شؤون المجتمع، والدين والعلم مقولتان مختلفتان، لكنّهما غير متضادتين([33]).
ويحاول الـ (ما وراء نصّيون)، بشتّى السبل، إبطال حجّية الفقه السياسي، وتضييق دائرة الفقه، وجعله محصوراً في الأحكام العبادية فقط. فسروش يرى أن العدل وحقوق الإنسان أمران خارجان عن دائرة الدين جملةً وتفصيلاً. فهو يرى أن الفقه يتّصف بعشر صفات، منها: كونه علماً تبعيّاً، ودنيويّاً، وقابلاً للتحايل، ومختصّاً بالظواهر، وموافقاً للأخلاق السائدة، وقابلاً للتسويق المحلّي، ومحدوداً، ومتأثّراً بالبنية المجتمعية، ويتمحور حول التكليف، ومبنيّاً على المصالح الخفية([34]). ويرى سروش أنّه كما ذهب السيد محمد باقر الصدر إلى أن مبادئ علم الاقتصاد هي أمرٌ ديني، فيما علم الاقتصاد أمرٌ خارج عن دائرة الدين، كذلك بالإمكان الاستعانة بدراسات القانون الفطري والطبيعي لمرتضى مطهّري للبتّ في أمر السياسة، وبناءً على ذلك تكون الولاية وغيرها من القوانين الفطرية والطبيعية شأناً من شؤون الناس؛ ممضىً من قِبَل الله. وبالتالي موضوعا الولاية والحكومة ليسا شأناً فقهياً، إنما يدخلان ضمن دائرة علم الكلام وعلم الأديان. يضاف إلى ذلك أنّ منظومة الحكومة تتوقّف على إقامة العدل، والعدل بطبيعة الحال ليس أمراً دينياً. وعليه، بالرغم من كونهما محاطين بلباس الدين، إلاّ أن الحكومة والولاية يتوقّفان على العدل، الذي هو أمرٌ لا ينتمي إلى الدين. من هنا قد يصحّ تشبيه الفقه بقواعد اللغة، وبالتالي يكون الأجدى بالفقيه أن لا يتورّط بالنظام الإقطاعي([35]).
ويعتقد الحداثويون أن الموضوعات السياسية والاجتماعية منذ البدء لم تكن جزءاً من الدين، كي تريد الآن أن تنفصل عنه. وبالتالي لو تناولت النصوص الدينية شيئاً من القضايا الاجتماعية فهذا من باب الإشارة إلى بعض المبادئ الإنسانية لا غير، وليس من باب عدّها مواضيع إلهية مقدَّسة. وما يؤيّد ذلك أن الكثير من الأديان السماوية (وخصوصاً النصرانية) لم تتعرَّض للقضايا السياسية والاجتماعية. ولو أردنا أن نصوغ استدلالاً منطقياً على ما مرّ آنفاً نقول: لو كان التدخّل في القضايا الاجتماعية جزءاً من مهامّ الدين لكانت سائر الأديان السماوية (وخصوصاً النصرانية التي سبقت الدين الإسلامي) قد تناولت ذلك، والحال أنه لم يكن الأمر كذلك. ولا يمكن نقض الاستدلال المتقدِّم بأصالة استمرارية الأحكام [حلال محمد حلال إلى يوم القيامة…]؛ إذ إنّ المدّعى هو أنّ القضايا الاجتماعية لم تكن يوماً ضمن دائرة مهام الدين (حتّى في زمن الرسول المكرَّم نفسه) كي نريد إثبات استمراريتها عبر الأزمان المتعاقبة. والقول بأصالة استمرارية الأحكام، وشمولنا بذات الخطاب الذي خوطب به المسلمون الأوائل، إنما يكون مجدياً فيما لو كان المقابل مقرّاً بشمول النصوص المقدّسة التي ذُكرت في صدر الإسلام للأحكام الاجتماعية. وللإجابة عن ذلك نقول: إنّ القرآن نصٌّ غيبي نزل به الوحي، وبالعودة إلى هذا النصّ أو غيره من النصوص الدينية بالإمكان ملاحظة اهتمامها بالقضايا الاجتماعية. فعلى سبيل المثال: ورد في الخبر أنّ الإسلام بُني على خمسة أركان، أحدها: «الولاية»، وهي تُعَدّ ركناً سياسياً واجتماعياً في الوقت ذاته. بناءً على ذلك يمكن رصد مدى أهمّية القضايا الاجتماعية في الإسلام من خلال الرجوع إلى الإسلام نفسه، وإلى كلمات الشارع المقدَّس، لذلك يتضّح دَوْر الدين بشكلٍ أكبر كلّما تمت العودة إلى النصوص الدينية، وذلك بعد الفراغ من رصد الأدلة خارج الدينية.
وفي ذات السياق كتب محمد إقبال كتاباً بنوياً تناول فيه مسألة الوحي وختم النبوة. وطبقاً لنظريته إنّ فترة الوحي تنتهي عند مرحلة من مراحل تطوّر الحياة الإنسانية لم يصلها العقل البشري حتّى الآن. وإنّ فكرة انتهاء النبوة أو ختم النبوة لا تعني في نظر إقبال توقُّف أو انقطاع الرياضة الصوفية، التي يرى أنها تمثِّل حقيقة من حقائق الحياة. وخلافاً للعالم القديم فالإنسان يستقبل رسالة الأنبياء معتمداً على ثلاثة مصادر للمعرفة: التجربة الجوّانية، والطبيعة، والتاريخ. وبهذا الصدد يكتب: «أما العقل الاستدلالي، وهو وحده الذي يجعل الإنسان سيداً لبيئته، فأمرٌ كسبي، فإذا حصّلناه مرّة وجب أن نثبت دعائمه ونشدّ من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه. إن النبوّة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمرٌ ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يُقاد منه»([36]).
وطبقاً لهذه النظرية، المتأثِّرة بنظرية شلايرماخر ووليام جيمز([37])،إنّ انتهاء فترة الوحي وختم النبوة تعني بلوغ الإنسان، وتركه ليعتمد في النهاية على وسائله هو، من عقل وتجارب جوّانية وبرّانية. ويقدِّم علي شريعتي هو الآخر نظريةً قريبة من نظرية إقبال([38]). وبناءً على نظرية التلفيق لا تنافي بين بلوغ العقل وبين الاعتماد على الوحي والسبل المنوطة به، فبلوغ العقل لا يعني التخلّي عن الوحي، كما أن التمسك بالوحي لا يعني التخلّي عن العقل. فبالرغم ممّا بلغه العقل البشري من النموّ والتطوّر في عصرنا هذا يبقى بحاجةٍ ماسّة إلى الوحي في العديد من المجالات. وعلى سبيل المثال: بإمكان الشريعة [باعتبارها مصدراً وحيانياً] أن تقدِّم حلولاً جَذْرية تحسم السجالات العقيمة التي تحتدم على طاولة الدراسات الاجتماعية.
وضمن حديثه عن تقسيم الفقهاء للأوامر والنواهي التشريعية إلى: إرشادية؛ ومولوية([39])، كتب محمد مجتهد شبستري: «الاعتقاد بأنّ النبي مسؤولٌ عن إصدار كافّة الأحكام للمكلّف، وأنّها أحكام أبدية تستمر فاعليتها إلى يوم القيامة، هو اعتقادٌ يستلزم منه القول بشمول هذه الأحكام ـ التي هي عبارة عن مجموعة أوامر ونواهٍ ـ للناس كافّة. والواقع أنّ طبيعة هذا الفهم للأوامر والنواهي التي يتضمَّنها الكتاب والسنّة ينسجم مع هذا الاعتقاد.
ومثل هذا الكلام ينسحب أيضاً على تحديد أفق الشريعة ومَدَياتها؛ فإنْ كان مقتضى الأصول الفلسفية والكلامية الالتزام بأنّ مهمة النبيّ تقتضي التدخّل في كافّة تفاصيل حياة المكلّف ــ كالدعاء والعبادة والمعاملات والسياسة والاقتصاد ــ عندئذٍ تصبح جميع الأوامر والنواهي الصادرة عنه مولوية، في حين مَنْ يقصر دور الأنبياء على تحديد «ما يجب» و«ما لا يجب» في مجال الأصول الأخلاقية فقط عليه الالتزام بأن أغلب الأحكام المعاملاتية والسياسية والاقتصادية أحكامٌ إرشادية تتفق مع سيرة العقلاء في عصر صدور النصّ فحَسْب؛ وبالتالي التمسُّك بهذا الرأي يجعل صاحبه مخوّلاً سلوك طريق مختلف في عصرنا الحالي»([40]). وقد يبدو ما ذهب إليه شبستري من توظيف للهرمنيوطيقا مبهماً بعض الشيء، وذلك بالنظر لتعدُّد أنماطها، مضافاً إلى قصور ذلك عن إثبات مدّعاه. فغاية ما حقّقه استدلاله هو مدخلية الزمان والمكان والمفاهيم القَبْليّة في فهم النصّ، وهذه النتيجة بطبيعة الحال لا تؤدّي إلى إزاحة أو تقويض منظومة الفقه السياسي. يُشار إلى أن شبستري قد تأثَّر كثيراً بالمدرسة الهرمنيوطيقية الألمانية، ويصنّف ضمن مجموعة البنيويين؛ في حين يميل سروش إلى الفلسفة التحليلية بشدّة، ويصنَّف ضمن مجموعة النصّيين. وبالرغم من انتماء شبستري لطائفة البنيويين الهرمنيوطيقيين وسروش للنصّيين، لكنّ كلَيْهما من حيث المنهج الحداثوي التجزيئي ينتميان لفئةٍ واحدة.
وبالإجمال قد يصحّ القول: إنّ اعتماد البراهين العقلية والعلمية غير الدينية هو أحد إيجابيات الاتجاه الـ (ما وراء نصّي)؛ والإيجابية الأخرى لهذا الاتجاه قوله بالحُسْن والقُبْح العقليين. فالمعتزلة هو المذهب الذي يلتزم باتصاف الفعل بالحُسْن أو القُبْح لذاته، خلافاً للأشاعرة، وبالتالي يأتي حكم الشارع متأخِّراً عن الفعل، لا سابقاً له؛ فإنْ كانَ الفعل حسناً أمر به الشارع؛ وإنْ كان سيّئاً نهى عنه. في حين يرى الأشاعرة قصور العقل عن إدراك حُسْن الأفعال وقُبْحها، ويوكلون تحديد ذلك إلى الشارع؛ فإنْ أمر بالفعل كان حسناً؛ وإن نهى عنه كان سيئاً؛ وإن أدخل الله عبداً الجنّة كان لحسنٍ أتى به؛ وإنْ أدخله النار كان لسيئةٍ اقترفها. أما الشيعة فيقفون إلى جانب العدلية في هذا الأمر، أي يلتزمون بالحُسْن والقُبْح العقليين. غير أنّ جمهور الفقهاء لديهم ـ وللأسف ـ لا يستثمرون الفوائد المتوخّاة من هذا الموضوع. لذلك حاول التجزيئيون الـ (ما وراء نصّيون)، كعبد الكريم سروش ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، سدّ الفراغ بتجديد تجربة المعتزلة، فهم يرَوْن أنّ تجديد تجربة الاعتزال من شأنه إحياء دَوْر العقل كمصدرٍ مستقلّ بذاته. وفي الوقت نفسه كان لا بُدَّ من: أوّلاً: ملاحظة سبب ميول بعض المعتزلة إلى الدكتاتورية في إطار الوعي السياسي؛ وثانياً: محاولة تجديد العقل الشيعي كخيارٍ أفضل، وكبديل عن تجديد الفكر المعتزلي في إطار «نظرية التلفيق».
أمّا الإيجابية الثالثة للاتجاه الـ (ما وراء نصّي) فهي اهتمامه بآليات وأدوات فهم النصوص الدينية. فمن المسلَّم أن كل قارئ للنصّ يمتلك مجموعة مفاهيم قبليّة، وهذه القبليّات كانت إحدى المحطّات التي استرعَتْ اهتمام الـ (ما وراء نصّيين) كثيراً، فلا يمكن للمفسِّر الذي يمتلك خلفية سياسية ديموقراطية أن يفسِّر القرآن بطابع ديكتاتوري، كما لا يمكن للديكتاتوريين تفسير القرآن بروح ديموقراطية، فالعقل يتأثر ببيئة الأسرة والتربية والثقافة السائدة. وهذا الأمر يسري على موضوعة الاجتهاد أيضاً، فالاجتهاد الحضري يختلف عن الاجتهاد القروي، والمجتهد ذو النشأة الحضرية يختلف بطبيعة الحال عن المجتهد ذو النشأة القروية. وبالإجمال هذه ثلاث إيجابيات تحتسب للاتجاه الـ (ما وراء نصّي)، ونقاط ضعف بالنسبة للاتجاه النصّي.
إنّ مشكلة الاتجاه التجزيئي الحداثوي تكمن في استغنائه عن الأدلة النصيّة في القضايا الاجتماعية والتي على شاكلتها (كالفقه السياسي). وما تستهدفه نظرية التلفيق أنّها تبقي الباب مشرّعاً للعودة إلى النصوص الـ (داخل دينية)، سواء أكانت تلك النصوص تفصيلية أم إجمالية مقتصرة على بيان الخطوط العامة. ولا يخفى أن الأدلّة الـ (ما وراء نصّية) والـ (خارج دينية) مقدَّمة رتبةً على الأدلة النصّية الـ (داخل دينية)، وبالتالي فإن توفّر النوع الأول من الأدلّة بخصوص القضايا الاجتماعية مثلاً مقدَّمٌ على سائر الأدلّة من النوع الثاني. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأدلة الـ (ما وراء نصّية) لا تعتبر فصل الخطاب على الدوام، بمعنى أنّها غير قادرة على حسم سائر الموضوعات، وبالتالي تبقى الحاجة قائمة للأدلّة النصّية الـ (داخل دينية). ولأجل إضاءة المسألة أكثر نسرد عدداً من الموضوعات، على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ نظرية الوكالة: تعتبر نظرية الوكالة التي ساقها مهدي الحائري في كتابه «الحكمة والحكومة» أحد الأمثلة البارزة على الاتجاه الـ (ما وراء نصّي). وبحَسَب هذه النظرية إنّ شرعية الحاكم تأتي من توكيل الشعب له، لا من تنصيبه من قِبَل السماء. وبرأي الحائري حتّى المعصوم ليس له شأن الولاية السياسية؛ لما يترتب على ذلك من الوقوع في محذور الدَّوْر الخفيّ. فامتثال الحكم أو عدم امتثاله أمرٌ متوقِّف على وجود الحكم الوضعي، والوجود الوضعي للحكم متأخّر بطبيعة الحال عن إرادة تشريع الحكم، وبالتالي المسؤول عن تطبيق الأحكام لا بُدَّ أن يكون خارج دائرة الوضع والتشريع معاً. فلو أُنيطت مسألة تنصيب الحاكم (الولاية السياسية) بإرادة السماء للزم من ذلك تقدّم الشيء على نفسه بمرحلتين، وهذا يعني القول بالدَّوْر المضمر أو الخفيّ، كما يصطلح عليه المناطقة([41]).
وما تجدر الإشارة إليه هنا أنّه لو تمّ استدلال الحائري بخصوص «عدم إمكانية الجعل في التطبيق» لصحّ تقديم نظرية الوكالة على سائر النصوص التشريعية الساندة لـ «ولاية الفقيه». لكنْ كما سيتضح في بحث «العُرْف» هناك إشكالاتٌ عديدة أوردت على هذه النظرية([42]).
والحاصل، لو تمّ هذا الدليل الـ (ما وراء نصّي) للزم تقديمه على كافة الأدلّة النصيّة، لكنّه في الواقع قد أدحض بالعديد من الإشكالات، كما أسلفنا.
2ـ نظرية النظام الديموقراطي الديني: الأمر الآخر يتعلَّق بمحاولة عبد الكريم سروش تأصيل النظام الديموقراطي. فهو يرى أنّ الشعب يمتلك حقّ المراقبة والإشراف؛ لأنّ السلطة غالباً ما تكون عرضةً للفساد، وهذا الفساد لا تمنعه المقوّمات الذاتية للحاكم (كالعدل والتقوى وغيرها)؛ لأنّها قد تنقلب ضدّه بمرور الوقت. وبالتالي من يمتلك حقّ المراقبة والإشراف وعزل الحاكم لا بُدَّ أنْ يمتلك حقّ التنصيب أيضاً، فإنْ كان الأمر كذلك فهذا يعني إثبات أحقّية الشعب بالحكم([43]). ويؤدّي التسليم بهذا الرأي إلى زعزعة نظرية ولاية الفقيه، ببُعْدَيْها: الانتخابي؛ والتنصيبي، وتنتفي معها أيضاً الحاجة للعودة إلى النصوص التشريعية الدالّة عليها. ومع تفويض الحكم للشعب تنطوي صفحة نظرية الولاية، سواء بشكلها التنصيبي أو الانتخابي. وبكلمةٍ أخرى: لو تمّ استدلال السيد سروش المتقدِّم للزم حينئذٍ حمل الأخبار الدالّة على التنصيب أو الانتخاب على وجهٍ مختلف، لكنْ، وكما سيتّضح لاحقاً في إطار حديثنا عن «نظرية العُرْف»، ومن خلال ثلاث مقدّمات، الاستدلالُ المتقدِّم قد يصحّ من ناحية الشكل والهيئة، لكنّه سقيمٌ من ناحية المادّة والمضمون. ونذكّر القارئ الكريم بأنّنا لسنا هنا بصدد إثبات أو نفي النظريات المثبتة أو النافية لشرعية السلطة، إنّما غايتنا بالدرجة الأولى بيان تقدّم الأدلّة الـ (ما وراء نصّية) على الأدلة النصّية بشكلٍ علمي ومنهجي، وثانياً: إلقاء الضوء على بعض المشاريع الحداثوية التجزيئية، وإثبات قصورها في هذا المجال، ممّا يستدعي بقاء الباب مشرّعاً للرجوع إلى الأدلّة النصّية.
3ـ العدل وحقوق الإنسان: الأمر الآخر الدال على تقدّم الأدلة الـ (ما وراء نصّية) على نظيرتها النصّية يتمثّل بموضوعي العدل وحقوق الإنسان. وبحَسَب سروش، العدل وحقوق الإنسان أمران عقليان يبحثان خارج دائرة الدين، وبالتالي ليس للفقه التدخّل في مثل هذه الأمور. وكما لا يخفى فالدين لا يُختزل بالفقه، كما أنّ البحث في النظام الديموقراطي الديني ليس بحثاً فقهياً([44])، بل يعدّ العدل وحقوق الإنسان من جملة المواضيع الخارجة عن دائرة النصّ التشريعي أصلاً، ومن الخطأ إثقال كاهل الفقه بها. والعدل لا يؤخذ من الدين، إنّما يستساغ الدين لمراعاته العدل([45]). والفقه علمٌ بشري، ناقص، متحايل ودنيوي، ظاهري، يتوافق مع الأخلاق والسجايا السطحية، مستهلك، محدود، خاضع للبيئة الاجتماعية ومتأثّر بها، متمحور حول التكاليف، ويعتمد المصالح والملاكات الخفية([46]). وبرأي سروش، للديموقراطية أركان عديدة، أبرزها: العقلانية، وتحقيق الأغلبية، وحقوق الإنسان([47]). وتحتلّ حقوق الإنسان بالنسبة إلى المثقّف الديني منزلة الشرف للإنسان. وبالتالي تجده يقاتل في الدفاع عن حقوق الإنسان، وكأنّه يدافع عن شرف الناس([48]). والحال أننّا كبشر ـ فقط لأننا بشر، وليس لأمر آخر ـ لدينا حقوقٌ، وعلينا واجبات. وهذه الحقوق والواجبات تناط بنا بمعزل عن الدين، أي سواء وجد الدين أم لم يوجد، وعلى المرء الالتزام بها بغضّ النظر عن كونه ملتزماً دينياً أم لا. ولا شكَّ أنّ هناك العديد من حالات التعارض بين حقوق الإنسان وبين التكاليف الدينية بشكلٍ عامّ، والفقهية بشكلٍ خاصّ ـ بالفهم المعاصر للفقه طبعاً ـ، وفي حال التعارض تقدَّم التكاليف الخارجة عن دائرة النصّ التشريعي على نظيرتها التشريعية([49]).
وقد تبدو الإشكالية التي ساقها سروش غامضةً بعض الشيء؛ إذ لا يعلم ما إذا كانت المشكلة في أصل حجّية الفقه أم بتضخّم المنظومة الفقهية، فهو لم يحدّد بشكلٍ واضح متى وأين يتمّ تقديم الأدلّة غير الدينية على الأدلة الدينية؟ لكنّه بشكلٍ عامّ يرى ضرورة أن يتمّ تناول موضوع حقوق الإنسان خارج الأطر الدينية، ويؤكّد على أن أهمّية الموضوع تكمن لدى التعارض بين الأدلّة، ولا نعني بذلك ـ والكلام لسروش ـ عجز الدين عن الإدلاء بدلوه([50]).
ومن خلال ما تقدَّم يتّضح أنّ سروش يعتقد بأنّه لا يمكن تقديم الأدلة غير الدينية إلاّ في حال التعارض بينها وبين نظيرتها الدينية، عندئذٍ تُقدَّم الأولى على الثانية. لكنّ الملفت أنّه في موضعٍ آخر يحرص وبشدّةٍ على إبقاء الفقه بعيداً عن السياسة، سواء وجد التعارض أم لم يوجد، فيقول: «لا يخفى أن دراسة أنظمة الحكم، من حيث تحديد الشخص الأجدر بالحكم، ومن حيث كيفية إدارة نظام الحكم، بالتأكيد ليس بحثاً فقهياً، إنّما هو بحثٌ يتصل بالفلسفة السياسية»([51]). لكنْ استناداً إلى نظرية التلفيق لو تسنّى الارتقاء بالفقه السياسي فلن يبقى هناك أيّ مبرّر لإبعاد الأدلّة التشريعية عن المحاور السياسية والاجتماعية. غير أنّ سروش يرى «أن موضوع حقوق الإنسان يعتبر مجرّداً عن الدين والفقه تجرّداً تاماً، وهو موضوع يتمّ تناوله في الفلسفة وعلم الكلام، بل يصحّ القول: إنّه موضوع ما وراء ديني، شأنه شأن الحُسْن والقُبْح والجبر والاختيار والتوحيد والنبوّة، فهذه جملة من المواضيع تتقدَّم على فهم الدين، وتسبق اعتناقه، وكذلك تؤثّر في طبيعة الفهم والاعتناق، فهي مواضيع خارجة عن دائرة الدين… فلا الليبرالية بإمكانها تغطية كافّة أبعاد حقوق الإنسان، ولا الدين عبر مقولته الغريبة تلك بإمكانه ذلك»([52]). وطبقاً لعقيدة سروش، لا بُدَّ من البحث عن جذور هذه المواضيع عند دراسة حدود الدين وأبعاده وما يُتوخّى منه. إنّ رسالة الدين في ما يتّصل بحقوق الإنسان تتلخَّص برسم عددٍ من المُثُل العليا، وبالتالي ما يواجهنا إزاء هذا الموضوع، وما يدفعنا باتجاه تبنّي نظرية التلفيق، هو أنّ هناك توجّهين: أحدهما: يرى عدم وجود أيّ صلة للدين أو الفقه بموضوعة حقوق الإنسان؛ والآخر: يرى أنّ هناك نوعاً من العلاقة للدين بهذا الموضوع، وبالتالي لا يمكن اعتبار حقوق الإنسان قضية ما وراء دينية بشكلٍ تام، وهو الأمر الذي يحتّم علينا ترسيم حدود كلٍّ من الأدلة الـ (خارج دينية) والـ (داخل دينية) التي تتّصل بهذا الموضوع. وبناءً على ما ادّعاه سروش، من أنّ الفقه غنيٌّ من حيث الحكم، لا المنهاج([53])، لا بُدَّ أن يكون أقلّ ما نتوخّاه من الفقه أن تكون له أحكامٌ في مجال الاجتماعيات، لا أن يتمّ إقصاؤه عن هذه المواضيع إقصاءً تامّاً. إنّ مسألة تحديد دَوْر الدين، بالرغم من أنّها قد تبدو مسألةً خارج دينية، إلاّ أنّ تحديد أفق القضايا الـ (خارج دينية) والـ (داخل دينية) يجب أن يتمّ بالرجوع إلى المعطيات الدينية ذاتها؛ إذ إنّ الأدلّة العقلية بهذا الصدد قد تبدو مبهمةً وغير تامّة. وفي الحقيقة لم يقدّم الحداثويون التجزيئيون برهاناً قاطعاً يمنع الرجوع إلى الدليل الـ (داخل ديني) في مثل هذه المسائل… وهنا قد يحقّ لأيّ متديِّن أن يتساءل: إذا كانت النصوص الدينية قد تناولت مسألة الحكم وآلياته، أو على الأقلّ هناك احتمال أنّها تناولت ذلك، فما الذي يدعونا لتركها جانباً والبحث عن الدليل خارج دائرة الدين؟! وإذا كان للباري تعالى توجيهات عامّة وقضايا إجمالية بهذا الشأن، ألا يكفي أن يشكّل مجرّد احتمال وجودها دافعاً للعودة إلى الدين والنصوص الدينية للعثور على أوامر الشارع ونواهيه؟! تجيب نظرية التلفيق عن هذا التساؤل بالإيجاب.
4ـ الهرمنيوطيقا الدينية: يحاول محمد مجتهد شبستري تجديد الفكر الديني من خلال استخدام الهرمنيوطيقا. ويبدأ محاولته بنقد المنهج الفقهي السائد، ويصل في نهاية المطاف إلى القول بزمنية الأحكام الاجتماعية في الإسلام([54]). فهو يرى أن الكثير من الواجبات والمحرّمات الصادرة في باب المعاملات (الأحكام الاجتماعية بالمعنى الأعمّ) ذات طبيعة إرشادية، لا مولوية. كما يحاول الاتكاء على الهرمنيوطيقا لتحديد دَوْر الزمان والمكان، وإبراز أهميتهما في عملية الاجتهاد([55]). وبصدد حديثه عن حقوق الإنسان يكتب: «المراد من الحقوق هنا ما يبتني عليه النظامين السياسي والاجتماعي، لا الحقوق التي تنيطها المنظومة الأخلاقية بكل فرد. كما يعتبر موضوع حقوق الإنسان موضوعاً غير ديني، وليس ضدّ الدين»([56]). وبصدد نقده لرؤية جوادي الآملي لحقوق الإنسان يعتقد شبستري أنّ حقوق الإنسان الميتافيزيقية موضوعٌ مثالي غير قابل للتطبيق على أرض الواقع، وبالتالي الحرّية السياسية تتقدَّم وتسبق المسؤولية الدينية، وهذا من شأنه أن يمنحنا قراءةً للإسلام لا تتعارض مع المضامين الرئيسية لحقوق الإنسان. ولو تسنّى لنا فصل ذاتيات الدين عن عرضياته لوجدنا الكتاب والسنّة صامتين إزاء الحرّيات الدينية والسياسية المعاصرة([57]).
وهنا قد تبدو القضايا التي طرحها شبستري لم تسلم هي الأخرى من الغموض الذي عانت منه قضايا سروش. فبسبب إهماله التفكيك بين أنماط الهرمنيوطيقا، والتزامه القدر المشترك بينها، شاب النتائج التي خرج بها شبستري الكثير من الغموض والإبهام؛ فأوّلاً: لا بُدَّ من القول: إنّ الهرمنيوطيقا الفلسفية الوجودية لغادامير لا تشترك مع باقي أنماط الهرمنيوطيقا بأيّ قدر مشترك، وبالتالي إذا استخدمنا الهرمنيوطيقا فلا بُدَّ أنْ نحدِّد أوّلاً أيّ نمطٍ من أنماطها هو المقصود. وهذا ما أغفله شبستري؛ إذ لم يلتفت إلى أن هرمنيوطيقا غادامير ليست ممنهجة ليقوم بتوظيفها في الفقه توظيفاً منهجياً. بل إنّ الـ «واو» الواقعة بين الحقيقة ومنهج غادامير تفيد الفصل بين الأمرين، لا الاشتراك([58]). وعلى حدّ قول محمد رضا نيكفر: يسعى شبستري لإثبات أمرين: أوّلاً: الحركة والتغيير في الكون؛ وثانياً: الإجابات المناسبة والعصرية لهما. وهذا يعرف بالفقه الديناميكي المتجدِّد، وليس بالهرمنيوطيقا!([59]).
وثانياً: لو سلّمنا جَدَلاً سلامة التوظيف الشبستري للهرمنيوطيقا فمع ذلك لن يتضح كيف استنتج عبر هذا المنهج الديموقراطية الدينية المتوافقة مع حقوق الإنسان.
5ـ العلمانية: المثال الرابع على الأدلة الـ (ما وراء نصّية) التي يسوقها الحداثويون التجزيئيون يتمثّل في ما أورده مصطفى ملكيان حول العلمانية. فبرأيه، من المتعذِّر جعل الأمور الآفاقية([60]) والأنفسية غير المختبرة (بمعنى أنها لم تثبت بالطريقة التي تثبت بها الأشياء في العلوم المختلفة) أساساً لاتخاذ القرارات ما لم تكتسب رأي الأغلبية. وهذا هو مقتضى العدالة أوّلاً، والسبيل الأسلم لدَرْء محذور الترجيح بلا مرجِّح ثانياً. وعبر محاولته المتقدِّمة يسعى ملكيان لتسويغ العلمانية، وتقويض الحكم الديني. لكنْ، وكما سيتّضح لاحقاً لدى حديثنا عن «نظرية العُرْف»، قد وقع في كمين الخلط بين الديموقراطية والعلمانية، بل إنّ دليله على أن ذلك (مقتضى العدالة والسبيل الأسلم لدَرْء محذور الترجيح بلا مرجّح) أعمّ من المدَّعى. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا بوجود سبل أخرى كفيلة بإثبات الأمور الآفاقية والأنفسية غير المختبرة واستثمارها في اتخاذ القرارات. وأحد هذه السبل يتمثّل في العودة لشريحة خاصّة من الناس (النخب، والمتخصّصين، وعلماء الدين).
وما حملنا على سرد هذه المجموعة من الأمثلة الـ (ما وراء نصّية) أوّلاً: التأكيد على القاعدة التي تفيد بتقدّم الأدلّة الـ (ما وراء نصّية) على الأدلة النصّية؛ وثانياً: التدليل بشكل واقعي، ومن خلال المصاديق، على أنّ المشاريع الحداثوية لم تَخْلُ هي الأخرى من ثغرات. وبالتالي تظهر أهمّية نظرية التلفيق، التي تقرّ بتقدُّم الأدلّة الـ (ما وراء نصّية) على الأدلّة النصّية، لكنّها تعتبر توفّر النصوص وإمكانية الرجوع لها إثباتاً لحجّيتها، وبالتالي فالتقديم والتأخير يتمّ حسب مستوى الدليل النصّي أو الـ (ما وراء نصّي)، بعد إعمال التقييم له.
نحو اتجاه ثالث
بين الاتجاهين الحداثوي والراديكالي تتبنّى «نظرية التلفيق» اتجاهاً وسطيّاً ثالثاً، يعبِّر عن إمكانية التلفيق بين الأدلة العقلية العلمية الـ (ما وراء نصّية) والنصّية المتمثّلة بالقرآن والسنّة. وقد يصح اعتبار هذه النظرية امتداداً لجهود النائيني والآخوند الخراساني في ترسيم مدى قدرة الفقه ومواكبته للتطوّر واستجابته للتجديد. ويسعى الكاتب عبر هذه الدراسة إلى إثبات مدخلية نقاط الضعف التي يعاني منها كلٌّ من الاتجاهين الحداثوي والراديكالي في عرقلة مسيرة التجديد الديني، وإحلال نظرية التلفيق محلّهما كبديلٍ وسطي أمثل، وهي النظرية التي تشيد دعائمها على التلفيق بين الأدلة النصّية والـ (ما وراء نصّية)، فتتفاعل الأدلة الـ (داخل دينية) والـ (خارج دينية) تفاعلاً إيجابياً، مولدةً نتائج ذات مستويات عدّة.
وعلى الرغم من تقدّم الأدلة الـ (ما وراء نصّية) على نظيرتها النصّية، إلاّ أنّه بموجب نظرية التلفيق لا يعني ذلك إلغاء الحاجة للأدلّة النصّية أو الفقه السياسي. وهنا نودّ الإشارة إلى أنّنا لا ننفي تعرّض الاجتهاد الأصولي والفقه السياسي عبر تاريخهما الحافل إلى مشاكل وإصابات عديدة، قد يمكن ترميمها عبر الأساليب المعاصرة أو حتّى التقليدية، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي قيمة الاجتهاد أو يخرجه من دائرة الاعتبار. ويبدو أن التلفيق بين الأدلة النصّية والـ (ما وراء نصّية) من شأنه توفير ثروة مهمّة من المعطيات في مجال العلوم الإنسانية، كما يساهم مساهمةً جادّة في نقد وتطوير مشاريع التجديد الديني؛ إذ تعتبر نظرية التلفيق نظرية خارج دينية وداخل دينية في آنٍ واحد، كما يتميّز مشروعها النقدي الموجّه للاتجاه الحداثوي بطابع منهجي. ولأجل مزيدٍ من الإيضاح حول هذه النظرية نشير في ما يلي إلى عددٍ من المسائل:
1ـ نظرية التلفيق والعلاقة بين الأدلة النصّية والـ (ما وراء نصّية)
إنّ أهمّ ما تمتاز به نظرية التلفيق هو التعاطي مع نمطَيْ الأدلة: النصّية؛ والـ (ما وراء نصّية)، فهي تحاول إيجاد نَسَق واضح وجليّ للتلفيق بين هذين النمطين من الأدلة، لتتجاوز بذلك جفاء الاتجاه الراديكالي للأدلة الـ (ما وراء نصّية) وجفاء الاتجاه الحداثوي للأدلة النصّية. وبحَسَب هذه النظرية تعتبر الأدلة الـ (ما وراء نصّية) مقدّمة على الأدلة النصّية من عدّة جهات، لكنّها مع ذلك لا تمانع من الرجوع إلى النصوص المقدّسة (الآيات والأخبار) في القضايا الاجتماعية والإنسانية. فالأدلّة الـ (ما وراء نصّية) تمهّد لفهم النصّ، وهي بذلك تتقدّم رتبةً على الأدلة النصّية. فالفقيه ذو الميول الديموقراطية يفهم النصّ بطريقة تختلف عن الفقيه ذو النزعة الشيوعية أو العمالية. وتنقسم الأدلة الـ (ما وراء نصّية) إلى عدّة مجموعات: أوّلها: الأدلة العقلية والبرهانية. ولا يخفى لو انتهت نتيجة أحد البحوث إلى الدَّوْر أو التسلسل بطل الشرط المترتّب عليه تبعاً لذلك. وهذا ما حصل مع مهدي الحائري في محاولته إثبات نظرية الوكالة في مسألة الخلافة أو الحكم؛ فقد استدلّ على هذا النحو: لو كان الحاكم هو شخص يتمّ تعيينه من قبل الشارع للزم من ذلك الدَّوْر الخفيّ، وبما أنّ الدَّوْر باطلٌ عقلاً فلا يحقّ للمولى عزَّ وجلَّ تعيين أيّ أحد لمنصب الحكم أو الخلافة (بما في ذلك المعصومون). وكما أسلفنا لو كتب لمحاولته النجاح، وكان دليله تامّاً، لتحتّم تقديمه على سائر الأدلة النقلية في باب الحكم والخلافة (بما في ذلك أدلة ولاية الفقيه).
المجموعة الأخرى من الأدلة الـ (ما وراء نصّية) ما يتّصل بموضوع الحُسْن والقُبْح العقليين، وهي من أهمّ الموضوعات التي احتدم الجَدَل حولها بين الأشاعرة والمعتزلة، فاصطف إثرها العدلية، وبضمنهم الشيعة، في جهةٍ، والأشاعرة في الجهة المقابلة، فتبنَّتْ العدلية القول بالحُسْن والقُبْح العقليين، فيما رفض الأشاعرة ذلك. وفحوى الحُسْن والقُبْح العقليين هو الأخذ بحكم العقل في حُسْن الأشياء أو قُبْحها، فما حسّنه العقل عُدَّ حسناً وما قبّحه عُدَّ قبيحاً، لكن مشكلة الشيعة أنّهم قبلوا ذلك نظرياً، وتجاهلوه على مستوى التطبيق، وبعبارةٍ أخرى، وكما سيتّضح في الموضوع اللاحق: ينزّل الشيعة العقل منزلة ما لا تناله الأفهام.
المجموعة الـ (ما وراء نصّية) الأخرى تتعلق بالمناهج الحديثة في فهم النصّ؛ إذ تعتبر المناهج الحديثة فروعاً علمية هامّة أثارت اهتمام العديد من العلماء والباحثين، ومن بينها: المنهج الهرمنيوطيقي في فهم النصّ، الذي يقف في مقابل المنهج اللغوي، بمعنى لو طالعنا التاريخ الإسلامي طبقاً لآليات المنهج اللغوي لتمخّض عن ذلك نتائج ـ أحدها: التفكيك التاريخي ـ، فيما لو طالعناه طبقاً لآليات المنهج الهرمنيوطيقي لتمخّض عن ذلك نتائج أخرى مغايرة.
وقد يتساءل البعض، نظراً لإمكانية العودة للأدلة النصّية بحَسَب نظرية التلفيق، إلى أيّ مدىً يمكن الاعتداد بهذه الأدلّة؟ وإلى أيّ أفق يمتدّ تأثير الزمان والمكان فيها؟ للإجابة عن ذلك يتمسك الكاتب بأصالة استمرارية الأحكام([61])، وبالتالي لدى الترديد بين زمنية الحكم أو استمراريته يُلتَزَم بأصالة الاستمرار. فعلى سبيل المثال: لو حصل الترديد؛ نظراً للواقع الزمني المعاصر والتحدّيات القائمة، بحكم «القصاص»، أهو حكم زمني أم مستمر؟ فـ «أصالة الاستمرار» تقتضي استمراره وديمومة فاعليته.
2ـ البُعْد العقلاني في نظرية التلفيق
نظراً لانضمامهم إلى دائرة العدلية فمن المفروض أن يحتلّ العقل مركزاً هاماً لدى جمهور الشيعة، إلاّ أن الواقع ينقل لنا صورة مختلفة؛ إذ لم يستثمر فقهاء الشيعة ومفكِّريهم هذا المصدر الهامّ. ولا يخفى أنّ من مصاديق الدليل العقلي هو الدليل البرهاني، الذي تقدّم الحديث عنه في الفقرة السابقة. وسنحاول هنا بثّ شيء من الحياة في جسد الدليل العقلي، ومنحه مساحة أرحب، وذلك بالاعتماد على نظرية التلفيق وأصول الفقه الشيعي. وبحَسَب علم الأصول تنقسم القضايا العقلية إلى: المستقلاّت العقلية؛ وغير المستقلاّت العقلية. والأولى هي قضايا يستقلّ فيها العقل بإثبات الحكم الشرعي، دون أن يستعين في ذلك بالمقدّمة الشرعية، بمعنى أن كلتا المقدّمتين عقليتان. وغير المستقلاّت العقلية هي قضايا يحتاج العقل فيها إلى مقدّمة عقلية وأخرى شرعية لإثبات الحكم الشرعي. وما ندّعيه هنا هو أنّ الاعتماد على العقل (أي المستقلاّت العقلية) في الفقه الشيعي أمرٌ نادرٌ للغاية، ويمكن إجماله بحُسْن العدل وقُبْح الظلم. ولا يخفى أن الاجتهاد هو مَلَكة استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية بالاتكاء على قواعد معينة. فعلى سبيل المثال: لو وضعت مسألة كمسألة صناعة التماثيل على طاولة الفقيه فستجده ينطلق إلى القرآن الكريم والأخبار، ويطرق باب علم الأصول؛ لتحديد موقف المكلَّف إزاء هذه القضية، والمتمثِّل بالحرمة أو الوجوب أو الاستحباب أو الكراهية أو الإباحة. وبناءً على المشهور تتلخّص مصادر الاستنباط في أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. وكما أسلفنا لم يحْظَ العقل، الذي هو أحد مصادر التشريع، باهتمام جمهور الفقهاء الشيعة على مستوى التطبيق. فلو تصفَّحت الرسائل العملية لندر أن تجد فتوى اعتمد فيها الفقيه على المستقلات العقلية. أمّا الإجماع فهو لا يُعَدّ مصدراً تشريعياً مستقلاًّ، وذلك أنّ منقوله ليس بحجّة، ومحصّله لا يحصل، وبالتالي سوف لن نجد على أرض الواقع من المصادر التشريعية الأربعة سوى مصدرين يتمّ اعتمادهما بشكلٍ فاعل، وهما: القرآن؛ والسنّة. ويرى جمهور الفقهاء أن العقل البشري عقلٌ جزئي لا يعتدّ به، وأمّا حكمه بحُسْن العدل وقُبْح الظلم فهذه مسألة كليّة غير مجدية، سوى في بعض الحالات النادرة. من هنا تأتي نظرية التلفيق، لتؤكّد أنّ العقل الذي ثبتت حجّيته لدى الشارع المقدَّس هو العقل المشترك بين جميع الأفراد، الذي يقرّ به الجميع لو جُرِّدوا من الميول والرغبات. وقد يكون من المناسب هنا سرد بعض الأمثلة؛ لإلقاء مزيدٍ من الضوء على الموضوع:
يصنّف الصرامي العقل كأحد مصادر التشريع، فيقول: «المراد من العقل القطعي هو كل عملية عقلية يقوم بها الفقيه الجامع للشرائط لدى استنباطه الحكم بما يحرز مراد الشارع المقدّس. وإنّما وضعنا العقل إلى جانب الكتاب والسنّة؛ أوّلاً: لاستقلاله عنهما، أي استغناء الحكم العقلي القطعي عن الرجوع إلى الكتاب والسنّة؛ وثانياً: كوننا لا نرى في الكتاب والسنّة ما يقيِّد العقل أو يحدِّده»([62]). وفي معرض الردّ على محمد رضا المظفّر يرى الصرامي أن الآراء المحمودة ناتجة عن سيرة العقلاء (المصالح والمفاسد النوعية، أو من أجل ديمومة السيرة العقلائية)، وليست أحكاماً تعبُّدية صِرْفة، هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الشارع المقدّس هو أحد المشرّعين. وبعقيدته لو صحّ نسبة بعض الأحكام إلى العقلاء من حيث إنهم عقلاء فإنّ هذه الأحكام ستكون كلّية لا جدوى عملية فيها، كقاعدة قُبْح الظلم إذا أخذت على نحوٍ كلّي دون تحديد مصاديقها، وبالتالي لن يكون بمقدور العقل أن يتحول إلى مصدر للحكم الشرعي القطعي، إلاّ في حال إحرازه المصالح أو المفاسد الواقعية للحكم([63]). إنّ استدلال الصرامي حول استقلال الدليل العقلي كمصدرٍ تشريعي، إلى جانب الكتاب والسنّة، استدلالٌ جدير بالتأمّل. لكنْ كما أقرّ هو أيضاً فإن الحكم العقلي القطعي أمرٌ نادر الشيوع للغاية([64]). وهذا بالضبط ما تحاول نظرية التلفيق علاجه.
في ذات السياق جاء في كتاب «تفويض السلطة في الفكر السياسي الشيعي» أن العقل يرفض تفويض السلطة المطلقة لغير المعصوم، وهذا العقل ليس العقل الذي يتكئ عليه فقهاء الشيعة، بالرغم من أن حجّيته ثابتة من قبل الشارع المقدَّس. ولا يخفى أننا حين نتحدث عن حكم العقل بوجوب تفويض السلطة فهناك احتمالات ثلاثة:
أـ أن يكون المراد الدليل العقلي. فقد ذهب بعضهم، كمحمد حسين الإصفهاني، إلى إرجاع هذا النوع من القضايا إلى قاعدة حُسْن العدل وقُبْح الظلم؛ في حين ذهب بعضٌ آخر، كآغا ضياء الدين والسيد محمد باقر الصدر، إلى استقلال العقل في أحكام عديدة، كقُبْح التصرُّف في ملك الغير أو الأرش أو غيرها من الأحكام. وذهب المحقّق الإصفهاني إلى تقسيم العقل إلى: نظري؛ وعملي، وأرجع العقل العملي إلى بناء العقلاء بما هم عقلاء، وميّز بين بناء العقلاء وبين كلٍّ من: العُرْف؛ والإجماع. وذهب محمد رضا المظفَّر إلى أن المقصود بالعقل هنا ما به يدرك حُسْن الأشياء وقُبْحها، وما يتفق عليه العقلاء من مدح شيء أو ذمّه. أمّا الحُسْن والقُبْح العقلي لدى العدلية فيقصد به الآراء المحمودة والقضايا المشهورة؛ لتماهيها مع رأي العقلاء بما هم عقلاء. وكما هو معلومٌ ليس للقضايا المشهورة واقعٌ وراء مطابقة رأي العقلاء، فحُسْن العدل ما حسّنه العقلاء، وقُبْح الظلم ما قبّحه العقلاء([65]).
ب ـ أن يكون المراد من حكم العقل السيرة العقلائية، بمعنى أن بناء العقلاء وسيرتهم تقتضي تفويض السلطة. ويشار إلى أن الفرق بين بناء العقلاء والسيرة العقلائية أنّ الأوّل أمرٌ مستحدَث، والثاني مستمرّ.
ج ـ أن يكون المراد من حكم العقل العقل الجمعي أو العقل الاجتماعي. وقد فسّر أهل السنّة العقل بالاستحسان الذي يقتضيه عقل العقلاء (وليس العقل البرهاني طبعاً). أمّا الإمامية فلجأوا إلى العقل لسدّ مناطق الفراغ التشريعي (في ما لم يَرِدْ فيه نصٌّ).
وفي ما يتصل بتفويض السلطة نستطيع القول: إنّ بناء العقلاء والسيرة العقلائية والعقل الجمعي يجمعون على ضرورة تفويض السلطة غير المطلقة، دون تركيزها. وقد يقال بأن الدليل العقلي وحده قادرٌ على إثبات قُبْح تفويض السلطة المطلقة لغير المعصوم، دون الحاجة إلى الدليل النقلي.
وفي مقام الإجابة نقول: إن العقل الذي ثبتت حجّيته لدى الشارع المقدَّس هو العقل المشترك بين سائر الناس، أي الذي يتفق عليه الجميع لو جرّدوا من الأهواء والرغبات ـ وليس العقل الكلّي المجرد ـ، والعقل بهذا المعنى لا يمكن إحرازه عادةً في مثل هذه الموارد. إنّ ملاك المستقلاّت العقلية يتلخّص بقاعدة حُسْن العدل وقُبْح الظلم. فالعقل وحده، وعلى نحو الاستقلال، يدرك فقط قُبْح تفويض السلطة المطلقة ـ بسبب ترتُّب الفساد على ذلك في أغلب الأحيان ـ. وبحَسَب محمد حسين الإصفهاني لا تثبت الحجّية لبناء العقلاء إلاّ «من حيث إنهم عقلاء»، وذلك لكونه أمراً وجدانياً، وبالتالي إذا لم يكن تفويض السلطة المطلقة وتركيزها مدعاةً للفساد على نحوٍ دائم فعلى الأقل هو أمرٌ أكثريّ الحدوث. وهذا المعنى نلمسه بوضوح من خلال السياقات التشريعية وتحفّظها وحرصها على مصالح الأمّة، بل نجد الشارع يأمر بتوزيع السلطة، لا تركيزها([66]).
الأمر الآخر الذي يندرج ضمن هذا السياق، ونحاول إلقاء بعض الضوء عليه، محاولة محمد هادي معرفت الرامية إلى نقد رؤية محمد حسين الطباطبائي للعلاقة بين الإسلام والديموقراطية. فالديموقراطية لدى الطباطبائي تعني تمسك الأغلبية بالباطل؛ استجابةً للهوى، وبالتالي يستحيل توافقها مع المبادئ الإسلامية؛ إذ يهاجم الطباطبائي الديموقراطية بمفهومها المعاصر، واصفاً إياها بالشعارات الفارغة الخدّاعة، لذلك لا تجتمع مع الإسلام بأيّ حال من الأحوال([67]).
وقد حاول محمد هادي معرفت الردّ على ذلك، بوصف الآيات الناهية عن اتباع الأكثرية بالقضايا الخارجية التي قصد بها البيئة الاجتماعية التي رافقت فترة النزول: «إن استنتاجاً كهذا مغلوطٌ تماماً ومجانب للصواب. وأمثال هذه الآيات تُعَدُّ من «القضايا الخارجية» التي قُصد بها جماعاتٌ خاصة، وأشخاص معينون، معاصرون لفترة نزول تلكم الآيات. وعلى هذا فإن لأمثال هذه الآيات جانباً خاصاً، ولا يمكن استنتاج قاعدة كلية منها، بحيث يمكن القول: إن الأغلبية في كلّ زمان ومكان مقترنةٌ بالانحراف والتفكير المغلوط»([68]).
وليست الغاية من سَوْق رأي الطباطبائي والردّ عليه هنا دراسة العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، إنّما المراد الوقوف على حكم العقل في هذا النمط من الموضوعات؛ ذلك أنّ العقل هنا لا يعني المستقلاّت العقلية (كما فهمه فقهاء السَّلَف)، وبالتالي قد لا يتفق الاتجاه التقليدي مع المحاولة النقدية لمحمد هادي معرفت. لكنْ إذا فسّرنا العقل بالمعاني الثلاثة التي مرّت حينئذٍ سيكون من السهل تقبُّل المحاولة النقدية المشار إليها. كما بإمكان العقل المستقلّ، مضافاً إلى العقل الجمعي وبناء العقلاء والسيرة العقلائية، أن يحكم بضرورة التمسُّك برأي الأغلبية في القضايا الاجتماعية.
إنّ الغاية من جميع ما ذُكر بيان أفق العقل في نظرية التلفيق ضمن مجموعة من الأمثلة، ومحاولة إخراج الموضوع من طابع الإبهام والإجمال؛ من أجل المساهمة في تجديد العقل الشيعي، الكفيل بحلحلة العديد من الأزمات الفكرية.
3ـ نظرية التلفيق ودَوْر المنهجيات الحديثة وما بعد الحديثة
تتمتّع المنهجيات المعاصرة والحديثة بأهمّية بالغة بالنسبة إلى نظرية التلفيق باعتبارها منجزاً مهمّاً يحتسب لصالح العقل البشري، وهو ما لا ينسجم معه روّاد المنهج التقليدي النصّي بطبيعة الحال. وكلّ ذلك مردّه إلى طبيعة الرؤية للموضوع؛ فهناك الرؤية التقليدية؛ وهناك الرؤية التجديدية؛ وهناك الرؤية الحداثوية. إنّ مشكلة الاتجاه التقليدي تكمن في أحادية الرؤية، فهو لا يمكنه استيعاب رؤية مغايرة لرؤيته. والحال أن موضوعاً واحداً قد ينظر إليه من زوايا متعدّدة، كما لا يخفى. وقد أقرّت نظرية التلفيق بنوعٍ من التعدّدية المنهجية([69]). ولا يخفى أن لكلّ منهج مزاياه ومحدّداته. وقد حاول الكاتب بيان دور المنهجين ـ الهرمنيوطيقي؛ واللغوي ـ وأثرهما على الدراسات الإسلامية([70]). ولا تقتصر مهمّة المناهج الحديثة في تغيير نظرتنا للقضايا السياسية والاجتماعية فحَسْب، إنّما تؤثر على مسار عملية الاجتهاد برمّتها أيضاً. فالاجتهاد كقضيةٍ يمكن إخضاعها للمنهج الأحفوري([71])؛ إذ تخضع معظم القراءات التقليدية، والتي من جملتها الاجتهاد، للمنهج النصّي، وبالتالي لا تستفيد من مزايا المناهج البنيوية. وبالإجمال نقول: هناك اتجاهان رئيسان لتفسير النصوص السياسية للمفكّرين والباحثين: أحدهما: الاتجاه التاريخي أو السياقي([72])؛ والآخر: الاتجاه التحليلي أو النصّي([73])([74]). ويخضع الاجتهاد للمنهج النصّي، أمّا ما نجده من البحوث التاريخية البسيطة التي قد يتطرّق إليها المجتهد أحياناً فهي لا تجعل من الاجتهاد منهجاً بنيوياً، كما هو معلومٌ.
4ـ التجربة ونظرية التلفيق
المجموعة الأخرى من الأدلة الـ (ما وراء نصّية) تتمثل بالدراسات العلمية، فالقضايا العلمية قضايا يتم إثباتها أو نفيها على نحو اليقين. فعلى سبيل المثال: ورد في الأثر دعاء لطلب الذكور، وصورته أن يدعى للجنين حين بلوغه الشهر الرابع، لكنّ العلم أثبت على نحو اليقين أن كل خلية تحتوي على نواة الخلية السيتوبلازم (وهو السائل المحيط بالنواة)، والنواة بدورها تحتوي على 48 زوج من الصبغيات أو الكروموزومات، وهي تحمل العناصر الوراثية المسمّاة بالجينات الوراثية، ويتميّز الإنسان بوجود الصبغيان أو الكروموزمان XY في نواة خليته: الكروموزوم Y يحمل جينات تعمل على نشأة الذكر، وعدم وجود الكروموزوم Y معناه نشأة الأنثى، لذلك فالثدييات ذات XX من الكروموزومات تكون مؤنثة، أما تلك ذات الصبغيات الجنسية XY فتكون ذكوراً، وكلّ ذلك يحصل لدى اتحاد مشيج ذكري (حيوان منوي) مع مشيج أنثوي (بويضة) بهدف تشكيل لاقحة (بويضة ملقحة)، تنمو لتعطي فرداً جديداً. وهذه الحقيقة العلمية تتعارض مع خبر الدعاء للجنين لدى بلوغه الشهر الرابع؛ طلباً لحصول الذكر. وفي مثل هذه الحالات، أي لدى توفّر دليل علمي قطعي، وتعارضه مع دليلٍ نقلي، يُصار إلى ترك الأخير، أو اللجوء إلى تأويله. إذن لا بُدَّ من تأويل الدليل النصّي إذا ما وجد الدليل العقلي أو العلمي القطعي.
ولا يمكننا تصوُّر أن يصدر عن الباري سبحانه قولاً ينافي العقل والعلم؛ ذلك أنّه سيد العقلاء. وفي المقابل، مع وجود الاستحسان إلى جانب القرآن والسنّة فالتعبُّد يلزمنا أن نتمسّك بهما، ونقدِّمهما على الاستحسان. فحين يصف القرآن الكريم الرِّبا بأنّه حربٌ مع الله، وعندما يحكم بالقصاص على القتل المتعمّد، فلا مساحة للاستحسان، مهما علا صوته بالرفض أو الإدانة، في أيّ زمنٍ من الأزمان.
5ـ الفقه (السياسي) ونظرية التلفيق
عرَّف الفارابي صناعة الفقه بأنّها الصناعة التي يقتدر بها الإنسان على أن يستنبط تقدير شيءٍ مما لم يصرِّح واضع الشريعة بتحديده على الأشياء التي صرّح فيها بالتحديد والتقدير([75]). وعلى حدّ قول الجابري: إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها: إنها حضارة فقه([76]). ويتمحور الفقه السياسي بشكلٍ عام حول تحديد الموقف الشرعي للمكلَّف، وبالتالي لا يبحث عن (الحقّ). ويعتبر الشكل الهرمي للسلطة أمراً مسلَّماً لدى الفقه السياسي ـ سواء أكان شيعياً أم سنّياً ـ، وبالتالي يعتبر الحاكم والهيئة الحاكمة على رأس الهرم، والشعب في القاعدة، وحاشية السلطان والنبلاء والطبقة الارستقراطية في الوسط. وأبرز ما تناوله الفقهاء ـ سنّة وشيعة ـ ضمن إطار الفقه السياسي تمحور حول مصدر السلطة، ومشروعية الدولة الإسلامية، والصفات التي يجب أن تتوفّر في الحاكم الإسلامي، وطبيعة السلطة المشروعة، وعلاقتها بالقهر والغلبة، وعلاقة الفقهاء بالحكومات الجائرة، وحدود الولاية الحاكمة. وبطبيعة الحال نجد تفاوتاً ملحوظاً بين فقهاء السنّة والشيعة في مصدر السلطة؛ فالبعض حصره بالتنصيب من قِبَل السماء؛ والبعض قال بالبيعة؛ والبعض بانتخاب أهل الحلّ والعقد؛ وذهب ابن تيمية إلى تفويض أهل الشوكة؛ والبعض أجاز تولّي السلطة بالقهر والغلبة؛ والآخر بالأغلبية.
إذن يتّضح ممّا سبق أن الاتجاه الحداثوي التجزيئي قد منح العقل دوراً رائداً في التعاطي مع القضايا الاجتماعية؛ باعتبار أن هذا النمط من القضايا لا يحتوي على مصالح خفيّة، كما هو الحال بالنسبة إلى القضايا الفقهية. وبالتالي إهمال دَوْر العقل ومحاولة تقويضه لا تضعف بنية الدين فحَسْب، إنما تساهم في طمس دعائمه. يضاف إلى ذلك أنه لا يمكن أن نتصوَّر قراءة للدين أو النصوص الدينية تتمّ بمعزل عن العقل. إنّ الحداثويين يميِّزون بين كمال الدين (اليوم أكملت لكم دينكم) وشموليته (أي شموله لكافة الأجيال وصلاحيته لجميع العصور)، مدّعين أنّه بالرغم من كمال الدين الإلهي، فإنّ كماله هذا مؤطَّرٌ بحدود الرسالة التي جاء بها، وبالدَّوْر المناط به فحَسْب([77]).
وبين الحداثويين والشموليين تقترح نظرية التلفيق حلاًّ وسطاً، فما يمتاز به النصّيون أنهم يتعاطون مع أصل النصّ، محاولين اقتناص مراد الشارع من بين ثناياه. وكما لا يخفى إنّ القرآن فُسِّر من قِبَل النبيّ والأئمة، وبالتالي يقوم الفقيه باستخدام أدواته المتمثِّلة بمجموعة من العلوم، كعلم الرجال والدراية، لاستنباط الأحكام من تلك النصوص. ويطلق على العلم المتمثِّل بالأحكام السياسية التي اكتسبت الحجّية بعد استنباط الفقيه لها (الفقه السياسي). وهذا ما لا يتّفق معه الحداثويون، ولا يثبتون له الحجّية. ونحن كمكلَّفين متعبِّدين بالشريعة لا سبيل أمامنا سوى العودة إلى النصوص الفقهية (السياسية)، والاهتمام بها، لكنْ لا على طريقة الشموليين الراديكاليين؛ ذلك أنّ الفقه غير قادر على تحديد كافّة المواقف الشرعية الاجتماعية والسياسية، وهذا ليس بسبب قصور أو نقص فيه، وإنّما بسبب محدوديته كعلم. لقد شهد الفقه تضخّماً في الأبواب التي كانت مثاراً لاستفسار الأصحاب، والتي توالت فيها الأخبار والأحاديث، وكذلك لأسباب تاريخية وأجندة سياسية فرضتها طبيعة السلطات الجائرة. ويشار إلى أن الفقه قد أرجأ جزءاً من أحكامه إلى العقل، وذلك في ما يعبّر عنه بمناطق الفراغ التشريعي، كما أن لديه أحكاماً كلّية، الغرض منها تحديد الأُطُر العامة للمسار التشريعي. أمّا على صعيد الواقع والتطبيق فقلَّما نجد فقيهاً شيعياً يلجأ إلى العقل كمصدر تشريعي مستقلّ لاستنباط الأحكام، وبالتالي لا تكاد تجد في الرسائل العملية حكماً يستند إلى المستقلاّت العقلية. ويرى مطهّري إنّ أحد أسباب خمول الفكر الاجتماعي لدى الفقهاء، وبقاء الفقه بعيداً عن الفلسفة الاجتماعية، يكمن في الإعراض عن تناول مسألة العدل وأسس العدالة الاجتماعية من قبل الفقهاء، فيقول: «إنّه قد غفل عن قاعدة العدالة الاجتماعية مع ما لها من أهمّية في الفقه، في الوقت الذي تستفاد العمومات من بعض الآيات، مثل: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ و﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ومع تأكيد القرآن الكريم على قضية العدالة الاجتماعية، إلاّ أنّها لم يستنبط لها أصلٌ أو قاعدة في الفقه الإسلامي. وهذا الأمر صار سبباً لجمود الفكر الاجتماعي لدى فقهائنا»([78]). ويحتمل محمد مهدي شمس الدين أن يكون سبب غفلة الفقهاء والأصوليين القدماء عن البُعْد التشريعي للمجتمع والأمّة في المجال السياسي والتنظيمي، والعلاقات الداخلية في المجتمع، وعلاقات المجتمع مع المجتمعات الأخرى غير المسلمة، مصادفة عصر التدوين الفقهي مع الانفصال الكامل بين القيادة السياسية وبين الجانب التشريعي للمسلمين… فوجد في داخل الأمّة مساران: مسار السلطة؛ ومسار التشريع([79]).
6ـ المستوى التطبيقي لنظرية التلفيق
يمكن تلخيص الجانب التطبيقي لنظرية التلفيق، انطلاقاً من النصوص والدراسات المنبثقة عنها، بمجالات أربعة: السياسة الخارجية، وتوزيع السلطة، وتقسيم الثروة، وحقوق الإنسان:
أـ السياسة الخارجية للدولة الإسلامية
تتجلّى أولى الثمار العملية المتمخضة عن نظرية التلفيق في مجال السياسة الخارجية للدولة الإسلامية([80]). ومن المصطلحات الشائعة في هذا المضمار مصطلح «المهام الدولية»، ويراد بها مجموع المهامّ التي تقع على عاتق الدولة الأيديولوجية خارج نطاق القطر أو البلد. وفي ما يتعلّق بالموقف الشرعي والدليل التشريعي على هذه المهام مجمل الأدلّة سليمة، ولا تصطدم بالدَّوْر أو التسلسل أو اجتماع النقيضين، وبالتالي يتسنّى الانتقال للخطوة اللاحقة، أي الرجوع إلى المستقلاّت العقلية. فالعقل المستقلّ لا يحكم بتقديم المهام الخارجية على المهام الداخلية ما لم تكن هناك ضرورةٌ قصوى أو حاجّة ملحّة أو طارئة. فعندما يستهدف التهديد أرواح الناس في منطقةٍ ما يحكم العقل بوجوب التحرّك لإبداء المساعدة، حتى لو ترتَّب على ذلك إضرار ببعض المصالح الداخلية. وفي مثل هذه الحالات فقط تكتسب المهام الخارجية أولوية قصوى، ويتمّ تقديمها على سواها من المهام. وعليه فليس بمقدور العقل حسم كافة الملفّات، أو أن يكون له حكمٌ في كلّ واقعة، لذلك تبقى الحاجة إلى النصوص قائمة. فالخطوة الثالثة إذن تتمثّل في العودة إلى القرآن والسنّة. ولا يخفى أنّ الدليل النصّي لا يتعارض بذاته مع الدليل العقلي، إنّما يتفق معه بشكلٍ تام. يقول النبي|: «مَنْ سمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين فلم يُجِبْه فليس بمسلم»، وكما يتّضح فملاك المساعدة في هذا الخبر هو الإنسانية (مَنْ سمع رجلاً)، وليس الإسلامية. وبالإجمال يصح القول: إن العقل والنقل يوجبان على الدولة الإسلامية تقديم المهام الخارجية على المصالح الوطنية في حالات الضرورة القصوى والطارئة فقط؛ أمّا سائر الحالات فالعقل، كما النقل أيضاً، يحكم بتقديم المصلحة الوطنية على سائر المصالح الأخرى، على غرار ما عليه الدول الأخرى.
ب ـ توزيع السلطة
الأمر الآخر يتمثل في توزيع السلطة([81]) ومؤشّرات النظام الديموقراطي. فالسلطة تعبّر عن موضوع علم السياسة، وفي كل نظام سياسي يتمّ تشكيل السلطة وتوزيعها. وبحَسَب الرؤية السياسية الشيعية الراديكالية ـ على غرار الفارابي ومَنْ تبعه ـ السلطة توزّع بالقوّة. وقد تقدّم أن العقل يحكم لصالح مؤشرات توزيع السلطة، لا تركيزها، لذا تتأكّد الحاجة لمتابعة الفكر السياسي المعاصر والحديث، والاهتمام بدراسة حقيقة السلطة وأبعادها. لقد تناول الباحثون موضوعة فساد السلطة بالعديد من الدراسات والبحوث، وكانت معظم البحوث السياسية في السابق تتمحور حول الشخص الجدير بالسلطة (السؤال المطروح: مَنْ يتولّى السلطة؟)، في حين تتمحور البحوث السياسية الحديثة حول كيفية توزيع السلطة (السؤال المطروح: كيف تدار السلطة؟). لقد أثبتت التجربة البشرية أن النظام الديموقراطي اليوم ـ بالرغم من السلبيات التي تعتريه ـ قد يعتبر أحسن السيئات، طبعاً هذا لا يعفي من الالتزام بضرورة مراجعة النصوص الدينية المقدَّسة، لكنْ ليس على طريقة المنهج الراديكالي.
ج ـ حقوق الإنسان
في إحدى الدراسات التي صدرت مؤخّراً بهذا الخصوص حاول الباحث من خلالها إيجاد صيغة تسمح له بتطبيق نظرية التلفيق على حقوق الإنسان([82]). وبحَسَب المنهج التجزيئي الحداثوي هذا الموضوع من المواضيع الـ (ما وراء نصّية)، التي لا تجد لها إجابات في القرآن والسنّة، وبالتالي يكون العقل هو المصدر التشريعي الوحيد لها. في حين يبحث الراديكاليون عن إجاباتهم في القرآن والسنّة حصراً، دون العقل. وبين هذا وذا تبرز نظرية التلفيق التي تسمح بالرجوع إلى القرآن والسنّة، وفي الوقت ذاته لا تهمل دور العقل المستقلّ ومقتضياته. ففي الوهلة الأولى ليس هناك ثمّة أدلة عقلية محدّدة، أما في المرحلة الثانية والثالثة فتتوالى المستقلاّت العقلية والتجارب البشرية، ويتّسع الأفق ليصبح رحباً بشكلٍ كبير. فالحرّيات ـ على سبيل المثال ـ جزءٌ من الأمور التي يستقلّ بإدراكها العقل، دون الحاجة إلى تعزيزه بعنصرٍ آخر. كما أنّ هناك العديد من الحقوق لم تكن ضمن قائمة حقوق الإنسان في الماضي، وقد أصبحت اليوم كذلك، كما بالنسبة إلى حقوق المرأة والطفل. فالطفولة في عصرنا الحاضر اكتسبت شخصية مستقلة، وأصبح الطفل ينادي بحقّه، بينما لم يكن مثل هذا الأمر مطروقاً أو مسموحاً الخوض فيه في ما مضى، أما اليوم فهذا الحقّ مكفولٌ، والعقل يقرّ به، بالرغم من كونه أمراً جديداً نسبياً. ومن الأمثلة أيضاً: الزواج من الصغيرة، والتلذُّذ بالرضيعة، الذي صنّف اليوم انتهاكاً لحقوق الطفل.
إن رؤية نظرية التلفيق لحقوق الإنسان تختلف جَذْرياً عن الرؤية الليبرالية. وكما يعتقد الجماعاتيين([83]) إن حقوق الإنسان بإمكانها أن تصبح أكثر عمقاً واتساعاً بواسطة المفاهيم والقِيَم التي يشتمل عليها التراث الديني، وبالتالي يمكن إثراؤها بالرجوع إلى الأسس والمباني الدينية. ولمزيدٍ من التفاصيل نشير بالرجوع إلى الدراسة التي صدرت مؤخَّراً حول هذا الموضوع([84]).
النتيجة
لقد اجتازت مشاريع التجديد الديني خطوات مهمّة في إطار الجمع بين التقليد والحداثة. وتُعَدّ أهمّ ميزة تحتسب لصالح الحداثويين توفُّرهم على قراءةٍ للدين قادرة على الاستجابة إلى حدٍّ كبير لمتطلّبات الإنسان المعاصر. لكنْ من ناحيةٍ أخرى، ومن زاوية منهجية، ظهرت أمام الاتجاه الحداثوي تحدّيات لم يكن قادراً على حسمها. فمثلاً: أدّى الإخفاق في التوليف بين الأدلة النصّية والـ (ما وراء نصّية) إلى إهمال الأدلة النصّية في بعض القراءات، وبالتالي إغفال جانب مهمّ من الفقه (الفقه السياسي). وبالرغم من تقدّم الأدلة الـ (ما وراء نصّية) منطقياً على الأدلة النصّية؛ وبسبب قصور الأحكام العقلية عن الحسم في بعض المواقف؛ أو بسبب إخفاق الاستدلالات في بعض الموارد، بقي الباب مشرعاً أمام النصوص التشريعية (القرآن والسنّة). من هنا اعتبرت نظرية التلفيق بديلاً مناسباً للنظريات التي تبناها الاتجاه الديني الحداثوي، على أمل أن تتمكن من تحديد العلاقة بشكلٍ واضح بين الأدلة النصّية والـ (ما وراء نصّية)، ليتحدَّد تبعاً لذلك موقع الفقه والفقه السياسي. إنّ الفرضيّة التي تقوم عليها نظرية التلفيق تتلخّص في التكاملية القائمة بين الأدلة الوحيانية والأدلة العقلية، كما تروم نظرية التلفيق حلّ مشكلةٍ منهجية طالما ابتُليت بها منظومة التجديد الديني. وفي المجموع يمكن القول: إن نظرية التلفيق تشتمل على السِّمات التالية:
أوّلاً: الاهتمام بالبراهين العقلية، وتقديمها على النصوص.
وثانياً: التركيز على المستقلاّت العقلية ومساهمات العقل البشري، كحقوق الإنسان وغيرها.
وثالثاً: إحياء العقل الشيعي، بدلاً عن اللجوء إلى خيمة العقل المعتزلي.
ورابعاً: الاستفادة من المناهج الحديثة والمعاصرة، كالهرمنيوطيقيا والحوار.
وخامساً: الاهتمام بالمعطيات التي تفرزها قراءات النصوص المقدَّسة، ورصد تأثيرها.
وسادساً وأخيراً: التأكيد على ضرورة الرجوع إلى الآيات والأخبار في مختلف المجالات، والاعتداد بالفقه السياسي. وليس المقصود بالنقطة الأخيرة تعزيز الراديكالية الشمولية بالنسبة إلى النصوص الدينية، إنّما التنويه على وجود (خطوط عامة) سياسية ـ اجتماعية تشتمل عليها الآيات والأخبار.
وفي الخاتمة يجدر القول: إنّ هذه الدراسة لا يسعها استيعاب نظرية التلفيق بكامل تفاصيلها، وإنّما هي محاولةٌ، قبل أن تستهدف استعراضاً مجملاً لهذه النظرية، تسعى لبيان أحد أهمّ شروط التجديد الديني، والمتمثِّل بنقد الاتجاهين الحداثوي والراديكالي.
وأخيراً، لا بُدَّ من التحذير من مغبّة فشل التجديد الديني في مواصلة مسيرته إذا ما اقترنت باتجاهٍ دون آخر، بل لا بُدَّ من توجيه مشاريع النقد لكلا الطرفين؛ ليتسنّى العثور على بديلٍ ثالث يساهم بدفع عملية التجديد إلى الأمام.
الهوامش
(*) باحثٌ بارز في الشؤون الدينيّة والفكر السياسي، وأستاذٌ مُشْرِف وعضو الهيئة العلميّة في جامعة المفيد في إيران.
([2]) سيد علي مير موسوي، «راه ناهموار (الطريق الوعرة)، دائرة الفقه في المجال السياسي»، مجلة شهروند إمروز (المواطن اليوم)(13/5/1387هـ.ش)(3/8/2008م): 122 ـ 124.
([3]) عبدالله جوادي الآملي، ولايت فقيه (ولاية الفقيه): 60، الولاية والفقاهة والعدالة، ط3، قم، مطبعة الإسراء، 2002.
([4]) محمد تقي مصباح يزدي، راهنما شناسي (معرفة الهادي): 39 ـ 64، 427، قم، مؤسسة الإمام الخميني، 1988.
([5]) جوادي الآملي، المصدر السابق: 26.
([6]) من هنا انطلق الشيخ فضل الله النوري في معارضته لتشكيل مجلس الشورى الوطني، وكتابة الدستور. فقد كان ينفي أثر الزمان والمكان على تغيير أو تحديث الاحكام الإلهية، وذلك لمخالفة هذا الأمر مع خاتمية الخاتم، وكمال الدين. بناءً على ذلك «فتشريع القوانين، كلاًّ أو بعضاً، مخالف للإسلام، وهذه من مهام النبيّ. فضل الله النوري، تذكرة الغافل وإرشاد الجاهل، في: غلام حسين زرگري نجاد (باهتمام)، رسائل الحركة الدستورية، ثمانية عشر رسالة ولائحة حول الحركة الدستورية: 175، طهران، مطبعة كوير، 1995.
([7]) جوادي الآملي، المصدر السابق: 63، 333 ـ 334.
([8]) مهدي بازرگان، «آخرت وخدا، هدف بعثت أنبيا» (الله والآخرة، الغاية من إرسال الرسل)، كيان، العدد 28 (ديسمبر 1995).
([9]) عبدالکريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت (نظرية القبض والبسط في الشريعة)، ط2، طهران، مطبعة صراط، 1992.
([10]) انظر: محمد تقي مصباح يزدي، «كلمته قبيل خطبتي صلاة الجمعة في طهران»، صحيفة أخبار اقتصاد (18/9/1999). فباعتقاده إن أكبر معضلة يواجهها الإمام صاحب الزمان× بعد ظهوره هو موضوع تعدُّد القراءات. محمد تقي مصباح يزدي، «تعدّد القراءات التحدي الأكبر الذي يواجه الإمام الثاني عشر× بعد الظهور»، مجلة أفق حوزه (20/2/2008).
([11]) عبدالکريم سروش، صراطهاي مستقيم (الصراطات المستقيمة): 6، طهران، مطبعة صراط، 1999.
([12]) محمد عابد الجابري، «علم الفقه، نقد العقل العربي الإسلامي».
([13]) Ann K. S. Lambton, State and Government in Medieval Islam، London: Oxford University Press, 1981.
([15]) مجتهد شبستري، المصدر السابق: 172 ـ 183.
([16]) عبدالکريم سروش، «فقه در ترازو» (الفقه في الميزان)، مجلة كيان، العدد 46، (1999).
([17]) روح الله الموسوي الخميني، ولايت فقيه وحکومت إسلامي (الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه): 29 ـ 31، طهران، مطبعة أمير کبير، 1978.
([18]) مجتهد شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين (نقدالقراءة الثابتة للدين): 170ـ 178، طهران، مطبعة طرح نو، 2000؛ عبدالکريم سروش، بسط تجربه نبوي (بسط التجربة النبوية): 19 ـ 20، طهران، مطبعة صراط، 1999.
([19]) الأحكام الممضاة هي أحكام كانت سائدة قبل الإسلام، وقد أمضاها الشارع، أي صحَّح البقاء على العمل بها. أما الأحكام التأسيسية فهي أحكام لم تكن معهودةً قبل الإسلام، وقد أوجدها الشارع.
([20]) مرتضى مطهري، الجهاد: 29، طهران، منشورات صدرا، 2003.
([21]) ناصر مکارم الشيرازي، «جايگاه قاعده کرامت در فقه» (مكانة قاعدة الكرامة في الفقه)، کرامة الإنسان، العدد 5 (تموز 2007).
)[22]) https: //balatarin. com/permlink/1190657/11/12/2007
([23]) عبدالله جوادى الآملي، «فلسفه وأهداف حكومت إسلامي» (فلسفة الحكومة الإسلامية وأهدافها)، إطلالة على علم الإدارة في الإسلام: 13، طهران، مركز دراسات علم الإدارة الحكومية، 1993.
([24]) محمد تقي مصباح، أسئلة الشباب وإجابات الأستاذ (أسئلة وردود حول النظام السياسي في الإسلام): 294، قم، مؤسسة الإمام الخميني، ط2، صيف 2002.
([26]) أصول الکافي 1: 58، ح19.
([27]) محمد تقي مصباح، المصدر السابق: 301.
([28]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 70: 96.
([29]) محمد تقي مصباح، «أضواء على مفهوم الإدارة في الإسلام»، إطلالة على نظام الإدارة في الإسلام: 19 ـ 21، طهران، معهد تعليم الإدارة الحكومية، 1993.
([30]) محمد تقي مصباح، أسئلة الشباب وإجابات الأستاذ: 290.
([31]) مهدى بازرگان، «الله والآخرة، والغاية من إرسال الرسل»، مجلة كيان، العدد 28.
([32]) عبدالكريم سروش، «خدمات الدين وحسناته» (خدمات وحسنات دين)، مجلة كيان، العدد 27.
([33]) عبدالکريم سروش، «مفهوم العلمانية وأصولها»، (معنا و مبناي سكولاريزم)، مجلة كيان، العدد 26.
([34]) عبدالكريم سروش، «الفقه في الميزان» (فقه در ترازو)، المصدر السابق.
([35]) انظر: عبد الكريم سروش، «العقيدة الدينية والتحكيم الديني» (باور ديني وداور ديني)، مجلة إحياء، العدد 5.
([36]) محمد إقبال، «تجديد الفكر الديني في الإسلام»: 207 ـ 208، دار الكتاب المصري واللبناني، 2011.
([37]) انظر: محمد تقي السبحاني، «بزوغ الدين في فراق العقل» (فروغ دين در فراق عقل)، مجلة نقد ونظر، العدد 6 (ربيع 1996).
([38]) علي شريعتي، الأعمال الكاملة 30: 63.
([39]) الأمر المولوي هو الأمر المتعلق بالحكم الإلزامي، أي الوجوب أو الحرمة، ويعتبر مَنْ خالف الأمر الواجب أو ارتكب المحرَّم مذنباً مستحقّاً للعقاب؛ لمخالفته الشرع المقدَّس. بينما الأمر الإرشادي هو من باب النصيحة، والعمل به غير مُلزِم، إلاّ أنّ في تركه أو مخالفته ضرراً. [المترجم].
([40]) محمد مجتهد شبستري، هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة: 228 ـ 230، طهران، منشورات طرح نو، 1996.
([41]) مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحكومت (الحكمة والحكومة): 165 ـ 170، لندن، منشورات شادي، 1995.
([42]) تجد تفاصيل البحث المتقدّم لاحقاً عند حديثنا عن «نظرية العرف». انظر: سيد صادق حقيقت، توزيع قدرت در أنديشه سياسي شيعه (توزيع السلطة في الفكر السياسي الشيعي): 97 ـ 99، طهران، منشورات هستي نما، 2002؛ صادق لاريجاني، «دين ودنيا» (الدين والدنيا)، مجلة الحكومة الإسلامية، العدد 6: 74 ـ 75، شتاء 1997.
([43]) سروش، مدارا و مديريت (الإدارة والمداراة): 361، 439، طهران، منشورات صراط، 1997.
([44]) سروش، المصدر السابق: 304، 322، 330.
([45]) عبد الکريم سروش، فربه تر أز إيدئولوژي (أرحب من الأيديولوجيا): 52، طهران، منشورات صراط، 1993؛ (العلم والقضاء)، مجلة کيان، العدد 22 (1994).
([46]) عبدالکريم سروش، «الفقه في الميزان»، مجلة کيان، العدد 46 (1999).
([47]) عبدالکريم سروش، الرسالة السياسية: 378 ـ 379، طهران، منشورات الصراط، 1999.
([48]) عبدالکريم سروش، المصدر نفسه.
([49]) عبدالکريم سروش، قانون التمدّن وقانون التديّن: 150 ـ 155، منشورات صراط، 2000.
([50]) عبدالکريم سروش، «حقوق الإنسان والتكاليف الدينية»، محمد بسته نگار، (نصوص ودراسات)، العلماء وحقوق الإنسان، طهران، شركة سهامي للنشر، 2001.
([51]) سروش، أرحب من الأيديولوجيا: 50.
([52]) سروش، المصدر السابق: 281 ـ 282.
([53]) سروش، «الفقه في الميزان»، مجلة کيان، العدد 46 (1999).
([54]) محمد مجتهد شبستري، الهرمنيوطيقا، الکتاب والسنة، طهران، منشورات طرح نو، 1996.
([55]) المصدر السابق: 228 ـ 230.
([56]) محمد مجتهد شبستري، نقد الفهم التقليدي للدين: 203، 227، طهران، منشورات طرح نو، 2000.
([57]) المصدر السابق: 230 ـ 311.
([58]) سيد صادق حقيقت، منهجية العلوم السياسية: 380 ـ 400، قم، جامعة المفيد، 2006.
([59]) محمد رضا نيکفر، «الهرمنيوطيقا وحركة الإصلاح الديني»، مجلة نگاه نو (نيسان/ أبريل 2003).
([61]) سيد صادق حقيقت، «استنباط وزمان ومكان» (الاستنباط وأثر الزمكان) حول الاجتهاد ودور الزمان والمكان 2، قم، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1995.
([62]) سيف الله الصرامي، «عقل قطعي، منبع استنباط قوانين جامعه وحکومت» (العقل القطعي، مصدر استنباط التشريعات المجتمعية والحكومية)، مجلة حکومت إسلامي، العدد 20: 174 ـ 175، صيف 2001.
([65]) محمد رضا المظفّر، أصول الفقه 1 ـ 2: 224 ـ 225، قم، دار التفسير، 1998.
([66]) حقيقت، «تفويض السلطة في الفكر السياسي الشيعي»: 367 ـ 370.
([67]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان 4، بيروت، الأعلمي، 1403.
([68]) محمد هادي معرفت، (الشعب والحكومة وواجبات كلّ منهما إزاء الآخر)، في: علي أکبر رشاد (بإشراف)، مجلة الإمام عليّ× 5: 204 ـ 206، طهران، معهد الفكر الإسلامي، 2001.
([69]) سيد صادق حقيقت، مناهج العلوم السياسية.
([70]) سيد صادق حقيقت، «گفتمان ومطالعات إسلامي وإيراني» (الدراسات الإسلامية والإيرانية وآفاق الحوار)، مجلة پژوهش وحوزه، العدد 21 ـ 22 (2005)؛ و«هرمنوتيك ومطالعات إسلامي» (الهرمنيوطيقا وأثرها على الدراسات الإسلامية)، في: علي أکبر عليخاني وعدد من الباحثين، المنهجيات المتبعة في الدراسات السياسية الإسلامية، طهران، جامعة الإمام الصادق×، 2006.
([71]) سيد علي مير موسوي، «اجتهاد وروابط قدرت» (الاجتهاد والعلاقات السلطوية)، مجلة مفيد، العدد 32 (ديسمبر 2002).
([72]) contextualist approach.
([74]) Damyanti Gupta, Political Thought and Interpretation: The Linguistic Approach, India, Pointer Publishers, 1990, p 189-195.
([75]) أبو نصر محمد الفارابي، إحصاء العلوم: 40، بيروت، مركز الإنماء القومي، 1991.
([76]) محمد عابد الجابري، «علم الفقه، نقد العقل العربي الإسلامي».
([77]) مهدي بازرگان، «خدا وآخرت، هدف بعثت أنبيا» (الله والآخرة، الهدف من إرسال الرسل) مجلة كيان، العدد 28 (1995).
([78]) مرتضى مطهري، بررسي إجمالي مباني اقتصاد إسلامي (أسس الاقتصاد الإسلامي، دراسة مقتضبة): 26 ـ 27، طهران، حكمت، 1403هـ.
([79]) محمد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والحياة: 12، بيروت، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1417هـ.
([80]) سيد صادق حقيقت، مسؤوليتهاي فراملي در سياست خارجي دولت إسلامي (المهام والمسؤوليات الدولية في السياسة الخارجية للدولة الإسلامية)، طهران، مركز الدراسات الاستراتيجية، 1997؛ مباني، أصول، وأهداف سياست خارجي دولت إسلامي (أسس وبنود السياسة الخارجية للدولة الإسلامية وغاياتها)، قم، مركز العلوم والثقافة الإسلامية، 2006؛ «جهاني سازي ومسئوليت هاي فراملي» (العولمة والمهام الدولية) في: سيد طه المرقاني (باهتمام)، جهان شمولي إسلام وجهاني سازي (عالمية الإسلام والعولمة) ۳، طهران، مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية، 2003؛ «سياست خارجي دولت إسلامي أز ديدگاه إمام خميني» (الإمام الخميني والسياسة الخارجية للدولة الإسلامية) في: الإمام الخميني والحكومة الإسلامية ج 6 ، قم، مؤسسه تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 1999.
([81]) محمد صادق حقيقت، توزيع السلطة، المصدر السابق.
([82]) سيد صادق حقيقت، «مباني نظري حقوق بشر، نسبت سنجي أدلة برون ديني ودرون ديني» (الأسس النظرية لحقوق الإنسان، مقارنة بين الدليل الـ (داخل ديني) والـ (خارج ديني))، الأسس النظرية لحقوق الإنسان، مركز حقوق الإنسان التابع لجامعة المفيد، 2005.
([83]) ظهر الاتجاه الجماعاتي (communitarians) كبديل عن الاتجاه الليبرالي، الذي محوره الفرد. وقد حاول أن يجمع بين الاهتمام بالحقّ الفردي مع الاهتمام بتعزيز الثقافة الأخلاقية وإيجاد التوازن الصحيح بينهما. [المترجم].
([84]) سيد صادق حقيقت، «إسلام وحقوق بشر، نحيف وفربه» (الإسلام وحقوق الإنسان، رؤية ضيّقة ورؤية موسّعة)، ملتقى (الدين وحقوق الإنسان)، جامعة المفيد، 2007.