أ. نجيب الله شفق(*)
خلاصةٌ
نظرية الأمر الإلهيّ هي إحدى النظريّات المعروفة في فلسفة الأخلاق. ومنذ القديم كانت عرضةً لانتقاداتٍ عديدة. وقد قام روبرت آدمز بالدفاع عنها، وطرح تقريراً جديداً حولها. وفي حين أن أسلوب المدافعين عن نظرية الأمر الإلهيّ التقليدية يرتكز على الطريقة الميتافيزيقية، فإن طريقة آدمز في الدفاع عنها هي طريقةٌ دلالية، فرأيه يتعارض مع نظرية الأمر الإلهيّ التقليدي؛ كونه يعتقد بأن المفاهيم الأخلاقية تحظى بحقيقةٍ عينية، لذا فهي لا ترتبط بالأمر الإلهيّ، ولكنّه يعتقد بأن الإلزامات الأخلاقية تتعلَّق بالأوامر الإلهية. وبرهانه على ذلك هو انسجام الإلزامات الأخلاقية مع الأوامر الإلهية. وأهمّ إشكالٍ على نظرية آدمز ـ بحَسَب هذه المقالة ـ هو عدم إمكان استنتاج الإلزامات الأخلاقية عن المفاهيم الأخلاقية، رغم قبول حقائقها العينية.
مقدّمةٌ
لطالما كان السؤال المطروح في تاريخ فلسفة الأخلاق هو: هل أن الحَسَن هو حَسَنٌ لأن الله أمر به أم أن الله أمر به لأنه حَسَنٌ؟ ثمّ ذُكرت هذه المسألة بوضوحٍ في الأعمال المكتوبة لفلسفة الأخلاق لأوّل مرّةٍ في إحدى محاورات أفلاطون، المعروفة باسم «أوطيفرون». وبعد ذلك أجاب عليها فلاسفة الأخلاق في فتراتٍ مختلفة بمقاربات ومواقف مختلفة. أحد الأجوبة هي أن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي ذاتيّ، ولأن الحَسَن حَسَنٌ فقد أمر به الله، ولأن القبيح قبيح فقد نهى عنه. وفي مقابل ذلك أجاب بعضٌ بأن الحُسْن والقُبْح الأخلاقيين ليسا أموراً ذاتية، ولأن الله أمر بالحَسَن فهو حَسَنٌ، ولأنه نهى عن القبيح فهو قبيحٌ. ولأن هذا الجواب يعتبر أن الأخلاق مبنيّةٌ على الأمر الإلهيّ فقد أصبح يُعْرَف بنظرية الأمر الإلهي. ولكنْ تعرَّضت هذه النظرية على طول التاريخ إلى تحوّلات مختلفة، بحيث أصبحت تختلف تماماً عن صياغتها الأولى. ويمكن القول ـ بشكل عامّ ـ: إن هذا الطَّيْف من النظريات الأخلاقية الذي يربط الأخلاق بالدين ينتمي إلى هذه النظرية. ولهذا السبب تمّ تعريفها بأنها تلك التي تربط الأخلاق، أو على الأقلّ جانباً من الأخلاق، بالدِّين([1])؛ أو قيل وفق هذه النظرية: إن الأوامر الإلهية هي التي تحدِّد الأخلاق([2]). وأيضاً هي النظرية التي تعتبر أن قوام الإلزام الأخلاقي قائمٌ على الأوامر الإلهية([3]). إن نظرية الأمر الإلهي، وبغضّ النظر عن تفسيراتها المختلفة، كان لها ولا يزال أنصارٌ في كلٍّ من: العالم الإسلامي؛ والفلسفة الغربية. ومن بين العلماء المسلمين الأشاعرةُ هم الذين دافعوا عن هذه النظرية.
قام بعضُ علماء الأصول الكبار في الآونة الأخيرة، مثل: الآخوند الخراساني، والشيخ محمد حسين الإصفهاني، والشيخ المظفَّر، بدراسة ونقد هذه النظريّة([4]). وفي الفلسفة الغربية يُعتبر كلٌّ من: القدّيس أوغسطين، والقدّيس برنارد، وتوما الإكويني، والقدّيس آندرو جان، ودانس سكوت، ووليام آكامي، ومارتن لوثر، وجان كالوين، وجان لوك، ووليام بالي، وكيركيغارد، من مؤيِّدي هذه النظرية. وبعد الستّينيّات من القرن العشرين حاول الكثير من المفكِّرين تقديم تفسيرات جديدة، مثل: فيليب كين، إدوارد آرويرنگا(1989)، وروبرت آدمز(1999)([5]). وهذه النظريات الجديدة التي تمّ طرحها في هذا الصدد أصبحت تُعْرَف فيما بعد بـ «الأمر الإلهي المعدّل». وسوف ندرس في هذه المقالة وجهة نظر روبرت آدمز.
وُلد روبرت مرريف آدمز (المعروف ببابا آدمز) في الثامن من أيلول عام1937. وهو أحد الفلاسفة الأمريكيين، وينتمي إلى مذهب الفلسفة التحليلية. له آثار ومطالعات متعدّدة في مجال الميتافيزيقيا، وفلسفة الدين والأخلاق. هاجر في أوائل العشرية الأولى من عام 1990 إلى جامعة يل، كأستاذٍ لفلسفة الأخلاق وفلسفة الدين، ودرس في UCLA لسنواتٍ عديدة. تقاعد من جامعة يل عام 2006، وقام بالتدريس بدوامٍ جزئي في جامعة أوكسفورد في المملكة المتّحدة. نشر آدمز العديد من الأعمال حول فلسفة الأخلاق والميتافيزيقيا وفلسفة الدين، نورد أسماء بعضها:
The Virtue of Faith and Other Essays in Philosophical Theology (1987).
Leibniz: Determinist, Theist, Idealist (1994).
Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics (1999).
A Theory of Virtue: Excellence in Being for the Good (2006).
Theories of Actuality (Nous, 1974).
Motive Utilitarianism (Journal of Philosophy, 1976).
Primitive Thisness and Primitive Identity (Journal of Philosophy, 1979).
Involuntary Sins (Philosophical Review 1985).
Things in Themselves (Philosophy & Phenomenological Research, 1997).
Conflict (Aristotelian Society Supplemental Volume, 2009).
نظريّة الأمر الإلهيّ التقليديّة، والإشكالات عليها
وقبل بيان ودراسة نظرية آدمز من الضروريّ إعطاء صورة عن نظرية الأمر الإلهي التقليدية، والإشكالات المثارة ضدّها. وكما بيَّنّا سابقاً فإن أنصار نظرية الأمر الإلهي يعتقدون أن أحوال وأفعال البشر بحدّ ذاتها، وبدون أخذ الأمر الإلهي بعين الاعتبار، لا تملك حُسْناً وقُبْحاً، وليست إلزاميةً. وبحَسَب هذه النظريّة ليس قبيحاً بالنسبة لله أن يعذِّب الأطفال البريئين والمؤمنين، وأن يدخل الكافر الجنّة، وأن يمدح الكذب. ووفقاً لنظرية الأمر الإلهي فإن فهم معنى الحُسْن والقُبْح والخطأ والصواب وما شابه ذلك يعتمد على الأمر والنهي الإلهيّ، ويتطلَّب كلٌّ من: الحُسْن والقُبْح، وما يجب وما لا يجب من أفعال البشر الاختياريّة، صدور الحكم الإلهيّ. وبعبارةٍ أخرى: تدّعي هذه النظرية أن ملاك صواب وخطأ وحُسْن وقُبْح أعمال الإنسان هو إرادة الله وأحكامه، أي إن عملاً ما أو شكلاً من أشكال العمل نعتبره صواباً أو خطأً في حالة واحدة، وهي ما إذا أمر به الله أو نهى عنه([6]). هكذا يستدلّ أبو الحسن الأشعري في هذا القول: «الله هو المالك القاهر الذي ليس بمملوكٍ، ولا فوقه مُبيحٌ ولا آمر، ولا زاجر ولا حاظر، ولا مَنْ رسم له الرسوم، وحَدَّ له الحدود. فإذا كان هذا هكذا لم يقبح منه شيءٌ، إذا كان الشيء إنما يقبح منّا؛ لأننا تجاوزنا ما حُدَّ ورُسم لنا، وأتينا ما لم نملك إتيانه»([7]). يكتب مارتن لوثر، وهو قسِّيس وكاتب مسيحي معروف، في الدفاع عن هذه النظرية:« إنه الله، لا يوجد أيّ سببٍ ودليل لوضع معيارٍ ومحكّ لإرادته؛ لأنه لا يوجد أيّ شيءٍ أفضل من الله أو مساوٍ له. إنه يضع القوانين لكلّ شيء؛ لأنه إذا كان هناك معيارٌ أو قانون لإرادة الله، سواء كعلّةٍ أو كدليلٍ، فإن هذا المعيار نفسه هو إرادته ذاتها. الدليلُ والعلّة وُضعَتْ لإرادة المخلوق، وليس لإرادة الخالق، إلاّ إذا قلتُمْ بخالقٍ فوقه»([8]). وهكذا نلاحظ أن الادّعاء المهمّ لنظرية الأمر الإلهي هو العلاقة القوية للأخلاق بالدِّين، وبخاصّة الأمر الإلهي. والاستدلال الذي تمّ تقديمه من قِبَل مؤيِّدي هذه النظريّة يؤكِّد على هذه النقطة، وهي أن أيّ نوعٍ من الاستقلال الفكري للإنسان في وضع وفهم الأصول والقواعد الأخلاقية يستلزم محدودية إرادة الله وقوّته وهيمنته.
لقد أثاروا العديد من الإشكالات على نظرية الأمر الإلهي:
أوّلاً: القاسم المشترك لبعض هذه الإشكالات هو أن هذه النظرية تخالف الشهود والضمير. فعلى سبيل المثال: هل علينا أن نكذب إذا أمر الله بالكذب؟([9])؛ أو قيل: إن بعض الأفعال يمكن أن تكون صحيحةً أو غير صحيحة حتّى لو لم يكن الله موجوداً. وبعض الأعمال ليست صحيحةً حتى لو أمر الله بها([10]).
المجموعة الثانية من الإشكالات تتمركز على إحدى مقدّمات أدلة نظرية الأمر الإلهي. فعلى سبيل المثال: منشأ قُبْح الأفعال بناءً على هذه النظرية هو عدم الامتثال للأمر والنهي النازل من فوق، وتجاوز الحدود والقواعد الحاكمة، وعلى هذا يكون منشأ حُسْن الأفعال هو اتّباع الأمر النازل من فوق. في حين أن الأمر ليس كذلك؛ لأن منشأ الحُسْن والقُبْح هو الملائمة أو عدم الملائمة مع كمال الفاعل. مثلاً: إذا بخل الغنيّ بماله يُلام، في حين لا يوجد أمرٌ نازل من فوق يدعوه لبذل المال. كلّ إنسانٍ يرى البخل قبيحاً من جهة أن السخاء يعتبر بالنسبة إليه أحد الكمالات([11]).
المجموعة الثالثة من الإشكالات هي أن نظرية الأمر الإلهي متهافتةٌ منطقياً ووجودياً. افترض أن الله أمر بالكذب في الافتراض المذكور فإنّ أمر الله بالكذب لا يخرج عن إحدى حالتين: إما أن يكون في الكذب مصلحةٌ جعلت الله يأمر به؛ أو لا يكون فيه أيّ مصلحة. الحالة الأولى تستلزم قبول الحُسْن والقُبْح الواقعي، وهو أمرٌ خلاف نظرية الأمر الإلهي؛ أما الحالة الثانية، التي لا يتضمَّن الأمر الإلهي فيها أيّ مصلحةٍ واقعية، ففيها أيضاً شكلان، كلٌّ منهما باطلٌ. إذا قيل: إن الله لم يكن عنده علمٌ بعدم وجود مصلحةٍ في الكذب فهذا يتنافى مع إطلاق علمه؛ وإذا قيل: إنه كان يعلم بذلك فهذا يتنافى مع حكمته([12]).
إشكالٌ آخر من هذا النوع، وهو أن الحقائق الأخلاقية، مثل الحقائق الرياضية والمنطقية، صدقُها ضروريٌّ، ولا يمكن إنكارها منطقياً. مثلاً: إذا استطاع الله أن يجعل مسألة «إخلاف الوعد خطأٌ» أو «عدم شكر الله أمرٌ سيّئ» صحيحةً فيمكنه في الواقع أن يعتبر الحقائق الضرورية أخطاء، وبعبارةٍ أخرى: إن الله قادرٌ على أن يصنع مثلَّثاً لا تكون فيه ثلاث زوايا، وإنساناً لا يكون حيواناً ناطقاً، وإخلاف الوعد يجعله أمراً صحيحاً، ولكنْ لحقيقة أن قوة الله وإرادته واسعتان إلى درجة أنه يستطيع أن يغيِّر الحقائق العلمية والرياضية والأخلاقية نتيجتان باطلتان:
الأولى: إذا كانت إرادة الله لا تخضع لأيّ قيودٍ فيجب أن يكون قادراً أيضاً على تغيير ذاته وصفاته. وكمثالٍ على ذلك: يجب أن يكون الله قادراً على أن يريد أن لا يكون لديه علمٌ، وأن لا تكون قوّته بلا حدود؛ لأن الله إذا كان حُرّاً في تعيين محتوى ذاته فيستطيع أن يريد أن لا يكون لديه مثل هذا العلم والقوّة. ومنطقاً يمكن أن توجد عوالم محتملة تكون فيها قوّة الله وعلمه محدودين؛ وعوالم أخرى لا يكون فيها أيّ قوّةٍ وعلم لله.
إذا كان من الممكن تصوُّر مثل هذه العوالم بالنسبة إلى الله ففي هذه الحالة لن يكون علمه وقوّته وصفاته الأخرى واجبةً وضرورية.
الثانية: إذا كان الله قادراً على تغيير الحقائق العلميّة ففي هذه الحالة تستلزم قضيّةٌ غير ممكنة منطقياً كلّ القضايا الأخرى. لذلك إذا جعل الله من قضيّةٍ من غير الممكن صدقها منطقياً ـ صادقةً فإنه يكون قد جعل كلّ القضايا صادقةً، وإذا كانت كلّ القضايا صادقةً فمن الممكن والحال هذه أن تكون القضية نفسها ونقيضها صادقتين، وينعدم التمييز حينئذٍ بين الصادق والكاذب. مثلاً: من غير الممكن أن يكون الاعتقادُ بأن الله موجودٌ والاعتقادُ بأنه غير موجودٍ صادقين معاً؛ إذ في هذه الحال لن تتحقّق المعرفة والعلم؛ لأنه «علم (أ) بأن (ب) صادقةٌ يستلزم علم (أ) بأن نقيض (ب) كاذبٌ. وعلم (أ) بأن نقيض (ب) كاذبٌ يستلزم أن نقيض (ب) كاذبٌ، وفي حال كانت القضيتان صادقتين فإن «نقيض (ب) ليس بكاذبٍ» تكون باطلةً. وإذا لم يكن لهذا العلم وجودٌ فإن شيئاً باسم العلم بإرادة الله، الذي هو مبدأ نظرية الأمر الإلهيّ، لن يكون موجوداً أيضاً، ولا معنى لاتّباعه»([13]).
وهناك إشكالٌ آخر على هذه النظرية، وهو أن الأفعال الإرادية تكون إلزاميةً إذا كان صاحبها قد تعهَّد مسبقاً بالقيام بها. وكمثال على ذلك: إذا التزمتُ بإقراضك المال، ولكنّي لم أحافظ على وعدي، فهذا الأمر سيّئٌ أخلاقياً؛ لأنني لم أقُمْ بتنفيذ الالتزام الذي جاء نتيجة وعدي، لذلك لا أكون ملزماً بإقراض المال لشخصٍ لم يسبق له منّي الوعد بإقراضه. وهكذا أيضاً إذا أقرَّتْ الهيئة التشريعية قانوناً يلزم الجميع بقيادة سياراتهم إلى جهة اليمين، فأكون مُلْزَماً بالعمل به؛ وذلك لأنني تعهّدت سابقاً أن أطيع المؤسّسات المدنية التي تتمتّع بصلاحية سنّ القوانين. لذلك حتّى لو قبلنا أن الأوامر الإلهية منشأُ الالتزام الأخلاقي يبقى سؤالٌ أساسي: ما هو مصدر التزامنا بطاعة إرادة الله؟ هل يمكن أن يكون هذا أيضاً مبتنٍ على الأمر الإلهي؟ الجواب: لا؛ لأن الإرادة والأمر بهذه الطريقة لا يؤدّيان إلى الالتزام، بل على العكس من ذلك، فإن العدالة والإنصاف هي التي تمنح شخصاً حقّ المرجعية وإعطاء الأوامر، وتجعل من متابعته وظيفةً على الآخرين، وأمراً ملزماً لهم.
لا تكون الإرادة والأمر إلزاميّاً إلاّ عندما يكون المكلَّف قد التزم مسبقاً بالطاعة. ومن هنا فإن الإرادة والأمر ليسا منشأ كلّ الالتزامات. إذا كان كلّ إلزام مبنيّاً على إرادة الله ففي هذه الحال يعود الإلزام باتّباع الله أيضاً إلى إرادة الله، ولكنّ هذا ـ أي أن نفترض أنه على كلّ شخصٍ أن يضع قانوناً، ويجب على الآخرين اتّباعه والالتزام به ـ باطلٌ؛ لأن الآخرين إذا كانوا ملتزمين به من قبلُ فسيكون وضع هذا القانون عَبَثيّاً وعديم الفائدة؛ وإذا لم يكونوا ملتزمين به من قبلُ فلن يكونوا ملتزمين بعد وضعه؛ لأنه لم يكن من المقرَّر سابقاً اتّباع أوامر ذلك الشخص. إذا كنتُ أنا ملتزماً من قبلُ باتّباع أوامر شخصٍ ما فسيكون من غير المُجْدي أن يأمرني باتّباع أوامره؛ وإذا لم أكن ملتزماً بذلك فلن يترتَّب على أمره لي باتّباعه أيّ إلزامٍ. ولذلك حتّى إذا كان الله مصدر كلّ أنواع الإلزامات فلن يكون مصدر هذا الإلزام الذي يأمرني باتّباعه([14]). وبشكلٍ عامّ يمكن القول: إن نظرية الأمر الإلهي بها مشكلاتٌ مهمّة في مختلف المجالات العقائدية والحقوقية والتربوية والأخلاقية. فعلى سبيل المثال: وفقاً لنظرية الأمر الإلهي لا يمكن تفسير عدل الله بشكلٍ جيّد، الذي هو من صفاته الثبوتية؛ وكذلك صدق النبيّ القائم على العدالة الإلهيّة؛ ومصير الإنسان الأخروي سيبقى مجهولاً أيضاً.
وتواجه هذه النظريّة أيضاً مشكلاتٌ في مجال الأخلاق النظريّة؛ لأنها لا تتوافق مع المناهج التي تعترف بالقوى المعرفية، سواء كانت الضمير أو العقل العملي.
في هذه النظرية قوّة الاستدلال في مقابل الحكم الأخلاقيّ لديها مجالٌ أقلّ للنموّ، ومهارات اتّخاذ القرار القائمة على استخدام العقل العمليّ لا تتطوَّر بشكلٍ جيّد. البصيرة الأخلاقية في حلّ التعارض هي فضيلةٌ عقلية، ولكنّها لا تتطوَّر في هذا الرأي. وفي الأخلاق العملية أيضاً لا يتمّ تحكيم المسؤولية الأخلاقيّة. ولها تَبِعاتٌ جَبْرية في المسائل الاجتماعية والسياسية. وباختصارٍ: هذه النظرية تعارض العقلانية، و«معارضة العقلانية في الإلهيات والأخلاق والأنثربولوجيا يحمل معه الحُسْن والقُبْح الشرعيّ والجَبْرية. هذا الاعتقاد الثلاثي متناظرٌ مع الطابع الاجتماعيّ للخرافات، وإنكار الشعور بالمسؤولية، وأخيراً الخضوع والتأقلم مع البيئة الاجتماعية والسياسية الفاسدة»([15]).
إصلاحات آدمز لنظريّة الأمر الإلهيّ
حتّى الآن تمّ تقديم لمحةٍ موجزة عن نظريّة الأمر الإلهيّ التقليدية، وإشكالاتها. والغرض من هذه المقالة ليس نقد ودراسة هذه الإشكالات، ويمكن القول باختصارٍ: إن الإشكالات المثارة على نظرية الأمر الإلهي دفعَتْ العلماء إلى الدفاع عنها، وبالتالي إصلاحها. وكان من بين هؤلاء الذين حاولوا تقديم بعض الإصلاحات روبرت آدمز، الذي تمّ تقديم خلاصة سيرته الذاتية في المقدّمة.
في عصر ومجتمع آدمز ساد الاعتقاد أن الخطأ والصواب الأخلاقي لا يمكن أن يقوم على مبادىء الدين. وفي المقابل كان هدفه من إبداع هذه النظرية هو الدفاع عن نظرية بناء الأخلاق على الدين. يعتقد آدمز أنه يمكن الدفاع عن هذه النظريّة رغم الإشكالات المثارة ضدّها، ويمكن عرض صيغةٍ منها خاليةٍ من هذه الإشكالات، يسمّي آدمز نظريّته «نظريّة الأمر الإلهي المعدَّلة» و«نظريّة حول الخطأ الأخلاقي، ونظريّة حول ماهيّة الالتزامات الأخلاقية»([16]). من أجل فهم نظرية آدمز علينا أن نعلم أوّلاً: أنه كان يقرِّر هذه النظرية من أجل بيئةٍ مفيدة وعملية يحكمها الدين؛ وثانياً: نظرية آدمز هي مقاربة للأوامر الإلهية من منظورٍ دلالي، وليس من منظور نظرية المعرفة والميتافيزيقيا (I bid)؛ لأنه في نظرية المعرفة الأخلاقية يكون الهدف هو دراسة صدق وكذب القضايا الأخلاقية؛ وفي ميتافيزيقيا الأخلاق يكون الهدف هو التحقُّق العينيّ للصفات الأخلاقية. يمكن تسمية مقاربة آدمز (النظر إلى ميتافيزيقيا الأخلاق من وجهةٍ دلالية)؛ لأنه في الأسلوب التحليلي القائم على استعمال الكلمات تكون الجهود منصبّةً على إيجاد طريقٍ إلى الميتافيزيقيا من معاني الألفاظ؛ وثالثاً: تركِّز هذه النظرية من بين مجموعة المفاهيم الأخلاقية على المفاهيم الإلزامية، وأكثر من الكلّ على الخطأ الأخلاقي، الذي تجعله محطّ بحثها.
ويمكن القول بشكلٍ عامّ: إن نظرية آدمز التي تدَّعي أساساً أن الأخلاق تعتمد على الدين تماثل التفسير التقليدي لهذه النظرية، لكنّها تختلف معها في كيفيّة ارتباط وطريقة توضيح المواضيع.
والملامح العامة لنظريّة آدمز هي كما يلي: يستخدم آدمز طريقةً دلالية متأثِّرة بالفلسفة التحليلية في شرح المادّة، تنظر في إمكانيّة قيام الأخلاق على أساس الدين، وتميِّز بين مفاهيم القيمة والإلزام على ضوء ارتباط الأخلاق بالأمر الإلهيّ.
وستتمّ مناقشة كلٍّ من هذه القضايا بالتفصيل.
الطريقة الدلاليّة
كانت طريقة القدماء ـ كما لاحظنا ـ أنهم استنتجوا قيام المفاهيم الأخلاقية على أساس الأمر الإلهيّ من خلال إطلاق قهر وقدرة وعلم الله؛ لكنّ آدمز يستخدم الطريقة الدلالية، وهو يعتقد أن إنجازات الفلسفة التحليلية توفِّر طريقةً جيدة لإثبات ادّعائه. يعتقد الفلاسفة التحليليون أن الطريقة الصحيحة الوحيدة للتفلسف حقّاً هي تحليل معنى الكلمات والجمل. وعليه فقد تمّ تغيير مسار الفلسفة من أسلوب البحث في المواد إلى أسلوب البحث في الصورة، وبعبارةٍ أخرى: الكلام عن معاني الكلمات بَدَل الكلام عن ماهيّة الأشياء. فعلى سبيل المثال: بَدَل الحديث عن ماهية الخير والشرّ يتحدّثون عن معناهما. وعلى هذا الأساس تكون المهمّة الأساسية لفلسفة الأخلاق هي تحليل معنى اللغة الأخلاقية. يوجد فرقٌ في هذه الطريقة بين المسائل المتعلّقة بماهية الأشياء و المسائل المتعلّقة بمعنى الأشياء. ولمسائل المجموعة الأولى ـ التي هي نفسها المسائل الميتافيزيقية ـ أهمّية أكبر من المسائل الدلالية. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تستخدم بشكلٍ أكبر حول ماهية الأشياء المادية والطبيعية، إلاّ أنها تستخدم أيضاً حول العلاقة بين الماهية و المعنى، وبالتالي حول العلاقة بين الميتافيزيقيا وعلم الدلالة. صحيحٌ أن كلمة «جيد» لا تشير إلى نوعٍ طبيعيّ مثل كلمة «ماء»، ولكنّ معنى كلمة «جيد» يمكن أن يكون مرتبطاً بماهيّتها.
لقد استعار آدمز هذه الطريقة من كرييكي وياتنم؛ فقد كان الفكر السائد قبل كرييكي أن الحقيقة الضرورية هي الحقيقة المنطقية التي يمكن إيضاحها بالتحليل المفاهيمي. مثلاً: قضية «العازب هو الفرد البالغ الذي لم يتزوَّج» هي حقيقة ضرورية؛ لأنه يتمّ الحصول عليها عن طريق تحليلٍ سابق. كان رأي كرييكي أن بعض الحقائق ضرورية، لا لأنها صادقةٌ بشكلٍ قبلي أو بطريقةٍ منطقية، ولكنّ مفهومها يتّضح بشكل بَعْديّ عبر المشاهدات القائمة على التجربة، لذلك كلّما كان هناك لفظان لهما نطقٌ واحد يُقال: إنهما متطابقان، والقضايا التي تستعمل فيها مثل هذه المفاهيم يُقال عنها: قضايا متطابقة.
على سبيل المثال: نجمة المساء هي نفسها نجمة الصباح. وكلٌّ من نجمة المساء ونجمة الصباح معنىً لشيءٍ خاصّ. وأوضحت الأدلّة التجريبية أن هاتين الاثنتين هما واحدٌ، أي إن كلاًّ منها هي فينوس نفسها (= كوكب الزهرة)، على أن نجمة المساء في بعض العوالم الممكنة تكون أكبر وأكثر إشراقاً، أو أصغر من نجمة الصباح، إلاّ أنه لا يمكن في أيّ عالمٍ آخر أن تكون نجمة المساء غير نجمة الصباح. وفي علاقة الشخص مع نفسه ينشأ نفس الارتباط، أنا هو ذاتي، ولستُ شيئاً آخر غير ذاتي. وهذه العلاقة قائمةٌ في جميع العوالم الممكنة. قد أكون في بعض العوالم الممكنة فيلسوفاً أو متكلّماً أو عالمَ نفسٍ ونحو ذلك، لكنْ لا يوجد أيّ عالم لا أكون فيه أنا ذاتي. بالطبع فإن الأسماء الخاصّة تختلف عن الأسماء الوصفية. والمقصود بالاسم الخاص ليس مجموعة صفاته. مثلاً: سعدي يختلف عن كاتب «ﮔلستان»، ولكنْ من غير الممكن في أيّ عالمٍ كان أن يكون سعدي هو غير سعدي. بحَسَب كرييكي فإن مصطلح «العوالم الممكنة» ليس مصطلحاً محدّداً وجامعاً ومانعاً، ولكنّ الاسم الخاص يكون جامعاً مانعاً، أي إنه يدلّ على شيءٍ واحد في جميع العوالم الممكنة([17]).
طوّر فيلسوفٌ تحليلي آخر اسمه هيلاري بوتنام نظريّة كرييكي من بعده. يعتقد بوتنام أن نظريته كانت صحيحةً لا بالنسبة إلى الأسماء الخاصة فقط، وإنما بالنسبة إلى الأنواع الطبيعية أيضاً، مثل: الماء والحيوانات والبشر. مثلما تشير نجمة المساء إلى شيءٍ له خصائص مختلفة، من وجهة نظرنا فإن كلمة «ماء» تشير إلى شيءٍ قد نعتقد أن له خصائص مختلفة؛ بعضها عَرَضيّ ولا يستخدم إلاّ في عالمنا؛ وبعضها الآخر ذاتيّ وضروريّ في كلّ العوالم الممكنة حيث يوجد الماء. من وجهة نظر بوتنام نعلم تجريبياً أن الماء هو نفس المركَّب الكيميائي، أي جزءٌ واحد من الأوكسجين وجزأين من الهيدروجين، ونسمّيه اختصاراً بأوكسيدوهيجن. هذا التطابق بين اللفظين يدلّ على نوعٍ من الضرورة. لذلك في كلّ عالمٍ ممكن حيث يوجد الماء فهو مطابق لـ «أوكسيدوهيجن». هذا النوع من التطابق، الذي ليس بتحليليّ، ولا قبليّ، ولكنه ضرورةٌ ميتافيزيقية بينهما، يتمّ الكشف عنها مسبقاً، لم يتمّ اكتشافه في الماضي. ولكنّ الناس استخدموا كلمة «ماء» للإشارة إلى ما نشير إليه اليوم. إذا قبلنا بأن الماء متطابق مع أكسيدوهيجن فإن هذه المطابقة لا يمكن أن تكون بصورةٍ إمكانية، أي إنها لا تستعمل فقط في زمانٍ ما، ولو أنه تمّ كشفها هذه الأيام، ولكنها موجودةٌ دائماً. ومضافاً إلى ذلك؛ لأن هذه المطابقة موجودةٌ في كل العوالم الممكنة، فلا يمكن أن يوجد الماء في عالمٍ خالٍ من أكسيدوهيجن، ولو أنه يوجد شيءٌ آخر يشبه الماء إلى حدٍّ بعيد([18]). يستخدم آدمز هذه الطريقة في شرح المفاهيم الأخلاقية بشكلٍ يجعل من عبارة «أخطأ» في الواقع هي نفسها «أخطأ» إذا أمر الله بذلك. ومع هذا فإن لهاتين الجملتين معاني متباينةً، ولكنّ لفظهما واحدٌ. وحيث وُجد عالمٌ ممكنٌ تكون فيه الجملة الأولى صحيحةً فستكون الثانية صحيحةً أيضاً([19]). وسوف نتوسَّع في هذا الأمر في بقية هذه المقالة.
عينيّة مفاهيم القيمة
بعد أن شرَحْنا نظريّة آدمز علينا أن نعلم أوّلاً المعنى المُراد من قولهم: إن للقِيَم الأخلاقية واقعاً عينيّاً؟ يعدِّد الباحثون أربع خصائص لعينيّة المفاهيم الأخلاقية:
أوّلاً: إذا كانت المفاهيم الأخلاقية عينيّة فإن الادّعاءات الأخلاقية لا تخرج عن حالتين: إما صادقة؛ أو كاذبة.
ثانياً: هي عامّة. أي إذا كان الشيء جيداً وصحيحاً فهو جيّد وصحيح في جميع الأزمنة والأمكنة.
ثالثاً: ليست القِيَم ناتجةً عن عواطفنا وميولنا. وكمثال على ذلك: لا يمكن التقليل من قيمة الصداقة بسبب ميول المرء وعواطفه.
رابعاً: الشيء العينيّ هو عضوٌ من كائنات هذا العالم، ولذلك يجب على القِيَم أن تكون شيئاً من مجموعة العالم، أي لها الخصائص الواقعية لموصوفاتها([20]).
أوضح آدمز ذلك بصراحةٍ بالشكل التالي: «غالباً ما يؤمن المسيحي أو اليهودي المتديِّن بالعينية الأخلاقية غير الطبيعية حينما يقول: إن شيئاً ما خاطئٌ أخلاقياً، فهو يعني أن ثمّة نوعاً من الوقائع يمتلك حقيقةً أطلق عليها حقيقة غير طبيعية. وتعني الحقيقة غير الطبيعية أنه سواء تحقَّقَتْ أم لم تتحقَّق فهي غير مرتبطةٍ بأن شخصاً ما فكّر بتحقُّقها أو لم يفكِّر»([21]).
يمكن القول الآن؛ بالنظر إلى معنى العينية والواقعية: إن مفاهيم القِيَم الأخلاقية بحَسَب أتباع نظرية الأمر الإلهي التقليدية لا تتمتّع بواقعٍ عيني. وكمثالٍ على ذلك: قيل بأن الحَسَن هو الشيء الذي حَسَّنه الشارع، والقبيح هو الشيء الذي استقبحه الشارع. وعلى أساس هذا الفهم لا يوجد واقعٌ عيني لمفاهيم القِيَم غير أمر ونهي الله. واقعية القِيَم نشأَتْ من الأمر الإلهي. ولكنْ من وجهة نظر آدمز فإن لمفاهيم القيمة واقعاً عينيّاً، والحُسْن والقُبْح الأخلاقي غير متعلِّق بالأمر الإلهي. برأيه إن مصدر الحُسْن الأخلاقي يعود إلى ذات الله وصفاته. الله هو قيِّمٌ وحَسَنٌ بذاته. تبلور الحسن الذاتي في المظاهر المختلفة يجعلها تتّصف جميعها بالحُسْن. اختار آدمز إطاراً أفلاطونياً لنظريته؛ فوفقاً لأفلاطون تتّصف كلّ الأشياء الحَسَنة بالحُسْن لانتسابها إلى الحُسْن المطلق. يستخدم آدمز في حديثه عن الله الدَّوْرَ الذي أُعطي لمثال الخير في الفكر الأفلاطوني، مع هذا الفارق، وهو أن الله ليس موضوعاً مجرّداً، بل عينيّ، وهو في الحقيقة شخصٌ أو مثل الشخص. الله هو المعيار والنموذج الأعلى للخير. إنه ليس معياراً للخير الأخلاقي فقط، بل هو معيارُ كلّ القِيَم. عندما نقول عن شيءٍ ما: إنه جيّدٌ فهذا يعني أن فيه خيراً متعالياً، وأنه يشبه الله. يعتقد آدمز أن الله له هذا الدَّوْر من وجهة نظر المؤمنين به. وهذا أفضل فهمٍ يمكن أن نكوِّنه عن الله. الله هو أعلى وأفضل خيرٍ يمكن أن نبحث عنه.
للخير مراتب من وجهة نظر آدمز. أعلى الخير هو الخير بالذات أو الخير المطلق لله. يجعل الخير المطلق من كلّ شيءٍ يحلّ فيه وبأيّ معيارٍ يتمثَّل به خيراً بالمعيار ذاته؛ ولذلك بمقدار تشابه الأشياء أو أفعال الإنسان مع الله فإنها تتَّصف بالخير بنفس ذلك المقدار. الله هو أعلى الخيرات، والتشبُّه بأعلى الخيرات هو أعلى فضيلة. الفضيلة تعني التناغم مع الله وكلّ شيء لوجه الله؛ في مقابل الرذيلة، التي تعني التضادّ مع الله، وبمقدار اتّصاف شيءٍ ما بصفاتٍ ضدّية مع الله يكون هذا الشيء شيئاً بنفس ذلك المقدار، وبحَسَب المقدار الذي يكون فيه العمل مخالفاً لله فإنه يتّصف بالسوء بالمقدار نفسه([22]).
تماهي الالتزام الأخلاقيّ والأمر الإلهيّ
سبقت الإشارة إلى أنه وفقاً لنظرية الأمر الإلهي التقليدية لا يوجد فرقٌ بين مفاهيم القيمة والالتزام بناءً على قيام المفاهيم الأخلاقية على الدين؛ ولا يوجد أيّ مصدرٍ آخر للأخلاق ـ وفقاً لهذه النظرية ـ سوى الأمر الإلهيّ. ومن هنا كما أن مفاهيم القيمة مبنيّةٌ على الأمر الإلهي فكذلك المفاهيم الإلزامية قائمةٌ عليه أيضاً.
ولكنْ من وجهة نظر آدمز يوجد فرقٌ واضح بين هاتين المجموعتين من المفاهيم. وكما ذكرنا فإنّ ثمّة تماهياً وتطابقاً بين مفاهيم القيمة وذات الله وصفاته، ولكنّ الالتزامات الأخلاقية لا تتطابق مع الأمر الإلهي.
ادّعاء آدمز هو أن جملة «ارتكاب عمل (أ) خطأٌ» تتساوى مع هذه الجملة «ارتكاب عمل (أ) خطأٌ إذا أمر الله بالقيام به أو نهى عنه».
وفي الواقع فإن الأمر الإلهيّ لكل عملٍ إلزامي من الناحية الأخلاقية يتضمّن شرطاً مستتراً، وهو أن الله أمر به أو نهى عنه، ولو أن هذا الشرط لم يُذْكَر صراحةً([23]).
ومن أجل إثبات هذا الادّعاء علينا أوّلاً: أن نحدِّد ماهية الالتزام الأخلاقي؛ وفي المرحلة الثانية: إثبات تطابقهما.
بحَسَب آدمز إن للالتزام الأخلاقي خمس خصوصيات بارزة:
1ـ يجب أن تؤخد الالتزامات الأخلاقية على محمل الجدّ، والاهتمام بها.
2ـ الأشخاص الذين يخالفون الالتزام الأخلاقي يشعرون بالذنب، ويلومهم الآخرون أيضاً حين يعلمون بمخالفتهم.
3ـ الالتزام الأخلاقي شيءٌ يكون لدى الفرد دافعٌ لاتّباعه.
4ـ يجب أن يكون الالتزام الأخلاقي بحيث يمكن توفير أدلّةٍ لاتّباعه.
5ـ جزء من دَوْر الالتزام والخطأ الأخلاقي هو أنه يجب غرس ممارسة الالتزام الأخلاقي وردود الفعل على الأعمال الخاطئة في أذهان عموم الناس([24]).
يتّضح من خلال الخصائص الخمسة التي يعدِّدها آدمز للالتزام الأخلاقي أنه يمتلك هويّةً اجتماعية. وتدلّ على ذلك بوضوحٍ الخصوصيتان الثانية والخامسة؛ وللخصوصية الثالثة أيضاً ماهيّةٌ اجتماعية؛ لأنه عندما يتمّ تشجيع شخصٍ ما أو استقباحه من قِبَل الآخرين فإن الدافع يزداد لديه وراء الالتزام بعملٍ ما أو تركه.
صحيحٌ أن الالتزام يتشكَّل في المجتمع، لكنْ ليس كلُّ التزامٍ اجتماعي هو التزامٌ أخلاقي. ويجب أن تتوفَّر ثلاثة شروط في الالتزامات الاجتماعية؛ حتّى تكون التزاماتٍ أخلاقيةً، وهي:
1ـ يجب أن تكون الالتزامات الاجتماعية قِيَماً واقعية، أي إن قيمتها لا تُستمدّ من كونها اجتماعيةً فقط.
2ـ للخصائص الفردية التي يتمتَّع بها الأشخاص الذين يضعون الالتزامات الاجتماعية دَوْرٌ أيضاً في أن تكون تلك الالتزامات أخلاقيةً. مثلاً، وعلى افتراض تشابه العوامل الأخرى، فإن الإنسان يميل إلى اتّباع القواعد والأحكام التي يضعها شخصٌ حكيم ذو قداسةٍ، وتتبعها بسهولةٍ.
3ـ لا يعتمد الدافع إلى اتّباع دستورٍ ما على مقدار جودته فقط، وإنما يتعلّق الأمر كذلك بمدى ملائمة العقوبات والمكافآت المترتّبة عليه؛ وبمدى تأثيره على تحسين العلاقات؛ وبمدى كونه مؤشِّراً على عمليّةٍ جيّدة أو حركةٍ اجتماعية([25]).
وهاهُنا يطرح هذا السؤال نفسه: هل للأوامر الإلهية خصائص معيّنة بحيث تكون هذه الخصائص موجودةً في الالتزامات الأخلاقية؟ وهل يمكن أن تقوم بدَوْر الالتزامات الأخلاقية؟
يذكر آدمز خمسة أدلّة لإثبات ادّعائه بأن الأوامر الإلهية أفضل خيارٍ لأداء دَوْر الالتزام الأخلاقي. وخلاصتُها في ما يلي:
أوّلاً: من خصائص الالتزام الأخلاقي أنه يحفِّز مكلَّفيه على اتّباع الحكم الأخلاقي. عوامل الانبعاث الضرورية للقواعد الأخلاقية موجودةٌ بشكلٍ جيّد في الأوامر الإلهية؛ لأن الشخص عندما يقبل بأن الله خالقٌ ورحيم ويريد لنا الخير وكلّ شيء منه فإنه يطيعه من باب شكر المنعم.
ثانياً: إن الله هو الرحمة والفضل والكمال المطلق، وكلّ إنسانٍ خاضعٌ أمام الكمال المطلق. وهنا الخضوع يصبح سبباً لإطاعة أمره.
ثالثاً: إن الله عادلٌ، وبالطبع فإن الأمر الصادر من قِبَل العادل جديرٌ بالطاعة. ومن الخصائص الأخرى للالتزامات الأخلاقية أن الأمور عينيّة وواقعية، ولا تصدر من العواطف والأعراف الاجتماعية. الأخلاق القائمة على الأمر الإلهي ليست ذهنيّةً، بل عينيّة. وكمثال على ذلك: الوجوب والحرمة من قِبَل الله أمورٌ عينية موجودة بصرف النظر عن فكرنا وإرادتنا. الأخلاق القائمة على الأمر الإلهي منسجمةٌ مع معتقداتنا السابقة. يعتقد الفرد المتديِّن بوجود إلهٍ قادر ومتعالٍ، وأنه رحيمٌ وخير مطلق، والأوامر التي تصل إلى المكلَّف من جانب الخير المطلق تصبّ في صلاح الإنسان وسعادته. يجب أن تكون الواجبات الأخلاقية بحيث يعرف المكلَّفون أن الأعمال التي يقومون بها على أساسها صحيحةٌ أو خاطئةٌ. والأوامر الإلهية أيضاً تفي بهذه الخاصّية؛ فكلّ متديِّن يعرف أن العمل الذي يقوم به يكون صحيحاً إذا كان موافقاً للأوامر الإلهيّة، وخطأً إذا كان مخالفاً لها. ويمكن لله أن يضع هذا الخطأ والصواب في كيفية خلق قوانا الإدراكية، وتخطيط التاريخ الإنساني وتوجيهه، ووحي الأنبياء، وأيّ طريقةٍ أخرى. ومن الخصائص الأخرى للالتزام الأخلاقي أن انتهاكه يؤدّي إلى المعصية وقطع العلاقة. والأوامر الإلهية تحقِّق هذه الخاصية بشكلٍ أفضل؛ لأن التقاعس عن العمل على أساس الإلزام الإلهيّ يتسبَّب في مؤاخذة الله وقطع العلاقة معه([26]).
فيترتَّب على ما تقدَّم أن خصائص الالتزام الأخلاقي موجودةٌ أيضاً في الأوامر الإلهية.
ولكنّ آدمز يذهب أبعد من ذلك، ويرى أن الأوامر الإلهية هي مصدر الالتزامات الأخلاقية.
ويمكن توضيح استدلال آدمز على هذه المسألة من خلال مقدّمتين:
الأولى: إن ماهية الالتزام الأخلاقي اجتماعيةٌ؛ لأن أيّ التزامٍ ـ بما في ذلك الالتزام الأخلاقي ـ يتشكَّل في المجتمع. إذا قُمْنا بتحليل ماهية الالتزام الأخلاقي نجد أنه يتضمّن عدّة عناصر: الأوّل: يقتضي الالتزام أن يؤخذ على محمل الجدّ من قِبَل كلّ فردٍ. الثاني: تجاوزه يستتبع الشعور بالندم. الثالث: ينشأ الفعل الأخلاقي نتيجة دافعٍ ما. الرابع: يحتاج القيام به إلى الدليل والإقناع. الخامس: يشجِّع الناس الشخص الذي يقوم بفعلٍ أخلاقي، ويدينونه إذا خالفه. لذلك فإن عواطفنا وميولنا ليست مصدر الإلزام الأخلاقي، بل ينشأ من الواقع العيني.
الثانية: رغم أن ماهية الالتزام الأخلاقي اجتماعيةٌ، ولكنْ لا يمكن أن يكون المجتمع مصدرها؛ إذ أوّلاً: الأخلاق عينية، وإذا كان مصدرها المجتمع فلا يمكنه تأمين هذه العينية؛ لأنه يمكنه أن ينكرها أيضاً إذا اعتبرنا أنه مصدرها. مثلاً: يمكن لأفراد المجتمع أن يتعاقدوا على أن لا يضعوا أصلاً التزاماتٍ أخلاقيّةً أو يلغوها.
وثانياً: بعض الالتزامات الأخلاقية غير قابلة للوضع أساساً.
وثالثاً: إذا اعتبرنا أن المجتمع واضع ومصدر القواعد الأخلاقية ففي هذه الحالة يكون لدينا قواعد أخلاقية متنوعة بحَسَب كلّ مجتمع([27]).
يمكن أن نخرج من هاتين المقدّمتين بنتيجةٍ مفادها: إن مصدر الالتزامات الأخلاقية هو الأوامر الإلهية؛ إذ أوّلاً: الأوامر الإلهية مستقلّةٌ عن أيّ نوعٍ من الميول والمعتقدات البشرية، ولا يوجد شكٌّ في فائدتها وخيرها بالنسبة إلى المتديِّن؛ وثانياً: الرغبة فيها شديدةٌ من جميع الجهات.
إشكالاتٌ على نظريّة آدمز
ما من شكٍّ في أن نظرية آدمز تختلف كثيراً عن نظرية الأمر الإلهيّ التقليديّة. ولكنْ هل أنّ الأدلة التي ساقها لإثبات ادّعائه مقنعةٌ أم لا؟ لا بُدَّ من النظر في هذا الأمر. وسنشرح الإشكالات المثارة ضدّ نظريته بعد أن نوزِّعها على أربعة أقسام:
1ـ المطابقة الناقصة
كما ذكَرْنا سابقاً يستخدم آدمز أسلوب التحليل اللغوي والنظرية الدلالية لإثبات تطابق اللزوم الأخلاقي مع الأوامر الإلهية. وقد نُقل عن مارك مورفي هذا الإشكال، وهو قوله: إذا كان آدمز يعتقد أن الإلزامات الأخلاقية مطابقةٌ للأوامر الإلهية فهو مخطىءٌ جدّاً؛ لأنه من البديهي أن الخصائص الأخلاقية تترتَّب على الخصوصيات العينية والخارجية. مثلاً: حرمة الظلم مبنيّةٌ على الأثر الذي يتركه في نفس المظلوم؛ وحلِّية الصدق نابعةٌ من المنافع المترتِّبة عليه. وهذا الترتيب لا يخرج عن إحدى حالتين: إما أنه بدون قيدٍ وشرط؛ أو أنه مقيّدٌ. وبعبارةٍ أخرى: إما أن تكون خصائصه ملحوظة في كلّ العوالم الممكنة؛ أو في بعضها فقط. ولكنّ كلتا الحالتين مرفوضةٌ؛ لأنه إذا كان الأمر الإلهيّ في كلّ العوالم الممكنة دائراً مدار الخصائص العينية فيجب أن تتطابق الإلزامات الأخلاقية مع تلك الخصائص، وفي حال كان دائراً مدار الخصائص العينية في عالمٍ خاصّ فيستلزم ذلك أن يأمر الله بشيءٍ ما في أحد العوالم، ويأمر بضدّه في عالمٍ آخر. مثلاً: إذا كان هناك غوّاصان موجودان في مشهدٍ واحد، وبظروفٍ متشابهة، فهل يأمر الله أحدهما بإنقاذ الغريق ولا يأمر الآخر؟ ولذلك فإن أيّ شيءٍ لديه تلك الخصائص العينية ففي العالم الذي تثبت له تلك الخصائص تثبت له أيضاً الخصائص الأخلاقية في العالم نفسه. وعلى سبيل المثال: ثمرة الصدق تتجلّى في تكوين الثقة الاجتماعية، ولذلك في أيّ مكانٍ تترتّب هذه الخصوصية على الصدق نقول: يجب قول الصدق. وإذا قبلنا من جهةٍ أن الالتزام الأخلاقي متوقِّفٌ على الخصائص العينية، واعتقدنا من جهةٍ أخرى أن الالتزام الأخلاقيّ متطابقٌ مع الإلزام الإلهي، ففي هذه الحالة يتوقَّف التكليف الإلهي على خصائص لم يأمر بها الله، ولذلك فإن الأوامر الإلهية ليست حُرّةً وبدون قيود، ولكنّها تابعةٌ للمصالح والمفاسد الخارجية. وفي هذه الحالة يزيِّف هذا الأمر نظرية الأمر الإلهي؛ لأن الهدف الأساس من طرح نظرية الأمر الإلهي حفظ قوّة الله المطلقة، بحيث إنه حتّى الإلزامات الأخلاقية لا تقيِّد قهره وقوته([28]).
وقد جادل بعضٌ ـ دفاعاً عن نظرية آدمز، وردّاً على هذا الإشكال ـ فقال: إن هذا إشكالٌ مثارٌ ضدّ تفسيرٍ للمطابقة لم يكن يقصده آدمز. فإذا كان قصد آدمز من المطابقة هو أن الشيئين متطابقان بشكلٍ عينيّ، مثل: نجمة المساء، التي هي نفسها نجمة الصباح، فإن الإشكال المتقدِّم في محلِّه؛ ولكنّ هنا التفسير للمطابقة لم يكن وارداً بالنسبة إلى آدمز؛ فقد كان قصد آدمز من المطابقة هو العلل المقوِّمة. على سبيل المثال: عندما نقول: إن الماء يشير إلى أكسيدوهيجن فهذا يعني أن الأكسيدوهيجن يكوِّن الماء، ويدلّ بالالتزام على أن امتلاك خصائص ظاهريّة، مثل: انعدام الرائحة والطعم والتدفُّق في الطقس الحارّ (بشكلٍ ضعيف) يتوقَّف على الأكسيدوهيجن.
يصبح الالتزام بأمر الله صحيحاً بحَسَب آدمز بهذا المعنى، وهو أن تتوقَّف الخصائص الوظيفية لتعريف مفهوم الالتزام الأخلاقي على الأمر الصادر من الله. والقول: إن التكليف من قِبَل الله يتوقَّف على شيءٍ آخر يشبه قولنا: إن (الماء يتكوَّن من الأكسيدوهيجن) يدلّ على أن الأكسيدوهيجن يكوِّن الماء([29]).
2ـ عبثيّة الأمر الإلهيّ
نُقل عن جان جاندلر إشكالٌ([30]) يمكن عرضه على الشكل التالي: إذا كان ادّعاء آدمز ـ أن الالتزامات الأخلاقية هي نفسها أوامر الله، وأن الله المحسن يأمر بالأعمال الحَسَنة ـ صحيحاً فمن المؤكَّد أن الله المحسن يأمر فقط بالأعمال التي تكون حَسَنةً. لذلك يُقال: «اعمَلْ حَسَناً إذا وفقط إذا أمر به الله». ومن الصحيح أن نقول، بناءً على اعتبار آدمز أن صحّة الأخلاق هي عين كونها أمراً من عند الله: «يأمر الله بـ (أ) إذا وفقط إذا كان (أ) صحيحاً (إلزامية)»، ونستنتج أن «اعمَلْ حَسَناً إذا وفقط إذا كان صحيحاً (إلزامياً)». لذلك إذا كان صلاح الفعل هو السبب الذي يأمر به الله المحسن فإن الصلاح الذاتي هذا يمكن أن يكون سبباً لقيامنا به. المحتوى الأخلاقي كافٍ حتّى نعلم أيّ فعلٍ هو إلزاميٌّ، ولا يحتاج إلى أن يحدِّده الله، وتكون أوامر الله زائدةً، ونظرية الأمر الإلهي لآدمز عديمة الفائدة.
ولقد تمّ تقديم ثلاث إجابات عن هذا الإشكال:
أوّلاً: إن مقدّمتَيْه الأولى والثالثة شرطيّةٌ فقط. وخلافاً لفهم جاندلر لا تدلّ على أنها مقدّمة الدليل أو التبرير المتسلسل. وإذا علمنا أن كلتا الشرطيتين صادقةٌ، وأن أحد جوانبها محقّقٌ، فسنعلم أن الجانب الآخر محقّقٌ أيضاً. ولكنْ لا يمكن أن نستنتج من ذلك أنها مقدّمة الدليل أو التبرير المتسلسل. مثلاً: أنا أعرف أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة في حالةٍ واحدة فقط، أن تكون كرّة السلة شيئاً مادّياً، ولكنْ لا يمكن القول: إن مقدّمة هذه الجملة الشرطية دليلٌ أو تبريرٌ متسلسل.
ثانياً: حتّى لو كان (أ) عملاً أو صفة حَسَنةً، ولكنّنا لا نمتلك دليلاً للقيام به؛ فإن مجرّد صلاح ذلك العمل ليس سبباً لكي يأمر به الله. لذلك لا يمكن أن نستنتج أن صلاح عملٍ ما سببٌ لإلزامه، وبالتالي يمكن لآدمز أن يقول: إن الشيء الذي يجعل من الأفعال الحَسَنة إلزاميةً هو أن الله أمر بها.
ثالثاً: يرى آدمز أنه لا يلزم أن نعرف أن الله أمر بفعلٍ ما، ثمّ بعد ذلك نعرف أنه إلزاميٌّ من الناحية الأخلاقية؛ فالكثير من التزاماتنا يتمّ الكشف عنها عن طريق العقل والوعي والعوامل الاجتماعيّة ونحو ذلك.
نظرية آدمز ليست نظريةً معرفية، بل ميتافيزيقية، أو بيانٌ ماهوي حول الالتزام الأخلاقي. ولا يقصد أن يقول: إن الالتزام الأخلاقي مبنيٌّ على الأمر الإلهي من حيث نظرية المعرفة، ولكنّ صانع الالتزام الأخلاقي ومكوِّنه هو الأمر الإلهي. شرحُه هنا هو شرحٌ ماهوي، وفي الشرح الماهوي يتمّ توضيح العوامل والعناصر المكوّنة لشيءٍ ما. نقول مثلاً: الثلج ماء؛ لأن الثلج مكوّن من أكسيدوهيجن. شرح آدمز ليس شرحاً عاطفياً أيضاً (ضرب زيد عَمْراً؛ لأنه كان منزعجاً منه)؛ وكذلك ليس شرحه على طريقة (احترق الكباب؛ لأن زيداً تركه على النار أكثر من اللازم).
لا يقول لنا الشرح الماهويّ لماذا أقدم فلان على عملٍ ما؟ ولا يعرِّف لنا الأمور التي أدَّت إلى وقوع حادثةٍ ما. ولكنّ هذا النوع من الشروحات الماهوية توضِّح العوامل المكوِّنة لشيءٍ ما أو التي تسبَّبت بوجوده([31]).
قيل في تقييم هذا الجواب: إنه حلٌّ آخر، بخلاف حلّ آدمز.
يقبل آدمز أنه إذا لم يكن هناك إلهٌ فيمكن أن يكون شيءٌ آخر هو معيار الخطأ والصواب والالتزام. ولسهولة التعبير نسمّي هذا المعيار (أ). والسؤال المطروح هاهنا هو: لماذا لم يستطِع المعيار الذي بإمكانه أن يحدِّد الخطأ والصواب والالتزام في افتراض عدم وجود الله أن يحدِّد ذلك في افتراض وجود الله؟ لذلك فإن الكذب ونقض العهد وتجاهل الفقراء ونحو ذلك تكون خطأً حتّى لو لم يَنْهَ عنها الله، وفي كلتا الحالتين تكون أوامر الله زائدةً عن الحاجة.
وهذا الإشكال ليس صحيحاً؛ إذ أوّلاً: ادّعاء آدمز هو أنه في العالم الذي ينهى الله عن مثل هذه الأعمال تكون أوامره أفضل خيارٍ يفي بدَوْر الخطأ الأخلاقي؛ أما العالم الذي لم يَنْهَ فيه الله المحسن عن الأفعال المذكورة، ولم يؤدِّ شيئاً آخر دَوْر الأمر الإلهي، فهو خارج موضوعنا. وبالتالي لا يمكن أن نفهم أن أوامر الله في هذا العالم ليست هي الخيار الأفضل للعب هذا الدَّوْر.
وثانياً: ليس السبب هو العلّة المقوِّمة؛ فمن الممكن أن يكون لدينا العديد من الأسباب لجعل عملٍ ما إلزامياً، في حين أن شيئاً واحداً فقط هو علّته المقوِّمة. والقضية هي نفسها في سائر الأمثلة السابقة([32]).
3ـ ترتُّب الإلزام الأخلاقيّ على الصفات الإلهيّة
مضمون هذا الإشكال أن الإلزام الأخلاقي غيرُ مترتِّبٍ على الأمر الإلهيّ، وإنّما على الصفات الإلهية؛ لأنه وفقاً لنظرية آدمز يكون الخطأ خصوصيةً تتّصف بها أفعالنا غير الصحيحة، وتلك الخصوصية متطابقة مع الأمر الإلهي كتطابق الماء مع أكسيدوهيجن. وتكمن المشكلة في أنه إذا كانت أوامر الله ونواهيه تنشأ من إحسانه وعدالته فيجب أن تكون هذه الصفات هي المصدر النهائي للإلزام الأخلاقي، وليس أوامر الله ونواهيه.
ينشأ هذا الإشكال ـ كما هو واضحٌ ـ من الاعتقاد الذي يقول: إن إحسان الله كافٍ من أجل أمره بالأمور الحَسَنة؛ في حين أنه حتّى لو اعتبرنا أن إحسان الله سببٌ كافٍ لأوامره ونواهيه فلن يحدث ذلك فَرْقاً؛ لأن آدمز يستطيع أن يطابق بين الخطأ والصواب من جهةٍ وإحسان الله من جهةٍ أخرى. ومن الواضح أنه حتّى لو طابقنا الصواب والخطأ مع طاعة وعصيان إحسان الله فسوف تبقى نظريّة آدمز نظريّةً إيمانيّة؛ لأن المقصود هو إحسان الله، وليس الإحسان بشكلٍ عامّ.
4ـ التعارض مع حقائق الأخلاق الضروريّة
أي إننا ـ مثلاً ـ ملزمون أخلاقياً أن نتجنَّب إيذاء الأبرياء، وأن نقول الصدق، وأن نساعد الفقراء…، فإذا كانت الأوامر الإلهية فقط منشأ هذه الالتزامات، وعلى فرض أن الله غير موجود، أو كان موجوداً ولكنّه لم يأمر بذلك، ففي هذه الحالة نكون غير ملزمين بالقيام بتلك الأعمال، وهذا أمرٌ يخالف حَدْسنا. وهكذا يدرك الإنسان بحَدْسه أن الإلزامات الأخلاقية لا ترتبط بالأوامر الإلهيّة.
خاتمةٌ
نقَلْنا ـ حتّى الآن ـ نظرية الأمر الإلهيّ المعدَّلة بواسطة آدمز، والإشكالات المثارة ضدّها. وتبقى عدّةُ مسائل جديرة بالعَرْض في نقد وتقييم نظرية آدمز:
الادّعاء واضحٌ تماماً في نظرية الأمر الإلهي التقليدية، وهو أنه طالما لم يأمر الله بشيءٍ أو ينهى عنه فلن يكون صحيحاً، ولا خاطئاً، ومتى ما وقعَتْ الأشياء تحت أمر الله ونَهْيه ينشأ فيها عندئذٍ الحُسْن والقُبْح. والسبيل لاكتشاف هذه الصفات، وكونها إلزاميةً أو غيرَ إلزاميةٍ، يتعلَّق أيضاً بالأمر الإلهيّ. ويُعَدّ الأمر الإلهي في واقع الأمر سبباً تامّاً لتحقُّق الصفات الأخلاقية والإلزامات الأخلاقية. ولا يمكن للإنسان المتديِّن ـ على ضوء هذه النظريّة ـ أن يكتشف الإلزامات الأخلاقية بعقله المستقلّ. ويرجع السبب في عدم استقلال العقل إمّا إلى أن الإلزامات الأخلاقية قائمةٌ على أساس فهم الحُسْن والقُبْح، وكشفه منوطٌ بصدور الأمر الإلهيّ؛ أو أن كلاًّ منهما ـ بشكلٍ منفصل ـ مبنيٌّ على الأمر الإلهي.
بينما في نظريّة آدمز تكون الإلزامات الأخلاقية مبنية فقط على الأمر الإلهيّ، في حين أن الحُسْن والقُبْح الأخلاقي أمورٌ محقّقة وعينية، ويمكن للإنسان أن يتوصّل إليها عن طريق عقله المستقلّ. والنتيجة الضمنية لهذا الكلام أن الواجبات لا تستنبط من الوجودات. وقد تمّ قبول هذا القول منذ عصر هيوم وإلى اليوم من قِبَل بعض فلاسفة الأخلاق. ولا توجد أدلّةٌ مقنعة خلاف هذا الادّعاء. وبذلك يبقى قسمٌ من الإشكال الثالث الموجَّه ضدّ نظرية آدمز بدون حلٍّ. يقول آدمز: الأشخاص المتديِّنون الذين يؤمنون بوجود الله وإحسانه هم فقط الذين يقولون بصحّة نظريته.
والسؤال المطروح هاهنا: هل يحقّ للمؤمن أن يحكم بإلزامية أو عدم إلزامية بعض الأفعال؟ إذا كانت الإجابة بنعم، وآدمز أيضاً أجاب بذلك، ففي هذه الحالة علينا أن نقبل أنه في بعض الأحيان قد لا يكون حكمه مطابقاً للأمر الإلهي، بل قد يكون ضدّه. على سبيل المثال: لنفترض أن شخصاً متديِّناً، يؤمن بوجود الله، وأنه عادلٌ ومحسنٌ، ومن ناحيةٍ أخرى يرى أن الأمر الإلهي غير عادلٍ في بعض الحالات، ومن الممكن ـ على الأقلّ ـ أن لا يطيعه. فمثلاً: يرى الأشاعرة المسلمون أن طاعة الحاكم المسلم واجبةٌ بشكلٍ مطلق، حتّى لو كان ظالماً، ومع ذلك هناك الكثير من الحالات في التاريخ الاسلامي التي ثار فيها متديِّنون أشاعرة على الحُكّام.
وبالإضافة إلى ذلك قد لا يصدر حكمٌ من عند الله في بعض الحالات، ويقع الكشف عنه على عُهْدة العقل البشريّ. يقول آدمز: إن الإلزامات الأخلاقية متطابقة مع الأوامر الإلهية. وعلى سبيل المثال: يقول بأن الخطأ الأخلاقي هو نفسه مخالفة الأمر الإلهي، ويذكر أن هذه المطابقة ليست من نوع مطابقة اسمين خاصّين ـ نجمة المساء ونجمة الصباح ـ، وكذلك ليست من نوع المطابقة الطبيعية ـ كتطابق الماء مع الأكسيدوهيجن ـ، وليست من نوع مطابقة المفاهيم العقلية ـ المعلول ما له العلة ـ، ولكنّه لا يوضِّح خصائص هذه المطابقة. ولكننا نستطيع من خلال مراجعة أقواله أن نتوصّل إلى فحوى قصده من هذه المطابقة، وهي مطابقة شيئين لهما نفس الدَّوْر؛ لأنه يقول: إن الأوامر الإلهية هي أفضل خيار لإيفاء دَوْر الإلزامات الأخلاقية.
ولكنْ هل أن إيفاء دَوْرٍ واحد لشيئين يخوِّلنا القول بأنهما متَّحدان في الواقع؟
هذه مسألةٌ فيها نظرٌ.
ولكنّه يوضِّح إل حدٍّ ما في مقالاته الأولى هذه الوحدة والمطابقة على الشكل التالي: حينما يقول المؤمن: (من أجل (أ) خطأ أن يرتكب عمل (ب)) تساوي هذه الجملة: (من وجهة نظر (أ) مخالفٌ للأمر الإلهي أن يرتكب عمل (ب))([33]). وبعبارةٍ أخرى: لدى كلّ إلزامٍ أخلاقي حيثيةٌ تعليلية، وعلى الرغم من أن هذا القيد لا يُذْكَر في الكلام فإنه مُستَترٌ في النصّ الفعلي. ولكنّ الكلام هو أنه بافتراض هذا القيد هل يمكن أن تُرْفَع الإشكالات المثارة ضدّ نظرية الأمر الإلهي التقليدية؟ ويبدو أنه إذا أرَدْنا أن نوضِّح المسائل بناءً على أصول الفلسفة التحليلية يجب أن نقول: إنه لا ينبغي لمثل هذا القيد أن يكون مستتراً؛ لأن اللغة المتداولة العادية هي أساس التحليل في الفلسفة التحليلية، ولا تستخدم مثل هذه القيود فيها.
الهوامش
(*) باحثٌ، ومتخصِّصٌ في الفلسفة المقارنة.
([1]) Quinn, Philip L. 2005, “Divine command theoryes of ethics” in Encyclopaedia of Philosophy, second edition, v.3, ed, p. 93.
([2]) Sagi, avi and Statman, Daniel, 1995, Religion and Morality, Rodapi, Atsnta, P. 19.
([3]) Adams, Robert Merrihew (1999), Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics, Oxford University Press, NewYork, p. 249.
([4]) محمد تقي مصباح، نقد وبررسي مكاتب أخلاق (نقد وتحليل المذاهب الأخلاقية): 88، قم، مؤسّسة الإمام الخميني& للتعليم والأبحاث، 1384.
([5]) Adams, Robert Merrihew, (1996), “Philosophy of Religion” in Encyclopaedia of Philosophy, second edition, v.7, ed, Donald M. Borchert, Thomson/Gale, 2006, p. 479.
([6]) محمد تقي مصباح، نقد وبررسي مكاتب أخلاق (نقد وتحليل المذاهب الأخلاقية): 87.
([7]) أبو الحسن الأشعري، اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبِدَع: 74، بيروت، دار الكتب العلمية، 1421هـ.
([8]) See: Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, P.78.
([9]) Quinn, Philip L. 2005, “Divine command theoryes of ethics” in Encyclopaedia of Philosophy, second edition, v.3, ed, p. 93.
([10]) Carson, Thomas L. 2005, “Metaethics” in Encyclopaedia of Philosophy, second edition, v.6, ed, Donald M. Borchert, Thomson/Gale, 2006, p. 164.
([11]) محمد تقي مصباح، نقد وبررسي مكاتب أخلاق (نقد وتحليل المذاهب الأخلاقية): 95.
([12]) المصدر السابق: 96 ـ 97.
([13]) Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, p. 77.
([15]) محمود مراويد وأحمد رضا همتي مقدم، خوبي، إلزام أخلاقي وأمر إلهي، بررسي تطبيقي آراي آدمز ومتفكِّران شيعة (الخير، الالتزام الأخلاقي والأمر الإلهي، دراسةٌ مقارنة لآراء آدمز والمفكِّرين الشيعة): 17، قم، پژوهشگاه فرهنگ وأنديشه (معهد الثقافة والفكر)، 1389.
([16]) Adams, Robert Merrihew, (1987), The Virtue of Faith and other Essays in Philosohical Theology, Oxford University press, New York and Oxford, p. 97.
([17]) Sagi, avi and Statman, Daniel, 1995, Religion and Morality, Rodapi, Atsnta, p. 31 ـ 33.
([19]) Adams, Robert Merrihew, (1987), The Virtue of Faith and other Essays in Philosohical Theology, Oxford University press, New York and Oxford, p. 100.
([20]) Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, p. 49.
([21]) Adams, Robert Merrihew, (1987), The Virtue of Faith and other Essays in Philosohical Theology, Oxford University press, New York and Oxford, p. 105.
([22]) Adams, Robert Merrihew (1999), Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics, Oxford University Press, NewYork, p. 15 ـ 17.
([23]) Adams, Robert Merrihew, (1987), The Virtue of Faith and other Essays in Philosohical Theology, Oxford University press, New York and Oxford, p. 100.
([24]) Adams, Robert Merrihew (1999), Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics, Oxford University Press, NewYork, p. 235.
([25]) Adams, Robert Merrihew (1999), Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics, Oxford University Press, NewYork, p. 244 ـ 245; Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, p. 86.
([26]) Adams, Robert Merrihew (1999), Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics, Oxford University Press, NewYork, p. 252 ـ 257.
([27]) Adams, Robert Merrihew (1999), Finite and Infinite Goods: A Framework for Ethics, Oxford University Press, NewYork, p. 237 ـ 242; Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, p. 84 ـ 86.
([28]) Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, p. 86.
([31]) Wainwright, William J. 2005, Religion and Morality, USA, p. 89 ـ 91.
([32]) المصدر السابق: 91 ـ 92.
([33])Adams, Robert Merrihew, (1987), The Virtue of Faith and other Essays in Philosohical Theology, Oxford University press, New York and Oxford, p. 97.