د. الشيخ علي منتش(*)
1ـ مقدّمة
سلك البحث الأصوليّ طرق استنطاق النّصوص الشرعيّة؛ ليظفر بمكوّنات الأحكام، ووجد أنّ جامع الخطاب المؤسِّس لهذه النّصوص هو منطق اللّغة العربيّة، فاتّجه نحو البحث عن المعنى الحقيقيّ، الذي وُضع له اللّفظ بالأصل، وعن المعنى المستَعْمَل فيه اللّفظ، في موارد المجاز والكناية وغيرها، ضمن دائرة الأبحاث اللّغويّة؛ لأنّ الخطاب الشرعيّ بنظر الأصوليّين قابلٌ لأن يحتضن أكثر من معنىً.
وهذا يعني أنّ مهمّة الكشف عن المعنى المراد من النّصوص الشّرعيّة كانت متعيِّنةً منذ بداية ظهور علم الأصول كعلمٍ مستقلٍّ في طريقه إلى التّميُّز، بحيث تجاوزت هذه المهمّة المعرفيّة وظيفتها كمقدّمات ومداخل شكليّة، لتتّخذ عنوان «الأصول والمبادئ اللّغويّة، وتشرّع لهذا العلم منهجه المستقلّ عن اللّغويّين والنّحويّين في فقه اللّغة واستقراء اللّسان، وتأصيل قواعد لغويّة تُدرك بها دلالة الألفاظ وصيغها وهيئاتها ومفاهيمها؛ للوصول إلى ما في النّصوص من معانٍ يُبنى عليها لاستنباط أحكامٍ شرعيّة».
والمتتبّع لمباحث الألفاظ عند علماء أصول الفقه يمكنه أن يعثر على أدبٍ لغويّ، يكاد يكون مختلفاً في المنهج والنتيجة، ومتنوّعاً في المقاربة والتحليل، من خلال تحقيقاته العلميّة الحثيثة في استثمار الطاقة الدّلاليّة للنّصّ. ويجد أنّ علماء الأصول أضافوا قراءةً جديدة إلى الأبحاث اللّغويّة، جديرةً بأن تتصدَّر؛ لما لها من قدرةٍ على استيعاب القضايا المعاصرة في اللّغة، فكان جُلُّ جهدهم منصبّاً على تحصيل العناصر المشتركة، والتي تشكِّل قواعد عامّة وكبرياتٍ تقع نتيجتُها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ.
إذن فلعلم الأصول أهمّيةٌ كبيرة في الوصول إلى الحكم الشرعيّ. واختلاف النظرة والرأي في قواعد هذا العلم يؤدّي إلى وجود تنوُّعٍ ملحوظ في المسائل الفرعيّة. وهذا التنوُّع طبيعيٌّ؛ لأنّ علم أصول الفقه هو المنهج لعلم «الفقه». ومن الطبيعيّ أنّ الاختلاف في المنهج، والذي هو المسلك والسبيل نحو الحكم الشرعيّ، يؤدّي إلى الاختلاف والتنوّع في العمليّة الفقهيّة.
2ـ الأصوليّون بين الاتّفاق والاختلاف
إنّ الاتّفاق على القواعد الأصوليّة، وخصوصاً اللّفظيّة منها، أمرٌ مهمّ. لكنّه لا يكفي، بل لا بُدَّ معه من الاتّفاق على طريقة التعاطي معها وفيها. وهذا ما نجده في الأصول الأربعة المسلَّم بها عند جميع المسلمين في عملية الاستنباط الفقهي (وهي: القرآن؛ والسُّنّة؛ والإجماع؛ والعقل)، ومع ذلك فالافتراق حاصلٌ في كلٍّ منها.
ويتّضح من ذلك أنّه لا بُدَّ من البحث في أمرَيْن مهمّين في عملية الاستنباط الفقهيّ، وهما:
1ـ المصادر الأساسيّة، وهي: القرآن؛ والسُّنّة؛ والعقل؛ والإجماع.
2ـ القواعد والعناصر العامّة، والتي لا غنى للفقيه عنها في عمليّة الاستنباط من الأصول الأربعة، أو ما يُعبَّر عنها بمسائل علم الأصول.
إنّه وإنْ قام الاتّفاق على الكتاب والسُّنّة كمصدرَيْن أساسَيْن للنّصوص الشرعيّة، ولكنّ ذلك لم يمنع من وقوع الخلاف في الإفادة منهما. ولتوضيح ذلك نقول:
لا شَكَّ أنّ القرآن الكريم هو المصدر الأوّل والأساس للأحكام الإسلاميّة. ومن المعلوم أنّ آيات القرآن الكريم لا تنحصر بالأحكام العمليّة، فقد تطرَّق القرآن إلى مئات المواضيع المختلفة. والآيات التي تختصّ بالأحكام منه تقدَّر بحوالي خمسمائة آية من مجموع ستّين وستّمائة وستّة آلاف، أي 1/13 من مجموع آيات القرآن الكريم.
فالقرآن مع كونه أساساً وحجّةً في الفقه بالضرورة والبداهة عند جميع الفرق والمدارس الإسلامية، لكنّ الكثير من الآيات التي يُستفاد منها في التشريع، وهي «آيات الأحكام»، إنْ لم يكن الأكثر منها، هو من غير المُحْكَم، وهو ما يُحتاج في فهمه إلى مزيد بحثٍ و نظر.
ويُضاف إلى ذلك تعدُّد القراءات وكثرتها. وقد قُمْنا باستقراء القراءات على اختلاف أنواعها؛ لحصر وجوه الخلاف فيها، فتبيَّن أن أوجه الخلاف فيها تنحصر بما يلي:
1ـ الاختلاف في حركات الكلمة بلا تغييرٍ في معنى الكلمة وصورتها، نحو: قوله تعالى: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ (هود: 78)؛ حيث قُرىء برفع (أطهر) ونصبها.
2ـ الاختلاف في الحركات، مع تغيُّر المعنى وبقاء الصورة، نحو: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ (آل عمران: 37)؛ فقد قُرىء بتخفيف الفعل ورفع «زكريّا»؛ وقُرىء بتشديد الفعل ونصب «زكريّا». وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلى الكَعْبَينِ…﴾ (المائدة: 6)؛ حيث قُرئ بنصب «أرجلكم» وجرِّها.
3ـ الاختلاف في حروف الكلمة، مع تغيُّر معنى الكلمة وبقاء صورتها، نحو: ﴿وَانْظُرْ إِلى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا…﴾ (البقرة: 259)؛ حيث قُرىء «ننشزها» بالزاي المعجمة، وقُرىء (ننشرها) بالراء المهملة.
4ـ الاختلاف في الحروف، مع تغيُّر الصورة وبقاء المعنى، نحو: ﴿كَالْعِهْنِ المَنْفُوشِ﴾ (القارعة: 5)؛ حيث قُرئت «كالصوف المنفوش»؛ ونحو: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً﴾ (الأعراف: 69) بالسين المهملة، و(بصطةً) بالصّاد المهملة.
5ـ الاختلاف في الحروف، مع تغيُّر المعنى وتغيُّر الصّورة، نحو: ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ (الواقعة: 29)؛ حيث قُرىء «وطلح» بالحاء المهملة، وقُرىء «وطلع» بالعين المهملة.
6ـ الاختلاف في التقديم والتأخير، نحو: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ﴾ (ق: 19)؛ حيث قُرئت «وجاءت سكرة الحقِّ بالموت»؛ ونحو﴿فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ﴾ (النحل: 112)؛ الذي قُرىء أيضاً «فأذاقها الله لباس الخوف والجوع».
7ـ الاختلاف في الزيادة والنقصان، نحو: ﴿وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ﴾ (يس: 35)؛ الذي قُرىء أيضاً «وما عملَتْ أيديهم»؛ ونحو: ﴿إِنَّ اللهَ هُوْ الْغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ (لقمان: 26)؛ الذي قُرىء أيضاً «إن الله الغنيّ الحميد».
وما يعنينا من هذه الحالات هو ما يؤدّي إلى اختلاف المعنى المراد؛ فقد يرجع الخلاف في فهم الآية إلى معنى الكلمة الواحدة التي تشترك بين أكثر من معنىً، وهو ما يُطلق عليه «الاشتراك اللّفظيّ»؛ كما قد يرجع الخلاف إلى إمكانية حَمْل الكلمة على معنىً مجازيّ، دون المعنى الحقيقيّ الذي وُضعت بإزائه الكلمة.
إذن فمن أهمّ أسباب الاختلاف والتنوُّع اختلافُ القراءات، واختلافُ التفسير، وهو ما يؤدّي إلى اختلاف المعنى، وبالتّالي إلى تعدُّد الآراء وتنوُّعها في المسائل الفرعيّة.
وكذلك الحال في السُّنّة النّبويّة الشريفة، فهي المصدر الثّاني للأحكام الشرعيّة عند المسلمين، فإذا بيَّن الرسول| في خطابه حكماً شرعيّاً، أو ثبت أنّه قام بوظيفةٍ شرعيّة على نحوٍ خاصّ، أو ثبت أنّ الصحابة مارسوا بعض الوظائف الدّينيّة على طريقةٍ خاصّة أيضاً، وأقرَّهم عليها الرسول|، من خلال سكوته وعدم اعتراضه، فبإمكان الفقيه بداهةً أن يكتفي بذلك، ويستند إليه في مقام الفتوى وإصدار الحكم الشرعيّ.
فلا نقاش بين المسلمين، مع تعدُّد مدارسهم ومذاهبهم، في حجِّيّة السُّنّة، والاستناد إليها في مقام التّشريع. ومع ذلك فقد وقع الخلاف فيها من جهتين، وهما:
1ـ هل تُقْصَر الحجِّيّة على ما صدر عن النبيّ| أو تشمل ما هو صادرٌ عن الصّحابة أيضاً، وما صدر عن أئمّة أهل البيت^؟
2ـ إنّ السُّنّة المرويّة تارةً تكون قطعيّة الصدور، أي إنّها متواترةٌ معلومة؛ وأخرى تكون ظنِّيّة، وهو ما يُصطلح عليه بـ «خبر الواحد»، فهل يجوز الرجوع إلى السُّنّة غير القطعيّة أيضاً، وخصوصاً في الروايات التي تخصِّص أو تقيِّد الكتاب العزيز؟
3ـ التنوُّع في المسائل، أسبابٌ ووجوه
إذا كانت الشريعة واحدةً، وقوانينها واحدة، فلماذا يختلف الفقهاء، وتتعدَّد آراؤهم في قضيّةٍ واحدة؟!
لا بُدَّ أن يكون التنوُّع مبنيّاً على أسسٍ صحيحة، ومنهجيّةٍ علميّة، فيكون الفقهاء معذورين في اختلافهم. وإلاّ لو كان اجتهاداً لا ينبع من أصولٍ علميّة صحيحة مأخوذة من روح الشريعة ومصادرها، بل عبر منهجيّةٍ اعتباطيّة مزاجيّة، فهذا الاختلاف غير مبرَّرٍ، ولا يُعَدّ اجتهاداً، ولا يُعتَدّ به أو يعتمد عليه.
فعلم الفقه، كغيره من العلوم والمعارف الإنسانية، له قوانينه وقواعده الخاصّة به. فالفقيه عندما يمارس عملية استخراج الأحكام والقوانين الإسلاميّة من مصادرها الأصلية ـ الكتاب والسُّنّة ـ فإنّه قد يخطىء أحياناً في عملية الاستكشاف والاستنباط هذه، ولكنّ خطأه هذا ليس خطأً عشوائيّاً أو ارتجاليّاً، بل لقصورٍ في أدواته العلميّة، أو إمكاناته الذاتيّة، فيقصر به الاستعداد العلميّ عن تشخيص القانون والحكم الشرعيّ الواقعيّ.
ولذا كان الفقيه معذوراً عند الخطأ والقصور عن اكتشاف الحكم الصحيح إذا كان مستوفياً للشروط، ومستنفداً وُسْعه في عملية الاستنباط. فكان لا بُدَّ من إخضاع الآراء الاجتهاديّة الخلافيّة بين المسلمين عند مناقشتها للنّقد العلميّ والتّمحيص على أسسٍ شرعيّة وموضوعيّة، بعيدةٍ عن التّعصُّب والأغراض الخاصّة.
إن المصدر الأوّل والأساس هو صاحب الرسالة، أي الرسول|، الذي يأخذها عبر الوَحْي عن المُرسِل، وهو الله القائل: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم: 3 ـ 4)، لذلك كان هو المرجع الأصليّ لأيّ أمرٍ من أمورها. لكنْ بعد وفاته| انقطع الاتّصال بالوَحْي، وانقطعت الحجّة الكاملة التّامّة، ومن هنا اضطّر المسلمون لولوج طُرُقٍ معتبرة أخرى، تقوم مقامه في الوصول إلى التكاليف الإلهيّة، كالرجوع إلى الصّحابة؛ وسلوك سبل الاجتهاد؛ ابتغاء أحكام الرسالة. هذا لدى مدرسة أهل السّنّة؛ أمّا لدى مدرسة أتباع أهل البيت^، الذين يعتقدون أنّ الإمامة استمرارٌ واتّصالٌ بالنبّوة، وأنّ الأئمّة المعصومين أوصياء للرسول|، أمر بالتّمسُّك بهم مع كتاب الله، وحديثُهم حديث رسوله|، وحديثُه حديث جبرئيل عن الله تعالى، فقد استمرَّتْ فترة النّصّ مدّةً طويلة، بما فيها من إجابةٍ وبيان للأحكام، والمنهجية السّليمة، وتصحيح ما فسد بعد الابتعاد عن الرسول|، إلى أن كانت غيبة الإمام الثاني عشر#، فانقطع الاتصال بالنّصّ، وكان لا بُدَّ من الّلجوء إلى التخصُّص والاجتهاد؛ تمحيصاً للتّكاليف الشرعيّة، واستنباطاً لها من مداركها المقرَّرة.
هكذا يتبيَّن السبب الرئيس لاختلاف المسلمين في تحقيق تكاليفهم، باختلاف مرجعيّتهم ومدارسهم ومبانيهم التي اعتمدوا عليها.
لكنْ مع ذلك يمكن اختصار أهمّ أسباب الاختلاف بين المجتهدين، سواء أكانوا من مجتهدي المذاهب الإسلامية المختلفة، كالحنفيّ، والشافعيّ، والمالكيّ، والحنبليّ، والجعفريّ،…إلخ، أو من مجتهدي المذهب الواحد، بما يلي:
1ـ الاختلاف اللّغويّ حول النّصّ من القرآن والسُّنّة ـ في بعض مواردهما ـ؛ لاختلافٍ في الإعراب أو المعنى أو في القراءة، ممّا يقود إلى الاختلاف في الفهم واستنباط الأحكام.
كاختلافهم في إعراب آية الوضوء، في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ…﴾ (المائدة: 6)؛ فالذي اعتبر «أرجلكم» معطوفةً على «وجوهكم» أوجب غسلها؛ والذي اعتبرها معطوفةً على «رؤوسكم» أوجب مسحها.
وكاختلافهم في فهم معنى «القُرْء»، في قوله تعالى: ﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ (البقرة: 228)؛ فقد اختلف الفقهاء في المعنى اللّغويّ لكلمة «قرء»؛ فبعضهم فسَّر «القُرْء» بأنّه الطُّهْر؛ وبعضهم فهمه وفسَّره على أنه الحَيْض. وكلّ واحدٍ من أصحاب هذين الرأيين يعتمد على فَهْمٍ وتأويلٍ لغويّ؛ لأن لفظ القُرْء يُطلق في لغة العرب على كلٍّ من: الحَيْض؛ والطُّهْر. وبناءً على هذا الاختلاف اللّغويّ اختلف الفقهاء في مدّة عدّة المطلَّقة، هل هي ثلاثة أطهار بعد الطلاق أو ثلاث حيضات؟ لأنّ المقصود بالقُرْء «الحَيْض»، و«القُرْءُ» اسمٌ رمزيّ لشهر المرأة، وباعتباره عادةً شهريّة تَحْدُث لها في كلِّ شهرٍ مّرةً. فمرجع الخلاف إلى «الاشتراك اللّغويّ».
وكاختلافهم في قراءة قوله تعالى: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ في الآية الكريمة: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة: 222)؛ فالذي قرأ (يطَّهَّرْنَ) مشدَّدةً لم يُجِزْ جُماع المرأة بعد انتهاء مدّة الحَيْض إلاّ بعد التطهُّر (الغُسْل)، والذي قرأها مخفَّفة (يطْهُرْنَ) أجاز جماعها لمجرّد حصول الطهر، وهو انقطاع الدّم. ومرجع الخلاف إلى اختلاف القراءات.
أو كاختلافهم في أمرٍ هل يفيد الوجوب أو الاستحباب؟ أو في نهيٍ هل يدلّ على الحرمة أو الكراهة؟ أو أنّ هذا اللّفظ يفيد الحقيقة أو المجاز؟ وقد ذهب بعضهم إلى نفي المجاز في لفظ الشّارع، كأبي إسحاق الإسفراييني، وابن تيميّة؛ بحجّة أن النّصوص الشرعيّة جاءت لبيان الأحكام الشرعيّة، وإطلاق اللّفظ وإرادة غير ما وضع له منافٍ لبيان المقصود. بخلاف الأعظم الأغلب من العلماء، حيث ذهبوا إلى جوازه، بل إنّ ابن قُدامة وغيره اعتبروا إنكار وقوعه في نصوص الشّارع نوعاً من المكابرة.
2ـ الاختلاف حول المراد من الكتاب والسُّنّة. فقد يختلف المجتهدون في فهمهم لدلالة النّصّ وقصده، كاختلافهم في فهم قوله تعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ… * فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا…﴾ (البقرة: 229 ـ 230). فقد سبَّب الاختلاف في فهم قوله تعالى: «الطلاق مرّتان» نشوءَ آراء وأحكام فقهيّة مختلفة؛ بعضها يقرِّر تحريم الزوجة على زوجها إذا طلَّقها بقوله ثلاث مرّات: أَنْتِ طالقٌ، بناءً على فهمه للآية «الطلاّق مرّتان»، وفي الثالثة تكون قد بانَتْ بينونةً كُبْرى، فلا يصحّ له الزواج منها حتّى تعتدّ وتتزوَّج زوجاً غيره، فإنْ طلَّقها الأخير فلزوجها الأوّل أن يتزوَّجها بعد انقضاء عدّتها؛ في حين فهم فريقٌ آخر من قوله تعالى: «الطلاّق مرّتان» أنّه لا بُدَّ من تحقيق الطلاق فعلاً، وليس لفظاً؛ لكي تحرم الزوجة على زوجها. فالقرآن لم يقصد تكرار اللّفظ، بل قصد وقوع الطلاق المسموح بعده مراجعة الزوجة وقوعاً فعليّاً، لمرّتين، فإنْ وقع الطلاق الثالث فلا يحلّ له الرجوع إليها، وتحرم عليه، إلاّ إذا انقضَتْ عدّتها، وتزوَّجت غيره، ثمّ طلّقها الأخير أو مات عنها، وانتهت عدّة الطّلاق أو الوفاة، فللزّوج الأوّل حينئذٍ أن يتزوّجها.
3ـ الاختلاف في نسخ الحكم وعدمه، كاختلاف العلماء مثلاً حول زواج المتعة (الزواج المؤقَّت)، في قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ (النساء: 24).
4ـ الاختلاف حول القواعد الأصوليّة، وضوابط الاستنباط والمباني فيها؛ فبعضهم ذهب إلى أنّ فتوى الصحابيّ اذا اشتهرَتْ، ولم يكن لها مخالفٌ من الصحابة، فهي حجّةٌ؛ للحكم بعدالة الصحابة، فلا يفتي واحدهم إلاّ بدليلٍ أو سماعٍ عن النبيّ| ممّا لم يصِلْ إلينا، أو ما يعبَّر عنه بالشهرة الفتوائية، فهل هي حجّةٌ بنفسها، يثبت بها الحكم الشرعيّ؟
أو كاعتمادهم على المصالح المرسلة، أي التي لم يوجد ما يدلّ في الشرع على اعتبارها بذاتها، ولم يوجد ما يدلّ على نفيها بذاتها. فهي مرسلةٌ مطلقة عن الإلغاء والاعتبار. فإذا أدرك المجتهد ما يحقِّق مصلحةً قال بمقتضاها؛ باعتبار أنّ الشارع لا يشرِّع من الأحكام إلاّ لتحقيق المصالح للعباد. فالاختلاف في حجِّيّة المصادر والقواعد الأصوليّة ومراجع تحصيل الأحكام الشرعيّة، وعدم حجِّيّتها، يكون سبباً في الاختلاف في الأحكام الناشئة عن ذلك، كالقياس والإجماع وغيرها…
5ـ الاختلاف في كيفيّة قبول الروايات والأحاديث أو عدم قبولها، عن النبيّ| أو عن غيره، كالأئمّة من أهل البيت^؛ فبعضهم تحصَّل لديه حجِّيّة بعض الكتب وصحّتها واعتبارها، كالصِّحاح عند أتباع مدرسة أهل السُّنّة، والكتب الأربعة عند أتباع مدرسة أهل البيت^، حتّى ذهب بعضهم إلى عدم الحاجة إلى ما يُسمَّى بـ (علم الرجال)، الذي يبحث حول أحوال الرّواة من حيث وثاقتهم وضعفهم. وهكذا الاختلاف لدى غير هؤلاء في وثاقة بعض الرّواة، فيؤخذ برواياتهم؛ وعدم وثاقتهم، فلا يُعتمد على ما يروونه؛ وفي كيفية توثيقهم.
وهكذا الخلاف في اعتبار الحديث وعدمه؛ بسبب مخالفة آيةٍ، أو معارضتها لظهورٍ قرآنيّ، أو سُنّةٍ ثابتة لديه، وهل أنّ السُّنّة تقيِّد أو تخصِّص الإطلاق والعموم القرآنيّ؟ وهكذا بين الروايات نفسها، من حيث تعارضها في الإطلاق والتقييد، والعموم والتخصيص.
هذه أهمّ أسباب الخلاف بين مجتهدي المذاهب الإسلامية وأصحاب الرأي فيها، دون التفصيل بينها أو لدى المذهب الواحد.
ويبحث علماء أصول الفقه عن القواعد العامّة التي تشترك في عمليّة البحث الفقهيّ؛ من أجل تطبيق تلك النظريّات في عملية استخراج الحكم الشرعيّ. ولتطبيق النظريّات العامّة على الفروع موهبته الخاصّة، ودقّته. ومجرّد الدّقة في النّظريات العامّة لا يغني عن الدّقة في تطبيقها؛ «لأن المجتهد إذا درس العناصر المشتركة لعمليّة الاستنباط وحدَّدها في علم الأصول لا يكتفي بعد ذلك بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة، من كتب الأحاديث والروايات مثلاً، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظريّاتها العامّة على العناصر الخاصّة. والتطبيق مهمّةٌ فكريّة بطبيعتها، تحتاج إلى درسٍ وتمحيص، ولا يُغني الجُهْد العلميّ المبذول أصوليّاً في دراسة العناصر المشتركة، وتحديد نظريّاتها العامّة، عن بذل جُهْدٍ جديد في التطبيق»([1]).
كما أنّ هناك تفاعلاً دائماً بين الفكر الأصوليّ والفكر الفقهيّ؛ لأنّ توسُّع بحوث التطبيق على الصعيد الفقهيّ يدفع بحوث النظريّات الأصوليّة إلى الأمام، فيثير أمامها مشاكل، ويضطرّها إلى وضع نظريّاتٍ جديدةً لحلِّها. كما أنّ دقّة البحث الأصوليّ تنعكس في التطبيق الفقهيّ، فكلَّما كانت النّظريّات أعمق وأدقّ تطلَّب تطبيقها دقّةً وعمقاً أكبر.
4ـ تطبيقاتٌ فقهيّة عمليّة
وانطلاقاً ممّا تقدَّم نعرض نماذج من التّطبيق العمليّ للدرس الأصوليّ، ونورد لذلك مسائل، وهي:
أـ مقاربة الزوجة بعد الحَيْض
قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِين﴾ (البقرة: 222).
والبحث في الآية كنصٍّ شرعيّ يقع في عدّة محاور، نذكر منها ما يلي:
أـ الأمر بالاعتزال: «فَاعْتَزِلُواْ».
ب ـ تحديد معنى «الْمَحِيضِ».
ج ـ النهي الوارد: «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ».
د ـ تحديد معنى «يَطْهُرْنَ».
هـ ـ «الأمر بعد النهي: «فَأْتُوهُنَّ».
و ـ التّقييد بما أمر الله: «مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ».
أـ الأمر بالاعتزال: ورد الأمر في الآية الكريمة باعتزال النساء في المحيض. والأمر هنا ظاهرٌ في الوجوب. و«الاعتزال» لغةً هو أخذ العزلة والتجنُّب عن المخالطة والمعاشرة، والتنحّي عن الشيء، يُقال: عزلتُ نصيبه إذا ميَّزته ووضعته في جانبٍ، بالتفريق بينه وبين سائر الأنصباء.
فهل المراد بالوجوب هنا الاعتزال بمختلف أشكاله؟ وخصوصاً أنّ الآية أكملت بـ «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ»، والقربُ لغةً مقابل البعد، فمعنى ذلك مفارقة النساء في المحيض، في المأكل والمشارب والمجلس والمضجع، كما كانت عادة اليهود، أو أنّ المراد بوجوب الاعتزال خصوص الجُماع؛ لأنّ الآية أكملت بعد ذلك بقوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ…﴾ (البقرة: 222)، فإنّ المراد من الإتيان في الآية «الجُماع»، وهذا معناه أنّ الاعتزال المطلوب في الآية هو اعتزال «الجُماع» فقط.
ب ـ معنى «المحيض»: حاض الماء بمعنى سال. و«المحيض» مصدرٌ ميميّ بمعنى الحَيْض، ويأتي أيضاً اسم مكانٍ، بمعنى موضع الحَيْض.
* فإنْ فسَّرنا «المحيض» بأنّه موضع الحَيْض، أي المكان الذي يندفق منه دم المرأة، فتكون الآية حينئذٍ داّلةً على تحريم الجُماع فقط.
* وإنْ فسَّرنا «المحيض» بزمن الحَيْض يصبح المعنى: فاعتزلوا النّساء زمن الحَيْض، وكأنّ السؤال: «ويسألونك عن حكم الحَيْض»؛ إذ لا معنى للسّؤال عن الحَيْض غير معرفة حكمه، وحينئذٍ يكون الحكم وجوب الاعتزال عن المقاربة، ولو بغير الجُماع. نعم، تُرك العمل بإطلاق الآية فيما فوق السّرّة ودون الركبّة؛ لتقييد الروايات لها.
ج ـ «وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ»: وهذا نهيٌ دالٌّ على الحرمة بصيغته. وإنّما وقع الكلام في تحديد المنهيّ عنه، وهو القُرْب في الآية. فما هو المقصود من لفظ «القُرْب»؟ القُرْب لغةً يقابل البُعْد. ولا يخالف أحدٌ من العلماء في أنّ «القُرْب» يقابل البُعْد في المعنى. وعليه إنْ كان استعمال لفظة «قرب» في الآية في معناها استعمالاً حقيقياً، وفسَّرنا «المحيض» بزمن الحَيْض، فإن الحكم هو حرمة الاستمتاع بالزوجة بكلّ أشكاله، باستثناء ما بيَّنته الروايات من جواز الاستمتاع بما فوق السّرّة ودون الركبّة.
وأمّا إذا كان الاستعمال لكلمة «قرب» بمعنى القُرْب الخاصّ، وهو الجُماع، يُقال: قَرُبَ الرجل امرأته إذا جامعها، فحينئذٍ يكون الحكم جواز الاستمتاع بكلّ أشكاله، ما عدا الوطء في القُبُل.
د ـ «يَطْهُرْنَ»: قُرئت الآية قراءتين: الأولى: قراءة ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعامر، ويعقوب الحضرميّ، وأبو بكر عن عاصم: (حتّى يَطْهُرْنَ)، خفيفة من الطهارة؛ والثانية: قراءة حمزة، والكسائيّ، وحفص عن عاصم: (حتّى يَطَّهَّرْنَ)، بالتّشديد.
فمَنْ أخذ بالقراءة الأولى حكم بجواز المقاربة عند حصول الطهارة، وهي النقاء وزوال الدّم؛ لأنّه يُقال: طَهرت المرأة من حَيْضها إذا انقطع الحَيْض، فالمعنى هو: لا تقربوهُنّ حتّى يزول عنهنّ الدّم.
ومَنْ أخذ بالقراءة الثانية أوقف جواز المواقعة على التطهُّر. وقد انقسموا إلى رأيين، وهما:
الرأي الأوّل: وهو أنّ المراد من التطهُّر «الاغتسال». والقائلون به هم أكثر فقهاء الجمهور؛ فإنّ المرأة إذا انقطع حَيْضها لا يحلّ للزوج مجامعتها إلاّ بعد أن تغتسل من الحَيْض. وهذا قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، والثوري، والزهري، وربيعة، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور([2]).
الرأي الثاني: وهو أن المراد من «التطهُّر» غسل الموضع. قال داوود: إذا غسلت فرجها حلّ وطؤها، فإنْ وطأها لم يكن عليه شيءٌ»([3]). وعليه أكثر الإمامية.
وحجّة الشافعيّ من وجهين([4]):
الحجّة الأولى: إنّ القراءة المتواترة حجّةٌ بالإجماع، فإذا حصلت قراءتان متواترتان، وأمكن الجمع بينهما، وجب الجمع بينهما. إذا ثبت هذا فنقول: قُرىء «حتّى يطهرن» بالتخفيف وبالتثقيل، «ويَطْهُرْنَ» بالتخفيف عبارةٌ عن انقطاع الدّم، وبالتثقيل عبارةٌ عن التطهُّر بالماء، والجمع بين الأمرين ممكنٌ، فوجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين. وإذا كان وجب فلا تنتهي هذه الحرمة إلاّ عند حصول الأمرين.
والحجّة الثانية: إنّ قوله تعالى: ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ (البقرة: 222) علّق الإتيان على التطهُّر بكلمة «إذا»، وكلمة «إذا» للشرط في اللّغة، والمعلَّق على الشرط عدمٌ عند عدم الشرط، فوجب أن لا يجوز الإتيان عند عدم التطهُّر.
وحجّة أبي حنيفة قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ (البقرة: 222). نهى عن قربانهنّ، وجعل غاية ذلك أن يطهُرْن، بمعنى ينقطع حَيْضُهنّ. وإذا كان انقطاع الحَيْض غايةً لهذا النّهي وجب أن لا يبقى هذا النّهي عند انقطاع الحَيْض([5]). وأجاب القاضي عنه بأنه لو اقتصر على قوله: «حتّى يَطْهُرْنَ» لكان ما ذكرتم لازماً، أمّا لمّا ضمّ إليه قوله: «فإذا تَطَهَّرْنَ» صار المجموع هو الغاية، وذلك بمنزلة أن يقول الرجل: لا تكلّم فلاناً حتّى يدخل الدار، فإذا طابت نفسه بعد الدخول فكلِّمْه، فإنّه يجب أن يتعلَّق إباحة كلامه بالأمرَيْن جميعاً.
وقد اختلفوا في ذلك التطهُّر في الآية الكريمة: ﴿إِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ (البقرة: 222)؛ فقال الشافعي وأكثر الفقهاء: هو الاغتسال؛ وقال بعضهم: هو غَسْل الموضع؛ وقال عطاء وطاووس: هو أن تغسل الموضع وتتوضّأ.
قال الرازي: «الصحيح هو الوجه الأوّل؛ لوجهين:
الأوّل:إنّ ظاهر قوله: «فإذا تَطَهَّرْنَ» حكمٌ عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يحصل هذا التطهُّر في كلّ بدنها، لا في بعضٍ من أبعاضه.
الثاني: إنّ حمله على التطهير الذي يختصّ بالحَيْض أَوْلى من التطهُّر الذي يثبت في الاستحاضة كثبوته في الحَيْض، فهذا يوجب أنّ المراد به الاغتسال، إذا أمكن بوجود الماء؛ وإنْ تعذَّر ذلك فقد أجمع القائلون بوجوب الاغتسال على أن التيمُّم يقوم مقامه، وإنّما أثبتنا التيمُّم مقام الاغتسال بدلالة الإجماع، وإلاّ فالظاهر يقتضي أن لا يجوز قربانها إلاّ عند الاغتسال بالماء»([6]).
والمشهور عند الإمامية كراهة الوَطْء قُبُلاً بعد انقطاع الدّم قبل الغسل. وبه قال أبو حنيفة إنْ كان انقطاع (الدّم) لأكثر الحَيْض (أي عشرة أيّام)؛ وإنْ انقطع قبله قال: لا يحلّ حتّى تغتسل أو يمضي عليها وقتُ صلاةٍ كامل؛ لقوله تعالى: «حَتَّى يَطْهُرْنَ» بالتخفيف، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ (المؤمنون: 5)؛ فإن مقتضاه إباحة الاستمتاع مطلقاً، ترك العمل به في زمان الحَيْض؛ لوجود المانع، فيبقى ما عداه على الجواز.
وسُئل الإمام الكاظم× عن الحائض ترى الطّهر، أيقع عليها زوجها قبل أن تغتسل؟ فقال: «لا بأس. وبعد الغُسْل أحبُّ إليَّ»([7]).
هـ ـ « فَأْتُوهُنَّ»: ورد الأمر بـ «فأتوهنَّ» بعد النهي بقوله: «ولا تقربوهنَّ». فالأمر هنا لا يدلّ على الوجوب؛ إذ إن الأمر بعد النهي لا يفيد الوجوب، بل يعود الحكم كما كان قبل ورود النهي.
و ـ «مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ»: وقد وردت مادّة الأمر «أمركم»، وهي ظاهرةٌ في الوجوب. ولكنّ الكلام وقع في تحديد المعنى المأمور به هنا. وهنا ثلاثة أقوال، هي:
1ـ الطريق الذي أمر سبحانه بسلوكه، وهو طريق النِّكاح، دون السِّفاح.
2ـ طلب الإتيان في الوقت الذي يجوز فيه الجُماع.
3ـ إرادة الأمر التكوينيّ، أي فأتوهنَّ من القُبُل الذي أمركم سبحانه أمراً تكوينياً بسلوكه، بمعنى أنّه جعل الجُماع في القُبُل وسيلةً للتوالد وبقاء البشريّة، وفطر الخلائق على الغريزة الجنسيّة»([8]).
ب ـ حكم القَدَمَيْن في الوضوء، بين الغَسْل والمَسْح
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ…﴾ (المائدة: 6). والبحث في الآية كنصٍّ شرعيّ يقع في عدّة محاور، وهي:
أـ الخطاب الموجَّه بـ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هل هو خاصٌّ بالمؤمنين والمشافهين به زمن نزول الآية أو يعمّ غيرهم؟
ب ـ الأمر بالوضوء هل هو أمرٌ نفسيّ أم غيريّ؟
ج ـ الأمران الواردان في الآية: «فَاغْسِلُوا»؛ «وَامْسَحُوا».
د ـ «وَأَرْجُلَكُمْ» الوارد في الآية.
هـ ـ المراد من «الكَعْبَيْن».
أـ خصوص الخطاب أو عمومه: إنّ الخطاب في الآية الشريفة موجَّهٌ إلى المؤمنين، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا…﴾. وهذا يُستفاد منه حَصْر المنادى بالمسلمين، دون غيرهم، إلاّ أنّه ليس خاصّاً بالمشافهين.
ب ـ الأمر النفسيّ أو الغيريّ: إنّ الأمر بالإتيان بالوضوء ظاهرٌ في الوجوب، ولكنّ الوجوب هنا معلَّقٌ على القيام لامتثال أمر الصلاة. وهذا التعليق يجعل وجوب الوضوء وجوباً غيريّاً، فلا محلّ له قبل وجوب الصلاة، أي بدخول وقتها، إلاّ عند القائلين بأن الوضوء مستحبٌّ لنفسه، واجبٌ لغيره.
ج ـ صيغتا الأمر: ﴿فَاغْسِلُوا﴾؛ و﴿وَامْسَحُوا﴾: والأمران ظاهران في الوجوب، بلا خلافٍ بين الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم. وأمّا تحديد كيفية الغَسْل والمَسْح فيُرجَع فيهما إلى الفهم العُرْفي؛ حيث لا دلالة في الآية على الكيفيّة.
د ـ حكم «أَرْجُلَكُمْ» في الآية: من الأمور التي جرى الخلاف فيها بين المدارس الفقهيّة الإسلاميّة مسألة «مسح الرجلين» في الوضوء أو «غسلهما». وهو ناشىءٌ عن فهم الآية في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ﴾ (المائدة: 6)؛ فقد ورد فيها قراءتان؛ حيث قُرىء بخَفْض (جرّ) الأرجل؛ ونصبها. فقرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص والأعشى عن أبي بكر عن عاصم: «وأَرْجُلَكُمْ» بالنّصب؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة: (وأَرْجُلِكُمْ) بالجرّ([9]). لذا اختلف علماء الإسلام؛ فذهب فقهاء الجمهور، ومنهم الأئمّة الأربعة، إلى وجوب الغسل فَرْضاً على التعيين؛ وأوجب ابن عليّ والناصر للحقّ ـ من أئمّة الزيدية ـ الجمع بين الغسل والمسح؛ ورُبَّ قائلٍ منهم بالتخيير بينهما، كما نقله الفخر الرازي وغيره عن الحسن البصري، ومحمد بن جرير الطبري. والذي عليه أتباع مدرسة أهل البيت^ المسح فَرْضاً معيّناً، وهو مذهب ابن عبّاس، وعكرمة، والشعبي([10]). ثم إنهم قد دعَّموا مذاهبهم بالسُّنّة الشريفة، وعمل الصحابة في زمن النبيّ|، كلٌّ بما يوافق قوله. على أنّه لا يمكن دعوى التواتر عن النبيّ| في غسل الرجلين؛ فقد روى أوس بن أبي أوس الثقفي أنّه رأى النبيّ| أتى كظامة قومٍ بالطائف، فتوضّأ ومسح على قدمَيْه([11])؛ وعن عليٍّ× أنه مسح على نعلَيْه وقدمَيْه، ثمّ دخل المسجد، فخلع نعلَيْه وصلّى([12]؛ وعن ابن عبّاس أنّه قال: «ما أجد في كتاب الله إلاّ غسلتين ومسحتين»؛ وكان يقول: «الوضوء غسلتان ومسحتان». ولمّا بلغه أنّ الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصاري تزعم أنّ النبيّ| توضّأ عندها فغسل رجلَيْه، أتاها يسـألها، فقال ـ غير مصدِّقٍ، بل منكراً أو محتجّاً ـ: إنّ الناس أبَوْا إلاّ الغسل، ولا أجد في كتاب الله إلاّ المسح([13])؛ وذُكر لأنس بن مالك قول الحجّاج: اغسلوا القدمَيْن، ظاهرهما وباطنهما، وخلِّلوا ما بين الأصابع، فقال أنس: صدق الله، وكذب الحجّاج([14]). هذا دون التعرُّض لروايات أئمّة أهل البيت^ النافية للغسل، أو المتعرِّضة لكيفيّة وضوء رسول الله|.
أما ما ذهب إليه أئمّةُ المذاهب الأربعة وجمهورُ مدرسة أهل السُّنّة، من وجوب غَسْل الرّجلين في الوضوء، فقد استدلّوا له في الآية الكريمة بأنّ الأرجل معطوفةٌ على الأيدي على القراءتين؛ أمّا على قراءة النّصب فواضحٌ؛ إذ الأيدي منصوبةٌ لفظاً ومحلاًّ، وأمّا على قراءة الجرّ فللجوار والإتباع، أيْ إنّ الرؤوس مجرورةٌ، والأرجل مجاورةٌ لها، فجُرَّتْ لعلاقة المجاورة. وهذا موجودٌ في كلام العرب كقولهم: (جُحر ضبٍّ خَرِبٍ) مع العلم بأنّ (خَرب) يجب رفعه؛ لأنّه صفة للجُحْر، لا للضبّ، ولكنّه خُفِض لمجاورته للضبّ المجرور.
واستدلّ أتباع مدرسة أهل البيت^ على وجوب مسح الأرجل ببيان أنّ الأرجل معطوفةٌ على الرؤوس؛ أمّا على قراءة الجرّ فواضحٌ؛ إذ الرّؤوس مجرورةٌ بالباء؛ وأما على قراءة النصب فمعطوفةٌ على محلّ الرؤوس؛ لأنّ كلّ مجرورٍ لفظاً منصوبٌ محلاًّ، لذا يُقال في ما حُذِف حرفُ الجرّ عنه منصوبٌ على نزع الخافض. وهنا الباء زائدة لا يلزم من حذفها إخلالٌ بالمعنى أو تغيير؛ لأنّ الفعل متعدٍّ. نعم، لو كان الفعل لازماً فلا تكون زائدةً؛ لأنّ اللازم يتعدّى بالباء. ومن ثمّ منعوا أن تكون الأرجل معطوفةً على الأيدي؛ لأمرين:
الأوّل: إنّه على خلاف البلاغة؛ لوجود الفاصل بين الأيدي والأرجل، وهو قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ (المائدة: 6). فهنا اجتمع عاملان على معمولٍ واحد، أي «فاغسلوا» «وامسحوا»، والعاملان إذا اجتمعا على معمولٍ واحد كان إعمال الأقرب واجباً، ولو كانت الأرجل معطوفةً على الأيدي في «واغسلوا أيديكم» لقال: وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين، ولم يفصل بين الأيدي والأرجل بالمسح. كما قد أجاب عنه السيد المرتضى& بأن قال: جَعْلُ التأثير في الكلام للقريب أَوْلى من جعله للبعيد، فنصب الأرجل عطفاً على الموضع أَوْلى من عطفها على الأيدي والوجوه. على أنّ الجملة الأولى المأمور فيها بالغَسْل قد نقضَتْ وبطل حكمها باستئناف الجملة الثانية، ولا يجوز بعد انقطاع حكم الجملة الأولى أن تعطف على ما فيها؛ فإنّ ذلك يجري مجرى قولهم: «ضربتُ زيداً وعمراً، وأكرمتُ خالداً وبكراً»، فإنّ ردَّ بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام، الذي لا يسوغ سواه، ولا يجوز ردُّه إلى الضرب الذي قد انقطع حكمه؛ ولو جاز ذلك أيضاً لترجَّح ما ذكرناه؛ لتطابق معنى القراءتين، ولا يتنافيان([15]).
وهذا ما قاله الرازي في التفسير الكبير، حيث قال: «إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النّصب في قوله: «وأرجلكم» هو قوله: «وامسحوا»؛ ويجوز أن يكون هو قوله: «فاغسلوا». لكنّ العاملان إذا اجتمعا على معمولٍ واحد كان إعمال الأقرب أَوْلى، فوجب أن يكون عامل النّصب في قوله: «وأرجلكم» هو قوله: «وامسحوا»». ثمّ قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار؛ لأنّها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. لكنّ الرازي قال: «إنّ الأخبار الكثيرة وردَتْ بإيجاب الغسل، والغسل مشتملٌ على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه. وعلى هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الأرجل يقوم مقام مسحها»([16]).
الثاني: «إن العطف على الأيدي يستدعي أن يكون لكلّ قراءةٍ معنىً مغايرٌ للآخر؛ إذ يكون المعنى على قراءة النّصب الغسل، وعلى قراءة الجرّ المسح. وهذا بخلاف العطف على الرؤوس؛ فإن المعنى يكون واحداً على كلتا القراءتين. وإنّ الجرّ للجوار والإتباع رديءٌ لم يَرِدْ في كلام الله إطلاقاً([17])، قال الطبرسي: «فقد ذكرنا عن الزجّاج أنه لم يجوِّز ذلك في القرآن. ومَنْ أجاز ذلك في الكلام فإنّما يجوِّز مع فقد حرف العطف. وكلّ ما استشهد به على الإعراب بالمجاورة فلا حرف فيه حائلٌ بين هذا وذاك. وأيضاً فإنّ المجاورة إنّما وردت في كلامهم عند ارتفاع اللبس والأمن من الاشتباه؛ فإنّ أحداً لا يشتبه عليه أنّ خَرِباً لا يكون من صفة الضبّ… وليس كذلك الأرجل؛ فإنّها تجوز أن تكون ممسوحةً، كالرؤوس. وأيضاً فإن المحقِّقين من النّحويّين نفَوْا أن يكون الإعراب بالمجاورة جائزاً في كلام العرب، وقالوا في «جُحْر ضبٍّ خَرِبٍ» أنهم أرادوا خَربٍ جُحْرُه، فحذف المضاف الذي هو (جُحْر)، وأقيم المضاف إليه، وهو الضمير المجرور، مقامَه، وإذا ارتفع الضمير استكن في خَرِب»([18])، أي إنّ خربٍ نعتٌ سببيٌّ؛ حيث هو من صفات متعلّق منعوته، وهو صفةٌ مشبّهة يمكن أن تأخذ فاعلاً أو تمييزاً، فيرفع على الفاعليّة إذا كان معمول الصفة مقروناً بضمير الموصوف، نحو: أيّها الملك الكريم نسبه، أو يكون منكّراً أو مضافاً إلى نكرةٍ، فينصب على التمييز، نحو: أيّها الملك الكريم نسباً. وما نحن فيه مرفوعٌ على الفاعلية، أي جحر ضبٍّ خربٍ جُحْرُه، فجُحْرُه مرفوعٌ على الفاعلية، وهو مضافٌ، والهاء ضمير مضافٌ إليه، فحذف المضاف الذي هو (جُحْر)، وقام مقامه المضاف إليه وهو الضمير، أي صار فاعلاً، ولم يعُدْ ضميراً مضافاً إليه، لذا يصير ضميراً مستتراً. «وهذا ما خلص إليه جماعةٌ من جهابذة الفقه والعربيّة، منهم: الفقيه الشيخ إبراهيم الحلبيّ في بحث الآية…، لكنّه ـ كغيره ـ بعد أن جعل العطف على المحلّ أقرب من حمل قراءة الجرّ على قراءة النصب؛ لشذوذ الجوار، واطّراد العطف على المحلّ، وأيضاً فيه خلوصٌ عن الفصل بالأجنبيّ بين المعطوف والمعطوف عليه، فصار ظاهر القرآن هو المسح، ولكنّه ـ كغيره ـ أوجب حمل القرآن على الأخبار الصريحة بالغسل»([19]).
«ثمّ إنّ الفخر الرزاي ادّعى أنّ الغسل مُغْنٍ عن المسح؛ لأنّه مُتضمِّنٌ له، فكأنّه لغويّاً مسحٌ وزيادة. وهذه مغالطةٌ وهروبٌ وتفلُّتٌ ممّا صرَّح به من أنّ الآية تُوجب المسح، وأن القول بغسل الأرجل يستلزم نسخ القرآن، الذي لا يصحّ بخبر الواحد، فوقع بما هو أدهى، وهو مخالفة وضوح الدلالة في الآية. لكنّ الغسل والمسح حقيقتان مختلفتان لغةً وعُرْفاً وشَرْعاً؛ فإنّ الغسل مأخوذٌ في مفهومه سيلان الماء على المغسول، ولو قليلاً؛ والمسح مأخوذٌ في مفهومه عدم السيلان، والاكتفاء بمرور اليد على الممسوح. فالواجب إذن القطع بأنّ غسل الأرجل لا يقوم مقام مسحها. فالإمام الرزاي وقف بين محذورَيْن، هما: مخالفة الآية المحكمة؛ ومخالفة الأخبار الصحيحة بنظره، فغالط نفسه بقوله: إنّ الغسل مشتملٌ على المسح، وإنّه أقرب إلى الاحتياط، وإنّه يقوم مقام المسح؛ ظنّاً منه بأنّه قد جمع بهذا بين الآية والأخبار. ومَنْ أمعن في دفاعه هذا وجده في ارتباكٍ. ولولا أنّ الآية واضحةُ الدلالة على وجوب المسح ما احتاج إلى جعل الغسل قائماً مقامه»([20]).
هـ ـ الاختلاف في «إِلَى الْكَعْبَيْن»: أما «الكعبان»، اللذان هما غاية المسح في الآية الكريمة، فقد اختلف في معناهما؛ فعند الإمامية هما العظمان الناتئان في ظهر القَدَم، عند معقد الشراك ـ أي مجمع السّاق والقَدَم ـ. ووافقهم في ذلك محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وإنْ كان يوجب غسل الرجلين إلى هذا الموضع؛ لأنّه مأخوذٌ من كعب ثديُ المرأة إذا ارتفع؛ ولقول الإمام الباقر×، وقد سُئِل: فأين الكعبان؟ فأجاب: «هاهنا، يعني المفصل، دون عظم الساق»([21])؛ «وقد نصّ أئمّة اللّغة على أنّ كلّ مفصلٍ للعظام كعبٌ»([22]).
وذهب جمهور المفسِّرين والفقهاء إلى أنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبَيْ كلّ ساقٍ؛ واحتجّوا بأنّه لو كان الكعب مفصل السّاق عن القَدَم لكان الحاصل في كلّ رجلٍ كعباً واحداً، فكان ينبغي أن يقول: «وأرجلكم إلى الكعاب»، كما كان الحاصل في كلّ يدٍ مرفقاً واحداً، فقال: «وأيديكم إلى المرافق». قال السيّد شرف الدين: «ولو قال هنا إلى المرفقين لصحّ بلا إشكالٍ، ويكون المعنى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى مرفقَيْ كلٍّ منكم، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، من كلٍّ منكم. فتثنية الكلمتين في الآية وجمعهما في الصحّة سواءٌ، وكذلك جمع إحداهما وتثنية الأخرى. ولعلّ التفنُّن في التّعبير اقتضاه»([23]).
ج ـ ملامسة النساء، بين اللمس والمسّ
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء…﴾ (النساء: 43).
«قرأ أهل الكوفة، غير عاصم: «أو لمَسْتُمْ» بغير ألف، هاهنا وفي المائدة؛ وقرأ الباقون: «لامستم» بألف»([24]). وقال في التفسير الكبير: «قرأ حمزة والكسائي: «لمستم» بغير ألف في اللّمس؛ والباقون: «لامستم» بالألف، من الملامسة»([25]).
اختلف المفسِّرون في المراد من اللّمس أو الملامسة في الآيتين على قولين:
أحدهما: إنّ المراد به الجُماع. وهو قول ابن عبّاس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة؛ لأنّ اللّمس لا ينقض الوضوء.
والثاني: إنّ المراد باللّمس هاهنا التقاء البشرتين، سواء كان بجُماعٍ أو غيره. وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، والشافعي.
قال الفخر: «هذا القول أرجح من الأوّل؛ وذلك لأنّ إحدى القراءتين هي قوله تعالى: ﴿أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ (المائدة: 6). واللّمس حقيقته المسّ باليد. فأمّا تخصيصه بالجُماع فذاك مجازٌ، والأصل حمل الكلام على حقيقته. وأمّا القراءة الثانية وهي قوله: «أَوْ لاَمَسْتُمْ» فهو مفاعلةٌ من اللّمس، وذلك ليس حقيقته في الجُماع، بل يجب حمله على حقيقته أيضاً؛ لئلاّ يقع التناقض بين المفهوم في القراءتين المتواترتين.
واحتجّ مَنْ قال: المراد باللّمس الجُماع بأنّ لفظ اللّمس والمسّ ورد في القرآن بمعنى الجُماع؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ (البقرة: 237)؛ وقال في آيةٍ أخرى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا﴾ (المجادلة: 3). وعن ابن عبّاس أنّه قال: «إنّ الله حييٌّ كريم، يعفّ ويكنّي، فعبَّر عن المباشرة بالملامسة. وأيضاً الحَدَث نوعان: الأصغر، وهو المراد بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، فلو حملنا قوله: «أو لامستُمْ النِّساء» على الحَدَث الأصغر لما بقي للحَدَث الأكبر ذِكْرٌ في الآية، فوجب حمله على الحَدَث الأكبر. ثمّ قال: واعلم أنّ كلّ ما ذكروه عدولٌ عن ظاهر اللّفظ بغير دليلٍ، فوجب أن لا يجوز. وأيضاً فحكم الجنابة تقدَّم في قوله: «ولا جُنُباً»، فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار»([26]).
ويمكن فهم أمورٍ التزم بها الفخر في كلامه حول الآية، وهي:
1ـ إنّه إذا احتُمل معنيان للفظ: «حقيقيّ؛ ومجازيّ»، فلا بُدَّ من حمله على الحقيقي.
2ـ إنّه إذا كان للآية قراءتان يمكن الجمع بينهما بمعنىً واحد فيجب حملهما عليه؛ لئلاّ يقع التناقض بين القراءتين المتواترتين. وقد أشَرْنا إليه في الكلام حول حمل آية الوضوء على ترجيح الغسل؛ لتطابق معنى القراءتين، ولا يتنافيان عليه عنده.
3ـ إن العدول عن ظاهر اللّفظ لا يجوز إلاّ بدليلٍ.
وهنا نقول: إنّ اللّفظ يمكن أن يُحْمَل على الحقيقة إذا لم يُعْلَم المراد منه؛ فلو عُلم مراد المتكلِّم بُني عليه، سواء في معناه الحقيقيّ أو المجازيّ؛ وإذا لم يُعْلَم المراد، وكان المخاطب من أهل اللّغة، اعتمد على ما يفهمه من ظاهر الكلام وسياقه، وألغى جميع الاحتمالات المضادّة. فالعبرة بالظّهور بالمعنى حقيقيّاً أو مجازيّاً. وما نحن فيه كذلك؛ فلو فُهم من الآية معنىً لها ظهورٌ فيه أُخذ به، سواء طابق المعنى الحقيقيّ أو كان مجازيّاً، دلّ عليه السياق أو القرائن أو الحال.
لذا قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: «الصحيح هو الأوّل؛ لأنّ الله سبحانه بيَّن حكم الجُنُب في حال وجود الماء بقوله: ﴿وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ (النساء: 43)، ثمّ بين عند عدم الماء حكم المُحْدِث بقوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾. فلا يجوز أن يَدَع بيان حكم الجُنُب عند عدم الماء، مع أنّه جرى له ذكرٌ في الآية، ويبيِّن فيه حكم المُحْدِث ولم يَجْرِ له ذكرٌ. فعلمنا أنّ المراد بقوله: «أو لاَمَسْتُمْ» الجُماع؛ ليكون بياناً لحكم الجُنُب عند عدم الماء. واللّمس والملامسة معناهما واحد؛ لأنّه لا يلمسها إلاّ وهي تلمسه. ويروى أنّ العرب والموالي اختلفوا فيه، فقالت الموالي: المراد به الجُماع؛ وقالت العرب: المراد به مسّ المرأة، فارتفعت أصواتهم إلى ابن عبّاس، فقال: غلب الموالي، المراد به الجُماع، وسمّي الجُماع لمساً لأنّ به يُتوصَّل إلى الجُماع، كما يُسمَّى المطر سماء»([27]).
هذا، بغضّ النّظر عن الروايات الواردة، التي يتمسَّك بها الفقهاء في المقام. لذا اختلفوا؛ فقال بعضهم: مسّ المرأة لا يوجب الوضوء، بشهوةٍ كان أو بغيرها، أيَّ موضعٍ كان من بدنها، بأيِّ موضعٍ كان من بدنه، سوى الفرجين. قال به عليٌّ×، وابن عبّاس، وعطاء، وطاووس، وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لمس النساء يوجب الوضوء، بشهوةٍ كان أو بغير شهوةٍ، أيّ موضعٍ كان من بدنه، بأيّ موضعٍ كان من بدنها، سوى الشعر. وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، ومكحول، والأوزاعي؛ لقوله تعالى: ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾ (المائدة: 6)، وحقيقة اللّمس باليد.
وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: إنْ لمسها بشهوةٍ انتقض وضوؤه؛ وإلاّ فلا؛ لأنّ اللّمس بغير شهوةٍ لا يحرم في الإحرام والصّوم، فكان كالشعر. وقال داوود: «إن قصد لمسها انتقض؛ وإلاّ فلا. ولمس الشعر أو من وراء حائلٍ لا ينقض عند الشافعي. وقال مالك: ينقضان إنْ كان بشهوةٍ؛ وإلاّ فلا. وفي لمس ذات المحارم، كالأمّ والأخت، عند الشافعي قولان، وفي الكبار والصغار وجهان. وتنتقض طهارة اللامس في صور النّقض كلّها، وفي الملموس قولان…»([28]).
د ـ قروء عِدّة المطلَّقات، بين الحَيْض والطُّهْر
قال تعالى: ﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ…﴾ (البقرة: 228). لا خلاف بين المسلمين أنّ المرأة التي تحيض إذا طُلِّقت يجب عليها أن تعتدّ. كما لا خلاف في أنّ عدّتها ثلاثة قروء. كما لا خلاف في المعنى المستعمل لكلمة «القُرْء» لغةً. لكنْ وقع الخلاف في المراد به من آية الطّلاق. ومرجعه إلى «الاشتراك اللّفظيّ».
والبحث في الآية من عدّة جهاتٍ، أهمّها ما يلي:
أـ عموم لفظ « المُطَلَّقَات»، وتخصيصه.
ب ـ «والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ»: لفظه خبرٌ، ومعناه أمرٌ.
ج ـ «الاشتراك اللّفظيّ» في لفظة « قُرُوءٍ».
أـ عموم المطلَّقات أو خصوصها: إن لفظ «المُطَلَّقَات» جمعٌ محلّى بالألف واللام، فيدلّ على العموم، فيشمل كلّ مطلَّقةٍ، ليصبح معنى الآية الكريمة وجوب العدّة على كلِّ مطلَّقةٍ. هذا فيما لو لم يَرِدِ المخصِّص. ولكنّ المخصِّص المنفصل ورد في المطلَّقة غير المدخول بها، وذلك في قوله تعالى:﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً…﴾ (الأحزاب: 49)، فخرجت المطلَّقة غير المدخول بها عن عموم العامّ، فلا يشملها حكم وجوب العدّة. وورد مخصِّصٌ آخر في قوله تعالى: ﴿وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً﴾ (الطلاق: 4)، فالآية أَخرجتْ مَنْ لا تحيض؛ إمّا لكونها حاملاً، فعدّتها وضع حملها؛ أو يائساً قد انقطع حَيْضُها؛ أو كانت صغيرةً لم تبلغ سنّ الحَيْض بعدُ، فعدَّتها ـ عند الارتياب ـ ثلاثة أشهر.
ب ـ «والمطلَّقاتُ يتربَّصْنَ» جملةٌ خبريّة في معنى الأمر. والنكتة التأكيد والإشعار بأنّه ممّا يجب المسارعة إلى امتثاله، فكأنّه وقع منه، فأخبر عنه. وبناؤه على المبتدأ يفيد زيادة التأكيد؛ باعتبار تكرار الإسناد. وجَعْل الخبر فعلاً مضارعاً للدّلالة على لزوم الاستمرار التجدُّدي في العدّة.
ج ـ تحديد معنى «القُرُوء»: قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ…﴾ (البقرة: 228). قال الراغب الأصفهاني: قرأت المرأة الدّم: رأت الدّم. وأقرأت: صارت ذات قرء. والقُرْء في الحقيقة: اسمٌ للدخول في الحَيْض عن طُهْر. ولمّا كان اسماً جامعاً للأمرين: الطُّهْر؛ والحَيْض المتعقِّب له، أطلق على كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنّ كل اسمٍ موضوع لمعنيين معاً يطلق على كلِّ واحدٍ منهما إذا انفرد، كالمائدة: للخوان وللطعام. ثمّ قد يُسمّى كلٌّ منهما بانفراده. وليس القُرْء اسماً للطُّهْر مجرّداً، ولا للحَيْض مجرّداً؛ بدلالة أن الطّاهر الّتي لم تَرَ أثر الدّم لا يُقال لها: ذات قرء، ولا الحائض التي استمرّ بها الدّم والنّفساء ممّا يُقال لها ذلك… وقول أهل اللّغة: إن القرء من قرأ، أي جمع، فإنّهم اعتبروا الجمع بين زمن الطُّهْر وزمن الحَيْض حَسْبَما ذكرت لاجتماع الدّم في الرّحم([29]).
وقال ابن منظور: القرء: الوقت، والقرء: الحَيْض. والطّهر ضدّه؛ وذلك أنّ القرء الوقت؛ فقد يكون للحَيْض والطُّهْر. قال أبو عبيد: القرء يصلح للحَيْض والطُّهْر… والأقراء: الحِيَض، والأقراء: الأطهار. وقد أقرأت المرأة في الأمرين جميعاً. وأصله دنوّ وقت الشيء. قال الشافعي&: القرء اسمٌ للوقت، فلمّا كان الحَيْض يجيء لوقتٍ، والطّهر يجيء لوقتٍ، جاز أن يكون الأقراء حِيَضاً وأطهاراً. قال: ودلَّتْ سُنّة رسول الله| أنّ الله عزَّ وجلَّ أراد بقوله: ﴿وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ (البقرة: 228) الأطهار؛ وذلك أنّ ابن عمر لمّا طلّق امرأته، وهي حائضٌ، فاستفتى عمر النبيّ| في ما فعل، فقال: مُرْهُ فليُراجِعْها، فإذا طهُرَتْ فليطلِّقْها، فتلك العِدّة التي أمر الله تعالى أن يُطلّق لها النّساء. وقال أبو إسحاق: الذي عندي في حقيقة هذا أنّ القرء في اللّغة: الجمع؛ وأنّ قولهم: قرَيْتُ الماء في الحوض، وإنْ كان قد ألزم الياء، فهو جمعتُ؛ وقرأت القرآن: لفظت به مجموعاً؛ والفرد يقري أيّ يجمع ما يأكل في فيه. فإنّما القرء اجتماع الدّم في الرَّحِم، وذلك إنّما يكون في الطّهر. وصحّ عن عائشة وابن عمر أنهما قالا: الأقراء والقروء: الأطهار. وحقّق هذا اللّفظ من كلام العرب قول الأعشى: لما ضاع فيها من قروء نِسَائكا. فالقروء هنا الأطهار، لا الحِيَض؛ لأن النِّساء إنّما يؤتَيْنَ في أطهارهنّ، لا في حَيْضهنّ، فإنّما ضاع بغَيْبته عنهنّ أطهارهُنّ»([30]).
قال الشيخ الطبرسي في تفسيره للآية المباركة: «والمراد بالقروء الأطهار، عندنا. وبه قال زيد بن ثابت، وعائشة، وابن عمر، ومالك، والشافعي، وأهل المدينة. قال ابن شهاب: ما رأيتُ أحداً من أهل الأمصار إلاّ وهو يقول: الأقراء الأطهار، إلاّ سعيد بن المسيّب. والمرويّ عن ابن عبّاس، وابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وروَوْه أيضاً عن عليٍّ×: إنّ القرء الحَيْض، والمراد بثلاثة قروء ثلاثة حِيَض. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه؛ واستشهدوا بقوله× للمستحاضة: دَعِي الصّلاة أيّام أقرائك، والصلاة إنّما تُترك في أيام الحَيْض. واستشهد مَنْ ذهب إلى أن القرء الطُّهْر بقوله تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 1) أي في طُهْرٍ لم تجامع فيه، كما يقال لغُرَّة الشهر. ويقول النبيّ| لمّا طلّق ابن عمر زوجته، وهي حائضٌ: مُرْهُ فليراجِعْها، فإذا طهُرَتْ فليُطلِّق أو ليمسك، وتلا النبيّ|: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ (الطلاق: 11)، فأخبر أنّ العدّة الأطهار، دون الحِيَض؛ لأنّها حينئذٍ تستقبل عدّتها، ولو طُلِّقت حائضاً لم تكن مستقبلةً عدّتها إلاّ بعد الحَيْض. وروى أصحابُنا عن زرارة قال: سمعتُ ربيعة الرأي يقول: إنّ من رأيي أن الأقراء التي سمّى الله في القرآن إنّما هي الطُّهْر، فيما بين الحيضتين، وليست بالحَيْض، قال: فدخلتُ على أبي جعفر×، فحدَّثته بما قال ربيعة، فقال: كذب، لم يقُلْ برأيه، وإنّما بلغه عن عليٍّ×، فقلتُ: أصلحك الله، أكان عليٌّ يقول ذلك؟ قال: نعم، كان يقول: إنّما القرء الطُّهْر، تقرأ فيه الدّم فتجمعه، فإذا جاء الحَيْض قذفَتْه، قلتُ: أصلحك الله، رجلٌ طلّق امرأته طاهرةً من غير جماعٍ، بشهادة عدلين، قال: اذا دخلَتْ في الحَيْضة الثالثة فقد انقضَتْ عدّتُها، وحلَّتْ للأزواج، قال: قلتُ: إنّ أهل العراق يروون عن عليٍّ× أنّه كان يقول: هو أحقُّ بردِّها ما لم تطهر من الحَيْضة الثالثة، فقال×: كذبوا»([31]).
وقال الطباطبائي في الميزان: «والقروء جمع القرء، وهو لفظٌ يطلق على الطُّهْر والحَيْض معاً، فهو على ما قيل من الأضداد. غير أن الأصل في مادة قرء هو الجمع، لكنْ لا كلّ جمعٍ، بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه. وعلى هذا فالأظهر أن يكون معناه الطُّهْر؛ لكونه حالة جمع الدّم، ثمّ استُعمل في الحَيْض؛ لكونه حالة قذفه بعد الجمع. وبهذه العناية أطلق على الجمع بين الحروف؛ للدّلالة على معنى القراءة. وقد صرّح أهل اللّغة بكون معناه هو الجمع»([32]).
وكما تبيَّن ممّا سبق، فقد اختلف المفسِّرون في المراد من القرء في الآية الكريمة، كما اختلف الفقهاء، إلاّ أنّهم اتّفقوا على صحّة استعمالها في الأمرين، فوجَّه كلٌّ منهم رأيه واعتمده وأسنده بالروايات؛ فذهبت عائشة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأئمّة أهل البيت^، إلى أنّ المراد من الاقراء الأطهار؛ وذهب أبو بكر، وعمر، وعثمان، وجمعٌ من الصّحابة ـ ونسبوه إلى عليٍّ× ـ، إلى أنّ الأقراء «الحِيَض». كما ذهب إلى الأوّل، من الفقهاء: الشافعيّ، ومالك، وأحمد في أحد قولَيْه، وفقهاء الإمامية؛ وذهب إلى الثاني أبو حنيفة وأحمد في قوله الآخر. وأيَّد كلُّ فريقٍ ما ذهب إليه بأدلّةٍ، عمدتها السُّنَّة الشريفة، كما قد يظهر في ما استعرضناه سابقاً.
أثر الخلاف في معنى القُرْء
إنّ الخلاف في تفسير الآية وبيان المراد منها، لا ينحصر في تحقيق العدّة للمطلّقة مستقيمة الحَيْض، فهو ليس خلافاً لفظيّاً، لا يترتَّب عليه إلاّ إثبات معنىً أو نَفْيه، بل هو من الأحكام الشرعيّة التي يترتَّب عليها أحكامٌ شرعيّة ووضعيّة أخرى كثيرة، من حيث البناء على كونها ما زالت في العدّة أو أنّها أصبحت خليّةً بعد تمام عدّتها، ومنها:
أـ زمن انتهاء عدّتها: فعلى القول الأوّل، وهو أنّ القرء هو الطّهر، تنقضي عدّتها بمجرّد رؤية الدّم؛ بينما على القول الثاني، وهو أنّ القرء هو الحَيْض، لا بُدَّ لها أن تكمل في تربُّصها إلى انتهاء فترة الحَيْض الثالث.
وهكذا يظهر الفرق في تقدير مدّة العدّة، فإن أقلّ ما تكون به العدّة ستّة وعشرون يوماً ولحظتان عند الإمامية، بأن يقدّر أنه طلّقها في آخر لحظة الطّهر، ثمّ تحيض ثلاثة أيّام، وهي أقلّ مدّة الحَيْض، ثمّ ترى أقل الطّهر، وهو عشرة أيّام عند الإمامية، ثمّ تحيض ثلاثة أيّام، ثمّ ترى أقلّ الطّهر عشرة أيام، ثمّ تحيض، فبمجرّد رؤية الدّم الأخير تخرج من العدّة، واللّحظة الأولى من الحَيْض الثالث لا بُدَّ منها للعلم بتمامية الطّهر الأخير.
ودم النّفاس عند الإمامية كدم الحَيْض، وعليه يمكن أن تنقضي العدّة بثلاثة وعشرين يوماً، كما إذا طلّقها بعد الوضع وقبل رؤية الدّم، وبعد الطّلاق رأت الدّم لحظةً، ثمّ مضى أقلّ الطّهر عشرة أيّام، ثم أقلّ الحيض ثلاثة، ثمّ أقلّ الطّهر عشرة، فيكون المجموع ثلاثة وعشرين يوماً.
وأقلّ ما تصدق به عند الحنفيّة تسعة وثلاثون يوماً، بأن يقدّر أنّه طلّقها في آخر الطّهر، ويقدّر أقلّ مدّة للحَيْض، وهي ثلاثة أيّام، وأقلّ مدّة الطّهر، وهي خمسة عشر يوماً، عند الحنفيّة، فثلاث حَيْضات بتسعة أيّام، يتخلّلها طُهْران بثلاثين يوماً، فيكون المجموع تسعة وثلاثين يوماً([33])، فإذا دخلت في الطُّهْر الرابع تكون قد برئَتْ، وتمَّتْ عدّتها.
أما عند الشافعية فيتصوَّر انتهاء العدّة في اثنين وثلاثين يوماً وساعةً واحدة؛ وذلك أنّه إذا طلّقها في آخر الطُهْر حسب له الطّهر، ثمّ يأتي من بعد ذلك طُهْران، كلٌّ منهما خمسة عشر يوماً، ويتخلَّل ذلك حَيْضتان، كلٌّ منهما يومٌ وليلة، فذلك اثنان وثلاثون يوماً وساعة([34]).
ب ـ حلّ الزواج: ويترتَّب على الاختلاف في المدّة التي تنتهي فيها العدّة في حلّ الزواج من زوجٍ آخر؛ فعلى الأوّل (القرء = الطُّهْر) إذا دخلت في الحَيْضة الثالثة فقد حلّ الزواج وصحّ العقد؛ أمّا على الثاني (القرء = الحَيْض) فلا تحلّ ولا يصحّ العقد ما لم تنتهِ من الحَيْضة الثالثة، فإذا انتهَتْ فهل تحلّ بمجرّد الانقطاع أو لا؟ يرى بعضهم أنها تنقضي بانقطاع الدّم من الحَيْضة الثالثة؛ ويرى بعضٌ آخر أنّها لا تحلّ حتّى تغتسل من الحَيْضة الثالثة، وقيل: حتّى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها([35]).
ج ـ إمكانية الرجوع في الطلاق الرجعّي: فعلى قول مَنْ قال: إن القروء هي الحِيَض يبقى للزّوج حقّ الرجوع عن الطّلاق في الطّلاق الرّجعي، فينهدم الطّلاق، وتعود الزّوجية حتّى تنتهي من الحَيْضة الثالثة، والحَيْضة الثالثة ضمن العدّة الرّجعيّة؛ أمّا على قول مَنْ قال: إنّ القروء هي الأطهار فإنّ إمكانية رجوع الزّوج تنتفي بمجرّد دخولها في الحَيْضة الثالثة.
د ـ حقّ الإرث في المطلَّقة طلاقاً رجعيّاً: فعند مَنْ قال: إنّ القروء هي الأطهار يسقط حقّ الإرث بمجرّد دخولها في الحَيْضة الثالثة؛ وأمّا على القول الآخر (إنّ القروء هي الحِيَض) فيبقى حقّ الميراث حتّى تنتهي من الحَيْضة الثالثة، فهي في الحَيْضة الثالثة لا تزال مستحقّةً للميراث([36]).
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة والجامعة، ومدير القسم النسائيّ في المعهد الشرعيّ الإسلاميّ. من لبنان.
([1]) محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول: 22 ـ 23، بيروت، ط1، 2004م.
([2]) العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 265.
([3]) العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 266.
([4]) الفخر الرازي، التفسير الكبير 6: 68 ـ 69.
([8]) محمد باقر الإيرواني، تفسير آيات الأحكام 1: 91، بيروت، دار الأولياء، ط1، 2004م.
([9]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 252.
([10]) عبد الحسين شرف الدين، مسائل فقهيّة: 73، قم، مطبعة أنصاريان، 1997م ـ 1417هـ.
([11]) سنن ابن أبي داوود: 41؛ سنن البيهقي: 286.
([12]) العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 168.
([13]) شرف الدين، مسائل فقهيّة: 80.
([14]) ابن قُدامة، الشرح الكبير 1: 147.
([15]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 238.
([16]) الفخر الرازي، التفسير الكبير 11: 161.
([17]) محمد جواد مُغْنيّة، فقه الإمام الصادق×: 67.
([18]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 237 ـ 238.
([19]) شرف الدين، مسائل فقهيّة: 76 ـ 77.
([21]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 259.
([22]) شرف الدين، مسائل فقهيّة: 84.
([24]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 76.
([25]) الفخر الرازي، التفسير الكبير 10: 112.
([27]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 79.
([28]) العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 1: 111 ـ 112.
([29]) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 668، قم، منشورات ذوي القربى، مادّة: قرأ.
([30]) ابن منظور، لسان العرب 1: 130، بيروت، دار صادر.
([31]) الطبرسي، مجمع البيان 2: 82.
([32]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 2: 241 ـ 242، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط2، 1394هـ.
([33]) محمد جواد مُغْنيّة، الفقه على المذاهب الخمسة: 431 ـ 432.
([34]) مصطفى سعيد الخن، أثر الاختلافات في القواعد الأصوليّة في اختلاف الفقهاء: 76، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1972م.