د. الشيخ أحمد عابدي(*)
السيد عبد اللطيف مواق(**)
مسألة قِدَم العالم وحدوثه من المسائل الفلسفية العقائدية التي وقع فيها نزاعٌ طويل بين الفلاسفة والمتكلِّمين، حيث أثبت السيد الداماد الانفكاك العينيّ (الوعائي) بين واجب الوجود وعالم الإمكان في متن الواقع، وهو المعبَّر عنه بالحدوث الدَّهْري (تقدُّم وعاءٍ على وعاءٍ آخر)، وليس الانفكاك فقط في المرتبة العقلية، كما يدَّعيه الفلاسفة، أو انفكاكاً زمانيّاً، كما يدَّعيه المتكلِّمون، بعدّة براهين، معتمداً على مفهومه للدَّهْر، الذي يمثِّل محور نظريّته حول الحدوث الدَّهْري. أما الملاّ صدرا فقد ابتكر نظريّةً تتماشى مع مبناه في الحركة الجوهرية؛ حيث يرى أن حدوث العالم هو حدوثٌ زمانيّ، لكنْ لا كما قال به المتكلِّمون، فالملاّ صدرا لا يرى ـ كما يرى المتكلِّمون ـ أن للحدوث بدايةً، وإنما كلّ حادثٍ قبله حادثٌ، وهكذا إلى ما لا نهاية.
تعريف التقدُّم والتأخُّر، وأنحاؤهما
1ـ في اللغة
«تقول مضى قدماً، وتأخَّر أخراً. والتأخُّر ضدّ التقدّم، وقد تأخَّر عنه تأخُّراً وتأخرةً واحدة، عن اللحياني، وهو مطّرد…. وأخّرته فتأخَّر، واستأخر، كتأخّر… وأخّر عني: يقال: أخّر وتأخّر أي لا تتقدَّم. ومؤخّر كلّ شيءٍ خلاف مقدّمه»([1]). «الأخر ضدّ القدم، مضى قدماً وتأخّر أخراً، والتأخّر ضدّ التقدّم، وقد تأخّر عنه وتأخّراً وتأخرة واحدة»([2]). فيلاحظ أن كتب اللغة جعلت العلاقة بين التقدُّم والتأخُّر تضادّاً، وأن التقدُّم بمعنى السبق، بينما التأخُّر هو ضد التقدُّم.
2ـ التقدُّم والتأخُّر أو السبق واللحاق في الاصطلاح الفلسفيّ
يعتبر التقدُّم والتأخُّر من الاصطلاحات والمسائل الفلسفية؛ بلحاظ كون التقدُّم والتأخُّر من الخواصّ والعوارض الذاتية للوجود، الذي يمثِّل الموضوع الرئيس للفلسفة. والموجود من جهة كونه موجوداً ينقسم إلى المتقدِّم والمتأخِّر؛ قال الملاّ الصدرا: «فالوجود بالحقيقة، سواء كان سبباً أو مسبّباً، متقدّماً أو متأخّراً، هو الوجود لا غير»([3]). وقد اعتبر كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو أوّل المصادر الفلسفيّة التي استند إليها الفلاسفة المسلمون حول التقدُّم والتأخُّر. وأضاف كلٌّ من: الفارابي؛ وابن سينا، لفظتَيْ «قبل» و«بعد». ومباحث التقدُّم والتأخُّر هي مباحث في الحدوث والقِدَم؛ لأن تحقيق الحدوث الذاتيّ والزمانيّ والدَّهْريّ مبنيٌّ على تحقُّق التأخُّر الذاتي والزماني والدهري؛ «إذ لا يمكن لإنسانٍ أن يفهم معنى الحادث والفاسد ما لم يفهم معنى المتقدِّم والمتأخِّر»([4]).
والتقدُّم والتأخُّر أقسامٌ وأنواع متعدِّدة. وقد بلغت هذه الأقسام من عصر الفارابي إلى ما قبل عصر المير داماد أربعة أقسام؛ وذكر ابن سينا والخواجة الطوسي خمسة أقسام؛ وذكر ابن رشد ستّة أقسام؛ وأضاف المير داماد والملاّ صدرا ثلاثةً أخرى.
المباني الوجوديّة للداماد في مسألة الحدوث الدَّهْري
1ـ أصالة الماهيّة
المقصود بأصالة الماهية أن ذوات الأشياء، كالإنسان والفرس والبقر والسماء والأرض، هي المتحقِّقة في الأعيان، وهي المجعولة بالذات، وبعد جعلها في الأعيان ينتزع منها الذِّهن مفهوم الوجود، ويحمله عليها، وبالتالي القضية الحملية تكون (الإنسان موجودٌ)، يعني المتحقِّق في الأعيان هو ذات الإنسان، والوجود ليس إلاّ الموجودية أو الكَوْن في الأعيان، يعني المعنى المصدري، أو المصدر الصناعي الذي ينتزع من حمل مفهوم الوجود على الماهية.
أدلّة الداماد على مبناه في أصالة الماهية
يدّعي السيد الداماد أن أصالة الماهية واعتبارية الوجود أمرٌ فطريّ، بديهيّ الطرف المقابل، ولا يحتاج إلى دليلٍ نظريّ على مبناه، بل فقط تنبيهاتٌ، ثم يقوم بعد ذلك بإبطال الطرف الآخر، وإذا بطل الطرف الآخر يثبت طرفه هو. فإذن السَّيْر الاستدلالي هو تنبيهاتٌ على أصالة الماهية، وهذا يلزم منه إبطال أصالة الوجود.
يقول: «إنّ الوجود المطلق العامّ الفطريّ ـ وليس معناه إلاّ التحقُّق والكَوْن المصدريّ ـ إنّما مطابقه نفس الذّات المتقرِّرة، لا قيام وصفٍ ما بالذّات قياماً انضماميّاً أو انتزاعيّاً يقوم بالذّات أو ينتزع منها، فيصحِّح انتزاع ذلك المعنى المصدريّ عنها، وحمل الموجود المشتقّ منه عليها. ومفاد قولنا: الإنسان موجودٌ مثلاً، أعني المحكيّ عنه بذلك العقد الهليّ البسيط المشهوريّ، هو وقوع نفس ذات الإنسان في ظرفٍ ما، وإن افتيق إلى لحاظ مفهوم المحمول في الحكاية، لضرورة طباع العقد وطباع الإدراك التصديقيّ، لا انضمام صفةٍ ما إلى ذاته في ظرف الأعيان»([5]).
يريد الداماد أن ينبِّه إلى أن الوجود ليس منضمّاً للماهية،وليس له مصداقٌ ذاتي في الخارج، وليس حاكياً عن نحو وجود الماهية، كالفوقية للسماء، بل هو نفس موجوديّة الماهية في الخارج، الذي هو أمرٌ اعتباري.
2ـ الانفكاك العينيّ بين واجب الوجود وعالم الإمكان في متن الواقع
انفرد السيد الداماد بانفكاك العلّة عن المعلول؛ حيث يرى أن انفكاك العلّة عن المعلول مستحيلٌ في عالم الزمان؛ أما في عالم الدهر والسرمد فلا مانع من ذلك، وهذا ما أشار إليه بقوله: «فإذن قد تلخَّص أن المحال في التخلّف عن العلّة التامّة إنما هو اللاّ مَعِيّة المكمّمة الامتداديّة على الإطلاق واللاّ مَعِيّة الصريحة غير المتقدِّرة، إذا كانت المَعِيّة السرمديّة غير ممتنعة، بالنظر إلى استحقاق جَوْهر ذات المعلول، لا مطلقاً، وهما معاً في الزمان أو الدهر أو غير ذلك. ولكنْ ليسا معاً في القياس إلى حصول الوجود»([6]).
يرى السيد الداماد أن عالم الإمكان مسبوقٌ بالعدم الصريح في وعاء الدهر، والعلّة الفاعلة موجودةٌ، أي إن العلة الفاعليّة انفكَّتْ عن معلولها، لكنْ لا في الزمان، بل في عالم الدهر؛ وذلك لأن المعلول لايكون موجوداً في مرتبة العلّة، وحيث إن ذات العلّة في وعاء السرمد وعالم الإمكان مسبوقٌ بالعدم الصريح، كما تقدَّم، فثبت أن هنا انفكاكاً بين العلّة الفاعلية، أي واجب الوجود، والمعلول، أي عالم الإمكان. يقول السيد الداماد: «أليس إذن من المنصرح لديك أن تقدّم ذات العلّة، ولا سيَّما العلّة الجاعلة الفاعلة، على ذات المعلول المجعول تقدُّماً بالذات، بحَسَب المرتبة العقلية، من فطريّات العقول الصريحة والأذهان المستوية، عليه إجماع الحكماء والعقلاء كافّة. والمعلول لا يكون موجوداً في مرتبة ذات العلّة الفاعلة الجاعلة؛ إذ الوجود يصل إلى ذات المعلول من ذات العلّة، وإنما يكون بين العلّة والمعلول مَعِيّةٌ في الوجود، بحَسَب مرتبة ذات المعلول، وبحَسَب متن الأعيان، لا بحَسَب مرتبة ذات العلّة»([7]).
المباني الوجودية للملاّ صدرا في مسألة الحدوث الزماني
1ـ أصالة الوجود، عرضٌ وتقرير
إن الوجود هو المتأصِّل في الأعيان، هو طبيعةٌ بسيطة نورانية، هو أحد تجلِّيات الحقيقة الواجبية. وهذه الحقيقة البسيطة المتأصلة في الأعيان هي منشأ الآثار، وهي المجعولة، ثمّ بعد ذلك تنتزع من هذا الوجود الماهيّة. والماهيّة هنا لا تصير هي الذات والحقيقة، بل تكون الماهيّة هي تعيُّن هذه الحقيقة، يعني عندنا حقيقةٌ واحدة للوجود مطلقة، وهي الباري تعالى، ومتعيِّنة، وهي الممكنات، ومن هذا التعيُّن ننتزع الماهيّة، فالماهيّة تعيِّن الوجود، لا أنها ذات الشيء وحقيقته، كما هو في أصالة الماهيّة.
يتعامل الملاّ صدرا مع هذا الأمر المهمّ على أنه بديهيّ، وبقيّة أدلّة الملاّ صدرا كلّها في إبطال أصالة الماهيّة، بسلسلة من الأقيسة الاستثنائية.
في المشاعر يقول: لوكانت الماهيّة أصيلةً لاستوى الوجود الخارجيّ والذهنيّ، (لأن الماهيّة بالاتّفاق موجودةٌ في الأعيان وفي الأذهان، وإلاّ لزم السفسطة)، ونحن نرى أنها في الأذهان لا يترتَّب عليها الآثار، وفي الأعيان يترتَّب عليها الآثار، فلو كانت هي الأصيلة إما لا يترتَّب عليها في الأعيان آثارٌ، أو يترتَّب عليها نفس الآثار في الذهن؛ لأنها هي هي، فيستوي الوجود الذهنيّ والخارجيّ، لكنْ إذا وجَدْنا هناك تبايناً مع وحدة الموضوع، وأن الماهيّة في الخارج وفي الذهن، فنعلم أن هذه الآثار الخارجيّة ليست للماهيّة. هذا هو الإشكال الأوّل على أصالة الماهيّة، بالتالي يثبت أصالة الوجود…
2ـ الحركة الجوهريّة
تعتبر الحركة الجوهرية من إبداعات الملاّ صدرا، حيث كان سبّاقاً إلى بلورتها، وإقامة البراهين عليها؛ وذلك لأن الفلاسفة السابقين، أمثال: أرسطو والفارابي وابن سينا، كانوا يرَوْن أن موضوع الحركة هي المقولات العرضية، لكنْ وفق نظرية الملاّ صدرا، التي تبتني على أصالة الوجود ونظرية التشكيك في مراتبه، فإن الحركة تحدث في ذوات الأشياء (الجوهر)، وإن نظام العالَم والكَوْن في حالة تجدُّدٍ في كلّ لحظةٍ، وإن الكَوْن لا يشمله قانون الكَوْن والفساد؛ لاعتبارية الماهيّة، وإنما هي الحركة الجوهريّة، التي تعني أن الكَوْن في كلّ لحظةٍ لحظةٍ يخلع لباسه ويرتدي لباساً جديداً. وهذا ليس بمعنى أنه ينعدم في كلّ لحظةٍ، ثمّ يتواجد مرّةً أخرى، ولذلك فالكَوْن لا ينعدم ليوجد من جديدٍ، بل هو يتجدَّد في كلّ لحظةٍ من لحظاته، يعني أن فضل الله غير منقطع، كما في الرواية: «يا دائم الفضل على البريّة». في الحركة الجوهريّة تمام هوية العالَم الوجوديّة تكون في حال تبدُّلٍ وتجدُّد جوهريّ، مع حفظ وحدة الاتّصال والتماسك في سَيْرها التكاملي.
نظريّة الحدوث الدهريّ عند الداماد
إن رؤية الداماد لما سبقه من نظريّات في مسألة الحدوث تتلخَّص في ما يلي:
1ـ إن نظريّة الحدوث الزماني للعالَم نظريّةٌ غير واقعية؛ لأنها تتعارض مع البراهين العقلية البديهيّة، وأهمّها: مسألة العلّية والمعلولية. وكذا تخدش في القدرة الإلهيّة. أما الحدوث الزمانيّ للمتغيِّرات فهذا مقبولٌ عنده، بل إن الداماد جعل للحدوث الزمانيّ ثلاثة أنواع، وهي: التدريجي؛ والدفعي؛ والزماني. وقد شرح الداماد كلاًّ منها بقوله: «وأما الحدوث الزمانيّ فإنّه على أنواع ثلاثة: التدريجيّ، وهو حصول الشيء الواحد، كالحركة القطعيّة، في امتداد زمانٍ ما، على الانطباق عليه والانقسام بانقسامه؛ والدفعيّ، وهو حصول الشيء بتمامه، لا في امتداد الزمان، بل في آنٍ غير منقسم من الآنات التي هي الحدود والأطراف؛ والزمانيّ، وهو حصول الشيء الواحد، كالحركة التوسُّطيّة، في زمانٍ ما محدودٍ بين المبدأ والمنتهى، لا على الانطباق عليه والانقسام بانقسامه، بل على أن يكون هو بتمامه حاصلاً في كلّ جزءٍ من أجزائه وكلّ آنٍ من آناته، إلاّ الآن الطرف، أعني آن البداءة وآن النهاية، ولا يكون لحصوله آنٌ أوّل ولا آنٌ آخر»([8]).
2ـ إن نظرية الحدوث الذاتي، التي بَرْهَن عليها ابنُ سينا، هي نظريةٌ تجعل واجب الوجود وعالم الإمكان في وعاءٍ واحد، ولا تفرِّق بينهما من حيث الوجود الأبديّ؛ لأن ما اعتمد عليه ابن سينا ليبلور نظرية الحدوث الذاتي ليس ابتكاراً جديداً؛ وذلك أن مفهومه للحدوث ليس جديداً؛ لأن مسبوقية الشيء بالإمكان الذاتي، أي عدم الاقتضاء، ليست مسبوقيةً بالعَدَم الصريح، الذي هو عَدَم هذا الشيء في الأعيان؛ وذلك أن الإمكان الذاتي مرتبطٌ بالعَدَم المجامع. ولهذا يرى الداماد أن الأشياء مسبوقةٌ بنوعٍ من عَدَم هذه الأشياء ذاتها، وهو ما يعبِّر عنه بالعَدَم الدهري، وليس عَدَماً ذاتياً أو زمانياً. وفي هذا الصدد يقول الداماد في تقويم الإيمان: «فإذن الحدوث الدهريّ ـ وهو أن لا يكون دخول الذات في الوجود إلاّ من بعد عدمها الصريح ـ من لوازم الماهية بالنسبة إلى جملة الجائزات، من حيث طباع الجواز الذاتي المشترك»([9]). ولا ينفي الداماد الارتباط بين الزمان والحدوث الزماني والذاتي والدهري. فكل حادثٍ زماني عند الداماد تجتمع فيه الأنواع الثلاثة. وفي هذا الصدد يقول الداماد: «إن هذه الأقسام إنما هي متباينةٌ في المفهوم بحَسَب اختلاف المعاني، وليست هي متصادمةٌ في التحقُّق بحَسَب الاجتماع في موضوعٍ واحد. فكلُّ حادثٍ زمانيٍّ مجتمعُ أنواع الحدوث الثلاثة جميعاً، فإنه حادثٌ ذاتيّ من حيث وجوده بالفعل بعد ليس مطلقٍ في مرتبة نفس الذات، (بعديّة بالذات، بحَسَب طباع الإمكان الذاتيّ)؛ وحادثٌ دهريّ من حيث حصول الوجود بالفعل بعد سبق العَدَم الصريح في الدهر (بعديّة دهريّة)؛ وحادثٌ زمانيّ من حيث اختصاص وجوده الحاصل بالفعل بزمانٍ هو بعد زمان عَدَمه المستمرّ في امتداد الزمان (بعديّة زمانيّة، بحَسَب علاقة الإمكان الاستعداديّ)»([10]).
وبهذا يظهر أن الحدوث الدهريّ يشبه الحدوث الزمانيّ بلحاظٍ ما، وذلك أن الحدوث الزمانيّ هو مسبوقية الشيء بعَدَمه الزمانيّ، أما الحدوث الدهريّ فهو مسبوقية الشيء بعَدَمه الواقعيّ، حيث يقول الداماد: «على ما حصّلناه من الحكمة اليمانيّة النضيجة المنضجة بإنضاجات القوّة العقلانيّة ريثما أدَّتْ إليه القياسات البرهانيّة والإضافات الربّانيّة يشبه أن يكون للحدوث ثلاثة معانٍ محصَّلة:
أحدها: مسبوقيّة وجود الشيء بالعَدَم بالذات، ويقال له، عند الفلاسفة: الحدوث الذاتيّ، ولا ينافي وجود الحادث أَزَلاً وأبداً بوجود علّته الموجدة له دائماً.
وثانيها: مسبوقيّة وجود الشيء بعَدَمه مسبوقيّةً دهريّة وسرمديّة، لا زمانيّة، بأن يكون الشيء معدوماً في الواقع بأصل العَدَم الصِّرْف، غير المتّصف بالاستمرار ومقابله، ثمّ قد أخرج من صِرْف العَدَم إلى الوجود. ويشبه أن يكون أحقّ ما يصطلح عليه في تسميته هو الحدوث الدهريّ.
وثالثها: مسبوقيّة وجود الشيء بعَدَمه مسبوقيّةً زمانيّة، بأن يتقدَّم وجوده شطر من الزمان، وهو المسمّى عند الجمهور بالحدوث الزماني. ولا شَطَط أن يصطلح على جعل الحدوث الزمانيّ للقدر المشترك بين الأخيرين، إلاّ أنّه ليس ممّا تحدو عليه ضرورةٌ عقليّة أو شرعيّة، فلا جناح في الاصطلاح الأوّل، وكأنّ الحقّ لا يتعدّاه». وقال أيضاً، مبيِّناً الفرق الدقيق بين الحدوث الدهريّ والذاتيّ والزمانيّ: «وإذ قد آن للعقل أنّ يتمّ نوره بالبرهان فقد استبان في استواء الحكمة: أنّ الحدوث الدّهريّ وإنْ بايَنَ الحدوث الذّاتيّ بحَسَب المعنى، لكنّه يساوقه بحَسَب التحقُّق في الموضوعات، ويضاهيه في استيعاب عمود عالم الجواز على الاستغراق؛ والحدوث الزّمانيّ مباينٌ لهما بحَسَب المعنى، وأخصّ منهما بحَسَب العروض للموضوعات. وليس أنّ كلّ حادثٍ دهريّ فهو حادثٌ زمانيّ البتّة، بل إنّ كلّ حادثٍ ذاتيّ فإنّه حادثٌ دهريّ بتّة»([11]).
وأما عن ملاك الحدوث الدهري فيرى الداماد أن الملاك في الحدوث الدهريّ والذاتيّ واحد، ويختلف عن الملاك في الحدوث الزمانيّ؛ حيث إن الملاك في الحدوث الذاتي والدهري هو الجواز الذاتيّ، بينما ملاك الحدوث الزماني هو الجواز الاستعداديّ. يقول الداماد: «فإذن إنما ملاك الحدوث الذاتي والحدوث الدّهريّ طباع الجواز بالذّات، وأمّا الحدوث الزمانيّ فملاكه الجواز، الذي هو بمعنى الاستعداد. فكلّ حادثٍ ذاتيّ هو متصحِّحُ الفيضان عن الجاعل بجوازه الذاتيّ، فإنّ له الحدوث الدّهريّ لا غير. وكلّ ما ليس له ذلك التصحُّح بمجرّد الجواز بالذات، بل هو مرهونُ الوجود بالجواز الاستعداديّ، فإنّه مع ذَيْنك الحدوثين حادثٌ زماني أيضاً»([12]).
الأدلّة والبراهين لإثبات الحدوث الدَّهْري
1ـ البراهين العقلية
أهمّ برهانٍ استدلّ به الداماد هو إثبات الملازمة بين الحدوث الذاتيّ والدهريّ. يقول السيد الداماد: «أليس إذن من المنصرح لديك أنّ تقدُّم ذات العلّة، ولا سيَّما العلّة الجاعلة الفاعلة، على ذات المعلول المجعول تقدُّماً بالذات، بحَسَب المرتبة العقلية… فالعالم الأكبر بجميع أجزاء نظامه الجمليّ متأخِّرٌ عن مرتبة ذات الباري الفعّال جلَّ ذكره، بتّةً. وإذ تبين أن الوجود الأصيل في متن الأعيان عين ماهية الباري الحقّ ونفس حقيقته، فالمرتبة العقلية وحاقّ الوجود العيني هناك واحدٌ، وموجوديّته سبحانه في حاقّ كبد الأعيان، ومتن خارج الأذهان، هو بعينها المرتبة العقلية لذاته الحقّة من كلّ جهةٍ. فالموجوديّة المتأصّلة في حاقّ الأعيان ومتن الخارج في العالم الربوبيّ بمنزلة مرتبة ذات الإنسان أو ماهيّة العقل مثلاً، من حيث هي هي، في عالم الإمكان… فإذن التأخُّر بالذات عن الباري الحقّ الأوّل سبحانه مطلقاً، سواء عليه أكان تأخّراً بالمعلوليّة أم تأخّراً بالماهيّة أم تأخّراً بالطبع، يرجع إلى التأخُّر الانفكاكيّ الدهريّ. وتقدُّمُه، جلَّ ذِكْرُه، بالذات مطلقاً، سواء كان تقدُّماً بالعلّية أو تقدُّماً بالماهيّة أو تقدُّماً بالطبع، يرجع إلى التقدُّم الانفراديّ السرمديّ… فاخفِضْ جناح عقلك للحقّ، ولا تكونَنَّ من الجاهلين»([13]).
هذا البرهان يرى أن تقدّم ذات العلة الفاعلة على ذات المعلول تقدّماً بالذات،أي بحَسَب المرتبة العقلية. وهذا عليه إجماع الفلاسفة. لكنّ وجود المعلول لا يكون في مرتبة وجود ذات العلة؛ وذلك أن الوجود لا يصل إلى ذات المعلول إلاّ من ذات العلة، وإنما يكون بين العلّية والمعلولية مَعِيّة في الوجود، هذه المَعِيّة بحَسَب مرتبة ذات المعلول، وبحَسَب متن الواقع، الذي هو الدهر، لا بحَسَب ذات العلّة، والتي سمّاها الداماد بالمَعِيّة غير المكمّمة أو المَعِيّة المطلقة. وبما أن السرمد وعاءٌ مطلق لواجب الوجود، والعالم وعاؤه الدهر، إذن هناك انفكاكٌ بين العلّية والمعلولية، ومَرَدُّ هذا الانفكاك هو أن واجب الوجود متقدِّمٌ بالذات مطلقاً تقدُّماً سرمدياً، لا باعتبار العلاقة الذاتية والتعلُّق الافتقاري بين العلّية والمعلولية، بل باعتبار تخلُّف المتأخِّر عن وجود المتقدّم في الواقع،وهذا يمكن تصوُّره في الوجود الزماني، حيث للعقل أن يتصوّر امتداداً بين العلّية والمعلولية، وهذا هو التقدُّم الزماني؛ أو بحَسَب انفكاكٍ بين القَبْل والبَعْد في متن الواقع، وهذا يستلزم تأخُّر العالم تأخُّراً دهريّاً، وبما أنه متأخِّرٌ تأخُّراً دهريّاً فهو حادثٌ بالحدوث الدهري؛ لأنه لا يمكن أن يكون حدوثه زمانيّاً؛ لأنه ليس متأخّراً تأخّراً زمانيّاً،فثبت المطلوب، وهو أن العالم حادثٌ بالحدوث الدهري.
2ـ الأدلّة النقلية
هذه الأدلة التي ساقها السيد الداماد هي مؤيِّداتٌ لما ذهب إليه في نظريته بشأن الحدوث الدهري، وليست أدلّةً بالمعنى الفقهي؛ إذ إن مسألة الحدوث مسألةٌ عقلية، وليست مسألةً شرعية.
وقد استطاع الداماد، كفقيهٍ ورجاليّ، بفهمه الدقيق للآيات القرآنية، وتسلُّطه العميق على دقائق الروايات، أن يبرهن على نظريته في الحدوث الدهريّ بعدّة آيات وروايات. ولن نختار منها ما هو أهمّ؛ لأنها كلّها مهمّةٌ، بل نجد أن بعضها يكمل الآخر، وهذا من أهمّ ما يميِّزها؛ إذ ليس بالسهل أن تقرأ ما بين سطور مستنبطٍ كالداماد، فكيف يمكن أن تلخِّص كلامه. ولهذا سوف نذكر بعضها بما يناسب حجم المقالة، وإلاّ فهي وحدها صالحةٌ لكتابة مقالةٍ مستقلّة، وخصوصاً أن الداماد بنفسه خصَّص القبس الرابع من كتابه (القبسات)، وبعض الأبواب الأخرى في كتبه الأخرى، لهذه الأدلة.
ذكر الداماد في القبس الرابع عدداً من الآيات القرآنية، وشرحها؛ لكي يخرج من طيّاتها ما يناسب مفهومه للدهر، ثمّ الحدوث الدهريّ، ثم أيَّد ذلك بعدّة روايات.
أما الآيات التي اعتمدها فهي:
1ـ قال عزَّ من قائل: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ (لقمان: 28).
2ـ قال جلَّ سلطانُه: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (الرحمن: 29).
3ـ قال جلَّ ذِكْرُه ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد: 4).
4ـ قال عزَّ من قائلٍ: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39).
في الآية الأولى والثانية يبين الداماد أن الأشياء متساويةٌ عند الحقّ، فالخَلْق والبَعْث والسمع والبصر والإيجاد والتكوين والإحياء والإماتة والأمر والنهي وغير ذلك هو عند الله شيءٌ واحد، وإنما التفاوت والتدريج والتعاقب راجعٌ للأشياء نفسها. يقول الداماد في ذلك: «فما من ثابتٍ ولا متغيِّر ولا قارّ ولا تدريجيّ ولا دفعيّ ولا زمانيّ إلاّ وهو مجعوله، ومستند إليه سبحانه وجوده. والتدريجيّات والمتغيّرات إنما التدريج والتعاقب فيها بحَسَب أنفسها، وباعتبار وجودها في الزمان، لا بالقياس إليه سبحانه، وبحَسَب وجودها في الدهر، على ما قد تعرَّفته مراراً متعدّدة فوق مرّةٍ واحدة»([14]).
وفي الآية الثالثة يشير إلى أن مَعِيّة الحقّ هي مَعِيّةٌ من الأَبَد إلى الأَزَل، ومع الجميع، حيث إن خطاب ضمير الجمع «كنتم» غير مخصوصٍ بعصرٍ دون عصرٍ. إذن هذه المَعِيّة مَعِيّةٌ دَهْريّة. ثمّ يؤيِّد كلامه بذكر الآية: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا﴾. وقد أكّد الداماد، من خلال هذه الآية، أن المَعِيّة فيها مَعِيّة دهريّة، حيث قال: «يعني رابعهم وسادسهم بالمَعِيّة، لا بالعدد؛ لعدم دخول وحدته الحقّة في باب الأعداد. وإضافة الكَوْن إليهم في «أينما كانوا» و«أينما كنتم»، لا إليه سبحانه، تنبيهٌ على أن المَعِيّة الدهريّة بالنسبة إليهم بحَسَب وجودهم، والتقدُّم السرمدي عليهم بحَسَب وجوده سبحانه؛ إذ العلّة موجودةٌ لا محالة في مرتبة ذات المعلول، والمعلول ليس بموجودٍ في مرتبة ذات العلّة، على ما قد تَلَوْناه عليك. فكانت الأشياء والله سبحانه معها، وكان الله ولم يكن معه شيءٌ». أما الآيات الأخرى فهي تشير إلى الدهر؛ وذلك لأن الثبات صفة للدهر؛ حيث يجتمع فيه الغابر والآتي، والأوّل والآخر، بخلاف الزمان الذي يختلف فيه الماضي عن الحاضر والحاضر عن المستقبل. ومن أهمّ إشاراته هي أنه فرّق بين كلمة «الأمر» وفعل «كُنْ» وارتباطهما بالثبات، و«إذا» الدالّة على الإطلاقية الحقيقية الوجوبية و«كلّما» الدالّة على التكثُّر والتكرُّر والتدرُّج المرتبط بالزمان، يقول الداماد: «وقال تعالى شأنه، في غير صورةٍ واحدة بخصوصها: ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. عبَّر عن الإيجاد الإبداعيّ، أعني الإخراج من جَوْف العَدَم الصريح والليس الباتّ إلى متن الوجود والثبات في الدهر بـ «الأمر» وقول: «كُنْ». ورُبَما وقع التعبير عنه «بالنفس الرحمانيّ» في بعض الاصطلاحات. وعن الإيجاد التكويني، وهو الإحداث في أفق التصرُّم والتجدُّد، أي الزمان، بـ «الإنزال» و«التنزيل». وذلك من أبلغ الكنايات، وأتمّ التعبيرات. وآثر «إذا» الإطلاقيّة التحقيقيّة الوجوبيّة على «كلّما» التكثيريّة التكريريّة التدريجيّة، إذ لا يصحّ توهُّم التدريج والتنقُّل في الشؤون والأحوال، بالقياس إلى طوار جناب الربوبيّة».
وختم الداماد تعليقه على الآيات القرآنية بأن الفَيْض كلّه في الدهر على الثبات والدوام، لا على السيلان والتدرُّج. وقسَّم العالَم إلى: عالَم الأمر والحمد؛ وعالَم الملك والخَلْق؛ حيث ربط الأوّل بمتن الواقع، والآخر بالزمان، يقول الداماد: فقد أدريناك أنّ الفيّاض الفعّال، تعاظم سلطانه، يصبّ سجال الفَيْض ورشح الجود في وعاء ثبات الوجود، الذي هو الدهر، أبداً صبّةً واحدة، فلا يزال يبدع ويصنع، ويفعل ويجعل، لا على السيلان، ولا على الاستيناف، بل على القرار والثبات. فيفيض العوالم بأَسْرها معاً مرّةً واحدة، غير زمانيّة، ولا آنيّة؛ أمّا عالَم الأمر والحمد ففي كبد الواقع ومتن الأعيان، لا في زمانٍ ولا في آنٍ ولا في حيِّزٍ ومكان؛ وأمّا عالَم الخَلْق والملك ففي الأزمنة والآنات والأحياز والأمكنة، كلّ هويّةٍ بشخصيّتها، في وقتٍ بخصوصه، وحيِّزٍ بعينه»([15]).
أما الروايات فالداماد قسّمها إلى ثلاثة أقسام: ما هو متواتر النقل المستفيض؛ وما هو متواتر المتن؛ ثمّ الخطب العلوية في نهج البلاغة.
أما ما هو متواتر النقل المستفيض، فعن سيّد البرايا| أنّه قال: «جفَّت الأقلام، وطُويَتْ الصُّحُف»([16]).
وقال×: «إن أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكتب؟ قال: القدر، ما كان وما يكون وما هو كائنٌ إلى الأبد».
وأما ما هو مستفيض المتن، فعن أبي عبد الله الصادق×، أنّه سُئل عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى﴾؟ فقال: «استوى من كلّ شيءٍ، فليس شيءٌ أقرب إليه من شيءٍ، لم يبعد منه بعيدٌ، ولم يقرب منه قريبٌ، استوى من كلّ شيءٍ»([17]).
ومنها: من طريق الصدوق، في كتاب التوحيد: «﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَما كَانُوا﴾. ليس بينه وبين خلقه حجابٌ غير خلقه، احتجب بغير حجابٍ محجوب، واستتر بغير سترٍ مستور، لا إله إلاّ هو الكبير المتعال».
وأما الخُطَب الحيدرية، فمنها: من طريق نهج البلاغة قوله صلوات الله وتسليماته عليه: «الحمد لله الذي لم تسبق له حالٌ حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً، وظاهراً قبل أن يكون باطناً، لم يحلُلْ في الأشياء فيُقال: هو فيها كائنٌ، ولم يَنْأَ عنها فيُقال: هو منها بائنٌ»([18]).
ولم يعلِّق السيد الداماد على كلّ حديثٍ وخطبة، كما فعل في الآيات، بل تعرَّض لبعض الروايات والخُطَب بالشرح والتعليق؛ وترك البعض الآخر، حيث نجده أسهب في شرحه للرواية التي تشير إلى نفي صفات الخَلْق عن الحقّ وكيفية خَلْق العالَم، حيث أشار إلى أن الحقّ سبحانه متعالٍ عن الخلق وصفاته جميعها، الأَيْن والكَيْف وغير ذلك؛ وأن الحقّ كان حيث لا مكان ولا زمان، وهو الآن كما كان؛ وأنه خلق لا من شيء، لا أنه خلق الخَلْق من لا شيء. وهذا نصٌّ وليس ظهوراً في أن العالم كان مسبوقاً بالعَدَم الصريح في عالم الدهر. وبما أن الحقّ كان ولم يكن خَلْقٌ، كما جاءت به الروايات، فهي إشارةٌ إلى تسرمد الحقّ سبحانه في السرمد، حيث الثبات الأبديّ والأزلي.
أما الخُطَب فتعامل معها مثل الروايات، حيث شرح بعضها دون بعضٍ، وأسهب في الخطبة التي تشير صراحةً إلى الخَلْق بعد العَدَم الصريح. يقول السيد الداماد: «قلتُ: فبيَّن سيّدنا ومولانا صلوات الله عليه وتسليماته بلفظته الشريفة البليغة هذه أن الترديد هناك غير حاصر للشقوق، ولا مستوفٍ للأقسام… فالصحيح أن الله سبحانه أوجد الأشياء وأحدثها لا من شيء، لا أنه أوجدها وأحدثها من لا شيء أو من شيء. فإذا قيل: هل الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء؟ لم يستحقّ الجواب. بل كان الحقّ سَلْبَ طرفي السؤال جميعاً، واختيار قسمٍ آخر ثالث، هو أنه خلقها لا من شيء… فإذن قولهم: «من لا شيء» قولٌ متهافت متناقض، وإنما الصحيح «لا من شيء»»([19]).
نظريّة الحدوث الزماني عند الملاّ صدرا
ترتكز نظرية الحدوث الزماني عند الملاّ صدرا على المقدّمات التالية:
1ـ عالَم الطبيعة مجموعةٌ من الأجزاء غير القابلة للعدّ؛ حيث إن كلّ واحدٍ منها حادثٌ زماني؛ لأن كلّ جزء في حالة الحدوث، وإن هذا العالم ليس سوى حدوث مستمرّ ودائم.
2ـ في التركيب الاعتباري لا يوجد شيءٌ آخر غير الأجزاء متّصفٌ بحكمٍ من أحكام النظم. حكم الكلّ يختلف في جهاتٍ عن حكم الجزء حين يكون الكلّ مركّباً حقيقيّاً؛ لكنْ إذا كان غير ذلك فحكم الكلّ يكون نفسه حكم الجزء.
3ـ إن سلسلة حوادث العالم ليس لها نقطةُ بدايةٍ، وبطبيعة الحال هذا لا يعني قِدَم العالم؛ لأن صفة القِدَم تكون فقط للأمر الثابت، وهذا الأمر لا يمكن أن يكون سوى ذات الله المقدَّسة، وفَيْضاً من الله تعالى.
وحاصلُ هذه المقدّمات أن العالَم حادثٌ زمانياً.
الأدلّة العقلية والنقلية على الحدوث الزماني
استدلّ الملاّ صدرا على نظريّته في الحدوث الزماني بالبرهان والقرآن والإجماع:
1ـ الدليل العقلي
استدلّ الملاّ صدرا على نظريّته في الحدوث الزماني بعدّة أدلّةٍ، أهمّها: لازم الحركة الجوهرية.
البراهين التي أُقيمت على «الحركة الجوهرية» دالّةٌ على أن حركات الأجسام الظاهرية والعرضية لها جذورٌ في تغيُّر وتجدُّد جوهر وذات كلّ جسمٍ من الأجسام، ولا مبرِّر مقبولاً للقول بوجود تغيُّر في الأعراض، من دون أن يكون لها تغيُّرٌ وتجدُّد ذاتيّ. وهكذا فالتغيُّر والتجدُّد يسري في جَوْهر الموجودات الطبيعية، بحيث يشمل كلّ وجودها. ومن لوازم هذا التغيُّر والتجدُّد الذاتي أن كلّ المقولات العرضية، التي هي من مراتب وظهورات الجواهر، تتعرَّض للتغيُّر والتجدُّد تَبَعاً للحركة في جواهرها.
ووفق نظرية الحركة الجوهرية التجدُّد هو عين وجود كلّ موجودٍ، وهذا الموجود لحظةً بلحظة هو في معرض التجدُّد، وكلّ وجودٍ جديد له هو حدوثٌ مستقلّ يقع في ظرف الزمان في جانب الذات والجوهر لكلّ شيء. وهذا ما يُعبَّر عنه بالحدوث الزماني ـ الجوهري، خلافاً للحدوث الزماني عند المتكلِّمين. وطبقاً لهذا التحليل لا يمكن الحديث عن نقطة بدايةٍ زمنية معيَّنة للعالم، بل ليس هنا مجالٌ لفَرْض نقطة البداية لهذا العالم؛ لأن العالم كما هو دائمُ الحدوث، وسلسلة إحداثيّاته لا تتوقَّف عند نقطةٍ بعينها، ومهما رجَعْنا القهقرى فسنجد نفس الشيء، التغيُّر والتجدُّد إلى ما لا نهاية له.
ذكر الملاّ صدرا في باب الحدوث الزماني للعالم، في المشعر الثالث من المنهج الثالث لكتاب المشاعر: «العالم بجميع ما فيه مسبوقُ الوجود بالعَدَم الزماني، بمعنى أن لا هويّة من الهويات الشخصية إلاّ وقد سبق عدمُها وجودَها، ووجودُها عدمَها، سبقاً زمنيّاً.
وبالجملة لا شيء من الأجسام والجسمانيات المادّية، فلكيّاً كان أو عنصريّاً، نَفْساً كان أو بَدَناً، إلاّ وهو متجدِّد الهوية، غير ثابت الوجود والشخصية»([20]).
ويُعتبر إثبات الحدوث الزماني للعالَم أحدَ أهمّ نتائج الحركة الجوهرية أيضاً؛ حيث يقوم صدر المتألِّهين من خلال أصل الحركة الجوهرية بإثبات العَدَم الزمانيّ للعالَم، ويبطل الحدوث الزمانيّ للعالَم، والذي يعني البدء الزماني. فهو ـ على عكس المتكلِّمين، الذين يصرّون على الحدوث الزماني للعالَم، ويعتبرونه لازماً للمعلولية ـ يحاول أن يثبت أن الزمان هو أحد الممكنات، ومن موجودات هذا العالَم. وفي الأصل ليست مسبوقية الشيء بالعَدَم في الزمان ملاك الحاجة إلى علّةٍ. وفي رأيه يحتاج الشيء إلى العلّة عندما لا يكون له استقلاليّةٌ في الوجود.
2ـ الدليل النقلي
كما ذكَرْنا سابقاً فإنّ منهج الملاّ صدرا هو التوفيق بين النقل والعقل والكشف، ولذلك عندما يستدلّ على مسألةٍ بدليلٍ عقليّ يردفها بدليلٍ نقليّ أو كشفٍ عرفانيّ في الحدوث الزماني، يؤكِّد أن ما توصَّل إليه بالبرهان له دليلٌ من النقل.
أـ الشواهد القرآنية
فهو يقول، في فصلٍ بعنوان: في ذكر شواهد الحدوث الزمانيّ من «الدلائل» السمعية القرآنيّة: «أما الآيات فمثل: قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾، وقوله: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾، وقوله في غير موضعٍ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾. ووجهُ دلالة هذه الآيات على الحدوث التجدُّدي ممّا بيَّناه وسنبيِّنه في مقامه عند التفسير لها؛ وقوله: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾، وقوله: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، وقوله: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾، وقوله: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ والْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾، وقوله: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً﴾. وإنما نسب وقوع هذه الأحوال إلى يوم القيامة، وإنْ كانت الأجسام الدنيويّة دائماً في التجدُّد والزوال والانقلاب؛ لأن ظهورها على الخلائق جميعاً مختصٌّ بذلك اليوم، وبتلك النشأة الثانية، وقوله: ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ونُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾، وقوله: ﴿وكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾، وقوله: ﴿فَقَالَ لَهَا ولِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾، ومثل: قوله: ﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾، وقوله: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وقوله في تقلب الإنسان وتحوُّله الذاتيّ وحركته الجوهريّة: ﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، وقوله: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً﴾»([21]).
وفي كتابه المظاهر كرَّر كلمة «الدالّة». وهذا كاشفٌ أن الملاّ صدرا لا يعتبر أن هذه الآيات مؤيّدةٌ لنظريته في الحدوث الزمانيّ، بل يعتبرها دليلاً على نظريّته. يقول الملاّ صدرا: «ومن الآيات الدالّة على حدوث العالَم قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ﴾. فالله سبحانه أخبر عن خلق المكوّنات في هذه المدّة؛ وذلك لأنّ الحادث تدريجيّ الوجود زمان حدوثه بعينه زمان ثبوته واستمراره، إذ لا بقاء له إلاَّ الحدوث التجدُّدي»([22]).
ب ـ النصوص الروائية
في كتابه المشاعر استدلّ الملاّ صدرا بهذه الرواية على الحدوث الزمانيّ: «قال أمير المؤمنين وإمام الموحِّدين×، في خُطَب نهج البلاغة، مشيراً إلى دثور العالم وزواله من جهة إثبات الغاية والرجوع إلى البداية: «كلّ شيء خاضعٌ له، وكلّ شيءٍ قائمٌ به، غنى كلّ فقيرٍ، وعزّ كلّ ذليلٍ، وقوّة كلّ ضعيفٍ، ومفزع كلّ ملهوفٍ. مَنْ تكلم سمع نطقه، ومَنْ سكت علم سِرَّه، ومَنْ عاش فعليه رزقه، ومَنْ مات فإليه منقلبه»([23]).
3ـ الإجماع
ولم يغفل الملاّ صدرا عن الإجماع الذي ساقه كمؤيِّدٍ لنظريّته، حيث قال: «الكتب الإلهيّة والآيات الكلاميّة قائلةٌ بأن العالَم بأَسْره حادثٌ زماني»([24]). ثمّ أكَّد نفس مفاد الإجماع بقوله أيضاً: «لهذا أطبقت الشرائع الحقّة في القول بحدوث العالم جملةً؛ لأنه في كلّ آنٍ يحدث منه شخصٌ غير الذي كان قبله وبعده»([25]).
النتيجة
استطاع السيد الداماد أن يؤسِّس نظريّةً برهانيّة، وهي الحدوث الدَّهْري المعتمد على المفهوم الدامادي للدهر. إن نظرية الحدوث الدهريّ لعبَتْ دَوْراً مهمّاً في إزالة المقابلة بين الفلاسفة والفقهاء، وذلك أن نظرية الحدوث الدهري لم يكتَفِ صاحبها بالبَرْهنة عليها، بل استدلّ عليها بأدلّةٍ نقلية مؤيِّدةٍ لما ذهب إليه في نظريته، حيث تبين:
أوّلاً: أن الأدلّة التي أقامها السيد الداماد أدلّةٌ برهانية مُحْكَمة وتامّة.
ثانياً: أنها تزيل كلّ العراقيل أمام تقدُّم المنهج العقلي داخل المجتمع. إن نظرية الحدوث الدَّهْري لم تكتَفِ بحلّ مسألة حدوث العالم، بل تعدَّتْ إلى حلّ معضلاتٍ ظلّتْ مستعصيةً، مثل: مسألة القضاء والقَدَر، ومسألة البداء.
أما ما توصل إليه الملاّ صدرا فقد فاق التصوُّر، وذلك بعبقريته في الجَمْع بين القرآن والبرهان والكَشْف، ليخلص إلى إبداع نظريّته في الحدوث الزماني، التي استدلّ عليها بالثلاثيّة الذهبيّة، والمتناسقة مع مبانيه المتينة والمُحْكَمة، برهاناً ونصّاً وكَشْفاً، فتوافق الفلاسفة والفقهاء والمتكلِّمون على قوّتها ومتانتها.
الهوامش
(*) أستاذ الدراسات العُليا في الحوزة العلميّة، وباحثٌ خبيرٌ في علوم الحديث والنقد والعقليّات. له نظريّاتٌ خاصّةٌ في فلسفة الشريعة وأصول الفقه.
(**) باحثٌ في الحوزة العلميّة في قم. من المغرب.
([1]) ابن منظور، لسان العرب 4: 12، ط1، دار صادر، بيروت، 1993م.
([2]) الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس 10: 321، تحقيق: مجموعة من المحقِّقين، دار الهادي.
([3]) صدر المتألِّهين، مفاتيح الغيب: 334، ط1، مؤسّسة تحقيقات فرهنگي، طهران، 1363هـ.ش.
([4]) ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة 3: 60، تقديم وتصحيح: محمد خواجوي، ط1، انتشارات حكمت، طهران، 1377هـ.ش.
([5]) الداماد، مير محمد باقر، مصنَّفات مير داماد: 111، اهتمّ به: عبد الله نوراني، ط1، انتشارات أنجمن آثار ومفاخر فرهنگي، طهران، 1381 ـ 1385هـ.ش.
([6]) الداماد، القبسات: 249، إشراف: د. مهدي محقّق؛ د. السيد علي الموسوي البهبهاني؛ البروفسور إيزوتسو؛ د. إبراهيم ديباجي، انتشارات دانشگاه، طهران، ط2، طهران، 1367هـ.ش.
([10]) الداماد، تقويم الإيمان وشرحه كشف الحقائق: 323، ط1، مؤسّسة مطالعات إسلامي، طهران، 1376هـ.ش.
([11]) مصنَّفات مير داماد: 463 ـ 464.
([16]) المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار 5: 49، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
([17]) الكليني، أصول الكافي 1: 173.
([20]) صدر المتألِّهين، المشاعر: 64، ط2، كتابخانه طهوري، 1363هـ.ش.
([21]) صدر المتألِّهين، مفاتيح الغيب: 399.