الشيخ محمد حسن گُلي شير دار(*)
أ. علي محمدي هويه(**)
الشيخ سپهر كرد(***)
توطئةٌ
لقد عمد المنكرون لقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ إلى التمسّك بأدلّةٍ في إطار إنكارهم لهذه القاعدة. ومن بين الفقهاء يُعَدّ السيد الشهيد محمد باقر الصدر والسيد الروحاني من المنكرين لهذه القاعدة. بَيْدَ أن الشَّبَه الشديد في الأدلّة التي يقيمها هذان الفقيهان دفع البعض ـ خطأً ـ إلى اعتبار هاتين النظريتين نظريّةً واحدة، دون أن يلتفتوا إلى نقاط الاختلاف والتمايز، في طريقة استدلالهما، والنتيجة التي يصلان إليها من خلال ذلك.
وسوف نسعى في هذه المقالة إلى بيان اختلاف رؤية السيّد الشهيد الصدر عن رؤية السيّد الروحاني في هذا الشأن، ابتداءً من المباني الاستدلالية التي يعتمدانها، وصولاً إلى النتائج المختلفة المترتِّبة على أدلّتهما؛ حيث قام السيد الروحاني بنفي وإبطال هذه القاعدة طبقاً لبعض الاستدلالات، دون أن يبدي رأياً على المستوى الإثباتيّ؛ في حين أن السيد الشهيد الصدر ـ بالإضافة إلى ردّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ ذهب من خلال الاستدلال إلى القول بتنجُّز التكليف، واستحقاق العبد للعقاب في ظرف الشكّ أيضاً. وهذا ما سوف نبيِّنه في هذه المقالة بالتفصيل.
المقدّمة
إن كلّ علمٍ من العلوم يشتمل على سلسلةٍ من المقدمات والمبادئ التي يُصطلح عليها بمبادئ ذلك العلم. وعلم أصول الفقه بدَوْره يشتمل على سلسلةٍ من المبادئ، تظهر ثمارها المباشرة في مسائل علم الأصول، من قبيل: المبادئ اللغوية التي تبحث عن الوضع والاستعمال والإرادة. وتظهر ثمار ذلك في مباحث الألفاظ. ومن بين المبادئ الهامّة لعلم الأصول المبادئُ الكلامية. وتظهر ثمرة ذلك في أكثر مسائل علم الأصول.
إن أحد هذه المبادئ الكلاميّة، التي ظهرت منذ عصر الوحيد البهبهاني&، وتوجَّهت إليها الأنظار في علم الأصول من قِبَل المحقِّقين وكبار العلماء، وظهرَتْ حولها مختلف الآراء؛ هو اتجاه المكلَّف في مقابل الشريعة، واحتمال التكليف مع عدم تحقُّق القطع بالتكليف أو الظنّ المعتبر بالنسبة إليه.
وفي مثل هذه الحالة ذهب الكثير من المحقِّقين إلى الإذعان بأن أمّ القضايا ـ العقليّة بحكم العقل العمليّ ـ عبارةٌ عن الترخيص والإباحة. وبعبارةٍ أدقّ: عدم استحقاق العقاب الأخرويّ عند مخالفة الحكم الواقعيّ، أي إنه كلّما لم يقطع المكلَّف بالعدم؛ لعدم وجود دليلٍ معتبر، وفقدان القطع، بل احتمل مجرَّد الإلزام، لا يكون المكلَّف في مقام ثبوت التكليف ـ بحكم الأدلّة المتعدِّدة عند العقل ـ مستوجباً لاستحقاق العقوبة. وهو ما يُعبَّر عنه في لسان المحقِّقين بـ «قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ». وهو القول المنسوب لمشهور الأصوليّين.
وفي مقابل هذا القول هناك نظريّتان أخريان، في مقام النقد والردّ على هذه القاعدة.
النظرية الأولى: وهي للسيد الروحاني في منتقى الأصول. وهي أن قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ ـ التي تسعى إلى إثبات عدم استحقاق العبد في ظرف فقدان الدليل للعقوبة الأخرويّة ـ لا تشتمل على توجيهٍ بالنسبة إلى العقوبة الأخروية، ولا يمكن العثور لها على مبنىً صحيح. وخلاصة كلامه: إن نسبة العقوبة الأخروية إلى أفعال البشر بحيث لا يمكن لعقول البشر أن تستوعبها وتفهمها؛ وذلك لأن العقوبة عند الموالي العرفيّين تكون إما للتشفّي أو للتأديب. ومن الواضح والبديهيّ أن هذين المنشأين لا معنى لهما، ولا يمكن تصوُّرهما، بالنسبة إلى الله تعالى في العقاب الأخروي بحقّ العباد، وإنما توجيه العقوبة يكون من باب الوعيد بالعقاب. لا شَكَّ في أن ملاك وعد الله تعالى بالعقوبة (في ظرف المخالفة) ليس بأيدينا، ومع الافتقار إلى فهم الملاك في ترتُّب العقوبة الأخرويّة لا يمكن الجَزْم بثبوت العقاب في فرضٍ دون فرضٍ آخر.
والنظرية الثانية، في مقابل مبنى المشهور، هي نظريّة الشهيد محمد باقر الصدر؛ إذ يرى أن اتجاه المكلَّف في ظرف احتمال التكليف، ثبوتاً وسقوطاً، ـ عند العقل ـ هو الاحتياط، دون الترخيص والإباحة، أي إن الشهيد الصدر ـ على أساس التحليل العقلي ـ يرى أن المنجِّز هو مجرَّد احتمال التكليف، سواءٌ في مرحلة احتمال ثبوت التكليف أو في مرحلة احتمال سقوط التكليف وتحصيل فراغ الذمّة.
يكتفي السيد الروحاني في نظريّته بمجرّد السعي إلى نفي قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ، دون أن يبيِّن رأياً من الناحية الإثباتية؛ وأما السيد الشهيد الصدر فإنه، بالإضافة إلى ردّ هذه القاعدة في ضوء المباني الكلامية ـ الاختلاف بين الموالي العرفيّين وذاتيّة دائرة الطاعة لهم بالنسبة إلى حقوقهم المتعلِّقة في ذمم وأعناق العبيد ـ، قد رأى بطلان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وطبقاً لهذا المبنى منه قال بـ «حقّ الطاعة» في ظرف الشكّ، أي إنه حتّى في ظرف احتمال التكليف يجب العمل بمضمون ما يثبته الاحتمال أيضاً.
وسوف نعمل في هذه المقالة على دراسة ومناقشة أقوال وكلمات السيد الشهيد الصدر وكلمات السيد الروحاني، بشكلٍ مستقلٍّ، ثمّ نذكر بعد ذلك التمايز النظريّ بينهما. وبذلك سيتّضح بطلان تصوُّر بعضٍ، القائل بعدم وجود اختلاف جوهريّ بين هاتين النظريّتين؛ إذ سنثبت أن هاتين النظريّتين مختلفتان عن بعضهما، في طريقة الاستدلال، وفي استخلاص النتائج والثمار أيضاً.
أوّلاً: نظريّة السيد الروحاني
لقد أشار السيد الروحاني ـ قبل بيان رأيه في صحّة أو عدم صحّة قاعدة «قبح العقاب بلا بيانٍ» ـ إلى مسلكَين في مفهوم الحُسْن والقُبْح، على سبيل المقدّمة.
قال: هناك مسلكان في الحُسْن والقُبْح، وهما:
المسلك الأوّل: يذهب القائلون بهذا المسلك إلى الاعتقاد بأن الشأنية المتصوَّرة للعقل هي شأنية الإدراك. وبعبارةٍ أخرى: لا يمكن تصوُّر حكم العقل على شيءٍ، بل إن شأن العقل هو مجرَّد إدراك الأشياء بما يتطابق مع واقعيّتها. وعليه، فإن الأحكام العقلية تعود إلى الأحكام العقلائيّة، التي أجمع عليها العقلاء، واتّفقَتْ عليها كلمتهم؛ من أجل الحفاظ على النوع من الفساد.
وعلى هذا المسلك ليس لحكم العقل بقُبْح العقاب بلا بيان من حقيقةٍ غير اتّفاق رأي العقلاء على ذلك، وأن الشارع؛ بوصفه رئيس العقلاء، يوافقهم على هذا الاتّفاق.
المسلك الثاني: يعمل القائلون بالمسلك الثاني على تحليل حكم العقل بالحُسْن والقُبْح من طريق ملاءمته وتنافره مع القوّة العاقلة، ببيان قولهم: إن المراد من حكم العقل بالحُسْن والقُبْح هو ملاءمة الشيء مع القوّة العاقلة، ونفرته من القوّة العاقلة أيضاً، بمعنى أن الشيء إذا كان متلائماً مع القوّة العاقلة فإن العقل يحكم بحُسْنه، وإنْ كان متنافراً مع القوّة العاقلة حكم العقل بقُبْحه؛ والدليل على ذلك أن الفرد يمتلك العديد من القِوَى، من قبيل: القوّة الباصرة، والذائقة، واللامسة، وما إلى ذلك، وإن من بين هذه الموارد القوّة العاقلة. وعليه، كما توجد لكلّ واحدٍ من هذه القوى والحواس ما يلائمها وما يتنافر معها ـ كما في النعومة التي تلائم اللمس، والخشونة التي تتنافر معها ـ كذلك هناك للقوّة العاقلة ما يلائمها وما يتنافر معها أيضاً، فكلّ ما يتلائم مع القوّة العاقلة حَسَنٌ، وكلُّ ما يتنافر معها قبيحٌ.
وعلى هذا الأساس، فإن حكم العقل بقُبْح العقاب بلا بيانٍ في هذا المسلك يعود إلى منافرة العقاب بلا حجّةٍ مع القوّة العاقلة، أي حين يكون العقاب على مخالفة أمرٍ لم تقُمْ عليه الحجّة يكون هذا العقاب متنافراً مع القوّة العاقلة، فالعقل لا يرتضيه؛ فيكون هذا العقاب قبيحاً.
والآن يظهر الاختلاف بين هذين المسلكين، حيث نشكّ في شيءٍ ما إذا كان مصداقاً للظلم أم لا؟
بناءً على المسلك الأوّل يجب الرجوع إلى البناء العمليّ للعقلاء من أجل رفع الشكّ؛ لنرى ما إذا كان يعتبر هذه الموارد من موارد الظلم أم لا.
وأما بناء على المسلك الثاني فإن المرجع في تحديد هذا الأمر هو وجدان الفرد، وليس هناك من طريقٍ آخر، غير الوجدان. وعلى هذا الأساس حيث يقع الفرد في مقام الشكّ، ولا يوجد حكمٌ له في البين، فإن المسألة سوف تبقى على حالة الشكّ([1]).
وبعد ذكر هذه المقدّمة، يدخل سماحته في تحليل قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ العقليّة؛ ليبيِّن أنه إذا بقي المكلَّف في ظرف الشكّ فهل يكون العقاب على مخالفة التكليف صحيحاً أم لا؟
لقد قام سماحته بدراسة هذا البحث ضمن ثلاثة مقامات. والذي نحتاج إليه في هذه المقالة، في مقابل قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ من وجهة نظر المشهور، هو المقام الثالث، الذي هو في مورد صحّة أو عدم صحّة عقاب المولى الشرعيّ في الآخرة في ظرف الشكّ؛ وذلك أوّلاً: إن محلّ البحث في قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ العقلية هو العقاب من قِبَل المولى الشرعيّ؛ وثانياً: إن المطروح في هذه القاعدة هو العقاب الأخروي، وليس الدنيوي. ولكنْ في إطار تكميل نظريته، وكذلك الفهم الأدقّ للتفاوت والتمايز بين الحالات الثلاثة المطروحة في نظريّته، سوف نشير إلى المقامين الأوّل والثاني من نظريّته أيضاً.
1ـ صحّة مؤاخذة المولى العُرْفي
لقد صوَّر السيد الروحاني ثلاث حالات في هذا المقام:
أـ أن تكون مخالفة العبد للتكليف مقرونةً بالعلم: في هذه الحالة لا يكون العقاب على المخالفة ـ بناءً على كلا المسلكَين المذكورين في باب حكم العقل ـ قبيحاً؛ وذلك لأن المخالفة قد اقترنَتْ هنا بالعلم والعَمْد.
ب ـ أن تكون مخالفة العبد بسبب الغفلة أو الجهل المركَّب: في مثل هذه الحالة إذا لم يكن الجاهل مقصِّراً يكون العقاب على المخالفة قبيحاً.
ج ـ أن تكون مخالفة العبد في ظرف الشكّ في التكليف: فيُقال في هذا القسم: أما في مورد العقاب في حالة الشكّ فلا يمكن إبداء الرأي، والقول بالقُبْح أو عدم القُبْح، على كلا المسلكين. بل تكون هذه المسألة مسكوتاً عنها؛ إذ بناءً على المسلك الثاني لا نعلم ما إذا كان العقاب في هذه الحالة متنافراً مع القوّة العاقلة أم لا، وبالتالي لا يمكن القول بالقُبْح أو الحُسْن؛ وبناءً على المسلك الأوّل كذلك، حيث يكون بناء العقلاء على عدم العقاب؛ وذلك من أجل حفظ النظام، كذلك لا يكون لدينا علمٌ في البين؛ إذ لا نعلم ما إذا كان العقاب مخلاًّ بالنظام أم لا، وليس لدينا أيّ طريقٍ لإحراز هذه المسألة. وعليه لا يمكن القول ـ في مثل هذه الحالة ـ بقُبْح العقاب بلا بيانٍ، ولا القول بعدم القُبْح([2]).
2ـ صحّة مؤاخذة المولى الشرعيّ في الدنيا
لو سلَّمنا القول بقُبْح العقاب من المولى العُرْفي؛ بسبب مخالفة العبد في حالة الشكّ، نقول: هل يصحّ عقاب العبد على المخالفة في ظرف الشكّ، من قِبَل المولى الشرعيّ في الحياة الدنيا، أم لا؟
كذلك هنا لا يوجد ـ بناءً على كلا المسلكَين المذكورين في باب الحُسْن والقُبْح ـ من طريقٍ إلى الجَزْم بحكم العقل القائل بمثل هذا العقاب من قِبَل المولى الشرعيّ الحقيقيّ خالق العباد؛ إذ يحصل كثيراً أن يُبْتَلى المؤمنون والمطيعون بالأمراض الدنيوية، دون أن يكون في ذلك قُبْحٌ أصلاً، ناهيك عن أن يكون ذلك في حقّ المخالف.
إن الوجه الرئيس في نفي حكم العقل بقبح العقاب في هذا المقام هو أن الحُسْن والقُبْح، بناءً على كلا المسلكين المذكورين في المقدّمة، يقوم على محور تحقُّق الظلم والعدل. وإن أساس الظلم والعدل يقوم على فرض الحقوق والحدود بين طرفين، بحيث يُعَدّ تجاوزه ظلماً، وعدم تجاوزه عدلاً. وهذه المسألة موجودةٌ بين العبد والمولى العُرْفي، وبين الأب والولد، وأما بين العبد والمولى الحقيقيّ فلا يمكن تصوُّر مثل هذا الحقّ؛ إذ لو تصوَّرنا العلاقة بين العبد ومولاه الحقيقي، وتدبَّرنا في ماهيّة هذه العلاقة، سوف ندرك أن العبد ليس له من حقٍّ خاصّ على مولاه الحقيقي؛ وذلك لأن المولى الحقيقي هو مالكٌ وخالق للعبد، ولذلك يحقّ له القيام بكلّ فعلٍ وتصرُّفٍ تجاه هذا العبد، كأنْ يبتليه بالمرض أو الفقر وما إلى ذلك، سواء أكان العبد في ما يتعلَّق بالمخالفة عالماً أو جاهلاً. فحتّى إذا كان العبد مطيعاً لن يكون في قيام المولى بهذه الأمور إشكالٌ. وهذه المسألة لا تتنافى مع بناء العقلاء، ولا تتنافر مع القوّة العاقلة أيضاً([3]).
3ـ صحّة العقاب في الآخرة على مخالفة العبد في ظرف الشكّ
كما سبق أن ذكرنا في المقدّمة فإن الذي يحظى بالأهمّية قبل غيره في هذه النظرية هو القسم الثالث. ومن الجدير ذكرُه أن هناك نظريّاتٍ متعدِّدةً بشأن ماهية الثواب والعقاب الأخروي. ويرى سماحته أن هذا الاختلاف في المباني يؤثِّر في هذا البحث. ولذلك سوف نعمل في البداية على ذكر هذه المباني بشكلٍ مختصر:
قال سماحته بوجود ثلاثة اتجاهات في ماهية الثواب والعقاب الأخروي:
1ـ نظرية تجسُّم الأعمال: هناك مَنْ يعتبر الثواب والعقاب من باب تجسُّم الأعمال، بمعنى أن العمل والثواب والعقاب ليسا شيئين، وإنما هما حقيقةٌ واحدة. فإن حقيقة العمل القبيح هو ذات العقاب والهوان والبؤس والخسران؛ حيث ستظهر لنا هذه الحقيقة ماثلةً في عالم الآخرة؛ ولذلك نتعرَّض للعقاب. كما أن حقيقة العمل الصالح هو الجنّة والسعادة والثواب؛ حيث ستظهر لنا هذه الحقيقة بدَوْرها في عالم الآخرة أيضاً. وفي الحقيقة فإننا سوف نواجه أعمالنا وأفعالنا. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن المعصية سوف تظهر لنا في مقام التجسُّم على شكل عقربٍ، وتظهر الطاعة في مقام التجسُّم على هيئة شجرةٍ طيّبة.
2ـ نظرية الأثر الوضعيّ: يُعَدّ الثواب والعقاب في هذه النظريّة من قبيل: الأثر الوضعيّ للفعل، كما في حال تناول السمّ؛ حيث الأثر الوضعيّ له هو الموت. وفي ما نحن فيه نقول كذلك: إن الأثر الوضعيّ للمعصية هو العقاب.
3ـ نظرية العلاقة الاعتباريّة: وفي هذه النظريّة يكون الثواب والعقاب شيئاً آخر غير عملنا وفعلنا، وإن العلاقة الوحيدة القائمة في البين هي العلاقة الاعتباريّة والعقدية؛ حيث تتحدَّد في ضوء الوَعْد والوعيد الصادر عن المولى الشرعيّ، بحيث لو خالف العبد فإن المولى يتوعَّده بالعقاب، وإنْ أطاع يَعِدُه بالثواب([4]).
والآن، بعد بيان هذه المباني الثلاثة الموجودة حول ماهيّة الثواب والعقاب، ننتقل إلى بيان صحّة أو عدم صحّة قُبْح العقاب بلا بيانٍ، في ضوء هذه الاتّجاهات الثلاثة:
أما بناءً على المسلكين الأوّل والثاني فلا يكون القول بقُبْح العقاب بلا بيانٍ صحيحاً؛ وذلك لأن العقاب في هذين المسلكَين ليس فعلاً اختياريّاً، ليتّصف بالحُسْن والقُبْح، بل هو أمرٌ قهريّ يترتَّب على فعل المكلَّف بشكلٍ تلقائيّ، سواءٌ أكان ذلك من باب تجسُّم الأعمال أو بوصفه أثراً وضعيّاً. ولا دَوْر للعلم والجهل في هذا الترتُّب، كما هو الحال في بقية موارد الآثار الوضعيّة لتجسُّم الأعمال أيضاً([5])؛ إذ بمجرَّد أن يصدر عنه العمل تظهر نتيجته وأثره، سواءٌ أكان عالماً أو جاهلاً، من قبيل: الشخص الذي يتناول السمّ، فإنه بمجرّد تناول السمّ يظهر عليه تأثيره، المتمثِّل بالموت، سواءٌ أكان عالماً بأن ما تناوله سمٌّ أم لم يكن عالماً بذلك.
وبناءً على مسلك تجسُّم الأعمال؛ حيث لا يكون هناك اختلافٌ ماهوّي بين العمل والثواب والعقاب، فإنه بمجرَّد صدور الفعل يكون في الحقيقة قد عمل على إيجاد النار والعقاب أو الجنّة والثواب والسعادة، ولا تأثير في هذه المسألة للعلم والجهل أيضاً. وعلى هذا الأساس عندما نفترض أن ذات الفعل عندما تتحقَّق ـ سواء في حالة العلم أو الجهل ـ يترتَّب على ذلك لازمه، المتمثِّل في العقاب، لا يكون ترتُّب العقاب هنا قبيحاً. وبعبارةٍ أخرى: لا يعود من الصحيح بيان قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ في هذين المسلكين أصلاً؛ فهي خارجةٌ عن محلّ البحث؛ إذ يكون جَرَيان العقاب في مثل هذه الحالة أمراً قهريّاً وملازماً لفعل المكلَّف. وعليه لا يكون هناك وجهٌ للقول بقُبْح العقاب في هذه الحالة.
وأما بناءً على المسلك الثالث فلا يوجد طريقٌ أيضاً للحكم بصحّة القول بقُبْح العقاب بلا بيانٍ؛ أي إنه لا يمكن القول بقُبْحه، ولا يمكن القول بعدم قُبْحه؛ وذلك لعدم علمنا بالملاك الذي بموجبه يقوم الشارع بالتوعُّد على العقاب؛ بسبب المخالفة. وحيث لا نعلم ملاك الشارع في ترتُّب العقاب لا نستطيع القول هنا بأن العقاب قبيحٌ أم لا.
وتوضيح ذلك: إن سماحته يقول: إن الملاك في مورد العقاب والثواب الأخروي واضحٌ ومعلوم، فهو لا يخرج من إحدى حالتين؛ إن ملاك العقوبة الدنيوية يكون إما من أجل تحذير المذنب نفسه؛ كي لا يعود إلى تكرار المعصية مجدَّداً؛ أو من باب تأديب الآخرين وردعهم؛ كي لا يرتكبوا هذه المعصية. إن هذا الملاك إنما يمكن بيانه وتفسيره بلحاظ عالم الدنيا، دون عالم الآخرة؛ إذ إن عالم الآخرة ليس عالمَ تكليفٍ وفعلٍ؛ لتكون هذه الموارد مطروحةً في ذلك العالم. وعلى هذا الأساس يجب أن يقوم العقاب الأخرويّ على أساس ملاكٍ آخر، ولا علم لنا بهذا الملاك. وحيث لا يكون لدينا طريقٌ إلى معرفة هذا الملاك، وبيان حدوده وأبعاده، لا نستطيع القول بقُبْح العقاب، والبحث عنه في موضعٍ دون موضعٍ آخر([6]). وبعبارةٍ أخرى: إن البحث في هذا الشأن خاطئٌ من رأسٍ؛ إذ لا علمَ لدينا بملاك الترتُّب أبداً. وحيث لا يكون لدينا علم بملاك الترتُّب لا نستطيع القول بأن العقاب في ظرف الشكّ قبيحٌ أو غيرُ قبيحٍ؛ إذ قد يكون ملاك العقاب ثابتاً في ظرف الشكّ والجهل. وعليه، كيف يمكن لنا القول بأن العقاب في مثل هذه الحالة ـ أي في حالة شكِّنا في التكليف ـ يتنافى مع القوّة العاقلة أو يتنافى مع بناء العقلاء؟! وبعبارةٍ أخرى: إن دخول المكلَّف في تحليل هذه المسألة خاطئٌ من الأساس؛ وذلك لأن هذه المسألة تدور حول مدار بيان الشارع بالنسبة إلى موضوع العقاب، وتحديد مساحته وحدوده.
وعلى هذا الأساس يمكن القول، كنتيجةٍ عامّة: إن العقل ليس له طريقٌ إلى الحكم بقبح العقاب بلا بيانٍ. ومن هنا، لا تقوم هذه القاعدة المشهورة ـ «قُبْح العقاب بلا بيانٍ» ـ على أيّ أساسٍ([7]).
لقد اتّضح ـ في ضوء ما ذكره السيّد الروحاني ـ أن موقفه من قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ العقلية هو نفي هذه القاعدة. ولكنّه ليس بصدد إثبات ما يقابلها، الذي هو عبارةٌ عن عدم قُبْح العقاب بلا بيانٍ، وإنما هو يكتفي بمجرّد نفي هذه القاعدة، أي إنه يقول: إن قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ ليست صحيحةً، ولا يمكن القول بقبح العقاب في محلّ البحث، ولا القول بحُسْن العقاب. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه المسألة من وجهة نظره مسكوتٌ عنها، وليس لدينا طريقٌ إلى معرفة كُنْهها.
وفي ختام بيان هذه النظريّة لا بُدَّ من التذكير بأن هذه النظرية قد تواجه الكثير من الإشكالات. ولكنْ حيث إننا لسنا في هذه المقالة بصدد بحث صحّة وسقم هذه النظريّة، لا نرى مناسبةً للخوض في بيان هذه الإشكالات. وكلُّ الذي نرومه في هذه المقالة هو إيضاح هذه النظرية، وبيان نتيجتها النهائية، بحيث نتمكَّن بعد ذلك من مقارنتها بنظريّة حقّ الطاعة، للسيد الشهيد محمد باقر الصدر، مع بيان الاختلافات الأساسيّة بين هاتين النظريتين.
وبعد الانتهاء من بيان نظريّة السيد الروحاني ننتقل إلى بيان نظريّة السيد الشهيد الصدر، ومقارنتها بقاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ، وتقييمها بالنسبة إلى نظرية السيد الروحانيّ أيضاً.
ثانياً: نظريّة السيد الشهيد محمد باقر الصدر
إن السيد الشهيد الصدر؛ بالالتفات إلى عدم فصله بين الحجِّية والمولوية، وإنما يعمل على تحليلهما في عَرْض بعضهما، عمد في بيانٍ له ـ بعد ذكر خصيصتين ذاتيّتين للقطع، وهما عبارةٌ عن: الكاشفية؛ والمحرِّكية ـ إلى التأمُّل في خصيصةٍ ثالثة للقطع ـ والتي هي عبارةٌ عن الحجِّية ـ من حيث ذاتيّة أو عدم ذاتيّة هذه الخصيصة بالنسبة إلى القطع.
يذهب المشهور من الأصوليين إلى القول بأن هذه الخصيصة من اللوازم الذاتيّة للقطع، كما أن الحرارة من اللوازم الذاتيّة للنار. وعليه، في القطع يستلزم الحجِّية والمنجِّزية في حدّ ذاته، بمعنى أنه حيثما وُجد القطع كانت الحجِّية والمنجِّزية موجودةً أيضاً؛ وذلك لأن اللازم الذاتيّ للشيء لا ينفكّ عنه([8]). وعليه؛ حيث إنهم قالوا بأن الحجِّية من اللوازم الذاتيّة للقطع، فقد ذهبوا إلى انتفاء الحجِّية في حالة عدم وجود القطع. وعلى هذا الأساس قالوا بقاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ([9]).
يقول السيد الشهيد الصدر هنا: علينا أن نبحث في هذه المسألة، وهي القطع بأمر أيّ شخصٍ يكون هو المنجِّز؟ فهل القطع بأمر كلّ شخصٍ هو المنجِّز أم أن المنجِّز هو القطع بخصوص أمر المولى؟ من الواضح جدّاً أن المنجِّز ليس هو القطع بأمر كلّ شخصٍ، بل القطع المنجِّز هو القطع بأمر المولى. فحيث تكون المنجِّزية دائرةً مدار حكم العقل فإن العقل لا يرى المنجِّزية لأمر كلّ شخصٍ، بل إن العقل إنما يحكم بتنجيز ووجوب أمثال أمر الشخص الذي أثبت له المولويّة، وأوجب له حقّ الطاعة. فتكون النتيجة هي أن المنجِّزية إنما تكون تابعةً للقطع بأمر المولى، وليس مطلق القطع. فإذا قلنا ذلك ستكون النتيجة أن الحجّية والمنجِّزية تدور مدار المولويّة، وبعبارةٍ أخرى: إن الحجِّية والمنجِّزية من شؤون المولويّة، وليست من شؤون القطع. وأضاف سماحته بعد ذلك، قائلاً: ثمّ نسأل ذات هذا العقل ـ الذي قال بوجوب الامتثال لأمر المولى ـ: هل وجوب الامتثال هذا، وبعبارةٍ أخرى: الحجِّية والمنجِّزية، منحصرٌ بظرف القطع بأمر المولى أو يشمل حالات الظنّ والشكّ أيضاً؟ وبعبارةٍ أخرى: هل حقّ الطاعة للمولى منحصرٌ بالتكاليف المعلومة فقط أم هو شاملٌ للتكاليف المشكوكة والمظنونة أيضاً؟ وعلى هذا الأساس، فإن البحث هنا يقع حول دائرة مولويّة المولى([10]).
يقول السيد الشهيد الصدر: نحن نرى أن العقل في هذه المسألة يذهب إلى القول بالتوسعة؛ بمعنى أن مقتضى حكم العقل هو ثبوت حقّ الطاعة لله تبارك وتعالى في كلّ أوامره المنكشفة للمكلَّفين، سواءٌ أكان هذا الانكشاف على مستوى القطع أم لا، ولكنْ هذا إنما يكون ـ بطبيعة الحال ـ ما لم يصدر إذنٌ من المولى نفسه بالترك. وهذا يعني أن المهمّ في تنجُّز التكليف هو انكشاف أمر المولى، وأما القطع بما هو قطعٌ فلا تأثير له في هذه المسألة، بل حتّى إذا كان للقطع بأمر المولى منجِّزية فمردّ ذلك إنّما هو إلى حيثيّة الانكشاف الموجود في القطع، وليس إلى حيثيّة القطع بما هو قطعٌ. وبعبارةٍ أخرى: إن المنجِّزية لم تتعلَّق بالقطع بما هو قطعٌ، بل تعلَّقَتْ بالقطع بما هو انكشافٌ. غاية ما هنالك أن لهذا الانكشاف مراتب، وهي ـ بشكلٍ عامّ ـ عبارةٌ عن القطع والاحتمال (بمعنى الظنّ والشكّ والوَهْم). وإن العقل يثبت حقّ الطاعة للمولى في جميع مراتب الانكشاف، ما لم يصدر ترخيصٌ من قِبَل الشارع بطبيعة الحال([11]).
1ـ الدليل والمستند
قد يَرِدُ هذا السؤال القائل: ما هو برهان ودليل السيد الشهيد الصدر على هذه المسألة؟
يقول سماحته: إن الدليل على هذه المسألة هو الوجدان، ببيان أن أساس المشكلة قد نشأ من قياس المولى الحقيقيّ إلى الموالي العرفيّين، وتسرية الحكم الثابت لدى العُرْف بحقّ الموالي العُرْفيين إلى المولى الحقيقي. في حين أن هذا قياسٌ باطل؛ فلو تمّ الالتفات إلى المولى الحقيقي بما له من الخصائص والأوصاف فإن العقل في ما يتعلَّق بهذا المولى سيحكم قطعاً بتنجُّز التكليف، حتّى في الأمور المشكوكة أيضاً([12]).
بيان المسألة: إن المشهور في استناده إلى قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ ـ والتي تقتضي في الحقيقة تضييق دائرة المولويّة وحقّ الطاعة([13]) ـ يستشهد بعُرْف العقلاء([14])، ببيان أن الموجود بين الموالي العُرْفيين هو استقباح معاقبة العبد على ترك التكاليف المشكوكة، أي إن العبد إذا كان جاهلاً بأمر مولاه، وخالفه؛ بسبب جهله، تكون معاقبته من قِبَل المولى في مثل هذه الحالة قبيحةٌ. فهكذا الأمر بالنسبة إلى محلّ بحثنا؛ بمعنى أن العبد إذا لم يكن عالماً بتكاليف الشارع، وبسبب عدم علمه لا يبادر إلى امتثالها، لن يكون العبد في مثل هذه الحالة مستحقّاً للعقاب، وإن معاقبته من قِبَل الشارع قبيحةٌ. في حين أن هذا الاستدلال خاطئٌ من الأساس([15])؛ وذلك لأنه يقوم على أساس تفكيرٍ باطل، يساوي بين المولويات، ويرى لها معنى واحداً، ولا يرى فَرْقاً بين المولى الحقيقيّ والمولى العُرْفي. ومن هنا تمّ قياس مقتضيات الموالي العُرْفيين، وتعميمها على المولى الحقيقي، في حين أن مولوية الله تعالى، الثابتة بملاك المالكية والمنعمية المطلقة، تختلف عن المولوية المجعولة بجعل جاعلٍ، من قبيل: المولوية بالنسبة إلى الموالي العُرْفيين، المجعولة لهم من قِبَل العُرْف. وعليه، يجب التفريق بين هاتين المولويتين. ومن هنا نقول: إن المولوية العُرْفية تجري في ظرف التكاليف المقطوعة فقط؛ وأما المولوية غير المجعولة فيتمّ تعريفها على أساس اختلاف حدود ودائرة حقّ المولى تجاه العبد، بلحاظ منعميّته ومالكيّته. وعلى هذا الأساس، فإن تحديد وضيق مولويّةٍ هنا لا يؤدّي بالضرورة إلى تحديد وتضييق مولويّةٍ هناك([16]).
2ـ أقسام المولويّة
وللمزيد من التوضيح لا بُدَّ هنا من بيان أقسام المولويّة، والاختلافات فيما بينها.
لقد قسَّم السيد الشهيد الصدر المولوية إلى ثلاثة أقسام([17])، وهي:
1ـ المولوية الذاتيّة: والمراد منها هو المولويّة التي تثبت دون أيّ جعلٍ واعتبار؛ فهي في الحقيقة أمرٌ واقعي، وتقع على مستوى واقعيّات اللوح. وهذا النوع من المولوية ـ بحكم مالكيّة الله لجميع العالم، والثابتة له بملاك خالقيّته ـ تختصّ بالله سبحانه وتعالى. وبعبارةٍ أخرى: حيث إن الله تعالى؛ بحكم خالقيّته، مالك لجميع العالم تكون مولويّته على العالم مولويّة ذاتية.
وهذا الأمر يثبت، ويمكن إدراكه، دون أخذ ملاك شكر المنعم ـ الذي هو أحد الملاكات، التي أثبت الحكماء بواسطتها ثبوت المولويّة وحقّ الطاعة لله سبحانه وتعالى ـ بنظر الاعتبار؛ وذلك لأن ملاك الخالقية والمالكيّة مبنى، وثبوت حقّ الطاعة لله بملاك شكر المنعم مبنىً آخر، فهما أمران مختلفان([18]).
وبعبارةٍ أخرى: هناك ملاكان ومبنيان في ثبوت المالكيّة وحقّ الطاعة لله سبحانه وتعالى:
أـ إن مولوية الله ثابتةٌ على أساس منعميّته. وحيث تكون منعميّة الله تعالى مطلقةً، ولا يحدّها حدٌّ؛ تكون مولويّته الناشئة من هذه المنعميّة بدَوْرها مطلقةً، وليس لها حدٌّ.
ب ـ إن مولوية الله ثابتةٌ على أساس مالكيّته. وبعبارةٍ أخرى: إنها تنشأ من مالكية الله. وحيث يكون الله مالكاً للإنسان وجوارحه يكون تصرُّف الإنسان في نفسه وجوارحه تصرُّفاً في مال غيره. وعليه يجب على الإنسان في ظرف الشكّ أن يحرز قبول مالكه الحقيقيّ، الذي هو الله سبحانه وتعالى([19]).
وعليه، يقول السيد الشهيد الصدر: إن المولويّة وحقّ الطاعة لله سبحانه وتعالى ثابتة بالملاك الثاني، أي بملاك مالكيّة وخالقيّة الله تعالى. ولا حاجة إلى الملاك الأوّل في إثبات ذلك.
2ـ المولوية الجَعْليّة: وهذا النوع من المولويّة ينقسم بدَوْره إلى قسمين:
أـ المولوية الجَعْليّة المجعولة من قِبَل المولى الحقيقي، من قبيل: المولوية المجعولة للنبي الأكرم| والأئمّة الأطهار^. وهذا النوع من المولوية تابعٌ ـ في سعة وضيق دائرة المولويّة وحقّ الطاعة ـ للجَعْل المجعول من قِبَل المولى الحقيقي.
ب ـ المولوية التي يجعلها العقلاء لبعضهم في إطار التوافق فيما بينهم، من قبيل: المولوية للحكّام والموالي الاجتماعيّين.
وهذا النوع من المولوية تابعٌ في سعة وضيق المولوية ولزوم الطاعة لذلك الجَعْل والتوافق العقلائي([20]).
وعليه، لا يمكن البحث في الحجِّية ـ من وجهة نظر السيد الشهيد الصدر ـ دون النظر إلى آفاق وأبعاد المولويّة. وكذلك لو بدأنا تحليلنا في مورد ما يقتضيه حكم العقل في الشبهات البَدْوية، دون النظر إلى هذا البُعْد، فسوف نصل إلى نتائج خاطئةٍ؛ وذلك لأننا لو دقَّقنا النظر فسوف ندرك أن البحث عن الحجِّية والمنجِّزية يعود إلى دائرة حقّ الطاعة، وحيث إن حقّ الطاعة تعبيرٌ آخر عن المولوية([21]) فإن البحث عن الحجِّية والمنجِّزية يعود في الحقيقة إلى مولوية المولى. وإن ما هو الحجّة والمنجِّز يرتبط ارتباطاً مباشراً بدائرة المولوية وحقّ الطاعة للمولى. فلو افترَضْنا المورد داخلاً ضمن دائرة مولوية المولى فإن العقل سيحكم قطعاً بتنجيزه، وقُبْح مخالفته، واستحقاق فاعله للعقاب. وأما إذا افترضنا المورد خارجاً عن دائرة المولويّة وحقّ الطاعة فإن العقل لا يحكم هنا بالتنجُّز. وبعبارةٍ أخرى: يمكن القول في الأساس بأن موضوع الحكم بالتنجيز يكمن في تحقُّق مولويّة المولى. وعليه لو لم يكن هناك وجودٌ لهذه المولوية يكون موضوع حكم العقل بالتنجُّز منتفياً، وبالتالي يكون الحكم بالتنجيز منتفياً أيضاً.
وعليه، يتّضح طبقاً لهذا التفصيل المتقدِّم أن البحث في المنجِّزية يعود إلى المولوية؛ بحيث يُعَدّ كلّ نوعٍ من أنواع التفصيل العقليّ في الحجِّية في الحقيقة تفصيلاً في المولوية([22]). ولا يصحّ الفصل بين دائرة «المولويّة وحقّ الطاعة» ودائرة «الحجِّية والتنجيز العقلي»، بل هناك ارتباطٌ وثيق بين هاتين الدائرتين. ولذلك يجب من الناحية المنهجية أن نبحث أوّلاً في دائرة مولوية وحقّ الطاعة للمولى.
وعليه تكون خلاصة المدَّعى إلى هنا هي أن مولوية المولى تشمل حتّى موارد عدم حصول القطع بالتكليف. وعليه، حتّى لو توهَّم المكلَّف التكليف ثبتَتْ في حقِّه مولوية المولى وحقّ الطاعة. ومن هنا فإن جميع هذه الحالات تكون مشمولةً للتنجُّز العقلي، باستثناء حالة القطع بعدم التكليف. ولذلك يتمّ على هذا الأساس إنكار قاعدة قُبْح العقاب بلا بيان.
وعليه، فإنه طبقاً لما تقدَّم من بيان آراء السيد الشهيد الصدر ضمن هذه المقدّمات الثلاثة، وهي:
أوّلاً: إن الحجِّية والمنجِّزية من شؤون المولوية ـ دون القطع ـ، وإن الفصل بين هاتين الدائرتين خاطئٌ، على ما تقدَّم إثباته.
ثانياً: لا موضوعية للقطع بما هو قطعٌ، بل الذي له الموضوعية هو ذات الانكشاف، سواءٌ أكان على نحو القطع أو الاحتمال (الشامل للظنّ والشكّ والوَهْم).
ثالثاً: التفكيك بين دائرة الطاعة للموالي العُرْفيين ودائرة الطاعة للمولى الحقيقي؛ حيث لكلتا الدائرتين مقتضياتٌ مختلفة، وإن مولوية الله سبحانه وتعالى مولوية ذاتية.
يثبت طبقاً لهذه المقدّمات الثلاثة أن هذه المالكيّة والمنعميّة لله تعالى تقتضي منّا وجوب امتثال الحكم، وثبوت حقّ الطاعة، حتّى في ظرف الشكّ بالحكم الشرعي. وعليه، لا يبقى هناك موضعٌ لجريان البراءة، التي تستند إلى قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ.
وأرى أنه، بعد الالتفات إلى ما تقدَّم من الأبحاث، لا يبقى هناك شخصٌ لا يقول بسعة دائرة المولويّة بالنسبة إلى المولى الحقيقي، وذلك بالنحو الشامل حتّى للتكاليف الموهومة أيضاً([23]).
النتيجة
نصل من خلال التدقيق في نظريّتَيْ السيد الروحاني والسيد الشهيد الصدر إلى هذه النتيجة، وهي أنه على الرغم من أن كلا هذين العَلَمين قد أنكر القاعدة العقلية القائلة بقُبْح العقاب بلا بيانٍ، إلاّ أن الطريق الذي سلكاه في إنكار هذه القاعدة كان مختلفاً تمام الاختلاف، وبالتالي فإن النتائج التي توصَّلا إليها من خلال ذلك كانت مختلفةً أيضاً.
وباختصارٍ، فإن السيد الروحاني سعى إلى إبطال قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ، من خلال مناقشة الأقوال الثلاثة في بيان ماهيّة العقاب والثواب. والنتيجة التي توصَّل إليها هي مجرّد الخَدْش في قاعدة قُبْح العقاب وإبطالها، دون أن يكون له رأيٌ من الناحية الإثباتية. وبعبارةٍ أخرى: إنه لم يقُلْ بتنجُّز التكليف واستحقاق العبد للعقاب حتّى في ظرف الشك أيضاً؛ لاعتقاده بعدم العلم بملاك ترتُّب العقاب الأخروي. وعليه؛ حيث لا نعلم ما هو الملاك في ترتُّب العقاب الأخروي، لا نستطيع القول بقُبْح أو عدم قُبْح العقاب في ظرف الشكّ. ولذلك فقد سَكَتَ عن بيان هذه المسالة.
وأما السيد الشهيد الصدر فإنه، من خلال بحث وتنقيح الاختلاف بين المولى الحقيقي والموالي العُرْفيين، قال ببطلان القياس بين هذين النوعين من المولوية. وبعد ذلك سعى ـ من خلال بحث سعة دائرة مولوية المولى الحقيقي من جهةٍ، وعدم صحّة الفصل بين المولوية والحجِّية من جهةٍ أخرى ـ إلى إبطال نظريّة المشهور. وبناءً على ما قدَّمه سماحته من البيان في هذا الشأن قال: أوّلاً: ببطلان قاعدة قُبْح العقاب بلا بيانٍ؛ وثانياً: بتنجُّز التكليف في ظرف الشكّ بالحكم الشرعي، واستحقاق العبد للعقاب في ظرف الشكّ في حالة المخالفة. وبعبارةٍ أخرى: إنه يرى أن القاعدة الأوّلية والعقليّة في ظرف الشكّ في التكليف واحتماله هي الاحتياط، وليس الترخيص أو الإباحة.
وبطبيعة الحال لا بُدَّ من التذكير في نهاية المطاف بأن السيد الشهيد يرى أن لهذا الحكم العقليّ ماهيّةً تعليقيّة؛ بمعنى أن الحكم العقليّ بوجوب الامتثال معلَّقٌ على عدم ورود الترخيص بالترك من قِبَل المولى الحقيقي.
الهوامش
(*) أستاذُ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في قم، وأستاذٌ مساعد في قسم الفقه ومبادئ الشريعة الإسلامية في جامعة الإمام الصادق× في طهران.
(**) أستاذٌ في جامعة الإمام الصادق× في طهران، متخصِّصٌ في الفقه والقانون.
(***) باحثٌ في الحوزة العلمية في قم، وطالبٌ في مرحلة الماجستير في جامعة الإمام الصادق× في طهران.
([1]) انظر: محمد الروحاني، منتقى الأصول 4: 438 ـ 439، تصحيح: عبد الصاحب الحكيم، مكتب السيد محمد الحسيني الروحاني، إيران ـ قم، 1413هـ.
([2]) انظر: المصدر السابق 4: 440.
([4]) انظر: المصدر السابق 4: 441.
([8]) انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول 2: 22، دار المنتظر، بيروت، 1405هـ.
([9]) انظر: المصدر السابق 3: 35.
([10]) انظر: المصدر السابق 2: 22 ـ 23.
([11]) انظر: المصدر السابق 2: 23.
([12]) انظر: السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 5: 25، دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، 1417هـ.
([13]) انظر: الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 11: 58، الدار الإسلامية، بيروت ـ لبنان.
([14]) انظر: الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 2: 58، تحقيق: لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، مجمع الفكر الإسلامي، قم ـ إيران، 1428هـ.
([15]) انظر: الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 11: 58.
([16]) انظر: المصدر السابق 11: 58.
([17]) سيتّضح أنه لم يتّم تقسيم المولوية إلاّ لقسمين فقط، وهما: المولوية الذاتيّة (الحقيقية)؛ والمولوية الجَعْلية (الاعتبارية). نعم، تنقسم المولوية الجعلية بدَوْرها إلى قسمين آخرَيْن؛ فلاحِظْ. (المعرِّب).
([18]) انظر: السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 4: 28 ـ 29.
([19]) انظر: الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 11: 58.
([20]) انظر: السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 4: 29.
([21]) «إن جوهر المولوية معناه حقّ الطاعة، الذي هو من مدركات العقل العملي». انظر: الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 9: 10.
([22]) انظر: السيد محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في علم الأصول (تقريراً لأبحاث السيد الشهيد محمد باقر الصدر) 4: 30.