المدرسة الـتأويلية الإيرانية المعاصرة
رصد تقويمي للمشروع الهرمنيوطيقي لمحمد مجتهد شبستري
د. أحمد بهشتي(*)
تمهيد
تتطرَّق هذه المقالة، أولاً، إلى بحث اختلافات علماء التأويل، وتوضِّح بعد عرضها لعدة نظريات تأويلية مهمة، صعوبة الكلام على مستلزماتها وآثارها، إذا أخذت في الاعتبار العقائد والآراء المختلفة والمتفرِّقة. ثم تتطرق إلى تحقيق رسالة تبحث في المقالات التأويلية وإلى نقدها، وتتكلم على لوازمها وآثارها من قبيل:
1- النسبيّة لا الإطلاق.
2- التطبيق والتأويل لا التفسير.
3- تحميل النص توقعات المفسّر ورغباته.
سيتوضح، من خلال هذه المقالة، أن ليس كلُّ نصٍّ بحاجة إلى التفسير، وما إذا كان هنالك من حاجة إلى تفسير النصوص والظواهر أم لا.
بمساعدة النصوص والظواهر يتوضّح المعنى المركزي، وبعد ذلك تفسّر العبارات التي ليست نصّاً ولا ظاهراً بمساعدة الشواهد والقرائن الخارجية. وبما أن التفسير عمل اجتهادي، هنالك احتمال أيضاً أن تظهر الاختلافات، هذه الاختلافات حتى وإن لم تكن كبيرة يمكن تجنّبها، بتوخِّي الدّقة الكاملة في استخدام ضوابط التفسير(1).
وعلم التفسير هو فنّ الفهم، ولكن هل التفسير معناه التوصّل إلى فهم النصوص أو أنه يشمل دائرة أوسع؟ وهل هو متعلّق بفهم النصوص فقط أو أنه يحتاج مع الفهم إلى الفن؟ وهل المتون جميعها بحاجة إلى التفسير؟ وحيث يتوجب التفسير ما مفتاحه؟
يقول بعض الباحثين: “إن علم التفسير هو ذلك العلم التقليدي الذي له علاقة بفنّ الفهم”(2)، ولذلك ترجموا الهرمنيوطيقا بعلم التفسير أو الإطلاع المعمق(3).
ويرى بعض آخر أن لفظة التأويل تتضمن الإشارة إلى ثلاث مراحل: “العلامة” “الرسالة أو النص المحتاج إلى التفسير” و”المفسِّر” والأقسام الثلاثة المذكورة، تتضمن المسائل العقلية الآتية(4):
1- ما هي ماهية نص ما؟
2- ماذا يعني فهم النص؟
3- كيف يمكن للفهم وللتفسير، من طريق الفرضيات المسبقة ومعتقدات المخاطبين، أن يقدّم فهماً معيّناً للنَّص؟ إن التأمل الجدّي للمسائل الثلاث المذكورة أعلاه، يبيّن أن “التفسير” يحتاج إلى تفسير.
يرى “غادامر“، في كتابه “الحقيقة والأسلوب“، أن “الإدراك التفسيري يشمل مجالاً واسعاً، أرفع من الإدراك الجمالي… ويجب أن يُعرّف علم التفسير بحيث يتضمن أيضاً الإدراك الفنّي.
يجب أن يُتصوّر الفهم بوصفه عنواناً جزئياً في مسار تحقّق المعنى، الذي تتشكّل فيه معاني القضايا المرتبطة بالفن وبسائر العلوم النقلية وتتصل إلى الكمال… إنّ هذا العلم يتخطّى غايته العملية الأصلية التي هي تهيئة إمكانيَّة فهم المتون الأدبيّة وتبسيطها… وينطبق هذا الأمر على جميع العلوم النقلية والفنون وكل الإبداعات المعنويّة الماضية، وعلم الحقوق والدين والفلسفة وأمثالها، وفي الخلاصة كل ما هو غريبٌ عن معناه الأصلي، ويحتاج إلى مرشدٍ يكشف أسراره، وإلى وسيط ـ أي ما نسميه تأسّيا باليونانيين: هرمس (Hermes)، أي ربّ النوع، رسول الآلهة، أو جبرائيل”(5).
علم التأويل هو المبيّن لقواعد التفسير، والتفسير هو وسيلة الفهم، ولكن هل يتوافق الجميع على هذه القواعد؟
يعتقد “غادامر” أن كلاًّ من “شلايرماخر”(6) (1768 ـ 1834) ـ الذي يعدُّ مؤسس التأويل الجديد ـ وهيغل قد تورط في موضوع علم التفسير بنوع من النظرة الإفراطية، على أنهما اهتما بمنهج إعادة الصياغة والإدغام، وعدَّا منشأ علم التفسير غريباً مقابل النقل(7).
لقد أراد “شلايرماخر” تجديد الخصوصيات الأصيلة للأثر في الذّهن. أي إعادة صياغة الحياة الأولية وإحياء الأبنية السابقة بشكلها الأوّلي، وإعادة التصاوير والمجسّمات إلى مكانها الأصلي؛ وهذا كله يعبر عن معنى واحد هو: “إنّ الهدف من التفسير هو أن نحصل من جديد على نقطة الاتصال مع ذهن الفنّان، ومن خلال نقطة الاتصال هذه، يمكن لأي أثر فنيّ أن يصبح قابلاً للفهم بصورة كاملة”(8).
يقول “دلامر” في نقده لنظرية “شلايرماخر التأويليّة:
“لا شكَّ في أنّ إعادة صياغة الشروط التي تدل على خصوصيات الأثر المنقول الأصلية، تقدم المساعدة المناسبة لفهم ذلك الأثر، لكن، هل ما نحصّله على هذا النحو هو في الواقع الشيء نفسه الذي كنا نبحث عنه تحت عنوان معنى الأثر؟“(9).
رأي هيغل: يرى هيغل “أن إعادة صياغة الماضي غير ممكنة، ولا يمكن الحياة في الفضاء الأصلي لتلك الآثار الفنّية. إنَّ الشجرة التي تقدم لنا جناها من الثمار، هي شيء أرفع من ماهية الثمار، يسري في ظروف خاصة وفي عناصر الثمار والشجرة. وهكذا فإن الروح التقديرية التي تضعها هذه الآثار الفنّية تحت تصرفنا هي أيضاً أرفع من الحياة المعنوية والواقعية لأي أمة”(10).
يقول “غادامر” في كتاب “الحقيقة والمنهج“:
“يرى هيغل أن هذه الفلسفة ـ التي تمتد جذورها على مدى التاريخ ـ يمكنها أن تطلُع من عهدة التفسير. إن موقف هيغل هذا هو بالضبط الموقف المقابل لذلك الإدراك التاريخي الذي يريد أن ينسى نفسه في الكل.
إن طريقة تصور الماضي في هذا السؤال، وهي نفسها مقيّدة بقيود التاريخ، تتبدل إلى طريقة تفكّر وتأمّل في التاريخ. وعلى هذا النحو يعبّر هيغل عن هذه الحقيقة المهمّة، لأنّ حركة التاريخ ليست في تصحيح الماضي؛ وإنما في الوساطة الفكريّة القائمة بين الماضي والحاضر“(11).
رأي غادامر: برى غادامر أنَّ رأي هيغل في فهم الحوادث التاريخية مهم، وأفكار الرجال الكبار وأعمالهم موافقة لمسيرة التاريخ ولتجلي حقيقة ذلك العصر وظهورها. فالعمل الذي ينجزه الفرد والقرارات التي يتخذها موافقة لميول الزمان الكليّة، ومن الممكن، من خلال تفسير آراء الأشخاص وأفكارهم وأفعالهم، إدراك أحوال التاريخ والعصر.
لقد قام غادامر، من أجل توضيح ماهية التأويل، بالتحقيق في شروط إدراك الفنّ، وفهم التجارب التاريخيّة؛ وبحسب رؤية الرومنطيقيين يجب علينا، لتفهم الأثر الفنّي، أن نشارك النوابغ في فهمهم متعة إبداعهم، لكن ليس بإمكان أيٍّ كان أن يفعل ذلك، ويكون ادعاءً مبالغاً فيه، إذا فكرنا أن بإمكاننا أن نشارك مفكرين كأفلاطون وأرسطو في أفكارهم؛ حتى وإن كان هذا ممكناً أيضاً، ماذا ترانا نقول في شأن الخرافات التي ليس لها مؤلّف خاصّ؟ إن الكتب السماوية، ليست نابعةً من تفكير البشر ـ حتى كُتّاب الأناجيل، لم يكتبوا رؤيتهم الشخصيّة ـ وإن كان الأمر على هذا النحو جزئياً فإن مشاركتهم في أفكارهم غير ممكنة كذلك.
وعلى الرُّغم من أن “غادامر” ليس من أتباع هيغل، فإنّ رأيه المتعلق بفهم الحوادث التاريخية يعدّ مهماً. والمهم في نظره بالنسبة إلى المفسّر هو المشاركة اللغوية، لأن الفهم هو فهمٌ لغويٌ، واللغة في التأويل هي محورُ الفهم، ولكن التأويل ليس الألسنيّة؛ إنَّ التفهم ولغة التفهّم متزامنان، إذاً التأويل ليس مختصّاً بالفلسفة، وليس تفكيراً متعلقاً بعصر معيّن(12).
إضافة إلى أنّ غادامر لم يضع حاجزاً بين العلوم الطّبيعية والعلوم الإنسانيّة، فقد سمى في حوزة علم الاجتماع الكانطي “الفيزياء الاجتماعية“، وقد أكد دوركايم، في أحد فصول كتابه “قواعد علم الاجتماع ومناهجه“، أن من الواجب استخدام المنهج نفسه المستخدم في العلوم الطبيعيّة”(13).
1 ـ شلايرماخر: (1768 ـ 1834)
لقد سمّى ديلتاي شلايرماخر “كانط التأويل“، فهو يريد من التأويل أن يحلّ المشاكل والتناقضات المتعلقة بالتفسير. لقد أُجريت قبل “شلايرماخر” أبحاث في الفرق بين “التفسير القدسي“، و”التفسير الدنيوي“، وصنع كلُّ واحد من حملة لواء تفسير العهدين لحناً وعَزَفه.
لقد أراد شلايرماخر، من وضِعه لأسس التأويل، أن يتبع المفسّرون المعايير والملاكات والضوابط، ويبتعدوا عن الاختلافات، ويفسّروا كلّهم النصّ على نحوٍ واحد.
واللاَّفت أنه لم يقترح في الوقت نفسه منهجاً خاصاً، على الرّغم من أن بعض الباحثين قللوا من أهميّة منهج القواعد الخاص و”قوانين الدلالة” فقد أولى شلايرماخر هذه الناحية أهمّية خاصّة، وكما رأينا فقد عدّ “دلامر” أيضاً “الاشتراك اللغوي” مهماً. لا يعني “الاشتراك اللغوي” أو “المشاركة اللغوية” أنَّ المخَاطب والمخاطِب يفهم أحدهما لغة الآخر، ومن هذا المعبَر يصلان إلى الفهم المشترك؟
لقد أثبت أنّ الكتابَ المقدس لا يحتاج إلى أي منهج خاص، وإنما يجب فقط إيجاد الأبنية النحويّة والشروط السيكولوجيّة اللازمة لفهم أي نص، لقد أعطى للغة الأهميّة القصوى، لأن فهم المعاني التي تتضمنها آراء الأشخاص، يتيسّر بوساطة اللغة.
لقد أخذ شلايرماخر، في اعتباره من أجل النظرية التأويليّة، المحورين الآتيين:
1- الفهم النحوي لأنواع العبارات والصّور اللغوية الثقافيّة التي يعيش فيها المؤلف، وتفكيره مشروطٌ بها ومتعيّنٌ بوساطتها.
2- الفهم الفنّي أو النفسي لذهنية المؤلف الخاصّة أو لنبوغه الخلاّق، وهو في هذين المحورين يتبع المفكّرين الرومانسيين، الذين يَرَوْن أن أسلوب تعبير الفرد، على الرغم من أهميته وقراءته، يعكس روحيةً أو إحساساً ثقافياً أوسع.
هذا العمل يحتاج نوعاً ما إلى عملٍ مسبق وحركةٍ شهوديّة، تمكّن المفسّر من تحرير معرفة المؤلف، للتوصل إلى فهم أفضل من فهم المؤلّف.
حتى العام 1920، كانت مذاهب النقد الأدبي الإنجليزية والأميركية الواقعة تحت تأثير “شلايرماخر” بصورة عامة، تعتقد بأنَّ هدف التفسير كشفُ نيَّةِ المؤلّف. أما أتباع فرويد وماركس، فقد بيَّنوا أن للنصّ الأدبي حياةً مستقلة عن المؤلّف، وليس لفهمه علاقة بنيّة المؤلّف إلى هذا الحدّ. في كل الأحوال، لنظريته تأثير أقلّ في كشف نيّة المؤلّف، وتأثير أكبر في موضوع الدّين.
2 ـ ويلهالم ديلتاي (1833 ـ 1911)
كان ديلتاي يريد أن يبني أساساً علمياً، يمنح نتائج العلوم الإنسانيّة قدراً من الاعتبار مساوياً لقدر العلوم الطبيعيّة، علماً أن التوفيق لم يحالفه بسبب ظهور بعض الفروع المتخصّصة ونموها الزّائد، وسيطرة المذاهب الأسلوبية، واحتلالها مكان التأويل(14).
كان تأويل ديلتاي يريد أن يوجد نظاماً أساسياً للعلوم الإنسانيّة مقابل العلوم الطبيعيّة، ومع أنّه متأثر بشلايرماخر، فإنَّه رفض عقيدة شلايرماخر القائلة: “إن كلَّ أثر هو حصيلة نيّة موجودةٍ في الذّهن بصورة ضمنيّة“.
لقد انتقد كانط العقل المحض وديلتاي العقل التاريخي، مستنداً على التمايز بين “التفهيم” و”التبيين“.
ولقد استند، في تبيين الحوادث الطبيعية، على استخدام القوانين الكليّة، ولكن المؤرخ يسعى وراء فهم أفعال صانعي الأحداث، فيتوصّل من طريق الكشف عن نواياهم وآمالهم وطبائعهم وشخصياتهم إلى فهم أفعالهم. هذه الأفعال قابلة للفهم لأنها بشرية ولها باطنٌ على عكس الحوادث الطبيعية، وبإمكاننا أن ندركها نحن بسبب بشريتها. إذاً التفهم يعني “اكتشاف الأنا في الأنت“، وهذا يمكن قبوله بدليل الماهية البشرية العامة. لقد تابع من ثمّ “ماكس ڤيبر” الألماني (1920 ـ 1964) طريق ديلتاي.
أولاً، ديلتاي و”ڤيبر” قلّلا من تأثير العلاقة في اكتشاف نيّة المؤلف، وثانياً، سعيا من أجل إيجاد “منطق الفهم” بوصفه فاعليَّة آحاديّة بالنسبة إلى العلوم الإنسانية. حتماً لقد اتكأ ديلتاي على إثبات “إمكانيّة الفهم” في بعض النظريات المتعلقة بالبنية البشرية وتجلياتها، كما اتكأ ڤيبر على أنواع الأعمال الاجتماعية.
لقد أثّر شلايرماخر وديلتاي كلاهما في “يوافيم ڤاخ” الألماني الذي هاجر في العام 1953 إلى أمريكا، والذي أراد أن يؤسّس للتفسير الديني بوصفه فرعاً عينيَّاً وتوصيفيّاً ومحرّراً من ادعاءات علم الكلام. لقد كان يسعى كديلتاي إلى وصف الشروط الضرورية للفهم، ورأى كشلايرماخر أن الفهم يستلزم نوعاً من التعاطف، بحيث أنّّ شعور التعلّق بالدين ضروريٌ لفهم الدين، وقد عدّ الميول الدينية خصلةً نابعة من ذات البشر.
3 ـ سيغموند فرويد (1856 ـ 1939)
في نظريات “فرويد” و”يونغ” السيكولوجيّة التي تشرح سلوك البشر وأنماطهم، على أساس القوى الروحيّة اللاواعية، تضخّم ضمير اللاوعي إلى حدّ اشتماله على الرؤى والأحلام وزلاّت اللسان، التي تتدخل في تكوين النص، ولقد وصل بهما الأمر إلى عدّ الفن والدين متضمنين لمعانٍ لاواعية، لقد رفض فرويد الكلام على نيّة المؤلف وعدّها مقولة سطحية، وأكثر من ذلك، قدّم معنى مختلفاً في حكم التأويل التقليدي، حيث يقول: “إن المفسّر يفهم المؤلّف أفضل مما يفهم نفسه“، وعدّ ذلك ضرورياً.
المفسِّر، في نظر فرويد، يحمل مفتاحاً خاصاً معه، يمكن أن يفتح بوساطته، قفل المعاني اللاواعية والغريزية والقناعات المسجونة فيها التي تعوِّق صفة معيّنة من المظاهر الحياتية، على نحوٍ أكثر علمية. إن التفسير العلميَّ هو الذي يفتح أقفال المتون المغلقة(15).
4 ـ مارتين هايدغر (1889 ـ 1976)
مع أن مارتين هايدغر، في كتابه “الوجود والزمان”، متأثر بديلتاي، إلاّ أنَّه يرى أن ديلتاي لم يتغلّب على الميول الذهنية. في نظره، أن فهم الجماعة البشرية للعالم، يبدأ من الطريق الذي يسبق صياغة الفهم ـ أي الفرضيات والتوقعات والمفاهيم المشكّلة “للفهم” ـ. وهو يسمي هذه الحال: الوضعية التأويلية. لوجود البشر أيضاً وضعية هي المجال الذي تُصاغُ فيه تفسيراتنا المحليّة.
يرى المتكلم الألماني بولتمان (1884 ـ 1976) أن تحليل هايدغر للوجود البشري هو البناء العقلي لتفسير العهد الجديد، ومن هذا الطريق يمكن فصل المفاهيم الدينية الأساسيّة عن قوالب القرن الأول الميلادي الأسطورية. وإن غادامر سعى لفهم تأويل هايدغر من جديد فانتقد شلايرماخر وديلتاي.
شلايرماخر وديلتاي عدّا المسافة الفاصلة بين المفسّر والمؤلف مجالاً لسعة الفهم، غادامر كهايدغر يعتقد بأنَّ الفرضيّات هي مجالٌ للفهم، ولسوء الفهم، ففي نظره “يفسّر الشيء أو النصّ في نظرة خاصةٍ متعلّقةٍ هي نفسها بسنَّة خاصّة، تصوغ أفقاً خاصاً تصبح كلُّ الأشياء في إطاره صالحةً للفهم، هذا الأفق يطرأ عليه التعديل على أثر مواجهته للأشياء، لكن لا وجود مطلقاً لأيّ تفسير نهائي وعيني“(16).
اميليو پتي، انتقد غادامر لأنه لم يفرّق بين تفسير ذهنيّ وتفسيرٍ معتبر شامل. وألغى مجال حدوث مثل هذا الفرق كلّياً.
5 ـ التأويل من دون “قواعد”
هنالك أشخاص ليس لديهم أي رغبة في تدوين القواعد لتفسير النصوص. “فماري هشر” متعلقة بفلسفة العلم، ولا تعتقد بأي تمايز دقيق بين التبيين والتفسير. قال بعضهم: لا وجود لأيّ أسلوب صحيح أو غير صحيح لتفسير الوجود؛ هذا النوع من التفكير مصدره مقالات فيتغنشتاين (1889 ـ 1976) الذي يبحث في آثاره عن معنى الفهم، وعن كيفية فهمنا لإدراك آخر، ولكنه لا يقدّم قاعدة.
هو يعتقد بأنَّ تدوين نظريَّة عامة لـ”الفهم” أمرٌ محال، يجب أن نفهم فقط استخدام الألفاظ، كما يعتقد كهايدغر أن الوضعية البشرية نفسها تأويلية(17).
جمع الآراء ونقدها
تبيّن أن هنالك نظريّتين في وجود قواعد للتأويل أو عدم وجود ذلك، وأن فيتگنشتاين أحد أولئك الذين رفضوا قوننة التأويل، ويرى أن الفهم الجيّد لاستخدام الألفاظ كافٍ للتوصّل إلى التفسير الصحيح. نحن حتماً نعتقد بأنَّ فهم استخدام الألفاظ غير كافٍ، ومن الضروري استخدام التشخيص العام والخاص والمطلق والمقيّد والحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية، والناسخ والمنسوخ (في حال كان النّص يتضمّن ناسخاً ومنسوخاً).
لكن الذين يَرَون أنّ للتأويل قواعد لا يتفقون على رأي موحّد، فديلتاي، على عكس شلايرماخر، لا يوافق على الفهم النفساني للمؤلف وعلى فهم نبوغه. مع أن رأي فيتگنشتاين يستند على فهم الاستخدام الصحيح للألفاظ، فهو قريب من أحد محوري نظرية “شلايرماخر” التي هي عبارة عن فهم قواعد أنواع العبارات والصور اللغوية الثقافية للمؤلّف.
شلايرماخر يسير على خطى المفكِّرين الرومنطيقيين، بينما ديلتاي وفرويد ويونغ وماركس ليسوا كذلك، وهايدغر متأثر بدليتاي، ولكنه يعدّه متورطاً بالخضوع للميول الذّهنيّة.
النتيجة هي أن ليس بالإمكان، من خلال مجموعة من الأبحاث، التّوصل إلى خلاصة جامعة عن التأويل يمكن الكلام على آثارها ومستلزماتها العامة.
محمد مجتهد شبستري وتكوين الاتجاه التأويلي المعاصر في إيران
ظهرت، في إيران، في السّنوات الأخيرة، ترجماتٌ ومؤلفاتٌ عديدة تحت تأثير النحل التأويلية الغربيّة أحد نماذجها كتاب: “تأويل الكتاب والسنّة“(18).
تتمثَّل حسنة هذا الكتاب في نوعية تنظيم القوانين والقواعد التأويلية، ويتمثَّل عيبه الكبير في عدم ذكره للمصادر والمراجع.
بغض النظر عن الإفراط والتفريط والميول والاتجاهات الإيجابيّة والسلبية للآراء المختلفة، يمكننا أن ندّعي أن جميع المفكرين التأويليين في الغرب يتفقون على مسألتين:
إحداهما ضرورة التفسير؛ أعمّ من حصر التفسير في حدود النصوص القديمة، أو تعميمها على جميع الآثار الفنّية، والأخرى أنّ التفسير لا يمكن أن يكون بلا ضوابط. حتى أولئك الذين لم يضعوا قاعدة، اكتفوا في الحقيقة بوجود قاعدة واحدة، وهي أنّ من الواجب فهم كيفية استخدام الألفاظ. وبحسب هذه النظرية، إذا كان لدى الشخص إطلاعات كليّة على صرف اللغة ونحوها وعلى آراء اللغويين، كان مطلعاً على النصوص الشعريّة في لغة من اللغات، بإمكانه أن يفسّر نصّاً قديماً مأثوراً. حتماً، من الواجب إضافة شرط آخر في صدد النصوص الفنّية هو معرفة الفنّ.
من يريد أن يفسّر نصّاً كلامياً أو فلسفياً، يجب أن يكون من أهل الكلام والفلسفة، ومن يريد أن يفسّر نصّاً رياضياً أو طبيعياً أو حقوقياً أو فلكيّاً، يجب أن يكون مطّلعاً إطلاعاً كافياً على هذه العلوم، وإلاّ، مهما كان متمكناً من آداب لغة تلك العلوم، فإنه لن ينجح في مهمة التفسير.
مشروع شبستري، المقدّمات والمقوّمات
نبدأ بتحقيق المقدمات والمقوّمات التي وردت في كتاب: “تأويل الكتاب والسنّة” لنتعرّف إلى النتائج الناجمة عنها:
بحسب تعبير مؤلف الكتاب، يتوقف تفسير نصوص الكتاب وفهمها على خمس مقدمات:
1- مفاهيم المفسّر السّابقة (البعيدة عن التأويل).
2- العلاقات والتّوقعات التي توجّه المفسّر.
3- أسئلته حول التاريخ.
4- تشخيص النقطة المركزية في معنى النص وتفسيره، من ثم، بوصفه وحدةً تتمحور حول ذلك المركز.
5- ترجمة النصّ من خلال الأفق التاريخي للمفسّر.
بحسب هذه المقومات، لا يمكن للمفسر أن يفسّر النص، ما لم يكن يملك معارف أو فرضيّات مسبقة، فهو يجب أن يمتلك معرفة مجملة أو كثيرة الإجمال، ولا يمكنه إن انطلق من المجهول المطلق أن يفهم شيئاً من أيّ نصّ.
إن الفهم والتبيين ممكنان حين يعلم الإنسان شيئاً عن الموضوع، ولا يعلم عنه كلّ شيء في الوقت عينه. في كل مرّة يحدث تقدّم وتراجع يتكامل الفهم، وهذا ما سُمي “الدور التأويلي“.
ما هو الدور التأويلي وما هي أهميته؟
نقرأ، في إحدى المقالات، ما يأتي:
“ما الذي يعرفه من يجهل التأويل عن الفلسفة المعاصرة؟ ومن يجهل الفلسفة المعاصرة لا يدرك معنى التأويل. هذه القضية هي أيضاً أحد مظاهر (الدور التأويلي)، وصورتها الأصلية هي: “حين نريد أن نفسّر كلاماً يجب أن نعرف هذا الكلام، لأننا إن كنّا لا نعرف عنه شيئاً، فإننا نصغي إليه. في الوقت نفسه يجب أن يطرح هذا الكلام علينا سؤالاً، لا نعرف جوابه، أي أننا لم نفهم معنى الكلام“(19).
كل فهم يبدأ “بالسؤال”، والسؤال مبنيٌّ على عدّة معلومات مسبقة: الشخص أو النص الذي يُسأل عنه، لغة السؤال معرفة مسبقة إلى أي علم من العلوم ينتمي السؤال، ليُعرف ما الذي يقع في إطار ذلك العلم وما الذي يقع خارجه وغير قابل للسؤال، ويظهر في النتيجة توقع الجواب المتعلق بالعلم المقصود. لا يجب أن يضع المفسر فهمه المسبق في المعنى المركزي للنص، وإلا فإنّ الطريق لن توصله إلى أيّ مكان.
بتوضيح الفرضية المسبقة، يصل الدور إلى العلاقات والتوقعات التي يستمدها الإنسان من السؤال عن النص، إن لدى الإنسان توقعات تتعلّق بمعيشته وحريته ومصيره، وعلى أساس هذه التوقعات نفسها يطرح أسئلة اقتصادية أو حقوقيّة أو دينية أو فلسفية. بناء على ذلك، يجب أن ينتبه المفسّر إلى أنه يجب ألاَّ يتلقى من النص الاقتصادي جواباً حقوقياً أو فلسفياً، وكذلك النص الديني أو الفلسفي يجب ألاّ يتلقى جواباً فنّياً أو اقتصادياً.
يأتي، بعد هذه المرحلة، دور توجيه السؤال إلى التاريخ، يجب أن يعلم المفسّر كيف فهم المفسّرون السابقون ذلك النّصّ، وما هي الظروف الاجتماعية التي قيل أو كتب فيها النص، وماذا كان المؤلف أو القائل يريد أن يقول لمخاطبيه.
يجب أن تُوضَّح في هذه المرحلة المعاني الكافية وراء الكلمات والعبارات، ودور النصّ في الحثّ على المعرفة والعمل، وقصد المتكلّم الجدّي، والتأثير الذي يتركه النصّ، يأتي بعد ذلك دور الكشف عن “المعنى المركزي للنص”، ويجب أن يكون كشف النقطة المركزية في معنى النص من وجهة كونه المحك والمعيار. فالنص وحدة لها معنى واحد، ووحدة المعنى مرتبطة، بـ” المعنى المركزي”، لماذا يختلف المفسرون، وما العمل لاستنطاق النص، وليستمع المفسّر خالي الذّهن من التأثيرات إلى كلام “النّص”، فيترجم ما يفهمه أو يعكسه على أفقه التاريخي؟
الآن كيف يفهم الناس المرتبطون بآفاق تاريخية مختلفة ومتوازية، والناس المنتمون إلى ثقافات مختلفة ومتعارضة كلام بعضهم بعضاً؟ إن الأشخاص المنتمين إلى آفاق تاريخية مختلفة وثقافات مختلفة، يفهمون كلام بعضهم بعضاً بسبب مشتركاتهم الإنسانية(20).ط
طرح بضعة أسئلة
لنر، الآن، إن كان قد أجيب عن أسئلتنا إجابات واضحة أم لا:
1 ـ كيف تصبح ترجمة النص “فهماً” له؟
قيل: إن المفسّر باستخدامه المقدمات يصل إلى مرحلة يتوجب عليه، فيها، أن يترجم النص من أفق تاريخيّ سابق إلى أفق تاريخيٍّ معاصر. والسؤال هو الآتي: هل يجب أن تكون هذه الترجمة “فهماً” أو لا؟ الجواب إيجابيٌّ حتماً، من حيث أنّ كلّ فهمٍ يحتاج إلى تفسير، ودلالة النص على المعنى تحصّل في ضوء “التفسير”، وفي الواقع ينطق النص بوساطة التفسير ويُخرج ما في داخله”(21)، قطعاً، إن فهم هذه الترجمة يحتاج إلى التفسير و”صحيح أن دلالة النص على المعنى ترتبط بأواليّة قواعد علم الدلالة (سيمنتك) ولكن المحور الذي يجعل عمل نظام “علم الدلالة” مثمراً هو التفسير النابع من المفسّر”(22).
بناء على ذلك، ما من نص هو بغنىً عن التفسير، والتفسير يحتاج إلى تفسير أيضاً، وإذا كان تفسير النص الثاني بوساطة النص الأول دوراً، فهو ليس دوراً تأويلياً، وإنما هو دورٌ واقعي، وإذا كان فهمه متسلسلاً من تفسير آخر، وذلك أيضاً من آخر، فذلك التسلسل ليس تسلسلاً تأويلياً وإنما هو تسلسلٌ واقعي.
النتيجة: انطلاقاً من التفسير أعلاه، فإن أحد آثار التأويل ومستلزماته هو التورط بالدور وبالتسلسل المحال. حتماً هذه نتيجة مستمدَّة من كتاب “تأويل الكتاب والسنة”، ومثل هذه النتيجة لا تُستفاد من المنظرين الغربيين.
الحقيقة هي أننا يجب أن نستند، في فهم المتون، على بديهيات غير محتاجة إلى التفسير. وإذا كان فهم جميع المتون غير بديهي ومتوقفٌ على التفسير، لن نتوصّل قطعاً، إلى أيّ فهم. لا بد من أن نقرّ بأن بعض الأفهام ليست بحاجة إلى التفسير، وكذلك هنالك أفهام هي مفاتيح لأفهام تحتاج إلى التفسير، إلا إذا وُجد من يدّعي أن الإدراك غير المتوقّف على التفسير ليس فهماً. فيكون لدينا بناء على ذلك نوعان من الإدراك، ومع ذلك يبقى أصل الإشكال وارداً.
بهذه المحاسبة، يُعلم أن الدور الأصلي في دلالة النص على المعنى هو في عهدة أولية قواعد علم الدلالة، فحين يعمل الإنسان جيداً قواعدَ دلالات الألفاظ على المعاني، والصرف والنحو، ويعرف فنون المجاز والكناية والاستعارة، ويعرف تاريخ الأدب والأساليب الأدبية، وله معرفة بما فهمه القدماء من نص قديم، يمكنه أن يتأكد أن ما قصده المؤلف هو ما فُهم الآن، وأن القدماء فهموه أيضاً قليلاً أو كثيراً على هذا النحو. من الممكن أن يختلف المفسرون أيضاً، ولكن هذه الاختلافات لا تصل إلى الحد الذي تحمل الإنسان على أن ييأس من فهم النصوص المعنية. إن مفسّري النص متوافقون ولغتهم واحدة إلى حدّ تبدو فيه مواطن الاختلاف بينهم بالمقابل باهتة ولا قيمة لها. نعم، إن المشتركات الإنسانية لا تساعدنا فقط في فهم مقاصد بعضنا بعضاً، وإنما هي توصلنا إلى فهمٍ مشترك للمتون، وحتماً إن المباني الفكرية والعقدية يمكن أن تؤثر في التفسير، وإذا أراد مفسّر أن يصون نفسه من تأثيرها، لا يجد أمامه من مفرّ سوى أن لا يحمّل تفسيره للنص آراءه ونظراته وعقائده. أي أن لا يتكلم بدلاًَ عن النص، بل يترك النصّ نفسه يعبر عن محتواه، وأن يفهم لغته طبقاً لمبنى أولية علم الدلالة وقاعدة التفسير المتفق عليها.
قيل أيضاً: “حين لا تبرز اختلافات في فهم معنى نصّ من النصوص، فليس لأن النص يدل بنفسه على المعنى، وأنه ليس بحاجة إلى التفسير، وإنما لأن الجميع فهموه على نحوٍ واحد(23).
حين تكون الأفهام والفرضيّات المسبقة المختلفة والعلاقات والتوقعات وأسئلة التاريخ غير متجانسة، ويكون كشف المعنى المركزي للنص متنوعاً حتماً تبعاً للسلائق والميول المتنوعة والترجمات التي تشكّل في الأفق التاريخيّ للمفسّرين، كيف يمكن إذاً، أن يفسّر الجميع النص على نحوٍ واحد؟
وإذا كانت قواعد الدلالة، في مورد النصوص، غير كافية وغير قطعية الدلالة، وليست بغنى عن التفسير، كيف يمكن أن يتفق جميع الذين فهموا النص على مقدمات التفسير ومقوّماته، ويفسّروا النص تفسيراً واحداً؟
من الممكن أن تكون الاختلافات، في صدد النصوص أو في صدد الظواهر ـ غير مرتبطة بمعاني الكلمات، وإنما بالمصاديق، ومن الممكن أيضاً، أن لا يكون هنالك حوار حول أصل وجود الجِنّ والملائكة، وإنما تكون هنالك أسئلة وخلافات حول كيفيتهم، أو أن يكون هنالك اتفاقٌ في الآراء حول الله وحول صفاته (العلم والقدرة والحياة والإرادة والكلام والمشيئة والخلق)، بين مفسّري القرآن أياً كان مذهبهم، ولكن الاختلاف بينهم، حول قدم خلق الصفات وعينيتها وزيادتها على الذات، وتظهر آراء مختلفة فلسفية وكلامية، مع أن الجواب عن هذه الأسئلة يتّضح بدقّة في النصوص وظواهر الآيات والروايات على نحوٍ عامّ أو خاص.
كذلك ما يتعلق بالجنّة والنار؛ فما من مفسّر مسلم يمكنه أن يتجاهل صراحةً الآيات المتعلقة بالجنة والنار، ويقول: “لا دليل في القرآن على وجود الجنة وجهنّم، ولكنّ الخلاف يظهر حتماً حول الخصوصيّات التي لا يُستفاد من الآيات أيُّ شيءٍ حولها صراحة أو في الظاهر.
كذلك بالنسبة إلى قضيّة خلق آدم، في القرآن مسائل حول الإنسان الأول لا جدال حولها، ولكن الجدال في هذا: هل ظهر هذا الآدم على أثر تطور الكائنات الأخرى أو أنه خُلق مستقلاً؟ يمكن لبعض الباحثين، بعد طرح نظرية داروين، أن يقبلوا هذا الرأي أو يرفضوه بأدلة غير قرآنية، ويدور البحث حول: هل هذه النظرية منافية للقرآن أو لا؟ بعض الباحثين لم يروا في الآيات المتعلقة بخلق آدم منافاة للتحوّليّة، علماً أنّ الأكثرية العظمى تؤيد الرأي القديم نفسه وتقول: إن نظرية التكامل ليست شيئاً يمكن إثباته، ولا لزوم لأن نجعل تفسير الآيات مطابقاً لها، حتى مع عدم وجود أي آية تُبطل هذه النظرية.
في بعض الأحيان يوجد الاختلاف هنا، في أن المفسّر فسَّر الآيات من بعدٍ واحدٍ، وتعامل مع الآيات انتقائياً، مثلاً: استنتج بعض المفسّرين الجبرية من آيات مثل: )يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء(، [فاطر/35] وبعضهم الآخر استنتج الواردة بمعنى التفويض من آيات مثل: )كلُّ امرئ بما كسب رهين( [الطور/20]، وبهذه النظرة آحاديَّة البعد إلى القرآن أغفلوا بُعده الآخر، ولم يبحثوا داخل القرآن عن أسراره، وإنَّما أغفل كلُّ واحدٍ فهم بعض آيات القرآن وتجاهلها، في حين أنهم، في طريق الكشف عن المقصود، لو نظروا إلى القرآن من جميع جوانبه لوجدوا أن الإنسان في نظر القرآن لم يُسلب المسؤولية، وأن الله ليس بغافل عن أمور البشر والخليقة، وهنا يولد “الأمر بين الأمرين”.
ما أكثر الاختلافات التي سبَّبتها هذه النظريات آحادية البعد والانتقائية إلى القرآن، ولذلك أظهر أهل البيت (عليهم السلام) دائماً حساسية تجاه التعاطي الانتقائي والناقص مع القرآن وتجاه تفسيره بالرأي. نذكر أنموذجاً على ذلك ما روي عن الإمام الصادق(ع): قيل إن شخصاً اكتسب شهرة عظيمة بسبب أفكاره ونظرياته، ذهب الإمام الصادق(ع) إلى مجلسه متخفياً، كان حوله جماعة عظيمة من البشر، بعد أن فرغ من حديثه إلى الناس، وبعد أن تفرقت الجموع، تبعه الإمام(ع) فشاهده يسرق في أثناء الطريق رمانتين ورغيفين ويتصدق بها. فسأله الإمام(ع) عما فعل فاستشهد بالقرآن حيث يقول: )من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها( [الأنعام/29]، وطبقاً لهذه الآية: أنا استحق أربعين حسنة، في حين أنني لا أدين إلا برغيفين ورمانتين، فقال الإمام(ع): أنت نسيت قوله تعالى: )إنما يتقبل الله من المتقين( [المائدة/29]، وبحسب هذه الآية، فإنّ قبول الأعمال مرتبط بتقوى الإنسان(24).
بعبارة أخرى: إن النظرة ذات البعد الواحد إلى القرآن، تمنع الإنسان من فهم كثير من الحقائق، كما أنّ النظرة آحادية البعد إلى الآيات: )بل يداه مبسوطتان( [المائدة/64] و)الرحمن على العرش استوى( [طه/5]، تبعث على التوهم أن الله موجودٌ جسمانيّ، له يدان ويجلس على العرش، كما أن نظرة انتقائية إلى صفات “السميع والبصير” إلى الله تبعث على التوهم أن الله كالإنسان له أذنان وعينان، لأنهم لم يلاحظوا آية )ليس كمثله شيء( [الشورى/11]، ولم يروا آية )سبحان الله ربُ العرش عما يصفون( [الأنبياء/22]، أو آية )تعالى الله عمَّا يُشركون( [الأعراف/190]، ليفهموا أن استواء الله على العرش، أو كونه سميعاً بصيراً، بمعنى سامٍ لا يتلاءم مع التجسيم في المكان والجلوس على الشيء.
هؤلاء الأشخاص الذين يتعاملون مع التفاسير ببعد واحد، لا مفرّ أمامهم سوى أن يؤوِّلوا الآيات وبعض الروايات المخالفة لأذواقهم، ويفسروها بالرأي، وأن يتعصَّـبوا لموقفهم المخرف. في حين أنهم، إن وضعوا الأبعاد المختلفة نصب أعينهم، لكان وضعهم غير هذا، ولتوصلوا، من دون حاجة، إلى تأويل الآيات والأخبار المخالفة لآرائهم، إلى تفسير واقعيّ وإلى اكتشاف معنى واقعي.
2 ـ ما معنى “الفهم المسبق” أو “الفرضيّة المسبقة”؟
ما المقصود بالفهم المسبق أو الفرضية المسبقة التي ذكرت في بعض مقالات الكتاب؟ ما معنى القول: إن المفسّر ما لم يملك فهماً مسبقاً، لا يمكن أن يفسّر النصّ؟ وهل الإنسان من دون الفهم المسبق أو الفرضية المسبقة يطلب المجهول المطلق؟ من المسلم به أن الإنسان لا يستطيع أن يكون طالب “المجهول المطلق“، حتماً يجب أن يكون لديه من قبل شيئاً من العلم ليتحقق مما لا يعرفه، حين يكون لدينا عن الشيء معلومٌ ومجهول، فإن لدينا مجهولاً مطلقاً ومعلوماً مطلقاً، بناء على ذلك لن نتقدم، وسيبقى المجهول مجهولاً إلى النهاية!!
إن وجود معلوم ومجهولٍ لدينا عن أمرٍ ما لا يحلّ المشكلة، ولكن المشكلة تحلُّ حين يستطيع “المعلوم” أن يجعل المجهول” معلوماً لدينا. فتنتقل من التصورات البديهية إلى التصورات النّظريَّة، ومن التصديقات البديهية إلى التصورات النظرية، ومن التصديقات البديهية إلى التصديقات النظرية، ويصبح كلُّ معلوم بديهيٍّ، مقدمةً لفهم مجهولٍ ما، وكلما صار ذلك المجهول ـ مع الاهتمام بالمقدمات البديهية ـ معلوماً بالنسبة إلينا، فإنه سيصبح هو نفسه مقدمة لكشف مجهولٍ آخر. معنى أننا لا نسعى وراء مجهولٍ مطلق لا يعني أننا يجب أن نعلم شيئاً عن الشيء، كي نتنقل مما نعرف إلى ما لا نعرف.
ومثالاً على ذلك، ما لم نملك تصوراً عن الله أو واجب الوجود، لن نشرع في التفكير والتأمل في ما يأتي: “هل هو موجود في الخارج أو لا؟ وإذا كان في الخارج كيف هو؟ هل هو ماديٌّ أو مجرّد؟ قديم أو حادث؟ مخلوقٌ أو غير مخلوق؟ له صفات كمالية أو لا؟ وإذا كانت له صفات كماليّة، هل هي عين ذاته أو زائدة عليها؟
لا شك في أننا نحتاج للإجابة عن كل واحد من الأسئلة المذكورة أعلاه إلى معارف قبْليّة، هي نفسها إما بديهية أو نظرية، وإذا كانت نظرية يجب أن تصبح في النهاية بديهية، إذا لا مجال للإنكار أنّ كلّ سؤال منوطٌ بتصور موضوع أو محمول، ونسبةٍ بينهما. إذا كان هذا هو القصد من “المعرفة المسبقة” و”الفرضية المسبقة”، فمعنى ذلك تهافت ادعاء القائلين “بنسبية المعرفة الدينية”.
هذا الأمر لا علاقة له بادِّعاء السادة التأويلي، القائل: إنه من أجل الوصول إلى مجهول تصوُّريّ هنالك دائماً حاجةٌ إلى معرفة مسبقة تصوُّريّة، وللوصول إلى مجهول تصديقي نحن بحاجة إلى معرفة مسبقة تصديقية. النقطة المهمة هي أننا لا نحتاج، من أجل طرح السؤال، إلى تصوّر الموضوع والمحمول. ومثالاً على ذلك: إننا حين نتصور “النفس” بمعنى موجود مجرّد مغاير للبون ولتركيبته الفيزيائية، نسأل إن كان مثل هذا الشيء موجوداً أم لا؟ من الممكن أن لا نتصوره من قبل “كشيء مجرد” وإنما نتصوره كذلك الذي نعبّر عنه بـ”أنا” و”أنت” و”هو”، حينئذٍ نبدأ بطرح الأمثلة حوله: هل هو مجرّد أو مادّي؟ قديم أو أزلي؟ حادث بحدوث البدن أو لا؟ فانٍ بفناء البدن أو لا(25)؟…
في الحقيقة حين يظهر تصور لذلك الشيء في ذهن الإنسان فإنه يبدأ بالتحقيق في المحمولات المتصوّرة المتنوعة أيها ينطبق عليه وأيها لا ينطبق؟ وهكذا نحصل في النهاية، بالاستعانة بالمقدمات التصديقية البديهية والنظرية، إلى سلسلة من القضايا السلبية والإيجابية والمعارف الجديدة.
القول، إذاً، “نحن لسنا طالبي مجهول مطلق” معناه أنه طالما أننا لا نملك تصوراً عن “الشيء” في ذهننا فإننا لن نتصدى للبحث عن محمولاته، تلك المحمولات ليست هي أيضاً الموجودة في ذهننا والتي هي اصطلاحاً مجهول مطلق، وإنما هي ذلك النوع من المحمولات التي أعددنا لها تصوراً في الذهن من قبل.
ما لم يكن لدينا أي نوع من أنواع التصور في الذهن عن أي محمولٍ أو موضوع، لا يمكننا أن نطلب أيَّ شيء، لأن طلب “المجهول المطلق” محال، لكن حين تحصل بعض التصورات فإننا ننال التصديقات البديهية، لأن حمل بعض التصورات لا يحتاج إلى الحدّ الوسط ولا إلى الاستدلال. في المرحلة اللاحقة في ما يتعلق بإسناد بعض التصورات الأخرى، فإننا سنصاب بالشك وهنا نبدأ بطرح الأسئلة.
إذاً، إن طرح السؤال لا ينبني على أيّ فرضية مسبقة، وإنما على تصورين أو ثلاثة تصورات فقط.
للإجابة عن أي سؤال، نحن بحاجة إلى هذه المعرفة المسبقة. لكن أليس المقصود أن من الواجب علينا حتماً قبل السؤال أن نعرف شيئاً عنه. العلم المسبق متعلق بالإجابة عن السؤال وليس بطرحه. إن لم نحصِّـل أي تصديق بديهي أو نظري عن السؤال، لن نستطيع الإجابة عنه بأي جواب بالمطلق. يمكن أن تكون هذه التصديقات في ذهننا قبل طرح السؤال، ويمكن أن تظهر بعده.
لتفسير أي نص من النصوص، ما لم يكن لدينا معارف متعلقة بدلالة الألفاظ وبالمعاني اللغوية والقواعد النحْويّة، ستواجهنا مجهولات، ولكن القول: “إننا سنواجه بالمجهول المطلق” خطأ لأن النص أمامنا، ونعرف أننا لا نعرف عنه شيئاً. بناء على ذلك إذا سعينا وراء فهمه، فنحن لا نكون قد بدأنا البحث عن مجهول مطلق، ولكننا نكون قد بدأنا علمنا بمعلومات مفادها أنّ أمامنا نصاً، وهذا النص يحمل حتماً رسالة لأن كاتبه كان يبغي تفهيم مقاصده، وكان يتوقع تفهُّماً من مخاطبيه الفعليين أو مخاطبيه بالقوّة، ولينال المبتغى والمقصود راعى التكلم بلغة القوم وحرص على مراعاة قواعد اللغة، وكانت لديه حساسية إزاء دلالة الألفاظ.
إذا كانت هنالك فرضيّات لازمة لتفسير النص فهذه هي. الذين يريدون مثلاً قراءة الخط المسماري، وترجمة الكتابات الأثرية الباقية من العصور الغابرة وتفسيرها، ما لم يكن لديهم أيّ علم مسبق سوى ما ذكرنا، فسيجدون المفاتيح لقراءة الخط المسماري، ويترجمون من ثمَّ الكلمات، وحين يتقيدون بقواعد اللغة الأصلية ولغة الترجمة، يتوصلون إلى فهم مقاصد الماضين.
هل كان “غروتفد” أول شخص يعرف شيئاً عن هذا الخط، أو أنه كآخرين لا حصر لهم، واجهته مجموعة من الرموز المسمارية كالآشورية والبابلية والأخامنئية، وطرأ على ذهنه هذا السؤال: ماذا تخبرنا هذه العلامات؟ ما هي الرسالة التي كان يريد كتاب هذه النصوص ومبتدعوها توجيهها إلى الأجيال اللاحقة؟ وما هي المفاتيح اللازمة لفتح الأقفال؟
لاحظوا أنّ طرح هذه الأسئلة لم يكن يستوجب أي معرفة مسبقة عن النص المكتوب بالخط المسماري، وإنما فقط الذي كان يرى هذه الخطوط كان يتساءل: “ما هو المقصود؟” المقومات والمقومات اللازمة هي أنه يجب في البداية أن يوضع الخط المسماري مقابل الشخص، بعد ذلك، وبعد الأخذ في الاعتبار أنها لم تظهر مصادفة، وأن إنساناً عاقلاً قد ابتكرها لتفهيم أمر معيّن مقصود، يسأل نفسه: ما هي هذه الخطوط؟
بعد طرح السؤال يجد المفاتيح لقراءة الألفاظ وتركيب الجمل، وكشف الدلالات، وفي النهاية يقرأ اللغة، ويترجمها ترجمة معبرةً بنفسها، ولا تحتاج إلى تفسير.
بناء على ذلك، ليس صحيحاً القول: “إن لم يكن هنالك أي إطلاع قبْلي على موضوع من الموضوعات، لن تنوجد الرغبة أو الإرادة لفهمه أو شرحه كعمل إراديّ، ولن يحصل أي فهم أو تبيين“(26).
وليس صحيحاً أنه بالقدر نفسه، الذي يكون لدينا فيه تصورٌ عن موضوع من الموضوعات، نبدأ بطرح السؤال، وطرح السؤال يدفعنا إلى البحث عن الجواب. والتوصل إلى الجواب مبنيٌ على امتلاك مقومات بديهيّة أو نظرية، غير مرتبطة بذلك النصّ أو مختصة به، لكن إن لم تُوجد تلك المقومات فإن الاستنتاج، أو الإجابة عن أي سؤال، لن يتيسَّر، ويبقى المجهولُ مجهولاً بالنسبة إلينا، ويمكن أن يظلّ حافز الإجابة عنه قويّاً، ويمكن أن يضعُف.
هل صحيح، واقعياً، أنه ما لم يكن لدينا أيُّ إطلاع على موضوع معين، فإن معنى ذلك عدم وجود الرغبة في فهمه أو شرحه؟
إذاً، الإنسان الذي جاء إلى هذه الدنيا جاهلاً جهلاً مطلقاً كيف حصّل المعلومات؟ ما هو الإطلاع الذي كان لدى الإنسان عن أول موضوع أدركه؟ وكيف وُلدت لديه الرغبة في الفهم والتبيين؟ إذا كان القرآن الذي هو كتاب لم تطله يدٌ وحياً، نزل إلى الأرض والناسُ لا يعلمون عنه شيئاً، هل وجدوا الدافع والرغبة لفهمه أو لا؟
حتماً هنالك أشخاص فكروا في فهمه وأدراك معانيه، وسعوا إلى فهم هذا الكتاب السماوي، إلى تعلّم لغته، وقد وفِّقوا إلى تفسيره من طريق معرفتهم بلغة العرب وآدابهم وشروح المفسرين طوال القرون المتمادية. إن المعرفة القبْليّة الفردية لتفسير القرآن، هي معرفة لغة العرب وآدابهم والتفاسير الموضوعة لهذا الكتاب منذ صدر الإسلام وحتى الآن، وقطعاً كلما ازداد تدبّر الإنسان لهذه الموضوعات توصّل إلى نتائج أرقى.
3 ـ علاقات النص والتوقُّعات حوله
ما هي علاقات المفسر وتوقعاته؟ ما لم تكن هنالك ضوابط، سيصبح عدد التفاسير مساوياً لعدد المفسرين، وإذا وجدت الضوابط يصبح طريق الوصول إلى تفسير واحد، بناء على ذلك، معبّداً.
حينئذٍ ستواجه التأويل مشكلةٌ أخرى، وهي علاقات المفسّر وتوقعاته؛ من أين لنا أن نعرف ما هي علاقات صاحب الكلام وتوقعاته؛ أو ماذا كانت؟ حين تنتفي القواعد والضوابط، سيبحث كل واحد عن علاقات صاحب الكلام وتوقعاته طبقاً لسليقته وتوقعاته هو. هنا تضيع “دلالة الكلام” في ثنايا التوقعات والعلاقات والفرضيات التي افترضها المفسّر، في حين أن دلالة الكلام العرفية” هي المفتاح الذي يكشف نوايا المؤلف وعلاقاته.
إذا رأى كل شخص إلى الكلام وإلى صاحب الكلام في مرآة علاقاته وتوقعاته هو، وشرع بالتفسير بحسب ذوقه وسليقته وتوقعاته، ستتكاثر التفسيرات وتتناقض، وستكون، بحسب مقومات التأويل ومقوّماته، صحيحة!! لأن كلّ مفسّر يملك فهماً مسبقاً وعلاقات وتوقعات (صحيحة أو خاطئة)، ولا يتوجَّب عليه التخلي عنها أو تصحيحها. بناء على ذلك يجب أن تكون لدينا تفاسير بعدد المفسّرين، وتكون هذه التفاسير تابعة لرغبات المفسّرين الشخصية ولفرضياتهم، ولا يكون أيٌّ منها باطلاً، فتصل إلى نسبية مطلقة تامة العيار، وإلى شك معرفي.
نحن لا ننفي أن علائق صاحب الكلام وتوقعاته تسيطر على كلامه، وإذا كان الكلام بحاجة إلى تفسير، فإنها يجب أن تسيطر أيضاً عل تفسير الكلام، وإلا فإنّ التفسير سيأتي غريباً عن النص. أما إن جعلنا علاقات المفسر وتوقعاته الشخصية تسيطر على كلامه وعلى تفسيره، فلن تكون النتيجة الحاصلة سوى الضلالة والانحراف عن “التفسير” الواقعي، ولن يُسمى هذا تفسيراً وكشفاً لمعنى “العبارة”.
إن الأسلوب الصحيح هو أن يأخذ المفسّر في الاعتبار مجموعة نصوص المتن ومعانيه الظاهرة، ويرى ـ بمساعدة البديهيات العقلية ـ ما هو هدف صاحب الكلام من بيانه، وما هو نوع المعرفة التي كان يريد أن يبلّغها لمخاطبيه الفعليين والمفترضين، وإن لم يحقّق هذا الهدف، فإن كلّ واحدٍ سيفسّره على نحوٍ خاص، أو أن أحداً لن يتصدى أصلاً لتفسيره.
إن المتون تبيّن عادةً بوساطة ظواهرها ونصوصها أيضاً توقعات المؤلف، ولا تترك المفسّرين عاجزين.
شاهنامة الفردوسي التي بلغت أبياتها ستين ألفاً تهدف إلى هدف رفيع، وصاحبها قال الشعر بهدف إحياء اللغة الفارسية، وإنهاض الغيرة القومية، وتقوية الأسس الاعتقادية الدينية، وإحياء الفضائل الأخلاقية، وهذا ما فهمه عامة الناس من هذه الأشعار. في تفسير القرآن أيضاً لا يجب إتباع علاقات وتوقعات الشخص أو المجموعة أو القوم. إن التعرف إلى التوقعات التي يريدها الدين الإسلامي من الناس سهلٌ، ولدينا عن هذا الموضوع قدرٌ من النصوص والظواهر الواضحة بحيث أن التأخر في إدراكها سيكون أمراً عجباً. بناء على ذلك، فإننا نفسّر القرآن آخذين في الاعتبار الفهم القرآني المسبق والبيّن والواضح والبديهي. وفي تفسير الآيات المتشابهات نستعين بمحورية هذا الفهم المسبق نفسه، ومن دون تخطّي أولية “دلالة” الألفاظ على الآيات وأسباب النزول، ونسعى، بمراجعة فكر المفسّرين، إلى فهم رسالة الآيات، ونصل إلى محصّلات مشتركة كثيرة، تكون الاختلافات الجزئية إزاءها باهتة وقليلة الأهمية.
اللافت أنه لم يوجد أي اختلاف بين مفسّري القرآن حول توقعات مرسل الوعي ومبلّغه، والجميع متفقون على الأصول والمسائل المهمّة، والجميع يعتقدون بأنَّ القرآن كتابُ الله والمعاد، ومحور الأخلاقيات والفضائل والمكارم ومحور الأعمال وتنظيم الحياة الدنيا والآخرة من وجهة عبودية الإنسان لله عزَّ وجل.
بناء على ذلك، يجب أن نتوقع من القرآن تبيين هذه المحاور لا ما يناقضها ويجب أن نفسّره على نحوٍ تكون فيه جميع الأجزاء والفروع متناسبة مع هذه الأصول نفسها.
إذا كان المِلاك هو توقعات الأفراد، سيظهر في تفسير القرآن أو أي نص إلهيّ أو بشري آخر، هرج ومرج، وإذا كان مِلاك التفسير مقصود مرسِل القرآن ومبلغه، ستكون الوحدة والانسجام هي المحصّلة.
نضرب مثلاً على ذلك نصاً بشرياً: ما هي الرسالة التي كان حافظ يريد أن يبلغها من خلال غزلياته الظريفة والملغزة؟ وماذا كانت توقعات مخاطبيه؟ وهل يجب أن يترك قرَّاء حافظ توقعاتهم تتحكم في فهم أشعار حافظ، أو توقعاته هو؟ إذا كان المقرر أن تسيطر توقعاتهم، فإن أشعار حافظ يمكن أن تفسّر بأشكال متضادّة، وسيؤول أهل الشراب والخمرة والنغم والسّماع الأشعار على نحو يناسب مراكز اللهو واللعب والفساد، ويبحثون لها عن قرّاء ومستمعين من هذا الصنف؛ ولأهل الاستقامة الحق أن يفسّروها بما يناسب أهل العرفان والسّير والسلوك والجدّية المعنوية والسكر بخمرة العشق الحقيقي!
ولكن إذا جعل القراء توقعات حافظ حكماً، ذلك الذي حفظ القرآن على أربع عشرة رواية، وتألم من شدّة العشق، لن يتبعوا توقعات هذا أو ذاك، ولن يسيروا وراء السلائق المتضادة، لأن حافظ كانت لديه من وراء أشعاره رسالة بعيدة المدى. أي حالة تختار؟ أتختار الغرق في السكر والمُدام، أم الدردشة والانحرافات الصوفيّة، أم حقيقة العرفان النقي الخالص؟ إن شخصية حافظ وظاهر أغلب أشعاره وصراحتها محكمات توضّح غاية المتشابهات. وعلى مفسّر شعر حافظ أن يفسّر شعره على أساس توقعات حافظ وشخصيته وكلامه، وليس على أساس توقعاته وميوله هو.
مما يثير الشك هذا المقطع: “كيف يمكن التأكد من أنّ رغبة المفسّر وتوقعاته تنطبق على الرغبات والتوقعات التي كانت لدى مبدع النص حين أبدعه؟ أو كيف يمكن إدراك أن الأسئلة التي طرحها المفسر مقابل النص، تجيب عن الأسئلة التي كان مبدع النصّ يريد أن يجيب عنها”(27). هذا تضليل كليّاً، إذا كان الأصل هو على هذا النحو، أي أن توقعات المفسر وانتظاراته تتحكم بالتفسير؛ في حين أنّ المفسّر يجب أن يتجاهل علاقاته وتوقعاته، ويفسّر النص بأن يكشف علاقات مبدع النص وانتظاراته ـ في حال كان النص بحاجة إلى تفسير ـ ويسعى إلى كشف المشركين قصد توقعات القائل.
كيف إذاً أحبطت آيات التوحيد في القرآن المشركين في ذمّها للشّرك وشجّعت المؤمنين؟ لو كان المِلاك في التفسير هو توقعات المشركين، لما أصابهم الاضطراب مطلقاً، لأنهم كانوا بتسليطهم لانتظاراتهم وسلائقهم فسّروا الآيات بحسب رأيهم، وبناء عليه لرضيَ المشركون من القرآن ولرضي المؤمنون على حدٍّ سواء، ولما فهم هؤلاء ولا أولئك من القرآن شيئاً مخالفاً لسلائقهم وانتظاراتهم.
الخليفة الجبار والسفاح الأموي (المقصود الوليد بن يزيد)، تناول القرآن وفتحه ليعرف شيئاً عن دوام خلافته، فواجهته الآية: )واستفتحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد( [إبراهيم/15]، فرمى القرآن وجعله مرمى لسهامه، ومزّقه مزقاً وخاطب القرآن قائلاً:
تهدّد كلّ جبارٍ عنيدٍ
فها أنذا جبارٌ عنيدُ
إذا قابلت ربّك يوم حشرٍ
فقل يا ربّ مزقني الوليد”(28).
ردّة فعل الوليد هذه، تنبع من توقعاته هو أم من فهم مقاصد مرسِل القرآن؟ لو أنه كان يحكْم توقعاته هو، لفسّر الآية حتماً لمصلحته، ولقبّل القرآن وأعاده إلى مكانه، ولكنه فهم الآية على عكس توقعاته، أي أنه فهم منها تهديد الجبّارين، وعدّ نفسه منهم، وقد فهم التهديد والاطلاعات التي يتضمنها القرآن عن المعاد، بحسب توقعات صاحب القرآن وليس حسب توقعاته هو.
مثلاً، في جدال ابن زياد والإمام زين العابدين(ع) ادّعى ابن زياد أن عليَّ الأكبر(ع) في كربلاء قد قتله الله (عزّ وجل)، وكان ردّ الإمام
السجّاد(ع) أن عليَّ الأكبر قتله الخائنون. وأمام إصرار ابن زياد قرأ الإمام هذه الآية: )الله يتوفّى الأنفُس حين موتها( (الزمر/42)، فغضب ابن زياد وأمر بقتل الإمام(29).
ألا يعني غضبه أنه فهم معنى الآية على عكس توقعاته، وأدرك أنّ مفهوم الآية أن الله ليس القاتل وإنما الناس الجبّارون والحقيرون؟ إذا فهم كل إنسان القرآن بحسب انتظاراته وأفكاره وسلائقه، وحكّم ميوله ورغباته، لا يمكن حينئذٍ للقرآن، بل لأيّ نصّ أو كلام، أن يصبح بلون المحيط، ويفهم قارئه نفسَه وليس القرآن، لقد فهم القرآن المعاندون والمؤمنون، وإن كان بعضهم قد نفروا منه، وبعضهم الآخر قد تساموا إلى مرتبة الشوق. إن الاعتقاد والإيمان والقبول هي غير الإدراك والفهم والتفسير.
4 ـ ماذا يعني سؤال التاريخ؟
نصل إلى سؤال التاريخ أو الإصغاء إلى التاريخ الذي يجب أن يرشدنا إلى الإجابة عن عدّة أسئلة.
“أي العلاقات والانتظارات تقود المؤلف إلى إبداع النص؟ في أيّ الظروف والشروط التاريخية تكلم؟ كيف كانت ظروف المخاطبين وشروطهم التاريخية؟ ماذا كانت معطياته وإمكاناته اللغوية للقول والكتابة؟”(30).
كيف يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة؟ قيل: “فقط منهج التحليل التاريخي، التحليل الذي يجب أن ينجز من دون تردد وبالحدّ الأدنى من التدخّل“(31).
هنا قيل: “في هذه المرحلة قُعّدت القواعد والقوانين المرتبطة باللغة وبالحوار، التي كان القدماء أحياناً يسمونها قواعد التفسير، كما أن مباحث ألفاظ الأصول كلّها تعود إلى هذه المرحلة“(32).
ليس مراد السادة من سؤال التاريخ القواعد والقوانين المتعلّقة باللغة وبالحوار، وإنما قصدهم تفسير التاريخ. ليس معلوماً على هذا النحو إن كان المفسّر يجب أن يكون مؤرخاً، أو أديباً أو الاثنين معاً: قطعاً، غير الأديب، ومن لا يعرف آداب لغةٍ من اللغات، لا يستطيع أن يفسّر أحد نصوص تلك اللغة، لكن إن لم يكن المفسّر مؤرخاً ولا يُحِسن فنّ التحليل التاريخي ألا يصلح لأن يقوم بمهمة لتفسيره؟ كيف يمكن أن يَستخرج سؤال التاريخ السرَّ من خلال التحليل التاريخي، وكيف ترتبط جميع الأعمال الأدبية لأحد المفسّرين بهذا النوع؟ من البديهي أن يعلم المفسّر المعنى الكامن وراء اللفظ لأي لفظة أو جملة، ويتوصل إلى معرفة مراد التكلم أو المؤلف الجدّي؛ ولكن ما هو تأثير هذا الأمر، وهل هو مرتبط بالمفسّر أو المؤلّف؟
هل يجب أن يقف المؤلف على تأثير كلامه أو أن المفسّر يجب أن يعلم كيف يكون التأثير العادي وغير العادي للنصّ؟
إننا، في الحقيقة، بفهمنا لمعاني الألفاظ والجمل وكشف المراد الجدّي للمتكلم، نتعرف إلى توقعاته ونتوصل كذلك إلى فهم مقاصده، أعمّ من أنّ فهم مقاصده محتاج إلى التفسير أو لا.
السؤال المهم، هو: هل الألفاظ المكوّنة للجمل هي التي ترشدنا إلى دلالة النص وفهم معناه، أو التاريخ والتحليل التاريخي هو الذي جعل ذلك؟ وهل انتظارات المؤلّف والمفسّر هي التي توجه الألفاظ من حيث “الدلالة” أو أن دلالة الألفاظ نفسها هي التي ترشدنا بالمطابقة والتضمين والالتزام إلى مدلولات الألفاظ وتركيب الجمل وانتظارات المؤلف ـ وليس المفسر ـ؟
حتماً، طالما أن دلالة الألفاظ توضع في إطار سؤال التاريخ والتحليل التاريخي، نحن لا نعارض القول: إنَّه بالإمكان فهم مقصود المؤلف بوساطة دلالة الألفاظ وأواليّة الدلالة، أو ما أصطُلح على تسميته بعلم الدلالة. لكن ليس لعلاقات المؤلف وانتظاراته وظروفه وظروف المخاطبين التاريخية تأثير مئة بالمئة في فهم المقصود. لكنّ النص نفسه يبيّن علاقات المؤلف وانتظاراته وأحياناً ظروفه وظروف مخاطبيه التاريخية.
أما إذا وصلنا نص كتبه مؤلِّف بقلمه عن حياته الشخصية، ولم يكن لدينا نحن أي إطلاع على علاقاته وانتظاراته، ألا يكفي أن نفهم علاقاته وانتظاراته من خلال هذا النص؟
الحقيقة هي أنّ التأويل مورد البحث، قلّل قدر المستطاع من تأثير دلالة الألفاظ ـ صراحة او ظهوراً ـ وتجاهل دلالات المطابقة والتضمين والالتزام، وزوّد القول عن أن تأثير الفهم المسبق وعلاقات المفسّر وانتظاراته، وسؤال التاريخ، إلى الحدّ الذي يبدو فيه أن فهم المفسّر المسبق هذا وعلاقاته وتوقعاته والتاريخ هي التي نفسّر النصّ، وهذا ما جعل التفاسير تغرق في ورطة النسبية، وليس مستبعداً أن تكون لدينا تفاسير بعدد المفسّرين، وأن تكون هذه التفاسير متضادة مع بعضها بعضاً.
من هنا أن كل تفسير يتوقف على فهم، وكل فهمٍ على فهم مسبق، وكل فهم مسبق على فهم آخر، وأخيراً كلُّ فهم على تفسير لم يوصلنا التأويل مورد البحث إلى أي مكان ووقع في تعقيدات الدور والتسلسل الواقعيين وليس التأويليين، ولم تكن النتيجة التي توصل إليها سوى الحيرة وضلالة الشك، غافلاً عن أن الألفاظ إذا كانت صريحة وظاهرة، لا تحتاج إلى التفسير، وإن لم تكن صريحة وظاهرة، يجب أن يكشف المفسّر النقاب. لقد شرح كلٌّ من صاحب القاموس والمفردات ولسان العرب “التفسير” بمعنى كشف المستور وإظهار “المعنى المعقول”، وبناء على ذلك لا تحتاج النصوص والظواهر إلى التفسير، ولكنها تُفهم فقط بفهم مدلول الألفاظ والجمل والإحاطة بآداب اللغة.
في ما يتعلق بالقرآن المجيد، الذي هو وحيٌ سماويٌ، على الرغم من أنّ الإخباريين ـ استناداً إلى الحديث ـ نهوا عن “التفسير بالرأي”، فهم لم يعدُّوا ظواهره حجّة”. يقول الشيخ الأنصاري: “ليس في هذا النوع من الأخبار دليل عل منع العمل بالظواهر وبالآيات الواضحة المعنى، وليس في هذا النوع من الأخبار دليلٌ على منع العمل بالظواهر وبالآيات الواضحة المعنى بعد تفحّص النسخ، وتخصيص الخلاف الظاهر بينها كما ورد في الأخبار، لأنّه معلومٌ أنّ هذا ليس تفسيراً، لأن كلَّ عاقلٍ ينظر في رسالةٍ موجّهةٍ إليه من رئيسه الأعلى يأمره فيها باللغة المتداولة ـ العربية أو الفارسية أو غيرها ـ أن يقوم بعمل ما، فيعمل به ويمتثل لأوامره، فإن فهمه هذا لا يُعدُّ تفسيراً”، لأنّ التفسير هو كشف القناع…”(33). للتفاسير بنظر الشيخ الأنصاري، أحد معنيين: أحدهما حمل اللفظ على غير الظاهر، أو على أحد احتمالين متساويين، والآخر حمله على المعنى الأولي والعرف واللغوي من دون تأمل في الأدلّة العقلية، ومن دون تفحص القرائن اللفظية(34).
إن المعنى الأول هو الأصح بنظر المحقق الأصوليّ الكبير. مع أنّه بالإمكان إيجاد شواهد على المعنى الثاني. من هذه الناحية صرّحت بعض الكتب الأصولية بأنَّ تفسير الآيات مختص بالبطون والمتشابهات، ولا علاقة له بظاهر الآيات من قبيل: “أوفوا العقود”، و”أحلَّ الله البيع” و”الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مئة جلدة”.
نعم إذا كان التفسير يختص بالبطون والمتشابهات، ولا يهتم بالخصوص والظاهر، فإنّ مشكلة الدور والتسلسل لا تطرح. لأنه صحيح أنّ كلّ تفسير متوقفٌ على الفهم، ولكن لا يتوقف كلُّ فهم على التفسير، وإنما الأفهام المرتبطة بالنصوص والظواهر، يُتوصل إليها بسؤال التاريخ، وتلك أيضاً يُتوصّل إليها في إطار مباحث الألفاظ وعلم الدلالة”.
ومن لديه معرفة بقواعد “علم الدلالة”، فإن باستطاعته بوساطة هذا الفهم المسبق أن يكشف توقعات المؤلف، كما يستطيع أن يتحقّق من الظروف التاريخية للمؤلّف، وللمخاطبين بالقوّة وبالفعل، وهذا ما يساعده على تفسير تلك الأجزاء من النص التي تحتاج إلى تفسير.
“ولكن إذا علمنا أن متكلماً أو مؤلفاً يبغي إيصال مراده وتفهيمه، وأنه، وهو في كامل وعيه، لم يذكر قرينة تستوجب صرف اللفظ عن معناه الظاهري، سنفهم بصورة قطعيَّة أن مراده هو هذا المستفاد من ظاهر اللفظ، لأنه على غير هذه الصورة، يجب أن نؤّمن بأنه عمليّاً ارتكب ما يناقض غرضه، وهذا محال”(35).
“إذا كنا في شك حول مسألة: “هل المؤلف كان في مقام تفهيم المراد أو لم يكن، نقول بناءً على المنهج الذي يقرّ به العقلاء: إن الأصل أنه كان في مقام تفهيم مراده، وإذا كنا نشك في وجود القرينة أو إلى أصالة الحقيقة“(36).
يتضح، بناء على ذلك، أن التأويل مورد البحث قد خلط بين “التطبيق” و”التفسير”، فالقول: إن من واجب المفسّر أن يسعى وراء التفسير من طريق الفهم المسبق والتوقعات واستنطاق التاريخ، يعني في الحقيقة أنه لا يسعى إلى التفسير إنما إلى التطبيق، وهنالك فرق بين أن نسأل: “ماذا يقول النص؟” وبين “على أي المعاني ينطبق النص؟“. إذا كان النص معبّراً بدلالة النصّ والظاهر، إذاً قوله معلوم، وإذا كان غير معبّر، يجب أن تستنطقه، ولكن بأيِّ معايير؟ مثل هذا النص يحتاج إلى تفسير، ولكن يجب علينا، بالاستعانة بسائر نصوص ذلك النص وبظواهره، أن نجعل بقيته تتكلم، هنا يُنجز عمل “التفسير” بشكل صحيح فلا نقع في ورطة الدور والتسلسل. إن قسماً كبيراً من آيات القرآن، إما أنها نصوص أو ظاهر، وفي جميع الأحوال، هي بغنىً عن التفسير، والبقية التي تحتاج إلى تفسير، تفسًّرُ بمساعدة المحكمات، وبالاستعانة بروايات المعصومين وبمساعدة التفاسير، مع الأخذ في الاعتبار الكلّ المنسجم للثقافة الإسلامية الأصيلة والنقية، وكذلك البديهيات العقلية؛ وربما أنّ هذا العمل هو حتماً عملٌ اجتهاديٌ واستنباطيٌ، من الممكن أن تنتج عنه اختلافات، لكن الاختلافات مقارنة بالاتفاقات قليلةٌ وغير ذات قيمة وأغلبها قابلٌ للحلّ.
نرى أنّ مقدمات التأويل ومقوّماته، بصرف النَّظر عن الإشكالات المهمة الأخرى، ترمينا في “فخ” التطبيق وتخرجنا من حياض التفسير. يجب أن ننتبه كي لا نقع أسرى التطبيق باسم التفسير.
يقول العلاّمة الطباطبائي: “هنالك فرق بين أن يسال شخص، وهو يبحث عن معنى آية من آيات القرآن، “ماذا يقول القرآن”، أو أن يسأل: “على أيّ معنى نحمل الآية؟”، يتوجب عن السؤال الأول أن تُنسى النظريات في أثناء التحقيق، وأن يُستنَدَ إلى ما هو غير نظري، والسؤال الثاني يستوجب اعتبار المسائل النظرية مسلمات وأساساً للعمل، من المعلوم أن مثل هذا البحث ليس بحثاً عن المعنى نفسه للكلام”(37).
الملاحظ أنه من أجل التخلص من أسر “التطبيق” لا مجال أمامنا سوى التخلي عن أكثر مقومات التأويل مورد البحث ومقوماته، وأن نتخلى أيضاً عن المسائل النظرية، لنفهم ماذا يقول القرآن لمخاطبيه، لا أن نفهم ما هي انتظاراتنا وفهمنا المسبق وتحليلنا التاريخي”.
5 ـ ما هو المقصود بـ”المعنى المركزي”؟
إحدى المقومات الأخرى هي “المعنى المركزي للنص أو النظرة الأصلية التي تتمحور حولها مسائل النص“؛ إن كشف “الرؤية الأصلية” تعيننا في فهم تمام المعنى، لأنّ النص مبنيٌّ عليها.
هذا المطلب صحيح، لأن فهم رؤية المؤلف الأصلية ضروريٌ لفهم النص المأثور عنه. فإذا علمنا أن القرآن ليس كتاب تاريخ وقصّة وحقوق وطبّ وفيزياء وكيمياء وهيئة، وإنما هو كتاب هداية و﴿هدى للمتقين﴾ [البقرة/2] نتعامل في تفسيره مع خصوصيته، ولن يكون لدينا توقع حلّ المسائل والمشكلات التاريخية والحقوقية والفيزيائية والكيميائية والنجومية والطبية، كذلك لا ننظر إليه بوصفه نصّاً أدبيّاً صرفاً، على الرغم من أن مواضيعه لا تتناقض مع التاريخ والحقوق والطب والنجوم والفيزياء والكيمياء، وأسلوبه من الناحية الأدبية يتفوق على جميع الأساليب، وفصاحته وبلاغته بلغتا حدّ التحدي ليس فقط من حيث الشّكل والمبنى، وإنما أيضاً من حيث المحتوى والمضمون.
من هنا ينظر الإنسان إلى القرآن نظرة متكاملة بوصفه كتاب هداية وبرنامجاً جامعاً، وتفسّر آياته التي تحتاج إلى التفسير انطلاقاً من هذه الرؤية. إن تفسير كتاب مثل القرآن مرتبط بوحدة الهدف وبوحدة المنهج، وباللغة المشتركة مع لغة القرآن على أساس أوالية “علم الدلالة” والسيمنتيك. والمفسر الذي يبدأ عمل التفسير، بمثل هذه الوسائل، هو مفسر إن لم يوفق كلياً إلى كشف معنى الآية، فإن نصيبه من التوفيق سيكون عالياً.
إذا ظهر اختلاف بين المفسرين فبلحاظ أن التفسير عملٌ اجتهاديّ وفي المواضع التي يكون فيها التفسير ضرورياً؛ وإن ما يبعدنا عن الخطأ هو إنجاز عمل الاجتهاد بالاهتمام بفهم رؤية النص والانتباه إلى وحدة الهدف موحدة المنهج ودقة النظرة المتكاملة والتوافق اللغوي الدقيق مع القرآن، والانتباه إلى جميع الآيات ومراجعة الروايات وكتب التفسير.
نحن نعتقد أيضاً بأنَّنا يجب أن نحصّل “الرؤية الأصلية”. إن التأويل يطرح السؤال على التاريخ، وكما نعرف، أن الوصول إلى “آليَّة الدلالة” هو جزءٌ من سؤال التاريخ.
وإذا كان المقصود من كشف “المعنى المركزي للنص” أننا يجب أن نكشف عن الرؤية الأصلية من خلال الاهتمام بنصوص المتن وظاهره، فليس هذا المكان المناسب للبحث، وإذا كان الأمر على غير هذا النحو تُطرح معضلة الدور والتسلسل.
إن كشف الرؤية الأصلية مهم، ويجب الاكتفاء بهذا بدلاً من الفهم المسبق والفرضيّة المسبقة وبدلاً من علاقات المؤلف والمفسر وانتظاراتهما، وبدلاً من سؤال التاريخ بمعناه العام. لكن ألا يحتاج فهم “المعنى المركزي للنص” بحسب المباني التأويلية للسادة إلى “التفسير”؟ ما الذي سيحدث إذا قيل: إن هذا لا يحتاج إلى تفسير، ماذا يحدث حينئذٍ لمقدمات التأويل ومقوماته، وأن كل فهم بحاجة إلى تفسير؟ وإذا كان هذا الفهم يحتاج إلى “التفسير”، وذاك التفسير إلى فهم، كيف يمكننا أن نتخلص من تعقيدات الدور والتسلسل التي لا يمكن تجنّبها؟ إذاً لا بدّ من أن نقرّ بأن ليس كل فهم حاجة الى التفسير، وأن بعض الأفهام بغنىً عن التفسير. إذا كان من غير الممكن نشخيص “النظرة الأصلية والمعنى المركزي للنص” بوساطة نصوص المتن وظاهره، فلن يكون ممكناً من أيّ طريق آخر.
المؤلف الذي يقصد التفهيم، لماذا لا يستطيع أن يعبّر عن “نظراته الأصلية”؟ إذا تقرر أن نتعرف إلى النظرة الأصلية من طريق العلاقات والانتظارات والفهم المسبق للفسر والأسئلة التي وجهها إلى التاريخ بحسب ميوله، كيف يمكننا أن نصون أنفسنا من تعدد التفاسير وتناقضها ومن الوقوع في فخ النسبيّة؟ وأصولاً ما معنى الفهم والتفهيم؟
يجب أن نقر بأنه بحسب مبنى مقدّمات التأويل ومقوّماته فإن جميع التفاسير تعود إلى فهم المفسرين المسبق وعلاقاتهم وتوقعاتهم وكشفهم عن المعنى المركزي والنظرة الأصلية ومن هذا المنظور، ليس من الضروري أن يصل المفسرون في تفاسيرهم إلى الوحدة، ولا يجوز أن ينسب الخطأ إلى أي مفسّر، لأن تفسيره بحسب هذه الحيثية أي المطابقة مع علاقاته وتوقعاته وأفهامه المسبقة صحيح، إلا إذا أخطأ في التطبيق والتفسير بالرأي، أي جاء تفسيره غير متطابق مع مبانيه!!
6 – ما هو المقصود بـ”ترجمة النص”؟
نهاية عمل التأويل، مورد البحث، ترجمة النص في الأفق التاريخي للمفسّر: “حين يعيش المفسّر في أفق تاريخي مختلف عن الأفق التاريخي الذي ظهر فيه النص، وتكون تجرية الاثنين عن تفسيهما وعن العالم منتفاوتة، يجب أن يترجم معنى النص بحيث يلائم الأفق التاريخي للمفسّر، ومن الواضح أن هذه الترجمة، ليست ترجمة من لغة إلى أخرى، إنها ترجمة تجارب بتجارب أخرى. وبعبارة أخرى، فهم تجارب الآخرين من طريق الأسئلة الناجمة عن تجارب الحاضرين”(38).
قال صاحب هذه النظرة من قبل: إن أي فهم مبني على تفسير، وقد أوصل المفسّر الآن من طريق التفسير ومن طريق المقدمات والمقومات السابقة إلى مرحلة يستطيع فيها أن يترجم النص في أفقه التاريخي؛ وهذا أيضاً ليس ترجمة من لغة إلى أخرى وإنما من تجربة إلى أخرى.
نرى أنه بعيداً عن مشكلة “الدور والتسلسل”، وبعيداً عن ان المفسر بدلاً من التفسير توجه نحو “التطبيق” تبرز هنا مشكلة أخرى، وهي أن المفسّر يفهم تجارب السابقين بالاستعانة بتجارب الحاضرين. إذا كانت تجارب الحاضرين بمعنى أن القدماء والحاضرين يشتركون في فهم معنى الألفاظ وأن ذلك المعنى الذي تبادر إلى ذهن القدماء يتبادر أيضاً إلى ذهن الحاضرين، أي أن الفريقين يتشاركان في “آلية الدلالة”، فيكون الحاضرون على هذا النحو غير محتاجين لفهم مقاصد الماضين إلى التفسير، وعلى الدخول بين المفسّرين، وإنَّما يفهمون لغة بعضهم بعضاً وإن كانوا غير متعاطفين في ما بينهم، ولكنهم يملكون لغة واحدة، واللغة الواحدة ضرورية لفهم المراد، وليس التعاطف، وحتماً يرجح التعاطف على اللغة المشتركة، لكن التعاطف جيد “للاستئناس” واللغة المشتركة لفهم المقصود.
اللغة أفضل من الصوت، والمحبة أفضل من اللغة المشتركة.
كم من تركيين يبدوان غريبين وكم من هندي وتركي مشتركي اللغة.
أما إذا كان المقصود من تجارب الحاضرين أموراً أخرى ـ أي هذه المقدمات والمقومات التأويلية ـ إضافة إلى الإشكالات التي ذكرناها، إذا وصل المفسّر طبق هذا التأويل إلى تفسير أو ترجمة، فإن فهم التفسير أو الترجمة سيحتاج أيضاً إلى التفسير والطريق المسدود للدور والتَّسلسل الواقعيان ـ وليس التأويليان ـ سيمسك بخناق الجميع الذين يريدون فهم المتون، ذلك أن فهماً بلا تفسير غير ممكن، إلا إذا وافقنا على أن لا يكون الفهم مبنياً على التفسير، وإنما فهم النصوص والظواهر مستغنٍ عن التفسير، وهكذا يصبح نظام التأويل بلا نظام، فتتداخل الأجزاء ويتداعى بناء التأويل مورد البحث الذي بُني على أسس متزلزلة.
انطلاقاً من التوضيح السابق، فإن القول التالي لم يحلّ المشكلة: “يمكن للمفسر أن يصابَ بنوعين من الانحراف: أحدهما تشكيل النص الأصلي على نحو شكلي، ويحيل عليه ما لا يفهمه المخاطبون، والآخر أنه يستمد من النص ما يوافق أسئلته ومعارفه المسبقة ليؤيدها ويجعل النص منطبقاً عليها”(39)، قلنا: إنه لم يحلّ المشكلة، لأنه كلما كان بالإمكان أن يكون لدى المفسّر فنٌّ مكنه من تفسير النص الأصلي وتوضيحه بحيث يفهمه المخاطبون، فينأى بنفسه عن هذا النوع من الانحراف، ولكن إذا كانت مباني التفسير هي هذا التأويل، فإنّ الانزلاق في ورطة “التطبيق” مكان “التفسير” حتمي ولا يمكن تجنبه. فقد قيل من ناحية: إن المفسّر لا يجب أن يقع في الانحراف، ولا أن يستمد من النص التأييد لمعارفه المسبقة، ويطبق النص عليها، ومن ناحية أخرى قيل: إن الفهم المسبق والاهتمام بعلاقات المفسّر وانتظاراته وسؤال التاريخ وكشف المعنى المركزي للنص ـ وهذا من طريق سؤال التاريخ ـ وترجمة النص من أفق إلى آخر ضروريٌ للتفسير…
لكن أمن الممكن بوساطة هذه المقدمات والمقومات أن لا يقع المفسّر في فخ “التطبيق”؟! في أثناء الانتقال من مرحلة إلى أخرى، اعتماد الفهم المسبق إلى ترجمة النص من أفق إلى أفق آخر فتتحكم استنتاجات المفسّر وعلاقاته ورغباته في النص وفي التفسير، كيف يمكن التخلص من فخّ “التطبيق”، والتفسير الذاتي والتحريف والتوصل إلى تفسير صحيح؟!
النتيجة، إنه إذا كان هنالك نص لا يملك مفتاحاً للفهم، بوساطة أوالية “علم الدلالة” ومن طريق دلالة النصوص والظواهر، فإنه لن يفهم بأي وجه من الوجوه. وإذا كان المفسر قد طوى جميع مراحل التفسير التأويلي على نحو متخصّص، واستخدم جميع مفاهيمه المسبقة وأسئلته وتوقعاته في عمله وجعل نصب عينيه المعنى المركزي للنص، ونقل النص بفنّ من أفق إلى أفق آخر، يكون قد أوصل عمل التفسير إلى نهايته.
النص الذي لا يملك نصوصاً ولا ظاهراً، في الأصل، غير قابل للفهم، وأي شخص ينسب إليه أيّ نسبة يكون في الحقيقة قد تورط في “التطبيق” وعلمه يكون تأويلاً وليس تفسيراً. إلا إذا غلَّف مصلحته العليا بالتعمية والرموز. لكن الهدف من القول والكتابة التفهيم، وإن لم يفهم المخاطبون من الأقوال أو المقالات أيَّ شيء، يكون كلام الناطق والمؤلف هباء ولا جدوى منه.
إن النص الذي يتكون، مثلاً، من نصوص وظواهر لا يحتاج إلى التفسير، وإذا كانت فيه أحياناً متشابهات، فإنه يُفسر بالاهتمام بالنصوص وبالظواهر وبالاستقامة بفهم المعاصرين للنص، ووارثيه الحقيقيين، ولا يحتاج إلى الوقوع في تعقيدات التأويل والدور والتسلسل الذي لا يمكن اجتنابه ولا تُحل عقده.
حتماً من الواجب الانتباه إلى أن هنالك فرقاً بين المتون الفنيّة والمتون غير الفنيّة، فالمتون الفنية لها مخاطبون خاصون، ومخاطبو النص الرياضي علماء الرياضيات، والنص النحوي واللغوي يستدعي أيضاً مخاطبيه الخاصِّـين، إن مثل هذه الفنون لها نصوص وظواهر لأهل الفن ومفاتيح فهمها مخفية فيها. ولكن مخاطبي المتون غير الفنية هم الناس جميعاً، وإذا كان فيها متشابهات ومسائل تحتاج إلى التفسير، فإنها تفهم بالاستعانة بمجموع النصوص والظواهر والروايات والآثار. مع أنّه من الممكن في كل عمل اجتهادي، أن تظهر الاختلافات، ولكن هذه الاختلافات جزئية بحيث أنها تتخلص من خطر “التطبيق” وسائر الانحرافات وليس لها منشأ تأويلي، والنقطة الأهم أن نفسّر بصورة صحيحة التفسيرات المختلفة.
الهوامش
(*) باحث من إيران. ترجمة د. دلال عباس.
(1) نامه مزظگ (رسالة الثقافة)، السنة الثالثة، العدد 1، ص. 7.
(2) المرجع نفسه، ص. 70.
(3) المرجع نفسه، ص. ن.
(4) المرجع نفسه، العدد 14 و15، ص. 121.
(5) نامه مزضگ. نفسه.
(6) م. ن.، عدد 16 و15، ص. 121.
(7) م. ن.، السنة الثالثة، عدد 1، ص.71
(8) م. ن.، ص. 72.
(9) م. ن.، ص. 72.
(10) م. ن.، ص. 73.
(11) م. ن.
(12) نامه مزضگ، العدد 18، دكتر داورى.
(13) م. ن.
(14) م. ن.، ص. 131.
(15) م. ن.، العدد 16، ص. 127.
(16) م.ن.، ص. 148.
(17) م. ن.
(18) طبع هذا الكتاب في العام 1375ش. (1956)، ومؤلفه الشيخ محمد مجتهد شبسترى.
(19) نامه مزضگ، العدد 18، ص. 61.
(20) “تأويل الكتاب والسنة”، ص. 12 ـ 32.
(21) م. ن.، ص. 15.
(22) م. ن.
(23) م. ن.
(24) تفسير كنز الحقائق، ج. 3، ص. ؟، نقلاً عن معاني الأخبار، ج. 4، ص. 33.
(25) مزضگ مكتر معين، أعلاه، 6/2067.
(26) تأويل الكتاب والسنة، ص. 17.
(27) نفسه، ص. 24.
(28) تتمة المنتهى في وقائع أيام الخلفاء، ص. 91، المكتبة المركزية 1333 (1994).
(29) منتهى الآمال، ج. 1، ص. 200، المطبعة العلمية الإسلامية، 1331 (1992).
(30) تأويل الكتاب والسنة، ص. 24 و25.
(31) نفسه.
(32) نفسه، ص. 55.
(33) الفرائد، ص. 45، مصطفوى 1374 هـ. ق.
(34) الوصول، ج.5، ص. 333.
(35) درر الفوائد للعلامة المجدد المؤسس الحائرة،
(36) نفسه.
(37) الميزان، 4/1، مقدمة الكتاب
(39) المصدر نفسه، ص. 28 و29 ملخصاً، ج. 1، ص. 360، مؤسسة النشر الإسلامي، 1408 هـ. ش.