طرقٌ لا تفضي إلى أيّ مكانٍ([3]).
في فهم هيدغر
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، طغى اسم مارتن هيدغر على المشهد، ليس فقط في الفلسفة الألمانية، ولكنْ أيضاً في الفلسفة القارية والأمريكية اللاتينية. هذه الحقيقة بالذات ستكون لغزاً، على الأقلّ بالنسبة للعالم الأنجلو أمريكي؛ إذ ما الذي يمكن أن يفسِّر هذا الافتتان بمفكِّرٍ من نوع هيدغر؟ بالتأكيد ليس حجم منشوراته المبدئية. إلى جانب ذلك، أكبر أعماله، «الكينونة والزمان» (Sein und Zeit) بقي غير مكتمل، وهو كذلك، يواجه قارئه بلغةٍ وأسلوب تفكيرٍ أكثر تطلُّباً، إنْ لم يكونا في الواقع منفِّرين، من معظم الفلسفات الأخرى الحالية أو الماضية. وبينما كانت بعض الظروف المحيطة بأسلوب حياة هيدغر غير تقليدية إلى حدٍّ كبير، مقارنةً بظروف فيلسوف الجامعة الألمانية النموذجي، فإن شخصيته ومظهره لم يكونا كافيين لتفسير تأثيره على العالم الأكاديمي وغير الأكاديمي.
ومع ذلك، سيكون من المضلِّل الاعتقاد بأن هيدغر لم يترك أيّ تأثير على المفكِّرين الأنجلو أمريكيين. يمكن العثور على مقياسٍ لهذا الانطباع في الإشادة التي قدَّمها فيلسوف تحليلي مثل: جيلبرت رايل (Gilbert Ryle) ذات مرّةٍ إلى هيدغر في مراجعةٍ رائعة لأعماله، احتوت، على الرغم من قيودها الشديدة واستنتاجاتها السلبية، على جملٍ مثل ما يأتي:
ليس لديّ سوى الإعجاب بمهمته الخاصة وبإنجازاته التي يمكن أن أتبعها… يظهر نفسه على أنه مفكّر ذو أهمّية حقيقية من خلال الدقّة والتفكير الهائلين في فحصه للوَعْي، من خلال الجرأة وأصالة أساليبه واستنتاجاته، والطاقة الثابتة التي يحاول بها التفكير فيما وراء مخزون مقولات الفلسفة الأرثوذكسية وعلم النفس([4]).
ومن الجدير بالذكر أيضاً أنه بعد عودة سيدني هوك (Sidney Hook) من رحلةٍ دراسية في ألمانيا، في أوائل الثلاثينيات، أعرب له جون ديوي عن اهتمامٍ كبير بهيدغر، سيَّما في تصوّره للوضع الإنساني ومفهومه للقلق (Sorge)، بالرغم من أنه لا يوجد بين فكره وبين فكر ديوي في الواقع حتّى القليل من أوجه التشابه([5]).
مقاربةٌ أخرى لفكر هيدغر تقترح من خلال تأثيره في بول تيليش، الذي اعترف بالتأثير الحاسم لفكر هيدغر على عمله منذ 1924 ـ 1925م، عندما كانا زميلين في جامعة ماربورغ، أي في الوقت الذي كان فيه كتاب هيدغر «الكينونة والزمان» (Sein und Zeit) في طور التكوّن([6]). لكنّ تأثير هيدغر كان أقوى على رودولف بولطمان، الذي أثارَتْ دعوته إلى «نزع الأسطرة» (Entmythologisierung) عن لاهوت العهد الجديد اهتماماً متزايداً، حتّى خارج ألمانيا([7]).
بالرغم من ذلك فإن المفارقة الأساسية ما تزال قائمةً. ولحلِّها بشكلٍ كامل يجب على المرء أن لا يأخذ في الاعتبار الصوت الذي أثار مثل هذا الصدى المذهل فحَسْب، بل كذلك الظروف التي صاحبَتْ استقباله في ألمانيا وفي أجزاء أخرى من العالم. وحتّى قبل ذلك، سيكون تقديم تفسيرٍ واضح وكامل لفلسفة هيدغر في مجملها، بقدر ما هو متاح للجمهور اليوم، أمراً لا غنى عنه. مثل هذا الأمر ما يزال سابقاً لأوانه، وهو بالتأكيد يتجاوز إمكاناتي كذلك، وسأترك الأمر لأولئك المستعدّين للانغماس في كتابات هيدغر إلى حدّ الانشغال بتأمُّلها سطراً بسطرٍ، مثل أيّ نصّ كلاسيكي يتطلَّب تفسيراً على طريقة الحواشي والتعليقات، من دون التخلّي عن الموقف النقدي.
لحسن الحظّ، فإن متطلّبات مشروعي الحالي محدودةٌ أكثر، وكلّ ما يتطلبه الأمر هو تحديد العلاقة بين اللغز الهيدغري والحركة الفينومينولوجية، التي مارس هيدغر على تطوّرها مثل هذا التأثير المصيري والحاسم تقريباً، وهذا يستدعي مناقشة الجانب الفينومينولوجي لعمله فحَسْب. وإذا كان من المؤكَّد أنه لا يمكن التسليم بأن مثل هذا الفصل أمرٌ ممكن؛ فإن هذا الاحتمال يُوحي به على الأقلّ حقيقة أن هيدغر نفسه أسقط تقريباً جميع الإشارات إلى الفينومينولوجيا من كتاباته بعد «الكينونة والزمان» (Sein und Zeit)، وأنها لن تظهر فيما بعد إلاّ في مناقشاته الاسترجاعية في أواخر الأربعينيات.
لا شَكَّ أن أكبر عقبة أمام أيّة محاولةٍ لفهم هيدغر، سيَّما في الفترة الوسطى الحاسمة من تجربته، هي عقبةٌ لغوية. ولا يستطيع أيّ قارئٍ لا يتقن اللغة الألمانية بشكلٍ استثنائي أن يتوقَّع فهم المغازي والدلالات الكاملة للغته. ومن الواضح أن التأخُّر في إنجاز ترجمة إنجليزية لأعماله مرتبطٌ بهذه الصعوبة الأساسية. لكنْ حتى الألماني الأصلي يجد نفسه غالباً في وضعٍ حرج بسبب أسلوب هيدغر في الكتابة، الذي يتطلَّب فهمه أحياناً ترجمة إلى الألمانية العادية. ولا تنشأ الصعوبة هذه من طريقة تأسيس مصطلحات جديدة استناداً إلى معانٍ جَذْرية متقادمة فحَسْب، بل كذلك من استخدام الكلمات الموجودة لأغراض جديدة غير مسموعة، دون تقديم مسرد يكون بمثابة مفتاحٍ، أو عرضٍ لاستخداماته الجديدة من خلال تعريفاتٍ صريحة. وبالتالي، حتّى القارئ الألماني ليس لديه حقّاً بديلٌ لتعلُّم مفردات هيدغر سوى الطريقة التي تعلَّم بواسطتها لغته الأمّ، أي بمشاهدة استخداماتها وعبر أسلوب التجربة والخطأ. وسنرى لاحقاً أن مشكلة اللغة هي في الواقع المشكلة التي منعَتْ هيدغر من أن يمسك جَذْرياً بمشكلته المركزية. ونحن في الحقيقة نادراً ما نجد شيئاً من خصائصه المميزة في منشوراته الأولى، كأطروحته للتأهيل عن دانس سكوت (Duns Scotus). ولقد بُني نجاحه الأولي، في الواقع، وسمعته بشكلٍ أساسي على محاضراته في فرايبورغ وماربورغ، وعلى التوقّعات التي أثارَتْها. وعلى هذا الأساس سيكون لنشر «الكينونة والزمان» (Sein und Zeit) في المجلَّد الثامن من حولية هوسرل للفينومينولوجيا أول تأثيرٍ قويّ ومباشر. ونحن يمكننا أن نقتنص أسلوب تعليم هيدغر المختلف اختلافاً كبيراً عن أسلوب كتاباته من المنشورات اللاحقة لبعض دَوْرات محاضراته، التي تظهر القليل من تشابك الفصول المركزية في «الكينونة والزمان» (Sein und Zeit)، والتي اتَّسمَتْ في الواقع بـ «طريقتها الواضحة والمدروسة». وهو شيءٌ شهد به حتّى سيد الوضوح في العالم الأنجلو أمريكي «رالف بارتون بيري» (Ralph Barton Perry) بعد حضوره أحد فصول هيدغر الدراسية. أيضاً، في علاقاته الشخصية وفي بساطته الهادئة وانفتاحه المتواضع، سيبدو هيدغر في تناقضٍ صارخ ليس فقط مع أسلوبه الأسقفي في الكتابة وفي أدائه لمحاضراته المحدَّدة التوقيت بعنايةٍ، ولكنْ أيضاً مع العزلة النموذجية للعديد من العلماء الألمان، وهو تناقضٌ رُبَما ساهم في جعل رسالته المذهلة والمحيِّرة في كثير من الأحيان أكثر فعاليّةً.
ومع ذلك، يجب أن يستند تأكيد الأهمّية الفلسفية الدائمة لهيدغر إلى منشوراته التي لا توجد أيّة طريقةٍ لتجاوزها. لكنّ القليل من الدراسات المتوفِّرة، إنْ وُجدَتْ، يمكن أن تمهِّد الطريق إليها. والكثير مما هو متاحٌ منها الآن باللغة الإنجليزية يشوبه أنه موجودٌ في الحقيقة في السياق المضلّل لتفسيرات الوجودية التي تنكَّر لها هيدجر نفسه، وسيفشل معظمه في إدراك تطوّر تفكير هيدغر، وهو سيكون أقلّ ملاءمة حتّى كمقدمةٍ للجوانب الفينومينولوجية لعمل هيدغر. وهكذا تظلّ المشكلة الصعبة المتمثِّلة في عدم توفّر مقدّمة حقيقية لفينومينولوجيا هيدغر دون حلٍّ. لكني لا أقصد من ذلك الإيحاء بأن المسألة هذه يمكنني حلُّها، خاصّة في هذه المرحلة التي ما يزال هناك الكثير مما يشكّل دليلاً مهمّاً مفقوداً. ومع ذلك، يجب النهوض بالمحاولة، ولو لغرض تحسين العلاقات بين التيارات الفلسفية الرئيسية في عصرنا فحَسْب.
أودّ أن أقدِّم اقتراحاً واحداً أخيراً قبل الانتقال إلى مهمّتي المحدَّدة، وخاصّة أن له تأثيراً حتّى على تطوّر موقف هيدغر من المنهج الفينومينولوجي. منذ أن بدأت دراسات هيدغر حول هولدرلين بالظهور عام 1936م بات من الواضح أن الشعر يحتلّ مكانةً فريدة في تفكيره. في عام 1954م ظهر مجلَّد صغير بعنوان «من تجربة الفكر»([8]) (Aus der Erfahrung des Denkens) ـ يحتوي قصيدتين قصيرتين تحيط بهما سلسلةٌ من الأمثال تتكوَّن من استهلالات تحدِّد الحالة المزاجية ـ مدهشٌ في صوره الشعرية المكتوبة على صفحة واحدة، والتي يتبعها تأمّل عامّ أكثر تجريداً على الصفحة الأخرى. وهو يعرض توليفةً فريدة من نوعها لأسلوبي هولدرلين وبارمينيدس ولبعض خطوط هيدغر الإرشادية الرئيسية، خاصّة في فكره اللاحق. رُبَما يقدِّم هذا التحوّل إلى الشعر أفضل دليلٍ على سرّ هيدغر. وهو كان في الأساس أقرب بكثير إلى الشعراء الفلاسفة في العالم منه إلى الفلاسفة الخالصين. ويمكن أن يكون كولريدج (Coleridge) وثورو (Thoreau) وت. س. إليوت أكثر ملاءمةً له من بناة الأنساق الكلاسيكيين. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن ندرك أنه في هذه المرحلة يجب أن تظلّ أيّة محاولةٍ لتفسير فكره الكامل أوّلية مشروطة قبل اكتمال المشروع الضخم للطبعة النهائية لأعماله (Gesamtausgabe) في سبعة وخمسين مجلّداً على الأقلّ. ثلثاها، مما لم يتمّ نشره من قَبْلُ، قد اكتمل. ومن الواضح أن هذا الشرط لا يمكن تحقيقه حتّى خلال حياة معظم قرّاء هيدغر الحاليين.
تصوُّره للفينومينولوجيا
الحقيقة أنه ما يزال من السابق لأوانه تتبُّع أصول تصوّر هيدغر للفينومينولوجيا وتطوّرها المبكِّر. لكنْ تبين المعلومات حول محاضراته الأولى في فرايبورغ والنشرات الأولى لمحاضراته في ماربورغ أنه كان يدّعي منذ البداية استقلاله في تطوير نسخته الخاصة من المنهج الجديد.
وتشير الدلائل إلى أن النصوص الأكثر أهمية كتلك الموجودة بالفعل في المنطق لعام 1925/26 (GA 2) ستثري هذه الصورة. في الوقت الحالي، يبدو أن أفضل مسارٍ هو التركيز على تصوّر الفينومينولوجيا الذي تمّ تطويره في «الكينونة والزمان»، أي بشكلٍ رئيسي على «الفينومينولوجية الهرمنيوطيقية»، مضافاً إليها التعديلات المهمة التي تمّ الكشف عنها في المحاضرات التي تلَتْ مباشرة «المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا» في صيف عام 1927م.
وتجدر الإشارة إلى أنه في دراسته الأخيرة: «الطريق إلى الفينومينولوجيا» من خلال «تحقيقات منطقية» لهوسرل اعترف بأنه لم يستطِعْ فهم فكرته الجديدة عن الفينومينولوجيا بشكلٍ واضح حتّى التقى به شخصياً. وستتيح لنا محاضرات ماربورغ في عامي 1924 و1925 ـ 1926م تكوين فكرةٍ أولية عن كيفية استيعاب هيدغر لفكرة هوسرل عن الفينومينولوجيا الوصفية، من خلال تمثُّل بعض أفكارها الأساسية، كفكرته عن القصد والحدس المقولي ومفهومه الجديد للبداهة. ولكنها في الوقت نفسه ستكشف إلى أيّ مدىً ظلّ ينتقد ما أسماه هوسرل مبدأ جميع المبادئ، والذي بدا له أنه الأساس الذي قامَتْ عليه الفلسفة الترنسندنتالية الذاتية لهوسرل اللاحق. ما يجب أن يُؤْخَذ في الاعتبار هنا أيضاً هو أن هيدغر سيعبِّر منذ البداية عن الفكرة المركزية للفينومينولوجيا في شعار «نحو الأشياء نفسها» (Zu den Dinge)، والذي ورد في كتابات هوسرل بالصدفة فقط. لكنْ من غير الواضح ما إذا كان قد ذكر في «برنامج العمل» في مقدّمة الحولية (Jahrbuch)، ليس مبدأ الحَدْس فحَسْب، بل البصيرة الاستدلالية كذلك؛ باعتبارهما الأرضية المشتركة للفينومينولوجيا المبكّرة. ولذلك سأبدأ بفينومينولوجيا «الكينونة والزمان»، ثم سأناقش منهجية هيدغر اللاحقة؛ بهدف تحديد إلى أيّ مدىً يمكن اعتباره فينومينولوجياً بالمعنى الأصلي.
أـ الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية([9])
مقارنةً بالتصوُّر الذي يبدو غير إشكاليٍّ للفينومينولوجيا غير المقيّدة بأيّ وصف للفترة السابقة على «الكينونة والزمان»، فإن ما أطلقه هيدغر الآن باسم «الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية» سيقدِّم مزاعم محدّدة وطموحة تتبدّى في الفصل الثاني المنهجي من المقدّمة. أما الفصل الأول فقد تناول فيه «أهمية وبنية وتميُّز مسألة الكينونة»، مبتدئاً، لتحقيق هذه المهمة، بإجراءٍ تحضيري لا غنىً عنه أسماه «التقويض الفينومينولوجي للأنطولوجيا». ولقد كانت الحاجة إلى مثل هذا الإعداد ناشئةً من قناعته بأننا لا نستطيع أن نبدأ بداية جديدة قبل أن نحدِّد المفاهيم الميتافيزيقية المسبقة التي تزيِّف صياغة مشكلاتنا الفلسفية، بل التي تزيف في الواقع وصف ظاهراتنا، ونبطلها. وبالتالي فكلمات مثل: «الوعي» أو «الذات» أو «الجوهر» هي نتاج النظريات الميتافيزيقية التي أفسدَتْ مقاربتنا الكاملة للظاهرات، ولقد اعتمدَتْ فينومينولوجيا هوسرل ذاتها بسذاجةٍ كبيرة على التقاليد، وعلى أيّ شيءٍ سوى التحرُّر من الفروض. وبالتالي سيكون هدف التقويض الفينومينولوجي تحريرنا من العبودية اللاواعية لماضينا الميتافيزيقي.
ومع ذلك، فإن مصطلح «تقويض» (Destruction) ينبغي أن لا يُفْهَم بالمعنى السلبي كمجرّد نبذٍ لكل التقاليد، أو كنوعٍ من العدمية الأنطولوجية أو النسبانية، بل باعتباره شكلاً من أشكال فكّ عقد التقاليد الصارمة، وإزالة (Ablösung) الحجب (Verdeckungen) التي تعتبر هذه التقاليد مسؤولةً عنها. وللتقويض بهذا المعنى مرجعية إيجابية، هي التجارب البدئية (Ursprüngliche) التي نشأَتْ منها هذه التقاليد، والتي تشكِّل في الحقيقة شهادات ميلادها. هذا هو المعنى الذي قصده هيدغر بـ «تقويض» تاريخ الأنطولوجيا عند مفترق الطرق الثلاثة الحاسمة في الفلسفة الغربية، كَنْط وديكارْت وأرسطو (بهذا الترتيب)، في محاولة لتتبُّع الخطوات التي اتخذها هؤلاء المفكِّرون واكتشاف مقابلها. سيؤجّل مخطط «الكينونة والزمان» مثل هذا التقويض، مع ذلك، إلى الجزء الثاني من الكتاب، والذي سيكون مصيره كمصير القسم الثالث من الجزء الأوّل، الذي لم يَرَ النور قطّ. ومن الواضح أنه لم تكن الفينومينولوجيا هي التي تطلَّبَتْ بشكلٍ مسبق مثل هذا التقويض، بل هو ذاته الذي افترض مسبقاً فينومينولوجيا خاصّة للتجارب البدئية.
لكنْ ما هي الفينومينولوجيا هذه بالمعنى الهيدغري؟ في الأجزاء المنشورة من «الكينونة والزمان» يقدِّم هيدغر تصوُّرين للفينومينولوجيا، أكثرهما اكتمالاً في الواقع هو ذو طبيعة أولية (Vorbegriff)، أما التصوُّر النهائي، الذي قرّر تحت عنوان «فكرة» (Idee) الفينومينولوجيا، فقد تمّ تكوينه للأسف بطريقةٍ عابرة تبدو مقدّمة لعلاجٍ أكمل، على الأرجح في الأجزاء المفقودة من الكتاب ـ في الواقع يظهر هذا العنوان مرّةً أخرى في مخطّط الجزء الثالث من «المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا»، ولكن مرّةً أخرى لا يتمّ تنفيذه ـ. وهكذا فإن المفهوم الأوّلي ما يزال، في ما يخصّ جميع مقاصده وأغراضه، الصياغة الأكثر وضوحاً لتصوّر هيدغر الخاصّ للفينومينولوجيا([10]).
منذ البداية، سيعلن هيدغر بوضوحٍ أن ما فهمه من خلال الفينومينولوجيا في «الكينونة والزمان» لم يكن مطابقاً لما قصده هوسرل، وأنه يملك حقّ تطويره بنفسه إلى ما بعد المرحلة التي كان قد وصل إليها معه، متَّخذاً بالتأكيد من فينومينولوجيا هوسرل الأساس الذي لا غنى عنه لمثل هذا التطوير، مشيراً بشكلٍ واضح إلى ضرورة «النفاذ داخل» الفينومينولوجيا، في «تحقيقاتٍ منطقية بشكل خاص لا في «أفكار» ونمطها المطوّر. ما هو الأهمّ من كلّ ذلك هو اعتقاده بأن ليس الشيء الأساس في الفينومينولوجيا أن تكون مدرسة فلسفية بالفعل (اتجاه)؛ لأن «الإمكانية تعلو الفعلية، أي إن فهم الفينومينولوجيا يتطلَّب اغتنامها كاحتماليةٍ»([11])، ولأنها كذلك ليست «وجهة نظر»، ولا «مدرسة»، وهي لا يمكن أن تصبح واحدة «طالما أنها تفهم نفسها».
مصطلح «الفينومينولوجيا» يعني في المقام الأوّل مفهوم المنهج. إنه لا يميِّز المحتوى النوعي (das Sachhaltige Was) لموضوعات البحث الفلسفي، بل يميِّز أسلوب الاقتراب منها (das Wie). ويعبر عنوان «الفينومينولوجيا» عن مبدأ يمكن صياغته على النحو التالي: «نحو الأشياء ذاتها»، على عكس جميع البناءات غير المبرهنة (Freischwebenden) والنتائج العرضية والقبول الأعمى للمفاهيم التي لم يتمّ التحقُّق منها إلاّ في الظاهر والأسئلة الزائفة التي غالباً ما كان يتمّ طرحها (Sich Breitmachen) على مدى أجيال على أنها «مشكلات». ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجيب بأن هذا القول، رغم كلّ شيء، واضحٌ تماماً (Reichlich Selbstverständlich)، بالإضافة إلى أنه صورةٌ عن مبادئ كلّ المعارف العلمية. لا يفهم المرء لماذا يجب اعتبار هذه التفاهات بشكلٍ صريح (Titelbezeichnung) نوعاً من البحث؟ إنها بالفعل (Selbstverständlichkeit) «تفاهة»، ونحن نريد مقاربتها عن كثبٍ بقدر ما تكون ذات صلةٍ بتوضيح طريقة هذه الأطروحة([12]).
يتخذ تفسير هيدغر الأولي لهذا المنهج، الذي يبدو «تافهاً»، من تحليل كلمة «فينومينولوجيا» نقطة انطلاقه المميِّزة، حيث يتمّ تمييز المكوِّنين «الظاهرة» و«اللوغوس» وتفسيرهما، أوّلاً منفصلين ثم بعد ذلك متّحدين. والنتيجة التي سينتهي إليها تختلف عن تفسير هوسرل إلى حدٍّ كبير، لدرجة أنه قد يكون من الجيِّد أن نشرع هنا بمقارنة كلا التفسيرين.
عندما تناول هوسرل مصطلح «الفينومينولوجيا»، كما هو موضَّح في الفصل الثالث من كتابنا، لم يقدِّم تعريفاً أو مناقشةً صريحة لما كان يقصده بكلمة «ظاهرة» (Phenomenon). فقط عندما تبلورَتْ فكرته عن الفينومينولوجيا إلى شيءٍ مميَّز وأساسي للفلسفة شعر بالحاجة إلى إعادة تعريفها. وهو بعد تخلِّيه عن تصوُّر برنتانو للمصطلح في «تحقيقات المنطقية»([13]) سيعطيه معنىً محدَّداً، أوّلاً في محاضراته الهامة حول «فكرة الفينومينولوجيا» عام 1907م ثمّ في مقدّمة «أفكار». هنا ستوصف «الظاهرات المَحْضة» للفينومينولوجيا الجديدة بأنها غير فرديّةٍ، أي إنها الماهيّات العامة للظاهرات التجريبية التي نحصل عليها بالاختزال الاستدلالي، بالإضافة إلى أنها غير حقيقيّةٍ؛ لأنها تقتنص بواسطة الاختزال الفينومينولوجي، الذي كان وضع حقيقتها الواقعية بين قوسين. وبالتالي، فإن حالتها الأنطولوجية أو الميتافيزيقية تُركَتْ عمداً دون حَسْمٍ منذ البداية، بينما ستكون الكلمة الأخيرة هي أنها تدين بوجودها للوَعْي.
لا يوجد مثل هذا الحياد، ناهيك عن الاعتماد على الوَعْي، متضمّناً في تصوُّر هيدغر لمفهوم الظاهرة، التي ستقرّر هنا على أنها «ما يظهر نفسه»، وبشكلٍ أكثر تحديداً على أنها «ما يظهر نفسه شخصياً (das Sich-an-Ihm-Selbst-Zeigende) أو ما هو واضحٌ (das Offenbare)». هذا الظهور لا يمنع احتمال أن تختفي ظاهرة هيدغر أحياناً خلف مظهر مضلّل، لكنْ من الواضح أنها ليست مشتقّةً من العمليات الاختزالية الاستثنائية، بل هي بالأحرى كيانٌ قائم بنفسه، له سلطاته الخاصّة به، يوجد قبل تفكيرنا، وفي استقلالٍ عنه.
لا يعني هذا، مع ذلك، أن هيدغر عاد ببساطةٍ إلى الاستخدام الشائع لكلمة «ظاهرة»، كما هي مستخدمة في الخطاب العادي، وأيضاً في العلم، بل سيلحظ هذا المعنى العام «المبتذل» (Vulgär) للكلمة كواحدٍ من بين عدّة معانٍ أخرى، سيَّما ذاك الذي ينطبق على العالم التجريبي، والذي يُفترض أنه كذلك «ظاهرة» العلوم الطبيعية. ومن هذا المنطلق ميَّز هيدغر «التصوُّر الفينومينولوجي لمفهوم الظاهرة»، الذي يفترض أنها «أوّلاً وقبل كلّ شيء» (Zunächst und Zumeist) لا تظهر نفسها، بل تظلّ محتجبة باعتبارها «المغزى العميق» (Sinn) والأساس (Grund) لما يظهر نفسه([14]).
ومن ثمّ فإن «الظاهرة الفينومينولوجية» تتطلَّب طريق البرهان والتحقُّق المباشر أكثر بكثيرٍ من تطلُّبها مجرّد فينومينولوجيا وصفيّة سيذكرها هيدغر بشكلٍ عابر فقط، بحيث يبدو أنها ليس لها عنده أيّة فائدةٍ تُذْكَر. وبالتالي فإن الظاهرة الفينومينولوجية تتطلَّب طريقةً تجعلنا نرى ما هو محتجبٌ ومنسيّ في العادة. أما كلمة «لوغوس»، المكوِّن الثاني لكلمة «الفينومينولوجيا»، فهي، في تفسير هيدغر المكثَّف لمعناها الحرفي، منهجٌ يجعلنا نرى ما هو محتجبٌ، ويخرج المختبئ من مخبئه، ويكشفه على أنه «غير مخفيّ»، أعني كـ «حقيقة» (Ielheiaـa)([15]). وهكذا فإن الفينومينولوجيا بالمعنى الحقيقي للكلمة تصبح بالنسبة لهيدغر منهج كشف الخفاء أو هي «التفسير» (Auslegung)، الذي هو المعنى المنهجي للوصف الفينومينولوجي([16]).
والظاهرة الأساسية التي تحتاج إلى الكشف بهذا المعنى هي كوننا ضحية نسياننا المألوف لـ «الاختلاف الأنطولوجي» بين الكينونة والكائنات. وبالتالي فإن علم «كينونة الكائنات» أو الأنطولوجيا بالنسبة لهيدغر يتعين ممكناً فقط كفينومينولوجيا. وعلى الرغم من عدم تقديم أيّ سببٍ مقنع فقد اتّضح له، علاوةً على ذلك، أن العكس صحيحٌ أيضاً؛ أي أن الفينومينولوجيا، وفقاً لمحتواها، تتطابق مع الأنطولوجيا. وهو، بعد أن يذهب بعيداً في تأكيد ذلك، سيخلص أخيراً إلى أن الفلسفة بحدّ ذاتها ليست سوى «أنطولوجيا فينومينولوجية كلِّية مبنيّة على تأويليات الكائن الإنساني ـ الدازاين (Dasein)»، وهو ما يجعل من الفينومينولوجيا، ضمنياً، المنهج الوحيد للفلسفة.
وبغضّ النظر عن الجرأة المذهلة لمثل هذا الاستنتاج، فإن فكرةً مثل هذه الأنطولوجيا الفينومينولوجية ستتناقض بشدّةٍ مع تصوُّر هوسرل نفسه؛ لأن «الأنطولوجيا» ليست عنده، على الأقلّ في ذلك الوقت، علم كينونة الكائنات، بل هي في المقام الأوّل فرعٌ من منطقه الخالص، أعني من العلم الاستدلالي الذي ينشغل بالمقولات العامة الشاملة لجميع الكائنات أو (الأنطولوجيا الصورية) المتبوعة بأنطولوجيا «جهوية» تتعامل مع المقولات العليا في كلّ علمٍ في طبيعته المختلفة. وإذا كان ضرورياً، في تصوُّر هوسرل، دعم هذه الأنطولوجيات بواسطة الاشتقاق الفينومينولوجي من البديهيات الأساسية فإن من الواضح أن مثل هذه الأنطولوجيا المدعومة فينومينولوجياً ستكون مقصورةً على منطقةٍ محدودة من الكائنات بَدَلاً من الكينونة على أيّ حال. وستكون أنطولوجيا هيدغر مقيّدةً كذلك، لكن بمعنى أنها ستتعامل فقط مع سمةٍ معيَّنة لكلّ الكائنات، وتترك، كما يبدو، مشكلات هوسرل بالكامل للعلوم.
ولكنْ ما هو بالضبط نوع التفسير الجديد الذي تتطلَّبه أنطولوجيا هيدغر الفينومينولوجية؟ هنا سنقع على مصطلح «الهرمنيوطيقا» في الفينومينولوجيا الخاصة به، الذي لم يكن في الحقيقة مصطلحاً جديداً، والذي ستكون بداياته مع التفسير الإنجيلي، ثمّ سنراه فيما بعد في تفسير الوثائق التاريخية مع دلتي، الذي أثنى هيدغر عليه مراراً، الذي جعل هذا المصطلح فائق الأهمّية. ولكنّ هيدغر في استخدامه للمصطلح لم يَعُدْ يشير إلى الوثائق أو التعبيرات الرمزية، بل إلى الحقائق غير الرمزية للعالم الحقيقي، إلى الكائن الإنساني أو الدازاين (Dasein). تفسير مثل هذا النمط الخاص من الوجود، في الحقيقة، هو ما سيخصِّص له هيدغر مصطلح «هرمنيوطيقا»، التي سترتبط بالأنطولوجيا العامة بشكلٍ غير مباشر فقط؛ لأنها ستتعامل مع الدازاين، أي مع ذلك النمط من الوجود الذي يوفِّر الأساس لتفسير الكينونة بشكلٍ عام([17]).
لكنْ ماذا يعني «تفسير» حقيقة غير رمزية كالكائن الإنساني «الدازاين»؟ يهدف التفسير إلى بلوغ معنى الشيء المفسَّر، وهو شيءٌ يفترض مسبقاً أن ما يجب تفسيره له معنى، وستكون إحدى تأكيدات هيدغر الأساسية أن الكائن الإنساني «الدازاين» له دلالة بالمعنى الذي يسمح بالتفسير، ويرتبط بوجوده الخاصّ، في الأساس، باعتباره «رهان» ـه: «إن ماهية هذا الكائن تكمن في وجوده تجاه» (Zu-sein)([18]). و«الذي» يوجد تجاهه الكائن الإنساني» الدازاين» يتكوَّن، بالتأكيد، في المقام الأول من إمكانية، سيَّما إمكانية أن يكون الكائن أصيلاً أو غير أصيل. وفي هذا التوجُّه نحو الإمكانيات التي تتجاوز نفسه يكون الكائن الإنساني «الدازاين» قادراً على تفسيرٍ يحدِّد هذه الإمكانيات أمام نفسه، من خلال تحديد «ما هو الغرض منها» (Woraufhin, um-zu).
والكائن الإنساني «الدازاين» ليس قادراً على مثل هذا التفسير فحَسْب، بل إنه يتطلَّبه أيضاً؛ لأنه مثلما تميل الكينونة إلى السقوط في النسيان فإن لدى الكائن الإنساني» الدازاين» كذلك نزعةً متأصّلةً إلى ما أسماه هيدغر السقوط (Verfallen) ـ وهي كلمةٌ يمكن فهمها بمعناها الحرفي، ولكنْ أيضاً بمعنى الافتتان ـ، وهو سمةٌ من سمات نَمَط اليومية للكائن الإنساني «الدازاين»، التي يجب أن تنطلق منها الفينومينولوجيا الهرمينيوطيقية. وهذا ما يفسِّر أيضاً لماذا يجب أن يسبح التفسير الهيرمينوطيقي، على أيّ حالٍ، ضدّ التيار، وأن يستخدم قدراً معيَّناً من العنف، كما يقرّ هيدغر بصراحةٍ.
لكنّ ذلك سيطرح مشكلة كيفية إنجاز مثل هذا التفسير بالفعل وتحديد معاييره. سيشير هيدغر نفسه إلى أن الفهم والتفسير يعتمدان على بعض المفاهيم المسبقة، وبالتالي فإن كلّ تفسيرٍ للعناصر المألوفة في الحياة اليومية يرتبط بإطارٍ ملائم (Bewandtnisganzheit) يحتضنه (Vorhabe)، ويتضمَّن معاينة (Vorsicht) تتطلَّع إلى معان مأمولةٍ، وتتطلب أنماطاً مفاهيمية تخصّها (Vorgriff)([19]).
ومثل هذا الإجراء، كما يقرّ هيدغر، ليس خالياً من الفروض، وهو يحتوي على كلّ خصائص الحلقة المفرغة. لكنّه يؤكِّد، مع ذلك، أن تطلُّعات التفسير الهرمنيوطيقي لا تحدِّدها أفكار الصدفة أو المفاهيم الشائعة، بل «الأشياء نفسها». وهيدغر لا يحاول ربط هذا الإجراء بأساليب علمية عامّة، غير تلك المستخدمة في الدراسات التاريخية، لكنْ لن يكون من الصعب ربطها بمنطق الفرضية، إنْ لم يكُنْ باستخدام المفاهيم الاستدلالية.
وهكذا، يمكن تعريف الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية على أنها منهجٌ لإبراز الأغراض الخفيّة عادةً لكائنات محدَّدة الهدف، كالإنسان، والتي من المفترض أنها تمتلك مثل هذه البنية الهدفية ـ يبدو أنه لا يوجد سببٌ للقول بعدم إمكانية التحقُّق من هذا الافتراض أو للتحقُّق منه بالفعل ـ. وهكذا، تستخدم الهرمنيوطيقا مناهج تتجاوز مجرّد وصف ما هو واضحٌ وتحاول كشف المعاني الخفيّة بوسائل استباقيةٍ. ويكاد يكون من الغريب عدم مقارنتها مع تقنيات التحليل النفسي في محاولاتها للكشف عن اللاوَعْي. ويمكن للمرء أن يعتبر أن هذه الأمور ستكون، عند هيدغر، ذات طبيعة مفاهيمية أو نظرية أكثر من اللازم، وستفتقر بالتالي إلى تفسيرِ أساس كافٍ للكائن الإنساني «الدازاين» ضمن الإطار الكلّي للكينونة.
من المؤكَّد أن كلّ هذه الأمور ما تزال تتعلَّق فقط بتصوُّر هيدغر الأولي للفينومينولوجيا، حيث سيترك أمامنا مسألة تصوُّره النهائي دون توضيحٍ. وفي ما يتعلَّق بذلك فإن القرائن الوحيدة التي قدَّمها في «الكينونة والزمان» توجد في فقرةٍ قريبة من نهاية التحليل الوجودي للكائن الإنساني «الدازاين»([20])، حيث حاول، بعد تشخيص الزمانية على أنها في النهاية «تعني كينونة الكائن الإنساني»، تطبيقَ هذه الرؤية الجديدة على مختلف المشروعات الإنسانية، بما في ذلك العلم. وبما أنه كان، خاصّة في هذه المرحلة، ما يزال يعتبر الفينومينولوجيا علماً فستؤثِّر هذه الرؤية على الفينومينولوجيا نفسها أيضاً. يتمّ تفسير العلم هنا، أو بشكلٍ أكثر تحديداً النشاط العلمي النظري، على أنه تعديلٌ حَذِرٌ لاهتمامنا المعتاد تجاه بيئتنا. وهو نشاطٌ يتمّ فيه تحييد مصالحنا العملية أو التغاضي عنها. ومع ذلك، لم يتمّ تطبيق هذا التفسير العام للعلم على الفينومينولوجيا. ومن المنطقي أن تطبيقه كان سيُظهِر المنهج الفينومينولوجي كتقييدٍ للمعنى المحدَّد للحياة اليومية. ومن ناحيةٍ أخرى، قد تكون الفينومينولوجيا في نفس الوقت هي نفس نوع التفسير العلمي الذي يمكن أن يكشف عن حدود المنهج العلمي فحَسْب.
بأيّ معنىً وإلى أيّ مدىً إذن يمكن للفينومينولوجية الهرمنيوطيقية أن تدّعي أنها فينومينولوجيا بالمعنى الأصلي للمصطلح؟ بغضّ النظر عن عنصر العنف المطلوب في نوع التفسير الذي قام به هيدغر، فإنه بالتأكيد تجاوز المعطى «المباشر»، إذا كانت المباشرة تعني الانعطاء الواضح. إنها تتطلَّب توقُّعات تتجاوزها كما تفعل أيّة فرضيّةٍ تفسيرية، وتتطلَّب استقراءً يتجاوز ما هو معطىً بشكلٍ مباشر. وبالتالي، مثل هذه الفينومينولوجيا بالتأكيد إنما هي فينومينولوجيا بالمعنى الموسَّع للكلمة، ومع ذلك يجب الاعتراف بها كفينومينولوجيا حقيقية، تعتمد إلى حدٍّ كبير على المدى الذي يمكن فيه دعم استقرائها لمعاني الظاهرات من خلال التحقُّق الحَدْسي لأكثر من مجرّد طبيعة خاصّة ومقنّعة. لكنْ إلى أيّ مدىً نجح هيدغر في فعل ذلك؟
ب ـ هرمنيوطيقا الفعل
ستحاول هذه الفقرات تقديم بعض الأمثلة النموذجية للفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية، مع التركيز على تلك التي حقَّقَتْ سمعةً سيئة. بدون شكٍّ، وُجدَتْ أكثر تحليلات هيدغر الفينومينولوجية جوهرية في «الكينونة والزمان». لن أبذل أيّ جهدٍ لعرض خلاصةٍ لهذا العمل، على الرغم من أنني سأتبع تسلسل موضوعاته. ومع ذلك، سيكون من الجيِّد تذكُّر استراتيجية هيدغر المنهجية التي تبدأ بـ «تحليلٍ تمهيديّ للكائن الإنساني ـ الدازاين»، متّخذاً نقطة انطلاقه ما هو معطىً «أوّلاً وقبل كلّ شيء» (Zuniichst und Zumeist) في حياتنا اليومية (Alltiiglichkeit). على هذا الأساس فقط تقدّم إلى مستوى التفسير الذي يتعمّق الأسس الأبعد للمعنى (Ursprtingliche Existentiale Interpretation). وستتبدّى الصعوبة الرئيسية في ما نعرضه من الأمثلة الآتية في التكثيف الشديد لنصوص هيدغر. وهو نادراً ما يقدِّم، إذا كان يفعل، توصيفاتٍ على طريقة الفينومينولوجيات السابقة، ويعبِّر في الغالب عن الظاهرات من خلال مصطلحاتٍ جديدة، استفزازية، وأحياناً محيِّرة، تجعل حتّى الألماني الأصلي يتلمَّس طريقه من خلالها نحو فهمٍ مؤقَّت فحَسْب.
1ـ التملُّك (Jemeinigkeit) والوجود
يبدأ هيدغر تحليله بجملةٍ استفزازية: «الكائن الذي يُعَدّ تحليله مهمتنا هو نحن أنفسنا. وكينونة هذا الكائن هي ملك كلٍّ منا (Jemeines)» ([21]). لهذه الميزة الشخصية للكائن استعمل هيدغر اللفظ الجديد (Jemeinigkeit)، والذي إذا ترجم حرفياً من شأنه أن يرقى إلى شيءٍ مثل: «لكلّ واحد ملكيته». إن (Ipseity) لها على الأقلّ دلالةٌ معجمية، وقد تكون مفيدةً لأغراضنا. لكنْ ماذا تتضمَّن مثل هذه الدلالة؟
من الواضح أن هذا المفهوم مرتبطٌ بتصوُّر كيركغارد عن الفرد القائم في وحدته النهائية، على الرغم من أن هيدغر لم يذكره في هذا السياق. وهو مع ذلك، لم يكن مهتمّاً بهذا الجانب في حدّ ذاته، بل من أجل أنطولوجيا، كانت نقطتها الرئيسية هي أن الكائن الإنساني «الدازاين» في «ملكيّته» «مرتبط» (verhält sich zu) بوجوده الشخصي الذي «سلِّم» (überantwortet) إليه. ويتمّ تفسير هذا مباشرةً بمعنى أن الكائن الإنساني «الدازاين» يتوجَّه نحو نمط توجُّده الخاصّ به «أن يكون» (Zu-Sein) ـ وأنه على رهانٍ معه في حياته ـ، بل إن نمط التوجُّد هذا هو في الواقع رهانه الوحيد. (هذا التفسير كما هو ضروريُّ لهدف هيدغر النهائي فإنه قد يبدو مشكوكاً فيه لقارئٍ أكثر تشكُّكاً؛ لأنه حتّى لو ثبت أن الملكية هي إحدى الخصائص الأساسية للكائن الإنساني «الدازاين» فهل يترتَّب على ذلك أنه منشغلٌ أساساً بسؤال الكينونة، وفي المقام الأول بكينونته؟).
من التملُّك (Ipseity) بما هو عناية بكينونة المرء نفسها يستمدّ هيدغر أيضاً البصيرة القائلة بأن الكائن الإنساني” الدازاين» دائماً ما يتَّجه نحو إمكانياته المستقبلية. بالنسبة للإمكانية الأساسية في سياق اختيار هذه الإمكانيات، سيَّما تلك التي يسمِّيها «أن تكون نفسك أو لا تكون نفسك» أي أن يحتمل المرء طريقه الحقيقية في «أن يكون» أو يتملَّص منها، يقدِّم هيدغر مصطلح «الوجود» (Existence) بمعنىً يختلف بوضوحٍ عن جميع الاستخدامات السابقة السكولاستية، وكذلك الكيركجاردية (Kierkegaardian). وبهذا المعنى المختلف علينا أن نفهم الجملة الرئيسية التالية لهيدغر: «ماهية الإنسان (Wesen) تكمن في وجوده»، أي في إمكانيّاته لاحتمال طرقٍ مختلفة لـ «أن يكون». وقد يظنّ المرء أن هذا الكلام يتضمن شكلاً من أشكال المبالغة؛ لأن أيّة إمكانيةٍ تفترض مسبقاً بعض التحقُّق على الأقلّ كأساسٍ لها. في الواقع، ستوضِّح التوصيفات اللاحقة أن «الوجود» (Existence) بهذا المعنى الضيِّق لا يستنفد «ماهية» (Essence) الكائن الإنساني «الدازاين»، ولكنه يتضمَّن خصائص محقّقة، مثل: الوقائعية (Geworfenheit)، والسقوط (Verfallen)، والتي يجب أن يُقال عنها المزيد.
عند التفكير في تصوُّر هيدغر لـ «الوجود» (Existence) يجب على المرء أن لا يغفل حقيقةً أنه قدَّم بالفعل في «الكينونة والزمان» معنىً آخر للمصطلح، هو «دَوْر الإنسان في الكشف عن الكينونة»، كـ «كائن منفتح على تفتح الكينونة»، أو كـ «مقيمٍ في وسط الكينونة» بطريقةٍ تتيح له الاقتراب من «أن يكون»([22]). تهجئة هيدغر الجديدة لمصطلح (Ek-Sistenz) في كتاباته اللاحقة، والتي ظهرَتْ لأوّل مرّةٍ في «في ماهية الحقيقة» (Vom Essen der Truth) (1943م)، هي محاولةٌ نموذجية لإعادة إحياء المعنى الحرفي للكلمة. والأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو توصيف الكائن الإنساني «الدازاين» على أنه «مقيم» (Ec-Static)، أي أنه «يقيم في انكشاف الكينونة»؛ وهو سيُطلق الآن كذلك على الإنسان نفسه اسم «انكشاف الكينونة»([23]) من غير أن يقدِّم أيّ مبدأ اشتقاقٍ، فينومينولوجي أو غيره، يبرِّر هذا الانتقال من التفسير الأوّل إلى التفسير الثاني. لكنه انتقالٌ يعكس التحوُّل من هرمنيوطيقا الكائن الإنساني «الدازاين» إلى «فكر» الكينونة.
2ـ الوجود ـ في ـ ال ـ عالم
من المحتمل أن تكون السِّمة البنيوية الأكثر أهمّية التي تمّ أخذها في الاعتبار في الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية هي الوجود ـ في ـ العالم (In-der-Welt-sein). فالكائن الإنساني «الدازاين» ـ كما فهمه هيدغر ـ لا يتحقَّق، ولا يمكن أن يتحقَّق، إلاّ في إطار عالمٍ شامل ينتمي إليه ويجد نفسه منغرساً فيه. من غير أن يقصد بذلك أن المسألة هي مجرّد علاقة جزء وكلّ، حيث يكون الإنسان محاطاً بالعالم مثل: صندوق داخل صندوق. العلاقة هاهُنا أكثر حميميّةً؛ حيث يكون كلّ واحدٍ منهما هو «ما هو عليه، في ارتباطه بالآخر. وإذا كان هذا الوجود ـ في ـ العالم هو البنية الأساسية للكائن الإنساني”الدازاين» فإن الوَعْي والمعرفة بشكلٍ خاصّ ليسا سوى تنويعين على هذه العلاقة الأساسية الضمنية. ومع ذلك، في إطار هذه العلاقة الوثيقة، يميِّز هيدغر ثلاثة مكوّنات: (1) العالم؛ (2) ما هو موجود في العالم؛ (3) علاقة الوجود «في»، التي سيتمّ تحليلها من البداية بشكلٍ منفصل.
تحت عنوان «دنيوية» (Weltlichkeit) العالم يبحث هيدغر في عالم التجربة اليومية، باعتبارها ـ على النقيض من عالم العلوم المشتقّ ـ تجد مركزها في الكائن الإنساني «الدازاين» وتتوافق مع بيئتنا الذاتية (Umwelt)، أي مع وسطٍ بمقدارٍ ما يتبدّى كوَسَط خبرةٍ. وسيظهر هيدغر بشكلٍ مثير للإعجاب كيف أن الأشياء داخل هذا العالم لا تنعطي بشكلٍ أساس كأشياء طبيعية، لأنها توجد ببساطةٍ «تحت أيدينا» (Vorhanden)، ولكنْ كأشياء أو كأدوات قابلةٍ للاستخدام (Zeug)، وتشير إلى التطبيقات الممكنة في عالمٍ عمليّ، وهي وبالتالي «في متناول اليد» (Zuhanden). مثل هذا النوع من الأشياء يشير بعضه إلى البعض الآخر، وهي جميعُها تشكِّل أنظمة مرجعية متبادلة للمعنى. وعلى الرغم من أن هذه التحليلات ليست جديدة تماماً، إلا أنها رُبَما كانت تمثِّل أحد أكثر الأجزاء إثارةً للاهتمام وإثماراً في الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية، وهي ستؤثِّر بشكلٍ خاصّ في محاولات علماء النفس الفينومينولوجيين كـ «لودفيغ بينسوانغر» (Ludwig Binswanger)؛ لفهم عالم الشخصيات المضطربة عقلياً (Psychopathic) في تماسكها الداخلي. إن الدنيا ودنيوية العالم يحتضنان البنى القصدية، التي ميَّزت الفينومينولوجيا الهوسرلية المبكّرة ويدعمانها، لكنْ مع ذلك يجب أن لا نغفل عن أن اهتمام هيدغر بهذه البنى كان مؤقَّتاً فحَسْب؛ لأنه سيستخدم الكائن الإنساني” الدازاين» فقط كنقطة انطلاقٍ من أجل تحليل كينونته، وليس كوجهةٍ له.
3ـ كينونة غير شخصية («واحد»)
هناك مثالٌ أكثر تأثيراً على الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية، التي تبلورَتْ في سياق تحليل الحامل ـ الـ «مَنْ الذي» (Who) ـ للوجود البشري في العالم، يبدأ بمناقشةٍ مهمّة حول الأنا ـ دليل غير موثوق به للتفسير ـ والوجود الاجتماعي في عالمٍ مشترك. بعد ذلك، في أقلّ من أربع صفحات، سيقدِّم هيدغر واحدةً من أكثر الدراسات إثارةً للإعجاب عن الوجود اليومي الشخصي في مَيْله للهروب من نفسه والسقوط (Verfallen) في وجودٍ زائف؛ لأجل ذلك فهو يقبل توجيه الذات والسيطرة عليها المعلن عنهما بواسطة ضميرٍ غير شخصيّ «واحد» أو «الناس» («الرجل» الألماني). وهكذا يهتمّ «واحد» باستمرارٍ بالبقاء على مسافةٍ مناسبة من الأشخاص الآخرين، ولكنْ في نفس الوقت في حالةٍ من التَّبَعية تسمح للآخر بأن يعيِّن شكل وجوده، «واحد» يرغب أن يظلّ قريباً من الاعتيادي. أما إمكانات الوجود الأخرى فيتمّ تخفضيها من خلال احترامنا المستمرّ لما يفعله «الناس». وهكذا يتولّى «واحد» عبء وجودنا الشخصي، ويجعلنا نعيش بطريقةٍ تابعة وغير أصيلة بأن يتبدّى الوجود البشري «الدازاين» أوّلاً وقبل كلّ شيء كوجود «واحد»، وليس كوجوده «هو نفسه». ومن المؤكَّد أن هناك الكثير من السوابق لهذا التفسير بين الكتاب الفلسفيين وغير الفلسفيين. ورُبَما ذكَّرنا علماء الاجتماع هنا بمفهوم ج. هـ. ميد (G. H. Mead) عن «الآخر المعمَّم (Generalized Other). لكن بعيداً عن مشكلة المعنى الدقيق لتصوُّر هيدغر هذا فإن إطاره العامّ مختلف تماماً، وكذلك تقييمه؛ إذ يهتم ميد (Mead) بمسألة نشوء المصفوفة الاجتماعية التي تنبثق منها الذات الفردية. أما بالنسبة لهيدغر، فالأمر يتعلَّق بوصف شكلٍ من أشكال الوجود الاجتماعي غير الأصيل، حيث يحاول الفرد الهروب إلى وجودٍ محايد غير شخصيّ، في حين أن مشكلة الوجود الأصيل نادراً ما كانت تشغل ميد (Mead). إن مفهوم ديفيد ريسمان (David Riesman) لتوجيه الآخر سيكون أكثر ملاءمةً لإنسان هيدغر.
«عارٍ هو (الإنسان المشخص) الملقى به داخل العالم…» ([24]).
4ـ المزاج و«الوقائعية»
قبل هيدغر، رُبَما كان المزاج (في الألمانية «Srimmungen»، أي «الاتساق» حرفياً) موضع اهتمام علماء النفس وفينومينولوجيّي المشاعر. ولكنْ ـ على النقيض من المشاعر «القصدية» أو المرجعية ـ عادةً ما كان يُنْظَر إلى الحالة المزاجية على أنها مجرّد شأن ذاتي ليس له أهمّية معرفية تتجاوز حدوثه المتقلِّب. سيتغيَّر هذا المنظور في ضوء هرمنيوطيقا هيدغر. الآن، بعد أن تمّ العثور على الكائن الإنساني «الدازاين» منغرساً في العالم مع معانٍ متحقّقة فيه، وبعد أن بات مركز هذا العالم أمراً مؤكَّداً، تثار مسألة علاقتهما، أي علاقة وجود الإنسان بمثل هذا العالم. سيستخدم هيدغر للتعبير عن هذه العلاقة ما يعادل «الوجود هناك» (Da-sein)، لكنْ مكتوبةً هذه المرة على نحوٍ يُفصل مكوِّنا الكلمة ويوصلان، في نيّةٍ واضحة لإحياء معناهما الحرفي؛ ليصبح معنى وجودنا في هذا العالم أننا نجد أنفسنا في موقفٍ أساسي غير مألوف (Befindlichkeit). وما يدَّعيه هيدغر في السياق هو أننا نستطيع اكتشاف معنى هذا الموقف الأساسي من خلال تفسير بعض الحالات المزاجية الأساسية. لكنْ من الغريب أن الحالات المزاجية التي يختارها ليست تلك التي نكون فيها «في اتساقٍ»، بل تلك التي تظهر لنا غير منسجمة (أو «منحرفة»)، مثل: الخوف والقلق، والتي يكون الوجود كعبء هو ما تكشف عنه في الحقيقة. لكنْ حتّى المزاج المبتهج عند هيدغر يكشف عن الوجود كعبء عن طريق تحريرنا منه([25]) (لكنْ لماذا يكون هذا التفسير هو الصحيح، وليس بالأحرى نقيضه، لا تتم ّمناقشة هذا أبداً. هناك، بعد كلّ شيء، إبرازٌ لذاك الذي يبدو أنه مؤيّد بواسطة اندفاع شيءٍ، كالاندفاع الحيوي الذي يتجلّى غيابه في المزاج الاكتئابي).
ويتجلى عبء الوجود البشري على هذا النحو في الحقيقة المؤثِّرة، التي مفادها أن الكائن الإنساني «الدازاين» «في النهاية يجب أن يكون موجوداً… لكنه أينما وحيثما فهو، على أيّ حال، يمكث في العتمة». ويشبه هذا الشعور ما نقرأه في السطور المعروفة لعمر الخيام من ترجمة إدوارد فيتزجيرالد:
أتيت مثل الماء، وأذهب مثل الريح
في هذا العالم، لا أعلم لماذا؟
ولا من أين؟، مثل المياه تتدفّق، شئت أو أبيت
من أجل هذا الموقف من الواقعية، صاغ هيدغر الكلمة المدهشة «القذف» (Gegefenheit)، رغم ثقلها، والتي يجب أن تترجم بواسطة اسم مفعول سلبيّ من الفعل «قَذَفَ»، كالمرمي أو المقذوف أو الملقى به. ومع ذلك، فإن «القذف» (Thrownness) بالنسبة لهيدغر ليس مجرّد حقيقةٍ قاسية، إنه يمثِّل جزءاً حميماً من طريقة وجودنا، على الرغم من أنه عادةً ما يتمّ دفعه إلى الخلفية، حيث ينكشف لنا التهديد أو الفزع في مزاج الخوف أو الرهبة. لكنّ هيدغر لم يتساءل، في سياق أيٍّ من هذه التفسيرات، عما إذا كانت الحالة المزاجية دليلاً موثوقاً لفهم العالم، وإلى أيّ مدى؟ حتّى لو افترضناها دليلاً كافياً لتفسير شعورنا به. وسيكون مثل هذا السؤال ملحّاً؛ نظراً لأن بعض الحالات المزاجية تُؤْخَذ على أنها علاماتٌ، على عكس ما يبدو أنها تشهد عليه. وبغضّ النظر عن مدى أهمّية هذه التفسيرات، فإن سؤال حدودها سيكون سؤالاً لا مفرّ منه([26]).
5ـ القلق والعدم
بعض العناصر في فلسفة هيدغر سيحرِّك مزيداً من مواقف الاعتراض، وحتّى السخرية. القلق، كما رآه، سيكون الأكثر كشفاً عن كلّ المواقف الأساسية (Grundbefindlichkeiten). لكنْ ماذا يكشف؟ من أجل تقييم هذا، يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار تمييزه القلق عن الخوف في أهمّيته الهرمنيوطيقية.
يُوصَف الخوف بأنه حالةٌ للكائن البشري «الدازاين»، يخاف فيها من شيءٍ محدَّدٍ إلى حدٍّ ما، سيَّما المروع. ويكون رهانها (Worum) الكائن الإنساني «الدازاين» نفسه. أما وظيفة الخوف فتتمثَّل في تعريضنا للتهديد بطريقةٍ تجعلنا قلقين. مثل هذا التوصيف للخوف حَسْب الوظيفة، حيث يتمّ التأكيد على الجوانب الاتجاهية والمصدر ورهان التجربة في الوقت الذي لا تذكر فيه طبيعته الجوهرية البتّة، يشكِّل توضيحاً جيِّداً للاختلاف بين الفينومينولوجيا الوصفية والهرمنيوطيقية.
في مقابل ذلك، يوصف القلق بأنه الحالة التي تقف وراء هروبنا اليومي بواسطة الأحاديث (الصغيرة) والفضول والالتباس. لكنْ ما يهدِّدنا هنا ويجعلنا نهرب هو «لا شيء على وجه الخصوص»، شيءٌ هو «لا شيء، ولا في مكان» في النهاية. لكنّ هيدغر سيشخِّص موضوع القلق على أنه العالم على أيّ حالٍ وموقعنا الكامل فيه، العالم الذي يتبدّى في طابعه غير المألوف باعتباره اغتراباً. أما «العدم» الذي يكشف عنه قلق الكينونة والزمان فيتبدّى في التشوش الغريب للعالم هذا ككلٍّ، ولوجودنا فيه.
لكنّ تفسير القلق والعدم الذي يكشف عنه يتمّ دفعه إلى أبعد من ذلك في محاضرة «ما هي الميتافيزيقيا؟»، التي أثارت اهتماماً خاصاً. هنا سيخدم «اللاشيء»، باعتباره تثبيطاً مباشراً للكينونة ذاتها، قلق هيدغر الحقيقي في انشغاله الواضح بالعدم. سيفسَّر القلق هنا على أنه إماطةُ اللثام عن «اللاشيء»، وعلى أنه ما يحدِّد كذلك تجربة هذا اللاشيء مع الكائنات في مجملها، حيث يبدو أن الأشياء تبتعد عنا وتعيقنا في نفس الوقت، بطريقةٍ يمكن مقارنتها بتجربة رهاب الخلاء، حيث يبدو أن الأجسام الأبعد تتفلَّت منا، أو بنمط الكون المتوسِّع وفقاً لآخر وجهات النظر الفلكية. هذه هي الحركة الغريبة التي تصنع عند هيدغر ماهيّة ما يُدْعَى عموماً «العدم». ومن ثمّ فإن «العدم» عنده ليس كياناً، بل هو حَدَثٌ أو سِمَةٌ تتعالق مع العالم في مزاجٍ قلق غير مألوف. وللتعبير عن هذا الحَدَث صاغ هيدغر فعلاً خاصّاً من الاسم الألماني «العدم» هو (Nichten)، فمن غير العدل إذن اتّهام هيدغر بأنه صانع أقنوم العدم، في الوقت الذي كان ينكر فيه أن يكون أصل المصطلح هو النفي أو عملية من قبيل: الإفناء. على خلفية مثل هذه التجربة ستبرز الكينونة بشكلٍ أكثر وضوحاً وتأثيراً، إنه سؤالٌ آخر حول المدى الذي تكون فيه خاصّية العدم هي الوجه الضروري لتجربة الكينونة، كما أشار هيدغر. والمستفزّ أو الأكثر إثارة للدهشة هو تصوُّر هيدغر لموقف الإنسان في علاقته بهذا «العدم»: «الإنسان متضمّن (Hineinhaltenheit) في العدم»؛ أو «االإنسان يرادف (Platzhalter) العدم». والأول يعزو للعدم حالة الوسط المحيط، وكلاهما يحمل فكرة التمييز الفريد للإنسان ككائنٍ لا يقف في وسط الكينونة فحَسْب، بل يجد نفسه أيضاً معرَّضاً لإمكانية عدم الوجود، والتي تعني في السياق إمكانية تجاوزه لما هو في الواقع حقيقة وجوده.
6ـ القلق (Sorge) باعتباره البنية الأساسية للكائن الإنساني «الدازاين»
حتى الآن، لم تقدِّم هرمنيوطيقا الوجود ـ في ـ ال ـ عالم بصياغاتها المختلفة بعدُ الحجّة الكافية التي يرغب هيدغر من خلالها أن يجعل الوجود الإنساني ـ والذي أسماه كينونة الكائن الإنساني ـ مفهوماً. إن وظيفة فينومينولوجيا القلق؛ باعتباره المزاج الأساسي للوضع البشري، هي إظهار هذه البنية. يعتني القلق دائماً بالإمكانيات الوجودية للدازاين التي يقبض عليها في الوقائعية، وفي محاولة الهروب داخل اليومية. وهكذا يظهر الدازاين توجّهاً ثلاثياً: (1) أنه يتقدّم على نفسه باتجاه إمكانياته المستقبلية (Sich-Vorwegsein)؛ (2) أنه ينخرط بالفعل في وجوده الواقعي (Schon-Sein-in)؛ (3) أنه تائه في عالمِ وظائفه اليومية (Sein bei…). وسيستخدم هيدغر للتعبيرعن هذه البنية الثلاثية الأبعاد الكلمة الألمانية «قلق» (Sorge)، والتي يمكن الكشف عن دلالتها على أفضل وجه من خلال لفظ «الهمّ» (Concern) ـ الذي هو أكثر ملاءمةً من «الاهتمام» (Care) كمقابلٍ مشكوك فيه ـ؛ لأن هيدغر، من دون نجاحٍ كبير، كان يريد استبعاد كلّ دلالات القلق. «الهمّ» (Concern) إذن هو أصل كلّ علاقاتنا، سيَّما علاقاتنا العملية وطموحاتنا في خضمّ حياتنا اليومية، رغباتنا وأمنياتنا. إنه يظهر الإنسان على أنه يتطلَّع في المقام الأوّل إلى المستقبل، مرتبطاً بماضيه الذي يجد نفسه ملقياً فيه، متوجّهاً إلى العالم الذي هو حاضره.
«في العلاقة الجَدَلية أو المثالية (وليس البيولوجية) للحياة. مع الموت أعتقد أن هيدغر رائع»([27]).
7ـ الموت
جميع التحليلات السابقة سيدرجها هيدغر ضمن التحليلات التمهيدية. وسيكون مثال الموت هو أحد أكثر الأمثلة المميِّزة للتفسير الوجودي في مستواه الأعمق (Ursprünglich)([28]). ولكنّ تحليل هيدغر لقضيته، بالمقارنة على سبيل المثال بتحليل شيلر، الذي نُشر بعد وفاته حول الموت، قد يبدو هزيلاً إلى حدٍّ ما، فهو لم يحاول أبداً، ولو بشكلٍ غير كافٍ وسطحي، وصف الطريقة التي تتحقَّق من خلالها عملية الاحتضار نفسها في الوَعْي الإنساني. لكنّ الواقع أن ما كان هيدغر يهتمّ به ليس هو ظاهرة الموت ذاتها، بل دَوْره كحَدَثٍ «يختم» الوجود البشري وينهيه، ومن ثمّ فهو يعرِّفه باعتباره أكثر إمكانيات الوجود البشري أصالةً، الإمكانية التي يصبح معها الوجود نفسه مستحيلاً. وبالتالي فالوجود البشري هو أساساً «وجودٌ نحو الموت» يندفع نحوه، على الأقلّ عن طريق الاستباق أو التوقُّع، من دون أن يعني ذلك بحالٍ أنه هدفه.
الكثير من تفسيرات هيدغر لموقف الإنسان تجاه الموت باعتباره الإمكانية المطلقة التي تنهي كلّ الإمكانيات، ولمحاولاته للهروب منه، مثيرٌ للإعجاب. ومع ذلك، قد يتساءل المرء: لماذا يجب أن تكون مواجهة هذه الاحتمال بعزمٍ شديد هو الإمكانية الوحيدة الأصيلة؟ وهيدغر الذي لم تكن تستحوذ عليه الجوانب الطبيعية أو اللاهوتية للموت لم يكن يفكِّر، مع ذلك، في أيّة إمكانياتٍ حقيقية بديلةٍ للوجود البشري، مثل: إنجاز مشروع حياةٍ بروح فاوست غوته، أو كاللامبالاة المهيبة بموت رجل سبينوزا الحكيم.
ويمكن ملاحظة نفس طريقة التفكير هذه في تأويلات هيدغر للوَعْي والذنب والعَزْم (Entschlossenheit)، والكلمة الأخيرة كشفَتْ لهيدغر في معناها الحرفي الألماني عن نمطٍ معين من الانفتاح (Erschlossenheit). ويبدو أن الانشغال الكئيب بالسقوط الحَتْمي والشعور بالذنب وعدم الجدوى يتغلغل في هذا القسم بأكمله من «الكينونة والزمان» أكثر من أيّ جزءٍ آخر من الكتاب. لكنْ مع ذلك، سيرفض هيدغر دائماً وضع هذه التفسيرات في إطارٍ لاهوتي. ورُبَما تكون هذه الحقيقة بالذات قد جعلَتْها كلها أكثر جاذبيّةً لعلماء اللاهوت، الذين يمكن أن ينظروا إليها على أنها توكيداتٌ مستقلّة لتشخيصهم الوَحْياني للوضع البشري.
8ـ الزمانية
مع موضوع الزمانية نصل إلى نقطة «الأفق»، حيث يأمل هيدغر أن يجيب ليس فقط عن سؤال معنى الدازاين، ولكنْ عن سؤال الكينونة نفسها. الأجزاء المنشورة من «الكينونة والزمان» تقود على الأقلّ مسافةً كافية لإظهار كيف أن الزمان متجذِّرٌ في الوجود البشري في نمط «الزمانية».
يتمّ تقديم الزمانية بـ «معنى» القلق (Sorge) الذي يؤسِّس كينونة الدازاين. لكنْ ليس من السهل تحديد ما يقصده هيدغر من أن الزمانية «تعني» القلق في هذا السياق. وتشير الدلائل إلى أن ما كان يدور في ذهنه شيءٌ يشبه الإطار المرجعي أو «الأفق» لمشروعات الوجود البشري. ولكنْ يبدو أن هناك أيضاً دلالة على أنه يقصد المقصد النهائي (Woraufhin) الذي يجعل مشروعاتنا الثانوية ممكنةً([29]). ومع ذلك، هناك توازٍ واضحٌ بين الزمانية في مراحلها الثلاث: المستقبل والحاضر والماضي، والجوانب الثلاثة للقلق، حيث نكون أمام ذواتنا في مواجهة إمكانات الوجود المستقبلي منغمسين في واقعية ماضينا و«متقهقرين في» الهروب من حاضرنا.
في نمط الزمانية، سيعطي هيدغر الأولوية للمستقبل، الذي يفسِّره، وفقاً لمعنىً حرفي واحد للكلمة الألمانية (Zukunft)، على أنه ما يأتي إلينا. ويقرِّر هنا أن هذا المستقبل هو أصل حاضرنا وماضينا. ثمّة ميزةٌ أخرى تتماشى مع مثل هذا التصوُّر، وهي أن الزمانية ليست، تماماً، وجوداً، وليس من الصحيح أيضاً القول: إن الزمان «له» وجودٌ. الزمان على وجه الحقيقة هو «الزمانية» نفسها فحَسْب. الكلمة الألمانية «ينتج» (Vorigen)، التي استخدمها هيدغر في هذا السياق، ليست جديدةً تماماً، وهي تتبدّى، في السياقات العادية، إما كانعكاس للتوسُّط داخل الوجود (Siehzeitigen) أو بشكلٍ عابر من خلال إحضار أشياء مختلفة إلى الوجود في سياق انقضاء الزمان وتصرُّمه، في الوقت الذي لا يمكن لنا فيه بالتأكيد اعتبار الزمان نفسه حصيلة تزاوج (Zeitigung)([30]). وبينما لم يقدِّم هيدغر أيّ تعريفٍ للمصطلح نكاد نوقن أن الزمان عنده له نمطٌ من الوجود خاصّ به تماماً. توصف الزمانية أيضاً بأنها «نشوة» (Ecstatic)، ولا توجد دلائل تشير إلى أن هيدغر أراد أن يُفْهَم هذا المصطلح بالمعنى التقليدي للنشوة الصوفية. بالأحرى، هو فكَّر في المعنى الحرفي المكثَّف للكلمة، وهو «يقف إلى جانب نفسه (Ausser Sieh)»، والذي يستخدم لإيصال فكرة أن الدازاين في زمانه الخاصّ يتخطّى نفسه دائماً ويتجاوزها في المستقبل الذي «يتّجه نحوه»، راجعاً إلى وقائعية ماضيه ملتقياً بحاضره. وهكذا يُطلق على المستقبل والماضي والحاضر أيضاً «نشوات» الزمانية([31])، الزمانية التي، على الأقلّ في النمط الذي تكون فيه العمود الفقري للكائن الإنساني «الدازاين»، لا تتكوّن من مراحل غير مترابطة بل من مراحل تشكِّل نَسَقاً دينامياً من المراجع يشير فيه أحد الأشكال إلى الأشكال الأخرى.
بالطبع ما تزال هناك فجوةٌ كبيرة بين مجرّد زمانية الدازاين وزمان الكينونة بشكلٍ عام، لكنْ من المنطقي أن ما كان يدور في ذهن هيدغر كان نوعاً من التوازي بين بنى الزمان في كلا المستويين. لكنْ في ضوء عدم اكتمال فلسفة الزمان عنده سيكون من الصعب تقييمها من حيث أصالتها وكفاءتها. ووفقاً لشهادته الخاصة، فقد نشأ تصوُّره للزمان بشكلٍ رئيسٍ من حواره (Gespräch) مع أرسطو وأوغسطين وكَنْط وهيغل. لكنّه مع ذلك رفض أفكار برغسون بقوّةٍ مدهشة تقريباً. ورُبَما كانت الميزة الأكثر أصالةً لمفهوم هيدغر هي التأكيد على امتياز المستقبل. ومن المؤكَّد أنه يمكن ربط بعض أفكاره هذه بهوايتيد وجون ديوي وج. هـ. ميد، دون بذل الكثير من الجهد. لكنّ تفسيره سيختلف اختلافا كبيراً عن الفينومينولوجيا الوصفية لوَعْينا الباطن بالزمان، كما وردَتْ في محاضرات هوسرل في غوتنغن عام 1905م، والتي قام هيدغر بنفسه بتحريرها ونشرها بعد عامٍ واحد من ظهور «الكينونة والزمان».
إلى أيّ مدىً يمكن قبول الزمانية كمعنى للوجود البشري بأيّة دلالةٍ عادية لكلمة «معنى»؟ من الصعب القول بأن انقضاء الزمانية والزمان يشكِّل معنى الدازاين. في أحسن الأحوال قد يفهمه المرء على أنه الرَّحِم أو الوَسَط لوجودنا. ومن الصعب التخلُّص من الانطباع القائل بأن هيدغر في هذه الأقسام كان مشغولاً جدّاً بالمشكلة الأنطولوجية الأكثر عموميةً لدرجة أنه لم يَعُدْ يهتمّ بتفسيرٍ واضح للحياة الإنسانية، بل بالأحرى بما هي الوظيفة التي تمتلكها الزمانية كدليلٍ على بنية الكينونة بأيّ حالٍ.
9ـ التاريخانية
قبل هيدغر، كان الفينومينولوجيون يعلِّقون أهمّية محدودة وثانوية على مشكلة التاريخ، حتى أن هوسرل شنّ هجوماً قوياً على التاريخانية كواحدةٍ من الأشكال العديدة للنسبية المعاصرة، من غير أن يعني هذا أنه كان يرغب في تجاهل التاريخ تماماً. وهكذا فإن «البرنامج» الفينومينولوجي لعام 1913م قد عبر عن فكرة أن الفينومينولوجيا ستكون في وضعٍ يمكِّنها من الاستفادة من رؤى الفلسفات السابقة بشكلٍ تامّ أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ولقد حاول هوسرل نفسه، بطريقته الانتقائية، بشكلٍ متزايد أن يربط مشروعه بتاريخ الفكر السابق، وأن يبرِّره في ضوء ذلك.
لكنّ موقف هيدغر تجاه التاريخ كان، منذ البداية، ذا طبيعةٍ مختلفةٍ تماماً، حيث كانت الدراسات التاريخية إحدى أولى اهتماماته الرئيسية. وهو بصفته لاهوتياً كاثوليكياً قد استغرق ليس فقط في التوماوية، ولكنْ أيضاً في مصادرها عند أرسطو وأوغسطين وفي التقليد الصوفي لمايستر إيكهارت. وفي الجوّ الفلسفي المحيط بهينريش ريكرت كان هيدغر قد طوَّر اهتماماً شديداً بالفكر المثالي الألماني، من كنط إلى هيغل، وخاصّة عند نيتشه، لكنّه كان أيضاً مهتمّاً بشدّةٍ بمشاكل التاريخ في حدّ ذاته وبالتأريخ ونظريّته على غرار فيلهلم دلتي. في وقتٍ لاحق، وخاصّة خلال سنوات ماربورغ، سيمتدّ اهتمامه إلى الخلف، إلى أفلاطون وإلى بدايات الفكر اليوناني القـبـ ـ سقراطي (وهو مصطلحٌ لم يعجب هيدغر). مجالٌ واحد لم ينَلْ منه أيّ اهتمامٍ يُذْكَر هو الفلسفة الأنجلو أمريكية.
في وقتٍ مبكّر، في محاضرته الافتتاحية عام 1915م، تناول هيدغر مشكلة الزمان التاريخي الذي يتميَّز عن زمن العلوم الفيزيائية. وهي مشكلةٌ ستجد الآن مكانها المناسب في التحليل الوجودي للدازاين. وستكشف التطوُّرات اللاحقة عن أنه خصّص للتاريخ مكاناً رئيساً، ليس فقط في بنية الكائنات، ولكنْ أيضاً في بنية الكينونة نفسها. ولقد لاحَظْنا من قبلُ أن أقوى اعتراضٍ على هوسرل كان افتقاره إلى الإحساس بالتاريخ.
ومع ذلك، سيكون من المضلّل أن نرى في اهتمام هيدغر بالتاريخ مجرّد تركيزٍ متزايد على الدراسات التاريخية في الفينومينولوجيا. تنطوي ترجمة مفردات هيدغر ذاتها، في الواقع، على مشكلةٍ تتمثَّل في صعوبة العثور على الفهم الصحيح لاهتمامه الحقيقي. في الألمانية ثمّة مصطلحان على الأقلّ للتاريخ، هما: (Geschichte)؛ و(Historie). ونظراً لأن المصطلح الأخير قديمٌ إلى حدٍّ ما وعفا عليه الزمن فقد احتفظ به هيدغر للدلالة على مجرّد الدراسة الأركيولوجية للماضي، والتي لم تكن تثير اهتمامه بشكلٍ خاص. أما المصطلح الأوّل (Geschichte) فقد فهمه، مع ذلك، بمعنىً لا يختلف، في العادة، جوهرياً عن المعنى الحرفي المشتقّ من الكلمة الألمانية (Geschehen)، بمعنى «يتحقَّق أو يحدث». ومن ثمّ فهي تستخدم للتعبير عن الحدوث الفعلي للوقائع التاريخية، أوعن التاريخ في طور تشكُّله. وقد تكون «تاريخانية» ماكواري روبنسون (Macquarrie-Robinson) أفضل ما يعادلها في اللغة الإنجليزية.
ومع ذلك، فإن الشيء المهمّ هو فهم الظاهرة المعيّنة على هذا النحو كما تصوَّرها هيدغر. تتكوّن تاريخية الدازاين في المقام الأوّل من مصير الفرد (Schicksal) المؤسّس على تصميمه الخاصّ (Entschlossenheil) داخل إطار موروثٍ من الإمكانيات المختارة، والذي هو نَمَطُ وجودٍ يتحقَّق فيه العجز والحرِّية كلاهما. وإذا كان أساس التاريخية هو زمانية الدازاين، كما بين سابقاً، فإن مركز ثقل التاريخ يكمن في المستقبل، كما هو الحال في الزمان، سواء بسواء، لجهة أن الدازاين يتجه نحو المستقبل، أي في النهاية، نحو الموت بما هو الإمكانية الحقيقية الوحيدة للإنسان. ومن «حطام السفينة» الأخير هذا يتمّ إعادته إلى وقائعيته، التي تمنحه ماضياً (Geworfenheit). وهو من خلال امتلاكه الإمكانية الكامنة «لانقذافه» يمكن أن يصبح آنياً في زمانه([32]). ما يمنحنا إياه العزم هو استرداد الماضي على شكل تقليدٍ، والذي يعني في دلالته الحرفية التطلُّب أو الاستحواذ (Wiederholung). عند ذكر هذه الجوانب يجب على المرء أن يعترف بأن محاولة نقل صورةٍ موجزة عن تأويلات هيدغر للتاريخية، بشكلٍ خاصّ، محفوفةٌ بالمخاطر، ليس فقط بسبب الصياغات غير المعتادة، ولكنْ أيضاً بسبب موقعها في نهاية الجزء المنشور من «الكينونة والزمان»، وبالتالي فهي تفترض استيعاب أُسُس التفسيرات السابقة، ومن ثمّ لن يكون من المنطقي محاولة إجراء تقييمٍ، مهما كان مؤقَّتاً، للمزايا الفينومينولوجية لهذه التحليلات. وحتّى بدون ذلك من الممكن الاعتراف بأصالة مقاربة هيدغر حول قضية مكانة التاريخ في الوجود البشري. إنها تبتعد بنفس القدر عن العبادة العمياء للتاريخ باعتباره عبودية للماضي، وعن التمرد عديم الجدوى ضدّه. وعلى الرغم من أنها تترك الكثير من الالتباس والغموض، إلاّ أنها تشير إلى الطريق نحو الدراسات الفينومينولوجية المكثَّفة للوَعْي التاريخي ومكانة التاريخ في الوجود البشري.
ج ـ «فكرة الفينومينولوجيا» في محاضرات عام 1927م
للوهلة الأولى، يبدو أن محاضرات هيدغر في ماربورغ حول «المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا» (Die Fundamental Probleme der Phänomenlogie)، باستثناء محاضرة ثانوية بعنوان: «الفينومينولوجيا واللاهوت»، ألقاها في العام نفسه (ونُشرت عام 1970م)، وضعَتْ علامة مائية عالية على التزامه بالفينومينولوجيا. وسيكون الكتاب هذا هو النصّ الوحيد المرخَّص له الذي يحمل مصطلح «فينومينولوجيا» في عنوانه. لكنّ الأهمّ من ذلك، على الأقلّ وفقاً للخطة الأصلية للمحاضرات، أنه كان سيحتوي في الجزء الختامي منه على المناقشة الأكثر تفصيلاً لـ «فكرتها»، لكنّ هذا الجزء لم يُنْجَز أبداً. ما يوجد هو فقط ثلاثة أرباع الجزء الثاني المخصَّص للبنى الأساسية وأنماط الكينونة. وكلّ ما لدينا فيه حول فكرة الفينومينولوجيا هو المناقشة الأوّلية في المقدّمة وبعض الصفحات الأولى من خاتمة النصّ المكتمل([33]).
ولقد نبَّهنا هيدغر منذ البداية إلى أن النصّ يتعامل مع مشاكل الفينومينولوجيا فحَسْب، أي مع ما هي الفينومينولوجيا، وليس مع الفينومينولوجيا نفسها كفلسفة، وسيعلن أن الفينومينولوجيا ليست نَسَقاً فلسفياً (Wissenschaft) على قدم المساواة مع فروع الفلسفة الأخرى، ولا هي نَسَقٌ إرشادي أوّلي إليها، بل هي ببساطةٍ «عنوان على منهج الفلسفة العلمية (überhaupt)»، ومن ثمّ فإن «توضيح فكرة الفينومينولوجيا سيكون مرادفاً لعرض مفهوم الفلسفة العلمية». من هنا سيبدأ هيدغر مقدّمته بمناقشة لفظ «علمية»، أي الفلسفة النظرية، في مقابل الفلسفة العملية في الرؤية الكونية (Weltanschauung)، التي تشكِّل الكينونة موضوعها الحقيقيّ والوحيد. وهو سيطلق على هذا العلم الذي ينشغل بالكينونة اسم «الأنطولوجيا»، وسيطلق على منهجها اسم الفينومينولوجيا، وبالتالي لن تكون الفينومينولوجا إذن سوى منهجٍ. والفكرة هذه في الحقيقة ليس شيئاً جديداً إذا ما قورنت بالتصوُّر الأوّلي للفينومينولوجيا كما تمّ تطويره في «الكينونة والزمان». لكنّ الجديد فيه هو ما يتوافق في الواقع مع مفهوم هوسرل للفلسفة باعتبارها علماً صارماً، وهو تأكيد هيدغر على الطابع «العلمي» لفلسفته، بَدَلاً من كونها مجرد رؤية كونية للعالم([34]).
ولكنْ هناك أيضاً جوانب جديدة تبدو مختلفة في تصوُّر هيدغر الجديد للمنهج الفينومينولوجي مقارنةً بذاك الخاص بـ «الكينونة والزمان»؛ لأنه سيذكر له بالفعل في المقدّمة ثلاثة عناصر أساسية (Grundstacke)، كان اثنان منها (الاختزال؛ والبناء) جديدين تماماً. أما الثالث (التقويض) فقد ظهر في «الكينونة والزمان»، وكان الأوّل في الترتيب.
رُبَما كانت المفاجأة الأكبر هي أن هيدغر، بعد كلّ تردُّده السابق في قبول اختزال هوسرل الفينومينولوجي، يبدو الآن أنه يمنحه المركز الأوّل([35]). لكن ما يخفِّف الوقع هو أن اختزاله سيختلف في الأساس عن اختزال هوسرل، لجهة كونه ببساطةٍ طريقةً لتوجيه النظر الاستقصائي من الكائنات التي تمّ تصورها بسذاجةٍ إلى كينونتها نفسها. وهو يضيف بعد ذلك مباشرةً: «بهذه الطريقة نقترب لغوياً، لا من حيث المضمون (Sache)، من مصطلحٍ مركزيّ في فينومينولوجيا هوسرل. بالنسبة لهوسرل، الاختزال الفينومينولوجي، الذي طوَّره بشكلٍ صريح لأوّل مرة في «أفكار» (1913م)، «هو» طريقةٌ لإرجاع النظرة الفينومينولوجية من الموقف الطبيعي للإنسان في حياته المباشرة (Straightforward) في عالم الأشياء والأشخاص إلى الحياة الترنسندنتالية للوَعْي وتجاربه النوامية ـ النوسيسية (Noetic-Noematic)، حيث تؤسِّس الموضوعات نفسها كمعيشات وَعْي. بالنسبة لنا، فإن الاختزال الفينومينولوجي يعني الإرجاع الذي يقود النظرة الفينومينولوجية من الاستيلاء على ما هو، مهما كان وصفه، إلى فهم كينونة ما هو… ومثل أيّ منهجٍ علميّ آخر، حتّى المنهج الفينومينولوجي، فهو ينمو ويتغيَّر استناداً إلى تقدُّمه نحو الأشياء المحقّقة بواسطته. الطريقة العلمية ليست أبداً تقنيّةً؛ إذ بمجرّد أن تصبح كذلك فإنها تنحرف عن ماهيّتها الصحيحة»([36]). لا يمكن أن يكون هيدغر أكثر وضوحاً من ذلك بشأن عدم اهتمامه بتصوُّر هوسرل الأساس للاختزال.
العنصر الثاني من منهج هيدغر الجديد «البناء الفينومينولوجي» سيكون ابتكاراً كاملاً، متجاهلاً هنا التكرار العرضي للعبارة في تفسير يوجين فينك اللاحق لنسق هوسرل الترنسندتتالي في: «دراسات كَنْطية» عام 1933م. بناء هيدغر الفينومينولوجي هذا سيكون في الواقع مجرّد نسخةٍ ممّا كان يعنيه بالاختزال، أعني كابتعادٍ عن الكائنات بما هو انعطافٌ إيجابي أو بما هو إحضارٌ للكائن نفسه (Sich Hinbringen) أمام الكينونة، أوبشكلٍ أكثر تحديداً كإحضار للكينونة بواسطة نوع عرضٍ يقوم على ما يسمِّيه «الإسقاط أو العرض الحرّ» (Freier Entwurf). ولا يلقي القسم التمهيدي، مع ذلك، مزيداً من الضوء على معنى عملية البناء هذه. وقد يوحي ذلك بأنها ترتبط بالتفسير الهيرمينوطيقي لـ «الكينونة والزمان»، وخاصّة أن مصطلح «هرمنيوطيقي» لم يَعُدْ يظهر صراحةً في المحاضرات.
في المرتبة الثالثة سيضع هيدغر عنصر «التقويض الفينومينولوجي» الذي كان احتلّ المركز الأوّل في «الكينونة والزمان»، محتفظاً بالتحليلات «التقويضة» الرئيسة للجزء الثاني غير المنشور من الكتاب، لكنه سيركِّز الآن بشكلٍ كبير على نقل النقد (Abbau) إلى مركز التقليد الفلسفي؛ بهدف الوصول إلى منابعه. «فقط من خلال أنطولوجيا التقويض يمكن أن نتحقَّق فينومينولوجياً من صحّة مفاهيمها»([37]).
وإذا كانت مقدّمة هيدغر قد حدّدت بذلك ثالوثاً من الخطوات جديداً للبحث الفينومينولوجي، فقد يُتساءل: إلى أيّ مدىً أمكنه إثبات أهمِّيتها الفعلية في المحاضرات؟ ما أستطيع قوله هو أن هيدغر لم يَعُدْ أبداً إلى هذه المصطلحات، مع أن من الواضح أن خطّته كانت تتمثَّل في استئنافها وربطها بالقسم الثالث قبل الأخير «المنهج العلمي للأنطولوجيا وفكرة الفينومينولوجيا» من الجزء غير المنشور من «الكينونة والزمان». ما نراه الآن هو أن الجزء الأوّل يحتوي على «مناقشات فينومينولوجية نقدية لبعض الأطروحات التقليدية عن الكينونة»، يقسِّمها هيدغر إلى أقسام فرعية، تحت عناوين مثل: «تحليلات فينومينولوجية لأطروحة كَنْط»([38])، «توضيح فينومينولوجي» للأطروحة القروسطية حول الكينونة باعتبارها عودة إلى أرسطو([39])، «نقد فينومينولوجي» للحلّ الكَنْطي لمسألة الطرق الأساسية للكينونة([40])، وإشارات إلى «العرض الفينومينولوجي (Vorweis)» لبعض البنى الأساسية للإسناد([41]). وبغضّ النظر عن هذه العبارات التقنية الجديدة، فقد تكون هذه التحليلات مرتبطةً بمنهجه الجديد، وقد لا تكون كذلك، خاصّةً بالنسبة لأولئك الذين لم يقرّوا بالتحديد على أنها «فينومينولوجية». لكنْ من الواضح أن بعض الأقسام النقدية للأطروحات الأنطولوجية التقليدية «تقويضية»، في حين أن وجود «الاختزال» و«البناء» أقلّ وضوحاً بمعناهما الفينومينولوجي. باختصارٍ، العناصر الجديدة للمنهج االفينومينولوجي عند هيدغر ضمنيّةٌ في أحسن الأحوال، وتفسيرها الصريح هنا سيكون محفوفاً بالمخاطر في غياب الجزء الأخير من العمل حول «فكرة الفينومينولوجيا».
وإذا كانت المحاضرات معنيّةً في المقام الأول بالمعالجة الفينومينولوجية للمشكلات الأساسية «بصيغة الجمع»، فمن الموحي أن هيدغر، من خلال العنوان ذاته، يحصرها في أربعة. ويبقى السؤال الأساس بالطبع هو حول معنى الكينونة على أيّ حالٍ. أما تقسيماته االرئيسية فهي: (1) مشكلة الاختلاف الأنطولوجي بين الكينونة والكائنات؛ (2) مشكلة التعبير الأساس عن الكينونة بين الماهية والوجود؛ (3) مشكلة التحوُّلات الممكنة للكينونة داخل أنماطها؛ (4) والسمة الحقيقة في الكينونة. ويبدو أن المشاكل الأربع يتمّ تناولها «تقويضياً» في «المناقشات الفينومينولوجية النقدية» لأربع أطروحات تقليدية في الجزء الأوّل. لكنّ الجزء الثاني، بعنوان: «السؤال الأنطولوجي الأساسي لمعنى الكينونة، البنى الأساسية وأنماط الكينونة»، يحتوي فقط على الفصل الخاصّ بـ «مشكلة الاختلاف الأنطولوجي»، وهو بالكاد يكفي لاستقراء الفصول المفقودة. ما هو واضحٌ هو أن تحليل الزمان والزمانية استناداً إلى أرسطو وكَنْط هو نقطة انطلاقٍ مهمّة لأقسام «البناء» هذه.
ولا توجد محاولةٌ صريحة لتحديد سبب حصر المشاكل الأساسية للفينومينولوجيا في أربعة، لكن مثل هذا التضييق الواضح للفينومينولوجيا، الذي يستبعد كلّ الأعمال السابقة والمستقبلية للفينومينولوجيا، التي تتجاوز ما أسماه هيدغر أنطولوجيا، لا يمكن إلاّ أن يبدو باعتباره دوغماطية، ما لم يكن الجزء الثالث المفقود قد حاول تبرير ذلك صراحةً. لكنْ رُبَما يكون الأمر الأكثر إثارةً للانتباه هو أن «المشاكل الأساسية» (Grundproblemen) لهيدغر طوَّرَتْ تصوُّره للفينومينولوجيا في اعتمادٍ كامل على الحركة الفينومينولوجية السابقة، وخاصّة عند هوسرل. مع أنه، في الأماكن القليلة التي ذكَرَه فيها، خصَّص له دَوْراً ثانوياً فقط مقارنةً بتركيزه الكبير على الشخصيات الأنطولوجية الكلاسيكية. وهو لم يرفض فقط مفهوم هوسرل للاختزال، بل كان يتجنَّب أن يكون له أيّة علاقةٍ بفينومينولوجيا هوسرل الترنسندنتالية. وعلى الرغم من أنه أطلق، في الواقع، على الأنطولوجيا الخاصّة به صفة ترنسندنتالي فقد فهم هذا المصطلح، بالإضافة إلى مصطلح «ترنسندنتال»، على أنهما يشيران إلى تجاوز الكائنات باتجاه الكينونة، لا تجاوز الوَعْي باتجاه موضوعاته. ورُبَما يتبدّى إهمال هوسرل الأكثر إثارةً للدهشة في سياق مناقشات الزمان والزمانية، حيث استعرض هيدغر آراء برغسون بشكلٍ نقدي من دون أيّة إشارةٍ إلى فينومينولوجيا هوسرل حول «الوَعْي الباطن بالزمان»، والتي حرَّرها بنفسه بعد عامٍ من ظهور حولية هوسرل للفينومينولوجيا.
ما هي إذن أهمّية هذه المحاضرات بالنسبة لتصوُّر هيدغر للفينومينولوجيا؟ من الواضح، وفقاً لعناوينها والأجزاء التي تمّ تطويرها، أن هذا كان جهد هيدغر الأسمى لتطوير «إمكانية» الفينومينولوجيا الخاصّة به كمشروعٍ «علمي»، لا يُظهر مشاكله الأساسية فحَسْب، بل الطريقة التي يمكن مقاربتها منهجياً من خلالها. لو أنهى هيدغر هذه المخطوطة في كتابٍ، كما خطط له بوضوحٍ، وأطلقها للنشر في ذلك الوقت، لكانت هذه صياغةٌ أكثر وضوحاً لتصوُّره الفينومينولوجي من الصيغة الأوّلية فقط في «الكينونة والزمان».
لماذا ترك هيدغر هذا النصّ الجديد مرّةً أخرى غير مكتملٍ، حتّى لو نفد وقت المحاضرات الفعلية خلال الفصل الدراسي، وأصدره للنشر فقط خلال سنواته الأخيرة؟ يمكن أن يكون أحد التفسيرات هو الفقرة الأخيرة المذهلة من النصّ التي ذكرَتْ فيها الفينومينولوجيا، بدءاً ممّا يأتي: «لا يوجد شيء اسمه الفينومينولوجيا (die Phanomenologie)، وحتى لو كان ثمّة فلن يصبح أبداً شيئاً مثل تقنية فلسفية»([42]). ويبدو أن هذه الصيغة تنكر حتّى تأكيد هيدغر المبكّر على الفينومينولوجيا كإمكانية، وليس كحقيقة. ويمكن أن يعني هذا أنه قرَّر أن لا جدوى من الاستمرار في مشروعه الأصلي لصياغة تصوُّر نهائي للفينومينولوجيا؛ لأن «الشيء الجديد الوحيد في العلم والفلسفة هو التساؤل الحقيقي (Echtes Fragen) والكفاح الناجع (Dienende Kampf) مع الأشياء».
ما يبدو واضحاً تماماً هو أن مشكلة المنهج بالنسبة لهيدغر أصبحَتْ أقلّ أهمّية من المشكلات الجوهرية، التي سرعان ما وجدها غير قابلةٍ للحلّ من خلال المقاربة الفينومينولوجية لـ «الكينونة والزمان» وحده، والتي كانت ما تزال تهيمن على المشكلات الأساسية. هذا يعني أيضاً أن الفينومينولوجيا فقدَتْ ادّعاءها بأنها الطريقة الحَصْرية للأنطولوجيا باعتبارها «علم» الكينونة.
د ـ الفينومينولوجيا في فلسفة هيدغر المتأخِّرة
اختفاء مصطلح الفينومينولوجيا عملياً من كتابات هيدغر بعد «الكينونة والزمان» حقيقةٌ سبق ذكرها. وما هو الأكثر أهمّيةً الآن، رُبَما، هو أنه حتّى عبارة «الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقة» لم تَعُدْ موجودةً. هل هذا يعني أن المنهج الفينومينولوجي وتعديله الهرمنيوطيقي قد اختفيا؟ يمكن معرفة أن هذا ليس هو واقع الحال تماماً من الفقرة الواردة في «رسالة حول الإنسانية»، في الصفحة 342، والتي أعادَتْ التأكيد على «المساعدة الأساسية» للرؤية الفينومينولوجية مع رفض «التطلُّع غير المناسب للعلم والبحث». لذلك فإن السؤال الحقيقي الذي ينبثق هنا هو: إلى أيّ مدىً وبأيّ معنىً يمكن القول بأن الفينومينولوجيا هي مكوّنٌ مركزيّ في بنية تفكير هيدغر. تعتمد الإجابة عن هذا السؤال بشكلٍ أساس على الفهم المناسب لمقاربته الجديدة للكينونة، والتي تستخدم الآن الكلمة الألمانية البسيطة «التفكير» (Denken). بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار موقف هيدغر الجديد تجاه المنهج بشكلٍ عام، كما تمّ التعبير عنه في تصوُّرات حول «طرق التفكير» (Denkwege).
ماذا عنى هيدغر في كتاباته اللاحقة بـ «التفكير»؟ بالتأكيد هو لا يقصد منه أسلوب التفكير المجرّد كما يدرسه المنطق بالمعنى التقني، والذي رفضه هيدغر باعتباره تقنيّةً تجريدية. وهو لا يعني كذلك التفكير على طريقة كَنْط وهوسرل، أي على أنه نقيض البداهة أو الحَدْس وأنه ينشغل بالمفاهيم. المهمّة الرئيسة في توضيح الحالة الفينومينولوجية للـ «تفكير» (Denken) عند هيدغر هي تحديد مكانٍ ما، في التقليد الفينومينولوجي، كان يُطْلَق عليه الحَدْس (Anschauung) في بنية هذا «التفكير» (Denken) الخاصّ به.
«التفكير» (Denken) هذا، بعد تقديمه باعتباره التعالق الرئيس بين الكينونة والحقيقة بطريقةٍ عرضية إلى حدٍّ ما، أصبح أخيراً موضوعاً لدَوْرة محاضرة هيدغر عامي 1951 و1952م، والتي نُشرت في عام 1954م. وتعتمد الطريقة التي حاول بها هيدغر توضيح بنية الـ «تفكير» هنا في جانبٍ منها على أصل الكلمة وفي جانبٍ آخر على ترجمة شذرات من بارمينيدس.
أدّى المنهج الاشتقاقي إلى تفسير التفكير على أنه (Gedanc) (كلمة ألمانية من العصور الوسطى تعني الفكر)، أو (Andacht) (حرفياً «عبادة» التفكُّر) أو (Dank) (أي الشكر). أما (Gedanc) فهي تعني عند هيدغر «ذكرى مجمعة يجتمع فيها الكلّ»، وهي تتقارب أيضاً مع دلالة (Gemüt) أو القلب في نموذج منطق القلب لباسكال. وسيعتبر هيدغر في الواقع أن التفكير المنطقي العقلاني نسخة ضيقة من (Gedanc)، التي تتضمّن معنى التذكُّر (Gedachtnis) بما هو الإمساك بما يتمّ جمعه، والتي تتضمن أيضاً معنى محبّة (Zuneigung) القلب تجاه ما هو حاضرٌ من خلال التفكير، بمعنى تقديم الشكر أو الإنصات إلى تقديس الأشياء التي ندين بها. كلّ هذه التلميحات، المبنيّة على تفسيراتٍ مكثَّفة لمعاني الجذور، تضيف إلى مفهوم التفكير كونه انكباباً أو تفكّراً مبجّلاً بواسطة كياننا كلّه تجاه ما يصنع محتوى تفكيرنا. وقد تكون «اليقظة» هي أقرب مرادفٍ لمثل هذا المفهوم.
سيستخدم هيدغر من شذرات بارمنيدس مقطعاً يترجم عادةً على النحو التالي: «من الضروري أن نقول وأن نفكِّر بأن الكينونة تكوّن»([43]). بدون متابعة مناقشة هيدغر على طول الطريق، سأركِّز على تفسيراته للمصطلحين اليونانيين: (Legein) «قول»؛ و(Noein) «تفكير». يُفْهَم «قول» (Legein) في المقام الأوّل على أنه جعل شيءٍ ما يمتد (أو يظهر) أمامنا (Vorliegen Lassen)؛ أما «تفكير» (Noein) فلا يقصد منه عملية تقبُّل خالص، بل عملية استيفاء نشطة لما هو أمامنا: نحن نأخذ شيئاً ما في عنايتنا أو احتفاظنا (in die Acht)، ونتركه، مع ذلك، كما هو بالضبط([44]). والمعنيان هذان جزءان للتفكير لا ينفصلان عنه؛ إذ يوصف أخذ شيءٍ ما في عنايتنا بأنه جعل ما يمتدّ أمامنا يتوجّه نحونا دون أن يستبطن معنى الوصول إليه (Zugreifen) ([45]) أو الانقضاض عليه. الأهمّ من ذلك أن التفكير لم يَعُدْ مسألة استخدام مفاهيم (Begriffe)، إذ حيث يفكِّر «التفكير» وفقاً للأشياء فإنه يفكِّر بدون مفاهيم؛ وفقاً لهيدغر، وهذا صحيحٌ حتّى في التفكير بالمعنى الأرسطي.
ما الذي يمكن استنباطه من هذه التوصيفات، التي لا تزيد أبداً عن كونها وصفاً رتيباً لما يجري بشكلٍ محدَّد في حالةٍ معيَّنة من التفكير؟ من الواضح أن هذا التفكير ليس سوى إجراءٍ منهجي يمكن من خلاله تعيين قواعد محدَّدة. والمسألة في جوهرها هي مسألة مفكِّر بشريّ يفكِّر بكلِّيته، بقلبه وبعقله، إذا كان هذا التمييز مباحاً، دون أن يكون تقبُّلياً تماماً ولا نابعاً من الذات تماماً، ويخضع على أيّ حالٍ لتوجيه الآمر في ما يتّصل بموضوع الفكر، أي الكينونة، الذي يحدِّد محتواه.
هل من الممكن تحديد مثل هذا التفكير غير المفاهيمي بواسطة الحَدْس بالمعنى الفينومينولوجي القديم؟ لا يوجد شيءٌ يؤيِّد أو يعارض مثل هذا التفسير يمكن العثور عليه في كتابات هيدغر. لكنْه، ردّاً على سؤالٍ شخصيّ، ألمح إلى أنه تجنب مصطلحي حَدْس (Anschauung) وبداهة (Intuition) بشكلٍ رئيس؛ بسبب استعمالاتهما السابقة، ومعهما يمكن إدراج مصطلح هوسرل (Wesensschau) «حَدْس الماهيات»، الذي لم يستخدمه هيدغر أبداً. وما ينبغي الالتفات إليه هنا هو أن عمليات التفكير على النحو المبين أعلاه لا تكاد تكون تلك التي نعرفها بالفعل. هي، في أفضل الأحوال، شيءٌ يسبق هذه العمليات أو يتبعها. ويبدو أن التفسير الاشتقاقي للتفكير بمعنى «اليقظة» والتفسير القائم على نصّ بارمنيدس، والذي بموجبه يجعل التفكير موضوعه أمامنا، يشير إلى مرحلة الاستعداد للإدراك الفعلي. وتصف جملة «تحت توجيه آمرٍ» بعده مباشرةً المرحلة التي تليها. وعلى الرغم من أن تفسير هيدغر هذا للتفكير لا يذكر مرحلة الإدراك صراحةً، فإنه بالتأكيد لا يستبعدها. لكنْ هل هذا أساسٌ كافٍ لتأكيد أن التفكير متطابقٌ مع الحَدْس الفينومينولوجي؟
تحتوي كتابات هيدغر اللاحقة على القليل من الإشارات إلى المنهج بالمعنى التقليدي. لكنّه سيشير في كثيرٍ من الأحيان إلى «طرق التفكير» (Denkwege) التي هي في الواقع ترجمةٌ للكلمة اليونانية Methodos, μέθοδος)) والتي تعني على وجه الدقّة «متابعة الطريق». توجد طرق التفكير هذه بشكلٍ خاصّ في شكلين، واحد منهما يحمل التسمية الألمانية: «طرق الحطب» (Holzwege)، أي ممرات الغابات أو طرقها التي تخدم بشكلٍ رئيس المحتطبين، والتي ليست بالنسبة إلى أيّ شخصٍ آخر سوى أزقّة معتمة؛ حيث تعني عبارة (auf Dem Holzweg Sein) في الاستعمال الدارج: «أن تكون على المسار الخطأ». ولقد استخدم هيدغر هذه الكلمة كعنوان لستّ مقالاتٍ طويلة لا توجد بينها روابط مشتركة على ما يبدو. وفي مقدّمته الصوفية لها يلمِّح إلى أن رجال الغابة والحراس (Waldhüter الذي يذكرنا بـ «حراس الكينونة») «يعرفون» هذه المسارات. والملفت في السياق أن هيدغر سيستعمل (Feldweg)، التي تعني مساراً ريفيّاً خاصّاً متعرِّجاً عبر الحقول، عنواناً لسيرته الذاتية الساحرة([46])، وهو مسارٌ يكاد يتولّى دَوْر رسول الحقّ أو دَوْر المواسي للإنسان. وهكذا، في اللغة غير المفصلية للأشياء التي تحيط بالمسار الريفي المتعرِّج عبر الحقول (Feldweg)، «الله أخيراً هو الله». ومع ذلك، تظلّ رسالتها الأخيرة عبارةً عن حيرة (Chiaroscuro) مستسلمة: «الرسالة (Zuspruch) الآن مميّزة تماماً، هل هي الروح التي تتحدَّث؟ هل هو العالم؟ هل هو الله؟ كلّ شيءٍ يتحدَّث عن الاستسلام لشيءٍ واحد…، لما يمنح البسيط (das Einfache) قوّة لا تنضب».
لا شيء من «طرق» هيدغر اللاحقة له طبيعة طريق ملكي سهل أو حتّى طريق سريع عادي. هي جميعاً طرقٌ جانبية ـ إنها أيضاً طرقٌ منعزلة ـ، لا يوجد تأكيد على وجهتها ولا أيّ ادّعاء بصلاحيتها الكلِّية، ولا توجد وصفةٌ واضحة تخبرنا عن كيفية استخدامها. التفكير يتكوَّن من كائن «قيد التنفيذ»، يبني الطريق بالفعل([47]). ويبدو أن هيدغر يشكّ في استصواب جعل هذه الطرق «مرئيّةً للعامة». ومن الواضح أن «التفكير» كذلك، حتّى بقدر ما هو في مقدرتنا وليس كمجرّد استجابةٍ لمبادرة الوجود، لا يمكن وضعه في شكل طريقةٍ يتمّ تدريسها وتعلمها.
وهناك في الحقيقة مؤشِّرات أخرى لهذا الاستنتاج؛ ففي محاولته الحاسمة لاختيار الترجمة والتفسير المناسبين لنصّ بارمنيدس المقتبس أعلاه تحدَّث هيدغر عن قفزةٍ ضرورية، قفزة نظرة واحدة (Blick) تبصر بما قصده بارمينيدس، تبدو في ظاهرها كقفزة كيركغارد الشهيرة إلى الإيمان. كان هيدغر يعتقد على ما يبدو أنه يمكننا الاستعداد لمثل هذه القفزة، لكنّه لم يخبرنا كيف؟([48]). وبدا أن كلّ ما يمكننا فعله هو أن نخبر ما نراه في مثل هذه القفزة. لكنّ الرؤى المتعارضة يبطل بعضها بعضاً. في وقتٍ لاحق، سيستخدم هيدغر المعنى المزدوج لكلمة (Satz) الألمانية باعتبارها «فرضية» و«قفزة»، وسيستخدم فرضيات منطقية أساسيّة مثل: «مبدأ السبب الكافي» و«مبدأ الهوية» كنقطتَيْ انطلاق من أجل قفزةٍ داخل الكينونة لا تسمح طبيعتها المباغتة بأيّة مقاربةٍ منهجية([49]).
مؤشِّر آخر على الطابع غير المنهجي لـ «الفكر» الجديد هو نبذ هيدغر لمصطلح «بحث». إن البحث بالنسبة له هو طابع العلم الحديث، الذي يتميَّز بتصوُّر محدَّد ومسبق (Entwurf) لميدانه ومنهجه، والذي يحول الباحثَ إلى تقنيّ في خدمة غَزْو العالم بواسطة الإنسان، الذات. ويبدو أن التأمُّل (Besinnung) الذي اقترحه هيدغر في مقابل البحث هذا باعتباره المهمّة الصحيحة للفلسفة، شيءٌ لا يمكن وصفه بمصطلحات منهجٍ واضحٍ وقابلٍ للتعليم([50]). والأكثر دلالةً على هذه الطبيعة غير المنهجية لنوع التفكير الجديد هو تقاربه مع الشعر كما تصوَّره هيدغر ومارسه. إن تقديم تفسيرٍ أو محاولةَ توضيحِ ما يعنيه الشعر لهيدغر سوف يتجاوز إمكانيات هذه الدراسة واحتياجاتها، لكنْ من الواضح أنه يتجاوز فكرة أنه مجرّد بناءٍ لعالمٍ خيالي. إن الشعر لا يعثر على الحقيقة فحَسْب، بل يؤسِّسها، قال هيدغر مستخدماً إحدى كلماته المفضَّلة ولكن الغامضة: «يمنح» (Stiften)، وهو «يشير» إلى القدسي، وبالتالي فهو الطريق إلى الإلهيّ، وبصورة غير مباشرةٍ إلى الله([51]). على أيّ حالٍ الشعر عند هيدغر هو مشروعٌ موازٍ للتفكير، بل إنه، في صورة أعظم إنجازاته، يتفوَّق عليه. وهو رأى، في بعض الأحيان، في تفكير الفكر في نفسه مجرّد شكلٍ من أشكال الشعر([52])، مما يلغي أيّة حدودٍ قاطعةٍ بينهما ويجعلهما معاً خاضعين لتوجيه الكينونة وسلطانها أكثر بكثيرٍ من خضوعهما للإنسان، الشاعر أو المفكِّر.
ثمّة سؤالٌ يطرح حول ما إذا كانت هناك أيّة اختباراتٍ لهذا النوع من التفكير؟ سؤال كان أثاره هيدغر نفسه في ما يتعلَّق بإحدى ترجماته التفسيرية الأكثر جرأةً والأكثر تكلُّفاً، وهو سيعترف بعدم وجود دليلٍ علمي ممكن، لكنّه سيرفض أيضاً الاعتماد على مجرّد التسليم. «التفكير: «هو شعر (Dichlen) لحقيقة الوجود يتبدّى في الحوارـ هو فكرة تتكرَّر عند هيدغر ـ التاريخي للمفكِّرين (Geschichtliche Zwiesprache der Denker)([53]). لكنْ من الواضح أنه لم يتحقَّق الكثير من هذا الشعر في حوارات المعاصرين ـ لكنّ بعضه في الحقيقة، كلقائه هو نفسه بإرنست كاسيرر في عام 1929، كان حَدَثاً لا يُنْسَى ـ([54])، التي تبدَّتْ في الأساس في صورة مواجهاتٍ علنية بالكاد ساهمَتْ بتعديل أو اختبار قناعات أحدٍ. ولأجل ذلك كان الحوار الذي يشكِّل أرضية اختبار لهيدغر هو حواره مع نصوص كبار المفكِّرين الماضين الذين كان تفسيرُه لفكرهم أسلوبَه المفضَّل في مقاربة مشكلاته الفلسفية الخاصة. ومع ذلك، فإن الحوار الذي يتمّ فيه إسكات الشريك الحقيقي منذ البداية يقدِّم ضماناً ضئيلاً بأننا نسمع من خلاله أيّ شيءٍ خلا صدى صوت المتحدِّث. ويبدو أن هيدغر نفسه كان مدركاً، في الواقع، أن تفسيراته الخاصّة ليست صالحةً بأيّ حالٍ من الأحوال لجميع الأوقات ولا، في هذا الصدد، لأيّ شخصٍ آخر غير ذاته([55]).
ما الذي تحقَّق في هذه المرحلة السابقة من تفسير هيدغر للفينومينولوجيا؟ ينبغي أن نتذكَّر أن الأساس لمثل هذه الفينومينولوجيا تمّ تشكيله من خلال ما يُسَمّى بالتقويض الفينومينولوجي. وحتى من دون استخدام الاسم، سيستمرّ هيدغر في استعمال هذه التقنية، خاصّةً في كتابه «طرق الحطب» (Holzwege)، حيث تقدِّم مناقشته لنيتشه وأناكسيماندر، على سبيل المثال، مثالاً ممتازاً على ذلك. هنا كان التفسير البحثي للنصّ بمثابة إعدادٍ لمقاربةٍ أكثر مباشرةً للفينومينولوجيا. وليس من السهل في السياق قول ما حدث للمنهج الهرمنيوطيقي لـ «الكينونة والزمان»، حيث لم يختَفِ المصطلح فحَسْب ـ فالدازاين لم يَعُدْ الموضوع الوحيد لهذا التفسير، وهو لم يَعُدْ يشكِّل الموضوع المميِّز لتحقيقات هيدغر ـ، بل لم تَعُدْ موضوعات تفكيره اللاحق مأخوذةً من مثل هذه المنطقة المحدودة، بل ستشمل الأعمال الفنية بما هي جوانب من الكينونة نفسها. وهذا يعني أن التفسير لم يَعُدْ يأخذ شكل الكشف عن المقاصد الحقيقية للدازاين. هذا لا يعني أن هيدغر تخلّى عن التفسير بأيّة حالٍ، لكنْ من المؤكَّد الآن أن لا الكينونة نفسها ولا الحقيقة التي تتطلَّب التصميم، بل النصوص هي ما يشكِّل أساساً نقاط الانطلاق لفلسفة هيدغر، والتي كان تفسيرها مصدر قلقٍ دائم لمحاضراته وندواته بدءاً من تفسيرات أرسطو لعام 1921 ـ 1922م. وسيكون أوّل مثالٍ على مثل هذا الانشغال الواسع النطاق للوصول إلى جمهورٍ أوسع هو كتاب كَنْط، وستجسِّد توضيحات شعر هولدرلين، ابتداءً من عام 1936م، هذا التفسير في منطقةٍ جديدة، ثم سيقدِّم كتاب «طرق الحطب» (Holzwege)، خاصّة في حالة مقطع أناكسيماندر، عيِّنةً أولى من تفسير هيدغر للنصوص الماقبـ ـ سقراطية، تبعتها عينة أخرى هي تلك الخاصة ببارمينيدس في: «ماذا يعني التفكير؟» (Was heisst Denken?). ولكنْ بأي شيء اختلفت هذه التفسيرات عن التفسيرات العلمية لعلماء اللغة؟ صحيحٌ أن هيدغر غالباً ما كان يبدأ بدراسةٍ متأنِّية للنصوص، لكنّه كان يرغب دائماً أن يميِّز تحليله بوضوحٍ عن التفسير اللغوي البَحْت، الذي لم يُظْهِر تجاهه إلاّ القليل من الاهتمام أو المراعاة، وهو لم يكن يخشى من ممارسة العنف على النصوص من أجل «فَهْم» صاحبها أفضل مما كان يفهم نفسه، سواء عنده كَنْط وأفلاطون، على عكس أساليب فقه اللغة التاريخية التي لها مهمّتها الخاصة حيث يخضع حوار الفكر لقوانين مختلفة([56]). وبغضّ النظر عن المناهج والضوابط التي توجِّه هذه التفسيرات الجديدة لنصوص محدَّدة، فبأيّ معنىً يمكن اعتبارها فينومينولوجيا على الرغم من أنها قد تكون هرمنيوطيقا؟ يجب أن تعتمد الإجابة على المدى الذي كانت ما تزال هذه التفسيرات تتعامل فيه مع الفينومينولوجيا، حتّى لو كان هذا المصطلح مفهوماً من منظور هيدغر في حدود: «ما يظهر نفسه في حدّ ذاته». بالكاد يمكن الادّعاء بأن النصوص في حدّ ذاتها، الشعرية أو التي تتعامل بطريقةٍ أخرى مع ظاهرات غير النصوص، هي ظاهراتٌ، ومن ثمّ سيكون من غير المناسب وصف تفسيرها بأنه فينومينولوجيا حقيقيّة.
إلى أيّ مدىً، في الواقع، تتعامل كتابات هيدغر الأخيرة مباشرةً مع الفينومينولوجيا؟ يبدو أن «عدم احتجاب» الحقيقة والكينونة يجعل التفسير الهرمنيوطيقي غير ضروريٍّ. ثم إن «الحقيقة»، في الواقع؛ باعتبارها مجرّد «ظهور» داخل الكينونة، تترك ظلاماً كافياً حولها يتحدّى المفكِّر الهرمنيوطيقي. ومع ذلك، بما أن هيدغر نفسه لم يقدِّم مثل هذا التأويل للكينونة وللحقيقة فيمكن في أحسن الأحوال فهم فكره المتأخِّر على أنه مقدّماتٌ لهرمنيوطيقا الكينونة.
ويجب أن نلاحظ أيضاً أن تفكير هيدغر تخلّى أخيراً عن كلّ ادّعاءات الـ «علمية». كانت الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية لـ «الكينونة والزمان»، حتّى في «مفهومها النهائي»، تحاول أن تكون علماً. ويبدو أنها كانت تطمح إلى أن تحافظ على تطلُّعات هوسرل الأصيلة نحو علمٍ صارم. أما إلى أيّ مدى يفترض هذا الأمر تغيّراً في أسلوب هيدغر بَدَلاً من كونه تغيُّراً في التفسير ذاته؟ فهذه مسألةٌ أخرى، لكنه يسلِّط الضوء مرّةً أخرى على الدرجة التي كان تخلّى فيها عن مفهومه الأصلي للفينومينولوجيا وأهدافه منها. وهو سيعترف بصراحةٍ برفضه للفينومينولوجيا الترنسندنتالية، مكرّراً مراراً تأكيد هذا الرفض، لكنه لم يُبْدِ أيّة نيّةٍ للنأي بنفسه عن الحركة الفينومينولوجية في ما يتعلَّق بمقاصدها العامة. كما أنه لم يصرِّح، أو يُشِرْ ضمناً، بأيّ تغييرٍ جوهري في طرائقه منذ نشر «الكينونة والزمان»، سيَّما فيما يتعلَّق بابتكاراتٍ من مثل: التقويض الفينومينولوجي والهرمنيوطيقا الفينومينولوجية. أما في ما يتّصل بفكرة التخلّي عن «الكينونة والزمان» فهو ألمح إلى أن المقاربة الجديدة: «من الكينونة إلى الدازاين» لا تستبعد بأيّ حالٍ المقاربة السابقة «من الدازاين إلى الكينونة». وهو سيؤكِّد، في الواقع، على أنه إذا كان عليه أن يعيد كتابة «الكينونة والزمان» فسيحاول الجمع بين المقاربتين. وبعبارةٍ أخرى: إن المنعطف، بالنسبة له، هو كلا الأمرين معاً، وليس مسألة (إما) (أو). وأنا هنا لن أحاول مناقشة نفس هذا التفسير في ضوء الأدلة الراهنة، لكنْ ما هو معلومٌ، على أيّة حالٍ، هو أن هيدغر لم ينكر التحوُّل الواضح في مقاربته، وهكذا سيؤكِّد ظنّي بأن الفينومينولوجيا، التي تُفْهَم على أنها التفسير الهرمنيوطيقي للدازاين، قد فقدت أولويّتها في نَمَط تفكيره. لكن السؤال حول مدى وجود شيء كالفينومينولوجيا في إطار المقاربات اللاحقة يجب أن يظلّ في الحقيقة سؤالاً مفتوحاً، ذلك أنه في الوقت الذي يشير فيه إلى «المساعدة الأساسية للرؤية الفينومينولوجية»، فإننا لا نعثر على أمثلةٍ واضحة على أيّ شيءٍ من هذا القبيل في كتاباته اللاحقة، باستثناء تلك المتناثرة بين تفسيراته للنصوص. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعلني أمتنع عن أن أضيف هنا توضيحاتٍ لهذا التفكير الفينومينولوجي اللاحق، كما فعلْتُ في حالة فينومينولوجيا «الكينونة والزمان»، التي ما تزال إنجاز هيدغر الرئيس والأكثر واقعية في التحليل الفينومينولوجي.
نحو تقييم للفينومينولوجيا الخاصّة به
لقد بدأْتُ بتقديم فينومينولوجيا هيدغر بإشادةٍ رائعة مأخوذةٍ من مراجعة جيلبرت رايل لـ «الكينونة والزمان». ومع ذلك، سيكون من المضلّل إخفاء حقيقة أنه، على الرغم من مقاربته المتعاطفة مع عمل هيدغر، توصَّل إلى تقديرٍ مقوِّض إلى حدٍّ ما للفينومينولوجيا الخاصّة به. ويبدو أن استنتاجه الأخير بشأن أهمِّيتها بالنسبة للحركة الفينومينولوجية بأكملها يستحقّ بعض تأمُّلٍ، ولو في وقتٍ لاحق:
«إن رأيي الشخصي هو أن فينومينولوجيا الفلسفة الأولى تتّجه في الوقت الحاضر نحو الإفلاس والكارثة، وستنتهي إما بذاتيّةٍ مدمّرة للذات أو بتصوُّفٍ عاصف… إلى أيّ مدىٍ أخفقْتُ في فهم هذا العمل الصعب [أي الكينونة والزمان]؟».
لقد تحقّقت هذه النبوءة المتواضعة إلى حدٍّ ما على الأقلّ، إذا قرأتَها بكلّ أبعادها. فلقد ثبت ذلك على الأقلّ بالنسبة لذلك الجزء من الفينومينولوجيا الألمانية في الثلاثينيات، التي كان رايل على درايةٍ به (من الواضح أنه لم يكن على دراية بشيلر)، إذ فشلَتْ الذاتية المتطرِّفة لهوسرل في إنتاج النَّسَق النهائي الموعود في نسخةٍ ترضي المعلم نفسه بما يكفي للسماح بنشرها.
أما بالنسبة لفينومينولوجيا هيدغر فلقد توقَّع رايل بشكلٍ ملحوظ أن تتَّجه نحو موقفٍ صوفي متزايد. وبما أن هيدغر قد استحوذ على أذهان معظم الفينومينولوجيين الألمان و«سرق المشهد»، بأيّة حالٍ، فإن تخلِّيه عن عنوان «الفينومينولوجيا» يمكن تفسيره على أنه تصفيةٌ للحركة، إنْ لم يكن إعلانَ إفلاسٍ. ويمكن اعتبار تأكيد مساعدَيْ هوسرل الأوّلين، لودفيغ لاندغريب ويوجين فينك، على أن الفينومينولوجيا فصلٌ مغلق هو التأكيد النهائيّ لهذه النبوءة.
أـ إلى أيّ مدى كان هيدغر فينومينولوجياً؟([57])
من الواضح أنه لم يكن كذلك أبداً بالمعنى الدقيق للكلمة، كما حدَّدته الفلسفة الذاتية الترنسندنتالية لهوسرل ومضامينها المثالية، على الرغم من أنه، خاصّة في مرحلة «الكينونة والزمان»، كان رفض الواقعية التقليدية. وهو، على وجهٍ خاص، لم يقبل أبداً الاختزال الفينومينولوجي بالمعنى الهوسرلي.
في ما يتعلَّق بالمعنى الدقيق للفينومينولوجيا، حيث يصبح الانتباه إلى طرق الانعطاء أمراً ضرورياً (المعنى الثالث)، فإن التحليلات الهرمنيوطيقية لـ «الكينونة والزمان» تحمل على الأقلّ اهتماماً ضمنياً كبيراً بهذه الطرق. ويتّضح هذا بشكلٍ خاصّ في تفسير الحالة المزاجية على أنها تكشف قليلاً أو كثيراً وبشكلٍ غير مباشر إلى حدٍّ ما عن الوضع الأساس للدازاين.
ما يشكّ فيه أكثر من ذلك هو ما إذا كانت فينومينولوجيا هيدغر تتناسب مع إطار الفينومينولوجيا بمعناها الأوسع، أي تلك التي تؤكِّد على التبصُّر بالماهيات (المعنى الثاني). تهدف الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية إلى التعامل مع الوجود البشري على أنه خاصّ بكلّ فردٍ، على الرغم من أنه يمكن للمرء أن يقول: إنه في التحليل النهائي ما تزال الهرمنيوطيقا تعطي تشخيصاً للوجود البشري بشكلٍ عامّ، ويوحي حديث هيدغر المتكرِّر عن سماتٍ معينة على أنها تنتمي «أساساً» إلى الكينونة، أو التفكير، بأنه مارس على الأقلّ فينومينولوجيا إيدوسية حتّى لو لم يكن يريد التبشير بها.
لكنْ مع ذلك ليس من الواضح بأيّة حالٍ من الأحوال ما إذا كان هيدغر ينتمي بشكلٍ غير مشروط إلى إطار الحركة الفينومينولوجية بالمعنى الأوسع (المعنى الأول). الاختبار الأول هو قبول الحَدْس باعتباره المصدر والمحكّ النهائي لكلّ معرفةٍ، والذي يمكن تبريره على الأرجح حتّى في حالة فلسفة التفكير اللاحقة لهيدغر، حيث يتمّ اللجوء إلى الرؤية الفينومينولوجية باعتبارها المساعد الأساس، إنْ لم يكن الجوهري، في مقاربته. الأمر الأكثر إثارةً للتساؤل هو ما إذا كان هيدغر كان ما يزال يتحدَّد بنشاط هذه الحركة، حتّى لو لم ينفصل عنها تماماً؟ من الممكن أن يكون على قناعةٍ تامة ببقاء مثل هذه الحركة، لكنْ من المؤكَّد أنه هو نفسه لم يقدِّم دليلاً على أيّ اهتمامٍ نشطٍ في استمرارها أو إحيائها.
في الخلاصة، يجب أن نتذكّر أن الفينومينواوجيا بالنسبة إليه كانت مجرّد وسيلةٍ لحلّ مشكلته الأساسية، وهذا يعني أنها كانت فعّالةً جزئياً فقط، وأنها لم تكن أبداً جزءاً لا يتجزّأ من فلسفته. لقد جاء هيدغر إلى فينومينولوجيا هوسرل بأسئلته الأساسية التي كان طرحها في أيام تحرُّره من الفلسفة السكولاستية والترنسندنتالية (ريكيرت). وهو كان يعتقد، خاصّة بعد لقاء هوسرل، أن الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية للدازاين (على عكس الفينومينولوجيا الوصفية للوَعْي الخالص لهوسرل) تقدِّم أفضل فرصةٍ لحلّ مشكلته. كان فشله في جَذْب هوسرل نحو هذه المقاربة، وما تبع ذلك من خلافٍ بينهما، من العوامل التي أدَّتْ إلى تراجعه عن الفينومينولوجيا بالمعنى التقني. والأهمّ من ذلك هو إدراك أن مقاربة سؤال الكينونة عبر تحليلية الدازاين لم تكن هي المفتاح الرئيس المأمول لحلّ لغز الكينونة؛ لأن الانتقال من زمانية الدازاين إلى زمان الكينونة نفسها لم يتحقَّق. كان هذا التراجع عن امتياز الذاتية بمعنى الإنسانية هو الذي استتبع انفصاله عن الفينومينولوجيا مع اهتمامها الأساس بالمعطى كما هو معطىً. والفينومينولوجيا، بقدر ما بقيَتْ جزءاً من مشروع هيدغر، لم تَعُدْ جزءاً حاسماً منه، وهي لم تكُنْ في الأساس سوى مرحلةٍ في تطوُّره، وبالتالي فلا عَجَبَ أن أصبح غير مهتمٍّ بحاضرها ولا بمستقبلها.
لكنْ لن يمنعنا مثل هذا الاستنتاج من تقييم إنجازات هيدغر الفينومينولوجية المحدَّدة. وفي ما يلي سأقدِّم بعض الملاحظات حول النقاط التي تبدو لي ذات صلةٍ بمثل هذا التقييم الأكثر تفصيلاً، بخلاف الملاحظات العرضية التي قدَّمتُها في الأقسام السابقة من هذا الفصل.
ب ـ نقاط القوّة ونقاط الضعف في فينومينولوجيا هيدغر
لا يوجد أيّ شكٍّ في أن هيدغر، في الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية الخاصّة به، اقتحم مجموعةً متنوِّعة من الظاهرات، كالخوف والقلق والهمّ، لم يتناولها الفينومينولوجيون من قَبْلُ، وأنه أبرز بعض جوانبها وخصائصها مع فطنةٍ وتبحُّرٍ غير مألوفين.
لكنْ مع ذلك، فإن تحقيقات هيدغر حول هذه الظاهرات، والتي تُؤْخَذ على أنها توصيفاتٌ فينومينولوجية، كانت في الغالب هزيلةً. يرجع ذلك أساساً إلى أنه عادةً ما قيَّد نفسه في تعامله مع هذه الظاهرات بعناوين ملفتة ومحرِّكة للذكريات، بَدَلاً من تحديد سماتها المقوِّمة وتنوُّعاتها وخصائصها المقارنة. ومن الواضح أن هذا النقص مرتبطٌ بحقيقة أن هيدغر اعتبر أن وصف الظاهرات الواضحة هو في ذاته أمرٌ غير ضروريّ، وأن مقصد الهرمنيوطيقا الفينومينولوجية الخاصّة به هو الكشف عن معاني الظاهرات الخفيّة. لكنّ هذا الموقف يكاد يعكس سذاجة العديد من علماء التفسير الذين يتغاضون عن حقيقة أن ما هو واضحٌ لا يتمّ دائماً إدراكه واستيعابه وفهمه تماماً في بنيته وتنوُّعاته، ولأجل ذلك، غالباً ما كان الأساس الوصفيّ لتفسيرات هيدغر ضيِّقاً للغاية، ويثير هذا سؤالاً عاماً حول صلاحية الفينومينولوجيا الهرمنيوطيقية. وعلى الرغم من صعوبة تقديم إجابة حول ذلك، فإن برنامج هيدغر للفينومينولوجيا التي حاولت التحقيقَ في الجوانب الخفيّة للظاهرات (الظاهرة «الفينومينولوجية») هو برنامج أكثر من مبرَّر، سيَّما إذا نجح في جعلها متاحةً بشكلٍ مباشر، بَدَلاً من تركها في عالم التفسيرات الافتراضية الخالص، على نحوٍ لا يمكن التحقُّق منها إلاّ بشكلٍ غير مباشر. وينطبق هذا بشكلٍ خاصّ على التفسيرات الهرمنيوطيقية للدازاين وللوجود. أما الشكوك المتعلِّقة بالفينومينولوجية الهرمنيوطيقية هذه فهي تطال الممارسة أكثر مما تطال مبدأ هذا المشروع الواضح والطموح والصعب. لم يكن هيدغر يتصوَّر إمكانية وجود تفسيراتٍ أخرى غير تفسيره، وهو غالباً ما كان يولِّد عند قارئه انطباعاً بأنه يتبع منهجاً متحيِّزاً، على سبيل المثال، في مناقشته للحالات المزاجية، كان يمنعه من التفكير في البدائل. وهو لم يكن يشعر كذلك أبداً بالحاجة إلى إخبار قرّائه بمعاييره، ولا بضرورة توضيح «التمامية» التي يطلق عبرها تصريحاته الضخمة والخطيرة، والتي تتجاهل في العموم مسألة الدليل، وتوتِّر الحسّ النقدي للجميع، باستثناء المعجبين.
وإذا تذكَّر المرء الحَذَر واليقظة التي ميَّزت عمل الفينومينولوجيين الأوائل فلا يَسَعه إلاّ أن يندهش من البلاهة التي تتعامل بها الفينومينولوجيا الجديدة، على سبيل المثال، مع ظهور الكينونة كأمرٍ مفروغٍ منه. وميل الكينونة لإخفاء صفة الظهور هذه أو دفعها إلى دائرة النسيان لا يفعل الكثير للتخفيف من الجرأة المذهلة لهذا الادّعاء. وإذا قيل لنا أيضاً: إن الكينونة نفسها هي التي تلعب لعبة الاحتجاب والبروز هذه على نطاق كونيّ فيبدو من الصعب تجنُّب الانطباع بوجود مشهديةٍ بدون شخصيّة الأبطال. بالتأكيد، باسم الفينومينولوجيا النقدية، يجب أن لا تمرّ مثل هذه الادّعاءات دون اعتراضٍ.
افتقار القارئ الناقد إلى الصبر قد يكون أشدّ عائقٍ أمام فينومينولوجيا هيدغر: صعوبة صياغتها ونقلها. وبإثارتي لهذه النقطة لا أريد التقليل من الأصالة الإبداعية لهيدغر، ولا من قوّة أسلوبه وصياغته. وإذا كانت هذه الصفات وحدها قادرةً على تحديد رتبة الفيلسوف فلن يكون هناك شكٌّ عندي في أن إنجازه كان فريداً. هناك عظمةٌ محدّدة في كتاباته حتّى لو كانت في أماكن محدَّدة. «خطوة واحدة تفصل السامي عن السخيف». لكنْ هناك متطلّبات للغة الفلسفية غير الأسلوب، وهيدغر نفسه، الذي فكَّر بعمقٍ في اللغة، كان لديه تقديرٌ عالٍ للغاية لطبيعتها وإمكاناتها. ولعلّ أكثر صياغاتها سموّاً هي العبارة التالية: «اللغة هي بيت الكينونة. في هذا البيت يوجد مسكنٌ للإنسان»([58]). ولهذا السبب أيضاً، سيلقى الشعر في نهاية المطاف، فضلاً عن الفنون غير اللفظية، هذه المكانة العالية في تفكير هيدغر.
في ضوء هذا التقدير، من الأهمِّية بمكان معرفة أن الصعوبات اللغوية على وجه التحديد، «بيت الكينونة»، هي التي أعاقَتْ طريق الأجزاء غير المنشورة من «الكينونة والزمان»، ويبدو أنها تعارضَتْ كذلك مع تطوير مقاربة هيدغر الثانية في: «ماهية الحقيقة» (Vom Wesen der Wahrheit)([59]). وإذا كان من المؤكَّد أن لغة الميتافيزيقيا هي التي فشلَتْ، لا اللغة في حدّ ذاتها، فأيّة لغةٍ هي تلك التي يمكن أن تحلّ محلها؟ بالكاد تكفي لغة الشاعر الذي «يعبِّر عن القدسيّ» من غير أن «يخبر عن الكينونة»، كما هو متوقَّعٌ من «المفكِّر».
ستؤدي هذه الصعوبة إلى عقبةٍ أكثر جدِّيةً، هي، بمعنى ما، أكبر عقبة في فينومينولوجيا هيدغر، وهي قابليّتها للإبلاغ من خلال اللغة. إن نيته الواضحة لإيقاظ القارئ، بل صدمه؛ من أجل أن يدرك الظاهرة، غالباً ما هزمَتْ هدفه. والضغط على الكلمات الموجودة وليّ أعناقها عن طريق تحوير دلالاتها الحرفية، سواء كانت مبرّرة اشتقاقياً أم لا، دون توجيهٍ إضافي للقارئ عن طريق إرشاداتٍ أو أمثلةٍ، من الممكن أن تخلق غسقاً من شبه الفهم غير النقدي بين السذّج ومن سوء الفهم العدائي عند النقّاد. صحيحٌ أنه كان على الفينومينولوجيا دائماً أن تواجه مشكلة ابتكار مصطلحات جديدة للظاهرات الجديدة، لكنْ لا يكفي أبداً صياغة مثل هذه المصطلحات دون تعريف القارئ بالظاهرات الجديدة. وهذه بالتحديد هي إحدى وظائف الفينومينولوجيا الوصفية. ويُعَدّ الافتقار إلى الصبر وإلى التعاطف مع القرّاء أسوأ نقطة ضعفٍ في فينومينولوجيا هيدغر الهرمنيوطيقية، وهي تحوِّلها قليلاً أو كثيراً إلى صورة مشروعٍ خاصّ أو إلى شكل عبادةٍ باطنية. لكنّ ذلك ليس بأيّة حالٍ من الأحوال ضعفاً لا يمكن علاجه، وينبغي أن يكون من الممكن إنقاذ قدرٍ كبير من رؤى هيدغر من خلال مقاربةٍ أقلّ تهوُّراً وعنفاً لمشكلة التواصل. قد يكون نجاح الفينومينولوجيا الفرنسية، بما في ذلك مكوّناتها الهيدغرية، يرجع إلى الاهتمام الأكبر بهذه المشكلة.
ثمة شكوكٌ أخيرة أُثيرَتْ حول كتاباته اللاحقة. لقد اتَّسمَتْ الفينومينولوجيا في مرحلتها الأولى باندفاعها الشجاع نحو الأشياء نفسها بغضّ النظر عن الآراء والنظريات السابقة، لكنْ كان هناك مَيْلٌ متزايد عند هيدغر للذهاب إلى «الأشياء» عن طريق النصوص الكلاسيكية، من خلال تفسيرٍ يعتمد أساساً على أصول الكلمات، وفي أحسن الأحوال بشكلٍ ثانوي على نداء الظاهرات نفسها. ومن ثمّ فإن العالم الثانوي للكتب والتقاليد هو الذي سيحول بين «الأشياء» وحَدْسها الجديد. من المؤكَّد أنها ستكون خسارةً محزنة إذا حرمَتْ الفينومينولوجيا نفسها تماماً من رؤى الماضي، والتي تشمل الآن أيضاً رؤى الفينومينولوجيين، ولكنْ سيكون الأمر قاتلاً بنفس القدر إذا كان «الذهاب إلى المصادر» يجب أن يفترض مرّةً أخرى معنى الرجوع إلى النصوص، بَدَلاً من العودة إلى الظاهرات. الطريق من «الكينونة والزمان» إلى «ماذا يعني التفكير؟» يُبْدِي مساراً ينذر بالخطر في هذا الاتجاه.
قبل قراءة هيدغر بعنايةٍ كثيراً ما قال هوسرل له: «الفينومينولوجيا أنت وأنا»([60]). ولو كان الأمر كذلك، وهو ليس كذلك، لكانت نبوءة رايل قد تحقَّقَتْ بالفعل. هنا، كما في حالة هوسرل، سأستحضر كلمات هيدغر الخاصّة التي برهن بها على استقلاليّته في «الكينونة والزمان»، والتي تفتح أفق الفينومينولوجيا على احتمالاتٍ كثيرة: «ماهية الفينومينولوجيا لا تتحدَّد من خلال واقعيتها، الاحتمالية أعلى من الواقعية».
ببليوغرافيا منتقاة
[1] أعمال أساسية
ـ Die Kategorien ـ und Bedeutungslehre des Duns Scotus (1916); reprinted in Frühe Schriften (1972).
ـ Sein und Zeit. Erste Hälfte (1927). Translation by John Macquarrie and Edward Robinso (1962).
يكاد يكون شديد الإخلاص في التعامل مع مهمّة شبه مستحيلة. ملاحظات مفيدة، على الرغم من نقل تلك الخاصة بهيدغر إلى ملحقٍ، إلاّ أن معجم المصطلحات الألمانية وفهرس المفردات الإنجليزية وأسماء الأعلام مفقودٌ في الأصل الألماني.
ـWas ist Metaphysik? (1929); Nachwort 1944, Einleitung 1951. Translation by R. F. C. Hull and A. Crick in Werner Brock, Existence and Being (1949), of the Einleitung by Walter Kaufmann in his Existentialism from Dostoevski to Sartre (1957).
ـ«Vom Wesen des Grundes» in Festschrift für E. Husserl (1929). Translation by Terrence Malick. Bilingual edition (1969).
ـKant und das Problem der Metaphysik (1929). Translation by J. S. Churchill (1962).
ـVom Wesen der Wahrheit (1943). Translation by R. F. C. Hull and A. Crick in Werner Brock, Existence and Being (1949).
ـBrief über den Humanismus (1949). Translation by W. Lohner in W. Barrett and H. Aiken ed., 20th Century Philosophy III (1962).
ـ Holzwege (1950).
ـEinführung in die Metaphysik (1953). Translation by R. Manheim (1958).
ـVorträge und Aufsätze (1954).
ـWas heisst Denken? (1954). Translation by F. D. Wieck and J. Glenn Gray (1968).
ـDer Satz vom Grund (1957). Translation by K. Hoeller (1974).
ـIdentität und Differenz (1957). Translation by K. Leyendecker and J. Stambough (1960 and 1969).
ـUnterwegs zur Sprache (1959). Translation by P. D. Hertz and J. Stambough (1971).
ـNietzsche. Two volumes. For translations see K. Hoeller below.
ـWegmarken (1967).
ـZur Sache des Denkens (1969). Translation by Joan Starmbough (1972).
للحصول على تفاصيل حول الترجمات، خاصّة الأجزاء من الأعمال الأكبر، مثل: مجلدات نيتشه، والقطع الأقصر، انظر:
– Keith Hoeller, «Heidegger Bibliography of English Translations» JBSP 6 (1975), 206 ـ 208.
بدأت النسخة الشاملة (Gesamtausgabe)، المقتبسة هنا باسم GA، في عام 1975م في: Vittorio Klostermann, Frankfurt، وتمّ الإعلان عن 57 مجلداً منها. حتى الآن ظهرت المجلدات التالية (بدون ترتيب): 1, 2, 5, 9, 20, 21, 24, 25, 26, 32, 39, 55
[2] دراسات عن فكر هيدغر باللغة الإنجليزية، خاصّة فيما يتّصل بالتعريف بالفينومينولوجيا الخاصة به
تنبيه: التدفُّق المتزايد لأدب هيدغر الثانوي جعل مستحيلاً بالنسبة إليَّ إعطاء تقييم عادل للمنشورات الهامة. ما كان ينبغي عليَّ أن أفعله هو الإشارة إلى الأعمال التي أعتبرها مفيدةً في توفير وصول أفضل إلى عمل هيدغر أكثر ممّا كان هو أو مترجموه قادرين على تقديمه حتّى الآن.
– GRENE, MARJORIE, Martin Heidegger. New York: Hillary, 1957.
تفسيرٌ مستنير، ولكنْ ليس متعاطفاً تماماً. نادراً ما يتمّ ذكر العلاقة بالفينومينولوجيا.
– KING, MAGDA, Heidegger’s Philosophy. New York: Dell 1964.
تحليلٌ موجز ومنظم وحكيم يتم فيه مناقشة العلاقة بين فينومينولوجيا هيدغر وهوسرل، على الرغم من عدم امتلاكه خلفية تاريخية.
– KOCKELMANS, JOSEPH J. , Martin Heidegger, A First Introduction to His Philosophy. Pittsburgh: Duquesne University Press, 1965.
مفيدٌ بشكل غير عادي كمقدّمةٍ أولية للجوانب الرئيسة في فكر هيدغر، خاصّة في الأقسام السابقة. أثناء رسم ملامح التطوُّر الفلسفي لهيدغر فإن الفينومينولوجيا الخاصة به لا تظهر هنا موضوعاً رئيساً. لا يحتوي على فهارس.
– LANGAN, THOMAS, The Meaning of Heidegger. A Critical Study of an Existentialist Phenomenology. New York: Columbia, 1959.
محاولةٌ لإظهار وحدة عمل هيدغر، وتقديمه بشكلٍ رئيس على أنه وجودي. تمَّت الإشارة إلى الجانب الفينومينولوجي، ولكنْ لم يتمّ تطويره.
– MARX, WERNER, Heidegger und die Tradition (1961). Translation by Th. Kisiel and M. Greene (1971).
تحقيقٌ مستقلّ حول محاولة هيدغر التغلُّب على تقليد الفلسفة من أرسطو إلى هيغل وإظهار عدم اكتماله.
– RICHARDSON, WILLIAM. J. , Heidegger: Through Phenomenology to Thought. The Hague: Martinus Nijhoff, 1963.
محاولةٌ ضخمة، هي الأكبر على الأقلّ في اللغة الإنجليزية، لتتبُّع التطوّر من هيدغر الأوّل في «الكينونة والزمان» إلى هيدغر الثاني بعد «المنعطف» (Kehre)، دون أن تفقد تماسكها. تضيف رسالة هيدغر التمهيدية (ثنائية اللغة) للإجابة عن أسئلة المؤلِّف قيمة خاصة لهذا العمل، كما يفعل الملحق الذي يحتوي على معلوماتٍ مؤكَّدة حول عمل هيدغر الأكاديمي ومسارده وببليوغرافياته. مع إهمال فترة ما قبل الفينومينولوجيا عند هيدغر، يعتبر الكتاب ذا قيمةٍ خاصّة لتحليل العديد من النصوص الأصغر بعد المنعطف. ليست القراءة التمهيدية سهلةً دائماً؛ بسبب افتراضاتها المسبقة؛ وبسبب المحاولة المستمرة لوضع لغة هيدغر في تعابير جديدة موازية في اللغة الإنجليزية.
– FAY, THOMAS, A. , Heidegger: The Critique of Logic. The Hague: Martinus Nijhoff, 1977.
[3] دراسات غير إنجليزية
أحدث النصوص، خاصّة المتعلِّقة بالتفاصيل المفيدة أيضاً حول المعلومات المتعلقة بالسيرة الذاتية والببليوغرافيا.
– BIEMEL, WALTER, Martin Heidegger in Selbstzeugnissen und Bilddokumenten. Hamburg: Rowohlt, 1973.
– COTTEN, JEAN ـ PIERRE, Heidegger. Paris: Le Seuil, 1974.
– PÖGGELER, OTTO, Der Denkweg Martin Heideggers. Pfullingen: Neske, 1963.
– FEICK. HILDEGARD. Index zu Heideggers Sein und Zeit. Tübingen: Niemeyer. 1963.
أداة بحث مهمّة تغطي أيضاً النصوص الأخرى بما في ذلك الاقتباسات الرئيسية.
– MONGIS. HENRI. Heidegger et la critique de la notion de valeur. La destruction de la fondation métaphysique. Lettre ـ Préface de Martin Heidegger. The Hague: Martinus Nijhoff. 1976.
[4] ببليوغرافيا أكثر اكتمالاً
– SASS. HANS ـ MARTIN. Heidegger ـ Bibliographie. Meisenheim: Anton Hain, 1968.
للوقائع المتأخِّرة انظر:
– SASS. H. M. , Materialien zur Heidegger ـ Bibliographie 1917 ـ 1972. Meisenheim: Anton Hain, 1975; new edition in preparation.
– IJSSELING. S., «Van en over Heidegger. Kroniek van de Heideggerliteratuur 1955 ـ 1965», Tijdschrift voor Filosofie 25 (1965), 587 ـ 609; 32 (1970), 721 ـ 739.
– LAPOINTE. FRANÇOIS H., «Martin Heidegger: A Bibliographical Essay (1973 ـ 1978)».
الهوامش
(*) فيلسوفٌ أمريكيٌّ معاصرٌ. من روّاد الحركة الفينومينولوجيّة، وأحد أهمّ ممثِّليها في العالم الإنكلوسكسوني. كانت له في هذا المضمار مساهماتٌ متعدِّدةٌ ومتنوِّعة.
([1]) MARTIN HEIDEGGER (1889 ـ 1976).
([2]) The phenomenological movement, U. S. A. Kluwer Academic Publishers, 1994, p. 336 and pp. 379 – 419.
([3]) اختاره هيدغر قبل يومين من وفاته لعنوان النسخة الكاملة لأعماله في مكان المقدمة.
([4]) Mind 38 (1928), pp. 70 – 555; Collected Papers I (1971), pp. 197 ـ 214.
Sidney Hook’s Portrait: «John Dewey», The American Scholar XVII (1948), p. 108.
([6]) في ماربورغ، في عام 1925، بدأت العمل على علم اللاهوت النسقي Systematic Theology الخاص بي، الذي ظهر المجلد الأول منه في عام 1951م. وفي الوقت الذي كان فيه هيدغر أستاذاً للفلسفة في ماربورغ، تاركاً أثره في بعض أفضل الطلاب، قطعت وجودية القرن العشرين طريقي، لقد مرت سنوات قبل أن أصبح مدركاً تماماً لتأثير هذا اللقاء على تفكيري. قاومت، حاولت التعلم، وقبلت طريقة التفكير الجديدة أكثر من الإجابات التي أعطتها.
Kegley, Charles W. and Bretall, Robert W. , eds. , The Theology of Paul Tillich. New York: Macmillan, 1952, «Autobiographical Reflections», p. 14.
انظر أيضاً:
Paul Tillich, The Interpretation of History (New York: Scribner, 1936), p. 39 f.
يشدِّد لاهوت تيليش، على سبيل المثال، على التمييز بين الكينونة و«الكائن» كثيراً، كما فعل هيدغر، انظر:
Paul Tillich, Systematic Theology I (1951), p. 163 ff. ; Love, Power and Justice (1953), pp. 18 ff. Also.
أيضاً، مفهوم تيليش الكامل للأنطولوجيا، الذي يعتبر موضوعه الكينونة، على أنها متميِّزة عن العلوم التي تتعامل مع الكائنات، يعكس فكر هيدغر. لكنْ من المؤكَّد أن هيدغر سيرفض بشدّةٍ اعتبار الكينونة هي الله، كما فعل تيليش.
([7]) هنا يتمّ استخدام تفسير هيدغر الوجودي كمعيار لتحديد ما يوحي به المعنى غير الأسطوري للنص الكتابي. أنظر:
Erich Dinkier, «Existentialist Interpretation of the New Testament», Journal of Religion, XXXII (1952), pp. 87 ـ 96; John Macquarrie, An Existentialist Theology. A Comparison of Heidegger and Bultmann. London: SCM Press, 1955.
([8]) Translated by Albert Hofstadter in Poetry, Language, Thought. New York: Harper, 1971. Six additional important poems under the title Gedachtes appeared in Hommage Ii Rent Char. Paris: Éditions de I’Herne, 1971, pp. 81 – 179; translated, with an additional poem for Raymond Panikkar’s University of California, Santa Barbara class, by Keith Hoeller in Philosophy Today 20 (1976), pp. 91 – 286.
([9]) حول هذه العملة الجديدة، صرَّح هيدغر في عام 1959 في: (p. 95) Unterwegs zur Sprache قائلاً: «لم أكن مهتماً باتجاه (Richtung) جديد ضمن الفينومينولوجيا، بل لم أكن مهتمّاً بجديدها. على العكس من ذلك، حاولت التفكير في جوهر الفينومينولوجيا بنمطٍ أكثر أساسية (Ursprünglicher)؛ من أجل إعادة إدخالها على وجه التحديد في السياق المناسب (Zugehörigkeit) من الفلسفة الغربية».
([10]) تلك الواردة في مسودته المضادة لمقالة هوسرل في الموسوعة البريطانية (see: p. 343) لم تكن تهدف إلى أكثر من مجرد محاولة مساعدة هوسرل في صياغة تصوره الخاص، بطريقةٍ بدَتْ لهيدغر أكثر فاعلية؛ شاهد وجود مصطلح «الوعي» في هذا التعريف، وهو مصطلح كان هيدغر قد حذفه بالفعل في مرحلة الكينونة والزمان.
([15]) ومع ذلك، فهو ليس أول مَنْ اقترح هذا، انظر:
Nicolai Hartmann, Plalos Lagik des Seins. Marburg, 1909, p. 477.
في ما يتعلَّق بالصحة اللغوية لهذا التفسير انظر الآن:
Paul Friedlander, Plato I, Ch. XI: Aletheia.
بالنسبة إلى أصل كلمة هيدغر وفلسفة اشتقاقها انظر أيضاً:
Was heisst Denken?, pp. 120 fr, 170 ff; and Vorträge und Aufsätze, pp. 257 ff.
المعنى الهوسرلي لـ «اللوغوس» كما تمّ تطويره في:Formale und transzendentale Logik يتعامل فقط مع طبقات عديدة من الكيانات المنطقية.
([22]) من المؤكَّد أن هيدغر لا يبدو أنه يعترف بحدوث مثل هذا التحوُّل.
وهكذا في مقدّمة (Was ist Metaphysik? Sixth Edition 1951, p. 14; GA 2, p. 371) أكَّد أنه حتى في «الكينونة والزمان» يعني الوجود «انفتاح الكائن الإنساني، الذي يقف منكشفاً على تفتح الكينونة» وأنه «يقف في هذا الانكشاف من خلال تحمله (Ausstehen)». سنجد إعادة تفسير مماثلة غير معترف بها في حالة القلق (Sorge)، والتي لم تعُدْ مقصورةً على الكائن الإنساني، بل تشير إلى الكينونة كذلك.
([23]) «Brief über den Humanismus», p. I5; GA 2, p. 325.
([24]) وليم جيمس في: الشعور بالعقلانية.
([26]) O. F. Bollnow in his book Das Wesen der Stimmungen (Frankfurt: Vittorio Klostermann, 1942(.
يقدِّم تطويراً نقدياً هاماً لتحليلات هيدغر مع نتائج مختلفة جدّاً.
([27]) جورج سانتايانا، رسائل، ص. 381.
([28]) «Tod und Fortleben» in Nachlass I, p. I ـ 52; G. W. 10, pp. 9 ـ 64.
([30]) كما ذكرنا سابقاً يظهر المصطلح أيضاً بمعنى موسّع، في المخطوطات غير المنشورة في الغالب، في فترة هوسرل اللاحقة، والتي تتناول أعمق طبقة من التأسيس في الوَعْي، وهي تأسيس الزمان. أما حول ما إذا كان المصطلح قد انتقل من هيدغر إلى هوسرل فيجب أن يظلّ سؤالاً مفتوحاً. بالتأكيد، إذا كان الأمر كذلك، فقد تغيَّر معناه في هذه العملية.
([34]) من بين العديد من الصيغ المثيرة للإعجاب لممارسة الفينومينولوجيا (p. 97) نقتبس ما يلي: «من الملح غرس المبدأ المنهجي للفينومينولوجيا مراراً: لا الهروب قبل الأوان من الطابع المبهم (Rätselhaftigkeit) للظاهرات، أو للتخلُّص منها من خلال التحوُّل العنيف إلى نظريةٍ بائدة. بهذه الطريقة فقط يمكن الاستيلاء عليها وفهمها من الناحية المفاهيمية، أي بشكلٍ واضح ومحدَّد، بحيث تولد مفاتيح فك تشابك الظاهرات من غموض الشيء (Sache)».
([46]) See also Holzwege, p. 194; Vorträge und Aufsätze, p. 184.
([47]) Was heisst Denken?, p. 164.
([49]) Der Satz vom Grund, p. 95 f. , 157; ldentität und Differenz, p. 24 f.
([50]) Holzwege, p. 69; translated by Marjorie Grene in Measure II, 269 ff. See also Vorträge und Aufsätze, p. 45 ff.
([51]) Was ist Melaphysik? Nachwort (1934), 6th edition, p. 46.
([52]) Aus der Erfahrung des Denkens, p. 25; Holzwege, p. 343.
([53]) Holzwege, p. 302 f., p. 343.
([54]) See: E. G. Hendrik J. Pos, «Recollections of Ernst Cassirer», in P. Schilpp, ed., The Philosophy of Ernst Cassirer, pp. 67 ـ 69; Sein und Zeit, p. 51 f.
([55]) Was heisst Denken? p. 110.
([56]) Kant und das Problem der Metaphysik. Preface to the 2nd ed. , 1950.
([57]) هذا السؤال تناوله برنارد بولين Bernard Boelen)) في مقالٍ بعنوان:
«Martin Heidegger as a Phenomenologist» in Phenomenological Perspectives, ed. Philip J. Bossert, The Hague: Martinus Nijhoff, 1975, pp. 93 ـ 116.
وإجابته هناك ستكون بإلإيجاب على خلاف ما هي عليه هنا.
([58]) «Brief über den Humanismus» in Platons Lehre von der Wahrheit, p. 53; GA 2, p. 313.
([60]) Dorion Cairns, Conversations with Husserl and Fink. The Hague: Martinus Nijhoff, 1976, p. 9.