أحدث المقالات

الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي(*)

ترجمة: علي آل دهر الجزائري

 

سنعرض في هذا [المقال] تقييماً لنظريّة ملاّ صدرا& حول المعاد الجسماني. ومن البيِّن أن نظريته في باب المعاد أتت في مقابل نظرية أتباع المشائين، الذين كانوا يرون أن المعاد روحاني مطلقاً، وأن النفس إذا لم يكن لها تعلّق بمادة البدن المادي العنصري لا يمكن أن تدرك الجزئيّات، وإنما يمكن أن تدرك المفاهيم الكلية. ولازم هذا الكلام أن ما يبقى في الإنسان هو «النفس» فحَسْب، التي تدرك المعاني الكلية، القضايا الحقّة، الابتهاج النفساني الذي يبقى لها، وتحصل على لذة روحانية من إدراكاتها العقلية. فإذا كانت الاعتقادات باطلة، ولا سيما الجهل المركب؛ فإن النفس ستتعذَّب بتلك الإدراكات الباطلة، ويساورها ألمٌ روحاني دائم. ويفسِّرون السعادة والشقاء والثواب والعقاب الأخروي بذلك الابتهاج أو التألُّم الروحاني؛ بسبب إدراك المعاني الكلية العقلية.

علماً أن الشيخ الرئيس [ابن سينا] وأمثاله من العلماء كانوا يقولون إجمالاً: إننا نقبل ما جاء به الشرع المقدَّس، لكنّنا لا نستطيع إثباته بالبرهان العقلي، وما ذكرناه هو حصيلة البحث الفلسفي. وإشكالهم الأساس أنهم لا يستطيعون إثبات الإدراكات الجزئيّة للنفس.

وفي مقابل هذه النظرية فإن لنظريّة ملاّ صدرا& نقطة إيجابية قوية جدّاً، هي أنه بإثبات المرتبة المثالية والبرزخية للنفس بدون البدن المادّي الدنيوي استطاع إثبات الإدراكات الجزئية، و ـ طبعاً ـ الآلام واللذات النفسانية؛ ولا سيّما أنه أثبت أن الادراكَ مجرّدٌ مطلقاً، ولا علاقة له بالبدن (خلافاً لتصوُّر المشّائين الذين يرَوْن أن الإدراك الحسي والخيالي متعلّق بالبدن، أو يحصل بتدخُّل منه). وفي هذا العالم أيضاً تدرك النفس في مرتبة المثال الصور الحسّية والخيالية. والآلام أو اللذات التي تحصل للنفس ليست للبدن، بل للروح في مرتبة تجرّدها المثالي. وهذه المرتبة ثابتة للنفس. وعليه فكل إدراكات النفس تتحقَّق في ذلك العالم؛ لأن النفس هناك [ليست] مشغولة بتدبير البدن، وليس لها تعليقات مادية. فيمكن اعتبار هذا نقطة إيجابية لنظرية صدر المتألِّهين مقارنة بنظرية المشّائين؛ لأن المشائين كانوا مضطرين ـ التزاماً بنظريتهم ـ لتأويل كل ما ورد في الكتاب والسنّة بالمعاني العقلية، كما فعل كثيرون. وهذا الأمر من الصعوبة بمكانٍ. أما صدر المتألِّهين فلم يكن مضطراً لتلك التأويلات، ويقول: إن الادراكات واللذات الجزئيّة موجودة في هذا العالم. فتلك نقطة إيجابية في نظريته.

النقطة الإيجابية الأخرى التي تحسب لهذه النظرية هي أنّ في الآيات والروايات أمور يصعب جدّاً الجمع بينها وفقاً للرؤية التي ننظر بها إلى ذلك العالم. مثلاً: إن الجنة تتحقّق في وادي السلام، وجهنم في موضع آخر، مثل: حضرموت، أو باطن الأرض، أي إن أهل الجنة يحشرون في وادي السلام. ومن جهة أخرى ما يستفاد من ظاهر آيات وروايات أخرى أنّ الجنة في السماء، وأيضاً في موضع معيَّن من الأرض. والإشكال الأهمّ هو أنّ هذا الموضع الأرضي الذي يعرَّف على أنه الجنة الأرضية هو بقعة محدودة، فكيف يتناسب مع كلّ هذه النعم المذكورة في الجنة؛ إذ يروى أحياناً أنّ لشخص واحد من أهل الجنة سبعين ألف قصر من الدرّ والياقوت، فربما لا تكفي تلك المساحة المحدودة لهذا العدد. وعندئذٍ كيف يعيش كلّ هؤلاء الذين يحشرون في تلك البقعة من الأرض؟

وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن التوفيق بين حصول النِّعَم التي ذكرت في الآيات والروايات مع النظام الموجود في هذا العالم. مثلاً: الفواكه التي تعطي طعوماً مختلفةً، أو أنهار العسل واللبن، كلّ هذه لا تنسجم مع النظام الفعلي للعالم، ولا سيما أنّ كل فرد يتحقَّق له كلّ ما يريد فوراً حالاً. فالقطعة المحدودة من الأرض، وإنْ كانت بمساحة الكرة الأرضية، إذا تمنّى مؤمنٌ أكثر من ذلك، فهل يتحقَّق له ذلك؟ وحينها كيف يمكن حلّ التزاحم الحاصل بينها؟ وأمور أخرى كثيرة إذا درسنا الروايات نجدها لا تنسجم مع النظام الدنيوي. مثلاً: لبعض الأشخاص حوريّة رأسها في المشرق ورجلها في المغرب، فإذا كان الإنسان بذلك البدن الدنيوي كيف يلتذّ بتلك مع هذا الحجم الكبير؟ وكثير من المطالب الأخرى الواردة في الآيات والروايات، والتي لا تنسجم مع هذا العالم. إلاّ أنّ ملاّ صدرا تمكن من حلّ كلّ تلك الإشكالات بهذه النظرية، وقال: إنّ كلّ هذه الأمور تتعلَّق بالجسم المثالي، ولا يوجد تزاحم بين الأجسام المثالية. ويمكن أن يكون لكلّ إنسان هكذا جنّة: ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ (آل عمران: 133)، ولا يحصل أيّ تزاحم مع غيره من أهل الجنة. وهذه نقطة إيجابية في نظريّته أيضاً. وتوجد مثل تلك المعضلات في الآيات والروايات يمكن حلّها بهذه النظريّة.

وفي قبال هاتين النقطتين الإيجابيتين لنظرية ملاّ صدرا هناك نقاط ضعف لا يمكن التغاضي عنها؛ بعضها يرتبط بانطباق هذه النظرية على الكتاب والسنّة.

وإحدى أهم مخالفات هذه النظرية لظواهر الكتاب والسنّة هو أنه فسّر «الإحياء بعد الموت» بانتقال النفس من «عالم المادّة» إلى «عالم المثال»، ثم إلى «العالم العقلي». وفسَّر خروج الإنسان من القيود بالخروج من عالم الطبيعة، واستشهد أحياناً بأنّ الموت انتقالٌ من نشأةٍ إلى نشأة أخرى. نحن نقول: لا جدال في أنّ الموت انتقال، فهذا كلام صحيح، وتؤيِّده الروايات الكثيرة؛ إلاّ أنّ لازم هذه النظريّة أنّ الموت نفس الإحياء الأخروي، أي إن الإنسان عندما ينفصل عن عالم الطبيعة تنقطع تعلُّقاته بهذه الطبيعة، ويدخل عالم المثال، وهذا هو إحياؤه، وليس هناك شيءٌ آخر. فقد فسَّر الإحياء بهذا المعنى؛ أي إنّه قطع التعلُّق بالمادة. فالموت يعني الانتقال من هذا العالم، وقطع التعلُّق بهذا العالم هو نفسه الإحياء. ولا يغدو الإحياء شيئاً آخر غير الموت. فما إن تقطع النفس تعلُّقها بهذا العالم يعني ـ عنده ـ الدخول في الحياة البرزخية والحياة الأخروية، بينما تدلّ ظواهر الآيات على أنّ الانسان يموت، ويدخل عالم البرزخ، وهذا هو «عالم الموت»، ثم يحيى يوم القيامة. فإذا كان الانتقال إلى العالم الآخر «إحياءً» فلا يبقى معنى لـ ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ و﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾، إلاّ أن يقول: إنّ ﴿يُحْيِيكُمْ﴾ يعني الانتقال من عالم البرزخ إلى العالم العقلي. وملاّ صدرا في كثير من كلماته ـ على الأقلّ ـ لا يعتقد بهكذا انتقالٍ لجميع الناس، ويقول: إن كثيراً من النفوس لا تصل إلى «العالم العقلي»؛ فهذه النفوس لن تحيا، ولا يبدو ذلك من الآيات والروايات. والإحياء في القيامة حقيقة أخرى. وظاهر كثير من الآيات أنّ الإحياء عودة الروح إلى البدن، وهذا ما لا يمكن إنكاره، ولا ينسجم مع الأفكار التي يطرحها ملاّ صدرا.

والإشكال الآخر أنّه بحسب الآيات والروايات فإنّ عالم البرزخ غير عالم القيامة. وتدخل النفوس بعد الموت تدريجياً إلى عالم البرزخ، وليس دخولها له دفعة واحدة، وطبعاً هناك نفوس لم تدخل عالم البرزخ بعدُ، إلاّ أنّ عالم القيامة يحصل ـ بحسب نصوص القرآن والروايات ـ دفعةً، ويدخل الجميع عالم القيامة مرّة واحدة: ﴿يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾ (هود: 103). فالظاهر من الآيات والروايات أن جميع الناس يببعثون من القبور مرّة واحدة، ويدخلون عالم المحشر. فكيف يستطيع ملاّ صدرا أن يميِّز بين عالم البرزخ وعالم القيامة؟ عندما يعتبر عالم القيامة هو المرتبة العقلية فهو أوّلاً ـ بحسب نظريته ـ لا يشمل الجميع؛ ومن جهةٍ أخرى فذوو النفوس الكاملة، والتي وصلت إلى المرحلة العقلية، دخلت عالم القيامة (لأنه يفسِّر عالم القيامة بالمرحلة العقلية، والتي يجب أن تكون تدريجية)، أي إنّ كلّ فرد يصل إلى المرتبة العقلية، فقد دخل القيامة الكبرى. وهذا خلاف ظاهر الآيات والروايات. نعم، يمكن تأويلها بأن ذلك العالم ليس عالماً زمانياً، ولا يقال عنه: تدريجي أو دفعي، لكنْ في مقام تطبيقها على ظواهر الآيات والروايات فهذه نقطة ضعف في هذه النظرية.

إن الدخول إلى عالم البرزخ تدريجيّ، والدخول إلى عالم القيامة دفعيّ. لكن ملاّ صدرا لا يميِّز بينهما، بل هو أساساً لا يستطيع أن يُثبت عالم قيامة بعد البرزخ للمتوسِّطين، الذين لم يصلوا إلى مرحلة التجرُّد العقلاني؛ لأن المتوسِّطين ـ بحسب رأيه ـ يصلون إلى التجرُّد البرزخي لا غير، ويخلدون في ذاك العالم. لكنْ أين هي قيامتهم؟ وأيّ فرق بين عالم البرزخ وعالم القيامة للمتوسِّطين، وفقاً لرأيه؟ فهذا سؤالٌ ليس من السهل الإجابة عنه وفقاً لهذه النظريّة.

وعليه يمكن اعتبار هذه نقطة ضعف في مقام تطبيقها على الآيات والروايات.

وإذا غضضنا الطرف عن الآيات والروايات، ونظرنا إليها بوصفها نظرية فلسفية، فهذه النظرية في حدّ ذاتها يكتنفها قصورٌ. ولما كانت تعتمد على مجموعة أصول ومبانٍ فإنّ مناقشتها بلحاظ تلك الأصول ستطرح اعتراضات ونقاط أخرى.

هناك أربع نقاط ضعف في تلك النظرية، وبغضّ النظر عن التوفيق بينها وبين الآيات والروايات.

وهذه الموارد الأربعة ترتبط بأصول ومباني تلك النظرية:

الأوّل: يقول: إنّ النفوس ذات الاعتقادات الصالحة لكنّ أعمالها غير صالحة تبقى معذَّبة لفترة في عالم البرزخ، وبعد الخلوص تنتقل إلى العالم العقلي؛ أو إنها تعذَّب لفترة في عالم البرزخ، ثم تزول عنها الآثام، وتصبح من أهل الجنّة والسعادة. وبناءً على ذلك فالذين يكونون على حالٍ في عالم البرزخ لفترةٍ، ثم ينتقلون إلى حالة أخرى؛ أو الذين يكونون في عذاب وشقاء، وبعد فترةٍ يصلون إلى السعادة والراحة ـ وهذا المعنى مذكور في كلامه ـ، فتلك هي حركة، حركة من حال إلى حال، وهذا سير تدريجي، وهو يؤكِّد أنه سير واحد تدريجي ثابت في كلّ المراحل. فهو إذن يقبل الحركة والزمان بدون المادّة. ومن جهةٍ أخرى يصرِّح أن النفس لا تعلّق لها بعالم المادة والهيولى والجسمانيات، سواء في عالم البرزخ أو في القيامة. ومن جانبٍ آخر فهو يقبل بالتغيُّر والزمان، فهو إذن يقبل الحركة، ويقبل الزمان أيضاً، بينما لا تقتضي مبانيه ذلك. ويرى أنّ الحركة من خواص الأجسام والزمان هو البُعْد الرابع من أبعاد الجسم الهيولاني العنصري، ويقول: إنّ الزمان ينتزع من الحركة الجوهرية للأجسام، والحال أنه بعد قطع تعلّق النفس بالبدن فليس هناك جسم، حتّى ينتزع منه الزمان، وتنسب إليه الحركة والتغيُّر. والجسم البرزخي مجرّد من المادة، ويجب ـ بحسب رأيه ـ أن لا يكون له زمان، ويجب أن لا تكون فيه حركة وتغيُّر. فكيف تصبح النفوس المعذَّبة في عالم البرزخ أوّلاً من أهل الثواب والرحمة والسعادة؟ فهذا التغيُّر، حيث يكون تقدّم وتأخّر في البين، هو زمانٌ. ويصرِّح ملاّ صدرا بأنهم يعذَّبون لفترة، ثم يصبحون من أهل النعيم. فكيف يبيِّن هذه الفترة الزمانية مع أنّه يرى الزمان والتغيّر مختصّاً بحركة الأجسام؟ إنّ عليه الإجابة عن هذا التساؤل بصفته بحثاً فلسفياً، وبغض النظر عن الآيات والروايات: كيف يصوِّر الزمان والحركة في العالم؟

الثاني: تكرَّرت في كلماته الإشارة إلى أن الاعتقادات الحقّة تكون منشأً للتنعُّم في الآخرة، فإنْ كانت بالإدراك العقلي فهو مرتبطة التجرّد؛ وإن كانت مشوبة بالصور الخيالية والإدراكات الجزئية ففي عالم البرزخ، وهكذا المعاصي والاعتقادات الفاسدة تكون منشأً للعذاب. وقد ذكرنا في محله أن هذا ليس له تبيين فلسفي واضح. فمثلاً: لو توصَّل شخصٌ بقياسٍ فاسد إلى نتيجة أنّ للعالم ـ والعياذ بالله ـ مبدآن: أحدهما: مبدأ الخير؛ والآخر: مبدأ الشرور، هذا قياس مغالطي، والاعتقاد الحاصل منه هو جهلٌ مركَّب. لكنْ كيف ولماذا يكون الجهل المركَّب منشأً للعذاب؟ لماذا يكون الاعتقاد الحاصل في النفس منشأً للعذاب؟ وأيّ علاقة بين الإدراك والعذاب، ولا سيما في عالم البرزخ، حيث يكون العذاب فيه جسمانياً وجزئياً؟ مثلاً: الاعتقاد بأن للعالم مبدأين، وبالذات لمَنْ لم يصل إلى العالم العقلي بعدُ (وهو طبعاً لا يرى الاعتقادات الكاذبة مرتبطة بالعالم العقلي)، فأيّ علاقة بين ذلك الاعتقاد وبين العذاب بالحيّات والعقارب؟ كيف نستطيع من وجهة نظر فلسفية أن نثبت العلاقة بين الاعتقادات والآلام أو الرحمة والنعيم؟

وفقاً لرأي المشّائين ـ الذين يرَوْن النفس مجرّدة أصلاً وذاتاً ـ يمكن أن يقال: إنّ هذه الأعراض لمّا كانت غريبة على النفس، ولا سنخية لها مع النفس، فإنّها تسبِّب المنافرة. ولهذا تتألَّم النفس منها (غاية الأمر أنّها لا تلتفت إلى تلك المنافرة في هذا العالم، وبعد قطع العلائق في تلك الدنيا تحصل لها المنافرة). للمشائين مثل هكذا تبرير، أمّا ملاّ صدرا، الذي يرى أن النفس ليست مجرّدة ذاتاً، ويقول: إنّها أول الأمر مادّية، وتتكامل بالتدريج، فهي جسمانية في أوّل نشأتها، ثم تصل إلى التجرُّد البرزخي، وبعد ذلك إلى التجرُّد العقلاني، فيكون لكلّ نفسٍ ما اكتسبت من الكمال، ولا شيء آخر. فإذا كان لشخص اعتقاد يقول: هذا في الواقع ليس كمالاً، فإذا سلَّمنا أنه ليس كمالاً لماذا يكون موجباً للعذاب؟ فما الذي يوجد هنا حتى تكون الاعتقادات منشأً للعذاب الجزئي والبرزخي، من النار والعقارب والحيّات وغسلين والزقوم؟ وكيف يمكن تبيين ذلك من وجهة نظر فلسفية؟

أحياناً له إشارات عن العلاقة بين الحقائق مع بعضها، لكنْ يبدو أنّها ليست مقنعة. ويحقّ لمَنْ يتنهج بحثاً حرّاً في هذا المجال أن يسأله عن البرهان الفلسفي على أن الأعمال والاعتقادات الفاسدة توجب العذاب؟ بل أكثر من ذلك، ويمكن اعتبار هذا اعتراضاً وسؤالاً ثالثاً، ويتّجه لنظريته فحَسْب، ولا يرد هذا الإشكال على نظرية المشّائين، وهو: إنك تقول: إن النفس في ابتداء وجودها جسمانية، وفاقدة للكمالات التجردية، وعندما تحصل على الكمالات التجريدية تصبح هذه الكمالات صورة للنفس، وأنت تعترف بكونها كمالاً بمعناه العام، سواء كانت مطابقة للواقع أم لا. الصورة الإدراكية هي كمال. وملا صدرا يصرِّح بأنه عندما نقول (كمال) يعني القوة التي وصلت إلى الفعلية. وهذه الفعلية تكون أحياناً موجبة للعذاب. حسناً، فهذه النفس التي اكتسبت ـ والعياذ بالله ـ ملكات الخنزير، وأصبحت متلبسة بصفة النفس الشهويّة للخنزير، هذه النفس في البداية كانت جسمانية، وفاقدة للصفة الإلهية والملائكية، والآن حصلت لها تلك الصفة، وأصبحت كالخنزير، وللخنزير لوازم، مثلاً: يحب الأشياء المتعفِّنة ويأكلها، فإذا كان إنساناً وأجبر على تناول الأشياء العفنة فهو معذَّب. أمّا إذا أصبحت فعلية النفس الإنسانية فعليّة نفس الخنزير فأيّ عذاب يحصل لها من تناول الأشياء العفنة؟ وهل أن خنازير العالم تتألَّم من الأشياء العفنة التي تتناولها؟ بالعكس، هي مستأنسة جدّاً بذلك. والجُعْل يستأنس بالروائح العفنة. فالإنسان الذي اكتسب ـ والعياذ بالله ـ صفة هذه الحشرة ما الدليل على أنه يتألَّم لكونه جُعْلاً؟! فليس هناك شيء آخر ونفس أخرى تكون لها المرتبة العقلية، فالمتَّصف بالخنزيرية أو الجُعلية نفس تلك الفعلية التي حصلت لها. وفي البداية لم تكن لها مرتبة ملكوتية، ولا مرتبة بهيمية، والآن اكتسبت المرتبة البهيمية. الصورة البهيمية لها حكم البهائم، وتظهر آثارها ولوازمها في ذلك العالم، فيفعل كلّ ما تفعله البهائم، غاية الأمر أنّ ذاك العالم ليس فيه الفعل والانفعالات المادّية والاستعدادية، بل إنها تترشح منه ومن لوازم وجوده. حسناً، الخنزير الذي يتناول الأشياء العفنة، ويعيش في الأماكن القذرة، ففي ذاك العالم تكون صورته صورة الخنزير الممسوخ، لماذا يعذَّب ويتألَّم من هذا الوضع؟! فقد اكتسب الفعلية، وهذه لوازمه الوجودية. فما هو ملائم لذاته هو مقبول بالنسبة له. عندما أصبح خنزيراً فإن تناول الأشياء العفنة يلائم ذاته، ويلتذّ بها، إذن ليس فيها أيّ عذاب. كيف يمكن أن نبين العذاب وفقاً لهذه النظرية؟ مع افتراض أننا سلمنا هذه الأصول بأنّ هذه الملكات الصورية للنفس، وعندما تكتسب النفس هذه الملكات فإنّ فعليتها تصبح نفس الفعلية. والسؤال الذي يتبقى: لماذا تتعذَّب بها؟ ويستطيع المشّاؤون مرّة أخرى الإجابة عن ذلك بأن النفس ذاتاً جوهر عقلي، فهم يعتبرون فعلية النفس مجرّدة منذ البداية.

فالمشاؤون يمكنهم القول: إنّ الهيئة الخنزيرية لا سنخية لها مع النفس الإنسانية. وعندما تعرض هذه الهيئة؛ بسبب الملكات العارضة، هذا العارض غريب، فيتنافر معها، لهذا تتأذّى بها. أما ملاّ صدرا، الذي لا يرى فعليّة للنفس غير الصور التي تكتسبها، وتلك المَلَكات والإدراكات. الحركة جوهريّة، وتبدأ من المادة إلى أن تصبح خنزيراً، قُلْ: إنها اكتسبت معقولات، وهي على أيّ حال لازم لإنسانيته، كلاهما موجودة. لكنْ ليس بين هذه تناقض. والحركة الجوهرية حلَّت هذا، إلاّ أنّ له نفس بهيمية للخنزير، وصورة خنزير. ولها معقولاتها أيضاً، وتلتذ منها، ولها صورة الخنزير، وتلتذ من فعل الخنزير. ولما كانت متناسبة مع تلك الصورة فلماذا تعذَّب؟ هذا الإشكال يرد أيضاً على هذه النظرية.

الإشكال الرابع الذي يَرِد على هذه النظرية أن رأيه في باب النفوس قبل التعلّق بالمادّة يخالف رأي أفلاطون، ورأي الذين يقولون: إن النفوس موجودة على نعت الكثرة، ويقول: إن النفس لما كانت مجردة في العالم العقلي وعالم التجرد، والمجردات ليس فيها كثرة، ومحال أن تكون في نوع مجرّد كثرة أفرادية، إذن الوجود الذي يمكن إثباته للنفس قبل هذا العالم وجود عقلي بسيط. وبذلك جمع بين قول أفلاطون ونظريّة ملاّ صدرا في القول بالحدوث الجسماني للنفس، وابتداء وجودها في هذا العالم. لكنْ على نعت الكثرة، أي إنه لا منافاة بافتراض وجود جمعي لها في العالم العقلي قبل هذا العالم العقلي، فيشكل عليه: ماذا تقول عن قوس الصعود؟ فإن قلتَ: إنّ النفس تصبح مجرّدة في قوس الصعود فحينئذٍ ما هو منشأ كثرة النفس في القوس الصعودي؟ إذا كانت المادة هي ملاك الكثرة دائماً، وأنت تقول: إن النفس تصل في النهاية التجرّد، ولا تكثر في عالم التجرّد، فكيف تثبت الكثرة للنفوس؟! يظهر من مجموع كلماته أنّ النفوس في عالم البرزخ لها كثرة، لكنها عندما تصل إلى عالم العقل فإنّها تتّحد مع العقل الفعّال، وتوجد بوجود واحد. فإذا كان استنباطنا من نظريته صحيحاً يبقى السؤال: أوّلاً لماذا توجد كثرة في البرزخ، وهو عالمٌ مجرد؟ إذا كان ملاك التعدُّد هو المادة لا غير، ولمّا لم تكن هناك مادّة، فكيف يمكن لملاّ صدرا إثبات الكثرة في عالم البرزخ؟ لماذا يكون هناك تعدُّد في الصور البرزخية، فإنّها مجرَّدة أيضاً؟ إذا كان ملاك التعدُّد هو المادة فقط، وبدونها لا معنى للكثرة والتعدُّد، فلماذا وجدت الكثرة في عالم البرزخ؟ ربما يجيب ملاّ صدرا بأنّه لما كانت الصور البرزخية كلٌّ منها نوع محصور في فرد فلازم ذلك أن نقول: إن النفوس الانسانية عندما تنتقل من هذا العالم فكلّ نفسٍ هي نوع، ولا توجد نفسان بنوعٍ واحد. وهذا أمر عجيب جدّاً.

وطبعاً ملاّ صدرا يصرِّح أن النفوس عندما تنتقل إلى عالم آخر فإنها أنواع متعدِّدة. والآن لنفرض أن لدينا أربعة أو خمسة أنواع من الإنسان في القيامة، كما يشير هو إلى ذلك أحياناً: النفوس البهيمية؛ والنفوس السبعية؛ والنفوس الملكية؛ والنفوس الشيطانية؛ وأخيراً النفوس الرحمانية، التي تصل إلى العالم العقلي. فهذا يمكن قبوله إلى حدٍّ ما، إلاّ أنّ القول بأن تصبح كلّ نفس نوعاً خاصّاً فهذا كلام عجيب. وإذا قلنا: إن كل نفسين على الأقلّ تصبح نوعاً فهنا يطرح السؤال عن منشأ الكثرة في نفسين مجرّدتين؟ وملاّ صدرا يرى أنّ منشأ الكثرة هو المادّة لا غير؟ وفي كلماته توجد أحياناً ـ وصرَّح به بعض كبار الأساتذة ـ أنّ هذه النفوس التي تكثرت في هذا العالم تبقى بوصف الكثرة بعد الانتقال إلى العالم الآخر. وهذه الاستعدادات المتعدِّدة التي اكتسبتها النفوس؛ بسبب تعلّقها بالمادة، والكثرة التي حصلت في هذا العالم، تبقى معها، ولا تعود هذه النفوس إلى الوحدة. لكنّ هذا لا يَرُدّ الإشكال بأن ملاّ صدرا يعتبر المادّة ملاك التكثُّر، وعندما لا توجد مادّة فما هو منشأ الكثرة؟ وهل يمكن انتقال لوازم العالم الجسماني إلى عالم آخر؟

إذا كانت الكثرة مختصّة بالعالم الجسماني فما الدليل أنها تحمل الكثرة معها من هذا العالم؟ ماذا يعني أنّها تحملها معها؟ فهذا سؤال يُطرَح حول هذه النظرية.

يقول ملاّ صدرا: إنّ لهذا النفوس كثرة ـ على الأقلّ ـ في عالم البرزخ. وقد بحث عن ذلك، ويصرِّح بأن بعضهم قال: إنّ هذه النفوس عندما تنتقل من هذا العالم فهي تتصل ببعضها، مثل: المياه الفرعية، وتكوِّن نهراً، وفي عالم آخر تبقى هكذا. وهو يخالف هذا الرأي، ويصرِّح بأنّ الأمر ليس كذلك. لكنْ يبقى السؤال: عندما تعتبر المادة هي ملاك الكثرة فكيف تبرِّر الكثرة في عالم غير مادي؟ وقد صرَّح الحكماء أنّ في النوع الواحد في المجرّدات لا يوجد كمّ منفصل.

هذا هو الإشكال الرابع الذي يَرِد على هذه النظريّة وتبيينها.

وتوجد إشكالات أربعة على المباني الفلسفية لهذه النظرية أيضاً؛ لأنها مبتنية على مجموعة أصول ـ أحد عشر أصلاً ـ. والحقيقة أن المباني الأساسية لها هي ثلاثة أو أربعة أصول لا أكثر، والبقية لتوضيح تلك الأصول. وهو بنفسه لم يقُلْ: إن هذه الأصول ضرورية لتبيين النظرية، وإنّما قال: إن بعضها ضروري، وبعضها مفيد. والحقيقة أن النظرية مبنيّة على ثلاثة أو أربعة أصول، بل يمكن إرجاع الأصول إلى أقل من هذا، وهي الأصول الثلاثة التي ذكرها في مواضع مختلفة. وطبعاً قاعدة أصالة الوجود، لكنْ لا خصوصية لها هنا؛ إذ إن أصالة الوجود مبنى لجميع نظرياته الفلسفية.

والأمر المهمّ المرتبط بهذه النظرية أوّلاً: كون النفس جسمانية الحدوث.

وفي هذا المبنى نقاش؛ فهو يقول: إن النفس في البداية جسمانية، ثم تتكامل، وتصل إلى التجرّد البرزخي، ثم إلى التجرّد العقلي. والحذاقة التي أبداها هي اعتباره كلّ هذه الأحوال مراتب لوجودٍ واحد. وبهذا فقد حفظ الوحدة الشخصية لهذا الموجود. وقولنا بأن هذا البدن هو الذي يحشر إنما يتم بالوحدة الشخصية بين المراتب المختلفة. وعلى أيّ حال فأول مبنى لنظرية ملاّ صدرا هو أن النفس جسمانية الحدوث. فالجسم يتبدّل إلى موجود مجرّد. ونحن ـ من حيث الأصول ـ لا يمكن أن نقبل تبدّل المادة إلى مجرّد. وهنا إشكالات شرحناها في محلّها، ونعرض لها الآن. إننا حتّى الآن لم نستطع التصديق بالمبنى الأول، ولم نقبل أنّ النفس جسمانية. فالنفس في ابتداء وجودها إنّما تكون نفساً إذا كان لها إدراك، وإلاّ فليست بنفسٍ، وإنما هي جسم فحَسْب. وعندما توجد لا يوجد شيء غير الجسم، وهي النفس التي تكون مجرّدة أول وجودها. هذا أحد المباني التي يمكن المناقشة فيه. نحن نشكّ بصحة تبدّل الجسم إلى روح، أصل إمكان هذا الفعل موضع ترديد بالنسبة لنا. هل يمكن أن يتبدل الجسم إلى روح؟ هذا هو الإشكال الأول.

الإشكال الثاني: إننا لو سلَّمنا إمكان هكذا تبدّل فإنّ حفظ الوحدة الشخصية لهذا الموجود في هذه المراحل مجرّد ادّعاء. إذا تبدّل التراب إلى نبات، والنبات إلى حيوان، والحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والإنسان مجرّد، ثم إلى العقل الفعّال أو حصل له عقل فعّال، فهل يمكن القول: إن التراب متَّحد مع العقل الفعّال؟ هل يقال: إنهما موجود واحد؟ نعم، بمعنى من المعاني ـ وأشار اليه ملاّ صدرا أحياناً ـ فإنّ عوالم الوجود لها نحو من الوحدة مع بعضها؛ من حيث إن المراتب الدنيا للوجود هي شعاع للمراتب العليا. وهذا النحو من الوحدة موجودٌ بين جميع الأشياء، وفي جملة عالم الطبيعة نسبة إلى العالم الأعلى؛ إذ تعتبر شعاعاً منها. اتحاد الحقيقة والرقيقة، أمّا أن يكون هذا ذاك، وهذا الجسماني يتبدَّل إلى روح مجردة ـ طبعاً هذا على فرض إمكان هكذا تبدل ـ، ثم نقول: إن هذا ذاك، بوصفه واحداً شخصيّاً، بأنْ يكون موجوداً واحداً، فالإثبات ليس سهلاً. وملاّ صدرا يعرض لهذه الأبحاث على هذا الأساس، وأن الحركة عندما تشرع في المادّة إلى أن تصل إلى عالم المثال، ثم إلى العالم العقلي، كلّ هذه حركة واحدة، ويستنتج منها أنّ الوجود واحد شخصي. وتقدّم أنّ هذه ليست حركة واحدة. وإنّما تكون الحركة واحدة إذا لم يكن لدينا مقطع شخصي، ونحن نرى بين هذه العوالم الثلاثة ثلاثة مقاطع. وهنا يمكن أن نقول: إنّها حركة واحدة، لكنْ إذا استطعنا أن نشير إلى نقطة خلال الحركة، والحدّ المميّز في الانفصال هو النقاط، عندها لا يمكن أن نقول: إنها حركة واحدة. ولما كان بين عالم المادة وعالم البرزخ والعالم العقلي فإنّ هكذا حدّ مميز موجود، وكلٌّ من هذه العوالم له آثاره ولوازمه، ففي عالم التجرُّد إدراك وإرادة، وفي عالم المادة لا يوجد هكذا شيء إطلاقاً، لا أنها مرتبة ضعيفة. نحن لا نرى أنّ في الجسم شعور وحياة وإرادة، والمرتبة الضعيفة منها لا يمكن إثباتها. لكنّ كلمات الشيرازي في أكثر الموارد مبنيّة على هذا المطلب، ولا سيّما وهو يصرّ في بحث شبهة الآكل والمأكول على أنّ الإدراك مساوق للتجرّد، وأن الطبيعة معدومة الإدراك.

وطبعاً في مواضع أخرى تفتَّح ذوقه العرفاني، وقال: إن الإدراك سارٍ في كل الوجود. لكنّ هذا ادّعاء لا يتّفق مع مبناه الفلسفيّ. وعلى أيّ حال فإن بين عالم المادة وعالم البرزخ حدّ متميِّز، وإنٍ كان بينهما نوعٌ من الارتباط والاتّصال إلى حدٍّ معين طبيعة. وعندما يبدأ الإدراك فذاك عالم الخيال والبرزخ. ولما كان الإدراك العقلي الخالص ـ بحسب رأيه ـ إدراك الكلّيات (نحن لا نرى إدراك الكلّيات من هذا القبيل) فإنه يرى الإدراك ملاك التجرّد العقلي، وعندما يحصل ذلك الإدراك فهذه نقطة مميّزة تفصل الإدراك الخيالي عن الإدراك العقلي. إلى هنا إدراك خيالي، وليس إدراكاً عقلياً. ومن تلك النقطة فما بعد إدراك عقليّ، وليس إدراكاً خيالياً؛ لأن لها حدّاً مميزاً، فلا يمكن أن نقول: إن الحركة ضعيفة، وإذا عدمت الحركة الضعيفة سوف لن يكون موجود واحد. وهذا هو الإشكال الثاني.

الإشكال الثالث: هو أنه يصرِّح في كلماته ـ ولا سيما في أواخر المجلد الثامن من الأسفار ـ أنّ معنى التجرُّد هو قطع التعلُّق بالمادّة والبدن. وقلنا: إنّ لازم هذا الكلام أنّ النفس المتعلِّقة بالبَدَن ليس لها أيّ إدراك؛ لأن تعلقها بالبدن لم ينقطع، فهي ليست مجردة، وغير المجرَّد لا يمكنه الإدراك. فعلى أيّ أساسٍ قال بذلك؟ هل إنّه سهو من قلمه، أو أنّ مراده شيء آخر، أو أنه يقصد التجرّد التام؟! وعلى أيّ حال فإنه عرّف التجرد بمعنى قطع التعلّق بالبدن…

معنى التجرّد ـ في الأصل ـ هو عدم المادة، لكن هذا المعنى ليس مراداً في الفلسفة. فالمشّاؤون، وحتّى ملاّ صدرا، يرَوْن أن النفس ـ أو على الأقلّ بعض النفوس في هذا العالم، لها مرتبة من التجرُّد. وملاّ صدرا يثبت التجرّد البرزخي لكلّ النفوس، حتى النفوس الحيوانية، فكيف بالنفوس الإنسانية. وإذا كان التجرّد بمعنى قطع التعلّق بالمادة، أي يحصل له الإدراك بهذا المقدار، فهل أنه لا تعلّق له بالمادة بعد ذلك؟ وهل هناك تزاحم بين حصول النفس على مرتبة من التجرّد وبقاء تعلّق لها بالمادة؟ ما البرهان العقلي الذي يثبت لنا أنّ النفس إذا وصلت إلى مرتبة التجرّد عندها يكون تعلّقها بالمادة محالاً؟ ولو كان التجرّد كاملاً فإذا حصل على مرتبة عالية من التجرد فبعدها من المحال أن يكون له تعلّق بالبدن. وعلى هذا الأساس تلك المراتب مندرجة في الوجود لا تصل إلى مرتبة أعلى إلاّ وجعلت المرتبة السابقة وراءها. لا بُدَّ أن تعبر من تلك المرتبة حتّى تصل إلى المرتبة اللاحقة، وهكذا على طول الخط.

وهكذا كلّ متحرّك ما لم يجتز المرتبة السابقة لا يصل إلى المرتبة التالية. فيستفاد من ذلك أنه بعد أن تتكامل النفس في العالم الجسماني، وتصل إلى عالم البرزخ، تكون قد عبرت من المرتبة الجسمانية، وعندما تصل إلى عالم العقل تكون قد عبرت عالم البرزخ. لكنْ يبقى السؤال فعلاً: هل تصدِّق أن للإنسان في هذا العالم إدراكات عقلية ـ وبنفس معنى مشاهدة العقليّات الذي تقول به ـ إذن معناه أنّ النفس في عين تعلّقها بالمادّة تصل إلى مرتبة التجرّد العقلي، ولا يمكننا أن نثبت التباين والتعاند العقلي بين هذين. وبما أن التجرّد المثالي ـ الذي تقول به ـ ثابت لكلّ الحيوانات والبشر فكيف ينسجم التجرّد المثالي مع التعلّق بالمادّة؟ وإذا لم يمرّ الشيء بطور المادّة فلا يصل إلى تلك المرتبة، وما دام متعلِّقاً بالمادة يجب أن لا يكون له إدراك، فيكون وجود الإدراكات الخيالية والعقلية في هذا العالم دليلاً على أن النفس بلغت تلك المرتبة من التجرّد، ولا ينافي تعلقها بالبدن. فما قال به ملاّ صدرا من أنّ بين هذه المراتب الثلاث ترتُّب، ولا يمكن الجمع بينها، وأنه لا بُدَّ من العبور من مرحلة للوصول إلى التالية، لم نعثر على برهانٍ له، وليس في كلماته جواب على كيفية انسجام التعلّق بالمادة في هذا العالم مع الإدراكات الخيالية والعقلية؟ إذن لا منافاة بين أن تصل النفس إلى أعلى درجات الكمال الإنساني ويكون لها تعلُّق بالمادة أيضاً. كما أن اعتقادنا حول النبيّ الأكرم والأئمة الأطهار^ هو أن نفوسهم قد بلغت أعلى مراتب الكمال، وهذا لا يتنافى مع تعلّقها بالأبدان. وهذا ما يمكن أن نقول عنه بعبارة أخرى: إنّه مقام الجمع. والأفضل أن نعبِّر بالاصطلاح العرفاني: إنه لا يتنافى مع ذلك المقام العالي (لا يشغله شأن عن شأن). وهي مرتبة عالية جدّاً أن تكون الإدراكات العقلية كاملة، ويمكنه أيضاً تدبير البدن. فهذا من مظاهر أسماء الله تعالى، حيث (لا يشغله شأن عن شأن)، ويعني الغاية في شدّة الوجود. وهذا في مرتبة أدنى. النفس في نهاية قوتها وكمالها ولها أيضاً تعلق بالمادة، وليس هناك أيّ تزاحم بين تلك المراتب. نعم، يحصل تزاحم بالنسبة للنفوس الضعيفة، فلا يمكنها التوجُّه إلى أمرين في آنٍ واحد، ونعجز عن القيام بكثيرٍ من الأمور الأخرى، لكنْ توجد نفوس في هذا العالم تصل إلى كمالات من خلال القيام بتمارين، ويمكن أن تحصل للنفوس الكاملة القدرة على أنْ لا يكون لتدبير البدن أيّ تأثير عليها. وإذا لم نجد ذلك في نفوسنا فهذا ليس دليلاً على بطلان ذلك؛ فربما كانت النفوس الكاملة كذلك. فالقول: إن النفس إذا وصلت إلى مرتبة الكمال العقلي لا بُدَّ أن تخلع البدن، وتنفصل عنه، ويحصل لها موت طبيعي، ادّعاءٌ ليس لدينا عليه برهان.

الإشكال الرابع: إن مبنى بعض كلماته في باب المعاد، والتي ذكرت فيما بعد بشكلٍ برهاني، أن موجودات هذا العالم لها حركة تكوينية نحو غايتها. والحركة الجوهرية المادية لها غاية أيضاً. وتلك الغاية لا يمكن أن تكون أمراً مادياً؛ لأن الحركة في الذات. إذن لا بُدَّ أن يكون ما وراء هذه الحركة عالم المجرَّدات. وبهذا فقد أثبت ملاّ صدرا أنّ موجودات هذا العالم ـ ومن خلال حركتها الجوهرية ـ تتَّجه إلى عالم فوق الطبيعة، وفيها ميل فطري جبلي إلى ذلك العالم، وهي غايتها، ولا بُدَّ أن تصل إليها. وقد أكَّد على دليل الغايات في أكثر من موضعٍ، وقال: إنْ لم يكن كذلك فإنّ الحكمة تبطل، ولازمه تعطيل الوجود، ولازمه أيضاً أن الأشياء لا تصل إلى غايتها ـ رغم وجود الاستعداد ـ، وهذا باطل عقلاً.

نحن نشكّ في هذا المبنى، بل أكثر من الشكّ، وهو أننا لا نملك برهاناً على أن الحركة الجوهرية المادّية تتّجه نحو العالم المجرّد، والعالم المجرد غاية طبيعية للحركة الجوهرية المادية. ما يمكن أن يقال: إنّ لكلّ حركة محدودة منتهى إليه، وهو طرف الحركة، ويكون أمراً عَدَميّاً، أي إنّها تنتهي بمكانٍ، أمّا إذا كانت الحركة غير متناهية، كالحركات التي يثبتونها للأفلاك ـ حيث يرَوْن أنّ حركة الأفلاك غير متناهية وأزلية وأبدية ـ فتلك الحركة الوضعية للأفلاك لا بُدَّ أن يكون لها منتهى إليه، وهي منتهية قطعاً؟ وهم يرَوْنها غير متناهية. فالحركة لا تقتضي النهاية بذاتها. إذا فرضنا حركةً غير متناهية أساساً فسوف لن يكون لها منتهى إليه، أما إذا فرضت الحركة محدودة فسيكون لها منتهى إليه، ولازم ذلك محدوديتها. أما أنّه حتماً لا بُدَّ أن يكون شيء أكمل وأعلى وجوداً؛ لكي تصل إليه، فلا دليل عليه. وحينذاك من أين يعلم أنّ هذه المرتبة لا بُدَّ أن تكون فوق الطبيعة؟ ربما يكون كلّ موجود طبيعيّ له حركة جوهريّة اشتداديّة، له بحَسَب نوعه حدٌّ أعلى من وجوده الطبيعيّ، ويمكنه الوصول إلى هذا الكمال الطبيعي فقط. من أين نثبت أنّ الحركة الجوهريّة لا بُدَّ أن تكون لها غاية ما وراء الطبيعيّة؟ فهذه المسألة ليست برهانية. فالادّعاء بلزوم نهاية للحركة أولاً: نحن نناقش في مبناه، وأن كلّ حركة لا تحتاج إلى نهاية. وما الدليل على حتمية كون الكمال أعلى، ولا بُدَّ أن تصل إليه؟ ربما كانت مرتبة كمالها من سنخ الكمالات الطبيعية. كلّ شجرة لها حدٌّ من النموّ، وتتوقَّف عندما تصل إليه. فما الدليل على القول بأنّ الحركة الجوهريّة الطبيعيّة لا بُدَّ أن تكون لها غاية ما وراء الطبيعة؟

هذا أيضاً أحد الأصول التي أكَّد عليها ملاّ صدرا، لكنَّه في رأينا غير صحيح. وقد بحثنا ذلك مفصَّلاً في بحوث الحركة والقوّة والفعل، واكتفينا هنا بالإشارة إليه.

فحصيلة الإشكالات أنّ أربعة منها تتعلَّق بأصل النظرية، وأربعة ترتبط بالأصول التي تستند إليها، وإشكالين يخصّان عدم انطباقها على الآيات والروايات.

_________________________

(*) مفكِّرٌ وفيلسوف بارز، أحد الرموز الفكرية في المشهد الثقافي الإيراني.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً