أحدث المقالات

د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي(*)

موقف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من النصوص

ينطلق الموقف لهذه المدرسة من المنهج العلمي الذي يأخذ بجميع المعطيات الروائية والعلمية؛ ليقدِّم تفسيراً علمياً منسجماً ورصيناً خلواً من التشويش والاضطراب، ومن هنا فقد أجمع أئمة أهل البيت^ وعلماء مدرستهم على تفسير واحد للنصوص المتقدّمة، وهو أنّ المراد بالخلفاء فيها هم الأئمة الاثني عشر^ الذين نصّبهم النبي| لأمر الإمامة.

وقد استدلّ متكلّمو الإمامية بهذه النصوص على المدّعى المذكور. ويبتني هذا الاستدلال على أصلٍ موضوعي مفروغ عنه هو عبارة عن وجوب الاستخلاف، وأنّ الإمامة بالنصب كما يقتضيه حكم العقل أوّلاً؛ وسيرة العقلاء ثانياً؛ وكونه سنّة في جميع الأمم السابقة، وأنه لا بُدَّ أن يجري في هذه الأمة ما قد جرى في الأمم السابقة ثالثاً.

ثم إن الوجه في التمسك بروايات الاثني عشر من طرق الجمهور هو إلزام الخصم بما يرويه في مصادره. وأما الوجه في التمسك بهذه الروايات من طرق الخاصة فقد يقول قائلٌ بمنعه؛ لتوقفه أوّلاً على إثبات إمامتهم من غير طريقهم ـ وإلاّ لزم الدَّوْر ـ، ثم بعد ذلك يحتجّ بقولهم.

لكنّه مندفعٌ بأنّا لا نحتجّ على إمامتهم^ بدعواهم الإمامة لأنفسهم حتى يلزم الدَّوْر، بل برواياتهم عن النبيّ| ما يثبت إمامتهم، ولا إشكال في أنهم من أوثق الرواة وأصدقهم بالاتّفاق، إنْ لم يكونوا أوثقهم وأصدقهم على الإطلاق.

على أن دعواهم الإمامة لا يُستهان بها بعد تسالم جمهور المسلمين على علمهم وورعهم وأمانتهم، مع ما هو المعلوم من أن مرادهم بالإمامة هي الإمامة بتعيين من الله تعالى، وإبلاغ من رسوله|([1]).

وعلى أيّ حال فنحن نذكر الوجوه التي يمكن التمسُّك بها لتطبيق أحاديث الاثني عشر على أئمة أهل البيت^:

الوجه الأوّل: انحصار دعوى إمامة الأئمة الاثني عشر بخصوص الإمامية، ولا منازع لهم في دعواهم ذلك، فيثبت مدعاهم؛ لأن دعوى خصوصية العدد ممّا لم يشاركهم فيها أحد. وقد استُدلّ بهذا الوجه في كلمات علماء الإمامية في تقريب الاستدلال بهذه الأخبار. وإليك بعض كلماتهم في المقام:

1ـ قال الشيخ الطوسي: (وأما الدليل على أن المراد بالأخبار والمعنيّ بها أئمتنا^ فهو أنه إذا ثبت بهذه الأخبار أن الإمامة محصورة في الاثني عشر إماماً، وأنهم لا يزيدون ولا ينقصون، ثبت ما ذهبنا إليه؛ لأن الأمة بين قائلين: يعتبر العدد الذي ذكرناه، فهو يقول: إن المراد بها مَنْ يذهب إلى إمامته، ومَنْ خالف في إمامتهم لا يعتبر هذا العدد، فالقول ـ مع اعتبار العدد ـ: إن المراد غيرهم خروجٌ عن الإجماع، وما أدّى إلى ذلك وجب فساده)([2]).

 2ـ وقال تقي الدين الحلبي في مقام الاستدلال بهذه الأخبار على الإمامة: (وثبوت النصّ منه× على هذا العدد المخصوص ينوب مناب نصّه على أعيان أئمتنا^؛ لأنه لا أحد قال بهذا في نفسه غيرهم، وشيعتهم لهم، فوجب له القطع على إمامتهم)([3]).

وقال في موضعٍ آخر: (إن ورود الخبر متناصر بنقل الدائن بضمنه ـ أي الذي يدين بمضمونه ـ والمخالف في معناه برهان صحته، إذ لا داعي للمحجوج ـ أي المخالف ـ إلاّ الصدق الباعث على روايته، وإذا ثبت صدقه اقتضى إمامة المذكورين فيه؛ لكونه نصّاً على عددٍ لم يشركهم فيه أحد)([4]).

3ـ وقال السيد ابن طاووس: (إنّ هذا القول بالاثني عشر خليفة بعد الرسول| ممّا لم يلتزم به أحدٌ من الأمة غير الإمامية، وعليه تكون هذه الأحاديث دالّةً على قولهم بإمامة الأئمة الاثني عشر^)([5]). وقال أيضاً: (وهذا العدد ما عرفنا أن أحداً اعتقده غير الإمامية، وهو تصديقٌ لما أنت عليه وسلفك من اعتقاد إمامة الاثني عشر)([6]).

4ـ وقال ابن شهرآشوب: (وإذا ثبت بهذا العدد المخصوص ثبتت إمامتهم؛ لأنه ليس في الأمة مَنْ قد ادّعى هذا العدد سوى الإمامية)([7]).

أقول: هذا المنهج من الاستدلال أصله واردٌ عن أهل البيت^([8])؛ ففي صحيحة منصور بن حازم قال: (قلتُ لأبي عبد الله×: إن الله أجلّ وأكرم من أن يعرف بخلقه، بل الخلق يعرفون بالله، قلتُ: إن مَنْ عرف له ربّاً فينبغي له أن يعرف أن لذلك الربّ رضاً وسخطاً، وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحيٍ أو رسول، فمَنْ لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة وأن لهم الطاعة المفترضة. وقلتُ للناس: تعلمون أن رسول الله| كان هو الحجة من الله على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت فحين مضى رسول الله| مَنْ كان الحجة على خلقه؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجّةً إلاّ بقَيِّم، فما قال فيه من شيء كان حقّاً، فقلت لهم: مَنْ قَيِّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود، وقد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلّه؟ قالوا لا، فلم أجد أحداً يقول: إنه يعلم يعرف ذلك كله إلاّ علياً×، وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ علياً× كان قَيِّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجّة على الناس بعد رسول الله، وأن ما قال في القرآن فهو حقّ، فقال: رحمك الله)([9]). فالإمام قد أقرّ منصور بن حازم على منهجه في الاستدلال على إمامة الأئمة عن طريق العلم بالقرآن الذي هو من لوازم الإمامة. ونفس المنهج جارٍ أيضاً في تطبيق أحاديث (الأئمة اثنا عشر) عليهم، حيث لم يدَّعِ أحدٌ في الأمة غيرهم انطباق الأحاديث عليه، فإن مَنْ زُعم انطباق الأحاديث عليهم في المحاولات السابقة لم يَرِدْ عن واحدٍ منهم أنه ادّعى تفسير هذه النصوص به.

والظاهر من راوي الحديث ـ منصور بن حازم ـ المفروغية من هذا الأصل كمنهجٍ معتمد عند العقلاء أجمع، حيث احتج بهذا المنهج، ولم ينكر عليه أحدٌ ممَّنْ احتج عليهم بذلك([10]). ومن هنا توسّع الفقهاء وعمّموا تطبيق هذا المنهج على غير مورد الرواية من الأمور المادية والمالية، فأسسوا في باب القضاء قاعدة فقهية مفادها أن (مَنْ ادّعى ما لا يد لأحدٍ عليه قُضي به من دون بيِّنة ولا يمين إذا لم يكن له معارِضٌ في الدعوى)([11])، كما لو كان هناك كيسٌ بين جماعة، فيسألون: هل هو لكم؟ فيقولون: لا، ويقول واحدٌ منهم: هو لي، فإنه يقضى به له؛ لأنه هو المدّعي الوحيد، ومن الأدلة التي استدلّ بها على هذه القاعدة هو السيرة العقلائية؛ فإن العقلاء يحكمون بذلك في مثل المقام.

وعلى أيّ حال فإن الإمام قد أقرّ منصور بن حازم على منهجه في هذا الاستدلال.

والمتحصِّل إنه يمكن تحليل هذا الاستدلال إلى الخطوات التالية:

أوّلاً: وجود النصوص على الخلفاء الاثني عشر بعد النبيّ|.

ثانياً: عدم وجود مدّعٍ لإمامة الأئمة الاثني عشر في الأمة غير الإمامية، حتى عرفوا بالإمامية الاثني عشرية؛ لقولهم بإمامتهم^، فهم يدَّعون ذلك بلا منازع لهم فيه بين الأمة.

أقول: لا بُدَّ هنا من إضافة قيدٍ لازم، وهو: اشتراط انطباق وتواجد جميع الخصوصيات الواردة في الأحاديث بالنسبة لهؤلاء الاثني عشر.

ثالثاً: إذن لا بُدَّ أن يكون المراد بالاثني عشر هم هؤلاء الذين تدَّعيهم الإمامية. وهذه النتيجة واضحة الثبوت والترتُّب، وإلاّ لزم الإهمال واللغوية في هذه الأحاديث بعد فساد انطباقها على المحاولات السابقة. وقد اعترف بعض علماء الجمهور بالتلازم بين الأمرين بشكلٍ صريح، لكنه انتهى إلى نتيجةٍ غريبة جداً، وهي إنكار أصل الأحاديث في الاثني عشر؛ وذلك لأنّ الاعتراف بها ـ كما يقول ـ يؤدّي إلى القول بمذهب الإمامية بشكل طبيعي، حيث لا يمكن تفسيرها إلاّ بهم، فهو أدرك التلازم بين الأمرين، لكنّه أنكر أصل ورود الحديث. قال ولي الله المحدّث: (وقد استُشكل في حديث (لا يزال)، ووجه الاستشكال أن هذا الحديث ناظرٌ إلى مذهب الاثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً)([12]). كما اعترف بذلك أيضاً مثل: ابن كثير وابن تيمية، ولكن بصورةٍ ضمنية، حيث حذّرا من تطبيق أحاديث الاثني عشر على أئمة الإمامية؛ وذلك لعلمهما بتبادر الذهن بشكلٍ تلقائي إلى ذلك؛ لمكان التلازم بين الأمرين، ولذا أرادا منع التطبيق، مع التسليم بأصل الخبر، بعكس وليّ الله، الذي أنكر أصل الخبر مع تسليمه بالملازمة على فرض ثبوته. قال ابن كثير: (وهؤلاء هم غير الذين تقول بهم الشيعة؛ لأنهم ملكوا، وأئمة الشيعة لم يملكوا…)([13]).

إنْ قلتَ: لا ينحصر المصداق في ما ذكره الإمامية بالضرورة، بل يمكن أن ما ذكره الآخرون في المحاولات السابقة، وعليه فما المرجِّح لقول الإمامية؟

قلتُ: لا يخلو الأمر في هذه الأحاديث إما أنها على جهة الإخبار؛ أو على جهة الإنشاء. وقد ثبت بطلان الأوّل في المحاولات السابقة، فيتعيّن الثاني؛ لدوران الأمر بينهما، ولا شقّ ثالث في البين.

الوجه الثاني: ورود هذا التطبيق على أسماء أئمتنا^ في نفس النصوص المروية عن النبيّ|، والتي تسرّب بعضها في مصادر الجمهور. وقد تقدم في صيغ الحديث نقل بعضها عن ينابيع المودة وفرائد السمطين، فراجِعْ هناك.

 الوجه الثالث: ورود هذا التفسير في أحاديث أئمّة أهل البيت^ أنفسهم بشكلٍ متواتر، كما تقدَّم في صيغ الحديث نقل بعض النماذج له، وهم صادقون في ما يدَّعون؛ لكونهم من المطهَّرين بنصّ آية التطهير ولعدالتهم ووثاقتهم لدى جميع الأمّة، كما تقدّمت كلمات أعلام المخالفين فيهم، فلا بُدَّ أن يُصدَّقوا في ما يدَّعون.

إنْ قلتَ: لا رَيْبَ في صدقهم، إنما الكلام في صدور هذا الادّعاء منهم، وثبوته عنهم؛ فإن ما رويتموه هو حجّةٌ من طرقكم، لا من طرقنا.

قلتُ: لا يمكن الحكم بسقوط جميع هذه الأحاديث عند الخصم بدعوى ورودها من طرق الخاصة؛ وذلك لورودها بشكلٍ متواتر مفيد للاطمئنان عن أشخاص مختلفين في الأزمنة والأمكنة والخصوصيات، بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب، ومثل هذا التواتر حجّة، ولذا كان التواتر في إثبات النصّ القرآني ـ في مقابل مَنْ ينكره ـ حجّة على غير المسلمين من أهل الملل والنحل الذين ينكرون أصل القرآن. كما أنه حجّةٌ أيضاً في إثبات بعثة نبيّنا قبل أكثر من ألف عام في مقابل مَنْ ينكر أصل وجود شخص باسم محمد| في الجزيرة العربية، حيث يدّعي بعض الغربيين أن هذه النبوة منتحلةٌ، اختلقها العرب لتعزيز مكانتهم بين الأمم، فاختلقوا هذه الشخصية الوَهْمية، وسمّوه نبياً. كما أن التواتر حجّة في إثبات نبوّة أيّ نبيٍّ من الأنبياء، كموسى وعيسى وغيرهم^، أو إثبات أيّ حقيقة تأريخية أخرى يُراد إنكارها مع أنها من المتواترات.

 وعلى فرض التسليم بعدم تواترها فلا يمكن إسقاطها من الاعتبار بالجملة هكذا من دون دراسة لأسانيدها وإثبات ضعفها، ولا سيَّما أن فيها الصحاح وفي رواتها الثقات. وعلى فرض عدم تسليم الخصم بذلك كله فهذا الوجه نافعٌ على المستوى الشيعي للشيعة لإثبات إمامة أئمتهم^ .

الوجه الرابع: إجماع أهل البيت^ على هذا الرأي، كما يكشف عن ذلك الروايات الواردة عنهم^، وكذلك الارتكاز الذهني التأريخي لدى أجيال المسلمين المتعاقبة الدالّ على ذهاب الشيعة إلى القول بإمامتهم، مع عدم نفي الأئمة^ لذلك أو البراءة ممّا تقوله الشيعة فيهم. فلو كان ذلك كذباً عليهم لتبرّأوا منه كما تبرّأوا من أمثاله من الغلوّ والاتجاهات الفكرية المنحرفة، بل إنهم^ بالعكس كانوا يتبنّون فكرة الاثني عشر، ويروِّجونها بشدة.

قال ابن شهرآشوب: (أجمع أهل البيت، خلفاً عن سلفٍ، عن آبائهم وعن النبيّ^، على عددهم وأسمائهم وذكر استخلافهم. وإجماعُهم حجّةٌ)([14])، وكيف لا يكون إجماعهم حجّة وإجماع غيرهم حجّة؟!

إنْ قلتَ: إن ظاهر الأحاديث ثبوت الخلافة الفعلية لهؤلاء الاثني عشر، في حين أن الأئمة^ لم يحكموا بالفعل، عدا أمير المؤمنين والإمام الحسن’. قال ابن كثير بعد نقله روايات الاثني عشر: «وهؤلاء غير الذين تقول بهم الشيعة؛ لأنهم ملكوا، وأئمة الشيعة لم يملكوا»([15]).

قلتُ: إن هذه الأحاديث واردة في مقام الإنشاء والتنصيب، لا الإخبار والإعلام، فهي نظير قوله|: «الناس تَبَعٌ لقريش» من جهة كونه أمراً بصيغة الخبر، أي ائتموا بقريش وكونوا لهم تَبَعاً، ونظير قوله| أيضاً: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»، فإن المراد به الحكم والأمر باتباعهم([16]).

المؤيِّدات لصدور الأحاديث بنحو الإنشاء، لا الإخبار

إن أهم إشكالية بين المدرستين تكمن في فهم أحاديث الاثني عشر بعد الاعتراف بصدورها. فقد حملت مدرسة الخلافة هذه الأحاديث على الإخبار عن واقع الخلافة الذي أعقب حياة النبيّ|، ولذا استبعدوا أهل البيت^ من دلالتها؛ لأنهم لم يتحمّلوا أعباء الخلافة السياسية. بينما ذهبت مدرسة أهل البيت إلى حملها على الإنشاء والتنصيب، فهي عندهم على غرار الأحاديث التي تحدّثت عن أن الخلافة في قريش، وأنه لو بقي اثنان فلا بُدَّ أن تكون الخلافة فيهم، فإن هذه الأحاديث وإنْ كانت واردة بنحو الجملة الخبرية، ولكنه يُراد بها الإنشاء، كما صرح به بعض علماء الجمهور، فقد ورد في هامش صحيح مسلم، تعليقاً على ما رواه مسلم: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»، ما نصّه: (واستُشكل بأن ظاهر الحديث يدلّ على بقاء هذا الأمر في قريش وانتفائه عن غيرهم، مع أنه قد خرج عنهم واستقرّ في غيرهم، فكيف يكون خبره مطابقاً للواقع؟ وقد أُجيب عنه بعدّة أجوبة، أوردها في الفتح ـ أي فتح الباري ـ، منها: إن المراد بالحديث الأمر وإنْ كان لفظه لفظ الخبر، وهو ما استظهره ابن حَجَر، ويقرب منه ما قاله القرطبي، من أن الخبر فيه خبرٌ عن المشروعية)([17]).

وعلى أيّ حالٍ فإن الشواهد الدالّة على الإنشاء كثيرة، نشير إلى بعضها:

أوّلاً: إن المعطيات الروائية المستفادة من حديث الثقلين ـ الدالّ على استمرار الإمامة في أهل البيت^ حتّى يردوا الحوض مع القرآن ـ، ومن حديث أن الخلافة لا تخرج من قريش حتّى قيام الساعة، ومن أحاديث الاثني عشر خليفة، الدالة على استمرار الخلافة فيهم حتّى حصول الهرج والمرج قبل قيام الساعة، ومن حديث أن مَنْ مات وهو لا يعرف إمام زمانه فميتته ميتةٌ جاهلية، مضافاً إلى روايتنا الخاصة في أن الأرض لا تخلو من حجّةٍ، كلُّ هذه المعطيات تؤكِّد عدم خلوّ الأرض من الخلافة القرشية واستمرارها، والحال أن حمل أخبار الاثني عشر على جهة الإخبار يلزم منه خلوّ الأرض من الخلافة القرشية بموت آخر خليفة أمويّ أو عبّاسي، فلا بُدَّ من حمل الأخبار إذن على الإنشاء. نعم، لم يتحقَّق متعلّق هذا الإنشاء ـ وهو الخلافة التي نصّب النبيّ| خلفاءه فيها بالعدد تارةً، وبالصفة أخرى، ككونهم من قريش ومن هاشم، وبالاسم واللقب ثالثةً ـ لعروض مانعٍ، وهو عدم تمكين الأمة من خلافة الخلفاء المنصوص عليهم، فتكون هذه الخلافة على غرار الخلافة المنشأة بحديث (الخلافة في قريش)، التي لم تتحقَّق أيضاً؛ لاعتراض المانع باعتراف الخصم. فكلُّ ما يجيب به الخصم على تلك الأحاديث نجيب عنه نحن في هذه الأحاديث طابق النعل بالنعل.

ثانياً: إن الخلافة القرشية الواردة في أحاديث الاثني عشر، وكذلك في حديث أن الخلافة في قريش لا تخرج منها وأن الناس تَبَعٌ لها، هي خلافةٌ واحدة لا يمكن تفكيكها. وقد تقدَّم تصريح بعض أعلام الجمهور ـ لمّا لاحظوا انقطاع الخلافة القرشية بعد الحكم العبّاسي إلى اليوم ـ أن هذه الأحاديث وإنْ جاءت بصورة الجملة الخبرية، إلاّ أن المراد بها الإنشاء والتنصيب. وعليه، فإذا كانت هذه الأخبار صادرة بنحو الإنشاء فكذلك أحاديث الاثني عشر جاءت على نهج الجملة الخبرية، والمراد بها الإنشاء. وهذه أقوى قرينة على دعوى التنصيب.

ثالثاً: إن الاهتمام البالغ من النبيّ| في إبلاغ فكرة الاثني عشر وبصورة مكرّرة إلى الأمة يدلّ على أن لهؤلاء الاثني عشر شأناً عظيماً ودَوْراً كبيراً في الدين وفي مستقبل الرسالة والأمة، وعليه فإن خطورة أمرهم يتناسب مع هذا الاهتمام الكبير. وحينئذٍ يطرح هذا السؤال: لا يخلو أن يكون هذا الإخبار إما هو ذمّ وتحذير للأمة منهم؛ أو مدح وتبشير بهم، فإنْ كان مدحاً فكيف يدخل فيهم الظَّلَمة، كما كانت المحاولات السابقة افتراض ذلك؟! وإنْ كان ذمّاً فبماذا نوجِّه ورود المواصفات المادحة لهم في تلك الأحاديث الدالّة على اعتزاز وقيام الإسلام بهم؟!

وجواباً عن ذلك نقول: لا شَكَّ أنه للمدح. ولكنّ الكلام في التفسير، فلا بُدَّ أن نجد ثلّةً صالحة تنطبق عليهم تلك المواصفات المادحة، وحيث إنه لا توجد ثلّةٌ قد حكمت بهذه المواصفات طوال تاريخ الإسلام فلا بُدَّ أن يكون على وجه الإنشاء، لا الإخبار.

 ويمكن تقريب هذا الوجه بعبارةٍ أخرى، فنقول: إنه قد تقدَّم عدم انطباق الخصوصيات الواردة في الأحاديث على المذكورين في المحاولات السابقة، لا من جهة العدد، ولا من جهة المواصفات، كاعتزاز الإسلام بهم، ولا من جهة استمرار الخلافة فيهم حتّى حصول الهرج والمرج، ولا من جهة صلاحيتهم وكفاءتهم، ولا من جهة كونهم من بني هاشم وعترة النبيّ|، ولا من سائر الجهات الأخرى والمواصفات والخصوصيات الواردة في أحاديث الفريقين. وعليه فإذا لم يكن للأحاديث معنى بناءً على الإخبار فلا بُدَّ أن تكون صادرة على جهة الإنشاء، وإلاّ كان مهملةً، ولا محصّل لها.

رابعاً: لقد فُسِّر قول النبيّ|: «إن هذا الأمر لا ينقضي» عند علماء الجمهور بعزّة الإسلام والدين وصلاح المسلمين، وليس بالحكم والأمارة([18])، كما رُوي من طرقنا ما يعضد ذلك عن الإمام عليّ بن الحسين’ قال: قال رسول الله|: «إن هذا الأمر يملكه بعدي اثنا عشر إماماً، تسعة من صلب الحسين×…»([19]). ولا شَكَّ أن المراد بقوله: «إن هذا الأمر يملكه بعدي» أمر الدين، الذي كان بيد الرسول|، فهو لمَنْ بعده من الأئمة، وليس المراد به أمر الحكم فقط.

خامساً: إنه قد روى أبو داوود من حديث سفينة، الذي صحَّحه ابن حِبّان([20]): «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([21])، وكذلك ما رواه أبو داوود أيضاً: «تدور رحى لخمس وثلاثين سنة أو ستّ وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإنْ يهلكوا فسبيل مَنْ هلك، وإنْ لم يقُمْ لهم دينهم يقُمْ لهم سبعين عاماً»([22])، فإن هذين الخبرين قرينة قوية على إرادة التنصيب في أحاديث الاثني عشر، الدالة على استمرار الخلافة إلى قيام الساعة، وليس انقطاعها إلى ثلاثين سنة.

المؤيِّدات لصحّة تفسير الإمامية لحديث الاثني عشر

 يمكن تقسيم هذه القرائن إلى: قرائن خارجية؛ وقرائن داخلية. فأمّا الخارجية فهي نظير: حديث الثقلين وحديث السفينة وحديث الأمان، وغيرها ممّا دلّ على إمامة أهل البيت^ ـ وقد تقدَّم بحثها سابقاً ـ، فإنّ هذه الأحاديث يعضد بعضها بعضاً، وهي جميعاً تؤكد حقيقة واحدة، وهي إمامة هؤلاء الأئمة. وأمّا القرائن الداخلية فهي عبارة عن الخصوصيات والمواصفات الواردة في أحاديث الاثني عشر لهؤلاء الأئمة، وهذه الخصوصيات عبارةٌ عمّا يلي:

الخصوصية الأولى: ديمومة خلافة الاثني عشر إلى قيام الساعة، كما نلاحظ ذلك في رواية مسلم، عن جابر قال: سمعتُ رسول الله| يقول: «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش»([23])؛ وحديثه الآخر: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»([24]). وهذا ما لا ينطبق على خلافة الأمويين، ولا على العبّاسيين، وإنما ينطبق على إمامة أهل البيت^، المؤيَّدة بحديث الثقلين، الدالّ على استمرار إمامتهم مع القرآن حتّى يردا الحوض على الرسول|.

كما أنّ الظاهر اتصال عزّة الإسلام في مدّة خلافة الاثني عشر، فلا يتجه حمله على المتفرّقين([25]).

الخصوصية الثانية: إنه قد ورد في بعض الروايات في وصف هؤلاء الاثني عشر أنه: «لا يضرّهم مَنْ خذلهم»([26])، أو «لا يضرّهم عداوة مَنْ عاداهم»([27])، أو «إن هذا الدين لن يزال ظاهراً على مَنْ ناواه، لا يضرّه مخالفٌ ولا مفارق، حتّى يمضي من أمتي اثنا عشر خليفة»([28])، ممّا يدلّ على وقوع عملية خذلان لهؤلاء الاثني عشر؛ وذلك لأن «الخلافة إذا كانت بالسلطان القاهر ـ كما عليه الجمهور ـ أضرّ بالخليفة خذلان مَنْ خذله وعداوة مَنْ عاداه؛ لأنه يضعف سلطانه، بل قد يزيله ويبطل إمامته عند الجمهور، أما إذا كانت بالنصّ والجعل الالهي ـ كما عليه الإمامية ـ فلا يضرّ بالخليفة عداوة مَنْ عاداه ولا خذلان مَنْ خذله؛ لعدم تأثيرهما على حقِّه، بل هما يضرّان بالخاذل والمعادي؛ لتقصيرهما في أداء وظيفتهما إزاء الإمام الحقّ، نظير: قوله تعالى: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ (المائدة: 105)، وقول أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ: «لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّةً، ولا تفرقهم عنّي وحشةً»([29])»([30]). ومعلوم عدم حصول الخذلان والمفارقة للمسمَّين في المحاولات السابقة ـ عدا ما حصل للإمام عليّ وولده الحسن’ ـ وهذا مؤشّرٌ واضح على عدم إرادتهم في هذه الأحاديث، وإنما المقصود بهم جماعةٌ غيرهم قد خذلتهم الأمّة، وإلاّ كان الحديث ممّا لا مصداق له خارجاً.

الخصوصية الثالثة: إنه قد ورد في وصف هؤلاء في بعض الأخبار أنهم (كلّهم من بني هاشم)، بدل (كلّهم من قريش). وقد ورد هذا في رواية الفريقين. وهذا هو الأقرب؛ لأن النبي| إذا كان بصدد إعطاء المحدّدات الدقيقة لهوية هؤلاء الاثني عشر فلا يجوز الاكتفاء بالجنس، وهو كونهم من قريش؛ لأن ذلك مثار التشاح والتنازع، بل لا بُدَّ من ذكر الفصل المميِّز لهم على وجه الدقّة عن غيرهم، وهو كونهم من بني هاشم؛ لأن هذا هو الذي يرفع التشاحّ والنزاع. وهذا ما تؤكِّده رواية القندوزي الحنفي بسنده عن جابر بن سمرة قال: كنتُ مع أبي عند النبيّ| فسمعتُه يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة، ثم أخفى صوته، فقلت لأبي: ما الذي أخفى صوته؟ قال: كلّهم من بني هاشم»([31]). وروي عن أمير المؤمنين× ما يجمع الصفتين معاً: قريش وبني هاشم: «ألا وإن الأئمة من قريش، قد غرسوا في هذا البطن من بني هاشم…»([32]).

ويؤيِّد هذا الاستناد ما يلي:

أوّلاً: الروايات الكثيرة الوارد فيها أنهم من عترته أو أهل بيته|، مثل: ما رواه أبو سعيد الخدري عنه| قال: «معاشر أصحابي، إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح وباب حطّة في بني إسرائيل، فتمسكوا بأهل بيتي بعدي والأئمة الراشدين من ذرّيتي؛ فإنكم لن تضلّوا أبداً، فقيل: يا رسول الله، كم الأئمة بعدك؟ فقال: اثنا عشر من أهل بيتي، (أو قال:) من عترتي»([33]).

ثانياً: إنه قد ورد اصطفاء قريش على سائر العرب، واصطفاء بني هاشم على سائر قريش، واصطفاء محمداً من هاشم؛ فقد روى مسلم عن النبي| قال: «إن الله اصطفى كنانة من إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»([34]).

وقال النووي: (استدلّ به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم، ولا غير بني هاشم كفء لهم، إلاّ بني عبد المطلب فإنهم وبنو هاشم شيءٌ واحد)([35]).

وقال أيضاً في بحث الكفاءة من كتاب النكاح: (وهل تكون قريش كلها أكفاء؟ وجهان: أحدهما: إن الجميع أكفاء، كما أن الجميع في الخلافة أكفاء؛ والثاني: إنهم يتفاضلون، فعلى هذا غير الهاشمي والمطّلبي ليس بكفء للهاشمية والمطّلبية؛ لما روى واثلة بن الأسقع…)([36]).

أقول: لا ينقضي العجب من أصحاب الوجه الأول في كلامه، فإنه من أظهر مصاديق الاجتهاد في مقابل النصّ، لا لشيءٍ إلاّ لتبرير أمر الخلافة، وأن قريشاً ـ خلافاً للنصّ ـ أكفاء فيها. وأمّا بناءً على الوجه الثاني إذا اشترطنا الكفاءة مع وجود الهاشمي في النكاح فإنّ اشتراطها في الخلافة أَوْلى.

ثالثاً: روى العبّاس بن عبد المطّلب عن النبيّ| قال: «…إن الله خلق الخلق فجعلني من خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً»([37])، وفي لفظٍ آخر: «ما افترق الناس فرقتين إلاّ جعلني في خيرها»([38]).

قد يُقال: إن لفظ: «كلّهم من قريش» أكثر من لفظ: «كلّهم من بني هاشم»، وعند التعارض يكون الترجيح للأكثر.

قلتُ: إنه لا تعارض بين اللفظين؛ لأن التعارض إنما يكون بين المتنافيين، ولا تنافي بين اللفظين؛ لكونهما مثبتين معاً، فهما من قبيل: العامّ والخاصّ، فيحمل العام (قريش) على الخاصّ (هاشم)، ويرتفع التنافي الموهوم. هذا كلّه إذا استبعدنا احتمال وقوع التصحيف أو التحريف في لفظ العامّ.

الخصوصية الرابعة: إنّ عزّة الدين ومنعة الإسلام منوطةٌ بوجود هؤلاء الاثني عشر، فقد روى مسلم: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة»([39])، وروى أيضاً: «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة»([40])، ومن المعلوم أن الدين لم يكن عزيزاً في زمن مثل يزيد والوليد وأضرابهم، فأيّ عزة للدين وقبلة المسلمين تهدم، وذرّية الرسول تقتل، والحرمات تستباح في واقعة الحرّة؟!

الخصوصية الخامسة: عدم انطباق لفظ الخليفة على جملةٍ كبيرة من المذكورين، وهم معاوية ومَنْ تلاه؛ وذلك لحديث سفينة، الذي صحَّحه ابن حِبّان، عن النبي| قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون بعدي ملكاً»([41]). وهذه الخلافة تستوعب خلافة الأربعة، وأدخل بعضهم ـ كابن كثير ـ فيها خلافة الإمام الحسن×، وهي ستّة أشهر. قال ابن كثير، بعد ذكر حديث سفينة: (وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة، وبيان أن الخلافة انقطعت بعد الثلاثين سنة، لا مطلقاً، بل انقطع تتابعها، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك)([42]).

الخصوصية السادسة: إنهم عترة النبيّ| من لحمه ودمه([43]) وأهل بيته وذرّيته([44]) وصلبه وعصبته([45]).

 الخصوصية السابعة: ديمومة خلافة الاثني عشر ما دام الإسلام، وهذا لا ينطبق على الأمويين، ولا على العباسيين، وإنما ينطبق على إمامة أهل البيت^ المؤيَّدة بحديث الثقلين، الدالّ على استمرار إمامتهم مع القرآن حتّى يردا الحوض على الرسول|.

المحور الثالث: شبهات حول نصوص الاثني عشر

الشبهة الأولى: دعوى اختلاق الأحاديث وضعفها السندي

أورد الشيخ الصدوق اعتراض الزيدية على الإمامية بأن الروايات الدالّة على أن الأئمة اثنا عشر قولٌ أحدثه الإمامية قريباً، وولّدوا فيه أحاديث كاذبة([46])، ثم نسج على منوالهم في عصرنا مَنْ قال: (وقام أصحاب النظرية (نظرية الاثني عشر) باستيراد أحاديث من (أهل السنّة) مرويةً عن رسول الله| تشير إلى عدد الخلفاء والأمراء من بعده وتذكر رقم (اثني عشر)، وأضافوا إليها أحاديث اختلقوها بعد ذلك تشير إلى حصر الإمامة في (اثني عشر إماماً) فقط… واستعار الذين قالوا بوجود المهديّ محمد بن الحسن العسكري وولادته سرّاً في حياة أبيه بعض الأحاديث الضعيفة والمضطربة والمشوشة والغامضة من السنّة، والتي تذكر مجيء اثني عشر أميراً أو خليفة بعد رسول الله، وهذَّبوها وشذَّبوها وطبَّقوها على عدد الأئمة. ولكن عملية الاستدلال بتلك الأخبار على صحّة النظرية (الاثني عشرية) كانت تواجه ضعف سند تلك الأخبار؛ حيث إنها ضعيفة عند السنّة، ولا يلتزم أحدٌ منهم بمضمونها. كما أنها أضعف عند الشيعة. ولا توجد بينها روايةٌ واحدة صحيحة حَسْب مقاييس علم الرجال الشيعي)([47]).

والجواب:

أوّلاً: إن ما ذكرَتْه الزيدية من أنّ رواية الاثني عشر قول أحدثته الإمامية باطلٌ؛ من جهة عدم انحصار رواية الاثني عشر بالإمامية فحَسْب، بل هو أمرٌ رَوَتْه السنّة أيضاً كما مرّ ذلك سابقاً، فهل أن ما رَوَتْه السنّة محدثٌ عند الزيدية أيضاً؟! وعليه فإن دعوى الاختلاق قد يكون لها وجهٌ إذا انحصرت رواية الخبر بالشيعة فقط، وكان الخبر خبر آحاد، أما مع كون الخبر متواتراً ومروياً عن عشرات الرواة في أزمنة متعدّدة وطبقات متفاوتة، ومن كلا الفريقين، فلا وجه لاحتمال الاختلاق البتّة؛ إذ لا يحتمل تواطؤ كلّ هؤلاء جميعاً ـ مع اختلاف مذاهبهم وأزمنتهم وأوطانهم ـ على الكذب، ولا سيَّما بالنسبة إلى رواة الجمهور الذين لا يؤمنون أساساً بعقيدة الأئمة الاثني عشر، وتتوفر الدواعي لديهم إلى عدم روايتها وإخفائها أكثر، خصوصاً مع استدلال الإمامية بها على عقيدتهم.

ثانياً: أمّا ما ذكره صاحب الشبهة من أن الشيعة استوردت أحاديث من السنّة لتدعم بها قولها فهو جهلٌ منه بالاصطلاح وبمنهج الاستدلال المبني على الإلزام للخصم، وليس على الاستيراد كما يسمّيه؛ لأن فكرة الأئمة الاثني عشر فكرة نبوية في الأساس، كما تقدَّم إثباته، وليست مستوردةً، فما نقله الشيعة هو من باب الإلزام للخصم، نظير: ما يفعله المسلمون من الاحتجاج على أهل الكتاب ببشارة كتبهم السماوية بالرسالة الخاتمة، فهل يسمّى ذلك استيراداً أيضاً؟ إن الاستيراد للأفكار هو أن تستورد فكرة من الغير، بحيث لا يكون لها أصلٌ في الكتاب، ولا في السنّة .

ثالثاً: إن ما ذكره صاحب الشبهة من أن روايات الشيعة أضعف في هذا المجال من روايات السنّة، وأنه ليس فيها رواية صحيحة واحدة، قد اتّضح جوابه من خلال ما ذكرنا من رواية الخبر بشكلٍ مستفيض ـ إنْ لم يكن متواتراً، كما هو الصحيح ـ في صحاح المسلمين، فهي ليست ضعيفة عندهم بعد ورودها في صحاحهم. وكذلك عند الشيعة ليست بأضعف؛ لأنها وردت عندهم بشكلٍ متواتر تواتراً معنوياً، كما نطقت بذلك كلمات علمائهم، وقد تقدَّم نقلها سابقاً. وعليه فرواية الشيعة لهذا الخبر ليست قويّةً فحَسْب، بل هي في أعلى درجات القوّة، كما أن كلام صاحب الشبهة هو في أعلى درجات الكذب والافتراء؛ لأنه لم يأتِ بما يدلِّل على ضعف ما رواه الشيعة والسنّة، وإنما أطلق دعواه بلا دليلٍ، فهو افتراءٌ مَحْضٌ منه على الطائفتين معاً.

إنّ المُلاحِظ لمصادر الجمهور يجد أن المصادر الأوّلية لديهم ـ وهي الصحاح ـ، وكذلك المصادر الثانوية، قد أجمعت على رواية هذه الروايات من غير نكيرٍ لأسانيدها، فكيف حكم صاحب الشبهة بضعف الأسانيد فيها عندهم؟! إنّ مثل هذه الدعوى إما أن تكون مبنيةً على تحقيق صاحبها في الأسانيد؛ وإما أنه قد اعتمد على حكم علماء أهل السنّة بضعفها. وكلا الأمرين غيرُ بيِّنٍ ولا مبيَّنٍ، فهو أقرب إلى التهكُّم منه إلى البحث العلمي، فتكون دعواه جزافية.

رابعاً: إنه قد ذكر صاحب الدعوى أن علماء السنّة لم يعملوا بمضامين هذه الروايات. والسؤال الموجَّه له هو: إذا كان الأمر كما ذكر فكيف يفسِّر المحاولات التي نقلناها سابقاً في تفسير هذه الأحاديث؟ ألا يدلّ ذلك على قبول هذه الأخبار والعمل بمضمونها أم أن التعصُّب يعمي ويصمّ؟

أقول: لولا أن السياق المنطقي للبحث كان يقتضي تقديم هذه الشبهة لكان حقّها التأخير أو الإهمال؛ وذلك لضحالتها وعدم صدورها إلاّ من جاهلٍ أو مغرض؛ لأن أمر الأخبار الصحيحة الواردة في الاثني عشر ـ من طرق الفريقين من غير إنكار ـ كالشمس في رائعة النهار.

الشبهة الثانية: معارضة روايات الاثني عشر بما يوهم أن الأئمة (عليهم السلام) ثلاثة عشر

ثمّة في بعض الروايات ما يوهم أن الأئمة ثلاثة عشر إماماً، وعليه تكون هذه الروايات معارضةً لروايات الاثني عشر. وهذه الروايات هي خمس روايات رواها الكليني في الكافي ([48])، وهي:

1ـ عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر يقول: «الاثنا عشر الإمام من آل محمد كلّهم محدّث من ولد رسول الله| ومن ولد عليّ×، ورسول الله| وعليّ× هما الوالدان».

 2ـ وعن أبي سعيد الخدري، عن أمير المؤمنين× قال: «إن لهذه الأمّة اثني عشر إماماً هدى، من ذرّية نبيّها، وهم منّي».

3ـ وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «دخلتُ على فاطمة÷ وبين يدَيْها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر، آخرهم القائم×، ثلاثة منهم محمد، وثلاثة منهم عليّ». وعليه فكون الاثني عشر من ولدها يوهم أن أمير المؤمنين× هو الثالث عشر.

4 ـ وعن أبي الجارود، عن أبي جعفر قال: «قال رسول الله|: إني واثني عشر من ولدي وأنتَ يا عليّ زرّ الأرض، يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها، ولم يُنْظَروا».

5ـ وعن أبي سعيد، رفعه عن أبي جعفر قال: قال رسول الله|: «من ولدي اثنا عشر نقيباً، نجباء محدّثون مفهمون، آخرهم القائم بالحقّ، يملأها عدلاً كما ملئت جوراً».

والجواب:

أوّلاً: ضعف سند هذه الروايات.

كما أن هذه الروايات بأجمعها تركِّز أيضاً على العدد اثني عشر، ولم يَرِدْ في روايةٍ واحدة منها التصريح بأن عدد الأئمة هو ثلاثة عشر. ولذا فهي تتطابق مع باقي الروايات في ذكر هذا العدد للأئمة^. نعم، فيها بعض الألفاظ الموهمة ـ مثل: كون الأئمة الاثني عشر هم من ولد رسول الله|، أو من ولد فاطمة÷ ـ وهي توهم أن الإمام عليّاً× غير داخل فيهم، فيكون هو الإمام الثالث عشر. ولكنْ من الواضح عدم صحّة مثل هذا التوهُّم، وأن مثل هذه الألفاظ تحمل على الأكثرية من باب التغليب؛ بقرينة علم المخاطب بذلك، أو تكون هذه الألفاظ هي زيادات في الروايات؛ والدليل على زيادتها ورودها في مصادر أخرى، أو حتّى في نفس الكافي، بدون هذه الزيادات ـ كما سنشير إليه في القرينة الثالثة ـ. وعليه فالزيادة موجبةٌ للتشويش، فلا بُدَّ أن تكون هذه الزيادة هي مصدر الخلل والتشويش في هذه الأحاديث، فلا بُدَّ من طرحها أو تأويلها؛ وذلك للقرائن التالية:

القرينة الأولى: مخالفتها للروايات المتواترة الناصّة والصريحة في كونهم اثني عشر، بمَنْ فيهم الإمام أمير المؤمنين×، بينما هذه الروايات الدالة على الثلاثة عشر ظاهرةٌ في خروجه× من هذا العدد، ومعلومٌ أن الظاهر لا يقاوم النصّ، فيقدَّم النصّ على الظاهر.

القرينة الثانية: شذوذ معناها، حتّى على فرض التسليم جَدَلاً بكونها نصّاً في الثلاثة عشر، ومعارضتها لروايات الاثني عشر، فيتعيَّن تأويل أو طرح ما دلّ على الثلاثة عشر؛ لكونه شاذّاً أونادراً في معناه؛ لمخالفته الروايات المتواترة المتطابقة على العدد اثني عشر لدى الفريقين، فشذوذ المعنى قرينةٌ على لزوم طرحه، أو تأويله بحمله على الأكثرية من جهة التغليب.

القرينة الثالثة: وقوع الخطأ والتصحيف في هذه الروايات. وإليك الدليل:

1ـ أما الرواية الأولى فقد رواها الشيخ المفيد، عن الكليني، من غير هذا التشويش، بما نصه: «الاثنا عشر الأئمة من آل محمد كلّهم محدَّث: عليّ بن أبي طالب والأحد عشر من ولده، ورسول الله وعليّ هما الوالدان»([49]). ويؤيِّده أيضاً ما رواه الصدوق في الخصال والعيون بسندٍ يشترك فيه أكثر رجاله مع رواية الكليني، عن ابن أذينة، عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر يقول: «اثنا عشر إماماً من آل محمد^ كلّهم محدَّثون بعد رسول|، وعليّ بن أبي طالب× منهم»([50]).

ويؤيِّده أيضاً ما رواه الكليني، في نفس الباب، عن أبي حمزة، عن عليّ بن الحسين× قال: «إن الله خلق محمداً وعليّاً وأحد عشر من ولده من نور عظمته»([51]).

3ـ وأما الرواية الثالثة فقد رواها الشيخ الصدوق بسندين في عيون الأخبار، وبسندٍ واحد في كمال الدين، عن محمد بن الحسين، ثم يجتمع سنده مع سند الكافي إلى جابر قال: (دخلتُ على فاطمة، وبين يدَيْها لوحٌ فيه أسماء الأوصياء، فعدَدْتُ اثني عشر، آخرهم القائم×، ثلاثة منهم محمد، وأربعة منهم عليّ)([52]).

4ـ وأما الرواية الرابعة فهي مرويّةٌ في الكافي عن أبي سعيد عبّاد العصفري، وهذا الرجل له أصلٌ قال عنه بعض المحقِّقين: «ووجدنا نسخة خطية من أصل العصفري بنفس الأوصاف التي وردت عنه في المستدرك والذريعة بالمكتبة المركزية لجامعة طهران ضمن مجموعة باسم الأصول الأربعمائة»، ثم نقل الرواية عن أصله، فقال: «وفي أصل العصفري: عبّاد، عن عمر، عن أبي الجارود، عن أبي عبد الله جعفر× قال: قال رسول الله|: إني وأحد عشر من ولدي وأنتَ يا عليّ زرّ الأرض…، إلخ»([53]).

ويؤيِّد ذلك ما رواه الشيخ الطوسي في الغيبة. قال العلاّمة المجلسي: «روى الشيخ في كتاب الغيبة بسندٍ آخر عن عمرو بن ثابت، عن أبي الجارود، مثله، وفيه: «إني وأحد عشر من ولدي»، وهو أظهر»([54]).

5ـ وأما الرواية الخامسة فقد وردت في أصل العصفري السابق أيضاً بلفظ: «من ولدي أحد عشر نقباء، نجباء محدثون، مفهمون، آخرهم القائم بالحقّ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً»، فيكون ما ورد في نسخة الكافي (اثنا عشر) تصحيف، وما ورد في أصل العصفري (أحد عشر) هو الصواب([55]).

 ثانياً: إنه بناءً على ثبوت هذه الروايات أو بعضها فهي أخبار آحادٍ نادرة في معناها لا تقاوم الأخبار المتواترة الماضية([56]).

ثالثاً: إنه لو سلَّمنا عدم وقوع التصحيف فإن هذه الروايات، مثل: «كلّهم محدث من ولد رسول الله| ومن ولد عليّ»، ومثل: قول جابر: «دخلتُ على فاطمة÷ وبين يدَيْها لوحٌ فيه أسماء الأوصياء من ولدها…»، ومثل: «إني واثني عشر من ولدي»، ومثل: «من ولدي اثنا عشر نقيباً…»، ومثل: «إن لهذه الأمة اثني عشر إماماً هدى من ذرّية نبيّها، وهم مني»، محمولةٌ على الأكثرية للتغليب، وذلك لوجود القرينة وهي علم المخاطب بذلك([57])، وأسلوب التغليب في الكلام متداولٌ في عرف أهل اللغة.

رابعاً: إنه لو سلَّمنا تمامية هذه الروايات الدالّة على وجود ثلاثة عشر إماماً لورد اسم الإمام الثالث عشر، ولعُرف كما وردت أسماء الأئمة الاثني عشر بشكلٍ منصوص ومحدَّد بالاسم والكنية واللقب وجميع المواصفات، ولنصّ عليه الإمام السابق، كما هو الأمر في سائر الأئمة^، هذا من ناحية النصوص، أو قُلْ: الجانب النظري. وأما من جانب الواقع الخارجي فإنا لم نجِدْ لمثل هذا الشخص في الواقع وجوداً خارجياً، ولم نجِدْ مَنْ يدَّعِ الإمامة الثالثة عشرة.

الشبهة الثالثة: إن الاستدلال بالروايات الواردة من طريق أهل البيت (عليهم السلام) دَوْريٌّ

قد يُقال بأنه لا يمكن الاحتجاج بالروايات الواردة من طريق أهل البيت^ في الاثني عشر لإثبات إمامتهم، بل لا بُدَّ من إثباتها أوّلاً من طريق آخر، ثم بعد ذلك يحتج بقولهم؛ كي لا يكون الاستدلال دَوْرياً.

والجواب: إننا لا نحتجّ على إمامتهم^ بدعواهم الإمامة، بل برواياتهم عن النبيّ| ما يثبت إمامتهم، ولا إشكال في أنهم من أوثق الرواة وأصدقهم، إنْ لم يكونوا أوثقهم وأصدقهم([58]).

الشبهة الرابعة: المراد بالاثني عشر هم مَنْ يكون بعد الإمام المهديّ (عليه السلام)

 إنّ ثمّة روايات تدلّ على إمامة اثني عشر إماماً بعد الإمام المهديّ×، وعليه فلعل المراد بالاثني عشر هم هؤلاء، لا الأئمة الذين تدّعيهم الشيعة.

وهذه الروايات هي عبارة عن أربع روايات:

الأولى: روى الشيخ، بإسناده إلى أمير المؤمنين×، أن النبيّ| كتب له في وصيته ليلة وفاته: «يا عليّ، إنه يكون بعدي اثنا عشر إماماً، ومن بعدهم اثنا عشر مهديّاً، فأنتَ يا عليّ أوّل الاثني عشر إماماً [ثمّ عدّهم إلى الحجّة×، فقال:] ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً»([59]).

الثانية: روى الشيخ أيضاً، بسنده عن الإمام الصادق× قال: «يا أبا حمزة، إن ما بعد القائم أحد عشر مهدياً من ولد الحسين×»([60]).

الثالثة: روى الشيخ أيضاً، بسنده عن الإمام الحجّة×، في دعاءٍ له، قال: «وصلِّ على وليك وولاة عهدك والأئمة من ولده، ومدّ في أعمارهم، وزِدْ في آجالهم، وبلِّغهم أقصى آمالهم، ديناً ودنيا وآخرة، إنك على كلّ شيء قدير»([61]).

الرابعة: ما أورده الشيخ أيضاً، بعد الرواية السابقة بغير فصلٍ، فقال: الدعاء لصاحب الأمر، المرويّ عن الرضا×: روى يونس بن عبد الرحمن، عن الرضا×، أنه كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر× بهذا الدعاء: «اللهمّ ادفع عن وليّك وخليفتك ـ إلى أن قال ـ اللهمّ صلِّ على ولاة عهده والأئمة من بعده، وزِدْ في آجالهم، وبلِّغهم آمالهم…، الدعاء»([62]).

والجواب:

أوّلاً: إن هذه الروايات تصرِّح بإمامة الأئمة الاثني عشر، ولا تنفيها، لكنها تثبت وجود اثنا عشر غيرهم يأتون بعدهم، عبّرت عنهم بالمهديين، وعليه فهذه الروايات ليست في مقام النفي لفكرة الأئمة الاثني عشر.

ثانياً: إنه قد دلّت نصوص الاثني عشر على استمرار إمامتهم، وعدم خلوّ زمان منهم، وهذا يتنافى مع كون الأئمة الاثني عشر في آخر الزمان. علماً أن الظاهر من البَعْدية الواردة في هذه الأحاديث ما كان بعد الرسول| بلا فصلٍ.

ثالثاً: إن هذه الروايات شاذّة ومخالفة للروايات الصحيحة المتواترة الشهيرة بأنه ليس بعد القائم دولة، وأنه لا يمضي من بعده إلاّ أربعون يوماً يكون فيها الهرج([63]). وعليه فهذه الروايات غير موجبة للعلم واليقين؛ لكثرة معارضاتها؛ فإن الروايات المعتبرة والصحيحة المتواترة صريحةٌ في حصر الأئمة في اثني عشر، وأن الثاني عشر منهم خاتم الأوصياء والأئمة والخلفاء، وأنه لا يبقى بعده أحدٌ من الخلق([64]).

الشبهة الخامسة: عدم دلالة الحديث على الحصر

إن هذه الأحاديث لا تدلّ على الحصر؛ وذلك أنها لم تقل: لا يلي إلاّ اثنا عشر، وإنما قالت: يلي اثنا عشر، وقد ولي هذا العدد ما علم به النبيّ| قبل قيام الساعة([65]).

والجواب:

أوّلاً: إنه لا رَيْبَ أن المقام إذا كان مقام التعداد والتحديد فإنه لا يُراد بالعدد إلاّ نفي الزائد، مثل: قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً﴾ (التوبة: 36)، يعني لا أزيد من اثني عشر، وإذا قيل: إن اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة، والساعة ستون دقيقة، ومات فلان عن أربع بنين، والأنبياء أولي العزم خمسة، لا يُراد منها إلا نفي الزائد. وما ذكروه في مفهوم العدد أو نفيه أجنبيٌّ عن أمثال هذه العبارات، وإنما يُتكلَّم في المفهوم حيث لا يعلم المقصود بهذا الوضوح([66]).

وبعبارةٍ أخرى: إن هذه الأحاديث ظاهرةٌ في الحصر؛ لأنها واردة في مقام بيان العدد، لا في مجرد وجود هذا العدد في ضمن الأئمة، وإنْ كانوا هم أكثر من ذلك؛ إذ لا فائدة في بيان وجود هذا العدد إذا كان الأئمة أكثر من ذلك([67]). بل بعض هذه الأحاديث قويّة الظهور في ما ذكرنا؛ فقد روى الشعبي، عن مسروق قال: (كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود، وهو يقرئنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله| كم يملك هذه الأمّة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحدٌ منذ قدمت العراق قبلك، ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله| فقال: «اثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل»([68]))، فإن السؤال فيه عن عدد الخلفاء في هذه الأمة موجبٌ لصراحة الجواب في حصرهم بالعدد المذكور، لا في مجرد وجود هذا العدد في ضمنهم، مع كونهم أكثر من ذلك([69]). وكذا ما رُوي عن النبي|: «لن يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها»([70]) .

هذا كله في أحاديث الجمهور. وأمّا أحاديث الخاصة فهي صريحةٌ في الحصر، وأنهم لا يزيدون ولا ينقصون عن ذلك([71]).

الشبهة السادسة: ترك الأمة للاثني عشر دليلٌ على بطلان الأحاديث فيهم

 ما ذكرَتْه الزيدية من أنه لو كان النبي| قد عرَّف أمته أحاديث الاثني عشر فلماذا تركتهم الأمة؟([72]).

والجواب:

ما ذكره الشيخ الصدوق من أن هذا الاشكال ينعكس على الزيدية أنفسهم في قولهم بالنصّ على أمير المؤمنين×، حيث تركته الأمة مع وجود النصّ عليه. ثم إنه متى كان التزام الأمّة أو عدمه معياراً في صحّة الحديث وسقمه؟([73]).

 

الشبهة السابعة: وقوع البداء في إمامة بعض أولاد الأئمة يبطل أحاديث الأئمة الاثني عشر

 لو كان الأئمة اثني عشر فما معنى البداء في قول الإمام الصادق×: «ما بدا لله في شيءٍ كما بدا في إسماعيل ابني»([74]).

والجواب:

أوّلاً: ما ذكره الشيخ المفيد والسيد المرتضى، واللفظ للثاني: « فأما الرواية عن أبي عبد الله من قوله: ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل فإنها على غير ما توهَّموه أيضاً من البداء في الإمامة، وإنما معناها ما رُوي عن أبي عبد الله×: إن الله تعالى كتب القتل على ابني إسماعيل مرتين، فسألته فيه، فعفا عن ذلك، فما بدا له في شيءٍ كما بدا له في إسماعيل يعني به ما ذكره من القتل الذي كان مكتوباً، فصرفه عنه بمسألة أبي عبد الله. وأما الإمامة فإنه لا يوصف الله فيه بالبداء، وعلى ذلك إجماع فقهاء الإمامية، ومعهم فيه أثرٌ عنهم^ أنهم قالوا: مهما بدا لله في شيء فلا يبدو له في نقل نبيّ عن نبوته، ولا إمام عن إمامته، ولا مؤمن قد أخذ عهده بالإيمان عن إيمانه»([75]).

ثانياً: ما ذكره الشيخ الصدوق في الردّ على الزيدية الذين أشكلوا بهذه الشبهة: « فأما قوله: «ما بدا لله في شيءٍ كما بدا له في إسماعيل» فإنه يقول: ما ظهر لله أمرٌ كما ظهر له في ابني [يعني في موته] إذ اخترمه في حياتي، ليُعلم بذلك أنه ليس بإمامٍ بعدي»([76]).

الشبهة الثامنة: لماذا تعدّدت فرق الشيعة مع وجود روايات الاثني عشر؟

من الشبهات التي أثارها بعض الزيدية أنه مع وجود أحاديث الاثني عشر في الشيعة لماذا افترقت هذه الفرقة إلى فرق كثيرة لا تؤمن بالاثني عشر، وإنما تؤمن ببعضهم، كالزيدية والإسماعيلية والناووسية والواقفية؟([77]).

والجواب:

إن عدم وضوح الفكرة هو أحد الأسباب الداعية لافتراق الشيعة، وليس تمامها. ومع وجود الأحاديث الكثيرة الواردة في هذا الباب، وضآلة احتمال مثل هذا السبب، تترجَّح باقي الأسباب الأخرى، مثل: حب الرئاسة أو المال لدى أدعياء هذه الفرق وزعمائها، كما حصل ذلك لرؤوس الواقفية، الذين استأثروا بأموال الإمام الكاظم×، ولم يدفعوها للإمام الرضا× بعده.

الشبهة التاسعة: التنافي بين الحصر بالاثني عشر وبين الحاجة إلى حجّةٍ في كل زمان

قد يُقال: إنه ما دام الناس بحاجةٍ إلى الإمام في كل زمان فلماذا الحصر بالاثني عشر؟([78]).

والجواب:

 أوّلاً: إنه لا محلّ لمثل الاعتراض بعد كون أفعال الله قائمةً على مراعاة مصالح العباد. ولا شَكَّ أن الله مطّلعٌ على حاجة العباد إلى الهداية، وعدد ما يحتاجونه في ذلك من الحجج والهداة، فهو الذي يعلم بعدد ما يصلح به حالهم، إنْ كانوا اثني عشر أو أقلّ أو أكثر. ويرجع الكلام في هذه الشبهة أساساً إلى إنكار أصل حديث الاثني عشر، وإلاّ فإن مَنْ يصح عنده الحديث لا يتردَّد في مضمونه، وقد تقدَّم أن ثبوته مسلَّمٌ لدى الفريقين.

ثانياً: إن فائدة التحديد بعددٍ خاص إنما هي للضبط؛ ابتعاداً عن حالات التلاعب والزيادة والنقصان في هذه الفكرة، واستغلالها من قبل الغير. هذا كله حلاًّ.

ثالثاً: ونقضاً ينقض عليهم بمثل عدد الأنبياء وأوصيائهم مع حاجة العباد المستمرّة للهداية، فلماذا يتحدّد عدد الانبياء^ بعددٍ معين، ويُختَموا بالرسول الأعظم|، مع حاجة العباد إلى الحجج باستمرار؟ وأيضاً لماذا تتحدّد عدد الركعات اليومية وتحصر في سبعة عشر ركعة، مع حاجة العباد الفطرية باستمرار إلى العبادة؟ ولماذا كان الصوم شهراً واحداً لا أكثر ولا أقلّ؟ وهكذا يقع السؤال في باب القصاص والديات والتعزيرات وغيرها ممّا ورد فيه التحديد بعددٍ خاصّ.

الشبهة العاشرة: معارضته لحديث: الخلافة ثلاثون عاماً

إن أحاديث الاثني عشر معارَضة بما دلّ على أن الخلافة ثلاثين سنة، وأنّ ما بعدها ملك عضوض، كما في ما رواه أبو داوود من حديث سفينة، الذي صحَّحه ابن حِبّان: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملكٌ بعد ذلك»([79]).

والجواب: إن هذه الرواية لا إلزام فيها للشيعة؛ لأنهم لم يرووها في مصادرهم، وإن المرويّ فيها ـ سواء في حديث الاثني عشر أو حديث الثقلين أو حديث الأمان أو حديث عدم خلوّ الأرض من حجّة وغيرها ـ يؤكّد استمرار الإمامة والخلافة وعدم تحديدها بوقتٍ معين؟

الشبهة الحادية عشرة: عدم دعوى الأئمة (عليهم السلام) الإمامة في حياتهم

إنّ الأئمة لم يدّعوا الإمامة لأنفسهم في حياتهم، وإنما هذا من الشيعة([80]).

والجواب: إنّ هذه الدعوى دعوى جزافية، إذ إنّ مَنْ له أدنى إلمامٍ بالحديث والتأريخ يعرف جزاف هذه الدعوى، وأن الأئمة^ قد ادَّعوا ذلك. وقد وردت أسماؤهم في الأحاديث التي رويت عنهم([81]). كما عرف أتباعهم بالإمامية طوال التأريخ لقولهم بإمامتهم، ولم ينكر الأئمة عليهم مثل هذا القول.

الشبهة الثانية عشرة: عدم الانسجام بين دعوى الانحصار بالاثني عشر وبين عدم خلوّ الارض من حجّة

إن الأئمة^ لو حكموا اثنا عشر إماماً بشكلٍ طبيعي فإن حكمهم سوف لا يستمرّ حتّى قيام الساعة، باعتبار أن حكمهم سوف لا يستمرّ أكثر من ثلاثمائة سنة بشكلٍ متعارف، فهل ينسجم هذا مع القول بأن الارض لا تخلو من حجّة؟ قال العظيم آبادي: (إن المفهوم من حرف (إلى) أن تقع فترة بعدما ينقضي عصر اثني عشر خليفة، وهم قائلون بظهور عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكمال الدين بعدهم، فلا يستقيم معنى الغاية والمغيّى، كما لا يخفى)([82]).

والجواب: نعم، هذا صحيحٌ، لكنا لا نعلم ما سيؤول إليه الأمر بعد حكومتهم لو حكموا بشكلٍ طبيعي، من قيام القيامة، أو تعيين مَنْ ينوب عنهم في الحكم من قبلهم؛ كي لا تخلو الأرض من حجة، أو إطالة عمر الأخير منهم، أو غير ذلك مما نجهله، باعتبار أنّ ما أراده الله فيهم لم يتحقَّق حتّى نرى ما ستؤول إليه الأمور لو حكموا بعدّتهم. وأمّا ما هو حاصل اليوم من حصول الغيبة فهو أمرٌ استثنائي طارىء على المخطَّط الإلهي الذي كان يُراد لحكومتهم لو أنهم حكموا.

الشبهة الثالثة عشرة: إن فكرة الأئمة الاثني عشر متأخّرة الظهور لدى متكلِّمي الشيعة

إنّ الاستدلال بحديث الاثني عشر إماماً دليلٌ متأخِّر، بدأ المتكلِّمون يطرحونه بعد أكثر من نصف قرن من الحيرة، أي في القرن الرابع الهجري، ولم يكن له أثر ولا عين في القرن الثالث عند الشيعة الإمامية، حيث لم يُشِرْ إليه الشيخ عليّ بن بابويه الصدوق في كتابه (الإمامة والتبصرة من الحيرة)، كما لم يُشِرْ إليه النوبختي في كتابه (فرق الشيعة)، ولا سعد بن عبد الله الأشعري في (المقالات والفرق). من هنا لم يكن الإمامية يقولون بالعدد المحدود في الأئمة، ولم يكن حتى الذين قالو بوجود (الإمام محمد بن الحسن العسكري) يعتقدون في البداية أنه خاتم الأئمة، وهذا هو النوبختي يقول في كتابه (فرق الشيعة): (إن الإمامة ستستمرّ في أعقاب الإمام الثاني عشر إلى يوم القيامة).

ونقل الكفعمي في (المصباح) عن الإمام الرضا× الدعاء التالي حول (صاحب الزمان): (…اللهمّ، صلِّ على ولاة عهد والأئمة من بعده)([83]).

والجواب:

أوّلاً: إنا قد بيّنا في ما سبق أن التراث الروائي لدى الفريقين حافلٌ بهذه الفكرة النبوية التي بثّها الرسول| بين المسلمين في صدر الإسلام، وأكّدها أئمة أهل البيت^ في أحاديثهم في مناسباتٍ عديدة في القرون الأول والثاني والثالث، كما أثبتنا ذلك عند البحث عن رواة هذه الأحاديث من الأئمة^، بدءاً من الإمام عليّ إلى الإمام العسكري’. وعليه فأحاديث الأئمة الاثني كانت مدوّنة في التراث الروائي لدى المسلمين والرواة، إلى أن استقرت في مصادرهم الأولى، كصحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومسند أحمد والكافي وغيرها.

ثانياً: إن عمدة التراث العلمي للمسلمين في الفقه والأصول والكلام وغيره إنما تشكّل ـ بصورةٍ عامة ـ في القرن الرابع الهجري. فالكتب الأربعة كان تصنيفها في هذا القرن، وهكذا كتب التفسير والفقه والأصول والكلام. وهذا أمرٌ واضح لكل باحثٍ مطلع. وقد ذكرنا ـ أوّل البحث عن أحاديث الأئمة الاثني عشر ـ المصنّفات الخاصة بهذه الأحاديث ممّا كان تصنيفه في القرن الرابع. ومع هذا فقد أشار علماؤنا في القرن الثالث الهجري في مصنّفاتهم إلى عقيدة الأئمة الاثني عشر أيضاً؛ فقد كتب إبراهيم بن نوبخت(320هـ)، الذي ذكر صاحب الشبهة أنه لم يتعرّض للمسألة، فقال: «القول في إمامة الأحد عشر بعده (أي بعد عليّ×): نَقلُ أصحابنا متواتراً النصّ عليهم بأسمائهم من الرسول| يدلّ على إمامتهم، وكذلك نقل النصّ من الإمام عليّ وكتب الأنبياء سالفاً يدلّ عليهم، وخصوصاً خبر مسروق يعترفون به»([84]).

وقال ابن بابويه(329هـ): «ولو كان أمرهم (أي الائمة^) مهملاً عن العدد وغفلاً لما وردت الأخبار الوافرة بأخذ الله ميثاقهم على الأنبياء وسالف الصالحين من الأمة. ويدلك على ذلك قول أبي عبد الله×، حين سئل عن نوحٍ× لما ذكر: (استوت سفينته على الجوديّ بهم): هل عرف نوحٌ عددهم؟ فقال: نعم، وآدم×.

وكيف يختلف عددٌ يعرفه أبو البشر ومَنْ درج من عترته والأنبياء من عقبه… وأيّ تأويلٍ يدخل على حديث اللوح وحديث الصحيفة المختومة والخبر الوارد عن جابر في صحيفة فاطمة÷»([85]).

الشبهة الرابعة عشرة: عدم معرفة بعض أصحاب الأئمة بأسماء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)

 هذه الشبهة هي للزيدية أيضاً، كانوا قد أثاروها أمام خبر الأئمة الاثني عشر، حيث قالوا: « لو كان خبر الائمة الاثني عشر صحيحاً لما كان الناس يشُكّون بعد الصادق جعفر بن محمد في الإمام…، ولما مات فقيه الشيعة زرارة، وهو يقول والمصحف على صدره: اللهمّ…»([86]).

والجواب:

أوّلاً: إنه لا تلازم بين معرفة عدد الأئمة وبين معرفة أسمائهم وأعيانهم، فقد يكون العدد معلوماً ولكنّه يجهل الإمام اللاحق؛ لقصورٍ أو لتقية أو غير ذلك. وإن كان هذا كلّه مستبعدٌ في مثل زرارة الفقيه، كما سيتّضح لاحقاً. ولذا قال الشيخ الصدوق في جواب شبهة الزيدية: «إن هذا كلّه غرور من القول، وزخرف؛ وذلك أنّا لم ندَّعِ أنّ جميع الشيعة في ذلك العصر عرف الأئمة الاثني عشر^ بأسمائهم، وإنما قلنا: إن رسول الله| أخبر أن الأئمة بعده اثنا عشر، الذين هم خلفاؤه، وإن علماء الشيعة قد روَوْا هذا الحديث بأسمائهم، ولا ينكر أن يكون فيهم واحد أو اثنان أو أكثر لم يسمعوا بالحديث»([87]).

ثانياً: إنه قد رُوي عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: قلتُ للرضا×: يا بن رسول الله، أخبرني عن زرارة هل كان يعرف حقّ أبيك؟ فقال: «نعم»، فقلتُ له: فلم بعث ابنه عبيداً ليتعرَّف الخبر إلى مَنْ أوصى الصادق جعفر بن محمد×؟ فقال×: «إن زرارة كان يعرف أمر أبي ونصّ أبيه عليه، وإنما بعث ابنه ليتعرَّف من أبي هل يجوز له أن يرفع التقية في إظهار أمره ونصّ أبيه عليه، وإنه لمّا أبطأ عنه ابنه طولب بإظهار قوله في أبي فلم يحبّ أن يقدم على ذلك دون أمره، فرفع المصحف وقال: اللهم إنّ إمامي مَنْ أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمد’».

حدَّثنا أبي قال: حدَّثنا محمد بن يحيي العطّار، عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن أحمد بن هلال، عن محمد بن عبد الله بن زرارة، عن أبيه قال: لما بعث زرارة عبيداً ابنه إلى المدينة؛ ليسأل عن الخبر بعد مضيّ أبي عبد الله، فلما اشتدّ به الأمر أخذ المصحف وقال: مَنْ أثبت إمامته هذا المصحف فهو إمامي.

وهذا الخبر لا يوجب أنه لم يعرف. على أن راوي هذا الخبر أحمد بن هلال، وهو مجروحٌ عند مشايخنا رضي الله عنهم([88]).

الشبهة الخامسة عشرة: إن الوارد في الأخبار هو لفظ الخلافة، لا الإمامة

إن المذكور في الأحاديث الخلافة، لا الإمامة، ولم يكن أكثر من هؤلاء اثني عشر خليفة بالاتفاق بين الفريقين([89]).

والجواب:

أوّلاً: إن الأحاديث لا تقتصر على لفظ الخلافة فقط، بل ورد فيها لفظ: اثنا عشر إماماً أو قيِّماً أوعظيماً أو رجلاً، كم تقدَّم ذلك في نقل صيغ الحديث.

ثانياً: إن لفظ الخليفة لا يقتصر في معناه على السلطة السياسية، بل يشمل المرجعية العلمية، فقد ورد في الحديث: «اللهمّ، ارحم خلفائي»، قيل له: يا رسول الله، مَنْ خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي، يروون حديثي وسنّتي»([90]).

إنه على فرض التسليم بانطباق لفظ الخليفة على الحكّام لكنْ ما الدليل على انحصارهم بالمذكورين، دون مَنْ سواهم؟ فهذا يلزم منه الترجيح بلا مرجِّح.

الشبهة السادسة عشرة: إن الأحاديث نسبت الاثني عشر إلى قريش، وهو لفظٌ عام

 إن نسبتهم إلى قريش تدل على أن جميعهم ليسوا من بني هاشم، فإن العادة قد جرت على أن الجماعة لمّا فعلوا أمراً وكلهم من بطنٍ واحد يسمّونهم بذلك البطن، ولمّا كانوا من بطون شتّى يسمّونهم بالقبيلة الفوقانية التي تجمعهم([91]).

والجواب: إنه قد ورد في بعض الروايات أنهم من بني هاشم، كما تقدم نقله. ولعل الضجة أو اللغط الذي حدث بين الناس ممّا منع الراوي من سماع بقية الحديث كان سببه وقوع التصريح فيه بكونهم من بني هاشم، وإلاّ لماذا هذا اللغط والضجة؟ وعلى أيّ حال فإنه يحمل المطلق (قريش) على المقيّد (بنو هاشم)، فيقدم المقيّد؛ لأنه هو المراد، علماً بأن المطلق لو بقي على إطلاقه فإنه مثار للتشاحّ والتنازع، ولا سيَّما في مثل هذا الأمر الخطير.

وقد أشار أمير المؤمنين× إلى كلا اللفظين بقوله: «ألا وإن الأئمة من قريش، قد غرسوا في هذا البطن من بني هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم»([92]).

الشبهة السابعة عشرة: عدم اعتزاز الدين بإمامة أهل البيت (عليهم السلام)

 إن القائلين باثني عشر إماماً ـ وهم الشيعة ـ لم يقولوا بظهور الدين في عهد هؤلاء الأئمة، بل يزعمون أن الدين قد اختفى بعد وفاته|، والأئمة كانوا يعملون بالخفية، وما استطاعوا أن يظهروه، حتّى أن علياً× لم يقدر على إظهار مذهبه ومشربه([93]).

والجواب: إنه قد تقدم أن الأحاديث في الاثني عشر واردة على نحو الإنشاء والتنصيب، لا على نحو الإخبار؛ ولذا فإن جميع الخصوصيات الواردة في خلافة هؤلاء الاثني عشر ـ ومنها: عزّة الدين ـ منوطةٌ بتحقق وفعلية هذا الإنشاء خارجاً، وهذا ما لم يحصل بشكلٍ تامّ لأئمة أهل البيت^، حيث لم يحكموا، وإنما كانت لهم الإمامة العلمية والمعنوية فقط، وأما إمامة الإمام عليّ× فقد حالت الظروف دون تحقيق كامل أهدافها، كما هو معلوم.

الشبهة الثامنة عشرة: عدم اجتماع الأمة على إمامة الأئمة (عليهم السلام)

قد أورد أبو داوود من حديث أبي خالد الأحمسي في صفات هؤلاء الاثني عشر أنهم: «كلّهم تجتمع عليه الأمة»([94])، مع أن الأئمة من أهل البيت^ لم تجتمع عليهم الأمة، حتّى أن الإمام عليّ× قد خرج عليه مَنْ خرج وحاربه مَنْ حاربه من هذه الأمة، كما هو معلومٌ.

والجواب:

أوّلاً: إن جميع الخصوصيات الواردة في هؤلاء ـ كاجتماع عدّتهم، وإعزاز الإسلام بهم، واجتماع الأمة حولهم، وغيرها ـ مبنية على كون الأحاديث واردة مورد الإنشاء، إلاّ أن المُنْشَأ لم يتحقَّق لعدم تمكين الأمة من ذلك.

ثانياً: احتمل بعض العلماء أن المراد باجتماع الأمة كلها عليهم إنما هو بعد رجعة الأئمة^ إلى الدنيا([95]).

الخاتمة

لقد سلّطت هذه الدراسة الضوء على أحاديث الاثني عشر المتَّفق عليها بين الفريقين، والتي قد بذل النبيّ| وأئمة أهل البيت^ ما بوسعهم من أجل ترسيخ فكرتها في أذهان الأمّة وتثقيفها عليها، ولا سيَّما الجيل الأول من المسلمين. وقد أبدَوْا اهتماماً كبيراً بها، حيث كانوا يسألونه عن أمر هؤلاء الأئمة في مناسباتٍ عديدة، ممّا يعكس اهتمامهم وعنايتهم بهذه القضية الحسّاسة بالنسبة لمستقبل الرسالة. إلاّ أن ما آلت إليه الأمور هو غير ما أراده صاحب الرسالة|، حيث جَرَت الأمور على غير سياقها المرسوم لها، ولم يؤخَذْ بفحوى هذه الفكرة العظيمة التي فيها ضمان مستقبل الأمّة والرسالة. وليت الأمور وقفت عند إهمال وصيّة النبيّ وتركها، بل تعدَّتْ إلى تسطيح البيان النبوي الوارد في هذا المقام، وتفريغه من محتواه، والإسفاف به، بل والسخرية به ـ سواء شعر به قائله أم لا ـ إلى حدّ تطبيقه على أئمّة الجَوْر والظلم، وعلى كل سفيهٍ وفاسق من بني أمية وبني العباس. فكيف يصحّ أن يكون هؤلاء الاثني عشر في أوّل أمرهم ـ كما تحدَّثت النصوص السابقة ـ أنواراً محدقة بالعرش قبل الخلق، وبشّرت بهم الكتب السماوية، وأنهم من ولد إسماعيل×، ويبشِّر بهم النبيّ|، ويوصي أمته ويقرن عزّة الإسلام بهم، وإذا بهم في آخر المآل خلفاء الفسق والفجور، من أمثال: معاوية، وولده يزيد، ومروان، وعبد الملك، والوليد بن عبد الملك، وهلمّ جرّاً؟! أليست هذه مفارقة غريبة ومدهشة حقّاً يا شرّاح الصحاح وعلماء مدرسة الخلافة، حتّى اضطربت كلماتكم في تفسير هذه النصوص اضطراب الرشا في البئر؛ تكتُّماً على الحقيقة. فأيّ سنخية بين تلك المقدّمات وبين هذه النتيجة؟ أليس ذلك إلى السخرية بالبيان النبوي أقرب منه إلى الكلام العلمي الرصين؟ ولكنْ لا نملك أمام هذه الاستهانة بالحديث النبوي إلاّ قول: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلميّة في مدينة قم، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) في رحاب العقيدة 3: 168.

([2]) الغيبة: 157.

([3]) تقريب المعارف: 126.

([4]) المصدر السابق: 183.

([5]) كشف المحجة لثمرة المهجة: 51.

([6]) المصدر السابق: 101.

([7]) متشابه القرآن 3: 229.

([8]) أقول: لا نعلم هل أن الأعلام الذين نقلنا كلماتهم آنفاً استمدّوا هذا الاستدلال من رواية منصور بن حازم أو لا؟ والظاهر هو الثاني؛ لأنه لم تَرِدْ الإشارة لذلك في كلماتهم على الإطلاق، وإنما اعتمدوه باعتباره استدلالاً عقلياً وعقلائياً قامت عليه سيرة العقلاء، كما سنشير لذلك بعد قليل.

([9]) الكافي 1: 168.

([10]) بلغة الفقيه 3: 368.

([11]) انظر: جواهر الكلام 40: 398.

([12]) انظر: عون المعبود 11: 364.

([13]) انظر: تفسير القرآن العظيم 3: 312.

([14]) متشابه القرآن 3: 224.

([15]) تفسير القرآن العظيم 3: 312.

([16]) انظر: حاشية بعض المعلّقين على صحيح مسلم 6: 3، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

([17]) المصدر نفسه.

([18]) صحيح مسلم 6: 3، كتاب الإمارة، تعليقة الآبي والشارح على مسلم.

([19]) كفاية الأثر: 165، باب24، ح3.

([20]) صحيح ابن حِبّان 15: 393.

([21]) سنن أبي داوود 2: 303، رقم 4254.

([22]) المصدر نفسه.

([23]) صحيح مسلم 6: 4.

([24]) صحيح مسلم 6: 3.

([25]) دلائل الصدق 6: 275.

([26]) المعجم الكبير 2: 214، ح1794، المعجم الأوسط 3: 437، ح2943، كنـز العمال 12: 33، ح33858.

([27]) المعجم الكبير 2: 286، ح2073، مجمع الزوائد 5: 191، باب الخلفاء.

([28]) مسند أحمد 5: 87.

([29]) نهج البلاغة 3: 62.

([30]) في رحاب العقيدة 3: 164.

([31]) ينابيع المودة 5: 445، باب 77؛ تبيين المحجّة: 215.

([32]) نهج البلاغة 2: 27،.

([33]) كفاية الأثر: 33، باب 3، ح9.

([34]) صحيح مسلم 7: 58، سنن الترمذي 5: 245، ح3687.

([35]) شرح مسلم 15: 36.

([36]) المجموع شرح المهذب 16: 182.

([37]) ذخائر العقبى: 10.

([38]) البداية والنهاية 2: 314.

([39]) صحيح مسلم 6: 3، باب 77؛ تبيين المحجة: 215.

([40]) ينابيع المودة 5: 445، باب 77؛ تبيين المحجة: 215.

([41]) صحيح ابن حِبّان 15: 393.

([42]) البداية والنهاية 6: 250.

([43]) كفاية الأثر: 44، باب 5، ح3.

([44]) المصدر السابق: 33، باب 3، ح9.

([45]) المصدر السابق: 87، باب 9، ح5.

([46]) انظر: كمال الدين: 67.

([47]) انظر: شبهات وردود: 123، نقلاً عن: نشرة الشورى، العدد 10.

([48]) الكافي 1: 531 ـ 534، الباب 126 من كتاب الحجّة، ح7، 8، 9، 17، 18. وقد نقلنا هذه الأحاديث في المتن بهذا الترتيب.

([49]) عيون أخبار الرضا× 1: 46؛ كمال الدين 1: 213.

([50]) الخصال: 480، باب 12، ح4.

([51]) الكافي 1: 530،، باب ما جاء في الاثني عشر، ح6.

([52]) كمال الدين 1: 530،، باب ما جاء في الاثني عشر، ح6؛ عيون الأخبار 2: 52.

([53]) معالم المدرستين 3: 331.

([54]) مرآة العقول 6: 232.

([55]) معالم المدرستين 3: 333، والبحث مستفادٌ بجملته في هذه النقطة من المصدر المذكور.

([56]) أصول الدين: 292.

([57]) انظر: مرآة العقول 6: 232، 233؛ شرح أصول الكافي 7: 370، 373.

([58]) في رحاب العقيدة: 17.

([59]) الغيبة: 97.

([60]) المصدر السابق: 285.

([61]) مصباح المتهجد: 266.

([62]) المصدر نفسه.

([63]) الصراط المستقيم: 152.

([64]) الفوائد الطوسية: 117.

([65]) صحيح مسلم (بشرح النووي) 12: 201.

([66]) تعليقة الشعراني على شرح أصول الكافي للمازندراني 7: 374.

([67]) في رحاب العقيدة 3: 161.

([68]) مسند أحمد 1: 398؛ المستدرك على الصحيحين 4: 546.

([69]) في رحاب العقيدة 3: 163.

([70]) كنـز العمال 12: 34، ح33861.

([71]) في رحاب العقيدة 3: 161.

([72]) كمال الدين: 68.

([73]) المصدر نفسه.

([74]) انظر: كمال الدين: 69.

([75]) الفصول المختارة: 309؛ المسائل العكبرية: 100.

([76]) كمال الدين: 69.

([77]) كمال الدين: 68.

([78]) نشرة الشورى، العدد 10: 19، نقلاً عن: كتاب الردّ على شبهات أحمد الكاتب: 147.

([79]) سنن أبي داوود 2:، 303، ح4254.

([80]) عون المعبود 11: 247.

([81]) انظر النصوص الواردة بهذا الشأن من الفريقين: فرائد السمطين 2: 132، 354؛ ينابيع المودة، البابان 76 و94؛ كفاية الأثر، مقتضب الأثر، منتخب الأثر، الجزء الثاني.

([82]) عون المعبود 11: 247.

([83]) نشرة الشورى، العدد 10: 10 ـ 12، نقلاً عن: شبهات وردود: 63.

([84]) انظر: أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 229.

([85]) الإمامة والتبصرة من الحيرة: 11.

([86]) كمال الدين: 75.

([87]) المصدر نفسه.

([88]) المصدر نفسه.

([89]) عون المعبود 11: 246.

([90]) مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 420.

([91]) عون المعبود 11: 246.

([92]) نهج البلاغة 2: 27.

([93]) عون المعبود 11: 246؛ منهاج السنة: 210.

([94]) سنن أبي داوود 2: 309، كتاب المهديّ، ح4279.

([95]) الفوائد الطوسية: 119.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً