أحدث المقالات

قراءةٌ في كتاب

د. أبو الفضل مسلمي(*)

ترجمة: حسن هاشم

تنويهٌ ــــــ

إنّ الكتاب الذي بين أيدينا (أخلاق المعرفة الدينية، للدكتور أبو القاسم فنائي) هو القسم الثاني من مشروعٍ تحقيقي حول الارتباط المتبادل بين الدين والأخلاق. أما القسم الأول من هذا المشروع التحقيقي فهو الكتاب الذي حمل عنوان (الدين في ميزان الأخلاق)، والذي طبع عام 2007م.

وبالإضافة إلى هذا، هناك كتابان آخران للمؤلِّف في هذا السياق، وهما: (أخلاق التديُّن)؛ و(أخلاق التفكير الأخلاقي)، الذي هو أطروحته على مستوى الدكتوراه.

وقد كان كتاب (الدين في ميزان الأخلاق) يبحث في النسبة بين الدين والأخلاق في «مقام الثبوت»؛ ليثبت أن «الإنسانية» مقدّمة على «الإسلامية».

أما الكتاب الراهن فيبحث في نسبة هذين المفهومين في «مقام الإثبات»، ويثبت أن «المعرفة الإنسانية» مقدّمة على «المعرفة الإسلامية»، وأن الفهم والتفسير الصحيح للنصوص الدينية رهنٌ بمقاربة المعرفة الدينية بميزان العقلانية والأخلاق.

إنّ مراد الكاتب من أخلاق المعرفة الدينية، أو أخلاق البحث والتفكير الفقهي، أو أخلاق الاجتهاد، مجموعةٌ من القِيَم المعرفية التي تعمل على توجيه الاجتهاد أو البحث والتفكير الفقهي، أو يجب أن تعمل على ذلك. إن التحقيق بشأن أخلاق الاجتهاد أو أخلاق البحث والتفكير الفقهي هو موضوع «معرفة الفقه»، وإن معرفة الفقه من أهمّ أقسام «فلسفة الفقه».

وعليه فقد تعاطى المؤلِّف طوال فصول هذا الكتاب مع المعرفة الفقهية، وعمل على إبراز الفارق بين «العقلانية الفقهية» القائمة وبين «العقلانية العرفية» أو «العقلانية المثالية». وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الكتاب يبحث في الروايات المعرفية لاتّجاهين متنافسين في باب العلاقة بين الدين والأخلاق، وإن موضوعه الرئيس هو العلاقة «المنطقية» و«المعرفية» بين الدين والأخلاق. وقد عمد المؤلِّف في هذا الكتاب إلى بيان المضامين الرئيسة في هذا الكتاب باختصارٍ.

يشتمل كتاب (أخلاق المعرفة الدينية) على سبعة فصول، على النحو التالي:

الفصل الأول: استبدال الفقه بالأخلاق ــــــ

يبحث الفصل الأوّل في موضوعٍ هامّ للغاية، ألا وهو «إحلال الفقه محلّ الأخلاق»، حيث يسعى المؤلِّف في هذا الفصل إلى بيان سبب وكيفية إلغاء العقل العملي (وبتَبَع ذلك إلغاء شطرٍ من العقل النظري) في الثقافة والحضارة الإسلامية، وإحلال الفقه محلّ «الأخلاق الاجتماعية».

وقد تمّ في هذا الفصل استعراض العديد من الأدلّة التي تصبّ في مصلحة الأشعرية الحداثوية أو ما بعد الحداثوية، وضرورة إحلال الفقه محلّ الأخلاق المطروحة أو القائمة في عمق ضمير المتشرِّعة، ونقدها بالتفصيل. وتمَّ نفي التَّبَعية المنطقية والمعرفية الأخلاقية للدين، وإثبات التَّبَعية المنطقية والمعرفية الدينية للأخلاق.

إن تبعية الأخلاق المنطقية والمعرفية للدين عبارةٌ عن إحدى دعويين:

1ـ معرفة أو تفسير العقائد الأخلاقية القائمة على الفرضيّات الكلامية ـ اللاهوتية.

2ـ الفقه بديل الأخلاق.

يتمّ في هذا الفصل نقد وإبطال هذه الدعاوى، والأدلّة التي أقيمت لصالحها، ومن ثمّ يصار إلى التأكيد على دور أخلاق التفكير وأخلاق السلوك في المعرفة الدينية ومعرفة الشريعة.

وفي الحقيقة فإن الفصل الراهن يعمد بشكلٍ رئيس إلى نقد روايةٍ عن دينيّة الأخلاق، والتي على أساسها يحلّ «الفقه» محلّ «الأخلاق الاجتماعية».

إن الأسئلة المحورية في هذا الفصل هي:

1ـ هل معرفة أو تبرير القضايا الأخلاقية قائمةٌ على معرفة وتبرير القضايا اللاهوتية من الناحية المنطقية، أو القضايا الفقهية؟

2ـ هل معرفة أو تبرير (بعض) القضايا اللاهوتية أو القضايا الفقهية من الناحية المنطقية والمعرفية قائمةٌ على معرفة أو تبرير القضايا الأخلاقية؟

3ـ هل معرفة أو تبرير القضايا اللاهوتية والفقهية ومعرفة أو تبرير القضايا الأخلاقية من الناحية المنطقية والمعرفية مستقلّةٌ عن بعضها؟([1]).

وبعبارةٍ أخرى: إننا في هذا الفصل نقوم بدراسة العلاقة المنطقية والمعرفية القائمة بين الدين والأخلاق، ويتمّ بشكلٍ محدَّد نقد وتقييم نظرية «تَبَعية علم الأخلاق لعلم الكلام»، ونظرية «إحلال علم الفقه محل علم الأخلاق».

وطبقاً لتحليل الكاتب في هذا الفصل يمكن القول: إن الرؤية السائدة بين علماء الشيعة إنما تذهب إلى اعتبار حكم العقل إذا أورث القطع واليقين، ولكنْ حيث إن تحقُّق هذا القطع واليقين أمرٌ نادر جدّاً لا يمكن الوصول إلى حكم الشرع من طريق حكم العقل، ولذلك لا يمكن إبطال الفتاوى الفقهية من خلال الاستناد إلى القِيَم الأخلاقية. ومن ناحيةٍ أخرى، حيث يذهب هؤلاء العلماء إلى القول بعدم توقُّف حجِّية الوحي على القطع واليقين، وقولهم باعتبار بعض الظنّون النقلية أيضاً، يمكن التوصُّل إلى حكم العقل من خلال الحكم الشرعي، ويمكن إبطال المعتقدات الأخلاقية من طريق الفتاوى الفقهية.

وقد أدّى التلفيق بين هاتين الدعويين إلى إحلال علم الفقه محلّ علم الأخلاق وتنظيم العلاقات الاجتماعية.

كما تشكو سائر الفرق الإسلامية إلى حدٍّ ما من هذا النوع من النَّزْعة النقلية أو الأنواع المماثلة لها، رغم اختلاف الأدلّة على تقدُّم النقل على العقل بين مختلف الفرق الإسلامية.

ومن باب المثال: إن دليل تقدُّم النقل على العقل من وجهة نظر الأشاعرة التقليديين هو أن أحكام الشرع لا تتبع ضابطةً وملاكاً عقلياً، في حين أن دليل هذا التقدُّم من وجهة نظر الغالبية الساحقة من علماء الشيعة هو أن الظنون العقلية (والتجريبية) لا اعتبار لها في مقابل الظنون النقلية.

وفي هذا الإطار يتمّ نقد الادعاء القائل بتقدُّم «النقل» على «العقل»، وإحلال «علم الفقه» محلّ «علم الأخلاق» في هذا الفصل بالتفصيل.

وإن من النتائج المترتِّبة على هذا النقد هو أنه ليس هناك دليلٌ على اشتراط القطع واليقين في إثبات الحجّية للحكم العقلي، أو يدلّ على التقدُّم المنطقي والمعرفي للمعتقدات الفقهية (المستندة إلى الوحي والنقل) على المعتقدات الأخلاقية (المستندة إلى العقل والوجدان). وعند تعارض المعتقدات الحاصلة من مختلف القنوات المعرفية فإن العقلانية تقتضي أن نقارن بين هذه المعتقدات، وترجيح كفّة المعتقدات المستندة إلى الأدلّة الأقوى، وفي الغالب فإن الأدلّة التي تقف إلى جانب المعتقدات الأخلاقية تكون هي الأقوى من الأدلّة التي تقف إلى جانب المعتقدات الفقهية. كما أن التقوى والعدالة المعرفية تقتضيان الشيء ذاته. ومن هذه الناحية لا يكون هناك فرقٌ بين الدليل العقلي والدليل النقلي. وإن نسبة الاحتياط والتسليم المطلق لحكم الله في ما يتعلَّق بطرفي القضية متساوية. إن النزعة النقلية الحتمية القائمة على الفصل بين النقل والعقل، والتي تكتفي في مورد الأدلّة النقلية بـ «الوَهْم» (الظنّ الذي يقلّ عن الخمسين بالمئة)، ويشترط في الوقت نفسه القطع واليقين لإثبات الحجّية بالنسبة إلى الأدلّة العقلية، لا يمكن القبول به، بنفس نسبة عدم القبول بالنزعة العقلية الحتمية، التي لا تقيم أيّ وزنٍ أو قيمة للنزعة الدينية وغير الدينية. وعليه فإن المسؤولية المعرفية تحتِّم علينا في مقام معرفة الحقوق والوظائف الأخلاقية والدينية أن نعطي قيمةً متكافئة لكلٍّ من العقل والنقل، وعند التعارض بينهما يتمّ الانحياز إلى الحكم الذي يتمتَّع بدعامةٍ معرفية أقوى([2]).

الفصل الثاني: الفقه وتحدّيات العصر الحديث ــــــ

يخوض الفصل الثاني في «الفقه وتحدّيات العصر الحديث»، حيث يتمّ في هذا الفصل دراسة ونقد أسلوب التحقيق في الفقه التقليدي؛ بسبب تجاهل «معرفة الموضوع»، وخاصّة الغفلة عن الفوارق الجوهرية بين العصر الجديد والعصر القديم، وكذلك طرق الحلّ التقليدية في مواجهة تحدّيات العصر الحديث.

ثم يتمّ استعراض فهرسة ببعض أهمّ خصائص العصر الحديث من حيث التأثير في الأحكام الشرعية.

وهذه الخصائص هي: «العلمانية»، و«إحلال الإرادة محلّ الحقّ»، و«الأخلاق الحديثة».

ومن خلال شرح وبسط هذه الفوارق يتمّ تقييم ونقد جدوائية الفقه التقليدي والاجتهاد المصطلح في حلّ معضلات العالم المعاصر.

وفي الحقيقة إنّ هذا الفصل والفصول القادمة تبحث في كيفيّة ومسار مواجهة الفقه التقليدي (الأخلاق الدينية) لتحدّيات العصر الحديث، وتبيِّن كيفية وأسباب «تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد»، وأسباب «عدم كفاية الاجتهاد المصطلح في الحوزات العلمية».

يرى المؤلِّف أن «أخلاق الاجتهاد» هي أوّل مسألةٍ تحتاج إلى إعادة نظر أساسية وعميقة. إن التحقيق في باب أخلاق الاجتهاد نوعٌ من الاجتهاد في الأصول ومباني الاجتهاد الفقهي، وإنّ هذا الاجتهاد يتقدَّم من الناحية المنطقية على الاجتهاد في الفروع. وبعبارةٍ أخرى: إنّ أهم ما يجب على علماء الدين أن يباشروه في الظروف الراهنة هو «التوفيق بين أصول الدين وأصول العالم المعاصر، دون التوفيق بين فروع الدين وفروع العالم المعاصر». بَيْدَ أنّه من الواضح أن التوفيق في هذا المجال من ناحيةٍ رهنٌ بالمعرفة العميقة والشاملة للعالم المعاصر، كما أنّه من ناحيةٍ أخرى رهنٌ بإعادة النظر في مباني الاجتهاد في الدين والاجتهاد في الفقه.

يباشر القسم الثاني من هذا الفصل تقرير أسلوب التحقيق في الفقه التقليدي؛ بينما يعمد القسم الثالث إلى وصف طرق الحلّ التقليدية لمواجهة تحدّيات العصر الحديث؛ وأما سائر أقسام هذا الفصل والفصول القادمة فتعمل على بيان خصائص العالم الحديث واختلافاته عن العالم القديم.

وتتجلّى أهمّية الخوض في هذه الخصائص في الموارد التالية:

1ـ لكي نعمل على تديُّن العصر علينا أن نهتمّ أوّلاً بعصرنة المعرفة الدينية، فإنّ الفهم الديني المنبثق عن ذهنيّة وضمائر سكّان العالم القديم لا يمكنه تلبية الحاجة الدينية لأولئك الذين يعيشون في العالم الحديث.

2ـ إن النصوص الدينية التي تمّ تدوينها في العالم القديم، وتعمل على بيان كلام الشارع، إنّما هي خطابٌ لسكّان العالم القديم، ولكي يتمّ تعميمها إلى العالم الحديث فهي بحاجةٍ ماسّة إلى ترجمةٍ ثقافية، وإنّ سكّان العصر الحديث قبل المبادرة إلى ترجمة النصوص الدينية ثقافيّاً، لن يكونوا قادرين على تكوين فهمٍ وإدارك صحيح ومعقول عن هذه النصوص، فضلاً عن أن يتمكَّنوا من العمل على طبق هذه النصوص، أو يكون للدين دورٌ لائق في تنظيم حياتهم([3]).

إن من الأخطاء الاستراتيجية للتفكير التقليدي هي أنه في مقام التعاطي مع العالم الجديد، وفي مقام استنباط موقف الدين من هذا العالم، يتمسَّك بـ «ثمار» هذا العالم، ويتجاهل «الجذور»، ويعمل على فصل الثمار عن الجذور، متصوِّراً أنّ بإمكانه إدارة المؤسَّسات الاجتماعية الحديثة من خلال الأخلاق والعقلانية التقليدية (الفقه التقليدي)، وأنّ بالإمكان توظيف العلم والتكنولوجيا الحديثة بالشكل المناسب واللائق، دون الالتزام بالأخلاق الحديثة، أو فصل العلوم الطبيعية عن العلوم الإنسانية، وإحلال العلوم الإسلامية محلّ العلوم الإنسانية.

إن أصحاب هذه الرؤية يتصوَّرون أن «العالم الحديث نسخةٌ مكبّرة عن العالم القديم»، من هنا فإنهم يرَوْن إمكانية أن تكون القِيَم والتقاليد السائدة في هذين العالمين واحدةً طبق الأصول، وأن بالإمكان إدارة العالم الجديد بالقِيَم والتقاليد التي كانت سائدةً في العالم القديم.

إن هذه النزعة الفكرية تتغذّى على المعرفة السطحية وغير الناضجة لخصائص العالم الجديد وجذوره، وتقيم فهمها وتفسيرها للنصوص الدينية على أساسٍ من مثل هذه المعرفة.

وعلى الرغم من ذلك يرى مؤلِّف الكتاب أن جانباً من عناصر الثقافة الغربية ـ وخاصّة الأخلاق الاجتماعية والعقلانية الانتقادية لهذه الثقافة ـ من العناصر الحداثوية التي لا يمكن اجتنابها، وإن تناول ثمار ومظاهر الحداثة دون الأخذ بهذه العناصر يؤدّي إلى أزماتٍ اجتماعية مستفحلة ومستعصية، سواءٌ أطلقنا على ذلك مصطلح الحداثوية أو الاغتراب. إن إلغاء العناصر الحداثوية المستفحلة في البلدان الإسلامية هو ذاته الذي يُطلق عليه أحياناً مصطلح «تدجين الحداثة في إطار القومية». ومن هذه الناحية فإنّ هذه العملية وإنْ كانت مناسبة وفي محلّها، إلاّ أن ذلك إذا كان على حساب إلغاء العناصر الحداثوية الحيوية والمتأصِّلة، ومن خلال إحلال الفقه محلّ الأخلاق الاجتماعية، وإحلال العقلانية التقليدية وغير التصحيحية محلّ العقلانية الانتقادية، سيفضي إلى أزمةٍ حادّة، وبدلاً من تدجين الحداثة في إطار القومية سنعمل على التضحية بالحداثة من رأس.

الفصل الثالث: العقلانية التقليدية والعقلانية الحديثة ــــــ

وأما الفصل الثالث فيبحث في «العقلانية الحديثة والعقلانية التقليدية».

وقد توصَّل فيه الكاتب إلى نتيجةٍ مفادها أن عصرنة الفكر الديني رهنٌ بعصرنة العقلانية والأخلاقية التي تغذّي الفكر الديني. وبعبارةٍ أخرى: إن العقلانية الحديثة هي من أهمّ عناصر الحداثة، ولذلك يستحيل التعرُّف على الحداثة دون التعرُّف على هذه العقلانية، واختلافها عن العقلانية التقليدية([4]).

من هنا يعمد المؤلِّف في هذا الفصل إلى تناول خصائص العقلانية الحديثة، ويعمل على تحليل هذه المسألة الحيوية من الزاوية الوجودية والمعرفية. ثمّ يصير إلى تحديد موضوع النقد والتقييم العقلاني؛ ليعمل على تعريف العقل وعلاقة العقلانية بالهويّة الإنسانية، مقسِّماً العقلانية إلى قسمين، وهما: العقلانية النظرية؛ والعقلانية العملية.

أما الموضوع التالي فيختصّ ببيان أنواع العقلانية النظرية والعملية.

وبعد بيان الفوارق بين العقلانية الحديثة والعقلانية التقليدية عمد مؤلِّف الكتاب إلى نقد النزعة العقلية، مبيِّناً نقاط ضعف هذه النقود والتقييمات. بَيْدَ أن السؤال عن عقلانية موضوع ما يشتمل في الحدّ الأدنى على فرضيّتين هامّتين، وهما:

1ـ إن ذلك الموضوع قابل للتقييم، وقابل للاتّصاف بالصفة العقلانية وغير العقلانية، أو المعقول واللامعقول، أو المقبول عقلياً وغير المقبول عقلياً.

2ـ هناك معايير وضوابط تقتضيها العقلانية في ذلك الموضوع.

إن الموارد التي نحتاج إليها تنقسم بلحاظٍ ما إلى طائفتين، وهما:

الأولى: تتألَّف من أمور غير عقلانية، أو تتخطى الأمور العقلية. وإنّ السؤال عن عقلانيتها سؤالٌ في غير محلّه.

الثانية: تتألَّف من الأمور العقلانية، بمعنى أنها تقبل الاتصاف بهذا الوصف. وهذه الطائفة الثانية تنقسم بدورها إلى مجموعتين، وهما: «العقلانية»؛ و«المنافية للعقلانية». وبعبارةٍ أخرى: إن وصف «العقلاني» أو «المعقول» يشتمل على معنيين مختلفين، وأحياناً يتمّ التعبير بـ «المتخطّي للعقلانية» في مقابل «اللامعقول»، وأحياناً أخرى يتمّ التعبير بـ «غير المعقول» بدلاً من «المنافي للعقلاني».

إن السؤال عن عقلانية شيءٍ إنما يكون له معنى إذا افترضنا التسليم بـ «قابلية» الموضوع المنشود للاتّصاف بوصف العقلانية أو اللاعقلانية، وكذلك التسليم بوجود ثوابت مناسبة للنقد والتقييم العقلاني لذلك الموضوع مسبقاً([5]). ولا يستثنى الدين والتقاليد والأخلاق من هذه القاعدة. بَيْدَ أن التأكيد على العقل والعقلانية لا يعني الاستغناء عن التقليد؛ فإن التقليد عبارةٌ عن خلاصة تجارب الأقدمين، وثمرة احتكاكهم بالمسائل النظرية والعملية في مختلف ميادين الحياة.

إن العقلانية تقتضي منا أن نجدّ في المحافظة على تجارب المتقدِّمين، وأن نحرص على توظيفها بالشكل الصحيح. والمهمّ هو أن نعرف كيفية توظيف التقاليد، والأساليب التي تساعدنا على حسن الاستفادة منها. إن القبول غير المتَّزن وغير الناقد للتقاليد، واتّباعها بشكلٍ أعمى، خطأٌ يوازي في مخالفته للعقلانية نفينا وإنكارنا لها بالمطلق. وإن الرجوع إلى التقليد مصداقٌ ومورد من موارد الرجوع إلى العقل الجمعي.

إن المسؤولية الخطيرة التي تقع على عاتق المصلحين المعاصرين لنا تكمن في سعيهم إلى إعادة صياغة التقليد في عصر التجدُّد، والعمل على صياغته «صياغة عقلية».

إن الفهم التقليدي للدين والتديُّن التقليدي هو جزءٌ من السنّة، وهو ـ مثل سائر أجزائها ـ خليطٌ من الحقّ والباطل، والصحيح والخطأ، والمعقول واللامعقول. من هنا فإن المعرفة الدينية والتديُّن التقليدي بحاجةٍ ماسّة إلى النقد العقلاني والأخلاقي.

ولا ينبغي تسرية تقديس الدين وأحقّيته إلى «فهم» و«سلوك» المتديِّنين. كما لا ينبغي اعتبار التأكيد على العقل والعقلانية بمعنى الاعتراض على الحقّ، والاستغناء عن الوحي والدين، والإعراض عن الأنبياء، أو عدم الحاجة إلى تعاليمهم، والتمرُّد على عبادة الله؛ فليس بإمكان العقل أن يملأ الفراغ الذي يخلِّفه الدين في حياة الإنسان، كما لا يمكن للدين أن يملأ الفراغ الذي يتركه العقل في حياته، سواءٌ بسواء.

وإن المزاوجة المنشودة بين العقل والوحي رهنٌ بأن نقيم حواراً عقلانياً بين هذين المفهومين. إن الدين هو ثمرة العقل الإلهي والنبوي، وإن الذي لا ينسجم مع العقلانية هو أن أبادر إلى تعطيل عقلي إزاء عقل الآخر. وهذا الآخر يشمل حتّى الله والنبيّ أيضاً. وإن الإنسان إنما يستفيد من العقل الإلهي والنبوي بمقدار ما يساعده على ازدهار وتنشيط عقله([6]).

الفصل الرابع: العقلانية الفقهية والعقلانية العرفية ــــــ

وأما الفصل الرابع فهو مقارنة بين «العقلانية الفقهية والعقلانية العرفية». ويبيِّن الفارق بين هذين النوعين من العقلانية. إن المقارنة بين هذين النوعين من العقلانية تكتسب أهمّيتها من حيث إنه طبقاً لادّعاء الفقهاء من أصحاب المنهج الأصولي يقوم علم الفقه على ذات المباني العقلائية التي تجري في عُرْف العقلاء بما هم عقلاء.

بَيْدَ أن بحوث هذا الفصل تشير إلى أن الأمر ليس كذلك، وإن بين العقلانية الفقهية السائدة في الحوزات العلمية والعقلانية العُرْفية السائدة خارج الحوزات العلمية اختلافات بارزة وواضحة لا يمكن إنكارها.

وفي الحقيقة إنّ مؤلِّف الكتاب يذهب إلى الاعتقاد بأن المعضلة الجوهرية التي يواجهها الفقه في المرحلة المعاصرة لا تنشأ من ذات الفقه، بل من المباني ومن الفرضيات الأخلاقية والمعرفية للفقه، أو بعبارةٍ أخرى: إنها تنشأ من «العقلانية الفقهية». إن هذه المباني في حقيقتها ليست سوى الأصول والقواعد التي تؤدّي دور المرشد التحقيقي الفقهي، وتبيِّن للفقيه كيف يبدأ تحقيقاته الفقهية، وكيف يصوغها، والمصادر والأدلّة التي يتعيَّن عليه الاستفادة منها، والأدلة التي يجب عليهم عدم الاستفادة منها، وشرائط وخصائص الاستدلال الفقهي المعتبر، ودور ومنزلة العقل والنقل والعرف والتجربة في الاستنباط الفقهي، والذي ينبغي فعله عند تعارض العقل والوحي أو الدليل العقلي والدليل النقلي، وهكذا. ويمكن تسمية مجموع هذه الأصول والقواعد بـ «العقلانية الفقهية»، أو «أخلاق البحث الفقهي».

وعمد مؤلِّف كتاب «أخلاق المعرفة الدينية» في هذا الفصل إلى بيان نقاط الضعف والخلل في هذه العقلانية أو الأخلاق، وأن يثبت أن الحلّ المنشود بالنسبة إلى الكثير من التحدّيات والأزمات التي تتعرَّض لها المجتمعات الإسلامية في العصر الراهن تكمن في التحوُّل وإصلاح هذه العقلانية والأخلاق.

إن العقلانية الفقهية من مسائل «فلسفة الفقه»، وليست من مسائل «الفقه»، أو «أصول الفقه».

يرى المؤلِّف أن الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات الدينية تقوم على «الإصلاح الديني»، وإن الإصلاح الديني يعني في الغالب إصلاح «الفكر» الديني، وليس بمعنى إصلاح «ذات» الدين، وليس بمعنى إصلاح «السلوك» الديني للمتديِّنين. وعليه فإن إصلاح العقلانية وأخلاق التفكير والبحث في المجتمعات الدينية مقدّمة على سائر أنواع الإصلاح الأخرى، بل هي مقدّمة حتّى على إصلاح الفكر الديني. وإن الدليل الذي يمكن لنا إقامته بشأن هذا الادّعاء هو أن المفاسد والمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها إنما يمكن لها الظهور والاتّساع في المجتمع الديني إذا كانت تتمتَّع بتبريرٍ ودعامة دينية. من هنا فإن مكافحة المفاسد السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه المجتمعات رهنٌ بإصلاح الفكر الديني، ولن يكون هذا ممكناً إلاّ من خلال إصلاح الأسس العقلانية والأخلاقية للفكر الديني. وعلى هذا الأساس يعتبر نقد المباني العقلانية والأخلاقية للتفكير الديني عموماً، والتفكير الفقهي خصوصاً، من أهمّ الواجبات الملقاة على عاتق المصلحين والمستنيرين من المتديِّنين في العصر الراهن.

يرى المؤلِّف أن بعض المصلحين والمجدِّدين المسلمين ـ للأسف الشديد ـ يتجاهلون هذه الحقيقة الحيوية والهامّة، ويسعَوْن، من خلال التمسُّك بالعقلانية التقليدية والمباني والفرضيات المعرفية والعقلانية الفقهية الراهنة، إلى المضيّ قُدُماً حتّى بلوغ المرحلة التي يتناغمون فيها مع الحداثويين، الذين يدَّعون النسبية في ما يتعلّق بالعقلانية. بَيْدَ أن النتيجة التي نحصل عليها من خلال التفكير في إطار نموذج العقلانية التقليدية عبارة عن الفتاوى والاستنباطات الفقهية الحديثة، التي ستكون في أحسن حالاتها ـ من حيث الاعتبار والقيمة المعرفية ـ في عرض الفتاوى والاستنباطات الفقهية السائدة والمشهورة، وعند الاعتبار لن تثبت إلاّ في حقّ الشخص نفسه ومَنْ يقلِّده فقط.

وبغضّ النظر عن أن الفتاوى الفقهية التقليدية تتمتَّع في إطار هذه العقلانية بقوّةٍ واعتبار أكثر من اعتبار الفتاوى الفقهية الجديدة، فإنّه إذا اقتنعنا بالمنهج التقليدي في الأبحاث الفقهية سوف نحصل في أفضل الحالات على تكافؤ الأدلّة، بمعنى أننا سنصل إلى فتوى فقيهين أو مجموعة من الفقهاء، ويكون لكلّ واحدٍ منهم أدلّته ومستنداته الدينية. وهذا يثبت أن النصوص الدينية ذات الشأن والعلاقة متعارضةٌ فيما بينها، وتحتاج لذلك إلى تفسير، وفي الحدّ الأدنى يمكن تقديم تفسيرين مختلفين لهذه النصوص.

وعلى هذا الأساس لا يمكن، بناءً على الأدلّة الدينية، تقديم أحد هذين التفسيرين على الآخر؛ لافتراض أن كلا هذين التفسيرين منبثقٌ عن النصوص والأدلة الدينية. وأما إذا كان لدينا تحليلٌ معرفي عن «منشأ» اختلاف الأفهام والتفسيرات فإن هذا التحليل سيقول لنا: إن هذه الاختلافات بنائية، تنبثق عن اختلافات مبنائية أعمق بشأن الفرضيات العقلانية والأخلاقية الخارجة عن الأطر الدينية للفقه، وهي الفرضيات التي تؤسِّس «الركن الخارجي» للمعرفة الدينية. وعليه فإن الحل الأنسب لهذه الاختلافات رهنٌ بدراسة ونقد هذه الفرضيّات.

وبعبارةٍ أخرى: إن الأدلة والمستندات الدينية في دائرة الفقه متعارضة. ولحلّ هذا التعارض وترجيح بعض الأدلة على الأخرى نحتاج إلى نظريّة من خارج الدين. إن هذه النظرية التي تحتوي على أصل أو عدّة أصول تضع بيد الفقيه أسلوب حلّ تعارض الأدلة الدينية، وتبيِّن لهم كيفية حلّ تعارض هذه الأدلة. وإذا سلك الفقهاء في مقام حلّ تعارض الأدلة الدينية طرقاً مختلفة فإن هذا الأمر يثبت أنهم في هذا المقام قد استفادوا من النظريّات المتنوِّعة من خارج الدائرة الدينية([7]).

الفصل الخامس: القبض والبسط النظري للفقه ــــــ

عمد المؤلِّف إلى تخصيص الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب إلى دراسة ونقد ثلاث نظريات حديثة بشأن جدوائية الفقه التقليدي في مقام الإجابة عن تساؤلات العصر الراهن. إن هذه النظريات الثلاث جميعها من آراء المفكِّرين المسلمين الجُدُد، وخاصّة من قراءة الدكتور عبد الكريم سروش لهذه النظريات، واقتباسها، وشرحها وبسطها.

وبذلك يختصّ الفصل الخامس بـ «القبض والبسط النظري للفقه».

يسعى المؤلِّف في هذا الفصل قبل كلّ شيء إلى بيان جوهر دعوى نظرية القبض والبسط النظري للشريعة، ويعمل على شرح لوازمها وتبعاتها في خصوص فهم الدين بالمعنى الخاصّ للكلمة (الشريعة)، ليعمل بعد ذلك على نقد هذه النظرية.

إن بحوث هذا الفصل تنظر بشكلٍ رئيس إلى آراء الدكتور عبد الكريم سروش في ما يتعلق بـ «أنواع المعرفة، و«شأن ومنزلة فلسفة العلم»، و«المقترحات المعرفية»، و«بنية المعرفة والتوجيه».

ويعمد المؤلِّف من خلالها إلى إزاحة بعض نقاط الضعف والإشكالات الموجودة في هذه النظرية.

وفي الحقيقة إن المؤلِّف ـ كما تقدَّم ـ قد درس في الفصل الثاني طرق الحلّ التقليدية المقترحة لإثبات جدوائية الفقه في مواجهة تحدّيات العصر الجديد، ليدرك أنها غير ناهضة ولا تامّة بأجمعها. وإنّما تنشأ عدم جدوائية هذه الحلول من أخذ العقلانية الفقهية الموجودة فيها أمراً مفروغاً عنه، وأنها مسلَّمة ولا غبار عليها. وقد عمد المؤلِّف في الفصل الرابع إلى بيان جانبٍ من أهمّ نقاط ضعف العقلانية الفقهية الموجودة. ويرى المؤلِّف أن طريق العلاج يكمن في العودة إلى العقلانية العُرْفية فقط، وإعادة النظر وتصحيح مسار العقلانية الفقهية في ضوء العقلانية العُرْفية. وبعبارةٍ أخرى: إن المؤلِّف يرى أن المشكلة التي يواجهها الفقه في العصر الراهن تنشأ من المباني المعرفية، أو من أخلاق الاجتهاد (أخلاق التحقيق) والبحث الفقهي. ولذلك فإن طريقة حلّ هذه المشكلة رهنٌ بإصلاح تلك المباني والأخلاق.

من هنا فإنّه في هذا الفصل والفصول اللاحقة يسعى إلى بيان بعض الحلول المستحدثة.

وفي ما يلي نذكر ثلاثة من أهمّ طرق الحلّ في هذا الإطار، وهي: «القبض والبسط النظري للفقه»، و«بسط التجربة الفقهية النبوية»، و«الترجمة الثقافية للنصوص الدينية».

وبطبيعة الحال فإن دائرة هذه النظريات أوسع من الدين بالمعنى الخاصّ للكلمة أي «الشريعة» و«الفقه»، فهو يشمل كلّ الدين والمعرفة الدينية، بَيْدَ أن المؤلِّف قد تعرض في هذا الكتاب إلى مجرَّد دراسة نتائج تطبيق هذه النظريات على خصوص الشريعة والفقه فقط([8]).

توضيح ذلك: إن نظرية القبض والبسط النظري للشريعة، أو نظرية تكامل المعرفة الدينية، نظرية تتعلَّق بتكامل المعرفة الدينية. بَيْدَ أنه منذ انتشار مقالات القبض والبسط وحتّى الآن تمّ تأليف الكثير من الكتب والمقالات المتعدِّدة في نقد هذه النظرية. إن القبض والبسط نظرية بشرية، ولذلك فإنها تقبل النقد والإصلاح والتشذيب. وقد أعلن الدكتور سروش صراحةً أن هذه النظرية تشمل نفسها أيضاً، فيمكن أن تتنوَّع الأفهام بالنسبة إلى هذه النظرية، وأن تكون هناك تفسيرات مختلفة، وإدراكات سطحية وعميقة وأشدّ عمقاً.

يعرض مؤلِّف كتاب «أخلاق المعرفة الدينية» قبل كلّ شيء تقريراً مختصراً عن هذه النظرية، ثمّ يعمد بعد ذلك إلى بيان بعض الملاحظات والانتقادات التي يمكن طرحها بشأن هذه النظرية. فهو يرى أن طريق الحلّ الذي تقترحه نظرية القبض والبسط من أجل المواجهة الصحيحة من قبل الفقه تجاه تحدّيات العصر الجديد عبارة عن عصرنة المعارف البشرية وغير الدينية للمجتهدين والفقهاء. تدَّعي هذه النظرية بحقٍّ أن «الشريعة صامتة»، وأن الفقهاء والمجتهدين في مقام فهم واستنباط الأحكام الشرعية لا يعتمدون على مجرَّد القرآن والسنّة، وإنما يعملون على إدخال الكثير من الفرضيات الظاهرة والكامنة، وإن الكثير من تلك الفرضيات تخضع لمطالعة فرعٍ أو الكثير من فروع العلوم الخارجة عن الدائرة الدينية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. ومن هنا يجب البحث عن السرّ في عدم جدوائية الفقه في مواجهة تحدّيات العصر الجديد في نظريات وفرضيات تكمن في ذهن علماء الدين بشكلٍ غير منقَّح، وسابق على المرحلة العلمية.

وقد أكَّد المؤلِّف ـ ضمن تأييده وتصويبه لهذا الادّعاء ـ على أن مجرّد التعرُّف على العلوم غير الدينية لا يؤدّي إلى حدوث تحوُّل في العلوم الدينية؛ لأن التأثير الذي يتركه تحوُّل المعرفة غير الدينية في المعرفة الدينية ينقسم إلى نوعين: اختياري؛ وغير اختياري. وإن السرّ الرئيس لتجاهل الحوزات العلمية للعلوم غير الدينية يجب البحث عنه في «العقلانية الفقهية». وإنّ جزءاً من هذه العقلانية أو أحد أركانها الأساسية عبارةٌ عن نظرية المعرفة التي ترى في مقام الحصول على المعرفة الدينية حرمة الاستفادة من العلوم البشرية وغير الدينية عن قصدٍ واختيار؛ وذلك بسبب ظنّية نتائج هذه العلوم.

وقد عمد المؤلِّف في الفصول السابقة إلى نقد هذه العقلانية من مختلف الزوايا، ورأى أنّه من دون إصلاح هذه العقلانية، وتناغمها مع «العقلانية العرفية» أو «شريعة العقل» أو تناسبات «العقل السليم»، لن تؤدّي جهود المصلحين والمخلصين؛ من أجل إعادة صياغة المعرفة الدينية وإصلاح المجتمع الديني إلى أيّ نتيجة؛ لأنّ هذا الإصلاح مقدَّم على جميع الإصلاحات الأخرى، بما في ذلك إصلاح المعرفة الدينية، التي تؤكِّد عليها نظرية القبض والبسط.

وبطبيعة الحال فإنّ الإصلاح الذي ينشده الدكتور سروش يشمل إصلاح المتناسبات العقلانية أيضاً، ولكنْ يمكن الادّعاء في الوقت نفسه بأن إصلاح المتناسبات العقلانية مقدَّم على إصلاح سائر المبادئ وفرضيات المعرفة الدينية؛ لأن هذا الإصلاح يشكِّل مقدّمة لسائر الإصلاحات، ويعمل على توجيهها والإلزام بها.

بَيْدَ أن بين الإبهامات الموجودة في القبض والبسط المنشود للدكتور سروش إبهامات ترتبط بماهيّة الفقه والأحكام الفقهية. يصرِّح الدكتور سروش بأن الأحكام الفقهية أحكام «إنشائية» و«اعتبارية»، ويرسم حدوداً واضحة بين العلوم الحقيقية والعلوم الاعتبارية، ويرى أن تأثير تحوُّل العلوم الحقيقية في العلوم الاعتبارية إنما يكون من طريق المبادئ الحقيقية للعلوم الاعتبارية. فهو يقول: إن التناغم بين مختلف فروع المعرفة يعني اجتماعها تحت مظلّةٍ معرفية واحدة، بَيْدَ أنّه لا يوضِّح كيف تجتمع العلوم الحقيقية والعلوم الاعتبارية تحت مظلّةٍ معرفية واحدة؟! وإذا كان علمٌ، مثل: علم الفقه، يشتمل على قضايا اعتبارية وإنشائية فهل يمكن في الأساس اعتباره «علماً»، وعدّه بوصفه فرعاً من فروع «المعرفة»؟!

لو كان الأمر كما يقول الدكتور سروش، من أن ضابط الاستدلال الوحيد في الأفكار الاعتبارية هو «اللغوية» و«الرؤية الواقعية»، ففي مثل هذه الصورة سيؤدّي تأثير العلوم الحقيقية في الفقه إلى إبطال الأحكام التي تفوق الطاقة المحدودة. بَيْدَ أن المؤلِّف يرى أن الحقّ هو أن العلوم المتناسبة هي علوم في الحقيقة، وأن القضايا التي يتمّ بحثها في هذه العلوم «خبرية»، وليست «اعتبارية»، ولا «إنشائية»؛ لأن الإخبار عن «الاعتبار» و«الإنشاء» غير الاعتبار أو الإنشاء.

ولو أننا قبلنا بهذا المبنى في ما يتعلَّق بماهية العلوم المتناسبة ففي مثل هذه الصورة يمكن لنا أن ندَّعي أن فصل الأفكار أو الإدراكات الاعتبارية عن الأفكار أو الإدراكات الحقيقية لا يستلزم تقسيم العلوم إلى: العلوم الحقيقية؛ والعلوم الاعتبارية، بل إن جميع العلوم حقيقية، وإن كلّ علمٍ يخبر عن جانبٍ خاصّ من الحقيقة والواقع.

وعلم الفقه ليس استثناءً من هذه القاعدة؛ لأن هذا العلم ينظر إلى الحقائق التي توجد في عالم التشريع بالوجود الاعتباري. وبطبيعة الحال فإن وجود حقائق هذا العالم مرتبطٌ بالإرادة التشريعية للمقنِّن والمشرِّع، بَيْدَ أن الفرع العلمي الموجود بين فروع المعرفة البشرية الأخرى موجود بين علم الفقه وسائر العلوم أيضاً. إن هذا الارتباط لا يقوم من خلال مبادئ علم الفقه فقط، ولا يتمّ تحديده بالقابلية على الإبطال، بل إن الارتباط من طريق المبادئ إنما هو نوعٌ من أنواع الارتباط([9]).

الفصل السادس: بسط التجربة الفقهية النبوية ــــــ

في الفصل السادس يشرع المؤلِّف في شرح نظرية الدكتور سروش في ما يتعلَّق ببسط التجربة النبوية، ومن ثَمَّ يسعى إلى استنباط لوازم ومضامين هذه النظرية في خصوص فهم الشريعة، وشرحها وبسطها بشكلٍ كافٍ.

يقدِّم لنا هذا الفصل من حيث المجموع قراءةً مختلفة لهذه النظرية عن تلك التي يقدِّمها الدكتور سروش اختلافاً جذرياً. وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الفصل يعمل على نقد أخلاق الاجتهاد القائم من زوايا أخرى، ويقترح «التجربة الفقهية» بوصفها ركناً من أركان الاجتهاد بالمعنى الصحيح للكلمة.

ليس للتجربة الفقهية مكانة في أخلاق الاجتهاد الراهنة، أو ليس لها مكانة مرموقة. في حين أن التجربة الفقهية تمثِّل ركناً هامّاً من أركان أخلاق الاجتهاد المثالي.

تقوم الدعوى الرئيسة للمؤلِّف في هذا الفصل على أن الشريعة في عالم الثبوت (عالم التشريع) تحظى ببسطٍ تدريجي وتاريخي، وإن هذا البسط يتواصل إلى الأبد، ولا يتوقَّف باختتام النبوة ورحيل النبيّ الأكرم|.

إن لهذه الدعوى تبعات منهجية هامّة، وإن تأثيرها على أخلاق الاجتهاد أو أخلاق التفكير والبحث الفقهي تأثير مصيري. فإذا قبلنا بهذه النظرية، التي هي نظرية «وجودية» في ما يتعلَّق بـ «طبيعة» الشريعة و«حيويتها» وانسيابيتها الدائمة، سوف نضطر إلى الاعتراف بـ «التجربة الفقهية» بوصفها واحدة من الأركان والعناصر الرئيسة في الاجتهاد الفقهي، الذي هو نظرية معرفية في ما يتعلَّق بـ «طبيعة» الاجتهاد الفقهي.

وبعبارةٍ أخرى: إن هذا الفصل يقارن بين منهجين مختلفين من الاجتهاد الفقهي. ويمكن تسمية هذين المنهجين بـ (الاجتهاد المتمحور حول القانون)، و(الاجتهاد المتمحور حول المثال والنموذج). وفي النوع الأول يتمّ الاهتمام بشكل وظاهر القانون إلى حدٍّ كبير، مع تجاهل روح وباطن وحكمة وفلسفة هذا القانون؛ وأما في النوع الثاني من الاجتهاد فيتمّ الاهتمام بالحكمة والفلسفة وروح القانون، وينظر إلى الشكل الأوّل بوصفه مصداقاً لمثالٍ أو نموذج.

إن الاجتهاد المتمحور حول القانون يتمحور حول النصّ، وينزع إلى الظاهر، في حين أن الاجتهاد المتمحور حول المثال والنموذج اجتهادٌ تجريبي ينزع إلى الباطن.

إن ارتباط هذا الموضوع بأخلاق المعرفة الدينية واضحٌ؛ فإن هذين الاجتهادين يتبعان في الحقيقة نوعين من أخلاق التفكير والبحث، ويقومان على فرضيات متفاوتة.

إن الاجتهاد المتمحور حول القانون يعمل على تعريف الشريعة (الأخلاق الدينية) من خلال مجموعة من الأوامر الشرعية المتقدّمة، في حين أن الاجتهاد المتمحور حول المثال والنموذج يعمل على تعريف الأخلاق الدينية من خلال اقتباس واستلهام واتّباع المثال والنموذج المقدَّس.

توضيح ذلك: إن المؤلِّف في الفصل الثاني من كتابه «في ميزان الأخلاق» يعمد إلى تعريف الدين بـ «التجربة الدينية وتفسيرها وبيانها»، ويعمد إلى تعريف التديُّن بالأمور التالية:

1ـ التمتُّع بالتجربة الدينية.

2ـ امتلاك بيان صحيح عن هذه التجربة.

3ـ العيش على طبق مقتضيات هذه التجربة (المتناظرة مع «الإيمان» و«العلم» و«العمل»).

إن موضوع ومتعلق التجربة الدينية إما حقيقة وواقعية خارجية، وفي هذه الصورة فإن بيان وتفسير هذه التجربة يتبلور على شكل تعاليم دينية وعقائدية؛ أو حكم ومقترح في باب السلوك والعمل، وفي مثل هذه الصورة يتبلور تفسيره وبيانه إمّا على شكل تناسبات أخلاقية (إرشادية)؛ أو على شكل تناسبات فقهية (مولوية).

إن التقليد الدينيّ بالمعنى العامّ للكلمة عبارةٌ عن التجربة الدينية لأولئك الذين عاشوا في صلب تلك التجربة، وعملوا على تفسير وبيان هذه التجربة، وإن هذا التقليد يشمل التجربة الدينية للنبيّ وتفسيره لهذه التجربة، كما يشمل البسط التالي لهذه التجربة والشروح والتفاسير التالية من قبل أتباع ذلك النبيّ. إن الاتّباع الحقيقي للتقاليد الدينية وتوظيفها الصحيح في عصر الحداثة لا يعني القبول بالبيان والتفسير الذي أفاده المتقدِّمون عن هذه التقاليد، بل يعني السعي إلى بسط التجربة الدينية والصياغة العقلانية للتقاليد الدينية على أساس العقلانية الحديثة.

من هنا فإن الأسئلة الرئيسة التي يثيرها المؤلِّف في هذا الفصل هي:

1ـ ما هي التجربة النبويّة؟

2ـ كيف يمكن بسط التجربة؟([10]).

يذهب المؤلِّف إلى القول بأن دراسة هذين السؤالين يتضمَّن تسليط الضوء على حكم التجربة الفقهية النبوية، التي هي نوعٌ خاصّ من أنواع التجربة النبوية.

وقد توصّل المؤلِّف في ختام هذا الفصل الثاني إلى نتيجةٍ مفادها أن الحضور الحيوي للدين في العالم المعاصر رهنٌ بإعادة فتح أبواب السماء. فمن خلال إعادة فتح أبواب السماء سوف يعود الحوار بين السماء والأرض، وسيعود لله حضورٌ في حياة البشر، وسوف يتحدَّث الله إليهم، ويتولّى هدايتهم، وسيحصل الناس على إمكانية الاستماع إلى كلام الله واتّباع هَدْيه.

بَيْدَ أن ذلك كلّه رهنٌ بالتفسير الصحيح لمفهوم الخاتمية؛ فإنْ كانت الخاتمية تعني أن الإنسان من الآن فصاعداً لم يعُدْ بحاجةٍ إلى واسطة أخرى تأتيه برسالة الله، وأن بإمكانه أن يتَّخذ من الرسول الخاتم قدوةً وأسوة، ويشاركه في تجربته، والسعي إلى بسط هذه التجربة من الارتباط المباشر مع الله والتحاور معه والحصول على رسالته، ففي مثل هذه الحالة يمكن اعتبار ختم النبوة شرطاً ضروريّاً لحضور الله في العالم المعاصر بشكلٍ حيوي. إن الخاتمية تعني تخرُّج البشرية الإنسانية من مدرسة الأنبياء. بَيْدَ أن هذ التخرُّج لا يعني الاستغناء عن المعلم وتعاليمه وتجاربه؛ لأن ما يتمّ تعلُّمه في هذه المدرسة ليس مجرَّد مجموعة من الأصول والعقائد والقواعد السلوكية الثابتة والتعبُّدية، بل هو عرضٌ لنموذج ومنهج وأسلوب التجربة الدينية وأدبيات العيش على طبق هذه التجربة. إن حاجة الإنسان إلى الدين لا تنحصر بالتجربة الدينية، وإن التجربة النبوية إنما تستطيع تلبية هذه الحاجة، بشرط أن لا تتوقَّف بعد رحيل النبيّ، وأن يتواصل بسطها بعد ذلك أيضاً. وكما تقدَّم فإن الأخلاق تتقدَّم على الشريعة، ولازم تقدُّم الأخلاق على الشريعة في عالم الثبوت تقدُّم علم الأخلاق على علم الفقه في عالم الإثبات. وعلى هذا الأساس فإن بسط التجربة النبوية الفقهية لن تكون ممكنة إلاّ من خلال بسط تجربته الأخلاقية، وإن بسط تجربته الأخلاقية لن تكون ممكنة إلاّ من خلال بسط تجربته العقلانية ـ المعنوية. وبذلك يمكن القول: إن بسط هذه التجارب من مقتضيات أخلاق البحث والتفكير الفقهي أيضاً. وكذلك يمكن القول: إن تجربة الفقه النبوي قد تأثَّرت بالعُرْف المعاصر للنبيّ الأكرم| إلى حدٍّ كبير، ولذلك فإن بسط هذه التجربة لا يمكن إلاّ بعد الغوص في أعماق العُرْف المعاصر للنبي. إن بسط التجربة النبوية يجب أن يقترن بالبسط العقلاني والمعنوي خارج الدائرة الدينية؛ لأن اتّباع النبي الخارجي إنما يكون مثمراً إذا اقترن بفضيلتي العقلانية والمعنوية، وهما يكمنان خارج الدائرة الدينية، ويجب حصول هذا الاقتران بالنبيّ الباطني (العقل).

إن من أهمّ خصائص الاجتهاد الذي يتمحور حول النموذج هو أننا في هذا النوع من الاجتهاد نفصل بين ذاتيّات الشريعة وبين الأمور العُرْفية([11]). وإن التفكيك والفصل بين ذاتيات الشريعة وبين الأمور العُرْفية هو موضوع الفصل السابع التالي.

الفصل السابع: الترجمة الثقافية للنصوص الدينية ــــــ

يخوض الفصل السابع في عزل «الذاتيات» عن «العَرَضيات»، ويحتجّ بضرورة الترجمة الثقافية للنصوص الدينية.

ويتمّ في هذا الفصل نقد أهمّ مباني الفقه التقليدي في ما يتعلَّق بماهية الاجتهاد وطريقة تفسير النصوص الدينية، ثم يتمّ بعد ذلك اقتراح أسلوب جديد لتفسير هذه النصوص؛ ليكون بديلاً عن ذلك الأسلوب.

يرى المؤلِّف أن الأسلوب التقليدي لتفسير النصوص الدينية إنما يتناسب مع فهم ذلك الجانب من النصوص الدينية الذي يبيِّن الدين «المطلق»، والذي «يتخطى الدائرة التاريخية».

إن هذا الأسلوب لا يتناسب أبداً مع تفسير الجانب الآخر من النصوص، الذي يعمل على بيان الدين «التاريخي» و«المطبّق» على أوضاع وشروط خاصّة؛ وذلك لأنه يؤدّي إلى فهمٍ خاطئ للنصوص الدينية.

وعليه يجب لفهم هذا الجانب من النصوص الدينية فهماً صحيحاً أن نلجأ إلى أسلوبٍ آخر. وإنّ هذا الأسلوب عبارةٌ عن الترجمة الثقافية. وطبقاً لهذا الأسلوب يتعيَّن على المفسِّرين قبل كلّ شيء أن يعمدوا إلى فصل المضمون الديني لهذا الجانب من النصوص الدينية عن ظرفه ووعائه ـ الذي هو ثقافة عصر النزول ـ، والعمل بعد ذلك على صبِّه في وعاء الثقافة المعاصرة.

ومضافاً إلى ذلك فإن المؤلِّف في هذا الفصل يذكر اثني عشر معياراً مختلفاً للتفكيك بين الذاتيات والعَرَضيات، أو التفكيك بين الظرف والمظروف في مجال الفقه.

كما أن المؤلِّف في هذا الفصل يخوض في بُعْدٍ آخر من أبعاد «أخلاق الاجتهاد كما هي»، ويعمل على مقارنتها بـ «أخلاق الاجتهاد كما يجب أن تكون». وبعبارةٍ أخرى: إنه في هذا الفصل يعمل على نقد التفسير والفهم السائد لماهية الاجتهاد الفقهي، ويقيم بدلاً منه تفسيراً وفهماً جديداً. إن من الخصائص الهامّة للاجتهاد السائد في الحوزات العلمية (الاجتهاد الذي يتمحور حول القانون)، والتي يتمّ نقدها في هذا الفصل، أنّ هذا النوع من الاجتهاد لا يفصل بين «ذاتيات» الشريعة وبين «عَرَضياتها»، ولا يتمّ الفصل فيه بين «الدين المطلق» أو «الدين الذي يتخطّى التاريخ» وبين «الدين الذي تمّ تطبيقه» أو «الدين التاريخي»، وتتمّ تسرية أحكام الدين، أي «المظروف»، إلى «ظرفه» التاريخي. وإن ذلك الجانب من النصوص الدينية التي تحكي عن الدين الذي تمّ تطبيقه، والذي يدخل في الدائرة التاريخية، بدلاً من أن تتمّ «ترجمتها ثقافياً» يتمّ النظر إليها بوصفها من الأمور الخارجة عن الدائرة الثقافية، ويتمّ العمل على ترجمتها «ترجمةً حرفية». في حين أن «الترجمة الثقافية» لهذا القسم من النصوص الدينية جزءٌ من طبيعة الاجتهاد، وشرطٌ لازم وغير قابل للانفصال عن الاجتهاد بالمعنى الصحيح للكلمة.

إن حاجة النصوص الدينية إلى الترجمة الثقافية تنشأ من فرضية أن الدين «مظروف» قُدْسي سماوي قد صُبّ في «ظرفٍ» عُرْفي أرضي، وعليه يجب عدم تسرية قداسة وخلود وأبدية المظروف إلى الظرف. ليس هذا الظرف سوى الثقافة والآداب والأعراف والتقاليد والسنن، وعقلانية وأخلاق المخاطَبين الأوائل بالوحي. وبعبارةٍ أخرى: إن فرضية الترجمة الثقافية للنصوص الدينية تقول: إن هذه النصوص لا تعمل دائماً على بيان أحكام الدين المطلقة، والتي تتخطّى الدائرة التاريخية، وإن جانباً ممّا يأتي في هذه النصوص عبارةٌ عن أحكام تاريخية قد تمّ تطبيقها على عالمٍ قديم، وإن المخاطَب الأول بهذه الأحكام هو إنسانٌ تاريخي، وليس هو إنساناً يتخطّى حدود التاريخ. وعليه لا يمكن تسرية هذه الأحكام مع حفظ قيودها وشرائطها وخصوصياتها إلى العالم الحديث، بل يجب على سكّان هذا العالم أن ينظروا إلى هذه الأحكام بوصفها أمثلةً ونماذج، وأن يتمّ التعاطي معها على أنّها الخطوة الأولى التي تمّ اتخاذها في تلك الحقبة التاريخية لبناء المجتمع الإنساني العادل، وليس بوصفها الخطوة الأخيرة في هذا المسار([12]).

إن من مواطن الضعف الرئيسة التي يعاني منها الاجتهاد المصطلح والسائد في الحوزات العلمية، من وجهة نظر المؤلِّف، بل في الحقيقة إنّ أحد أدلّة عدم جدوائية وكفاءة هذا الاجتهاد في حلّ المشاكل الفقهية العالقة في العالم المعاصر، هو أنه لا يتمّ فيه أخذ الخلط بين الظرف والمظروف ـ حيث يمتزج الدين المطلق (الذي يتخطّى الدائرة التاريخية) بالدين الذي تمّ تطبيقه وممارسته (على المستوى التاريخي) ـ بنظر الاعتبار، ولا يتمّ الالتفات إلى ضرورة الفصل بين هذين المفهومين، بل يتمّ تجاهل هذه النقطة الحساسة والمصيرية تماماً. وإن الفقهاء الذين يترعرعون في صلب هذه السنّة، ويتخرَّجون من هذه المدرسة الفكرية، لا يمتلكون أيّ أسلوب أو آليّة للتمييز والفصل بين ظرف الدين (العرف والثقافة السائدة في عصر النزول) وبين ذات الدين (الشريعة).

ويمكن تلخيص المسائل المبحوثة في هذا الفصل على النحو التالي:

1ـ إن نظرية امتزاج «الظرف» و»المظروف»، أو اختلاط «الدين الذي تمّ تطبيقه» و«الدين المطلق»، أو «الدين التاريخي» و«الدين الذي يتخطّى الدائرة التاريخية»، وبتَبَع ذلك ضرورة ترجمة النصوص ثقافياً، إنّما هي في الأصل نظرية ترتبط بـ «فلسفة الفقه» و«أخلاق الاجتهاد والبحث الفقهي»، وليست نظرية «فقهية» أو «أصولية».

فلو قبلنا هذا الكلام، والتزمنا بهذه النظرية، فإن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية؛ بوصفها الطريق الوحيد للفصل بين الظرف والمظروف، أو تفكيك الدين الذي تمّ تطبيقه عن الدين المطلق؛ وبوصفها الخطوة الأولى في الاجتهاد الفقهي وفهم الشريعة، ستغدو في غاية الضرورة والأهمّية. وبعبارةٍ أخرى: طبقاً لهذه النظرية تكون تلك الطائفة من الأفهام والإدراكات الفقهية التي لا تفصل بين الظرف والمظروف، وتعمل على تسرية أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم إلى العالم الجديد، وتعمل على فرض نمط حياة القدماء وأسلوب عيشهم وثقافتهم وحضارتهم، غير مبرَّرة، وغير قابلة للاتّباع أبداً. فمن دون فصل ظرف الدين عن ذات الدين سوف لا يكون الاجتهاد الفقهي ناقصاً فحَسْب، بل لن يكون اجتهاداً أبداً، وإنّما هو تقليد لما عليه الآباء والأسلاف. وفي الحقيقة فإن الذين يجتهدون في صلب هذا النهج إنما يبادرون إلى إصدار الفتاوى قبل البحث والتحقيق الكافي. وعليه فإن الفتاوى الصادرة من قبل هؤلاء المجتهدين لا تنسجم حتّى مع الموازين التقليدية المتعارَف عليها عندهم؛ إذ طبقاً لهذه الموازين يجب أن تكون تلك الفتاوى صادرةً بعد البحث والتحقيق الكافي عن الدليل.

2ـ إن مساحة هذه النظرية لا تقتصر على الدائرة الفقهية وفهم الأحكام الشرعية فحَسْب، بل تشمل سائر الأجزاء والأبعاد الدينية الأخرى أيضاً. إن هذه النظرية تعمل على بيان أصلٍ تفسيري وهرمنيوطيقي عامّ، وتشتمل على توصيةٍ لكافّة الذين يريدون فهم الدين من العلماء والمؤمنين بوصفهم مخاطَبين بهذه النظرية. إن التوصية العامّة التي يمكن الحصول عليها من خلال هذه النظرية هي أنه يجب الفصل والتفكيك بين ظرف الدين وذات الدين في تفسير النصوص الدينية وفهم العقائد والأحكام الدينية؛ لأن الذي لا يقوم بهذا الأمر يكون ناقضاً للطبيعة العقلانية والمعرفية، ويكون مبتدعاً في الدين أيضاً. وعليه يمكن توظيف الترجمة الثقافية باعتبارها معياراً للتفكيك بين «المحكم» و«المتشابه» أيضاً. وإن محكمات النصوص الدينية هي تلك الطائفة التي لا تحتاج إلى الترجمة الثقافية، وأما متشابِهات هذه النصوص فهي تلك الطائفة التي يكون فهمها وتفسيرها بالشكل الصحيح رهناً بالترجمة الثقافية([13]).

ومع ذلك فإنّ الفقهاء والمجتهدين يكونون هم المخاطَبين بهذه النظرية قبل غيرهم. فعليهم أن يفصلوا أصل أو روح الحكم عن شكله التطبيقي الذي تمّ في صدر الإسلام، وعليهم أن يبدو حساسية تجاه الخصائص الزمانية والمكانية والثقافية والمعاشية في العوالم المختلفة.

نأخذ ـ من باب المثال ـ قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60)، فإنه يبيّن حكماً عاماً في ما يتعلَّق بالدين المطلق الذي يتخطّى الحدود التاريخية، ولذلك فإن هذا الحكم قابلٌ للتطبيق في جميع الأزمنة والأمكنة. بَيْدَ أن ذكر الخيل في هذه الآية إنما هو تطبيقٌ لهذا الحكم العامّ على خصوص ذلك المجتمع، بما ينسجم والوضع الذي كان سائداً في عصر النزول، حيث كانت الخيول تدخل بوصفها عاملاً هامّاً في حسم نتائج المعارك، ولذلك يكون هذا الحكم من الأحكام التي تمَّ تطبيقها.

وإن «جواز التعامل بالمثل مع الأعداء» هو الآخر حكمٌ من أحكام الدين المطلق، إلاّ أن «جواز اتّخاذ الرقيق والعبيد» إنما هو تطبيق لذلك الحكم العامّ في عالم كان يجيز استرقاق المسلم من قبل غير المسلم.

وإن «وجوب الزكاة» حكمٌ من أحكام الدين المطلق، بَيْدَ أن «حصر وجوب الزكاة بالحنطة والشعير والزبيب وما إلى ذلك» إنما هو تطبيقٌ لذلك الحكم العام على المجتمع الزراعي آنذاك، وهو جزءٌ من أحكام الدين التي تمّ تطبيقها في ذلك الحين.

إن حمل المطلق على المقيِّد، وتسرية حكم المقيَّد بهذه القيود على المجتمع الصناعي، أو المجتمعات التي تختلف محاصيلها الزراعية، وبالتالي إلغاء وجوب الزكاة في هذه المجتمعات، عملٌ غير وجيه أبداً؛ فليس لدى العقلاء في مثل هذه الموارد سيرةٌ قائمة على حمل المطلق على المقيِّد.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى «حرمة الاحتكار»، فهو حكمٌ من أحكام الدين المطلق، ولكنّ «حرمة احتكار الحنطة والشعير والأرزّ والملح» إنما هو حكم من أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه في تلك الفترة على المجتمع في صدر الإسلام.

وإن «المنع من شراء وبيع البضائع التي لا تحتوي على فائدةٍ محلَّلة وعقلائية» حكمٌ من أحكام الدين المطلق، والذي يتخطّى الحدود التاريخية، إلاّ أن «حظر شراء وبيع الدم» إنما هو تطبيقٌ لذلك الحكم العامّ على هذا المورد الخاصّ في تلك الفترة الزمنية، التي لم يكن فيها تزريق الدم في عملية إنقاذ الجرحى مكتَشَفاً بعد، فهو لذلك حكمٌ من أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه.

و«إن حرمة القمار» و«حلية الرياضة» كلاهما من الأحكام العامّة للدين المطلق، بَيْدَ أن «حرمة الشطرنج» تطبيقٌ لذلك الحكم العامّ بحرمة القمار في عالم كان يرى الشطرنج نوعاً من أنواع القمار، وإنّ «حلية الشطرنج» تطبيقٌ لذلك الحكم العام بشأن الرياضة في عالمٍ يرى الشطرنج نوعاً من أنواع الرياضة الفكرية. من هنا فإن حرمة وحلية الشطرنج كلاهما من أحكام الدين الذي تمّ تطبيقه على عوالم مختلفة.

3ـ طبقاً لنظرية الفصل والتفكيك بين الظرف والمظروف تكتسب العلوم الحديثة والخارجة عن الدائرة الدينية مكانةً لائقة في فهم وتفسير الدين، وتصبح جزءاً من المقدّمات الضرورية في عملية الاجتهاد. إن العلوم الحديثة هي جزءٌ من العالم الجديد، وتعمل على تعريفنا بهذا العالم الحديث. ولذلك فإن الفهم الصحيح للدين في هذا العالم الجديد لا يكون ممكناً إلاّ من خلال التعرُّف على هذه العلوم. وإن المسألة الأولى التي يتعيَّن على المجتهدين أن يحسموا أمرهم بشأنها هي تحديد نسبة الدين والمعرفة الدينية إلى العقل والعقلانية الحديثة؛ لأن العقلانية الجديدة تعمل على صناعة العالم الجديد، كما تمثِّل مرآةً له، ولا يحقّ لأحدٍ أن يحكم بشأن العالم الجديد من الزاوية الدينية، إلاّ إذا كانوا مواكبين لهذا العالم. وعليه فإن الأسلوب الصحيح لفهم الدين هو أن يجتمع المتخصِّصون في الحوزة العلمية والجامعة على طاولةٍ واحدة؛ من أجل العمل على تفكيك وفصل الدين عن العالم القديم، والعمل بعد ذلك على تطبيقه على العالم الجديد. وفي هذا المورد لا تكون هناك أولوية وأرجحية معرفية لأيّ واحد من الاختصاصات الحوزوية والجامعية، وليس لأحدٍ من المختصّين في هاتين المدرستين حقٌّ للنقض على الآخر في هذا المجال.

4ـ إن النصوص الدينية خليطٌ من تعاليم الدين المطلق، والتعاليم الدينية التي تمّ تطبيقها على العالم القديم، لا أن أحد هذين الأمرين هو الدين. ولذلك فإن الفهم والتفسير الصحيح لهذه النصوص بحاجةٍ ماسّة إلى ترجمةٍ ثقافية، وليس لنا أيّ حقّ في إصدار وتسرية أيّ حكم أو عقيدة إلى العالم الجديد دون القيام بترجمة النصوص الدينية ثقافياً، وقبل تفكيك الظرف عن المظروف؛ فإن هذه العملية غير مبرَّرة من الناحية العقلية، كما تحتوي على معصيةٍ من الناحية الأخلاقية والدينية. ولا يخفى أنه لا وجود لأيّ أصلٍ أوّلي يحتِّم علينا في حال الشكّ في حكمٍ، وعدم العلم بإطلاقه أو تقييده، يحتِّم علينا الحمل على المطلق أو المقيِّد؛ لأن نسبة الاحتياط إلى كلا الطرفين في هذه القضية واحدةٌ، وإن إثبات الإطلاق لحكم مقيَّد في الواقع مخالفٌ للشرع، وهو بِدْعَةٌ، بنفس نسبة إثبات التقييد لحكمٍ مطلق في واقعه.

5ـ إن الاجتهاد أو المعرفة الدينية بالمعنى العامّ للكلمة مسعىً ذو مرحلتين.

أما المرحلة الأولى من الاجتهاد فهو عبارةٌ عن الترجمة الثقافية للنصوص الدينية، والتي ينفصل فيها الدين عن ظرفه السابق.

ونتيجة هذه المرحلة من الاجتهاد هي الوصول إلى الدين المطلق أو الدين الذي يتخطّى الحدود التاريخية، أو الدين الخالص.

وأما المرحلة الثانية من الاجتهاد فهي عبارةٌ عن صبّ الدين في وعاءٍ يتناسب والمرحلة الزمنية. إن نتيجة هذه المرحلة من الاجتهاد قراءةٌ خاصّة للدين، يمكن الالتزام بها واتّباعها على المستوى العملي. وإن هذه القراءة تختلف عن القراءة التي تمّ تطبيقها على العالم القديم اختلافاً جذرياً.

والنقطة الهامّة هي أن العلوم البشرية وغير الدينية الجديدة والخارجة عن نطاق الدائرة الدينية لها حضورٌ مصيري حاسم في كلتا المرحلتين، وهو حضورٌ لا يمكن تجاوزه أو إنكاره.

6ـ إن الفكر الديني يشتمل على فرضيات علمانية، أو تتخطّى الدائرة الدينية. وإن أهمّ وأعمّ هذه الفرضيات عبارةٌ عن القِيَم العقلانية التي تعمل على عقلنة المعتقدات، كما تشكِّل قاعدة لتوجيه القرارات والسلوكيات. إن هذه القِيَم والطبائع العقلانية تعمل على فرز المعتقدات والقرارات والسلوكيات الإنسانية عن المعتقدات والقرارات والسلوكيات الحيوانية وغير الإنسانية، أو المخالفة للإنسانية، وتعمل أيضاً على تفسير مفهوم إنسانية الإنسان، وتصوغ هويّة الإنسان، وترسم إطاراً لإنسانية الإنسان.

إنّ فهمنا وإدراكنا للنصوص الدينية إنما يغدو مقبولاً ومعقولاً في ظلّ هذه المعايير. وعلى هذا الأساس يجب الإيمان بهذه المعايير قبل أن نعمد إلى فهم الدين، وهذا يعني تقدُّم «شريعة العقل» على «شريعة النقل» أو «شريعة الوحي». وهذا هو المعنى الصحيح لـ «النزعة الإنسانية» أو «محوريّة الإنسان» أو «أصالة البشر».

إن مثل هذا التفسير للنزعة الإنسانية هو عين الدين، بل هو جوهره وأُسُّه، ولا يتنافى مع الفكر «الإلهي» أبداً؛ لأن مقتضيات طبيعة الهويّة الإنسانية هي الأحكام النموذجية الناظرة، والحكمُ النموذجي الناظر هو حكمُ الله، وحكمُ العقل أيضاً. وعليه فمن دون تنقيح هذه الطبيعة والقِيَم العقلانية النظرية والعملية، ومن دون تنظيم الفكر الديني لينسجم مع هذه الطبائع والملاكات، لا يمكن لنا أن ننسب عقيدةً أو حكماً إلى الدين، والالتزام به بوصفه من الدين([14]).

7ـ إن نظرية امتزاج الظرف بالمظروف وضرورة الترجمة الثقافية للنصوص الدينية إنّما هي في الأصل نظرية مرتبطة بفلسفة الفقه وأخلاق الاجتهاد، التي تترتب عليها الكثير من النتائج الفقهية والأصولية.

وإن من التَّبِعات المترتِّبة على هذه النظرية أننا إذا التزمنا بهذه النظرية لا يعود بإمكاننا الادّعاء بأن «الظهور حجّةٌ مطلقاً»، بمعنى أنه طبقاً لهذه النظرية تتقيَّد حجّية الظهور بالمورد الذي يكون فيه النصّ موضوع البحث يعمل على بيان حكم «الدين المطلق»، دون حكم «الدين الذي تمّ تطبيقه» على العالم القديم.

ومن باب المثال: عندما يكون الحكم المطلق مرتبطاً بالدين المطلق، وحكم المقيّد مرتبطاً بالدين الذي تمّ تطبيقه على العالم القديم، لا يمكن حمل المطلق على المقيِّد، بمعنى أن المطلق في هذه الموارد يتقدَّم على المقيِّد؛ لأن ظهوره العُرْفي أقوى.

والمثال الواضح على هذه القاعدة الأصولية هو حكم الزكاة والاحتكار؛ فإن كلاًّ من وجوب الزكاة وحرمة الاحتكار من أحكام الدين المطلقة، وأما النصوص التي تحدِّد الزكاة والاحتكار بموارد خاصّة فهي بيان لتطبيق ذلك الحكم على مجتمع صدر الإسلام. ولذلك لا يمكن في هذه الموارد حمل المطلق على المقيِّد، والوصول إلى نتيجةٍ مفادها أن موارد الزكاة في عصرنا هي نفسها موارد الزكاة في العصور القديمة، وأن الاحتكار إنما يكون حراماً في الموارد القديمة نفسها؛ لأن كلّ إنسانٍ عاقل يلتفت إلى امتزاج الظرف والمظروف يدرك أنه لا يجب حمل المطلق على المقيِّد في مثل هذه الموارد. وبعبارةٍ أخرى: إن العُرْف أو العقلاء ليس لديهم قاعدةٌ لحمل المطلق على المقيِّد في مثل هذه الموارد.

الهوامش

(*) كاتبٌ في مجال الفكر الفلسفي الاجتماعي.

([1]) انظر: أخلاق المعرفة الدينية: 33.

([2]) انظر: المصدر السابق: 107 ـ 108.

([3]) انظر: المصدر السابق: 110.

([4]) انظر: المصدر السابق: 185.

([5]) انظر: المصدر السابق: 226.

([6]) انظر: المصدر السابق: 258.

([7]) انظر: المصدر السابق: 260 ـ 261.

([8]) انظر: المصدر السابق: 287.

([9]) انظر: المصدر السابق: 387.

([10]) انظر: المصدر السابق: 390 ـ 391.

([11]) انظر: المصدر السابق: 442 ـ 450.

([12]) انظر: المصدر السابق: 452.

([13]) انظر: المصدر السابق: 534.

([14]) انظر: المصدر السابق: 538.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً