أحدث المقالات

تقريرٌ لكتاب (مسائل ابن زهرة)

د. الشيخ رسول جعفريان(*)

ترجمة: وسيم حيدر

 

إن من بين المؤلفات الجيّدة التي تمّ نشرها في الآونة الأخيرة كتاباً يحمل عنوان: «مسائل ابن زهرة». يحتوي هذا الكتاب على أسئلة كلامية وفقهية تقدّم بها ابن زهرة(749هـ)، وهو من العلماء البارزين، إلى علمين من أساتذته، وهما: العلاّمة الحلّي(726هـ)؛ ونجله فخر المحقِّقين(771هـ)، حيث كانا من مراجع التقليد الفكري والفقهي للشيعة في القرن الهجري الثامن. إن أغلب الأسئلة التي يتمّ طرحها على العلماء في عصرنا إنما تأتي في إطار الاستفتاءات الفقهية فقط، وأما الملحوظ من كتابات المتقدّمين فإننا نجد شيوع الأسئلة الكلامية في عرض الاستفتاءات الفقهية أيضاً. ومع ذلك قد نجد في عصرنا بعض الأسئلة غير الفقهية، ومنها: ما نراه في بعض مؤلفات الشيخ الصافي الگلبايگاني في هذا المجال.

إن خصوصية الاستفتاءات المطروحة في هذا الكتاب ـ وقد يكون أمراً شائعاً آنذاك ـ هو إعطاء الإجابات التفصيلية والتحليلية والاستدلالية، بمعنى أنه لا يتم الاقتصار على مجرّد بيان الفتوى أو النظرية الفقهية فقط، بل يُعمد إلى بيان الأدلة بشكلٍ تفصيلي. هذا مع عدم إنكار وجود الاستثناءات أحياناً، حيث يتمّ الاكتفاء بالبيان المختصر والمقتضب.

إلاّ أن جميع هذه الاستفتاءات ـ قديمها وحديثها ـ، وفي جميع المذاهب، تشتمل على أمرٍ واحد دائماً، وهو أنها في الغالب تحتوي على مسائل تواجه المقلّدين والمكلّفين بشكل يومي وعلى مدى العصور، أي المسائل التي كانت تشغل اهتمام الناس في أدقّ شؤونهم الاجتماعية. نعم، قد يحصل أن يسأل شخصٌ عن حديث أو مضمونه، إلاّ أن الغالب هو السؤال عن الأمور التي يتعاطونها بشكلٍ يومي. ففي ما يتعلق بالكلام يتمّ السؤال عن الأمور الشائعة على الألسن، والتي يحتدم البحث والجدل بشأنها. وفي ما يتعلق بالفقه يتمّ السؤال عن المشاكل الخارجية التي تواجه الناس على المستوى العملي. وهنا نواجه عملياً نوعاً من المعرفة عن الوضع الجاري في الفضاء الفكري لدى الشيعة، بالإضافة إلى أننا نتمكّن من الحصول على معلومات بشأن الحياة الاجتماعية للشيعة أو عامّة الناس في تلك العصور من صُلْب الأسئلة الفقهية.

إن الذي يمكن أن نحصل عليه من مجموع هذا الكتاب ـ الذي يمثِّل نموذجاً بديعاً ونادراً للاستفتاءات الكلامية والفقهية ـ هو ما يشتمل عليه هذا الكتاب من الأمور الهامّة في معرفة الشيعة على أساس العقائد السائدة في ذلك العصر. إن العلامة الحلي ونجله فخر المحقِّقين وابن زهرة نفسه يسعَوْن ـ من خلال امتلاكهم لناصية المصادر ـ إلى بيان المعتقدات الشيعية المتعارفة، بالإضافة إلى آرائهم في هذا الشأن. وحيث كانوا بطبيعة الحال بصدد حلّ معضلةٍ فكرية أو فقهية تتّضح أهمية كتاباتهم في معرفة التشيُّع بشكله الصحيح من وجهة نظرهم. وبطبيعة الحال فإن هذه المرحلة، مثل سائر المراحل الأخرى، كانت تختلف عن سائر المراحل من خلال اشتمالها على بعض العقائد. وهذا ـ بالمناسبة ـ هو الذي يضفي عليها جمالاً وتميُّزاً. لا يجب أن يذهب الظنّ ببعضنا إلى القول بأن جميع العقائد التي يؤمن بها العلاّمة أو نجله شبيهة بعقائد السيد المرتضى والشيخ المفيد والشيخ الطوسي. كما أن بعض هذه الآراء قد تمّ التخلّي عنها لاحقاً. ربما كان من المسائل الجديدة التي تمخَّضت عنها هذه الاستفتاءات هو الاهتمام بهذا الشأن.

وفي ما يلي جولةٌ على بعض هذه الموارد المنتخبة من هذه المجموعة، تساعدنا على فهم أهمِّية هذا النوع من النصوص في معرفة الموارد المذكورة بشكلٍ أفضل. وعليه لا ينبغي أن يذهب بكم التصوُّر إلى أن هذا البحث كامل، بل هو انتقائي محض من قبلي، وقد تمّ بيانه على نحو تقريري أيضاً. إن هذا الاختيار يأتي للتعرُّف على جوانب خاصّة من فكر الشيعة، وخاصّة رأي العلامة الحلي؛ بوصفه من أهمّ المنظِّرين في المدرسة الحلّية، والذي على الرغم من الأعمال المنجزة بشأنه لا يزال بحاجةٍ إلى مزيد من البحث؛ لكي نفي حقّه كما ينبغي. وبطبيعة الحال فإن هذا الانتخاب إنما يأتي على أساس ترتيب الكتاب، دون الأهمّية، ولكنْ ستلاحظون أنه يحتوي على مسائل ممتعة وجديرة بالالتفات.

 

خلق الأرواح قبل الأجساد!

سؤال بشأن الرواية التي تقول: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد»، أو التي تقول: «أنا أوّل الأنبياء خلقاً، وآخرهم لقية»، والرواية القائلة: «إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام»، حيث تمّ السؤال عن تأويل هذه الأحاديث بالقول: ما السرّ في تقديره× بـ «ألفي عام»؟ وما هو نوع الأشهر والأيّام؟ وما الذي يعنيه خلق الأرواح قبل الأجسام؟ وأجسام مَنْ؟ هل هي أجساد الملائكة أم أبدان آدم× وذرِّيته؟([1]). ثمّ هل تنسجم مضامين هذه الأحاديث مع الاعتقاد القائل بأن الأرواح إنّما تخلق (كما في تعبير القرآن) عندما يصل الجسم إلى حالة تسوية البدن؟([2]).

في بداية الأمر يتمّ تقديم جوابٍ مقتضب مفاده: «إن هذه الرواية مشهورة، والتقديرات [المذكورة] غير معلومة للبشر».

وجاء في الجواب التفصيلي: «إن هذه الأحاديث المشهورة لا يُراد منها ظاهرها؛ لأن الأدلة العقلية والسمعية تنافي ذلك». وبذلك فهو يرى أن المضامين والمفاهيم الموجودة في هذه الروايات تشتمل على نوع من الاستعمال المجازي، دون الحقيقي([3]). وإن القبلية والبعدية هنا ليست قبلية وبعدية زمنية، بل تقوم على مبنى «المشارفة». كما أن معنى الجسم أو الروح يختلف عن المصطلح السائد فيهما؛ فقد يكون المراد من الجسم معنى العالم العنصري، ومن الروح معنى «الذوات الكاملة والنفوس القدسية»([4]). ثمّ ينتقل إلى بحثٍ تفصيلي جدير بالاهتمام بشأن ماهية الجسم والروح. إن الأساس في هذا التفسير يقوم على أن الروح في الحدّ الأدنى مقارنة للجسم والبدن، وليست متقدِّمة عليه. والمسألة الهامة في هذا التفسير هي العدول عن ظواهر هذه الروايات ـ وهي غير قليلة ـ، والاهتمام بالناحية العقلية في تفسيرها.

 

ماهيّة المنامات

السؤال التفصيلي الآخر بشأن ماهيّة المنامات والأحلام. وقد استغرق البحث حولها ما يزيد على 20 صفحة([5]). وفي هذا الشأن تمّ توظيف الآيات والروايات، بالإضافة إلى مختلف آراء المتكلِّمين من المعتزلة والأشاعرة وآراء ابن عربي والغزالي ومذهب الفلاسفة والآراء اليونانية والمصرية، وكذلك تحليلات علماء الطبيعة للإدراك والحسّ الإنساني، في خدمة تفسير حقيقة المنام، وفصله؛ باعتباره جزءاً من النبوّة والوحي، إلى: الرؤيا الصادقة؛ وكذلك ما كان منها من أضغاث الأحلام أيضاً. وقد بلغ السؤال حتّى الصفحة 65، وبعد ذلك شرع في الإجابة عنه. وقد اشتمل الجواب في جزءٍ منه على رسالة السيد المرتضى في هذا الشأن أيضاً. والذي شغل بال السائل هو كيفية التمييز بين أنواع الرؤى، وما كان منها حقّاً وما كان منها باطلاً؟ والجواب هو أن المنامات على قسمين: منامات صادقة؛ ومنامات كاذبة. والصادقة منها هي التي يكون فيها لله نوعٌ من التأثير في انطباعها وانعكاسها في الخيال، والكاذبة هي التي يكون ذلك التأثير فيها للشيطان، أو التي يتمّ تأويلها بشكلٍ خاطئ، والمعايير التي لا تكشف عن حقيقة الواقع الخارجي.

وممّا قاله: إن بعض المعتزلة يرى أن المجنون إذا تفوَّه بكلامٍ عقلاني كان ذلك من أفعال الجنّ، ومن كلامهم الذي أجرَوْه على لسانه([6]). كما ذهب الحكماء إلى القول بأن حبس الروح في أثناء النوم للظهور في الحسّ عامل في إطلالتها على الباطن، وإن النوم إنما هو معلولٌ لهذه الظاهرة. يُقدِّم المؤلِّف في هذا الشأن ـ طبقاً لقواعد الحكماء والطبيعيين ـ شرحاً حول آلية انعكاس العقل على الباطن، وتأثيره على الدماغ والمعدة وما إلى ذلك. ومن جهةٍ يتمّ البحث في كيفية انعكاس الصور على الحسّ المشترك الداخلي، ومحلّ تجميع معطيات الحواس الخمسة، أو ما يتمّ التعبير عنه في «لغة اليونانيين» تحت عنوان الـ «نطاسيا»، حيث عمد المؤلِّف إلى شرح مختلف الآراء الواردة فيه، وقول آخر، وهو «لجماعة من الأفلاطونيين وبعض اليونانيين والمصريين»، حيث تدخل هذه الصور متمثّلة في «المثل»، وتمثل الكاذبة فيها ضمناً([7]). لقد أشرت إلى هذه المسائل بشكلٍ عابر. وأعلم أنني لم أتمكَّن في هذه العجالة من توضيح مراد المؤلِّف بشأن حقيقة المنام بشكلٍ صحيح؛ إذ كانت الغاية بيان كيفية مصادر هذه الأبحاث في ذهن المتكلِّمين في هذه المرحلة، من الذين ورثوا العلوم الطبيعية اليونانية والإسلامية، مع مجموعة من الروايات والأخبار.

إلى هنا تمّ بيان سؤالين تمّ طرحهما إلى حدٍّ ما بشكلٍ مشترك وتلفيقي مع مسائل عن العلاّمة الحلي ونجله فخر المحقِّقين. وبعد ذلك صار إلى بيان مسائل خاصة عن كلّ واحدٍ منهما. وأما نحن فسوف نقتصر على بيان بعض مسائل العلاّمة فقط.

 

عذاب القبر

إن أوّل سؤال في هذا القسم يقع حول ماهية «عذاب القبر». يشير السائل إلى الإجماع والآيات والأخبار الدالة على هذا الأمر، ومنها: رواية بشأن معراج النبي الأكرم‘، حيث يُشاهد عذاب جماعة من الناس في السماء السابعة. ثمّ يتحدّث عن ماهية جسم الإنسان وتركيبه بالروح، وأن الجسد بعد الموت يُصاب بنوع من الخمود والتوقُّف، ليعود كلّ جزءٍ منه إلى الموضع الذي خلق منه، ولا يبقى منه سوى حقيقة ملكوتية يمكن للملائكة أن تدركها، وهذا هو ما عبَّر عنه الله سبحانه وتعالى بوصفه جسماً يُشبه ما كان عليه في الدنيا (انظر مثلاً: الآية 61 من سورة الواقعة). والكلام هنا عندما يدور الحديث عن عذاب القبر أو النعيم الذي يحصل عليه الإنسان في القبر، يطال أيّ جسم؟ فهل العذاب هنا يمسّ هذه الحقيقة الملكوتية، وهذا الجسم المثالي، أو أيّ شيء آخر؟ يبدو أن السائل يميل إلى القول بأن الذي يتعذّب أو يتنعّم في البرزخ «هو الروح المخاطب من الإنسان في حقيقة الجسم الروحاني المثالي»، وليس الجسم المنشود لنا. ثمّ يصير إلى ذكر شواهد حول المُحْتَضِر وحضور الأئمّة عنده، وبعض الشواهد الأخرى، ومنها: كلام عليّ الأكبر في يوم عاشوراء لأبيه الحسين×: «هذا رسول الله يُقرئك السلام»، ويريد من العلاّمة أن يجيب عنها بالتفصيل([8]).

والعجيب أن جواب العلامة صريحٌ، وفي غاية الاختصار، إذ يقول: «أما عذاب القبر فلا خلاف فيه بين المسلمين»، ثم يستطرد قائلاً: «وأما ما تضمّنه باقي السؤال (أي تلك التوضيحات التي استغرقت خمس صفحات) فهو من باب الخطابة». ثمّ هناك تأكيدٌ على أن الآيات والروايات تشتمل على أسرار لها معانٍ وتأويلات، ظهر بعضها لبعض الأولياء، وخفي البعض، والله أعلم بالأمور([9]). يكمن فنّ العلامة في إغلاق باب توضيح وتفسير الآيات والأخبار التي يُفضي تلفيقها بالمعتقدات الكلامية، وحتّى بالمعارف من العلوم الطبيعية، إلى نوع من الفلسفات العجيبة، التي هي ـ قبل أن تكون واقعية ـ نوعٌ من الخطابات غير الجديرة بالاهتمام.

 

معرفة الله

السؤال التالي بشأن معرفة الله. يرى الأشاعرة أن هذه المعرفة إنما تكون من طريق السمع فقط، بينما يذهب العَدْلية إلى القول بأنها تكون من طريق العقل. وعلى كلّ حال فإن أصل المعرفة أمر ضروري، وقد رُوي عن الإمام الحسن× أنه قال: «والله ما عبد الله إلاّ مَنْ عرفه، فأما مَنْ لم يعرفه فإنما يعبد ضلالاً».

فما هو الإشكال هنا؟ أو بعبارةٍ أخرى: ما هو السؤال؟ نعلم أن معرفة ذات الله أمر مستحيل. وإذا كان المراد من المعرفة مجرّد معرفة صفات الباري تعالى فيجب عندها العدول عن هذه الرواية ووضعها جانباً، بل هناك من العلماء مَنْ ذهب إلى استحالة معرفة صفات الله أيضاً. وبطبيعة الحال لا شَكَّ في أن بعض الخواص من الأولياء يعرفون الله قطعاً. وقد رُوي عن رسول الله‘، أنه قال: «أنا أعرفكم بالله، وأشدّكم خوفاً منه».

لنفترض الآن أن معرفة الله لا يمكن الحصول عليها إلاّ من خلال المسائل الواردة في علم الكلام ـ والتي لم يكتب لها الوجود إلاّ في مرحلةٍ لاحقة ـ فما هو مصير جيل الصحابة والتابعين الذين لم يعرفوا شيئاً من علم الكلام؟ وما هو المراد من معرفة الله الواردة في رواية الإمام الحسن× في ما يتعلَّق بهؤلاء؟ عندما اطلع الإمام الصادق على تأسيس علم الكلام قال معلِّقاً: أشهد أن أمّ أيمن في الجنّة، وهي لا تعلم شيئاً من علم الكلام. هذا، وقد جاء في الحديث: إن الإيمان نورٌ يقذفه الله في قلب مَنْ يشاء. إن مجموع هذه الأمور تثير الأسئلة التالية:

ـ ما هي معرفة الله؟

ـ هل هي ممكنة؟

ـ ما هي الأهمّية المترتِّبة على وجودها؟

ـ ما هي مكانة علم الكلام؟([10]).

يرى العلامة الحلي في معرض الجواب عن هذه الأسئلة أن معرفة ذات الله هي نوعٌ من المعرفة الناقصة. والدليل على ذلك أن المعرفة والإحاطة الكاملة لا تتعلّق بالله تعالى. كما أن معرفة صفاته ناقصة أيضاً. وعليه يكفي أن نعلم ما هي القدرة، وأنها التمكُّن من القيام بالعمل. وبطبيعة الحال فإن للمعرفة شدّة وضعفاً. وإن معرفة النبي الأكرم‘ والإمام عليّ× أشدّ من معرفة غيرهما. وأما في ما يتعلّق بالقول: إن الإيمان حقيقة مكتوبة في وجود المؤمن يقول العلاّمة الحلي: إن هذه الحقيقة موجودة في قلب الكافر أيضاً، ولكنّه مقصِّر، ولذلك لا يمتلك القدرة على الإدراك، ولا يمكنه الوصول إلى حقيقة المعرفة([11]).

 

الفتوى عن المفتي الحيّ فقط

أما السؤال الآخر للعلاّمة فهو عبارةٌ عن مسألة أثارها في حلقة درسه، حيث قال: إن على العامّي أن يرجع إلى المفتي، أو يسمع عنه مباشرة، أو من طريق ثقة، أو من خلال المكاتبة. فلو أن العامي سمع الفتوى، إلاّ أن المفتي مات، وجب الرجوع إلى المفتي الحيّ، فإذا عمل بفتوى المفتي السابق لا يكون عمله مقبولاً، ووجب عليه القضاء. وأما إذا لم يعثر على مجتهد حيّ فعليه أن يعمل بفتوى المجتهد الميت، مع مراعاة الدقّة، وعندها ستبرأ ذمته، ولا قضاء عليه. ولو أن العامي أخذ الفتوى عن مجتهد لا تتوفّر فيه الشرائط اللازمة للإفتاء، أو أنه أخذ الفتوى عن مفتٍ ثمّ مات، ولم يقصد المجتهد الحيّ ليأخذ منه الفتوى، أو أنه أخذ الفتوى عن كتب المتقدِّمين، ولم يأخذ الفتوى عن مجتهدٍ حيّ، فعندها لن يكون عمله مقبولاً، ولن تبرأ ذمته، وكان عليه القضاء. يقول السائل: إن هذه مسألة هامّة، ويجب إيضاح جميع أبعادها؛ لأن عليها مدار العمل بالشرعيات. والآن حيث العلامة حاضر فالأمر واضح، فالعلامة هو المرجع والمفتي، وليس غيره واجداً لشرائط الإفتاء، وقد انتهت رئاسة الطائفة الإمامية، قديماً وحديثاً، بعد المعصومين، إليه، فكيف يكون الشأن بعد وفاته إذا لم يكن هناك مجتهدٌ جامع لشراط الفتوى غيره، فأيّ كتابٍ من كتب العلامة يمكن الرجوع إليه، وهل بإمكان العلاّمة أن يرشدنا إلى كتابٍ من كتبه كي نرجع إليه في هذا الخصوص، وإذا لم نجد جواب المسألة فيه كيف يكون العمل؟ ومن أين نحصل على حكم تلك المسألة؟

ذكر هنا جوابان عن العلاّمة الحلّي:

الأوّل: شرائط الإفتاء والفتيا مذكورةٌ في كتاب «القواعد»، فمَنْ توفّرت فيه تلك الشرائط أمكن أخذ الفتوى منه. وعلى كلّ حال لا يجوز تقليد الميت. وإذا مات مَنْ هو بشرائط الإفتاء فلا بُدَّ من وجود آخر جامع للشرائط، وإلاّ أشكل وتعذّر أصل التكليف [مسألة كلامية]. ثمّ يؤكّد ثانيةً على عدم جواز تقليد الميّت([12]).

ثم أعاد السائل ذات السؤال، فأرسل له العلامة الجواب هذه المرّة بخطّ نجله فخر الدين على النحو التالي: النقل الأول صحيح، وأما النقل الثاني ـ وهو الأخذ عن الميّت ـ فغير صحيح، والفرض الذي ذكره من إخلاء الله تعالى الأرض من مفتٍ حيّ قائم بشرائط الافتاء محالٌ عند الإمامية([13]).

وقد سبق لي أن كتبْتُ مقالاً في الجذور التاريخية لاشتراط «حياة المفتي»، وذكرت فيه أن إضافة هذا الشرط في فقه مدرسة الحلّة لعب دوراً هامّاً للغاية في تثبيت وترسيخ القيادة والولاية لدى الشيعة في عصر الغيبة منذ تلك المرحلة فما بعد.

وفي موضعٍ آخر من هذا الكتاب هناك سؤالٌ يقول: لو افتقرت المدينة إلى مجتهد يفتي على مذهب أهل البيت^، ولم يتمكن الشيعة من الرجوع إلى المفتي، أو حبسوا عن الخروج إلى مدينةٍ أخرى، وكان عندهم من كتب الأصحاب، فهل يمكن لهم الرجوع إلى تلك الكتب لرفع الإشكال؟ وإذا كان ذلك جائزاً فما هو الكتاب الذي تنصحون به ويمكن الاعتماد عليه؟

وكان جواب العلاّمة: لا يجوز تقليد الكتب التي صنَّفها المتقدِّمون رحمهم الله؛ لعدم جواز تقليد الميت. وعليه يجب استفتاء المجتهد الموجود في وقتهم، ويكفي المكاتبة مع تعذُّر السماع([14]).

 

السوق الذي يمتزج فيه المسلمون باليهود

وهناك عددٌ من الأسئلة المرتبطة بواقع حياة الناس، حيث يقطن السائلون في مجتمعٍ يضمّ غير المسلمين من أهل الذمّة أيضاً، أو أنهم يشترون من سوقٍ يستورد بعض بضائعه من أقطار الكفّار، وعليه ترد على أذهانهم أسئلة بهذا الشأن، نطلع في ضمنها على الوضع المعاشي والحياتي لهؤلاء الناس.

يقول السؤال: لو كان في سوق من بلاد المسلمين يهوديّ يعمل في صبغ الحرير والثياب، وكان العلماء في تلك المدينة يفتون بطهارة اليهودي والنصراني، وهكذا الحكم بشأن السوائل التي تصيب جسمه بطبيعة الحال، فما هو حكم الثياب التي تخرج من تلك المدينة، ولا نعلم طبعاً ما إذا تولى عملها المسلم أم الذمي، رغم علمنا بأن الذي يقوم بهذه الأعمال في الغالب هم من أهل الذمّة؟ فهل يجب غسل تلك الثياب حتماً لأجل الصلاة فيها أم لا ضرورة للفحص؟ وعلى كلّ حال هل هناك اختلاف في حكم الثوب الذي يشتريه من الكافر الحربي أو الذمّي، ويرد فيه بحث الرطوبة وملاقاتها وسريانها عن حكم الثوب المصبوغ في سوق المسلمين ويتمّ شراؤه من مسلم أم لا؟

أما الجواب فهو مختصرٌ، ولا يتجاوز الفقرتين:

الأولى: نعم، يجوز الشراء من سوق البلد، من مسلم أو كافر.

والثانية: إنّ ما يؤخذ من الكافر فهو نجسٌ([15]). وعليه لا يجب الفحص والتحقيق، ولا مورد لذلك إلاّ عند القطع بأخذه من يد الكافر.

والسؤال التالي شبيه بالسؤال المتقدم، مع اختلاف أنه يتحدّث هذه المرّة عن جلد الميتة، الذي يعتبر ـ طبقاً لفتوى علماء ذلك البلد (كالمالكية مثلاً) ـ مدبوغاً وطاهراً، فما الذي يمكن للإمامية أن يفعلوه في مثل هذه الحالة؟ هل يمكن لهم شراؤه، مع عدم العلم بما لو كان من جلد الميتة المدبوغة أو من جلد الحيوان المذكّى؟ وهل يجب السؤال عما إذا كان متّخذاً من جلد الحيوان المذكى أم لا؟

الجواب: الأحوط في ذلك البحث والسؤال، ويقبل قوله في أنه مذكّى أو ميّت.

والسؤال الآخر بشأن الزئبق الذي يتمّ شراؤه من سوق المسلمين من مسلمٍ، هل يجب الفحص عن حاله، والسؤال عن الوعاء الذي كان فيه الزئبق لمّا اشتراه؛ إذ تواتر النقل بأنه يوضع في جلد كلب مدبوغ غالباً؟ فما هو حكمه؟ هل يجب السؤال عن كيفية نقله إلى سوق المسلمين أم لا؟ ولو حصل الاطمئنان لنا بحمله في هذا النوع من الجلود فهل يجب الحكم بنجاسته أم لا يكون نجساً؛ لكون ظاهره صقيلاً؟ وإذا كان نجساً فهل يقبل التطهير أم لا؟

الجواب: لا يجب الفحص عن حاله، ويجب الحكم بطهارته. وأمّا إذا علم المشتري النجاسة حكم بها. وينجس وإنْ كان صقيلاً فهو نجسٌ. وإذا بلغ الماء جميع أجزائه فهو قابلٌ للتطهير، وإلاّ فلا([16]).

 

السؤال عن بعض المخدّرات والمسكرات والحلوى

السؤال التالي حول استعمال «جوز الطيب»، وهو المعروف عند الأطباء بـ «جوز بوّا»، وفي ما يفعل فعله من التخدير وحصول الانتشاء، الذي يحصل عند أكل الحشيشة المحرَّمة، ويستعملها أكثر الفقراء وغيرهم، عندما يكون كثيراً، مثل: الزعفران وعرق اللفاح([17]) والقرنفل([18]) والمرزنجوش([19]) والمسك، سواء أكان مفرداً أو منضمّاً إلى ما يفعل فعله من العقاقير المذكورة وشبهها، طلباً للقوة في تأثير تلك الخاصية المذكورة؟

والسؤال هو: هل يحلّ أكله مع حصول التخدير والانتشاء بسببه، كالانتشاء من الحشيشة المحرَّمة، بل ربما كان زائداً عمّا يحصل من الحشيشة أضعافاً، أم لا يحلّ أكله إلاّ إذا كان يسيراً لا يحصل بسببه ما يحصل من الحشيشة؟ ولا يكون حكمه حكمها في تحريم قليلها، وإنْ لم يحصل من قليلها التخدير والانتشاء؟ وهل يحرم قليل الحشيشة وكثيرها، مستفاداً من عموم قول النبي‘: «كلّ مسكر حرام»؟

والجواب مقتضبٌ: المقتضي للتحريم النصّ العامّ؛ وهذا الجَوْز إنْ كان يفعل فعل الحشيشة كان حكمه في التحريم حكمها.

والسؤال الآخر بشأن المَلْبَن. يقول السائل: ما يقول مولانا [العلاّمة الحلّي] في «المَلْبَن»، هل هو حلالٌ أم حرام؟ فقد نقل بعض العلماء عنكم أنكم تفتون بتحليله. وصورته أن يؤخذ عصير العنب، فيُغْلى على النار حتّى يذهب منه رغوته وما فيه من الوسخ، ثم يذرّ فيه الدقيق، ويجعل فيه من قلب اللوز أو قلب الفستق قدراً يختاره صاحبه، ويسوطه، فإذا غلظ حجمه بما وضع فيه، واستحكم نضجه، أنزله عن النار، وحينئذٍ لا يكون قد ذهب من العصير بالغليان عشره على التقريب، ثمّ يُبْسَط على الحُصْر والبواري حتّى يجفّ بأكثر رطوباته بالهواء أو بالشمس، ويرقّ حجمه جدّاً ويشال باليد متماسكاً لا يتساقط منه شيء، وحينئذ لا يكون قد بقي فيه من الرطوبة العُشْر على التقريب. ثم يُجْعَل بعضه على بعض، وينقل ويباع. أفتنا مأجوراً رضي الله عنك([20]).

والجواب يستند فيه إلى روايةٍ عن الإمام الصادق× تقول: إن «العصير إذا طبخ حتّى يذهب منه ثلاثة دوانيق ونصف، ثمّ يترك حتّى يبرد، فقد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه»، والنتيجة هي الحكم بالحلِّية.

والسؤال التالي عن نوعٍ من الشراب يقال له: «الأقسما»، وصورته أن يؤخذ الزبيب، فيطحن طحناً بالغاً، بحيث يختلط بعض أجزائه في بعضٍ، ثمّ يمرس في الماء مرساً جيداً، ثم يُجْعَل في مصفاة، ثمّ يُؤْخَذ صافيه، فيُجعل في راووقٍ من شعير ينزل من خلاله صافي ما وضع فيه، ويبقى في جوفه ما كثف، ثمّ يؤخذ ذلك الصافي، فيجعله في عُلَب الخشب أو آنية من الفخار التي يختصّ بعمله، ويوضع عليه شيء من الذوب والفلفل المسحوق، وتوضع العُلَب بعضها على بعض، وتغطّى الآنية بغطاء؛ لحفظه من وقوع شيءٍ فيه، ولا يُمنع من وصول الهواء إليه، ويُترك على حاله كذلك نهارين وليلتين، ثمّ يُصَبّ في أواني الزجاج من القناني وغيرها، ويشرب. ويفضل في العُلَب والأواني المختصة بعمله من فضلة بعد ذلك، فيتركونها على حالها ولا يغسلونها؛ لتكون هذه الفضلة وما يحصل بجوانب العُلَب والآنية من الفور؛ بسبب العفن، خميرة للجديد المعمول ثانية، وهكذا دائماً([21]). فهل هذا الشراب المذكور حلالٌ شربه أم حرام؟

الجواب: هذا إنْ كان مسكراً كان حراماً، وإنْ لم يكن فإن حصل غليان ونشيش حَرُم أيضاً. و[على كلّ حال] قد كان فقهاؤنا الماضون ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ يُحَرِّمونه وينجِّسونه، فينبغي العمل بذلك.

 

سؤال حول العبيد

أما السؤال التالي فيقول: ما يقول سيّدنا في عسكر المسلمين إذا دخلوا بلاد «سيس»([22]) وغيرها من بلاد النصارى، وغنموا أموالهم، وسبوا نساءهم وأولادهم، وفي الأولاد أطفال وبالغون. فهل يجوز لبعض الإمامية الشراء منهم؟ وهل يكون حكم الطفل المسبيّ حكم أبيه وأمّه إذا سبي مع أحدهما في لحوق أحكام الكفّار به من التنجيس وغيره أم لا؟ وإنْ سُبي منفرداً عن أبويه فهل يتبع المسلم السابي له في أحكام الإسلام أم لا؟

وعلى كلّ حال ففي ذلك العصر كان يؤتى ببعض الأسرى من بلاد النصارى إلى بلد المسلمين، وكان يتمّ بيعهم وشراؤهم في السوق. والملفت أنه لم يكن واضحاً ما إذا كان هؤلاء الأفراد يؤخذون من بلاد الحرب أم أنه كان يتمّ اختطافهم، حيث يقال في خاتمة السؤال: «هل يكون حكم المسروق من بلاد الكفّار من أموالهم ونسائهم وأولادهم حكم المأخوذ منهم قَهْراً بالمغالبة والقتال أم لا؟».

الجواب: إذا كانوا مستحقّين للسبي [مع توفُّر شرائط الحرب وإطلاق الكافر الحربي وما إلى ذلك عليهم] جاز شراؤهم… وما يؤخذ سرقة فإنه لآخذه، بخلاف المأخوذ بالقتال، فإنه يكون غنيمة، إنْ أخذ بإذن الإمام([23]).

وهناك سؤالٌ عن أرض الشام والعراق والعجم التي فتحت عنوة أو صلحاً، فهل يجوز لكلّ واحد من الإمامية التصرُّف فيما في يده منها بالبيع أو الوقف على أولاده؟

والجواب: كلّ أرضٍ فتحت عنوة بإذن الإمام فإنها للمسلمين قاطبة. وما لم يعلم الإذن أو جهل فتحها عنوة أو صلحاً فإنها تقرّ على مَنْ هي في يده، دون غيره، ويجوز الشراء منه([24]).

ثمّ هناك أسئلة فقهية بشأن مختلف الأبواب الفقهية، من الطهارة والصلاة وغيرهما، مع الإجابة عنها. وفي الأثناء قد نجد امتزاج بعض الأسئلة بالأمور الكلامية. وقد انتخبت من بينها ما بدا لي ملفتاً للانتباه؛ لأعرضه على النحو التالي:

 

حكم شراء ممتلكات الدولة

يقول السائل: ماذا يقول سيّدنا في مَنْ غصب من مسلمٍ مالاً،أو كان متولّياً من قبل ظالمٍ وأخذ من أموال المسلمين ما وضعه الظالم عليهم من الضرائب الديوانية والمكوس، إذا باع أحد منهم شيئاً، أو اشتراه امرؤ في بعض طريقه…، واشترى في ذمّته ثياباً ولبسها، وجارية ووطأها، وداراً وسكنها، وطعاماً وأكله، ودفع ثمن ذلك جميعه من أموال المسلمين التي غصبها، أو ممّا أخذه من أموالهم نيابةً عن الظالم على الوجوه المذكورة، أو ممّا أخذه من الظالم نفسه إذا جعل له شيئاً من المال جامكية([25]) في كلّ شهر على إعانته على ظلمه، فهل يحلّ له لبس الثياب المذكورة والصلاة فيها، ووطء الجارية المذكورة واستخدامها، وسكن الدار المذكورة والصلاة فيها، وأكل الطعام المذكور والتصرُّف فيه؛ لكونه اشترى جميع ذلك في الذمّة، وعليه إثم المال وإعادة مثله إلى أربابه؟

وتأتي أهمِّية هذا السؤال من جهة بيان رأي فقهاء الشيعة بالنسبة إلى الحقوق والوظائف التي يتولاّها الإمامية من حكام الجور، وكذلك الأموال التي يأخذونها بعنوان الضرائب والمكوس أو الجامكية، وليس لها وجه حقّ شرعي. والسؤال هنا: ما هو حكم هذه الأموال والتصرُّف فيها؟

والجواب: كلّ ما اشتراه في الذمّة يجوز التصرُّف فيه، وإنْ دفع المغصوب عِوَضاً عن الثمن. وأمّا الصلاة في أوّل وقتها فلا يجوز مع المطالبة.

 

حكم الردّة

يسأل السائل: بماذا يحصل الارتداد؟ هل هو بأن يحرِّم شيئاً ممّا اجتمعت الأمة على تحليله، أو يحلل شيئاً مما اجتمعت الأمة على تحريمه، أم الارتداد يحصل بإنكار ما ذكره السيد المرتضى& في «انتصاره» ممّا انفردت به الشيعة الإمامية؟ على أنه لم يسلم الكتاب المذكور من الخلاف في بعض مسائله. وهل تجري المسائل التي اختلف الأصحاب من الشيعة الإمامية فيها…، وانفردوا بها عن مخالفيهم، وذهب كلّ واحد منهم إلى قول مسألة معيّنة، واستدلّ على اختياره فيها، وقوّاه وضعّف ما سواه، مجرى ما ذكره السيد في «انتصاره» أم لا؟ وإذا حصل الارتداد بواحدٍ من الطريقين المذكورين، وعلم ذلك الشخص أنه قد ارتدّ ـ كان عالماً بما يوجب الارتداد ـ وعلم الغير ذلك من حاله، أو لم يعلم أنه قد وقع منه [ما] يصير به مرتدّاً ـ إنْ كان جاهلاً بما يوجب الارتداد ـ، وعلم ذلك من حاله أو لم يعلم الغير في الحالين، وعلم ذلك الشخص أنه قد فعل ما يوجب الردّة، أو كان جاهلاً به في الحال وعلم فيما بعد، ولم يقم حدّ الارتداد عليه؛ لعدم مَنْ يقيم الحدود من زمان الغيبة، هل يكون حكم هذا الشخص المرتدّ حكم الكافر في جميع الأحوال، وتجري عليه أحكامهم، أم لا؟ وهل يجوز مناكحته للمؤمنة إذا حكم بأنه كافر ولم يُقَم حدُّ الارتداد عليه أم لا؟

الجواب: الارتداد يحصل بإنكار ما يُعْلَم ثبوته من الدين ضرورةً، مع علمه بذلك. ولا يحصل الارتداد بإنكار ما ذكر السيد المرتضى& أنّه ممّا انفردَتْ الإمامية به. ولا تجري المسائل التي اختلفت الإمامية فيها مجرى ما ذكره السيد في «انتصاره» في عدم الارتداد بإنكاره. وإذا ارتدّ عن فطرةٍ حكم عليه بأحكام الكفّار، إلاّ في تزويج الكافرة، ولا تجوز مناكحته([26]).

 

حكم ولد الزنا

يقول السائل: ما الدليل في الحكم على ولد الزنا بأنه كافرٌ؟ وما السبب المقتضي لذلك إذا كان قد ولد على فطرة الإسلام، وهو معتقدٌ الإيمان، من التوحيد والعدل والنبوّة وإمامة الأئمة^ والعمل بأركان الشريعة؟

ويجيب العلاّمة عن هذا السؤال بالقول: الحكم بكفر ولد الزنا، مع اعتقاده الإيمان، ليس بمعتمدٍ([27]).

وهنا يتمّ نقد عددٍ من آراء السيد المرتضى بشدّةٍ، ومنها رأيه القائل بكفر «أهل الإثبات» مثلاً، وهي العقيدة التي أسَّس لها أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم. فيرد السؤال إلى العلامة الحلي، ويُستجلى رأيه في هذا الشأن؟

وقال العلاّمة الحلي في الجواب: لا يخرج معتقد الإثبات عن الدين، ولا إلى الفسق. نعم، هو مخطئٌ غالطٌ في اعتقاده ذلك، ولا يخرج عن العدالة.

كما قال السائل: ما يقول سيدنا في ما ذكره السيد المرتضى& من «أن المقلّد لغيره في العقليات كافرٌ»، وما ذكره الشيخ المفيد& من «أن مقلّد كلّ فريق ملحق به، فمقلد المؤمن مؤمن، ومقلد الكافر كافر»؟ وما يقول سيّدنا في مَنْ يتوالى أمير المؤمنين والأئمة من ولده ـ صلوات الله عليهم ـ، ويتبرّأ من أعدائهم، ولا يعلم التوحيد والعدل والإمامة كلاًّ منها على سبيل التفصيل، بل يعلم ذلك على سبيل الجملة، لكن لو سُئل عن الدليل على مسألة من المسائل المذكورة لما أمكنه الاستدلال، ثمّ مات على هذه الحالة؟ ما حكمه؟

الجواب: لا يصحّ التقليد في العقليات، ولا يُحكم بإيمانه. نعم، مَنْ قصرت قوّته المميّزة عن إدراك اليقين بالأدلّة، وقلّد أهل الحقّ، فهو مستضعفٌ، يُرجى له النجاة في الآخرة([28]).

ويسأل سائلٌ هذا السؤال نفسه، ويقول: ما يقول سيّدنا في شخصٍ يُنمى إلى الشيعة الإمامية، ويعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده^، ويتبرّأ من أعدائهم، وهو عارٍ من معرفة الله تعالى وتوحيده وعدله كما يجب، ومعرفة ما يجب نفيه عن الله تعالى من الصفات، ومعرفة ما يجب إثباته منها، وأوقع العبادات المكلَّف بها مخلاًّ ببعض واجباتها، ومات على هذه الحالة؟ ما حكمه؟

وجواب العلاّمة الحلي عن ذلك هو: لا نحكم بإيمانه، بل يكون مستضعفاً.

إن هذا النوع من الأسئلة يعكس أن السلوك المتشدِّد ـ من قبل المعتزلة على الكلام الشيعي، وجعله قاسياً في بعض مراحله، وكان للسيد المرتضى والشيخ المفيد تأثير في بلورته ـ كان لا يزال في تلك المرحلة الزمنية يشغل أذهان الشيعة، وأخذ طريقه إلى الذوبان والانحسار في المدرسة الحلّية في علم الكلام. وفي البحوث التالية تطالعنا كذلك بعض الأسئلة بشأن السيد المرتضى، ومنها: السؤال القائل: إذا اعتقد الإنسان صحّة ما ذهب إليه السيد المرتضى& في «الذريعة»، والحمصي([29]) في «المصادر»، وغيرهما ممَّنْ تكلّم في أصول الدين على طريقة السيد المرتضى، خلافاً لما ذهب إليه الشيخ المفيد& ومَنْ تبعه في بعض المسائل، هل يكون مخطئاً في هذا الاعتقاد؟

وكان جواب العلاّمة الحلّي عن هذا السؤال بالقول: كلّ مَنْ اعتقد خلاف الحقّ فهو مخطئٌ([30]). ويبدو أن السائل يحاول ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ أن يثير العلاّمة إلى قول شيءٍ ضدّ السيد المرتضى، بَيْدَ أن العلامة الحلّي يؤثر عدم خروج الإجابة عن الإطار العامّ.

 

السؤال عن القرآن

وبعد الكثير من الأسئلة الكثيرة والمتفرّقة حول المسائل الفقهية والكلامية، هناك سؤالٌ موجَّهٌ إلى العلاّمة الحلّي عن القرآن، يقول السائل: ما يقول سيدنا ـ أدام الله ظلّه ـ في القرآن الكريم الموجود بين الأمّة، هل نقص منه شيءٌ بعد وفاة النبي‘، أو زيد فيه شيءٌ، أم لا؟

وكان جواب العلاّمة عن ذلك: «قد اختلف النقل في ذلك. والأقوى أنه لم ينقص منه شيء»([31]).

 

السؤال عن الخمس والسهم الخاصّ بالإمام×

المسألة الهامّة الأخرى التي شغلت تفكير الشيعة في تلك المرحلة هي مسألة الخمس، وخاصّة سهم الإمام المعصوم×، والتي كانت في غاية الأهمِّية بالنسبة لهم. يقول السائل: هل يجب إخراج الخمس على الفور، أم بعد ما يلحق الشخص من مؤونته وكلفته وكسوته ونفقة عياله ومماليكه ودوابّه… طول سنته؟ وماذا يفعل بالمستَحَقّ للإمام×، وهو نصف الخمس؟ هل يوصي به عند الموت ويسلِّمه إلى ثقة، ويوصيه أن يفعل به ما فعله هو من تسليمه إلى ثقةٍ آخر، إلى أن يصل إلى الإمام×، أو يدفنه في الأرض، أو يصرفه إلى مستحقّ الخمس، وهم الأصناف الثلاثة، زيادةً على أقسامهم؟

وقد أجاب العلاّمة الحلي عن ذلك قائلاً: الخمس لا يجب على الفور في التجارات والصناعات والزراعات مقدِّمة، فيجوز تأخير الأداء إلى آخر الحَوْل احتياطاً له. وما يستحقّه الإمام× يجوز الإيصاء به وإيداعه عند الثقة، وهكذا إلى أن يصل إلى صاحبه×، وأن يفرَّق في باقي الأصناف بإذن الحاكم([32]).

والملفت أن ذات هذا السؤال قد تمّ طرحه على فخر المحقِّقين؛ إذ يقول السائل: هل يجوز للفقيه المأمون من الإمامية الجامع لشرائط الإفتاء أو مَنْ أذن له الفقيه، تفريق حصّة صاحب الزمان× من الخمس في باقي المستحقين من الأصناف الثلاثة، مع قصور مستحقّهم عن كفايتهم، أم يجب حفظه والوصيّة به من شخصٍ إلى شخص، وهكذا حتّى يصل إلى مستحقّه×؟ وكان جواب فخر المحقِّقين عن هذا السؤال قوله: بل هو مختصٌّ بالذي لا مالك له، والأمر في مال الإمام× وتفريق ذلك وعدمه راجعٌ إلى اجتهاد حاكم الشرع؛ إنْ أدى اجتهاده إليه فعله؛ وإلاّ فلا([33]). وعلى هذا الأساس يكون فخر المحقِّقين قد تقدَّم خطوةً إلى الأمام، وقال بجواز تقسيم سهم الإمام× بين المستحقّين أيضاً.

 

الهوامش

(*) أحد أبرز المؤرِّخين الإيرانيّين المعاصرين، ورئيس قسم التاريخ في جامعة طهران، ورئيس مكتبة الإسلام وإيران التخصُّصيّة، والرئيس السابق لمكتبة مجلس الشورى الإسلامي.

([1]) مسائل ابن زهرة: 50.

([2]) مسائل ابن زهرة: 53.

([3]) مسائل ابن زهرة: 54.

([4]) مسائل ابن زهرة: 55.

([5]) مسائل ابن زهرة: 61 ـ 82.

([6]) مسائل ابن زهرة: 74.

([7]) مسائل ابن زهرة: 78.

([8]) مسائل ابن زهرة: 91.

([9]) مسائل ابن زهرة: 92.

([10]) مسائل ابن زهرة: 96.

([11]) مسائل ابن زهرة: 97.

([12]) مسائل ابن زهرة: 99.

([13]) مسائل ابن زهرة: 100 (ذات المسألة الكلامية).

([14]) مسائل ابن زهرة: 112.

([15]) مسائل ابن زهرة: 101.

([16]) مسائل ابن زهرة: 102.

([17]) اللفّاح: نبت عشبي سام طبي، من الفصيلة الباذنجانية، ويُسمى البيروح، ينبت برّياً في بعض أنحاء الشام. (المعجم الوسيط: 832).

([18]) القرنفل: جنس أزهار مشهورة، تسمّى: المشتري، وهي من الفصيلة القرنفلية، وتطلق على جنبة من الفصيلة الآسيّة، تزرع في البلاد الحارّة لاستعمال أزهارها المجفّفة تابلاً. (المعجم الوسيط: 731).

([19]) المرزنجوش أو المردَقوش: بقل عشبي عطري زراعي طبّي، من الفصيلة الشفويّة، وعربيته: السَمسَق. (المعجم الوسيط 2: 862).

([20]) مسائل ابن زهرة: 103.

([21]) مسائل ابن زهرة: 104 ـ 105.

([22]) سيس [سيسيه]، وعامّة أهلها يقولون سيس: بلدٌ هو اليوم أعظم مدن الثغور الشامية بين أنطاكية وطرسوس على عين زربة، وبها مسكن ابن ليون سلطان تلك الناحية الأرمني. قال الواقدي: جلا أهل سيسية ولحقوا بأعالي الروم في سنة 94 أو 93. (ياقوت الحموي، معجم البلدان 3: 297).

([23]) مسائل ابن زهرة: 106.

([24]) مسائل ابن زهرة: 108.

([25]) جامكية (معرّب: جامگي): الحقوق والرواتب التي تعطى لموظَّفي الدولة.

([26]) مسائل ابن زهرة: 13.

([27]) مسائل ابن زهرة: 115.

([28]) مسائل ابن زهرة: 116.

([29]) الحمصي: الشيخ الإمام سديد الدين محمود بن عليّ بن الحسن الحمصي الرازي، علاّمة زمانه في الأصولين، ورع ثقة. له تصانيف، منها: التعليق الكبير العراقي، المصادر في أصول الفقه، التبيين والتنقيح في التحسين والتقبيح، بداية الهداية، نقض الموجز للنجيب أبي المكارم. قال الشيخ منتخب الدين بن بابويه في فهرسته المشهور: حضرت مجلس درسه سنين، وسمعت أكثر هذه الكتب بقراءة مَنْ قرأ عليه. (الخوانساري، روضات الجنات 7: 158).

([30]) مسائل ابن زهرة: 128.

([31]) مسائل ابن زهرة: 126.

([32]) مسائل ابن زهرة: 129.

([33]) مسائل ابن زهرة: 137.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً