أحدث المقالات
تمهيد

وقفتُ مؤخراً على دراسة نشرت في العدد الثاني من مجلّة الواضحة، الصادرة عن <دار الحديث الحسنيّة>، في المغرب، والمؤرّخ في 1425هـ ــ 2004م، تحت عنوان: أصول الفقه عند الشيعة الإمامية، تقديم وتقويم الدكتور أحمد الريسوني، الأستاذ في جامعة محمّد الخامس في الرباط، وهو الذي التقيته بلقاء أخوي أثناء زيارتي للمغرب مؤخراً.

وقد قرأت المقال، ووجدت فيه بعض الموضوعات التي تستحقّ البحث والنقاش، وهي ما يلي:

1 ــ تأخّر الشيعة في تدوين علم الأصول عن السنّة.

2 ــ أدلّة الأحكام عند الشيعة الإمامية، ومنها سنّة الأئمة الإثني عشر والإجماع.

3 ــ الإماميّة ترفض الأخذ بالقياس والاستصلاح؛ لأنها أدلّة ظنيّة، وتعمل في الوقت نفسه بالظنيّات كأخبار الآحاد.

4 ــ الإمامية تقول بحجّية الدليل العقلي، بينما ترفض القياس، وهو من بديهيّات العقول وأوليّاتها.

5 ــ الإماميّة ترفض حجيّة المصلحة، لكنّها تأخذ بها بأسماء وأشكال متعدّدة.

ويجدر أن أشير في البداية إلى أنّني حين أضع هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم، لا أنفي حتميّة النقاش الصريح والنقد الحرّ المتبادل؛ لأنّ التقريب المنشود لا يمكن أن يُبنى على المجاملة أو المحاباة، فهو بحاجة إلى تحسين الظن، وتهذيب الخطاب، وتحمّل النقد؛ بحثاً عمّا فيه من حقّ لقبوله، لا بحثاً ــ فقط ــ عمّا فيه من مداخل لنقضه وتسفيهه.

1 ــ أصول الفقه بين الشيعة والسنّة، التقدّم في التأسيس أو التدوين

يقوم واقع العلم المنتشر بأمرين:

1 ــ إلقاء الأفكار التي تنقدح في أذهان المؤسّسين على تلاميذهم.

2 ــ تدوين الأفكار من قبل المؤسّسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا منهم.

وليس علم الأصول شاذّاً عن هذه القاعدة؛ فإذا كانت الغاية من علم الأصول تعليم الفقيه كيفيّة إقامة الدليل على الحكم الشرعي، واستنطاق الأدلّة الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة، فإنّ أئمة أهل البيت ( لا سيّما الإمامين الباقر والصادق H هم السابقون في هذا الميدان، فقد أملوا على أصحابهم قواعد كليّة تتضمن قواعد أصوليّة تارةً وقواعد فقهيّة تارة أخرى، فربّوا جيلاً كبيراً من الفقهاء في مجال الاجتهاد والاستنباط، حفلت معاجم الرجال والتراجم بأسمائهم وآثارهم.

فمن سبَر ما وصل إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني والثالث، ممّن تربّوا في أحضان أهل البيت (، يقف على مدى رقيّهم في سلّم الاجتهاد، ومن باب المثال، انظر إلى ما بقى إلى هذا الوقت من اجتهادات تلاميذ الإمامين الصادقين H، نظير: 1 ــ زرارة بن أعين (150هـ) الذي يقول في حقّه ابن النديم: <زرارة أكبر رجال الشيعة فقهاً وحديثاً>. 2 ــ محمّد بن مسلم الثقفي (150هـ). 3 ــ يونس بن عبدالرحمن (208هـ). 4 ــ الفضل بن شاذان (260هـ)، مؤلّف كتاب الإيضاح المطبوع، إلى غيرهم من الفقهاء البارزين، الذين تركوا تراثاً فقهيّاً مستنبطاً من قواعد أصولية وفقهيّة على نحو يبهر العقول، وقد ذكرنا شيئاً من فتاواهم واجتهاداتهم في بعض كتبنا([1]).

وقد كانت اجتهاداتهم واستنباطاتهم في ضوء قواعد تلقّوها عن أئمّتهم ( واستضاؤوا بنور علومهم فيها، وقد جاءت هذه القواعد مبثوثةً ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثيّة.

وقد قام جماعة من المحدّثين بفصل هذه الروايات وجمعها في مكانٍ واحد، نذكر منهم:

1 ــ العلاّمة المجلسي (1037 ــ 1110هـ)، فقد جمعها ضمن موسوعته الكبيرة بحار الأنوار، في كتاب العقل والعلم([2]).

2 ــ الشيخ الحر العاملي (1104هـ)، الذي ألّف كتاباً مستقلاً في هذا المضمار، أسماه: الفصول المهمّة في أصول الأئمة، وقد اشتمل على 86 باباً، أودع فيها الأحاديث التي تتضمّن قواعد أصوليّة وفقهيّة ممّا تقوم عليه عملية الاستنباط.

3 ــ المحدّث الخبير السيّد عبدالله شبّر (1242هـ) الذي صنّف كتاباً أسماه: الأصول الأصليّة والقواعد الشرعية، ويحتوي مائة باب، وقد طبع الكتاب في 340 صفحة.

4 ــ وأخيرهم لا آخرهم، العلاّمة الفقيه السيّد محمد هاشم الخوانساري الإصفهاني (1318هـ) الذي خاض بحار الأحاديث وصرف برهةً من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية عن أهل البيت (، ووضعها في كتاب سمّاه: أصول آل الرسول، أورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع، ولو أسقطنا المتكرّر منها لكان في الباقي غنى وكفاية، وهذا يشهد على تقدّم أئمة أهل البيت ( في تأسيس الفكرة وهداية الأمّة إلى تلك القواعد والأصول.

هذا، وإنّ كثيراً من أئمّة الفقه كانوا سبّاقين في التأسيس لا في التدوين، وإنّما قام بالتدوين تلاميذ منهجهم، ومن المعلوم أنّ الفضل للمؤسّس لا للمدوّن؛ فهذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (150هـ) أحد أئمّة المذاهب الأربعة، ومؤسّس الفقه الحنفي، قد أسّس مدرسةً فقهيّة توسّعت على يد تلاميذه، وأخصّ بالذكر منهم تلميذه المعروف محمّد بن الحسن الشيباني (131 ــ 189هـ)، والقاضي أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (113 ــ 182هـ)، وهذان الفقيهان اتّصلا بأبي حنيفة وانقطعا إليه، وتفقّها على يديه وبهما انتشر المذهب، والفضل للمؤسّس لا للمدوّن.

وهذا هو أحمد بن محمّد بن حنبل (164 ــ 241هـ) الحافظ الكبير، الذي لم يصنّف كتاباً في الفقه يُعدّ أصلاً ومرجعاً، وإنّما جمع أصوله تلميذ تلميذه (الخلاّل) من الفتاوى المتشتّتة الموجودة بين أيدي الناس، وجاء من جاء بعده فاستثمرها وبلورها حتّى صارت مذهباً من المذاهب، يقول الشيخ أبو زهرة: <إنّ أحمد لم يصنّف كتاباً في الفقه يُعدّ أصلاً يؤخذ منه مذهبه ويُعدّ مرجعه، ولم يكتب إلاّ الحديث>([3])، ومع هذا، فقد صقل تلاميذه مذهبه، وألّفوا موسوعةً فقهية كبيرة، كالمغني لابن قدامة.

أمّا مسألة التدوين، فهي وإن كانت أمراً مهمّاً قابلاً للتقدير، لكنّنا لا نخوض فيها، على الرغم من وجود تأليفات في أصول الفقه للشيعة الإماميّة، يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري، ومن سبر تاريخ الحديث والفقه ودور الأئمّة الإثني عشر، وخاصّة الباقر والصادق H، في حفظ سنّة النبي 2 وتوعية الناس، يقف على أنّ حضور مجالسهم كان واسعاً جدّاً، فكان يحضر فيها فئات مختلفة من طوائف المسلمين، وكانت خطاباتهم موجّهةً إلى عامّة الحاضرين؛ فإنّ الفوارق التي نشاهدها اليوم بين السنّة والشيعة لم تكن في عصر الإمامين H على حدّ يصدّ غير شيعتهم عن الاختلاف إلى مجالسهم ومحاضراتهم، فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريقٌ من التابعين وتابعي التابعين، من غير فرق بين من يعتقد بإمامتهم وقيادتهم، أو من يرى أنّهم مراجع للعقائد والأحكام.

وهذا هو التاريخ يحكي أنّ حلقة درس الإمام الصادق كانت تضمّ عدداً كبيراً من رجال العلم، وها نحن نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم:

1 ــ النعمان بن ثابت (150هـ) صاحب المذهب الفقهي المعروف، يقول محمود شكري الآلوسي في كتابه مختصر التحفة الإثني عشريّة: <هذا أبو حنيفة وهو من بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يريد السنتين اللتين صحب فيهما ــ لأخذ العلم ــ الإمام جعفر الصادق %>([4])، ويقول أبو زهرة: <وأبو حنيفة كان يروي عن الصادق كثيراً، واقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف، والآثار لمحمّد بن الحسن الشيباني فإنّك واجدٌ فيهما روايةً عن جعفر بن محمّد في مواضع ليست قليلة>([5]).

2 ــ مالك بن أنس (179هـ)، وكانت له صلة تامّة بالإمام الصادق %، وروى الحديث عنه، واشتهر قوله: <ما رأت عينٌ أفضل من جعفر بن محمّد>.

3 ــ سفيان الثوري (161هـ) من رؤساء المذهب وحملة الحديث، وكان له اختصاص بالإمام الصادق، وقد روى عنه الحديث، كما روى كثيراً من آدابه وأخلاقه ومواعظه.

4 ــ سفيان بن عيينة (198هـ)، وهو من رؤساء المذاهب البائدة.

5 ــ شعبة بن الحجاج (160هـ)، خرّج له أصحاب الصحاح والسنن.

6 ــ الفضيل بن عياض (187هـ)، أحد أئمة الهدى والسنّة، خرّج له البخاري.

7 ــ حاتم بن إسماعيل (180هـ)، خرّج له البخاري ومسلم، أخذ عن الصادق % وأخذ عنه خلقٌ كثير.

8 ــ حفص بن غياث (194هـ) روى عن الصادق % وروى عنه أحمد وغيره.

9 ــ إبراهيم بن محمّد أبو إسحاق المدني (191هـ) روى عن الصادق %.

10 ــ عبدالملك بن جريج القرشي (149هـ).

هذه عشرة كاملة، ومن أراد أن يقف على حَمَلَة علمه وتلامذة منهجه من السنّة، فعليه بكتاب <الصادق والمذاهب الأربعة> لأسد حيدر([6]).

2 ــ أدلّة الأحكام عند الإماميّة

اتّفقت الشيعة الإماميّة على أنّ منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة، وهي: 1 ــ الكتاب. 2 ــ السنّة. 3 ــ الإجماع. 4 ــ العقل. وما سواها إمّا ليس من مصادر التشريع، أو أنّه يرجع إليها، وهذا هو فقيه القرن السادس محمّد بن إدريس الحلّي (543 ــ 598هـ) يذكر الأدلّة الأربعة في ديباجة كتابه السرائر، ويُحدّد موضع كلّ منها، ويقول: <فإنّ الحق لا يعدو أربع طرق: إمّا كتاب الله سبحانه، أو سنّة رسوله 2المتواترة المتّفق عليها([7])، أو الإجماع، أو دليل العقل؛ فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسائل الشرعيّة عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة، التمسّك بدليل العقل فيها، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعيّة في جميع مسائل أهل الفقه، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها>([8]).

تقسيم الأدلّة إلى اجتهاديّة وأصول عمليّة

تقسيم الأدلّة إلى اجتهاديّة وأصول عمليّة من خصائص الفقه الشيعي، أمّا الفرق بينهما فهو أنّه لو كان الملاك في اعتبار شيء حجّةً على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع وطريقاً إليه عند المعتبر، فهو دليل اجتهادي كالأدلّة الأربعة، فإنّ الملاك في حجيّتها هو ما ذكرنا، فإنّ كلاً من الكتاب والسنّة ــ حتّى الخبر الواحد منها ــ طريقٌ إلى الواقع وكاشفٌ عنه، إمّا كشفاً تامّاً كما إذا أفاد القطع، أو كشفاً غير تام كما في خبر العدل، وعلى كلّ تقدير فالملاك لاعتباره حجّةً هو كاشفيّته عن الواقع.

وأمّا إذا كان الملاك بيان الوظيفة ووضع حلول عمليّة للمكلّفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع، فهو أصل عملي، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلّة هو رفع التحيّر وإراءة الوظيفة عند اليأس من العثور على دليل موصل للواقع، ولذلك أخذ في لسان حجّيتها الجهلُ بالواقع وعدم توفر طريق لإحرازه، وهذه الأصول العامّة التي تجري في عامّة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة، وهي: 1 ــ أصالة البراءة. 2 ــ أصالة الاشتغال. 3 ــ أصالة التخيير. 4 ــ أصالة الاستصحاب.

ولكلّ منها مجرى خاص:

أمّا الأولى، فمجراها الشكّ في التكليف، فإذا كان المجتهد شاكّاً في أصل الوجوب أو الحرمة، وتفحّص عن مظانّ الأدلّة ولم يقف على دليل وحجّة على الحكم الشرعي، فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف، كما إذا شكّ مثلاً في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو ما أشبه ذلك، والأصل له رصيد قطعي وهو: أ ــ قول الرسول 2: رفع عن أمّتي تسعة … وما لا يعلمون. ب ــ حكم العقل بقبح عقاب الحكيم دون بيان واصل.

وأمّا الثانية، فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي، ولكن تردّد الواجب أو الحرام بين أمرين، فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردّد الواجب، والاجتناب عنهما عند تردّد الحرام. ودليله حكم العقل بأنّ الاشتغال اليقيني بالوجوب أو الحرمة، يقتضي البراءة اليقينيّة، ولا يحصل ذلك إلاّ بإتيانهما أو الاجتناب عنهما، مثلاً إذا علم بفوت صلاة مردّدة بين المغرب والعشاء، يجب عليه الجمع بينهما، أو إذا علم نجاسة أحد الإناءين من غير تعيين، يجب الاجتناب عن كليهما، تحصيلاً للبراءة اليقينيّة للتكليف المعلوم كما مرّ.

وأما الثالثة، فمجراها ما إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة، ولم يتمّ الوقوف على دليل شرعي يوصل إلى الواقع، فالوظيفة العمليّة هي التخيير، والوجه في ذلك أنّه إذا كان الاحتمالان متساويين، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، يحكم العقل ــ بعد عدم إمكان الجمع بينهما ــ بالتخيير في مقام العمل بأحدهما.

وأمّا الرابعة، فمجراها ما إذا علم بوجوب شيء أو طهارته، لكن شكّ في بقاء الحكم أو بقاء الموضوع، وتفحّص ولم يقف على بقائه أو زواله، فالمرجع هو الأخذ بالحالة السابقة؛ أخذاً بقول الإمام الصادق %: <لا يُنقض اليقين بالشك>.

هذه هي الأصول العمليّة الأربعة التي استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنّة، وليس لها دور إلا عند فقد النص على الحكم الشرعي، ولكلّ واحدٍ منها مجرى خاص، وليس الملاك في اعتبارها كونها كاشفة عن الواقع، بل كونها مرجعاً للوظيفة الفعليّة.

تقسيم الأصول إلى محرزة وغير محرزة

وتنقسم الأصول العمليّة إلى: أصول محرزة، وأصول غير محرزة، والمراد من الإحراز، هو إحراز الواقع والكشف عنه؛ وذلك لأنّ بعض الأصول فيه جهة كشف عن الواقع، كشفاً ضعيفاً، لكنّ العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم وسياساتهم كونه حجّة لهذه الجهة، بل الملاك لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة ووضع حلول عمليّة في ظرف الجهل والشك، كما أنّ الشارع الذي أمضاه واعتبره حجّة في الفقه، لم يعتبره لهذه الغاية حتّى يكون أمارةً عقلائية كخبر الثقة.

وقد مثّلوا لذلك بالأصول العمليّة الثلاثة: 1 ــ الاستصحاب. 2 ــ قاعدة اليد. 3 ــ قاعدة التجاوز، فالأول منها أصلٌ عام يجري في عامّة أبواب الفقه، بخلاف الأخيرين؛ فإنّهما خاصّان ببعض الأبواب، وما سوى ذلك أصلٌ غير محرز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير، فهذه هي أدلّة الأحكام عند الشيعة.

هل مسلك الشيعة هو مسلك الغزالي؟

يقول الأستاذ الريسوني: جعلت الشيعة أدلّة الأحكام المعتمدة أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، ثم قال: ولا يخفى على الدارس أنّ هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلّة([9]).

لا نظن أنّ الأستاذ يتّهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجيّة الكتاب والسنّة، فإنّ المسلمين قاطبةً يقولون بذلك، وإنّما مظنّة التهمة قولهم بحجية العقل، وهنا نقول: هناك فرقٌ واضح بين مسلكي: الإماميّة والغزّالي؛ فإنّ الأول يعتمد على التحسين والتقبيح العقليين، فيما يرفض الغزّالي ــ تبعاً لإمام مذهبه ــ ذلك، ويقول: إنّ لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جُرم سابق؛ لأنه متصرّف في ملكه([10])، كما أنّ العقل الذي هو مصدر التشريع عند الإماميّة والكاشف عن التشريع الإلهي ــ على الأصحّ ــ هو العقل المعتمد على حكمين ينبعان من صميمه هما: 1 ــ التحسين والتقبيح العقليان. 2 ــ الملازمات العقليّة. وأين الغزّالي ومنهاج أستاذه عن القول بهما؟!

وقد تضافرت الروايات عن أئمّة أهل البيت ( على حجية العقل قبل أن يولد الغزّالي بقرون، قال الإمام الصادق %: <حجّة الله على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل>([11])، وقال الإمام موسى بن جعفر % (183هـ) مخاطباً هشام بن الحكم: <يا هشام! إنّ لله على الناس حجّتين: حجة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول>([12]).

إنّ أئمّة أهل البيت ( أعطوا العقل أهميّةً كبيرة؛ فهذا هو الإمام الباقر % يقول: <إنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه ــ إلى أن قال ــ : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلاّ في مَن أحب، أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى، وإيّاك أعاقب وإيّاك أثيب>([13]).

وعليه، كان من المترقب من الأستاذ الريسوني المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلا بعد الإحاطة بأصول الشيعة الإماميّة.

3 ــ الأدلّة الاجتهاديّة والأصول العمليّة، وقفة تقويمية لتعريف د. الريسوني

تعرّفت الفرق بين الأدلّة الاجتهادية والأصول العملية، وتقسيم الأصول إلى محرزة وغيره، وللأستاذ كلامٌ في هذا الصدد نأتي به:

أ ــ الأدلّة الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفاً تسمّى الأدلّة المحرزة ــ الكتاب، السنّة، العقل، والإجماع ــ ويقابلها الأصول العمليّة باعتبارها تعطي حلولاً عمليّة للمكلّفين حين يتعذر عليهم إحراز الحكم الشرعي من دليله.

ويلاحظ عليه أنّه أصاب في التفريق بين الأدلّة الأربعة والأصول العمليّة، إلا أنّ وصف الأدلّة الأربعة بالأدلّة المحرزة خلاف المصطلح، وإنّما يوصف بها بعض الأصول، فمنها أصل محرز ومنها غير محرز، كما تقدّم في كلامنا، وإنّما توصف الأدلّة الأربعة، بالأدلّة الاجتهادية.

ب ــ ويدخل ضمن هذه الأصول العمليّة جملة قواعد، أهمّها: قاعدة الاحتياط، انطلاقاً من أنّ الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف، وأنّ لله في كلّ نازلة حكماً يتعيّن الالتزام به، وقاعدة البراءة الأصليّة، انطلاقاً من أنّ الأصل براءة الذمّة من التكليف، وقاعدة الاستصحاب التي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان؛ انطلاقاً من أنّ اليقين لا يرتفع بالشك([14]).

ويلاحظ عليه أنّ قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردّد فيه، والجهل بالموضوع، كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين: المغرب أو العشاء، فيجب عليه قضاؤهما، وما ذكره من المنطلق يعني: أنّ <الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف> لا صلة له بقاعدة الاحتياط، بل أساسه هو العلم بالتكليف والجهل بالمتعلّق.

والعجب أنّه عندما يفسّر قاعدة الاحتياط عند الإماميّة، يقول: الأصل شغل الذمّة بالتكليف، وعندما يفسّر قاعدة البراءة عندهم يقول: الأصل براءة الذمّة من التكليف، وهذا هو التناقض عينه، فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟! وهذا يكشف عن أنّ الأستاذ لم يكن ملمّاً بأصول الفقه عند الإماميّة حيث ارتكب في بيانها التناقض.

كما أنّ ما ذكره من <أنّ لله في كلّ نازلة حكماً يتعيّن الالتزام به> وجعله منطلقاً للاحتياط عجيب جداً؛ لأنّ العلم بأنّ لله في كلّ نازلة حكماً لا يسبّب الاحتياط؛ إذ من المحتمل أن يكون حكم الله في المورد هو الإباحة، أو الكراهة، أو الاستحباب.

هل هناك سنّة وراء سنّة النبي 2؟

السنّة هي المصدر الثاني للعقيدة والشريعة، سواء كانت منقولةً باللفظ والمعنى، أو بالمعنى فقط، إذا كان الناقل ضابطاً في النقل، وقد خصّ الله بها المسلمين دون سائر الأمم؛ فإنّهم اهتمّوا بنقل ما أثر عن النبي 2 من قولٍ وفعل وتقرير، وبذلك صارت السنّة من مصادر التشريع الإسلامي.

وقد أكّد أئمة أهل البيت ( أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الرئيس بعد الكتاب، وأنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنّة نبيّه 2، قال الإمام الباقر %: <إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّاً>([15])، وقال الإمام الصادق %: <ما من شيء إلا وفيه كتابٌ أو سنّة>([16])، وروى سماعة عن الإمام أبي الحسن موسى الكاظم %، قال: <قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه، أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه>([17])، وروى أسامة، قال: <كنت عند أبي عبدالله % وعنده رجل من المغيريّة([18])، فسأله عن شيء من السنن؟ فقال: ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وقد خرجت فيه سنّةٌ من الله ومن رسوله، ولولا ذلك، ما احتجّ علينا بما احتج؟ فقال المغيري: وبما احتج؟ فقال أبو عبدالله %: قوله: >الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا<(المائدة: 3)، فلو لم يكمل سنّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس، ما احتجّ به>([19])، وروى أبو حمزة، عن أبي جعفر، قال: <قال رسول الله 2 في خطبته في حجّة الوداع: أيّها الناس! اتّقوا الله، ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به>([20]).

إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة عن أئمّة أهل البيت ( من التأكيد على السنّة والركون إليها.

أئمّة أهل البيت ( حفظة سنن الرسول2، لا مؤسّسين لسنن جديدة

كان النبي الأكرم 2 يقوم بأمور ومهام لها صلة بالجوانب المعنويّة ــ بالإضافة إلى إدارة دفّة الحكم ــ وهي:

1 ــ تبيين الأحكام الشرعيّة والإجابة عن الحوادث المستجدَّة التي لم يُبيّن حكمُها في الكتاب ولا في السنّة الصادرة إلى يومها.

2 ــ تفسير القرآن الكريم وتبيين مجملاته وتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته.

3 ــ الردّ على الشبهات والتشكيكات التي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى بعد الهجرة.

ومن المعلوم أنّ من يقوم بهذه المسؤوليّات، سوف يُورث فقدُه فراغاً هائلاً في هذه المجالات نفسها، ومن الخطأ أن نتّهم النبي 2 ــ والعياذ بالله ــ أنّه قد رحل دون أن يفكّر في ملءِ تلك الثغرات المعنويّة الحاصلة برحيله؛ فإذا رجعنا إلى أحاديث النبي 2 نقف على أنّه قد سدّ هذه الثغرات باستخلاف مَنْ جعلهم قرناء الكتاب وأعداله، وأناط هداية الأمّة بالتمسّك بهم، في نصوص من أشهرها حديث الثقلين المعروف.. وقد رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابياً، ودوّنه ما يربو على ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم والفنون، وفي جميع الأعصار والقرون، فهو حديث صحيح متواتر بين المسلمين، وقد عيّن النبي 2 ــ ببركة هذا الحديث  ــ من يسدّ هذه الثغرات، ويكون المرجع العلمي بعد رحيله، وليس إلاّ أهل بيته.

وبهذا يتبين أن العترة ( عيبة علم الرسول وخزنة سننه وحفظة كَلِمه، تعلموها بعناية من الله تبارك وتعالى كما تعلّم صاحب موسى بفضل من الله دون أن يدرس عند أحد، ولذلك تمنّى موسى % أن يعلّمه ممّا عُلّم، قال سبحانه ــ حاكياً عن لسان نبيّه موسى % ــ : >قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا<(الكهف: 66).

وعلى ضوء ذلك، ليس لأئمّة أهل البيت ( سنّةٌ ولا تشريع، وما أثر عنهم من قول وفعل أو تقرير، فإنّما يعتبر كونهم حفظة سنن النبي 2، فلا يصدرون ولا يحكمون إلا بسنّته، فلو قيل: إنّ قول الإمام % أو فعله أو تقريره سنّة، فإنّما يراد به أنّهم تراجم سنّة النبي 2 وأقواله وأفعاله؛ فما قاله العلامة الشيخ المظفر P من أنّ المعصوم من آل البيت ( يجري قوله مجرى قول النبي 2 من كونه حجّة على العباد، إنّما يريد ذلك، وما أحسن قوله: <يجري قوله مجرى قول النبي 2>، فلو كان أئمّة أهل البيت ( أصحاب سنن في عرض سنّة النبي 2 فلماذا قال <يجري قوله مجرى قول النبي 2 >؟!

هذه هي عقيدة الإماميّة من أوّلهم إلى آخرهم؛ فالتشريع لله سبحانه فقط، والنبي الأكرم 2 هو المبلّغ عن الله سبحانه في ما شرّعه، وأئمّة أهل البيت خلفاء رسول الله وحفظة سننه وتراجم كلمه، والمبلّغون عنه السنن حتّى يجسّدوا إكمال الدين في مجالي: العقيدة والشريعة، وحين قال سبحانه: >الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ< (المائدة : 3)، فإنّما هو لأجل نصب علي % أول أئمّة أهل البيت ( للخلافة؛ كي يقوم بنفس المسؤوليّات التي كان النبي 2 قائماً بها طيلة أيّام رسالته، ويملأ الثغرات الّتي أعقبت رحلته 2 غير أنّه نبي يوحى إليه، وهذا وصيّ حافظٌ لسننه.

بين سنّة الصحابة وسنّة النبيّ 2

وألفت هنا نظر الباحث المحترم إلى أنّ أهل السنّة قد قالوا بوجود سنن أخرى بعد سنّة النبي 2، وإليك ما يشير إلى ذلك:

1 ــ الحديث المعروف عندهم: <عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسّكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ>؛ حيث يقول ابن قيم الجوزيّة في تفسير الحديث: <فقد قرن سنّة خلفائه بسنّته وأمر باتّباعها كما أمر باتباع سنّته، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنّوه للأمّة وإن لم يتقدّم للنبي 2 فيه شيء، وإلا كان ذلك سنّة>([21])، فالرواية تدلّ على أنّ للصحابة سنة كسنّة النبي 2، فعندهم سنّة أبي بكر وسنّة عمر وسنّة عثمان وسنّة علي.

2 ــ روى السيوطي، قال حاجب بن خليفة: شهدت عمر بن عبدالعزيز يخطب ــ وهو خليفة ــ فقال في خطبته: على أنّ ما سنّ رسول الله 2 وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نرجؤه([22]).

فهل يصحّ ــ بعد هذه النصوص ــ الاستغراب من وجود سنّة لأئمة أهل البيت (؟

طُرق علم الأئمّة بالسنّة

لسائل أن يسأل: ما هي طرق أهل البيت للعلم بسنن النبي 2، وأكثرهم لم يعاصره ولم يسمعها منه مباشرة، ومن المعلوم أنّ النبي 2 قد عاصره الإمام علي والإمامان: الحسن والحسين (، فقط؟

والإجابة عن هذا السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة وأنس بجوامعهم، فإنّ لهم ( طرقاً إلى سنن النبي 2 نأتي ببعضها:

الأول: السماع عن رسول الله 2، إنّ الأئمّة ( يروون أحاديث رسول الله 2 سماعاً منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، ولذلك ترى في كثير من الروايات أن الإمام الصادق % يقول: حدّثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي عن علي أميرالمؤمنين عن الرسول الأكرم، وهذا النمط من الروايات كثير في أحاديثهم؛ فأئمّة أهل البيت ( رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله 2 عن هذا الطريق، دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان، أو على مجاهيل أو شخصيات متستّرة بالنفاق.

الثاني: كتاب علي %، فقد كان لعلي % كتابٌ خاص بإملاء رسول الله 2 وقد حفظته العترة الطاهرة (، وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونُقِلت نصوصه في موضوعات مختلفة، وقد بث الحرّ العاملي في موسوعته الحديثية، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات، ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.

وإليك شذرات من أقوال الأئمة حول هذا الكتاب الذي كانوا يتوارثونه وينقلون عنه ويستدلّون به، فقد قال الإمام الحسن المجتبى %: <إنّ العلم فينا ونحن أهله، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره، وإنَّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة، حتّى أرش الخدش، إلاّ وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول الله وخطّ عليّ بيده>([23])، وقال أبو جعفر الباقر % لأحد أصحابه ــ أعني حمران بن أعين ــ وهو يشير إلى بيت كبير: <يا حمران! إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ علي % وإملاء رسول الله 2، لو وُلّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة>، وقال % أيضاً لبعض أصحابه: <يا جابر! إنّا لو كنّا نحدِّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله 2>، وقال الإمام الصادق % عندما سئل عن الجامعة: <فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضيّة إلا فيها حتّى أرش الخدش>، وقال الإمام الصادق % في تعريف كتاب علي %: <فهو كتاب طوله سبعون ذراعاً إملاء رسول الله 2 من فَلقِ فيه، وخط علي بن أبي طالب % بيده، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتّى أنّ فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة>([24])، ويقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبدالله % يقول: <إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، إملاء رسول الله 2 وخطّ عليّ % بيده، ما من حلال ولا حرام إلاّ وهو فيها حتّى أرش الخدش>.

وقد كان عليّ % أعلم الناس بسنّة الرسول 2، وكيف لا يكون كذلك، وهو القائل: <كنت إذا سألت رسول الله 2 أعطاني، وإذا سكت ابتدأني>([25]).

الثالث: أنّهم محدَّثون، ولأجل إيقاف القارئ على المحدَّث في الإسلام ومفهومه نذكر شيئاً في توضيحه؛ فالمحدَّث مَن تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ورؤية صورة، أو يُلهم ويُلقى في روعه شيء من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت في قلبه من حقائق تخفى على غيره، وهو ــ بهذا المعنى ــ ممّا أصفقت الأمّة الإسلامية عليه، بيد أنّ الخلاف في مصاديقه، فالسنّة ترى عمر بن الخطاب من المحدَّثين، والشيعة ترى علياً وأولاده الأئمّة منهم.

أخرج البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال النبي 2: <لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء؛ فإن يكن من أمّتي منهم فعمر>([26])، وقد أفاض شرّاح صحيح البخاري الكلامَ حول المحدَّث([27])، وللمحدِّثين من أهل السنّة كلمات حول المحدَّث نأتي بملخّصها، حيث يقول القسطلاني حول الحديث: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة([28]).

وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر، عن عائشة، عن النبي 2: <قد كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم>، وقال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بـ<محدَّثون>، فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: يصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حُدّثوا بشيء فظنّوه، وقيل: تكلّمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلّمون([29])، وقال الحافظ محبّ الدين الطبرسي في الرياض: ومعنى <محدّثون> ــ والله أعلم ــ أن يلهموا الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم الملائكة لا لوحي([30]).

وحصيلة الكلام: إنّه لا وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من دون أن يكونوا أنبياء، أو معدودين من المرسلين، والله سبحانه يصف صاحب موسى بقوله: >فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا<، ولم يكن المصاحب نبيّاً، بل كان وليّاً من أولياء الله سبحانه وتعالى، بلغ من العلم والمعرفة مكانةً، دعت موسى ــ وهو نبيّ مبعوث بشريعة ــ إلى القول: >هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا< (الكهف: 66).

ويصف سبحانه وتعالى جليس سليمان ــ آصف بن برخيا ــ بقوله: >قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي< (النمل: 27)، فهذا الجليس لم يكن نبيّاً، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات، بل كان علماً إلهياً أفيض عليه لصفاء قلبه وروحه؛ ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه، ويقول: >هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي<([31]).

والإمام علي والأئمّة من بعده، الذين أنيطت بهم الهداية في حديث الثقلين، ليسوا بأقلّ من صاحب موسى %، أو جليس سليمان، فأيّ وازع من أن يقفوا على سنن النبي 2 عن طريق الإشراقات الإلهية.

الرابع: الاستنباط من الكتاب والسنّة، فقد كانوا ( يستدلّون على الأحكام الإلهية بالكتاب والسنّة بوعي متميّز يبهر العقول ويورث الحيرة، ولولا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من ذلك، ونكتفي هنا بأنموذج واحد وهو: قُدّم إلى المتوكل رجلٌ نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحدّ، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يُضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي %([32]) يسأله، فلما قرأ الكتاب، كتب ما حاصله: يجري عليه الحدّ حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلّة، فكتب %: >بِسْمِ الله الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ< (غافر: 84 ــ 85)، فأمر المتوكل؛ فأجري عليه الحدّ([33]).

إنّ الإمام الهادي ببيانه هذا شقّ طريقاً خاصّاً لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقاً لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أنّ مصادر الأحكام الشرعيّة هي الآيات الواضحة في مجال الفقه، التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجهاً خاصّاً لدلالته، لا يلتفت إليه إلا من نزل القرآن في بيته، وليس هذا الحديث غريباً في مورده، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه (.

وعليه، فما روي عن الإمام موسى بن جعفر % حول علمهم بالسنّة إنما ينظر إلى ما سبق ذكره؛ حيث سُئل: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه، أو تقولون فيه؟ فقال: <لا، بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه>([34])؛ فالإمام يريد بالسنّة ما ذكرنا ــ مصادرها وطرقها ــ لا خصوص السنّة الموجودة في أفواه الناس وعلى ألسنتهم، وإن كان ربّما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي 2 في بعض المواضيع؛ فهذه الرواية العابرة توقفنا على مدى ما تلقّاه الأئمة ( من سنن النبي، أفبعد هذا يصحّ أن نعتمد على ما رواه البخاري عن أبي جحيفة الذي قال: قلت لعلي: عندكم كتابٌ؟ قال: <لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجُلٌ مسلم، أو ما في هذه الصحيفة>، قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: <العقل وفكاك الأسير ولا يُقتل مسلم بكافر>([35])؛ فكيف لا يكون عند عليّ % كتابٌ يجمع فيه سنن النبي 2 وهؤلاء هم أبناء علي % ينقلون عنه ويعتمدون عليه؟!

والعجب ما ورد في هذه الرواية من أنّ الصحيفة التي كان يحتفظ بها علي لم تشتمل إلاّ على جمل محدودة، فلو لم يكن عند علي وأبنائه المعصومين إلا ما جاء في هذه الرواية، فمن أين هذه العلوم الموروثة عنه وعن أبنائه الصادقين التي بهرت العقول؟! كيف لا يكون عند علي % سوى ما في هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أنّ المسلَّم عند الفريقين أنّ علياً كانت عنده علوم وأسرار لم تكن عند غيره، وكان الصحابة يرجعون إليه في المشاكل والمسائل العويصة، فهذا عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء كانوا يرجعون إليه ويسألونه، كيف لا وهو باب مدينة علم النبي 2.

وقد قام زميلنا الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي([36]) بجمع ما ورد في كتاب علي % ممّا هو مبثوث في الجوامع الحديثية ورتّبه على 26 باباً، وما جمعه إنّما هو غيض من فيض وقليل من كثير ممّا كان في الأصل.

4 ــ تقييم الإجماع عند الإماميّة

عدّ الأصوليون الإجماع أحدَ الأدلّة الشرعية، غير أنّهم اختلفوا في ملاك الحجيّة، فالمحقّقون من السنّة قالوا: إنّ الإجماع يجب أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي، كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان، فلو كان المستند دليلاً قطعيّاً من قرآن أو سنّة متواترة، يكون الإجماع مؤيّداً معاضداً له([37])؛ ولو كان المستند دليلاً ظنيّاً، فيرتقي الحكم بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين، ومثله إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة، فالاتّفاق على حكم شرعي ــ استناداً إلى ذلك الدليل ــ يجعله حكماً شرعيّاً قطعيّاً إلهيّاً وإن لم ينزل به الوحي([38]).

وعلى ضوء ذلك، كان الإجماع عند أهل السنّة من مصادر التشريع في عرض الكتاب والسنّة، لكن بشرط أن يكون الحكم مستنداً إلى دليل ظنّي، فعندئذ يجعله إجماع العلماء حكماً قطعيّاً.

أمّا عند الشيعة، فالإجماع بما هو هو ليس من مصادر التشريع، وإنّما يكشف عن وجود الدليل، فالاتّفاق مهما كان واسعاً، لا يؤثر في جعل الحكم شرعيّاً إلهيّاً، وإنّما المؤثر في ذلك المجال، نزول الوحي به فقط، نعم للإجماع دورٌ في كشف الدليل الأعمّ من القطعي والظنّي، وقد اختلفوا في كيفية كشفه إلى أقوال يجمعها أمران:

1 ــ استكشاف الدليل بالملازمة العادية بين فتوى المجمعين وقول الإمام.

2 ــ كشف الإجماع موافقة الإمام % لكونه من جملة المجمعين.

أما الثاني فمشروط بشرطين: أ ــ أن يكون الإمام ظاهراً لا غائباً. ب ــ أن تتوافر الحرية في الفتوى، ويكون للإمام حرّية تامّة في إظهار رأيه، ومثل ذلك لم يتّفق في عصر الحضور إلا في فترة قليلة، وهي التي عاصرها الإمامان الصادقان: الباقر والصادق H، وبسبب عدم توفر هذين الشرطين في عصر الأئمّة لم يلتفت إليهما إلا القليل من العلماء، وإنّما المهم استكشاف وجود الدليل عن إجماع المجمعين بأحد الطريقين التاليين:

أ ــ تراكم الظنون مورث لليقين بالحكم الشرعي؛ لأنّ فتوى كلّ فقيه وإن كانت تفيد الظن، إلاّ أنّها تعزز بفتوى فقيه ثانٍ فثالث، إلى أن يحصل للإنسان من إفتاء جماعة بحكم، القطع بالصحّة؛ إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلى فتوى هؤلاء الجماعة.

ب ــ الإجماع كاشف عن دليل معتبر، بمعنى أنّ حجيّة الإجماع ليس لأجل إفادته القطع بالحكم، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم يصل إلينا، وهذا هو الذي اعتمد عليه صاحب الفصول، وعدّة من المتأخرين.

قال صاحب الفصول: نستكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى الأئمة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان([39]).

قراءة الدكتور الريسوني للإجماع عند الشيعة

بعد أن ذكر الدكتور أحمد الريسوني ــ حفظه الله ــ أن الإجماع عند الشيعة ليس حجّة بما هو هو، وإنّما ملاك حجيّته كشفه عن الدليل، حاول أن يطبّق نظريّة أهل السنّة على نظريّة الشيعة، فقال: وهذا القول في حقيقة الإجماع وحقيقة حجّيته ليس بغريب على أصولي السنّة، فهو بعض ما يتضمّنه قولهم: <الإجماع لابد فيه من مستند>، ثم ذكر كلام إمام الحرمين والشريف التلمساني([40]).

وما استنتجه من التوفيق بين النظريّتين عمل مشكور عليه، إلا أنّنا نشير إلى أنّهما ليستا متحدتين بالشكل الذي ذكره الأستاذ، وإنّما هما متّحدتان في شيء ومختلفتان في شيء آخر.

1 ــ تشتركان في أنّ إجماع المجمعين لابد أن يكون على أساس دليل، ولا يصح إفتاؤهم بلا دليل.

2 ــ وتختلفان في أنّ للإجماع ــ عند أهل السنّة ــ دوراً في إضفاء الشرعيّة على الحكم المجمع عليه، بحيث يجعله حكماً ــ كسائر الأحكام الواردة في الكتاب والسنّة ــ سواء أصحّ المستند الظنّي في الواقع أم لم يصح، وكأن الاتّفاق، عمليّة كيمياويّة تقلب النحاس ذهباً، إمّا مطلقاً وفي عامّة الموارد، أو فيما إذا كان مستند الإجماع، مثل القياس والمصالح والمفاسد العامّة، وهذا ليس شيئاً خفياً على من له إلمام بأصول الفقه لدى السنّة، وقد وقفت على كلام الفقيه المعاصر وهبة الزحيلي، حتى أنّ الكاتب صرح بذلك في مقاله الذي يقول فيه: وقد يكون إجماعهم ناشئاً عن قياس ظنّي في أصله، ولكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صواباً ويقيناً([41]) لا يحتمل الشك، وقد يكون الإجماع منعقداً عن نظر استصلاحي سديد، ومن خلال الإجماع عليه تأكّدت موافقته القطعية للشرع وللمصالح التي اعتبرها.

هذا ما عليه السنّة، أمّا الشيعة فهم عن بكرة أبيهم، لا يقيمون للإجماع دوراً سوى الكشف عن الدليل: القطعي أو الظنّي، وليس له دور في إضفاء الصواب على الدليل والشرعيّة على الحكم ــ لو فرض عدم صحّته ــ فلذلك ليس الإجماع بما هو هو، من مصادر التشريع.

نقد نظريّة الإجماع الدخولي

عرفت أنّ ملاك حجّيّة الإجماع كشفه عن الدليل بأحد الوجهين التاليين: أ ــ كشفه عن دخول الإمام في المجمعين. ب ــ كشفه عن وجود الدليل والحجّة.

أمّا القسم الأول، فقد عرفت اختصاصه بعصر الحضور، لكن بشرط أن تسود الحرية عامّة أهل الفتوى في البلد الذي يقيم فيه المعصوم، كالمدينة المنوّرة، كما كان ذلك في بعض الأعصار أيّام نشوب الصراع بين الأمويين والعباسيين، فلو وصل إلينا أنّ كلّ من يؤخذ عنه الفتوى في المدينة أفتوا بحكم من الأحكام ولم يشذّ منهم أحد، نكتشف اتّفاق الإمام الباقر والصادق معهم؛ لأنّ لسان الإجماع هو كلّ من يؤخذ عنه الفتوى، وهما من أبرز مَنْ يؤخذ منهم الفتوى.

وعلى ضوء ذلك، نقف على مدى صحّة رأي الأستاذ الريسوني حول الإجماع الدخولي، قال: <ولست أدري كيف استساغ علماء الإماميّة وأذكياؤهم هذا التناقض الواضح، إذ يعتبرون الإجماع كاشفاً عن قول المعصوم، ثم يشترطون دخول هذا المعصوم؟ وإذا دخل المعصوم في الإجماع ــ بحيث كان قوله معروفاً وثابتاً ــ فأيّ كشف بقي للإجماع أن يقوم به؟ ثمّ إذا كان قول المعصوم حجّة في ذاته فأيّ حاجة وأي قيمة للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟> (ص93).

ويلاحظ عليه: أنّه تصوّر أنّ الإجماع الدخولي عبارة عن معرفتنا بدخول الإمام شخصيّاً ضمن المجمعين فرتّب عليه ما رتب، حيث قال: <فعند ذلك أي كشف بقي للإجماع أن يقوم به>، وبعبارة أخرى: تصوّر الإجماع الدخولي عبارة عن رؤية الإمام شخصيّاً بين المجمعين، أو سماع صوته بينهم، أو ثبوت تواجده بين المجمعين بخبر قطعي، فعند ذلك قال: <فأيّ دور يبقى للإجماع بعد معرفة الإمام>، لكن خفي عليه واقع هذا القسم من الإجماع، فالمراد به ما إذا ثبت بخبر قطعي، أنّ علماء المدينة وكلّ من يؤخذ عنه الفتوى، اتّفقوا على حكم من الأحكام الشرعية، وكان أهل البيت يتمتّعون بالحريّة لإظهار رأيهم وإبداء ما عندهم، فعند ذلك نستكشف دخول الإمام المعصوم في المجمعين وتواجده بينهم على نحوٍ لولا هذا الإجماع والاتّفاق بالنحو الذي عرفت، لم يكن لدينا طريق لمعرفة قول الإمام، وعندئذ يكون للإجماع دور الكشف عن دخوله فيهم.

وبذلك تقف على ما هو المقصود للمحقّق الحلي؛ حيث قال: <فلو خلت المائة من علمائنا من قوله، لما كان حجّة، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة>، فالممعن في كلامه من أوله إلى آخره يقف على أنّ الغاية من هذا المقال، هو التركيز على أنّ حجيّة الإجماع، لأجل وجود الإمام بين المجمعين إمّا دخولاً، أو كشفاً عن دليل وصل إلى يد المجمعين عنهم ( فجاء قوله كمثل يبين مقصده.

5 ــ وجه التمييز بين خبر الواحد والقياس مع كونهما ظنيّين

تعجّب الدكتور أحمد الريسوني من تفريق الإماميّة بين خبر الواحد والقياس في الحجيّة قائلاً: إنهما ظنّيان، فلماذا فرّقت الإمامية بينهما، وقالوا بحجية الأول دون الثاني؟ وقد أطال الكلام في ذلك، وما ذكرناه لبّ إشكاله، ولإيضاح المقام نقدم أموراً:

الأمر الأول: اتّفقت الأمّة الإسلامية على أنّ البدعة أمر محرم كتاباً وسنّة وإجماعاً وعقلاً، وهي عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين، هذا من جانب، ومن جانب آخر، إنّ الاعتماد على الظن ــ الذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي من الشارع ــ والإفتاء على وفقه والالتزام بأنّ مؤدّاه حكم الله تعالى في حقّه وحقّ غيره، هو نفس البدعة ومن مصاديقها؛ فبضم الثاني إلى الأول يتشكّل قياس منطقي يُنتج حرمة العمل بالظنّ الذي لم يقم الدليل القطعي على حجّيته، فتكون صورة القياس كالتالي: العمل بالظن الذي لم يقم على حجّيته دليل شرعي بدعة في الدين. والبدعة في الدين حرام بالاتّفاق. فالنتيجة: إنّ العمل بالظن الذي لم يقم على حجيّته دليل شرعي حرام بالاتّفاق.

وعلى ضوء هذا، تقول الإمامية بأنّ الضابطة الكلّية في العمل بكلّ ما لم يقم دليل على حجيّته، سواء أكان مفيداً للظن أو لا، هي المنع؛ لكونه تشريعاً قولياً وبدعة فعلية وعملية، وتقوّلاً على الله بغير علم، نعم لو قام الدليل القطعي على حجية ظنّ مثلاً في مورد أو موارد، يؤخذ بهذا الظن بحكم الشرع، لأنّه يكون العلم عندئذٍ بإذن الشارع وأمره فيخرج عن الضابطة الكلية: العمل بالظن الذي لم يقم دليل شرعي على حجّيّته بدعة.

الأمر الثاني: ذهب جمهور الإماميّة إلى خروج عدّة من الظنون عن الضابطة خروجاً عن الموضوع لا خروجاً عن الحكم، وهي الظنون التي قام الدليل على حجّيتها، ولأجل ذلك توصف بالظنون العلمية، أي إنّها ظنون، ولكن دلّ الدليل العلمي على جواز العمل بها وهي عبارة عن: 1 ــ خبر الواحد إذا أخبر عن حسٍّ. 2 ــ الظواهر على القول بأنّها ظنيّة الدلالة. 3 ــ الإجماع المنقول بخبر الواحد ــ في مقابل الإجماع المحصّل ــ إذا كشف نقل الإجماع عن وجود دليل معتبر عند المجمعين، إلى غير ذلك.

هذا هو رأي جمهور الإمامية، نعم قد خالف في حجيّة خبر الواحد قليلٌ من المتقدّمين كالسيّد المرتضى والقاضي ابن البرّاج وأمين الإسلام الطبرسي وابن إدريس الحلّي +.

ثمّ إن القائلين بالحجّية ألّفوا في ذلك كتباً ورسائل، أجابوا فيها عن شبهات النافين، شأن كلّ مسألة نظرية لا تخلو من مخالف.

هذا هو إجمال الكلام حول حجّية خبر الواحد الذي عليه بناء العقلاء، وعليه تدور رحى حياتهم ومعاشهم بالشروط المذكورة في محلّها، أمّا القياس فقد رفضه علماء الإمامية عن بكرة أبيهم إذا كان مستنبط العلة؛ لأجل أنّ القياس مفيد للظن، والضابطة الكلّية في الظن حرمة العمل به ما لم يقم دليل على حجّيته.

ثم إنّهم استثنوا من حرمة العمل بالقياس موارد أبرزها ما يلي:

1 ــ إذا كانت العلة منصوصة من جانب الشرع، كأن يقول: الخمر حرام؛ لكونه مسكراً، فيحكم بحرمة كلّ مسكر، وقالوا: إنّ ذلك في الحقيقة ليس عملاً بالقياس، وإنّما هو عمل بالسنّة، أي عموم العلّة كما لا يخفى.

2 ــ القياس الأولويّ، فإذا قال الشارع: >فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أفٍّ< (الإسراء: 23)، يفهم منه حرمة الشتم والضرب بطريق أولى، لحصول القطع والعلم بالحكم.

ثم إنّ رفض الإمامية العمل بالقياس في مجال مستنبط العلة، لأجل أنّ استخراج علّة الحكم ــ عبر السبر والتقسيم ــ مظنةٌ للاشتباه، وذلك:

أوّلاً: نحتمل أن يكون الحكم في الأصل معللاً عندالله بعلّة أخرى غير ما ظنّه القائس، مثل كونه صغيراً أو قاصر العقل، في قوله: <لا يُزوّج البكر الصغيرة إلا وليّها> حيث ألحق بها أصحاب القياس الثّيبَ الصغيرة، بل المجنونة والمعتوهة، وذلك بتخريج المناط وأنّه هو قصور العقل وليس للبكارة مدخلية في الحكم، فهل يمكن ادّعاء القطع بذلك، وقد قال سبحانه: >وَمَا أوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً< (الإسراء: 85)؟!

إنّ الإنسان لم يزل في عالم الحسّ تنكشف له أخطاؤه، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة، فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة عن العقل إلا في موارد جزئية كالإسكار في الخمر، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر، أو إيراث المرض في النهي عن النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات، خصوصاً فيما يرجع إلى أبواب الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظنّ شيئاً، قال ابن حزم: وإن كانت العلّة غير منصوص عليها، فمن أيّ طريق تُعرف ولم يوجد من الشارع نصّ يبيّن طريق تعرّفها؟

وتركُ هذا من غير دليل يعرّف العلّة، ينتهي إلى أحد أمرين: إمّا أن القياس ليس أصلاً معتبراً، وإمّا أنّه أصل عند الله معتبر، لكنّه أصل لا بيان له، وذلك يؤدي إلى التلبيس، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فلم يبق إلاّ نفي القياس.

ثانياً: لو افترضنا أن القائس أصاب في أصل التعليل، ولكن من أين يُعلم أنّها تمام العلّة أو جزءَ العلّة، بحيث يكون هناك جزء آخر منضمّ إليها في الواقع ولم يصل القائس إليه؟

ثالثاً: احتمال أن يكون القائس قد أضاف شيئاً أجنبياً إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس عليه.

رابعاً: احتمال أن يكون في الأصل خصوصيّة في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس.

ولأجل وجود هذه الاحتمالات التي لا تنفك عن ذهن القائس، رفضت الإماميّة العملَ بالقياس إذا كان مستنبطَ العلّة.

إنّ الدكتور أحمد الريسوني ــ حفظه الله ــ قد أخذ على علماء الإمامية بموارد، قائلاً: إنّهم يقولون بعدم حجّية الظن، ومع ذلك يعملون به في الموارد التالية: 1 ــ الخبر الواحد. 2 ــ الظواهر. 3 ــ المرجّحات الظنيّة عند التعارض. 4 ــ الأصول العمليّة، يقول:

1 ــ إن الإمامية إذ يرفضون الأخذ بالقياس والاستصلاح باعتبار ظنيّة إفادتهما، فهم يقبلون الظنّيات في كثير من أصولهم وقواعدهم، وفي مقدّمها أخذهم بأخبار الآحاد، فإنّهم يُسلّمون بكون أخبار الآحاد لا تسلم من الظنية والاحتمال، وإذن الشرع استثناء في اعتبارها، ويكون الإجماع لديهم على حجيّتها([42]).

والقارىء الكريم ــ بعد الاطّلاع على ما ذكرنا ــ يقف على الفرق الواضح عندهم بين خبر الواحد العدل، والقياس؛ فإنّ الأخذ بالأول ليس بملاك إفادته الظن، بل لقيام الدليل الشرعي على حجيّته، ولو قام الدليل على حجّيّة القياس لأخذوا به، وبعبارة أخرى: إنّ خبر الواحد ممّا قام الدليل القطعي على حجيّته فصار ظنّاً علمياً، أي ظناً بالذات لكن ذو رصيد علمي، بخلاف القياس إذ لم يقم عندهم دليل يثبت حجّيته لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه.

ولأجل أن يقف الأستاذ الكريم على الفوارق بين خبر الواحد والقياس، نقترح عليه مراجعة كتابنا المعنون: أصول الفقه المقارن فيما لا نصَّ فيه.

2 ــ ومن المواطن التي أخذوا فيها بالظنيات أيضاً قولهم بحجّية الظواهر، أي أنّهم يعتمدون اعتماداً أساسيّاً على ما يفهم من ظواهر النصوص، والظواهر ــ كما هو معلوم ــ لا تكاد تسلم من الظنيّة والاحتمال([43]).

إنّ العمل بالظواهر ممّا أطبق العقلاء عليه، ولا نجد بينهم من ينكر حجيّة الظواهر، فإن رحى الحياة في المجتمع الإنساني تدور عليها، وليس كلّ كلام نصاً في مدلوله، فالنبي الأكرم 2 وأئمّة أهل البيت ( وأصحابهم يعلّمون الناس بظواهر كلماتهم، والمستمعون يتلقّونها حجّةً شرعيّة دون أن يناقشوا في ذلك؛ فأين الظواهر من القياس الظني الذي تضاربت فيه الآراء وأنكر حجّيتَه أئمّةُ أهل البيت ولفيف من الصحابة والتابعين؟ أضف إلى ذلك قيام الدليل على حجيّة الظواهر دون القياس، فهذا هو الفارق بينهما.

3 ــ إن الترجيحات ــ عند تعارض الخبرين ــ كلّها أو معظمها ترجيحات ظنيّة تعليليّة وتقريبية، فقد جرى ديدنهم على ترجيح ما ظهر أنّه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي، وهذا كما لا يخفى ليس إحرازاً للحكم الشرعي بالضرورة، وإنّما هو ظنّي وتقريبي([44]).

وقد صارت الإجابة واضحةً، وهي قيام الحجّة على لزوم الترجيح بالمرجّحات، وقد تضافرت الأخبار التي ثبتت حجيتها على لزوم الترجيح بالمرجّحات المنصوصة، كموافقة الكتاب وموافقة السنّة وموافقة المشهور وغيرها.

نعم، هناك من يستنبط من هذه الروايات لزوم الترجيح بكلّ مرجّح وإن لم يكن منصوصاً، كالشيخ الأنصاري في فرائده، ومنهم من لا يقبل ذلك، وعلى كلّ تقدير فالفارق بين العمل بالمرجّحات والقياس والاستحسان وجود الدليل على لزوم الترجيح بها وعدمه في القياس والاستحسان، ولو أنّ صاحب المقال أحاط بأصول الفقه عند الإمامية لما أثار عجبه هذا التفريق، بل وجّه اهتمامه إلى موضوع آخر وهو طرح القياس على صعيد البحث على ضوء دراسة أدلّة المثبتين والنافين دون أن يربط العمل بالقياس بالعمل بخبر الواحد والظواهر.

4 ــ وممّا أخذه الأستاذ الريسوني على الإمامية العملُ بالأصول العملية، أعني البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب، فقد قال: إنّ ما يسمّونه أصولاً عملية هي قواعد توصل إلى الظن والرجحان، ومع ذلك أجازوا بل أوصوا بالعمل بها عند عدم الدليل الصريح([45]).

وأظن أنّ القارئ في غنى عن تكرار الجواب؛ فإنّ الإشكال في الجميع واحد، والجواب مثله، وهو أنّ الفارق وجود الدليل على حجيّة الأصول، سواء أكانت مفيدةً للظن أم لا، ومن درس الأصول العمليّة في الكتب الأصوليّة للشيعة الإماميّة يقف على أنّهم يستدلّون عليها بطرق مختلفة من الكتب والسنّة والإجماع والعقل، فكيف يقاس ذلك بالقياس الذي تواتر النهي عن العمل به عن أئمّة أهل البيت (، وهذا هو قول الإمام الصادق % لأبان بن تغلب: <إنّ السنّة إذا قيست محق الدين>([46]).

القياس والتأسيس العقلي للحجيّة

يستدلّ الأستاذ الفاضل على حجّية القياس عن طريق العقل قائلاً: إنّ الإمامية ــ وبخاصة متأخّريهم ــ يجعلون من الأدلّة الشرعية <الدليل العقلي>، بينما يرفضون القياس، وهو من بديهيات العقول وأوّلياتها، فهو يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل ولا عقال، وهي: <أنّ ما ثبت لشيء ثبت لمثله>، وهذا هو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات وجاءت به الكتب والرسالات.

أقول: لا شكّ أنّ العقل أحد الحجج الشرعيّة، وذلك في مجالات خاصة، ممّا للعقل إليها سبيل، ونمثل لذلك بمثالين:

الأول: إذا استقلّ العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه، وتجرّد في قضائه عن كلّ شيء إلاّ النظر إلى نفس الفعل، يكون حكم العقل كاشفاً عن حكم الشرع، وهذا نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان، وحسنه معه، فيستكشف منه أنّ الشرع كذلك.

الثاني: إذا أمر المولى بشيء واستقلّ العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو وجوب الشيء وحرمة ضدّه، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بعنوانين، أو جوازه، إلى غير ذلك من أنواع الملازمات، فيكشف حكم العقل عن حكم الشرع.

ففي هذين الموردين ــ وما يشبههما ــ يكون العقل قاطعاً بالحُسن والقبح أو الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين، وعند ذلك نستكشف ــ من خلال كونه سبحانه حكيماً لا يعبث ــ الحكمَ الشرعي؛ للحسن والقبح، أو للمقدّمة وضد الواجب.

أمّا القياس، فليس دليلاً عقليّاً قطعيّاً، وإنّما هو دليل ظنّي، بشهادة أنّه لو كان دليلاً قطعيّاً لما اختلف فيه اثنان كما لم يختلفوا في حجيّة الخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، فإطلاق الدليل العقلي على القياس على وجه الإطلاق غير صحيح، بل يجب أن يقال: الدليل العقلي الظني؛ لأنّ الدليل العقلي ــ عند الإطلاق ــ ينصرف إلى الدليل العقلي المفيد للعلم.

نظرية القياس والخلط بين المماثل والمشابه

والذي ألفت نظر الأستاذ الريسوني إليه أنّ القياس ليس من باب المماثلة، بل من باب المشابهة، وكم هو الفرق بين التماثل والتشابه، فما ذكره من أنّ <ما ثبت لشي ثبت لمثله> راجع إلى المتماثلين، والفرق بينهما واضح؛ وذلك لأنّ التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع واحد وطبيعة واحدة، فالتجربة في عدّة من مصاديق طبيعة واحدة تفيد العلم بأنّ النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة منه، ولذلك يقولون: إنّ التجربة تفيد العلم، وذلك على أساس أنّنا إذا أجرينا ــ مثلاً ــ تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة، كالحديد، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي، والجاذبيّة، والارتفاع عن سطح البحر، وغيرها، مع اتّحادها جميعاً في التركيب، فوجدنا أنّها تتمدّد مقداراً معيناً، ولنسمّه (س)، عند درجة خاصة من الحرارة ولنسمّها (ح)، ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه الجزئيّات، في مراحل مختلفة، في أمكنة متعدّدة، وتحت ظروف متغايرة، ووجدنا النتيجة صادقة تماماً: يتمدد الحديد بمقدار (س) عند درجة (ح)، فهنا نستكشف أنّ التمدد بهذا المقدار المعين، معلولٌ لتلك الدرجة الخاصّة من الحرارة فقط، دون غيرها من العوامل، فعندئذ يقال: <ما ثبت لشيء، ثبت لمثله> أو حكم الأمثال ــ فيما يجوز وما لا يجوز ــ واحد.

أمّا التشابه، فهو وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما، كالخمر والفقاع؛ فإنّهما نوعان وبينهما تشابه في الإسكار، فلو أثبتت التجربة أنّ للخمر أثراً خاصاً، لا يمكن القول بثبوته للفقاع والنبيذ، بل لابدّ من التماس الدليل على المشاركة، وراء المشابهة.

وأوضح من ذلك مسألة الاستقراء، فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية، أنواع مختلفة، فلو رأينا هذا الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كلّ يحرك فكّه الأسفل عند المضغ ربما نحكم ــ بلا جزم ــ بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينها وحدة نوعية أو تماثل في الحقيقة، والداع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه والاشتراك الموجود بين أنواع الجنس الواحد، رغم اختلافها في الفصول والأشكال، لكن لا يمكن الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلي؛ لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في الحكم.

وبذلك يُعلم أنّ القياس عبارة عن تعميم حكم مشابه إلى مشابه، لا حكم مماثل إلى مماثل، ومن المعلوم أنّ تعميم الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلاّ إذا كانت هناك مساعدة من جانب العرف لإلغاء الخصوصية، وإلا يكون التعميم عملاً بلا دليل، فمثلاً دلّ الكتاب العزيز على أنّ السارق والسارقة تقطع أيديهما، والحكم على عنوان السارق، فهل يلحق به النبّاش الذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ إنّ التسوية بين العنوانين أمر مشكل، يقول السرخسي: لا يجوز استعمال القياس في إلحاق النبّاش بالسارق في حكم القطع؛ لأنّ القطع بالنصّ واجب على السارق([47]).

والحاصل أنّ هناك فرقاً واضحاً بين المتماثلين والمتشابهين، فإنَّ المتماثلين فردان من طبيعة واحدة، فيصحّ تعميم حكم الفرد إلى الفرد الآخر؛ لغاية اشتراكهما في النوعية، وأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد، لكن بشرط أن يثبت أنّ الحكم من لوازم الطبيعة لا الخصوصيّات الفردية، أمّا المشابهات فهما فردان من طبيعتين ــ كالإنسان والفرس ــ يجمعهما التشابه والتضاهي في شيء من الأشياء، فهل يصحّ تسرية حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلا، إلا إذا دلّ الدليل على أنّ الوحدة الجنسية سبب الحكم ومناطه وملاكه التام([48])، كما دلّ الدليل على أنّ سبب الحرمة في الخمر، هو الإسكار، وإلا فلا يصحّ إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة أخرى بمجرّد التشابه بينهما، أو الاشتراك في عَرَض من الأعراض.

الدليل العقلي وحجيّة المصلحة

عرفنا أنّ العقل أحد مصادر التشريع، أو بالأحرى أحد المصادر الكاشفة عن الحكم الشرعي، ومجال الحكم العقلي ــ غالباً ــ أحد الأمور التالية: 1 ــ التحسين والتقبيح العقليان. 2 ــ أبواب الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ومقدمته وحرمة ضدّه، والملازمة بين النهي عن العبادة أو المعاملة وفسادها، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى باب الملازمة. 3 ــ أبواب التزاحم، أي تزاحم المصالح التي لابدّ من أخذها، كإنقاذ الغريقين مع العجز عن إنقاذ كليهما، أو تزاحم المصالح والمفاسد كتترّس العدو بالمسلمين؛ فإنّ للعقل دوراً فيها، وله ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأخرى، أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس، وهي مذكورة في مظانّها.

ولا غبار على حجيّة العقل في هذه الموارد، إنّما الكلام في حجيّة المصلحة وعدّها من مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه، فقد ذهب عدة من فقهاء السنّة إلى حجّية المصلحة وسمّاها المالكية بالمصالح المرسلة، والغزّالي الاستصلاح، وحاصل دليلهم على حجّية المصلحة وكونها من مصادر التشريع: إنّ مصالح الناس تتجدّد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدّد من صالح الناس، ولما يقتضيه تطوّرهم واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطّلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطوّرات الناس ومصالحهم، وهذا ما لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس([49]).

وحاصل هذا الوجه ادّعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب والسنّة؛ لأنّ حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لازالت تتزايد كلّ يوم، فإذا لم تكن هناك تشريعات تتلاءم مع هذه الحاجات لم تتحقّق مقاصد الشريعة.

والسبب في جعلهم المصالح مصادرَ للتشريع، الأمور التالية:

1 ــ إهمال العقل وعدم عدّه من مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين.

2 ــ إقفال باب الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالاً سياسياً، فقد صار ذلك سبباً لوقف الدراسات الفقهية منذ قرون، وفي ظل ذلك توهّم المتأخّرون وجود النقص في التشريع الإسلامي وعدم كفايته لتحقيق مقاصد الشريعة، فلجأوا إلى عدّ المصالح المرسلة من مصادره، وبذلك وجّهوا قول من يعتقد بحجية المصالح المرسلة من أئمة المذاهب.

3 ــ عدم دراسة عناوين الأحكام الأولية والثانوية، كأدلّة الضرر والحرج والاضطرار والنسيان؛ فإن هذه العناوين وما يشابهها تحلّ أكثر المشاكل التي كان علماء السنّة يواجهونها، دون حاجة لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع.

4 ــ عدم الاعتراف بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط في وضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع المفسدة بوصفها أحكاماً مؤقتة ما دام الملاك موجوداً.

والفرق بين الأحكام الواقعية والولائية أنّ الطائفة الأولى أحكام شرعية جاء بها النبي 2 لتبقى خالدة إلى يوم القيامة، أمّا الثانية فإنّما هي أحكام مؤقتة، أو مقرّرات يضعها الحاكم الإسلامي على ضوء سائر القوانين؛ لرفع المشاكل المتعلّقة بحياة المجتمع الإسلامي.

وقد مثل أهل السنّة للمصالح المرسلة بأمثلة منها: 1 ــ جمع القرآن الكريم في مصحف بعد رحيل النبي 2. 2 ــ قتل مانعي الزكاة. 3 ــ وقف تنفيذ حكم السرقة في عام المجاعة. 4 ــ إنشاء الدواوين. 5 ــ سكّ النقود. 6 ــ فرض الإمام العادل على الأغنياء من المال ما لابدّ منه، لتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية البلاد وغير ذلك. 7 ــ سجن المتهم كي لا يفرّ. 8 ــ حجر المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس.

ثم إنّ بعض المغالين ربّما يتجاوز فيمثّل بأمور لا تُبررها أدلّة التشريع الواقعي كتنفيذ الطلاق ثلاثاً، مع أنّ الحكم الشرعي كونه طلاقاً واحداً في عصر النبيّ 2 وبرهة بعد رحيله، وهذا من باب تقديم المصلحة على النص.

وللإمامية في العمل بالمصالح مذهباً وسطاً أوضحناه في كتابنا([50])، وليست ممّن ترفضه بتاتاً ــ كما تصوّرة الأستاذ الريسوني ــ أو تقبله في عامَّة الصور، وتفصيل ذلك نحيله إلى موضعه.

من هنا، نحاول الاطلالة على ما كتبه الدكتور الريسوني حول هذا الموضوع، حيث قال: أمّا حجية المصلحة، فإنّهم وإن كانوا ينكرونها بالاسم إلا أنّهم يأخذون بها بأسماء وأشكال متعدّدة؛ فتارةً تدخل تحت اسم <الدليل العقلي>، حيث يدرجون ضمنه ــ مثلاً ــ اعتبار <الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ الحرمة>، وهذا عين اعتبار المصلحة، كما أنّ من القواعد المعتبرة عندهم ضمن دليل العقل قاعدة <وجوب مقدّمة الواجب>، وهي المعبر عنها بـ<ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب>؛ ذلك أنّ معظم المصالح المرسلة من قبيل <ما لا يتم الواجب إلا به>، فهي مقدّمات أو وسائل لواجبات أخرى، ومثلها قاعدة <كلّ ما هو ضدّ الواجب فهو غير جائز>، فهذا ما يعبّر عنه بدرء المفاسد، وأخرى يدخلون العمل بالمصلحة من باب ما يسمّى عندهم السيرة العقلائيّة وبناء العقلاء، وهو في الوقت نفسه من المصالح المرسلة([51]).

وحاصل كلامه: أنّه تدخل تحت حجّية المصلحة القواعد التالية: 1 ــ وجوب مقدّمة الواجب. 2 ــ حرمة ضدّ الواجب. 3 ــ حجيّة بناء العقلاء وسيرتهم. 4 ــ الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ الحرمة، وكلّها عين العمل بالمصلحة، مع إدراجهم لها تحت <الدليل العقلي>.

ويلاحظ عليه أنّ اشتمال هذه القواعد على المصالح ودرء المفاسد غير كون المصلحة سبباً لتشريعها ومبدأ لتقنينها؛ فإنّ الدليل على وجوب مقدّمة الواجب أو حرمة ضدّ الواجب حكم العقل بالملازمة بين الإرادتين، فمن حاول الوقوف على السطح، لا محيص له من إرادة نصب السلّم، أو ركوب المصعد؛ فاشتمال المقدّمة على المصلحة أو اشتمال الضدّ على المفسدة أمرٌ جانبي لا مدخليّة له في الحكم بالوجوب والحرمة.

أمّا حجّية بناء العقلاء، فإنّ أساسها كونه بمرأى ومسمع من الشارع وهو إمضاؤه، لهذا لو كان غير مرضيّ عنده لما سكت عن النهي عنه، لقبح السكوت عمّا يوجب إغراء الأمّة، ولولا إمضاؤه لما صحّ الاعتماد عليه في الفقه، كما هي الحال في السِّير التي رفضها الشارع، كبيع الخمر والكلب والخنزير والتملّك بالمقارنة؛ وبه يظهر حكم القاعدة الرابعة؛ فإنّ الحاكم بجلب المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف، لا قاعدة المصالح المرسلة، وإن كان في الجلب والدرس مصلحة، وبالجملة الأمور الجانبية، ليست أساساً لحكم العقل في مورد هذه القواعد.

إنّنا نفترض أن لهذه المسائل طابعاً عقليّاً، كما أن لها طابعاً استصلاحياً، فلو كان الوصول إليها من دليل العقل أمراً غير صحيح، فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله، فلماذا يوجّه اللوم إلى الفريق الأول دون الثاني؟

وفي الختام ندعو للدكتور الريسوني ولعامّة الإخوة في المملكة المغربية والأساتذة والطلاب في دار الحديث الحسنية بدوام التوفيق والسداد.

*     *     *

الهوامش



(*) أستاذ وفقيه بارز في الحوزة العلمية في مدينة قم الإيرانية، من أشهر الباحثين المعاصرين في علم الكلام، ومن كتّاب الفقه المقارن، من إيران.



([1]) تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره 1: 195 ـ 202.

([2]) بحار الأنوار 2: 266 ـ 283.

([3]) أبو زهرة، ابن حنبل حياته وعصره: 168.

([4]) مختصر التحفة: 8، طبع عام 1301هـ.

([5]) الإمام الصادق: 38.

([6]) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1: 400 ـ 421.

([7]) اشتراط التواتر نظريّة خاصّة لقليل من علماء الإماميّة، فالجمهور منهم يعملون بخبر العدل أيضاً.

([8]) السرائر 1: 46.

([9]) الصفحة 86 من المجلّة المذكورة.

([10]) قواعد العقائد: 60، 204.

([11]) الكليني، الكافي 1: 25، كتاب العقل والجهل، ح 22.

([12]) المصدر نفسه: 16، كتاب العقل والجهل، ح 12.

([13]) المصدر نفسه: 10، كتاب العقل والجهل، ح 1.

([14]) مجلّة الواضحة: 87، بتلخيص.

([15]) الكليني، الكافي 1: 59، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح 2.

([16]) المصدر نفسه: 59، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح 4.

([17]) المصدر نفسه: 62، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح 10.

([18]) هم أصحاب المغيرة بن سعيد، الذي تبرّأ منه الإمام الصادق %.

([19]) المجلسي، بحار الأنوار 2: 168، ح3.

([20]) المصدر نفسه: 171، ح 11.

([21]) إعلام الموقعين 4: 140.

([22]) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 160.

([23]) الاحتجاج 2: 6؛ وبحار الأنوار 89: 47.

([24]) جمع العلاّمة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتاب علي في موسوعته بحار الأنوار 26: 18 ـ 66، تحت عنوان: باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب، ح 12، 1، 10، 20.

([25]) المستدرك 3: 125.

([26]) صحيح البخاري 4: 200، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، دار الفكر، بيروت.

([27]) لاحظ: القسطلاني، إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6: 99.

([28]) المصدر نفسه 5: 431.

([29]) النووي، شرح صحيح مسلم 15: 166، ط دار الكتاب العربي، بيروت.

([30]) الرياض النضرة 1: 199.

([31]) الإنصاف في مسائل دام فيها الخلاف 2: 365 ـ 366.

([32]) الإمام العاشر، وهو علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر الصادق %.

([33]) مناقب آل أبي طالب 4: 405.

([34]) الكافي 1: 62، باب الردّ إلى الكتاب والسنّة، ح 10.

([35]) صحيح البخاري 1: 64، باب كتابة العلم، ح 52.

([36]) مكاتيب الرسول 2: 313 ـ 135.

([37]) لا يذهب عليك أنّه إذا كان في المورد دليلٌ قرآني أو سنّة متواترة، فلا حاجة للتأييد والتعضيد، والأولى أن نخصّ مورده بما إذا لم يكن في مورده إلا دليل ظنّي.

([38]) وهبة الزحيلي، الوجيز في أصول الفقه: 49.

([39]) الفصول في علم الأصول، للشيخ محمّد حسين الحائري.

([40]) الواضحة: 91.

([41]) أمّا اليقين فنعم، وأمّا الصواب لا، فيما إذا كان غير صحيح.

([42]) الواضحة: 94.

([43]) المصدر نفسه: 95.

([44]) المصدر نفسه: 96.

([45]) المصدر نفسه.

([46]) وسائل الشيعة، ج18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

([47]) أصول السرخسي 2: 157.

([48]) أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 108 ـ 110.

([49]) عبدالوهاب خلاف، علم أصول الفقه: 94.

([50]) لاحظ أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه للكاتب.

([51]) الواضحة: 97.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً